50

حسبي الله ونعم الوكيل

 

Translate

الاثنين، 30 أكتوبر 2023

ج5. تفسير القرآن العظيم{لابن كثير}

ج5. تفسير القرآن العظيم{لابن كثير}
 

المؤلف : أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي [ 700 -774 هـ ]

النعيم ، فلم تُغَير أبشارهم بعدها أبدا ، ولم تُشْعَث أشعارهم أبدا بعدها ، كأنما دهنوا بالدهان ، ثم عمدوا إلى الأخرى كأنما أمروا بها ، فشربوا منها ، فأذهبت ما كان في بطونهم من أذى أو قذى ، وتلقتهم الملائكة على أبواب (1) الجنة : { سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ }. ويلقى كل غلمان صاحبهم يطيفُون به ، فعل (2) الولدان بالحميم جاء من الغيبة : أَبْشِر ، قد أعَد الله لك من الكرامة كذا وكذا ، قد أعد الله لك من الكرامة كذا وكذا. وقال : وينطلق غلام من غلمانه إلى أزواجه من الحور العين ، فيقول : هذا فلان - باسمه في الدنيا - فيقلن : أنت رأيته ؟ فيقول : نعم. فيستخفهن الفرح حتى تخرج إلى أَسكُفَّة (3) الباب. قال : فيجيء فإذا هو بنمارق مصفوفة ، وأكواب موضوعة ، وزرابي مبثوثة. قال : ثم ينظر إلى تأسيس بنيانه (4) ، فإذا هو قد أسس على جندل اللؤلؤ ، بين أحمر وأخضر وأصفر [وأبيض] (5) ، ومن كل لون. ثم يرفع طرفه إلى سقفه ، فلولا أن الله قدره له ، لألمَّ أن يذهب ببصره ، إنه لمثل البرق. ثم ينظر إلى أزواجه من الحور العين ، ثم يتكئ على أريكة من أرائكه ، ثم يقول : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ } [الأعراف : 43] الآية.
ثم قال : حدثنا ، أبي حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النّهْدِي ، حدثنا مسلمة (6) بن جعفر البجلي قال : سمعت أبا معاذ البصري يقول : إن عليا ، رضي الله عنه ، كان ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي (7) صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي ، بيده إنهم إذا خرجوا من قبورهم يُسْتَقبلون - أو : يُؤْتون - بنوق لها أجنحة ، وعليها رحال الذهب ، شراك نعالهم نور يتلألأ كل خطوة منها مد البصر ، فينتهون إلى شجرة ينبع من أصلها عينان ، فيشربون من إحداهما فيُغْسَل ما في بطونهم من دنس ، ويغتسلون من الأخرى ، فلا تشعث أبشارهم ولا أشعارهم بعدها أبدا ، وتجري عليهم نضرة النعيم ، فينتهون - أو : فيأتون - باب الجنة ، فإذا حلقة من ياقوتة حمراء على صفائح الذهب ، فيضربون بالحلقة على الصفيحة (8) ، فيسمع (9) لها طنين يا علي ، فيبلغ كل حوراء أن زوجها قد أقبل ، فتبعث قَيّمها فيفتح له ، فإذا رآه خَرّ له - قال مسلمة : أراه قال : ساجدًا (10) - فيقول : ارفع رأسك ، فإنما أنا قَيمك ، وُكِّلْتُ بأمرك. فيتبعه ويقفو أثره ، فتستخف الحوراء العجلة ، فتخرج من خيام الدر والياقوت حتى تعتنقه ، ثم تقول : أنت حبي ، وأنا حبك ، وأنا الخالدة التي لا أموت ، وأنا الناعمة التي لا أبأس ، وأنا الراضية التي لا أسخط ، وأنا المقيمة التي لا أظعن". فيدخل بيتًا من أسّه إلى سقفه مائة ألف ذراع ، بناؤه على جندل اللؤلؤ ، طرائق أصفر وأخضر وأحمر ، ليس فيها (11) طريقة تشاكل صاحبتها ، في البيت سبعون سريرا ، على كل سرير سبعون حَشْيَة ، على كل حشية سبعون زوجة ، على كل زوجة سبعون حلة ، يرى مُخّ ساقها من باطن الحُلَل ، يقضي جماعها في مقدار ليلة من لياليكم هذه. الأنهار
__________
(1) في أ : "باب".
(2) في أ : "مثل".
(3) في س : "أسفكة".
(4) في أ : "بنائه".
(5) زيادة من ت ، س ، أ.
(6) في ت ، أ : "سلمة".
(7) في ت : "رسول الله".
(8) في س : "الصفحة".
(9) في أ : "فلو سمع".
(10) في ت : "خر له ساجد" وهو خطأ والصواب : "ساجدا".
(11) في ت ، س : : منها".

 من تحتهم تَطّرد ، أنهار من ماء غير آسن - قال : صاف ، لا كدر فيه - وأنهار من لبن لم يتغير طعمه - قال : لم يخرج من ضروع الماشية - وأنهار من خمر لذة للشاربين - قال : لم تعصرها الرجال بأقدامهم - وأنهار من عسل مصفى - قال : لم يخرج من بطون النحل. يستجني الثمار ، فإن شاء قائما ، وإن شاء قاعدا ، وإن شاء متكئا - ثم تلا { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا } [الإنسان : 14] - فيشتهي الطعام فيأتيه طير أبيض - قال : وربما قال : أخضر. قال : - فترفع أجنحتها ، فيأكل من جنوبها ، أي الألوان شاء ، ثم يطير فيذهب (1) ، فيدخل الملك فيقول : سلام عليكم ، تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون. ولو أن شعرة من شعر (2) الحوراء وقعت لأهل الأرض ، لأضاءت الشمس معها سوادًا في نور".
هذا حديث غريب ، وكأنه مرسل ، والله أعلم.
__________
(1) في س : "ثم تطير فتذهب".
(2) في ت : "شعور".

 وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)

{ وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) }
لما ذكر تعالى حكمه في أهل الجنة والنار ، وأنه نزل كُلا في المحل الذي يليق به ويصلح له وهو العادل في ذلك الذي لا يجور - أخبر عن ملائكته أنهم محدقون من حول عرشه المجيد ، يسبحون بحمد ربهم ، ويمجدونه (1) ويعظمونه ويقدسونه وينزهونه عن النقائص والجور ، وقد فصل القضية ، وقضى الأمر ، وحكم بالعدل ؛ ولهذا قال : { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي : بين الخلائق { بِالْحَقِّ }
ثم قال : { وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : ونطق الكون أجمعه (2) - ناطقه وبهيمه - لله رب العالمين ، بالحمد في حكمه وعدله ؛ ولهذا لم يسند القول إلى قائل بل أطلقه ، فدل على أن جميع المخلوقات شَهِدَت له بالحمد.
قال قتادة : افتتح الخلق بالحمد في قوله : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ } [الأنعام : 1] واختتم بالحمد في قوله : { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
آخر تفسير سورة الزمر ولله الحمد (3) [أولا وآخرًا ظاهرًا وباطنًا] (4)
__________
(1) في أ : "ويحمدونه".
(2) في ت ، س : "جميعه".
(3) في أ : "والله أعلم".
(4) زيادة من س.

 تفسير سورة غافر (1)
وهي مكية.
قد كره بعض السلف ، منهم محمد بن سيرين أن يقال : "الحواميم" وإنما يقال : "آل حم".
قال عبد الله بن مسعود : "آل حم" ديباج القرآن.
وقال ابن عباس : إن لكل شيء لباباً ولُبَاب القرآن "آل حم" - أو قال : الحواميم.
قال مِسْعَر بن كِدَام : كان يقال لهن : "العرائس".
روى ذلك كله الإمام العَلم (2) أبو عُبيد القاسم بن سلام ، رحمه الله ، في كتاب : "فضائل القرآن". (3) وقال حُميد بن زَنْجويه : حدثنا عبيد الله بن موسى ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص عن عبيد الله (4) قال : إن مثل القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلا فمر بأثر غيث فبينا هو يسير فيه ويتعجب [منه] (5) ، إذ هبط على روضات دَمِثات فقال : عجبت من الغيث الأول ، فهذا أعجب وأعجب فقيل له : إن مثل الغيث الأول مثل عِظَم (6) القرآن ، وإن مثل هؤلاء الروضات الدمثات ، مثل آل حم في القرآن. أورده البغوي (7).
وقال ابن لَهِيعة عن يزيد بن أبي حبيب : أن الجرّاح بن أبي الجراح حدثه عن ابن عباس ، قال : لكل شيء لباب ، ولباب القرآن الحواميم (8).
وقال ابن مسعود : إذا وَقعتُ في "آل حم" فقد وقعتُ في روضات أتأنَّق فيهن (9).
وقال أبو عبيد : حدثنا الأشجعي ، حدثنا مِسْعر - هو ابن كِدَام - عمن حدثه : أن رجلا رأى أبا الدرداء [رضي الله عنه] (10) يبني مسجداً ، فقال له : ما هذا ؟ فقال : أبنيه من أجل "آل حم" (11).
وقد يكون هذا المسجد الذي بناه أبو الدرداء هو المسجد المنسوب إليه داخل قلعة دمشق. وقد يكون صيانتها وحفظها ببركته وبركة ما وُضع له ، فإن هذا الكلام يدل على النصر على الأعداء ، كما قال رسول الله (12) صلى الله عليه وسلم لأصحابه في بعض الغزوات : "إن بَيّتم الليلة فقولوا : حم ، لا ينصرون" وفي رواية : "لا تنصرون" (13).
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أحمد بن الحكم بن ظَبْيان بن خَلف المازني ، ومحمد بن
__________
(1) في ت ، س : "المؤمن".
(2) في أ : "العالم".
(3) فضائل القرآن (ص137 ، 138).
(4) في ت : "عبد الله".
(5) زيادة من ت ، س ، أ.
(6) في أ : "عظيم".
(7) معالم التنزيل للبغوي (7/134).
(8) رواه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص137) والبغوي في تفسيره (7/134).
(9) رواه أبو عبيدة في فضائل القرآن (ص137).
(10) زيادة من ت ، أ.
(11) فضائل القرآن لأبي عبيد (ص137).
(12) في ت : "النبي".
(13) رواه الإمام أحمد في مسنده (4/65) وأبو داود في السنن برقم (2597) والترمذي في السنن برقم (1682) عن المهلب بن أبي صفرة عمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم. حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)

الليث الهمداني قالا حدثنا موسى بن مسعود ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي ، عن زرارة بن مصعب ، عن أبي سلمة ، عن أبي هُرَيرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : "من قرأ آية الكرسي وأول حم المؤمن ، عُصِم ذلك اليوم من كل سوء".
ثم قال : لا نعلمه يُروى إلا بهذا الإسناد. ورواه الترمذي من حديث المليكي ، وقال : تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه (1).
بسم الله الرحمن الرحيم
{ حم (1) تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) }
أما الكلام على الحروف المقطعة ، فقد تقدم في أول "سورة البقرة" بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقد قيل : إن { حم } اسم من أسماء الله عز وجل ، وأنشدوا في ذلك (2)
يُذَكِّرُني حامِيمَ والرمحُ شَاجر... فَهَلا تلا حَاميمَ قَبْل التَّقدُّمِ...
وقد ورد (3) في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي ، من حديث الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن المهلب بن أبي صُفْرة قال : حدثني من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن بَيَّتم الليلة فقولوا : حم ، لا ينصرون" وهذا إسناد صحيح (4).
واختار أبو عبيد أن يُروى : "فقولوا : حم ، لا ينصروا" أي : إن قلتم ذلك لا ينصروا ، جعله جزاء لقوله : فقولوا.
وقوله : { تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } أي : تنزيل هذا الكتاب - وهو القرآن - من الله ذي العزة والعلم ، فلا يرام جنابه ، ولا يخفى عليه الذر وإن تكاثف حجابه.
وقوله : { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ } أي : يغفر ما سلف من الذنب ، ويقبل التوبة في المستقبل لمن تاب إليه وخَضَع لديه.
وقوله : { شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي : لمن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا ، وعتا عن (5) أوامر الله ، وبغى [وقد اجتمع في هذه الآية الرجاء والخوف] (6). وهذه كقوله تعالى : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ } [ الحجر : 49 ، 50] يقرن هذين الوصفين كثيرًا في مواضع متعددة من القرآن ؛ ليبقى العبد بين الرجاء والخوف.
وقوله : { ذِي الطَّوْلِ } قال ابن عباس : يعني : السعة والغنى. وكذا قال مجاهد وقتادة.
وقال يزيد بن الأصم : { ذِي الطَّوْلِ } يعني : الخير الكثير.
__________
(1) سنن الترمذي برقم (2879).
(2) البين في تفسير الطبري (24/26) وفي صحيح البخاري (8/553) "فتح" منسوبا إلى شريح بن أوفى العبسي.
(3) في أ : "روى".
(4) سنن أبي داود برقم (2597) وسنن الترمذي برقم (1682).
(5) في أ : "على".
(6) زيادة من أ.

  وقال عكرمة : { ذِي الطَّوْلِ } ذي المن.
وقال قتادة : [يعني] (1) ذي النعم والفواضل.
والمعنى : أنه المتفضل على عباده ، المتطول عليهم بما هو فيه من المنن والأنعام ، التي لا يطيقون القيام بشكر واحدة منها ، { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ] } [ إبراهيم : 34] (2).
وقوله : { لا إِلَهَ إِلا هُوَ } أي : لا نظير له في جميع صفاته ، فلا إله غيره ، ولا رب سواه { إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } أي : المرجع والمآب ، فيجازي كل عامل بعمله ، { وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ الرعد : 41].
وقال أبو بكر بن عياش : سمعت أبا إسحاق السَّبِيعي يقول : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] (3) فقال : يا أمير المؤمنين إني قَتَلْتُ ، فهل لي من توبة ؟ فقرأ عليه { حم. تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } وقال : اعمل ولا تيأس.
رواه ابن أبي حاتم - واللفظ له - وابن جرير (4).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن مروان الرِّقِّي ، حدثنا عمر - يعني ابن أيوب - أخبرنا جعفر بن بَرْقان ، عن يزيد بن الأصم (5) قال : كان رجل من أهل الشام ذو بأس ، وكان يفد إلى عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] (6) ، ففقده عمر فقال : ما فعل فلان بن فلان ؟ فقالوا : يا أمير المؤمنين ، يتابع في هذا الشراب. قال : فدعا عمر كاتبه ، فقال : اكتب : "من عمر بن الخطاب إلى فلان ابن فلان ، سلام عليك ، [أما بعد] (7) : فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، غافر الذنب وقابل التوب ، شديد العقاب ، ذي الطول ، لا إله إلا هو إليه المصير". ثم قال لأصحابه : ادعوا الله لأخيكم أن يُقْبِل بقلبه ، وأن يتوب الله عليه (8). فلما بلغ الرجل كتابُ عمر جعل يقرؤه ويردده ، ويقول : غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ، قد حذرني عقوبته ووعدني أن يغفر لي.
ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث جعفر بن برقان ، وزاد : "فلم يزل يُرَدّدها على نفسه ، ثم بكى ثم نزع فأحسن النزع فلما بلغ عمر [رضي الله عنه] (9) خبرهُ قال : هكذا فاصنعوا ، إذا رأيتم أخاكم زل زلَّة فسددوه ووفقوه ، وادعوا الله له أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعوانًا للشيطان عليه (10).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمر بن شَبَّة (11) ، حدثنا حماد بن واقد - أبو عُمَر الصفار - ، حدثنا ثابت البناني ، قال : كنت مع مصعب بن الزبير في سواد الكوفة ، فدخلت حائطًا أصلي ركعتين فافتتحت : { حم } المؤمن ، حتى بلغت : { لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } فإذا رجل خلفي على بغلة شهباء عليه مُقَطَّعات يمنية فقال : إذا قلت : { غَافِرِ الذَّنْبِ } فقل : "يا غافر الذنب ، اغفر لي ذنبي".
__________
(1) زيادة من ت.
(2) زيادة من ت ، وفي الأصل : "الآية".
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) تفسير الطبري (24/27).
(5) في ت : "وروى أيضا بإسناده عن يزيد بن الأصم".
(6) زيادة من ت.
(7) زيادة من أ.
(8) في س ، أ : "أن يقبل بقلبه ويتوب عليه".
(9) زيادة من أ.
(10) حلية الأولياء (4/97).
(11) في أ : "ابن أبي شيبة".

  مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)

وإذا قلت : { وَقَابِلِ التَّوْبِ } ، فقل : "يا قابل التوب ، اقبل توبتي". وإذا قلت : { شَدِيدُ الْعِقَابِ } ، فقل : "يا شديد العقاب ، لا تعاقبني". قال : فالتفت فلم أر أحدًا ، فخرجت إلى الباب فقلت : مَرّ بكم رجل عليه مقطعات يمنية ؟ قالوا : ما رأينا أحدًا فكانوا يُرَون أنه إلياس.
ثم رواه من طريق أخرى ، عن ثابت ، بنحوه. وليس فيه ذكر إلياس.
{ مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) }
يقول تعالى : ما يدفع الحق ويجادل فيه بعد البيان وظهور البرهان { إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : الجاحدون لآيات الله وحججه وبراهينه ، { فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ } أي : في أموالهم ونعيمها وزهرتها ، كما قال : { لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ. مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } [ آل عمران : 196 ، 197] ، وقال تعالى : { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ لقمان : 24].
ثم قال تعالى مسليًا لنبيه (1) محمد صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه ، بأن له أسوة من سلف من الأنبياء ؛ فإنه قد كذبهم (2) أممهم وخالفوهم ، وما آمن بهم منهم إلا قليل (3) ، فقال : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } وهو أول رسول بَعَثه الله ينهى عن عبادة الأوثان ، { وَالأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ } أي : من كل أمة ، { وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } أي : حرصوا على قتله بكل ممكن ، ومنهم من قتل رسوله (4) ، { وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } أي : مَاحَلُوا بالشبهة (5) ليردوا الحق الواضح الجلي.
وقد قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا عارم أبو النعمان ، حدثنا مُعْتَمِر ابن سليمان قال : سمعت أبي يحدث عن حَنَش ، عن عكرمة ، عن ابن عباس (6) [رضي الله عنه] (7) ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من أعان باطلا ليدحض بباطله حقًّا ، فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله" (8).
وقوله : { فَأَخَذْتُهُمْ } أي : أهلكتهم على ما صنعوا من هذه الآثام والذنوب العظام ، { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } أي : فكيف بلغك عذابي لهم ، ونكالي بهم ؟ قد كان شديدًا موجعًا مؤلمًا.
قال قتادة : كان والله شديدًا.
__________
(1) في ت : "لرسوله".
(2) في س ، أ : "كذبتهم".
(3) في ت ، س : "القليل".
(4) في ت ، س ، أ : "رسولهم".
(5) في ت ، أ : "ما جاءوا به من الشبهة".
(6) في ت : "وقد روى الطبراني بإسناده".
(7) زيادة من أ.
(8) المعجم الكبير (11/215) ورواه الحاكم في المستدرك (4/100) من طريق علي بن عبد العزيز به موقوفا وقال : "صحيح الإسناد" وتعقبه الذهبي بقوله : "فيه حنش الرحبي وهو ضعيف".

  الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)

وقوله : { وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ } أي : كما حقت كلمةُ العذاب على الذين كفروا من الأمم السالفة ، كذلك حقت على المكذبين من هؤلاء الذين كذبوك وخالفوك يا محمد بطريق الأولى والأحرى ؛ لأن من كذبّك (1) فلا وثوق له بتصديق غيرك.
{ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) }
__________
(1) في س : "كذب بك".

(7/130)


رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)

{ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) }
يخبر تعالى عن الملائكة المقربين من حَمَلة العرش الأربعة ، ومن حوله من الكروبيين ، بأنهم يسبحون بحمد ربهم ، أي : يقرنون بين التسبيح الدال على نفي النقائص ، والتحميد المقتضي لإثبات صفات المدح ، { وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } أي : خاشعون له أذلاء بين يديه ، وأنهم { يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } أي : من أهل الأرض ممن آمن بالغيب ، فقيض الله سبحانه ملائكته المقربين أن يَدْعُوا للمؤمنين بظهر الغيب ، ولما كان هذا من سجايا الملائكة عليهم الصلاة والسلام ، كانوا يُؤمِّنون على دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب ، كما ثبت في صحيح مسلم : "إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك : آمين ولك بمثله" (1).
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن محمد - هو ابن أبي شيبة - حدثنا عبدة بن سليمان ، عن محمد بن إسحاق ، عن يعقوب بن عتبة ، عن عكرمة عن ابن عباس (2) [رضي الله عنه] (3) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَدّق أمية في شيء من شعره ، فقال :
رَجُلٌ وَثَور تَحْتَ رِجْل يَمينه... وَالنَّسْرُ للأخْرَى وَلَيْثٌ مُرْصَدُ...
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "صدق". فقال :
وَالشمس تَطلعُ كل آخر لَيْلةٍ... حَمْراءُ يُصْبحُ لَونُها يَتَوَرّدُ...
تَأبَى فَما تَطلُع لَنَا في رِسْلها... إلا معَذّبَة وَإلا تُجْلدَ...
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "صدق" (4).
وهذا إسناد جيد : وهو يقتضي أن حملة العرش اليوم أربعة ، فإذا كان يوم القيامة كانوا ثمانية ،
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2732) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
(2) في ت : "وقد روى الإمام أحمد بإسناده عن ابن عباس".
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) المسند (1/256) وقال الهيثمي في المجمع (8/127) : "رجاله ثقات إلا أن ابن إسحاق مدلس".

(7/130)


كما قال تعالى : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } [الحاقة : 17].
وهنا سؤال وهو أن يقال : ما الجمع بين المفهوم من هذه الآية ، ودلالة هذا الحديث ؟ وبين الحديث الذي رواه أبو داود :
حدثنا محمد بن الصباح البزار ، حدثنا الوليد بن أبي ثور ، عن سِماك ، عن عبد الله بن عَمِيرة (1) ، عن الأحنف بن قيس ، عن العباس بن عبد المطلب ، قال : كنت بالبطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرت بهم سحابة ، فنظر إليها فقال : "ما تسمون هذه ؟" قالوا : السحاب. قال : "والمزن ؟" قالوا : والمزن. قال : "والعَنَان ؟" قالوا : والعنان - قال أبو داود : ولم أتقن العنان جيدًا - قال : "هل تدرون بُعْدَ ما بين السماء والأرض ؟" قالوا : لا ندري. قال : "بُعد ما بينهما إما واحدة ، أو اثنتان ، أو ثلاث (2) وسبعون سنة ، ثم السماء فوقها كذلك" حتى عَدّ سبع سموات "ثم فوق السماء السابعة بحر (3) ، بين (4) أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ، ثم فوق ذلك ثمانية أوْعَال ، بين أظلافهن ورُكبهن مثل ما بين سماء إلى سماء ، ثم على ظهورهن العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ، ثم الله ، عز وجل ، فوق ذلك" ثم رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ، من حديث سماك بن حرب ، به (5). وقال الترمذي : حسن غريب.
وهذا يقتضي أن حملة العرش ثمانية ، كما قال شَهْر بن حَوْشَب : حملة العرش ثمانية ، أربعة يقولون : "سبحانك اللهم وبحمدك ، لك الحمد على حلمك بعد علمك". وأربعة يقولون : "سبحانك اللهم وبحمدك ، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك".
ولهذا يقولون إذا استغفروا (6) للذين آمنوا : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } أي : إن رحمتك تَسَع ذنوبهم وخطاياهم ، وعلمك محيط بجميع أعمالهم [وأقوالهم] (7) وحركاتهم وسكناتهم ، { فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ } أي : فاصفح عن المسيئين (8) إذا تابوا وأنابوا وأقلعوا عما كانوا فيه ، واتبعوا ما أمرتهم به ، من فعل الخيرات وترك المنكرات ، { وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } أي : وزحزحهم عن عذاب الجحيم ، وهو العذاب الموجع الأليم (9).
{ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } أي : اجمع بينهم وبينهم ، لتقر بذلك أعينهم بالاجتماع في منازل متجاورة ، كما قال [تعالى] (10) { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } [الطور : 21] (11) أي : ساوينا بين الكل في المنزلة ، لتقر أعينهم ، وما نقصنا العالي حتى يساوي الداني ، بل رفعنا الناقص في العمل (12) ، فساويناه بكثير العمل ، تفضلا منا ومنة.
__________
(1) في ت : عمرة".
(2) في ت ، س : "أو اثنين أو ثلاثة".
(3) في ت : "ثم فوق السماء بحرا" وفي س : "ثم فوق السابعة بحر".
(4) في أ : "بحر ما بين".
(5) سنن أبي داود برقم (4723 - 4725) وسنن الترمذي برقم (3320) وسنن ابن ماجه برقم (193).
(6) في ت : "استغفروا للمؤمنين".
(7) زيادة من أ.
(8) في أ : "المسلمين".
(9) في ت : "المؤلم".
(10) زيادة من ت ، س ، أ.
(11) في س : "واتبعتهم ذريتهم".
(12) في ت ، أ : "رفعنا ناقص العمل".

(7/131)


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)

قال سعيد بن جبير : إن المؤمن إذا دخل الجنة سأل عن أبيه وابنه وأخيه ، وأين هم ؟ فيقال : إنهم لم يبلغوا طبقتك (1) في العمل فيقول : إني إنما عملت لي ولهم. فَيُلحَقُونَ به في الدرجة ، ثم تلا سعيد بن جبير هذه الآية : { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }.
قال مُطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير : أنصحُ عبادِ الله للمؤمنين الملائكةُ ، ثم تلا هذه الآية : { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ } وأغشُّ عباد الله للمؤمنين الشياطينُ.
وقوله : { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي : الذي لا يمانع ولا يغالب ، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، الحكيم في أقوالك وأفعالك ، من شرعك وقدرك (2)
{ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ } أي : فعلها أو وَبالها ممن وقعت منه ، { وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ } أي : يوم القيامة ، { فَقَدْ رَحِمْتَهُ } أي : لطفت به ونجيته من العقوبة ، { وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }.
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنزلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) }
يقول تعالى مخبرًا عن الكفار : أنهم يُنَادَون يوم القيامة وهم في غَمَرات النيران يتلظون ، وذلك عندما (3) باشروا من عذاب الله ما لا قِبَل لأحد به ، فمقتوا عند ذلك أنفسهم وأبغضوها غاية البغض ، بسبب ما أسلفوا (4) من الأعمال السيئة ، التي كانت سبب دخولهم إلى النار ، فأخبرتهم الملائكة عند ذلك إخبارا عاليا ، نادوهم [به] (5) نداء بأن مقت الله لهم في الدنيا حين كان يُعرض عليهم الإيمان ، فيكفرون ، أشد من مقتكم أيها المعذبون أنفسكم اليوم في هذه الحالة.
قال قتادة في قوله : { لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } يقول : لمقتُ الله أهل الضلالة حين عُرض عليهم الإيمان في الدنيا ، فتركوه وأبوا أن يقبلوه ، أكبر مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذاب الله يوم القيامة (6).
وهكذا قال الحسن البصري ومجاهد والسدي وذَرُّ بن عبد الله (7) الهَمْداني ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وابن جرير الطبري ، رحمهم الله.
__________
(1) في ت : "رقبتك".
(2) في أ : "وقدرتك".
(3) في أ : "بعدما".
(4) في ت ، س : "أسلفوه".
(5) زيادة من ت ، أ.
(6) في أ : "عذاب الله في يوم القيامة".
(7) في س : "عبيد الله".

(7/132)


وقوله : { قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } قال الثوري ، عن أبي (1) إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن ابن مسعود [رضي الله عنه] (2) : هذه الآية كقوله تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة : 28] وكذا قال ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، وأبو مالك. وهذا هو الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية.
وقال السّدّي : أُميتوا في الدنيا ثم أحيوا في قبورهم فخوطبوا ، ثم أميتوا ثم أحيوا يوم القيامة.
وقال ابن زيد : أحيوا حين أخذ عليهم الميثاق من صلب آدم ، ثم خلقهم في الأرحام ثم أماتهم [ثم أحياهم] (3) يوم القيامة.
وهذان القولان - من السدي وابن زيد - ضعيفان ؛ لأنه يلزمهما على ما قالا ثلاث إحياءات وإماتات. والصحيح قول ابن مسعود وابن عباس ومن تابعهما. والمقصود من هذا كله : أن الكفار يسألون الرجعة وهم وقوف بين يدي الله ، عز وجل ، في عرصات القيامة ، كما قال : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } [السجدة : 12] ، فلا يجابون. ثم إذا رأوا النار وعاينوها ووقفوا عليها ، ونظروا إلى ما فيها من العذاب والنَّكال ، سألوا الرجعة أشد مما سألوا أول مرة ، فلا يجابون ، قال الله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون } [الأنعام : 27 ، 28] فإذا دخلوا النار وذاقوا مَسّها وحَسِيسها ومقامعها وأغلالها ، كان سؤُالهم للرجعة أشد وأعظم ، { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } [فاطر : 37] ، { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ. قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون : 107 ، 108] ، وفي هذه الآية الكريمة تلطفوا في السؤال ، وقدموا بين يدي كلامهم مُقدّمة ، وهي قولهم : { رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } أي : قدرتك عظيمة ، فإنك أحييتنا بعد ما كنا أمواتا ، ثم أمتنا ثم أحييتنا ، فأنت قادر على ما تشاء ، وقد اعترفنا بذنوبنا ، وإننا كنا ظالمين لأنفسنا في الدار الدنيا ، { فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ } أي فهل أنت مجيبنا إلى أن تعيدنا إلى الدار الدنيا ؟ فإنك قادر على ذلك ؛ لنعمل غير الذي كنا نعمل ، فإن عدنا إلى ما كنا فيه فإنا ظالمون. فأُجِيبُوا ألا سبيل إلى عودكم ومرجعكم إلى الدار الدنيا. ثم علل المنع من ذلك بأن سجاياكم لا تقبل الحق ولا تقتضيه بل تَجْحَده وتنفيه ؛ ولهذا قال تعالى : { ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا } أي : أنتم هكذا تكونون ، وإن رددتم إلى الدنيا ، كما قال تعالى : { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [الأنعام : 28].
وقوله : { فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } أي : هو الحاكم في خلقه ، العادل الذي لا يجور ، فيهدي من
__________
(1) في أ : "ابن".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من ت ، س ، أ.

(7/133)


يشاء ، ويضل من يشاء ، ويرحم من يشاء ، ويعذب من يشاء ، لا إله إلا هو.
وقوله : { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ } أي : يظهر قدرته لخلقه (1) بما يشاهدونه في خلقه العلوي والسفلي من الآيات العظيمة الدالة على كمال خالقها ومبدعها ومنشئها ، { وَيُنزلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا } ، وهو المطر الذي يخرج به من الزروع والثمار ما هو مشاهد بالحس ، من اختلاف ألوانه وطعومه ، وروائحه وأشكاله وألوانه ، وهو ماء واحد ، فبالقدرة العظيمة فاوت بين هذه الأشياء ، { وَمَا يَتَذَكَّرُ } أي : يعتبر ويتفكر في هذه الأشياء ويستدل بها على عظمة خالقها { إِلا مَنْ يُنِيبُ } أي : من هو بصير منيب إلى الله ، عز وجل.
وقوله : { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } أي : فأخلصوا لله وحده العبادة والدعاء ، وخالفوا المشركين في مسلكهم ومذهبهم.
قال (2) الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن نمير ، حدثنا هشام - يعني بن عروة بن الزبير - عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن مدرس المكي قال : كان عبد الله بن الزبير يقول في دبر كل صلاة حين يسلم (3) : لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه ، له النعمة وله الفضل ، وله الثناء الحسن ، لا إله إلا الله ، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون" قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُهَلِّل بهن (4) دبر كل صلاة (5).
ورواه مسلم وأبو داود والنسائي ، من طرق ، عن هشام بن عروة ، وحجاج بن أبي عثمان ، وموسى بن عقبة ، ثلاثتهم عن أبي الزبير ، عن عبد الله بن الزبير قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر الصلاة : "لا إله إلا الله وحده لا شريك له (6) وذكر تمامه (7).
وقد ثبت في الصحيح عن ابن الزبير ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عقب الصلوات المكتوبات : "لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير. لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه ، له النعمة وله الفضل ، وله الثناء الحسن ، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون" (8).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الربيع حدثنا الخَصِيب بن ناصح ، حدثنا صالح - يعني المِرِّي - عن هشام بن حسان ، عن ابن سيرين عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ادعوا الله
__________
(1) في أ : "بخلقه".
(2) في ت : "روى".
(3) في أ : "عقب الصلوات المكتوبات".
(4) في ت : "بهن في دبر".
(5) المسند (4/4).
(6) في ت : "لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير".
(7) صحيح مسلم برقم (594).
(8) صحيح مسلم برقم (594) وسنن أبي داود برقم (1506) والنسائي في السنن الكبرى برقم (1262).

(7/134)


رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)

وأنتم موقنون بالإجابة ، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاه" (1).
{ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) }
__________
(1) ورواه الترمذي في السنن برقم (3479) عن معاوية بن صالح ورواه الحاكم في المستدرك (1/493) عن عفان بن مسلم وموسى ابن إسماعيل ورواه الطبراني في كتاب الدعاء برقم (62) عن مخلد بن خداش كلهم من طريق صالح المري به. قال اطبراني في المعجم الأوسط : "لم يرو هذا الحديث عن هشام بن حسان إلا صالح المري" ومداره على صالح المري وهو متروك.

(7/135)


الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)

{ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) }
يقول تعالى [مخبرا] (1) عن عظمته وكبريائه ، وارتفاع عرشه العظيم العالي على جميع مخلوقاته كالسقف لها ، كما قال تعالى : { مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [فَاصْبِرْ] } [ المعارج : 3 ، 4] ، (2) وسيأتي بيان أن هذه مسافة ما بين العرش إلى الأرض السابعة ، في قول جماعة من السلف والخلف ، وهو الأرجح إن شاء الله [تعالى] (3). وقد ذكر غير واحد أن العرش من ياقوتة حمراء ، اتساع ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة. وارتفاعه عن الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة. وقد تقدم في حديث "الأوعال" ما يدل على ارتفاعه عن (4) السموات السبع بشيء عظيم.
وقوله : { يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } كقوله تعالى : { يُنزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا [فَاتَّقُونِ] } [النحل : 2] (5) ، وكقوله : { وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. [بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين] } [الشعراء : 192 - 194 ] (6) (7) ؛ ولهذا قال : { لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { يَوْمَ التَّلاقِ } اسم من أسماء يوم القيامة ، حذر منه عباده.
وقال ابن جُرَيج : قال ابن عباس : يلتقي فيه آدم وآخر ولده.
وقال ابن زيد : يلتقي فيه العباد.
وقال قتادة ، والسدي ، وبلال بن سعد ، وسفيان بن عيينة (8) : يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض.
وقال قتادة أيضا : يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض ، والخالق والخلق.
وقال مَيْمون بن مِهْران : يلتقي [فيه] (9) الظالم والمظلوم.
__________
(1) زيادة من ت ، س ، أ.
(2) زيادة من ت.
(3) زيادة من ت.
(4) في ت ، س : "من".
(5) في س : "فاعبدوه" وهو خطأ والصواب ما أثبتناه.
(6) في ت : "إنه" وهو خطأ والصواب ما أثبتناه.
(7) زيادة من ت.
(8) في ت : "قتادة وغيره".
(9) زيادة من أ.

(7/135)


وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)

وقد يقال : إن يوم القيامة (1) هو يشمل هذا كله ، ويشمل أن كل عامل سيلقى ما عمل من خير وشر. كما قاله آخرون.
وقوله : { يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ } أي : ظاهرون بادون كلهم ، لا شيء يكنهم ولا يظلهم ولا يسترهم. ولهذا قال : { يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ } أي : الجميع في علمه على السواء.
وقوله : { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } قد تقدم في حديث ابن عمر : أنه تعالى (2) يطوي السموات والأرض بيده ، ثم يقول : أنا الملك ، أنا الجبار ، أنا المتكبر ، أين ملوك الأرض ؟ أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟.
وفي حديث الصور : أنه تعالى إذا قبض أرواح جميع خلقه ، فلم يبق سواه وحده لا شريك له ، حينئذ يقول : لمن الملك اليوم ؟ ثلاث مرات ، ثم يجيب نفسه قائلا { لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } أي : الذي هو وحده قد قَهَر كل شيء وغلبه (3).
وقد قال (4) ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن غالب الدقاق ، حدثنا عبيد بن عبيدة ، حدثنا معتمر ، عن أبيه ، حدثنا أبو نَضْرة ، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (5) قال : ينادي مناد بين يدي الساعة : يا أيها الناس ، أتتكم الساعة. فيسمعها الأحياء والأموات ، قال : وينزل الله [عز وجل] (6) إلى سماء الدنيا ويقول : { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }.
وقوله : { الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } يخبر تعالى عن عدله في حكمه بين خلقه ، أنه لا يظلم مثقال ذرة من خير ولا من شر ، بل يجزي بالحسنة عشر أمثالها ، وبالسيئة واحدة ؛ ولهذا قال : { لا ظُلْمَ الْيَوْمَ } كما ثبت في صحيح مسلم (7) ، عن أبي ذر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما يحكي عن ربه عز وجل - أنه قال : "يا عبادي ، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا - إلى أن قال - : يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم (8) ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرًا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" (9).
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } أي : يحاسب الخلائق كلهم ، كما يحاسب نفسًا واحدة ، كما قال : { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [لقمان : 28] ، وقال [تعالى] (10) : { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [القمر : 50].
{ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) }
__________
(1) في ت ، س : "التلاق".
(2) في ت : "أن الله".
(3) انظر حديث الصور بتمامه عند تفسير الآية : 73 من سورة الأنعام.
(4) في ت : "وروى ابن أبي حاتم".
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من ت ، أ.
(7) في ت : "البخاري" وهو خطأ.
(8) في ت ، س : "لكم".
(9) صحيح مسلم برقم (2577).
(10) زيادة من س.

(7/136)


يوم الآزفة هو : اسم من أسماء يوم القيامة ، سميت بذلك لاقترابها ، كما قال تعالى : { أَزِفَتِ الآزِفَةُ. لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ } [النجم : 57 ، 58] وقال { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } [القمر : 1] ، وقال { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } [الانبياء : 1] وقال { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ } [النحل : 1] وقال { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ } [الملك : 27].
وقوله : { إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ } [أي ساكتين] (1) ، قال قتادة : وقفت القلوب في الحناجر من الخوف ، فلا تخرج ولا تعود إلى أماكنها. وكذا قال عكرمة ، والسدي ، وغير واحد.
ومعنى { كَاظِمِينَ } أي : ساكتين ، لا يتكلم أحد إلا بإذنه { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } [النبأ : 38].
وقال ابن جُرَيْج (2) : { كَاظِمِينَ } أي : باكين.
وقوله : { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ } أي : ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله من قريب منهم ينفعهم ، ولا شفيع يشفع فيهم ، بل قد تقطعت بهم الأسباب من كل خير.
وقوله : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } يخبر تعالى عن علمه التام المحيط بجميع الأشياء ، جليلها وحقيرها ، صغيرها وكبيرها ، دقيقها ولطيفها ؛ ليحذر الناس علمه فيهم ، فيستحيوا من الله حَقّ الحياء ، ويَتَّقُوهُ حق تقواه ، ويراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه ، فإنه تعالى يعلم العين الخائنة وإن أبدت أمانة ، ويعلم ما تنطوي عليه خبايا الصدور من الضمائر والسرائر.
قال ابن عباس في قوله : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } وهو الرجل يدخل على أهل البيت بيتهم ، وفيهم المرأة الحسناء ، أو تمر به وبهم المرأة الحسناء ، فإذا غفلوا لحظ إليها ، فإذا فطنوا غَضّ ، فإذا غفلوا لحظ ، فإذا فطنوا غض [بصره عنها] (3) وقد اطلع الله من قلبه أنه وَدّ أن لو اطلع على فرجها. رواه ابن أبي حاتم.
وقال الضحاك : { خَائِنَةَ الأعْيُنِ } هو الغمز ، وقول الرجل : رأيت ، ولم ير ؛ أو : لم أر ، وقد رأى.
وقال ابن عباس : يعلم [الله] (4) تعالى من العين في نظرها ، هل تريد الخيانة أم لا ؟ وكذا قال مجاهد ، وقتادة.
وقال ابن عباس في قوله : { وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } يعلم إذا أنت قدرت عليها هل تزني بها أم لا ؟.
وقال السدي : { وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } أي : من الوسوسة.
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت : "جرير".
(3) زيادة من س ، أ.
(4) زيادة من س.

(7/137)


أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25)

وقوله : { وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ } أي : يحكم بالعدل.
وقال الأعمش : عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (1) في قوله : { وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ } قادر على أن يجزي بالحسنة الحسنة ، وبالسيئة السيئة { إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }.
وهذا الذي فسر به ابن عباس في هذه الآية كقوله تعالى : { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } [النجم : 31] (2). وقوله : { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } أي : من الأصنام والأوثان والأنداد ، { لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ } أي : لا يملكون شيئا ولا يحكمون بشيء { إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } أي : سميع لأقوال خلقه ، بصير بهم ، فيهدي من يشاء ، ويضل من يشاء ، وهو الحاكم العادل في جميع ذلك.
{ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) }
يقول تعالى : أو لم يسر هؤلاء المكذبون برسالتك يا محمد { فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ } أي : من الأمم المكذبة بالأنبياء ، ما حل بهم من العذاب والنكال مع أنهم كانوا أشد من هؤلاء قوة { وَآثَارًا فِي الأرْضِ } أي : أثروا في الأرض من البنايات والمعالم والديارات ، ما لا يقدر عليه هؤلاء ، كما قال : { وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ } [الاحقاف : 26] ، وقال { وَأَثَارُوا الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا } [الروم : 9] أي : ومع هذه القوة العظيمة والبأس الشديد ، أخذهم الله بذنوبهم ، وهي كفرهم برسلهم ، { وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ } أي : وما دفع عنهم عذاب الله أحد ، ولا رده عنهم راد ، ولا وقاهم واق.
ثم ذكر علة أخذه إياهم وذنوبهم التي ارتكبوها واجترموها ، فقال : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } أي : بالدلائل الواضحات والبراهين القاطعات ، { فَكَفَرُوا } أي : مع هذا البيان والبرهان كفروا وجحدوا ، { فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ } أي : أهلكهم ودمَّر عليهم وللكافرين أمثالها ، { إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي : ذو قوة عظيمة وبطش شديد ، وهو { شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي : عقابه أليم شديد وجيع. أعاذنا الله منه.
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ (25) }
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في س : "لتجزي".

(7/138)


وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)

{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) }

(7/138)


يقول تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم (1) في تكذيب من كذبه من قومه ، ومبشرًا له بأن العاقبة والنصرة له في الدنيا والآخرة ، كما جرى لموسى بن عمران (2) ، فإن الله تعالى أرسله بالآيات البينات ، والدلائل (3) الواضحات ؛ ولهذا قال : { بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ } والسلطان هو : الحُجة والبرهان.
{ إِلَى فِرْعَوْنَ } هو : ملك القبط بالديار المصرية ، { وَهَامَانَ } وهو : وزيره في مملكته { وَقَارُونَ } وكان أكثر الناس في زمانه مالا وتجارة { فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } أي : كذبوه وجعلوه ساحرًا مُمَخْرِقًا مموهًا كذابًا في أن الله أرسله. وهذه كقوله [تعالى] (4) : { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } [الذاريات 52 ، 53].
{ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا } أي : بالبرهان القاطع الدال على أن الله تعالى أرسله إليهم ، { قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ } وهذا أمر ثان من فرعون بقتل ذكور بني إسرائيل. أما الأول : فكان لأجل الاحتراز من وجود موسى ، أو لإذلال هذا الشعب وتقليل عددهم ، أو لمجموع الأمرين. وأما الأمر الثاني : فللعلة الثانية ، لإهانة هذا الشعب ، ولكي يتشاءموا بموسى ، عليه السلام ؛ ولهذا قالوا : { أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [الأعراف : 129].
قال قتادة : هذا أمر بعد أمر.
قال الله تعالى : { وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ } أي : وما مكرهم وقصدهم الذي هو تقليل عدد بني إسرائيل لئلا يُنصروا عليهم ، إلا ذاهب وهالك في ضلال.
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } وهذا عَزْمٌ من فرعون - لعنه الله - على قتل موسى ، عليه السلام ، أي : قال لقومه : دعوني حتى أقتل لكم هذا ، { وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } أي : لا أبالي منه. وهذا في غاية الجحد والتجهرم والعناد.
وقوله - قبحه الله - : { إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ } يعني : موسى ، يخشى فرعون أن يُضِلَّ موسى الناس ويغير رسومهم وعاداتهم. وهذا كما يقال في المثل : "صار فرعون مُذَكِّرًا" يعني : واعظا ، يشفق على الناس من موسى ، عليه السلام.
وقرأ الأكثرون : "أن يبدل دينكم وأن يُظهِر في الأرض الفساد" وقرأ آخرون : { أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ } وقرأ بعضهم : "يَظْهَر في الأرض الفسادُ" بالضم.
وقال موسى : { إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } أي : لما بلغه قول فرعون : { ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى } قال موسى : استجرتُ بالله وعُذْتُ به من شره وشر أمثاله ؛ ولهذا قال : { إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ } أيها المخاطبون ، { مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ } أي : عن الحق ، مجرم ، { لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } ؛
__________
(1) في س : "لنبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه".
(2) في أ : "لموسى عليه السلام".
(3) في ت : "والدلالات".
(4) زيادة من ت ، س.

(7/139)


وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)

ولهذا جاء في الحديث عن أبي موسى ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوما قال : "اللهم ، إنا نعوذ بك من شرورهم ، وندرأ بك في نحورهم" (1).
{ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) }
المشهور أن هذا الرجل المؤمن كان قبْطيًا من آل فرعون.
قال السدي : كان ابن عم فرعون ، ويقال : إنه الذي نجا مع موسى. واختاره ابن جرير (2) ، وَرَدَّ قول من ذهب إلى أنه كان إسرائيليًّا ؛ لأن فرعون انفعل لكلامه واستمعه ، وكف عن قتل موسى ، عليه السلام ، ولو كان إسرائيليًّا لأوشك أن يعاجل (3) بالعقوبة ؛ لأنه منهم (4).
وقال ابن جُرَيج عن ابن عباس : لم يؤمن من آل فرعون سوى هذا الرجل وامرأة فرعون ، والذي قال : { يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } [القصص : 20] رواه ابن أبي حاتم.
وقد كان هذا الرجلُ يكتم إيمانه عن قومه القبط ، فلم يظهر إلا هذا اليوم حين قال فرعون : { ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى } ، فأخذت الرجل غضبة لله عز وجل ، و"أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر" ، كما ثبت بذلك الحديث ، ولا أعظم من هذه الكلمة عند فرعون وهي قوله : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ } [أي : لأجل أن يقول ربي الله] (5) ، اللهم إلا ما رواه البخاري في صحيحه حيث قال :
حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني يحيى بن أبي كثير ، حدثني محمد بن إبراهيم التيمي ، حدثني (6) عروة بن الزبير قال : قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص : أخبرني بأشد شيء مما صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عُقْبة بن أبي مُعَيط ، فأخذ بمَنْكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولَوَى ثوبه في عنقه ، فخنقه خنقًا شديدا ، فأقبل أبو بكر ، رضي الله عنه ، فأخذ بمنكبة (7) ودَفَع عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ }.
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (4/414).
(2) تفسير الطبري (24/38).
(3) في ت : "يقابل".
(4) في ت ، س : "متهم".
(5) زيادة من ت ، س ، أ.
(6) في ت : "في صحيحه بإسناده عن".
(7) في ت ، س : "بمنكبيه".

(7/140)


انفرد به البخاري من حديث الأوزاعي قال : وتابعه محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عروة ، عن أبيه ، به (1).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني ، حدثنا عَبْدة عن هشام - يعني ابن عروة - عن أبيه ، عن عمرو بن العاص أنه سُئِل : ما أشد ما رأيت قريشًا بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : مر بهم ذات يوم فقالوا له : أنت تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ؟ فقال : "أنا ذاك" فقاموا إليه ، فأخذوا بمجامع ثيابه ، فرأيتُ أبا بكر محتضنه من ورائه ، وهو يصيح بأعلى صوته ، وإن عينيه ليسيلان ، وهو يقول : يا قوم ، { أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ } حتى فرغ من الآية كلها.
وهكذا رواه النسائي من حديث عبدة ، فجعله من مسند عمرو بن العاص ، رضي الله عنه (2).
وقوله : { وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ } أي : كيف تقتلون رجلا لكونه يقول : "ربي الله" ، وقد أقام لكم البرهان على صدق ما جاءكم به من الحق ؟ ثم تَنزل معهم في المخاطبة فقال : { وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ } يعني : إذا لم يظهر لكم صحة ما جاءكم به ، فمن العقل والرأي التام والحزم أن تتركوه ونفسه ، فلا تؤذوه ، فإن يك كاذبا فإن الله سيجازيه على كذبه بالعقوبة في الدنيا والآخرة ، وإن يك صادقا وقد آذيتموه يصبكم بعض الذي يعدكم ، فإنه يتوعدكم إن خالفتموه بعذاب في الدنيا والآخرة ، فمن الجائز عندكم أن يكون صادقا ، فينبغي على هذا ألا تتعرضوا له ، بل اتركوه وقومه يدعوهم ويتبعونه.
وهكذا أخبر الله [تعالى] (3) عن موسى ، عليه السلام ، أنه طلب من فرعون وقومه الموادعة في قوله : { وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ. أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ. وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ. وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ } [الدخان : 17 - 21] وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش أن يتركوه يدعو إلى الله [تعالى] (4) عباد الله ، ولا يمسوه بسوء ، وأن يصلوا ما بينه وبينهم من القرابة في ترك أذيته ، قال الله تعالى : { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } [الشورى : 23] أي : إلا ألا تؤذوني فيما بيني وبينكم من القرابة ، فلا تؤذوني وتتركوا بيني وبين الناس. وعلى هذا وقعت الهدنة يوم الحديبية ، وكان فتحًا مبينًا.
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } أي : لو كان هذا الذي يزعم أن الله أرسله إليكم كاذبا كما تزعمون ، لكان أمره بينا ، يظهر لكل أحد في أقواله وأفعاله ، كانت تكون في غاية الاختلاف والاضطراب ، وهذا نرى أمره سديدا ومنهجه مستقيما ، ولو كان من المسرفين الكذابين لما هداه الله ، وأرشده إلى ما ترون من انتظام أمره وفعله.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4815).
(2) النسائي في السنن الكبرى برقم (11462).
(3) زيادة من ت ، س ، أ.
(4) زيادة من أ.

(7/141)


وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)

ثم قال المؤمن محذرًا قومه زوال نعمة الله عنهم (1) وحلول نقمة الله بهم : { يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأرْضِ } أي : قد أنعم الله عليكم بهذا الملك والظهور في الأرض بالكلمة النافذة والجاه العريض ، فراعوا هذه النعمة بشكر الله ، وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم ، واحذروا نقمة الله إن كذبتم رسوله ، { فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا } أي : لا تغني عنكم هذه الجنود وهذه العساكر ، ولا ترد عنا شيئا من بأس الله إن أرادنا بسوء.
{ قَالَ فِرْعَوْنُ } لقومه ، رادًّا على ما أشار به هذا الرجل الصالح البار الراشد الذي كان أحق بالملك من فرعون : { مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى } أي : ما أقول لكم وأشير عليكم إلا ما أراه لنفسي وقد كذب فرعون ، فإنه كان يتحقق صدق موسى فيما جاء به (2) من الرسالة { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ بَصَائِرَ } [الإسراء : 102] ، وقال الله تعالى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } [النمل : 14].
فقوله : { مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى } كذب فيه وافترى ، وخان الله ورسوله ورعيته ، فغشهم وما نصحهم وكذا قوله : { وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ } أي : وما أدعوكم إلا إلى طريق الحق والصدق والرشد وقد كذب أيضا في ذلك ، وإن كان قومه قد أطاعوه واتبعوه ، قال الله تعالى : { فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } [هود : 97] ، وقال تعالى : { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى } [طه : 79] ، وفي الحديث : "ما من إمام يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته ، إلا لم يَرح رائحة الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام" (3).
{ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) }
__________
(1) في س ، أ : "عليهم".
(2) في س : "جاءه".
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (7150 ، 7151) ومسلم في صحيحه برقم (142) بنحوه من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه.

(7/142)


وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)

{ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) }
هذا إخبار من الله ، عز وجل ، عن هذا الرجل الصالح ، مؤمن آل فرعون : أنه حذر قومه بأس الله في الدنيا والآخرة فقال : { يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأحْزَابِ } أي : الذين كذبوا رسل الله في قديم الدهر ، كقوم نوح وعاد وثمود ، والذين من بعدهم من الأمم المكذبة ، كيف حل بهم بأس الله ، وما رده عنهم راد ، ولا صده عنهم صاد.

(7/142)


{ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ } أي : إنما أهلكهم الله بذنوبهم ، وتكذيبهم رسله ، ومخالفتهم أمره. فأنفذ فيهم قدره ، ثم قال : { وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ } يعني : يوم القيامة ، وسمي بذلك قال بعضهم : لما جاء في حديث الصور : إن الأرض إذا زلزلت وانشقت من قطر إلى قطر ، وماجت وارتجت ، فنظر الناس إلى ذلك ذهبوا هاربين ينادي بعضهم بعضا.
وقال آخرون منهم الضحاك : بل ذلك إذا جيء بجهنم ، ذهب الناس هِرَابا (1) ، فتتلقاهم الملائكة فتردهم إلى مقام المحشر ، وهو قوله تعالى : { وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا } [الحاقة : 17] ، وقوله { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ } [الرحمن : 33].
وقد روي عن ابن عباس ، والحسن ، والضحاك : أنهم قرؤوا : "يوم التنادّ" بتشديد الدال من ند البعير : إذا شرد وذهب.
وقيل : لأن الميزان عنده ملك ، وإذا وزن عمل العبد (2) فرجح نادى بأعلى صوته : ألا قد سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا. وإن خف عمله نادى : ألا قد شقي فلان بن فلان.
وقال قتادة : ينادي كل قوم بأعمالهم : ينادي أهل الجنة أهل الجنة ، وأهل النار أهل النار.
وقيل : سمي بذلك لمناداة أهل الجنة أهل النار : { أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ } [الأعراف : 44]. ومناداة أهل النار أهل الجنة : { أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ } [الأعراف : 50] ، ولمناداة أصحاب الأعراف أهل الجنة وأهل النار ، كما هو مذكور في سورة الأعراف.
واختار البغوي وغيره : أنه سمي بذلك لمجموع ذلك. وهو قول حسن جيد ، والله أعلم (3).
وقوله : { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } أي : ذاهبين هاربين ، { كَلا لا وَزَرَ. إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ } [القيامة : 11 ، 12] ، ولهذا قال : { مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ } أي : ما لكم مانع يمنعكم من بأس الله وعذابه ، { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } أي : من أضله [الله] (4) فلا هادي له غيره.
وقوله : { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ } يعني : أهل مصر ، قد بعث الله فيهم رسولا من قبل موسى ، وهو يوسف ، عليه السلام ، كان عزيز أهل مصر ، وكان رسولا يدعو إلى الله أمته (5) القبط ، فما أطاعوه تلك الساعة (6) إلا لمجرد الوزارة والجاه الدنيوي ؛ ولهذا قال : { فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا } أي : يئستم فقلتم طامعين : { لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا } وذلك لكفرهم وتكذيبهم { كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ } أي : كحالكم هذا.
__________
(1) في س ، أ : "هرابا منه".
(2) في ت : "أعمال العبد".
(3) معالم التنزيل للبغوي (7/147 ، 148).
(4) زيادة من ت ، س.
(5) في أ : "أمة".
(6) في ت ، س ، أ : "تلك الطاعة".

(7/143)


وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)

ثم قال : { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } أي : الذين يدفعون الحق بالباطل ، ويجادلون الحجج بغير دليل وحجة معهم من الله ، فإن الله يمقت على ذلك أشد المقت ؛ ولهذا قال تعالى : { كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا } أي : والمؤمنون أيضا يُبغضُون من تكون هذه صفته ، فإن من كانت هذه صفته ، يطبع الله على قلبه ، فلا يعرف بعد ذلك معروفًا ، ولا ينكر منكرًا ؛ ولهذا قال : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ } أي : على اتباع الحق { جَبَّارٍ }.
وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة - وحكي عن الشعبي - أنهما قالا لا يكون الإنسان جبارًا حتى يقتل نفسين.
وقال أبو عمران الجوني وقتادة : آية الجبابرة القتل بغير حق.
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ (37) }
يقول تعالى مخبرا عن فرعون ، وعتوه ، وتمرده ، وافترائه في تكذيبه موسى ، عليه السلام ، أنه أمر وزيره هامان أن يبني له صرحا ، وهو : القصر العالي المنيف الشاهق. وكان اتخاذه من الآجرّ المضروب من الطين المشوي ، كما قال : { فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا } [القصص : 38] ، ولهذا قال إبراهيم النخعي : كانوا يكرهون البناء بالآجر ، وأن يجعلوه في قبورهم. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله : { لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ } قال سعيد بن جبير ، وأبو صالح : أبواب السموات. وقيل : طرق السموات { فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا } ، وهذا من كفره وتمرده ، أنه كذب موسى في أن الله ، عز وجل ، أرسله إليه ، قال الله تعالى : { وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ } أي : بصنيعه هذا الذي أراد أن يوهم به الرعية أنه يعمل شيئا يتوصل به إلى تكذيب موسى ، عليه السلام ؛ ولهذا قال تعالى : { وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ } قال ابن عباس [رضي الله عنهما] (1) ، ومجاهد : يعني إلا في خسار.
{ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) }
يقول المؤمن لقومه ممن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا ، ونسي الجبار الأعلى ، فقال لهم : { يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ }
__________
(1) زيادة من س.

(7/144)


لا كما كذب فرعون في قوله : { وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ }.
ثم زهدهم في الدنيا التي [قد] (1) آثروها على الأخرى ، وصدتهم عن التصديق برسول الله موسى [صلى الله عليه وسلم] (2) ، فقال : { يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ } أي : قليلة زائلة فانية عن قريب تذهب [وتزول] (3) وتضمحل ، { وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ } أي : الدار التي لا زوال لها ، ولا انتقال منها ولا ظعن عنها إلى غيرها ، بل إما نعيم وإما جحيم ، ولهذا قال { مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا } أي : واحدة مثلها { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : لا يتقدر بجزاء بل يثيبه الله ، ثوابا كثيرا لا انقضاء له ولا نفاد.
__________
(1) زيادة من ت ، س ، أ.
(2) زيادة من ت.
(3) زيادة من ت.

(7/145)


وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)

{ وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) }
يقول لهم المؤمن : ما بالي أدعوكم إلى النجاة ، وهي عبادة الله وحده لا شريك له وتصديق رسوله الذي بعثه { وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ. تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } أي : جهل (1) بلا دليل { وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ } أي : هو في عزته وكبريائه يغفر ذنب من تاب إليه ، { لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } يقول : حقا.
قال السدي وابن جرير : معنى قوله : { لا جَرَمَ } حقا.
وقال الضحاك : { لا جَرَمَ } لا كذب.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { لا جَرَمَ } يقول : بلى ، إن الذي تدعونني إليه من الأصنام والأنداد { لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ }
قال مجاهد : الوثن ليس بشيء.
وقال قتادة : يعني الوثن لا ينفع ولا يضر.
وقال السدي : لا يجيب داعيه ، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وهذا كقوله تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [الأحقاف : 5 ، 6] ، { إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ } [فاطر : 14].
__________
(1) في ت ، أ : "على جهل".

(7/145)


وقوله : { وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ } أي : في الدار الآخرة ، فيجازي كلا بعمله ؛ ولهذا قال : { وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ } أي : خالدين فيها بإسرافهم ، وهو شركهم بالله.
{ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ } أي : سوف تعلمون صدق ما أمرتكم به ونهيتكم عنه ، ونصحتكم ووضحت لكم ، وتتذكرونه ، وتندمون حيث لا ينفعكم الندم ، { وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ } أي : وأتوكل على الله وأستعينه ، وأقاطعكم وأباعدكم ، { إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } أي : هو بصير بهم ، فيهدي من يستحق الهداية ، ويضل من يستحق الإضلال ، وله الحجة البالغة ، والحكمة التامة ، والقدر النافذ.
وقوله [تعالى] (1) : { فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا } أي : في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فنجاه الله مع موسى ، عليه السلام ، وأما في الآخرة فبالجنة { وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ } وهو : الغرق في اليم ، ثم النقلة منه إلى الجحيم. فإن أرواحهم تعرض على النار صباحا ومساءً إلى قيام الساعة ، فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار ؛ ولهذا قال : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } أي : أشده ألما وأعظمه نكالا. وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور ، وهي قوله : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا }.
ولكن هاهنا سؤال ، وهو أنه لا شك أن هذه الآية مكية ، وقد استدلوا بها على عذاب القبر في البرزخ ، وقد قال الإمام أحمد :
حدثنا هاشم - هو ابن القاسم أبو النضر - حدثنا إسحاق بن سعيد (2) - هو ابن عمرو بن سعيد بن العاص - حدثنا سعيد - يعني أباه - عن عائشة ؛ أن يهودية كانت تخدمها فلا تصنع عائشة إليها شيئا من المعروف إلا قالت لها اليهودية : وقاك الله عذاب القبر. قالت : فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ فقلت : يا رسول الله ، هل للقبر عذاب قبل يوم القيامة ؟ قال : "لا وعم ذلك ؟" قالت : هذه اليهودية ، لا نصنع إليها شيئا من المعروف إلا قالت : وقاك الله عذاب القبر. قال : "كذبت يهود (3). وهم على الله أكذب ، لا عذاب دون يوم القيامة". ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث ، فخرج ذات يوم نصف النهار مشتملا بثوبه ، محمرة عيناه ، وهو ينادي بأعلى صوته : "القبر كقطع الليل المظلمز أيها الناس ، لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا وضحكتم قليلا. أيها الناس ، استعيذوا بالله من عذاب القبر ، فإن عذاب القبر حق" (4).
وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ، ولم يخرجاه.
وروى أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة - قال : سألتها امرأة يهودية فأعطتها ، فقالت لها : أعاذك الله من عذاب القبر. فأنكرت عائشة ذلك ، فلما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت له ، فقال : "لا". قالت عائشة : ثم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك : "وإنه أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم".
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ : "سعد".
(3) في أ : "يهودية".
(4) المسند (6/81).

(7/146)


وهذا أيضا على شرطهما (1).
فيقال : فما الجمع بين هذا وبين كون الآية مكية ، وفيها الدليل على عذاب البرزخ ؟ والجواب : أن الآية دلت على عرض الأرواح إلى النار غدوا وعشيا في البرزخ ، وليس فيها دلالة على اتصال تألمها بأجسادها في القبور ، إذ قد يكون ذلك مختصا بالروح ، فأما حصول ذلك للجسد وتألمه بسببه ، فلم يدل عليه إلا السنة في الأحاديث المرضية الآتي ذكرها.
وقد يقال إن هذه الآية إنما دلت على عذاب الكفار في البرزخ ، ولا يلزم من ذلك أن يعذب المؤمن في قبره بذنب ، ومما يدل على هذا ما رواه الإمام أحمد :
حدثنا عثمان بن عمر ، حدثنا يونس ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة من اليهود ، وهي تقول : أشعرت أنكم تفتنون في قبوركم ؟ فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : "إنما يفتن يهود" قالت عائشة : فلبثنا ليالي ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أشعرت أنه أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور ؟" وقالت عائشة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يستعيذ من عذاب القبر.
وهكذا رواه مسلم ، عن هارون بن سعيد وحرملة ، كلاهما عن ابن وهب ، عن يونس بن يزيد الأيلي ، عن الزهري ، به (2).
وقد يقال : إن هذه الآية دلت على عذاب الأرواح في البرزخ ، ولا يلزم من ذلك أن يتصل بالأجساد في قبورها ، فلما أوحي إليه في ذلك بخصوصيّته استعاذ منه ، والله ، سبحانه وتعالى ، أعلم.
وقد روى البخاري من حديث شعبة ، عن أشعث بن أبي الشعثاء ، عن أبيه ، عن مسروق ، عن عائشة (3) ، رضي الله عنها ، أن يهودية دخلت عليها فقالت : أعاذك الله من عذاب القبر (4). فسألت عائشة (5) رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر ؟ فقال : "نعم عذاب القبر حق". قالت عائشة : فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدُ صلى صلاة إلا تعوّذ من عذاب القبر (6).
فهذا يدل على أنه بادر إلى تصديق اليهودية في هذا الخبر ، وقرر عليه. وفي الأخبار المتقدمة : أنه أنكر ذلك حتى جاءه الوحي ، فلعلهما قضيتان ، والله أعلم ، وأحاديث عذاب القبر كثيرة جدا.
وقال قتادة في قوله : { غُدُوًّا وَعَشِيًّا } صباحا ومساء ، ما بقيت الدنيا ، يقال لهم : يا آل فرعون ، هذه منازلكم ، توبيخا ونقمة وصَغَارا لهم.
وقال ابن زيد : هم فيها اليوم يُغدَى بهم ويراح إلى أن تقوم الساعة.
__________
(1) المسند (6/238).
(2) المسند (6/248) وصحيح مسلم برقم (584).
(3) في ت : "وقد روى البخاري بإسناده من عائشة".
(4) في ت : "القبور" وفي أ : "وقاك الله من عذاب القبر".
(5) في ت : "عائشة رضي الله عنها".
(6) صحيح البخاري برقم (1372).

(7/147)


وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا المحاربي ، حدثنا ليث ، عن عبد الرحمن بن ثروان ، عن هذيل ، عن عبد الله بن مسعود (1) ، رضي الله عنه ، قال : إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تسرح بهم في الجنة حيث شاءوا ، وإن أرواح ولدان المؤمنين في أجواف عصافير تسرح في الجنة حيث شاءت ، فتأوي إلى قناديل معلقة في العرش ، وإن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح عليها ، فذلك عرضها.
وقد رواه الثوري عن أبي قيس عن الهُزَيل ابن شرحبيل ، من كلامه في أرواح آل فرعون. وكذلك قال السدي.
وفي حديث الإسراء من رواية أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه : "ثم انطلق بي إلى خلق كثير من خلق الله ، رجالٌ كلُّ رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم ، مصفدون على سابلة آل فرعون ، وآل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا. { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } وآل فرعون كالإبل المسومة (2) يخبطون الحجارة والشجر ولا يعقلون" (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا زيد بن أخْرَم ، حدثنا عامر بن مُدْرِك الحارثي ، حدثنا عتبة - يعني ابن يقظان - عن قيس بن مسلم ، عن طارق ، عن (4) شهاب ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما أحسن محسن من مسلم أو كافر إلا أثابه الله". قال : قلنا : يا رسول الله ما إثابة الكافر ؟ فقال : "إن كان قد وصل رحما أو تصدق بصدقة أو عمل حسنة ، أثابه الله المال والولد والصحة وأشباه ذلك". قلنا : فما إثابته في الآخرة ؟ قال : "عذابا دون العذاب" وقرأ : { أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } ورواه البزار في مسنده ، عن زيد بن أخْرَم ، ثم قال : لا نعلم له إسنادًا غير هذا (5).
وقال ابن جرير : حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير ، حدثنا حماد بن محمد الفزاري البلخي قال : سمعت (6) الأوزاعي وسأله رجل فقال : رحمك الله. رأينا طيورًا تخرج من البحر ، تأخذ ناحية الغرب بيضا ، فوجا فوجا ، لا يعلم عددها إلا الله ، عز وجل ، فإذا كان العشي رجع مثلها سودا. قال : وفطنتم إلى ذلك ؟ قال : نعم. قال : إن تلك (7) الطير في حواصلها أرواح آل فرعون ، تعرض على النار غدوا وعشيا ، فترجع إلى وكورها وقد احترقت ريَاشُها وصارت سودا ، فينبت عليها من الليل ريش أبيض ، ويتناثر السود ، ثم تغدو على النار غدوا وعشيا ، ثم ترجع إلى وكورها. فذلك دأبهم في الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى : { أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } قال : وكانوا
__________
(1) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن ابن مسعود".
(2) في س : "المنسومة".
(3) انظر تخريج هذا الحديث عند تفسير الآية الأولى من سورة الإسراء.
(4) في س : "ابن".
(5) مسند البزار برقم (945) "كشف الأستار" ورواه الحاكم في المستدرك (2/253) من طريق علي بن الحسين به ، وقال : "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وتعقبه الذهب. قلت : فيه عتبة بن يقظان وهو واه.
(6) في ت : "وروى ابن جرير بإسناده إلي".
(7) في ت : "ذلك".

(7/148)


وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49)

يقولون إنهم ستمائة ألف مقاتل (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق ، أخبرنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر (2) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار. فيقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله ، عز وجل ، إلى يوم القيامة".
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك ، به (3).
{ وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) }
__________
(1) تفسير الطبري (24/46).
(2) في أ : "ابن عمر رضي الله عنهما".
(3) المسند (2/113) وصحيح البخاري برقم (1379) وصحيح مسلم برقم (2866).

(7/149)


قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)

{ قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ (50) }
يخبر تعالى عن تحاج أهل النار في النار ، وتخاصمهم ، وفرعون وقومه من جملتهم { فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ } وهم : الأتباع { لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا } وهم : القادة والسادة والكبراء : { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا } أي : أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر والضلال ، { فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ } أي : قسطا تتحملونه عنا.
{ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا } أي : لا نتحمل عنكم شيئا ، كفى بنا ما عندنا ، وما حملنا من العذاب والنكال. { إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ } أي : يقسم (1) بيننا العذاب بقدر ما يستحقه كل منا ، كما قال تعالى : { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ } [الاعراف : 38].
{ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ } لما علموا أن الله ، سبحانه ، لا يستجيب منهم ولا يستمع لدعائهم ، بل قد قال : { اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون : 108] سألوا الخزنة - وهم كالبوابين (2) لأهل النار - أن يدعوا لهم الله أن يخفف عن الكافرين ولو يوما واحدا من العذاب ، فقالت لهم الخزنة رادين عليهم : : { أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } أي : أوما قامت عليكم الحجج في الدنيا على ألسنة الرسل ؟ { قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا } أي : أنتم لأنفسكم ، فنحن لا ندعو لكم ولا نسمع منكم ولا نود خلاصكم ، ونحن منكم برآء ، ثم نخبركم أنه سواء دعوتم أو لم تدعوا لا يستجاب لكم ولا يخفف عنكم ؛ ولهذا قالوا (3) : { وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ } أي : إلا من ذهاب ، لا يتقبل ولا يستجاب.
__________
(1) في ت : "فقسم".
(2) في ت ، أ : "كالسجانين".
(3) في ت : "قال".

(7/149)


إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)

{ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) }
قد أورد أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله تعالى ، عند قوله تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } سؤالا فقال : قد عُلِم أن بعض الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، قتله قومه بالكلية كيحيى وزكريا (1) وشعياء ، ومنهم من خرج من بين أظهرهم إما مهاجرا كإبراهيم (2) ، وإما إلى السماء كعيسى (3) ، فأين النصرة في الدنيا ؟ ثم أجاب عن ذلك بجوابين (4).
أحدهما : أن يكون الخبر خرج عاما ، والمراد به البعض ، قال : وهذا سائغ في اللغة.
الثاني : أن يكون المراد بالنصر الانتصار لهم ممن آذاهم ، وسواء كان ذلك بحضرتهم أو في غيبتهم أو بعد موتهم ، كما فُعِلَ بقتلة يحيى وزكريا (5) وشعياء ، سلط عليهم من أعدائهم من أهانهم وسفك دماءهم ، وقد ذكر أن النمروذ أخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، وأما الذين راموا صلب المسيح ، عليه السلام ، من اليهود ، فسلط الله عليهم الروم فأهانوهم وأذلوهم ، وأظهرهم الله عليهم. ثم قبل يوم القيامة سينزل عيسى ابن مريم إماما عادلا وحكما مقسطا ، فيقتل المسيح الدجال وجنوده من اليهود ، ويقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام. وهذه نصرة عظيمة ، وهذه سنة الله في خلقه في قديم الدهر وحديثه : أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا ، ويقر أعينهم ممن آذاهم ، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "يقول الله تعالى : من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب" (6) وفي الحديث الآخر : "إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب" (7) ؛ ولهذا أهلك تعالى قوم نوح وعاد وثمود ، وأصحاب الرس ، وقوم لوط ، وأهل (8) مدين ، وأشباههم وأضرابهم ممن كذب الرسل وخالف الحق. وأنجى الله من بينهم المؤمنين ، فلم يهلك منهم أحدًا وعذب الكافرين ، فلم يفلت منهم أحدا (9).
قال السدي : لم يبعث الله رسولا قط إلى قوم فيقتلونه ، أو قوما من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلون ، فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله لهم من ينصرهم ، فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا. قال : فكانت (10) الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا ، وهم منصورون فيها.
__________
(1) في ت ، أ : "كيحيى بن زكريا"
(2) في أ : "كإبراهيم عليه السلام".
(3) في أ : "كعيسى عليه السلام".
(4) تفسير الطبري (24/48).
(5) في ت "يحيى بن زكريا".
(6) صحيح البخاري برقم (6502).
(7) لم أجده بهذا اللفظ وقد رواه أبو نعيم في الحلية (1/11) موقوفا على ابن عباس : "وأنا الثائر لأوليائي يوم القيامة".
(8) في أ : "وأصحاب".
(9) في س : "واحدا".
(10) في ت ، س : "وكانت".

(7/150)


وهكذا نصر الله [سبحانه] (1) نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه على من خالفه وناوأه ، وكذبه وعاداه ، فجعل كلمته هي العليا ، ودينه هو الظاهر على سائر الأديان. وأمره بالهجرة من بين ظهراني قومه إلى المدينة النبوية ، وجعل له فيها أنصارا وأعوانا ، ثم منحه أكتاف المشركين يوم بدر ، فنصره عليهم وخذلهم له ، وقتل صناديدهم ، وأسر سراتهم ، فاستاقهم مقرنين في الأصفاد ، ثم من عليهم بأخذه الفداء منهم ، ثم بعد مدة قريبة فتح [عليه] (2) مكة ، فقرت عينه ببلده ، وهو البلد المحرم الحرام المشرف المعظم ، فأنقذه الله به مما كان فيه من الشرك والكفر ، وفتح له اليمن ، ودانت له جزيرة (3) العرب بكمالها ، ودخل الناس في دين الله أفواجا. ثم قبضه الله ، تعالى ، إليه لما له عنده من الكرامة العظيمة ، فأقام الله أصحابه خلفاء بعده ، فبلغوا عنه دين الله ، ودعوا عباد الله إلى الله. وفتحوا البلاد والرّساتيق والأقاليم والمدائن والقرى والقلوب ، حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الأرض ومغاربها. ثم لا يزال هذا الدين قائما منصورا ظاهرا إلى قيام (4) الساعة ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ } أي : يوم القيامة تكون النصرة أعظم وأكبر وأجل.
قال مجاهد : الأشهاد : الملائكة.
وقوله : { يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ } بدل من قوله : { وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ }.
وقرأ آخرون : "يَوْمُ" بالرفع ، كأنه فسره به { وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِين } ، وهم المشركون { مَعْذِرَتُهُم } أي : لا يقبل منهم عذر ولا فدية ، { وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ } أي : الإبعاد والطرد من الرحمة ، { وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } وهي النار. قاله السدي ، بئس المنزل والمقيل.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } أي : سوء العاقبة.
وقوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى } وهو ما بعثه الله به من الهدى والنور ، { وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ } أي : جعلنا لهم العاقبة ، وأورثناهم (5) بلاد فرعون وأمواله وحواصله وأرضه ، بما صبروا على طاعة الله واتباع رسوله موسى ، عليه السلام ، وفي الكتاب الذي أورثوه - وهو التوراة - { هُدًى وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ } وهي : العقول الصحيحة السليمة.
وقوله : { فَاصْبِرْ } أي : يا محمد ، { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ } أي : وعدناك أنا سنعلي كلمتك ، ونجعل العاقبة لك ولمن اتبعك ، والله لا يخلف الميعاد. وهذا الذي أخبرناك به حق لا مرية فيه ولا شك.
وقوله : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } هذا تهييج للأمة على الاستغفار ، { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ } أي : في أواخر النهار وأوائل الليل ، { وَالإبْكَارِ } وهي أوائل النهار وأواخر الليل.
وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } أي : يدفعون الحق بالباطل ، ويردون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة بلا برهان ولا حجة من الله ، { إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ }
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من ت ، وفي أ : "عليهم".
(3) في ت : "جزائر".
(4) في ت : "يوم".
(5) في ت : "وأورثنا بني إسرائيل".

(7/151)


لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58)

أي : ما في صدورهم إلا كبر على اتباع الحق ، واحتقار لمن جاءهم به ، وليس ما يرومونه من إخمال الحق وإعلاء الباطل بحاصل لهم ، بل الحق هو المرفوع ، وقولهم وقصدهم هو الموضوع ، { فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } أي : من حال مثل هؤلاء ، { إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } أو (1) من شر (2) مثل هؤلاء المجادلين في آيات الله بغير سلطان. هذا تفسير ابن جرير.
وقال كعب وأبو العالية : نزلت هذه الآية في اليهود : { إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ } قال أبو العالية : وذلك أنهم ادعوا أن الدجال منهم ، وأنهم يملكون به الأرض. فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم آمرا له أن يستعيذ من فتنة الدجال ، ولهذا قال : { فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }.
وهذا قول غريب ، وفيه تعسف بعيد ، وإن كان قد رواه ابن أبي حاتم في كتابه ، والله أعلم.
{ لَخَلْقُ السَّموَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) }
__________
(1) في ت : "أي".
(2) في أ : "شك".

(7/152)


إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)

{ إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59) }
يقول تعالى منبها على أنه يعيد الخلائق يوم القيامة ، وأن ذلك سهل عليه ، يسير لديه - بأنه خلق السموات والأرض ، وخلقهما أكبر من خلق الناس بدأة وإعادة ، فمن قدر على ذلك فهو قادر على ما دونه بطريق الأولى والأحرى ، كما قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الاحقاف : 33] (1). وقال هاهنا : { لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } ؛ فلهذا لا يتدبرون هذه الحجة ولا يتأملونها ، كما كان كثير من العرب يعترفون بأن الله خلق السموات والأرض ، وينكرون المعاد ، استبعادا وكفرا وعنادا ، وقد اعترفوا بما هو أولى مما أنكروا.
ثم قال : { وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ } أي كما لا يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئا ، والبصير الذي يرى ما انتهى إليه بصره ، بل بينهما فرق عظيم ، كذلك لا يستوي المؤمنون الأبرار والكفرة الفجار ، { قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ } أي : ما أقل ما يتذكر كثير من الناس.
ثم قال : { إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ } (2) أي لكائنة وواقعة { لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ } أي : لا يصدقون بها ، بل يكذبون بوجودها.
__________
(1) في ت ، أ : "أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير" وهو خطأ والصواب ما أثبتناه حيث إن ناسخا المخطوطتين ت ، أ قد خلطا بين الآية الحادية والثمانين من سورة يس وبين الآية الثالثة والثلاثين من سورة الأحقاف.
(2) في ت : "آتية وهو خطأ.

(7/152)


وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)

قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا أشهب ، حدثنا مالك ، عن (1) شيخ قديم من أهل اليمن - قدم من ثم - قال : سمعت أن الساعة إذا دنت اشتد البلاء على الناس ، واشتد حر الشمس.
{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) }
هذا من فضله ، تبارك وتعالى ، وكرمه أنه ندب عباده إلى دعائه ، وتكفل لهم بالإجابة ، كما كان سفيان الثوري يقول : يا مَنْ أحبُّ عباده إليه مَنْ سأله فأكثر سؤاله ، ويا من أبغض عباده إليه من لم يسأله ، وليس كذلك (2) غيرك يا رب.
رواه ابن أبي حاتم.
وفي هذا المعنى يقول الشاعر :
اللهُ يَغْضبُ إن تركْتَ سُؤَالهُ... وَبُنيُّ آدمَ حين يُسألُ يَغْضَبُ...
وقال قتادة : : قال كعب الأحبار : أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم تُعطهُن (3) أمة قبلهم إلا نبي : كان إذا أرسل الله نبيا قيل له : "أنت شاهد على أمتك" ، وجَعلتُكم (4) شهداء على الناس. وكان يقال له : "ليس عليك في الدين من حرج". وقال لهذه الأمة : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج : 78]. وكان يقال له : "ادعني (5) أستجب لك "وقال لهذه الأمة : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } رواه ابن أبي حاتم.
وقال (6) الإمام الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده : حدثنا أبو إبراهيم الترجماني ، حدثنا صالح المري قال : سمعت الحسن يحدث عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه عز وجل - قال : "أربع خصال ، واحدة منهن لي ، وواحدة لك ، وواحدة فيما بيني وبينك ، وواحدة فيما بينك وبين عبادي (7) : فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا ، وأما التي لك عليَّ فما عملت من خير جزيتك به ، وأما التي بيني وبينك : فمنك الدعاء وعلي الإجابة ، وأما التي بينك وبين عبادي فارض لهم ما (8) ترضى لنفسك" (9).
وقال (10) الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن ذر ، عن يُسيع الكندي ، عن النعمان بن بشير ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الدعاء هو العبادة" ثم قرأ : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ }.
__________
(1) في ت : "روى ابن أبي حاتم عن".
(2) في ت ، أ : "وليس أحد كذلك".
(3) في س : "يعطهن".
(4) في ت : "وروى".
(5) في س : "ادعوني".
(6) في ت : "وروى".
(7) في ت : "العباد".
(8) في ت ، أ : "بما".
(9) مسند أبي يعلى (5/143) ورواه البزار في مسنده برقم (19) "كشف الأستار" من طريق الحجاج بن المنهال عن صالح المري به وقال : "تفرد به صالح المري" قال الهيثمي في المجمع (1/51) "في إسناده صالح المري وهو ضعيف وتدليس الحسن أيضا. والمحمل هنا على صالح بن بشير المري فهو ضعيف جدا وقد تفرد به.
(10) في ت : "وروى".

(7/153)


وهكذا رواه أصحاب السنن : الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، كلهم من حديث الأعمش ، به (1). وقال الترمذي : حسن صحيح.
ورواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن جرير أيضا ، من حديث شعبة ، عن منصور ، عن ذر ، به (2). وأخرجه الترمذي أيضا من حديث الثوري ، عن منصور والأعمش ، كلاهما عن ذر ، به (3).
ورواه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد (4).
وقال (5) الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثني أبو مليح المدني - شيخ من أهل المدينة - سمعه عن أبي صالح ، وقال مرة : سمعت أبا صالح يحدث عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (6) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من لم يدع الله ، عز وجل ، غضب عليه".
تفرد به أحمد (7) ، وهذا إسناد لا بأس به.
وقال (8) الإمام أحمد أيضا : حدثنا مروان الفزاري ، حدثنا صُبيح أبو المليح : سمعت أبا صالح يحدث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من لا يسأله يغضب عليه" (9).
قال ابن معين : أبو المليح هذا اسمه : صُبَيْح. كذا قيده بالضم عبد الغني بن سعيد. وأما أبو صالح هذا فهو (10) الخُوزي (11) ، سكن شِعَب الخوز (12). قاله البزار في مسنده. وكذا وقع في روايته أبو المليح الفارسي ، عن أبي صالح الخُوزي ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من لا يسأل الله يغضب عليه" (13).
وقال (14) الحافظ أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن الرامهُرْمزي : حدثنا همام ، حدثنا إبراهيم بن الحسن ، حدثنا نائل بن نجيح ، حدثني عائذ بن حبيب ، عن محمد بن سعيد قال : لما مات محمد بن مسلمة الأنصاري ، وجدنا في ذؤابة (15) سيفه كتابا : "بسم الله الرحمن الرحيم ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن لربكم في بقية دهركم نفحات (16) ، فتعرضوا له ، لعل دعوة أن توافق رحمة فيسعد (17) بها صاحبها سعادة لا يخسر بعدها أبدا" (18).
__________
(1) المسند (4/271) وسنن الترمذي برقم (3372) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11464) وسنن ابن ماجه برقم (3828) وتفسير الطبري (24/51).
(2) سنن أبي داود برقم (1479) وسنن الترمذي برقم (2969) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11446) وتفسير الطبري (24/51).
(3) سنن الترمذي برقم (3247).
(4) صحيح ابن حبان برقم (2396) "موارد" والمستدرك (1/491).
(5) في ت : "وروى".
(6) زيادة من ت.
(7) المسند (2/477) وتفرد به أحمد بهذا اللفظ وإلا فقد رواه ابن ماجه في السنن برقم (3827) من طريق وكيع بهذا الإسناد بلفظ : "من لم يسأل الله يغضب عليه".
(8) في ت : "وروى".
(9) المسند (2/442).
(10) في ت ، س : "وهو".
(11) في أ : "الجزري".
(12) في أ : "الجزر".
(13) ورواه الترمذي في السنن برقم (3373) وقال : "أبو المليح اسمه صبيح ، وسمعت محمدا يقوله وقال له : فارسي".
(14) في ت : "وروى".
(15) في ت : "رواية".
(16) في ت : "في بقية أيام نفحات" وفي س ، أ : "في بقية أيام دهركم نفحات".
(17) في ت : "يسعد".
(18) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (19/233) من وجه آخر.

(7/154)


اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)

وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي } أي : عن دعائي وتوحيدي ، { سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } أي : صاغرين حقيرين ، كما قال (1) الإمام أحمد :
حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن عجلان ، حدثني عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يُحْشَر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذّرّ ، في صور الناس ، يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا (2) سجنا في جهنم - يقال له : بولس - تعلوهم نار الأنيار ، يسقون من طينة الخبال : عصارة أهل النار" (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو بكر بن محمد بن يزيد بن خُنَيْس : سمعت أبي يحدث عن وُهَيب (4) بن الورد : حدثني رجل قال : كنت أسير ذات يوم في أرض الروم ، فسمعت هاتفا من فوق رأس جبل وهو يقول : يا رب ، عجبت لمن عرفك كيف يرجو أحدا غيرك! يا رب ، عجبت لمن عرفك كيف يطلب حوائجه إلى أحد غيرك - قال : ثم ذهبت ، ثم جاءت الطامة الكبرى - قال : ثم عاد الثانية فقال : يا رب ، عجبت لمن عرفك كيف يتعرض لشيء من سخطك يُرضي (5) غيرك. قال وهيب : وهذه الطامة الكبرى. قال : فناديته : أجني أنت أم إنسي ؟ قال : بل إنسي ، أشغل نفسك بما يَعْنيك عما لا يعنيك.
{ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) }
يقول تعالى ممتنا على خلقه ، بما جعل لهم من الليل الذي يسكنون فيه ويستريحون من حركات ترددهم في المعايش بالنهار ، وجعل النهار مبصرا ، أي : مضيئا ، ليتصرفوا فيه بالأسفار ، وقطع الأقطار ، والتمكن من الصناعات ، { إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ } (6) أي : لا يقومون بشكر نعم (7) الله عليهم.
ثم قال : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } أي : الذي فعل هذه الأشياء هو الله الواحد الأحد ، خالق الأشياء ، الذي لا إله غيره ، ولا رب سواه ، { فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } أي : فكيف تعبدون غيره من الأصنام ، التي لا تخلق شيئا ، بل هي مخلوقة منحوتة.
__________
(1) في ت : "روى".
(2) في ت : "يدخلون".
(3) المسند (2/179).
(4) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بسنده عن وهيب".
(5) في ت ، س : "يرضى".
(6) في ت : "ولكن أكثرهم". وهو خطأ.
(7) في أ : "ما أنعم".

(7/155)


قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66)

وقوله : { كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } أي : كما ضل هؤلاء بعبادة غير الله ، كذلك أفك الذين من قبلهم ، فعبدوا غيره بلا دليل ولا برهان بل بمجرد الجهل والهوى ، وجحدوا حجج الله وآياته.
وقوله : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا } أي : جعلها مستقرا لكم ، بساطا مهادا تعيشون عليها ، وتتصرفون فيها ، وتمشون في مناكبها ، وأرساها بالجبال لئلا تميد بكم ، { وَالسَّمَاءَ بِنَاءً } أي : سقفا للعالم محفوظا ، { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } أي : فخلقكم في أحسن الأشكال ، ومنحكم أكمل الصور في أحسن تقويم ، { وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } أي : من المآكل والمشارب في الدنيا. فذكر أنه خلق الدار ، والسكان ، والأرزاق - فهو الخالق الرازق ، كما قال في سورة البقرة : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة : 21 ، 20 ] (1) وقال هاهنا بعد خلق هذه الأشياء : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } أي : فتعالى وتقدس وتنزه رب العالمين كلهم.
ثم قال : { هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } أي : هو الحي أزلا وأبدًا ، لم يزل ولا يزال ، وهو الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، { لا إِلَهَ إِلا هُوَ } أي : لا نظير له ولا عديل له ، { فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } أي : موحدين له مقرين بأنه لا إله إلا هو { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }.
قال ابن جرير : كان جماعة من أهل العلم يأمرون من قال : "لا إله إلا الله" أن يتبعها بالحمد لله رب العالمين ، عملا بهذه الآية.
ثم روى عن محمد بن علي بن الحسن بن شقيق ، عن أبيه ، عن الحسين بن واقد ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس (2) قال : من قال : "لا إله إلا الله" فليقل على أثرها : "الحمد لله رب العالمين" فذلك (3) قوله تعالى : { فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }.
وقال أبو أسامة وغيره ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن سعيد بن جبير قال : إذا قرأت : { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [غافر : 14] ، فقل : "لا إله إلا الله" وقل على أثرها : "الحمد لله رب العالمين" ثم قرأ هذه الآية : { فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }.
{ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) }
__________
(1) في س : "اتقوا" وهوز خطأ.
(2) في ت : "ثم روى بإسناده عن ابن عباس".
(3) في ت ، س : "وذلك".

(7/156)


هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)

{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) }
يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : إن الله ينهى أن يُعْبَد أحد سواه من الأصنام والأنداد

(7/156)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)

والأوثان. وقد بين تعالى أنه لا يستحق العبادة أحد سواه ، في قوله : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا } أي : هو الذي يقلبكم في هذه الأطوار كلها ، وحده لا شريك له ، وعن أمره وتدبيره وتقديره يكون ذلك كله ، { وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ } أي : من قبل أن يوجد ويخرج إلى هذا العالم ، بل تسقطه أمه سقطا ، ومنهم من يتوفى صغيرا ، وشابا ، وكهلا قبل الشيخوخة ، كقوله : { لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } [الحج : 5] وقال هاهنا : { وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } قال ابن جريج ، تتذكرون البعث.
ثم قال : { هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي : هو المتفرد بذلك ، لا يقدر على ذلك أحد سواه ، { فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } أي : لا يخالف ولا يمانع ، بل ما شاء كان [لا محالة] (1).
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) }
يقول تعالى : ألا تعجب يا محمد من هؤلاء المكذبين بآيات الله ، ويجادلون في الحق والباطل ، كيف تُصرّف عقولهم عن الهدى إلى الضلال ، { الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا } أي : من الهدى والبيان ، { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } هذا تهديد شديد ، ووعيد أكيد ، من الرب ، جل جلاله ، لهؤلاء ، كما قال تعالى : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } [المرسلات : 15].
وقوله : { إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ } أي : متصلة بالأغلال ، بأيدي الزبانية يسحبونهم على وجوههم ، تارة إلى الحميم وتارة إلى الجحيم ؛ ولهذا قال : { يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } ، كما قال : { هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [الرحمن : 43 ، 44]. وقال بعد ذكْره أكلهم الزقوم وشربهم الحميم : { ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ } [الصافات : 68] وقال { وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ. فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ. وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ. لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ } إلى أن قال : { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ. لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ. فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ. فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ. فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ. هَذَا نزلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ } [الواقعة : 41 - 56]. وقال { إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ. طَعَامُ الأثِيمِ. كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ. كَغَلْيِ الْحَمِيمِ. خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ. ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ. ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ. إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ } [الدخان : 43 - 50] ،
__________
(1) زيادة من س ، أ.

(7/157)


فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)

أي : يقال لهم ذلك على وجه التقريع والتوبيخ ، والتحقير والتصغير ، والتهكم والاستهزاء بهم.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن منيع ، حدثنا منصور بن عمار ، حدثنا بشير (1) بن طلحة الخزامي ، عن خالد بن دُرَيْك ، عن يعلى بن مُنْيَه - رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال : "ينشئ الله سحابة لأهل النار سوداء مظلمة ، ويقال : يا أهل النار ، أي شيء تطلبون ؟ فيذكرون بها سحاب الدنيا فيقولون : نسأل بَرْد الشراب ، فتمطرهم أغلالا تزيد في أغلالهم ، وسلاسل تزيد في سلاسلهم ، وجمرا يُلْهِبُ النار عليهم". هذا حديث غريب (2).
وقوله : { ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي : قيل لهم : أين الأصنام التي كنتم تعبدونها من دون الله ؟ هل ينصرونكم اليوم ؟ { قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا } أي : ذهبوا فلم ينفعونا ، { بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا } أي : جحدوا عبادتهم ، كقوله تعالى : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [الانعام : 23] ؛ ولهذا قال : { كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ }.
وقوله : { ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ } أي : تقول لهم الملائكة : هذا الذي أنتم فيه جزاء على فرحكم في الدنيا بغير الحق ، ومرحكم وأشركم وبطركم ، { ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } أي : فبئس المْنزلُ والمَقِيلُ الذي فيه الهوان والعذاب الشديد ، لمن استكبر عن آيات الله ، واتباع دلائله وحُججه.
{ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) }
__________
(1) في أ : "بشر".
(2) ورواه الطبراني في الأوسط برقم (4846) وابن عدي في الكامل (6/394) من طريق أحمد بن منيع عن منصور به ، وقال الطبراني : "لا يروى إلا بهذا الإسناد تفرد به منصور". وقال الهيثمي في المجمع (10/390) : "فيه من فيه ضعف قليل ، وفيه من لم أعرفه".

(7/158)


وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)

{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) }
يقول تعالى آمرا رسوله ، صلوات الله وسلامه عليه ، بالصبر على تكذيب من كذبه من قومه ؛ فإن الله سينجز لك ما وعدك من النصر والظفر على قومك ، وجعل العاقبة لك ولمن اتبعك في الدنيا والآخرة ، { فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ } أي : في الدنيا. وكذلك وقع ، فإن الله أقر أعينهم من كبرائهم وعظمائهم ، أبيدوا في يوم بدر. ثم فتح الله عليه مكة وسائر جزيرة العرب في أيام حياته صلى الله عليه وسلم.
وقوله : { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } أي : فنذيقهم العذاب الشديد في الآخرة.
ثم قال مسليا له : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } كما قال في "سورة النساء" سواء ، أي : منهم من أوحينا إليك خبرهم وقصصهم مع قومهم كيف كذبوهم ثم كانت للرسل العاقبة والنصرة ، { وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } وهم أكثر ممن ذكر

(7/158)


اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)

بأضعاف أضعاف ، كما تقدم التنبيه على ذلك في سورة النساء (1) ، ولله الحمد والمنة.
وقوله : { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } أي : ولم يكن لواحد من الرسل أن يأتي قومه بخارق للعادات ، إلا أن يأذن الله (2) له في ذلك ، فيدل ذلك على صدقه فيما جاءهم به ، { فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ } وهو عذابه ونكاله المحيط بالمكذبين { قُضِيَ بِالْحَقِّ } فينجو المؤمنون ، ويهلك الكافرون ؛ ولهذا قال : { وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ }
{ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) }
يقول تعالى ممتنا على عباده ، بما خلق لهم من الأنعام ، وهي الإبل والبقر والغنم { فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [يس : 72] ، فالإبل تركب وتؤكل وتحلب ، ويحمل عليها الأثقال في الأسفار والرحال إلى البلاد النائية ، والأقطار الشاسعة. والبقر تؤكل ، ويشرب لبنها ، وتحرث عليها الأرض. والغنم تؤكل ، ويشرب لبنها ، والجميع تجز أصوافها وأشعارها وأوبارها ، فيتخذ منها الأثاث والثياب والأمتعة كما فَصَّل وبَيَّنَ في أماكن تقدم ذكرها في "سورة الأنعام" (3) ، و "سورة النحل" (4) ، وغير ذلك ؛ ولهذا قال هاهنا : { لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ }.
وقوله : { وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } أي : حججه وبراهينه في الآفاق وفي أنفسكم ، { فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ } أي : لا تقدرون على إنكار شيء من آياته ، إلا أن تعاندوا وتكابروا.
{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85) }
يخبر تعالى عن الأمم المكذبة بالرسل في قديم الدهر ، وماذا حل بهم من العذاب الشديد ، مع
__________
(1) راجع تفسير الآية : 164 من سورة النساء.
(2) في أ : "إلا بإذن الله".
(3) راجع تفسير الآيات : 141 - 144 من سورة الأنعام.
(4) راجع تفسير الآيات : 5 - 8 من سورة النحل.

(7/159)


شدة قواهم ، وما أَثّروه في الأرض ، وجمعوه من الأموال ، فما أغنى عنهم ذلك شيئا ، ولا رد عنهم ذرة من بأس الله ؛ وذلك لأنهم لما جاءتهم الرسل (1) بالبينات ، والحجج القاطعات ، والبراهين الدامغات ، لم يلتفتوا إليهم ، ولا أقبلوا عليهم ، واستغنوا بما عندهم من العلم في زعمهم عما جاءتهم به الرسل.
قال مجاهد : قالوا : نحن أعلم منهم لن نبعث ولن نعذب.
وقال السدي : فرحوا بما عندهم من العلم بجهالتهم ، فأتاهم من بأس الله ما لا قِبَل لهم به.
{ وَحَاقَ بِهِمْ } أي : أحاط بهم { مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي : يكذبون ويستبعدون وقوعه.
{ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } أي : عاينوا وقوع العذاب بهم ، { قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ } أي : وحدوا الله وكفروا بالطاغوت ، ولكن حيث لا تُقَال العثرات ، ولا تنفع المعذرة. وهذا كما قال فرعون حين أدركه الغرق : { آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [يونس : 90] ، قال الله [تبارك و] (2) تعالى : { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } [يونس : 91] أي : فلم يقبل الله منه ؛ لأنه قد استجاب لنبيه موسى دعاءه عليه حين قال : { وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [يونس : 88]. و[هكذا] (3) هاهنا قال : { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ } أي : هذا حكم الله في جميع (4) مَنْ تاب عند معاينة العذاب : أنه لا يقبل ؛ ولهذا جاء في الحديث : "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" (5) أي : فإذا غرغر وبلغت الروح الحنجرة ، وعاين الملك ، فلا توبة حينئذ ؛ ولهذا قال : { وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ }
آخر تفسير "سورة غافر (6) ، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) في أ : "رسلهم".
(2) زيادة من س ، أ.
(3) زيادة من س ، أ.
(4) في أ : "في جميع عباده".
(5) رواه الترمذي في السنن برقم (3537) وابن ماجه في السنن برقم (4253) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(6) في س : "المؤمن".

(7/160)


حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)

تفسير سورة فصلت (1)
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ حم (1) تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) }
يقول تعالى : { حم تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } يعني : القرآن منزل من الرحمن الرحيم ، كقوله تعالى : { قُلْ نزلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } [النحل : 102] ، وقوله : { وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } [الشعراء : 192 - 194].
وقوله : { كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } أي : بُينت معانيه وأحكمت أحكامه (2) ، { قُرْآنًا عَرَبِيًّا } أي : في حال كونه لفظا عربيا ، بينا واضحا ، فمعانيه مفصلة ، وألفاظه واضحة غير مشكلة ، كقوله : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [هود : 1] أي : هو معجز من حيث لفظه ومعناه ، { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت : 42].
وقوله : { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي : إنما يعرف هذا البيان والوضوح العلماءُ الراسخون ، { بَشِيرًا وَنَذِيرًا } أي : تارة يبشر المؤمنين ، وتارة ينذر الكافرين ، { فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ } أي : أكثر قريش ، فهم لا يفهمون منه شيئا مع بيانه ووضوحه.
{ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ } أي : في غلف مغطاة { مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ } أي : صمم عما جئتنا به ، { وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } فلا يصل إلينا شيء مما تقول ، { فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ } أي : اعمل أنت على طريقتك ، ونحن على طريقتنا لا نتابعك.
قال الإمام العَلَم عبد بن حُمَيد في مسنده : حدثني ابن أبي شيبة ، حدثنا علي بن مُسْهِر عن الأجلح ، عن الذَّيَّال بن حَرْمَلة الأسدي عن جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه ، قال : اجتمعت قريش يوما فقالوا : انظروا أعْلَمكم بالسحر والكهانة والشعر ، فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وعاب ديننا ، فليكلمه ولننظر ماذا يرد عليه ؟ فقالوا : ما نعلم أحدا غير عتبة ابن ربيعة. فقالوا : أنت يا أبا الوليد. فأتاه عتبة فقال : يا محمد ، أنت خير أم عبد الله ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك ، فقد عبدوا الآلهة التي عِبْتَ ، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع
__________
(1) في س : "تفسير حم السجدة".
(2) في أ : "آياته".

(7/161)


قولك ، إنا والله ما رأينا سَخْلةً قط أشأم على قومك (1) منك ؛ فرقت جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وعبت ديننا ، وفضحتنا في العرب ، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا ، وأن في قريش كاهنا! والله ما ننظر (2) إلا مثل صيحة الحُبْلى أن يقوم بعضنا إلى (3) بعض بالسيوف ، حتى نتفانى! أيها الرجل ، إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا (4) وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش [شئت] (5) فلنزوجك عشرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فَرَغْتَ ؟" قال : نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { بسم الله الرحمن الرحيم. حم. تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } حتى بلغ : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } فقال عتبة : حسبك! حسبك! ما عندك غير هذا ؟ قال : "لا" فرجع إلى قريش فقالوا : ما وراءك ؟ قال : ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته. قالوا : فهل أجابك ؟ [قال : نعم ، قالوا : فما قال ؟] (6) قال : لا والذي نصبها بَنيَّةً ما فَهِمْتُ شيئا مما قال ، غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. قالوا : ويلك! يكلمك الرجل بالعربية ما تدري ما قال ؟! قال : لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة.
وهكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي بكر بن أبي شيبة بإسناده ، مثله سواء (7).
وقد ساقه البغوي في تفسيره بسنده عن محمد بن فُضَيل ، عن الأجلح - وهو ابن عبد الله الكندي [الكوفي] (8) - وقد ضُعِّفَ بعض الشيء عن الذّيَّال بن حرملة ، عن جابر ، فذكر الحديث إلى قوله : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } فأمسك عتبة على فيه ، وناشده بالرحم ، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش واحتبس عنهم. فقال أبو جهل : يا معشر قريش ، والله ما نرى عتبة إلا قد صَبَا إلى محمد ، وأعجبه طعامه ، وما ذاك إلا من حاجة [قد] (9) أصابته ، فانطلقوا بنا إليه. فانطلقوا إليه فقال أبو جهل : يا عتبة ، ما حبسك عنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك طعامه ، فإن كانت لك (10) حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد. فغضب عتبة ، وأقسم ألا يكلم محمدا أبدا ، وقال : والله ، لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته وقصصت عليه [القصة] (11) فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر ، وقرأ السورة إلى قوله : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } فأمسكت بفيه ، وناشدته بالرحم أن يكف ، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب ، فخشيت أن ينزل بكم العذاب (12).
وهذا السياق أشبه من سياق البزار وأبي يعلى ، والله أعلم.
وقد أورد هذه القصة الإمام محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة على خلاف هذا النمط ، فقال :
__________
(1) في س : "جماعته".
(2) في س : "ننتظر".
(3) في أ : "على".
(4) في س ، أ : "رجلا واحدا".
(5) زيادة من س ، أ.
(6) زيادة من أ.
(7) المنتخب لعبد بن حميد برقم (1121) ومسند أبي يعلى (3/349) وفي إسناده الأجلح الكندي ضعفه النسائي وغيره.
(8) زيادة من س ، أ.
(9) زيادة من أ.
(10) في س ، أ : "بك".
(11) زيادة من س ، أ.
(12) معالم التنزيل للبغوي (7/167).

(7/162)


حدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القُرَظي قال : حُدِّثْتُ أن عتبة بن ربيعة - وكان سيدا - قال يوما وهو جالس في نادي قريش ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها ، فنعطيه أيَّها شاء ويكف عنا ؟ وذلك حين أسلم حمزة ، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون ، فقالوا : بلى يا أبا الوليد ، فقم إليه فكلمه (1).فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا ابن أخي ، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَة في العشيرة ، والمكان في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ودينهم ، وكفرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها. قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قل يا أبا الوليد ، أسمع". قال : يا ابن أخي ، إن كنت إنما تريدُ بما جئتَ به من (2) هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون من أكثرنا أموالا (3). وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا ، حتى لا نقطع أمرًا دونك. وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا. وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيّا تراه لا تستطيع رده عن نفسك ، طلبنا لك الطب ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُدَاوَى منه - أو كما قال له - حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال : "أفرغت يا أبا الوليد ؟" قال : نعم. قال : "فاستمع مني" قال : أفعل. قال : { بسم الله الرحمن الرحيم. حم. تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ } ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه. فلما سمع عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه ، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها ، فسجد ثم قال : "قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك (4) فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : أقسم - يحلف (5) بالله - لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال : ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة. يا معشر قريش ، أطيعوني واجعلوها لي ، خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ، فوالله ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فمُلْكُهُ ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به. قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه! قال : هذا رأيي فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم (6).
وهذا السياق أشبه من الذي قبله ، والله أعلم.
__________
(1) في أ : "وكلمه".
(2) في أ : "في".
(3) في س : "مالا".
(4) في أ : "وحالك".
(5) في س : "نحلف".
(6) انظر السيرة النبوية لابن هشام (1/293).

(7/163)


قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)

{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) }
يقول تعالى : { قُلْ } يا محمد لهؤلاء المكذبين المشركين : { إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } لا كما تعبدونه (1) من الأصنام والأنداد والأرباب المتفرقين ، إنما الله إله واحد ، { فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ } أي : أخلصوا له العبادة على منوال ما أمركم به على ألسنة الرسل ، { وَاسْتَغْفِرُوهُ } أي : لسالف الذنوب ، { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ } أي : دمار لهم وهلاك عليهم ،
{ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني : الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله. وكذا قال عكرمة.
وهذا كقوله تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [الشمس : 9 ، 10] ، وكقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } [الأعلى : 14 ، 15] ، وقوله { فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى } [ النازعات : 18 ] والمراد بالزكاة هاهنا : طهارة النفس من الأخلاق الرذيلة ، ومن أهم ذلك طهارة النفس من الشرك. وزكاة المال إنما سميت زكاة لأنها تطهره من الحرام ، وتكون سببا لزيادته وبركته وكثرة نفعه ، وتوفيقا إلى استعماله في الطاعات.
وقال السدي : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } أي : لا يَدِينون بالزكاة.
وقال معاوية بن قرة : ليس هم من أهل الزكاة.
وقال قتادة : يمنعون زكاة أموالهم.
وهذا هو الظاهر عند كثير من المفسرين ، واختاره ابن جرير. وفيه نظر ؛ لأن إيجاب الزكاة إنما كان في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة ، على ما ذكره غير واحد وهذه الآية مكية ، اللهم إلا أن يقال : لا يبعد أن يكون أصل الزكاة الصدقة كان مأمورا به في ابتداء البعثة ، كقوله تعالى : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [الأنعام : 141] ، فأما الزكاة ذات النصب والمقادير فإنما بَيَّن أمرها بالمدينة ، ويكون هذا جمعا بين القولين ، كما أن أصل الصلاة كان واجبا قبل طلوع الشمس وقبل غروبها في ابتداء البعثة ، فلما كان ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة ونصف ، فرض الله على رسوله [صلى الله عليه وسلم] (2) الصلوات الخمس ، وفصل شروطها وأركانها وما يتعلق بها بعد ذلك ، شيئا فشيئا ، والله أعلم.
ثم قال بعد ذلك : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } قال مجاهد وغيره : لا مقطوع ولا مجبوب (3) ، كقوله : { مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا } [الكهف : 3] ، وكقوله تعالى { عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [هود : 108].
وقال السدي : غير ممنون عليهم. وقد رد عليه بعض الأئمة هذا التفسير ، فإن المنة لله على أهل الجنة ؛ قال الله تعالى : { بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ } [الحجرات : 17] ، وقال أهل الجنة : { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ } [الطور : 27] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل".
__________
(1) في س : "يعبدونه".
(2) زيادة من س ، أ.
(3) في أ : "غير مقطوع ولا محسوب".

(7/164)


قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)

{ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) }

(7/165)


فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)

{ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) }
هذا إنكار من الله على المشركين الذين عبدوا معه غيره ، وهو الخالق لكل شيء ، القاهر لكل شيء ، المقدر لكل شيء ، فقال : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا } أي : نظراء وأمثالا تعبدونها (1) معه { ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ } أي : الخالق للأشياء هو رب العالمين كلهم.
وهذا المكان فيه تفصيل لقوله تعالى : { خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } [الأعراف : 54] ، ففصل هاهنا ما يختص بالأرض مما اختص بالسماء ، فذكر أنه خلق الأرض أولا لأنها كالأساس ، والأصل أن يُبْدَأَ بالأساس ، ثم بعده بالسقف ، كما قال : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ } الآية [البقرة : 29] ، .
فأما قوله : { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ } [ النازعات : 27 - 33 ] ففي هذه الآية أن دَحْى الأرض كان بعد خلق السماء (2) ، فالدَّحْيُ هو مفسر بقوله : { أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا } ، وكان هذا بعد خلق السماء ، فأما خلق الأرض فقبل خلق السماء بالنص ، وبهذا أجاب ابن عباس فيما ذكره البخاري عند تفسير هذه الآية من صحيحه ، فإنه قال :
وقال المنهال ، عن سعيد بن جبير قال : قال رجل لابن عباس : إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ قال : { فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } [المؤمنون : 101] ، { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ } [الصافات : 27] ، { وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } [النساء : 42] ، { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [الأنعام : 23] ، فقد كتموا في هذه الآية ؟ وقال : { أَمِ السَّمَاءُ (3) بَنَاهَا } إلى قوله : { دَحَاهَا } [النازعات : 27 - 30] ، فذكر خلق السماء قبل [خلق] (4) الأرض ثم قال : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } إلى قوله : { طَائِعِينَ } فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء ؟ وقال : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [النساء : 96] ، { عَزِيزًا حَكِيمًا } [النساء : 56] ، { سَمِيعًا بَصِيرًا } [النساء : 58] ، فكأنه كان ثم مضى.
قال - يعني ابن عباس - : { فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } في النفخة الأولى ، ثم ينفخ في الصور ، { فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } [الزمر : 68] ، فلا أنساب بينهم عند
__________
(1) في س : "يعبدونها".
(2) في أ : "السموات".
(3) في س : "والسماء".
(4) زيادة من س.

(7/165)


ذلك ولا يتساءلون ، ثم في النفخة الأخرى { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ }
وأما قوله : { مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } { وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } ، فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فقال المشركون : تعالوا نقول : "لم نكن مشركين" ، فيختم على أفواههم ، فتنطق أيديهم ، فعند ذلك يعرف (1) أن الله لا يكتم حديثا ، وعنده { يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } الآية [الحجر : 2].
وخلق الأرض في يومين ، ثم خلق السماء ، ثم استوى إلى السماء ، فسواهن في يومين آخرين ، ثم دَحَى الأرض ، ودَحْيُها : أن أخرج منها الماء والمرعى ، وخلق الجبال والجماد والآكام وما بينهما في يومين آخرين ، فذلك قوله : { دَحَاهَا } وقوله { خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } فَخُلِقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام ، وخلقت السماوات في يومين.
{ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [النساء : 96] ، سمى نفسه بذلك ، وذلك قوله ، أي : لم يزل كذلك ؛ فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد ، فلا يختلفن عليك القرآن ، فإن كلا من عند الله عز وجل.
قال البخاري : حدثنيه يوسف بن عدي ، حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن زيد بن أبي أُنَيْسَة (2) ، عن المنهال - هو ابن عمرو - بالحديث (3).
فقوله : { خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } يعني : يوم الأحد ويوم الاثنين.
{ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا } أي : جعلها مباركة قابلة للخير والبذر والغراس ، { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا } ، وهو : ما يحتاج (4) أهلها إليه من الأرزاق والأماكن التي تزرع وتغرس ، يعني : يوم الثلاثاء والأربعاء ، فهما مع اليومين السابقين أربعة ؛ ولهذا قال تعالى : { فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ } أي : لمن أراد السؤال عن ذلك ليعلمه.
وقال مجاهد وعكرمة في قوله : { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا } جعل في كل أرض ما لا يصلح في غيرها ، ومنه : العصب باليمن ، والسابري بسابور والطيالسة بالرّي.
وقال ابن عباس ، وقتادة ، والسدي في قوله تعالى : { سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ } أي : لمن أراد السؤال عن ذلك.
وقال ابن زيد : معناه { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ } أي : على وفق مراد من له حاجة إلى رزق أو حاجة ، فإن الله قدر له ما هو محتاج إليه.
وهذا القول يشبه ما ذكروه في قوله تعالى : { وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } [إبراهيم : 34] ، والله أعلم.
وقوله : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } ، وهو : بخار الماء المتصاعد منه حين خلقت الأرض ،
__________
(1) في أ : "عرفوا".
(2) في أ : "شيبة".
(3) صحيح البخاري (8/556) "فتح".
(4) في س : "ما تحتاج".

(7/166)


{ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا } أي : استجيبا لأمري ، وانفعلا لفعلي طائعتين أو مكرهتين.
قال الثوري ، عن ابن جريج ، عن سليمان بن موسى ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله [تعالى] (1) { فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا } قال : قال الله تعالى للسموات : أطلعي شمسي وقمري ونجومي. وقال للأرض : شققي أنهارك ، وأخرجي ثمارك. فقالتا : { أَتَيْنَا طَائِعِينَ }
واختاره ابن جرير - رحمه الله.
{ قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } أي : بل نستجيب لك مطيعين بما فينا ، مما تريد خلقه من الملائكة والإنس والجن جميعا مطيعين (2) لك. حكاه ابن جرير عن بعض أهل العربية قال : وقيل : تنزيلا لهن معاملة من يعقل بكلامهما.
وقيل (3) إن المتكلم من الأرض بذلك هو مكان الكعبة ، ومن السماء ما يسامته منها ، والله أعلم.
وقال الحسن البصري : لو أبيا عليه أمره لعذبهما عذابا يجدان ألمه. رواه ابن أبي حاتم.
{ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } أي : ففرغ من تسويتهن سبع سموات في يومين ، أي : آخرين ، وهما يوم الخميس ويوم الجمعة.
{ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا } أي : ورتب مقررا في كل سماء ما تحتاج إليه من الملائكة ، وما فيها من الأشياء التي لا يعلمها إلا هو ، { وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } وهن الكواكب المنيرة المشرقة على أهل الأرض ، { وَحِفْظًا } أي : حرسا من الشياطين أن تستمع إلى الملأ الأعلى.
{ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } أي : العزيز الذي قد عز كل شيء فغلبه وقهره ، العليم بجميع حركات المخلوقات وسكناتهم.
قال ابن جرير : حدثنا هَنَّاد بن السري ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي سعيد (4) البقال ، عن عكرمة ، عن ابن عباس - قال هناد : قرأت سائر الحديث - أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السماوات والأرض ، فقال : "خلق الله الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين ، وخلق الجبال يوم الثلاثاء وما فيهن من منافع ، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب ، فهذه أربعة : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ } لمن سأل ، قال : "وخلق يوم الخميس السماء ، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقيت منه ، فخلق في أول ساعة من هذه الثلاثة الآجال ، حين يموت من مات ، وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء مما ينتفع به الناس ، وفي الثالثة آدم ، وأسكنه الجنة ، وأمر إبليس بالسجود له ، وأخرجه منها في آخر ساعة". ثم قالت اليهود : ثم ماذا يا محمد ؟ قال : "ثم استوى على العرش". قالوا : قد أصبت لو أتممت! قالوا :
__________
(1) زيادة من س.
(2) في س : "مطيعون".
(3) في س ، أ : "ويقال".
(4) في س : "سعد".

(7/167)


فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)

ثم استراح. فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا ، فنزل : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ.فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } [ق : 38 ] (1).
هذا الحديث فيه غرابة. فأما حديث ابن جريج ، عن إسماعيل بن أمية ، عن أيوب بن خالد ، عن عبد الله بن رافع ، عن أبي هريرة قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال : "خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق فيها الجبال يوم الأحد ، وخلق الشجر يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة ، فيما بين العصر إلى الليل" فقد رواه مسلم ، والنسائي في كتابيهما ، عن حديث ابن جريج ، به (2). وهو من غرائب الصحيح ، وقد عَلَّله البخاري في التاريخ فقال : رواه بعضهم عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (3) عن كعب الأحبار ، وهو الأصح.
{ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأنزلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) }
يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بما جئتهم به من الحق : إن أعرضتم عما جئتكم به من عند الله فإني أنذركم حلول نقمة الله بكم ، كما حلت بالأمم الماضين من المكذبين بالمرسلين { صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } أي : ومن شاكلهما (4) ممن فعل كفعلهما.
{ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } [الأحقاف : 21] ، كقوله تعالى : { وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } [الأحقاف : 21] أي : في القرى المجاورة لبلادهم ، بعث الله إليهم الرسل
__________
(1) تفسير الطبري (24/31) ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم 878 والحاكم في المستدرك (2/543) من طريق هناد به ، وقال الحاكم صحيح الإسناد وتعقبه الذهبي فقال : أبو سعيد البقال قال ابن معين : لا يكتب حديثه."
(2) صحيح مسلم برقم (2789) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11010).
(3) زيادة من ت.
(4) في أ : "شاكلهم".

(7/168)


يأمرون بعبادة الله وحده لا شريك له ، ومبشرين ومنذرين ورأوا ما أحل الله بأعدائه من النقم ، وما ألبس (1) أولياءه من النعم ، ومع هذا ما آمنوا ولا صدقوا ، بل كذبوا وجحدوا ، وقالوا : { لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأنزلَ مَلائِكَةً } أي : لو أرسل الله رسلا (2) لكانوا ملائكة من عنده ، { فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ } أي : أيها البشر { كَافِرُونَ } أي : لا نتبعكم وأنتم بشر مثلنا.
قال الله تعالى : { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبرَوُا فِي الأرْضِ [بِغَيْرِ الحَقٍّ] } (3) أي : بغوا وعتوا وعصوا ، { وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } أي : منوا بشدة تركيبهم وقواهم ، واعتقدوا أنهم يمتنعون به من بأس الله! { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } أي : أفما يتفكرون (4) فيمن يبارزون بالعداوة ؟ فإنه العظيم الذي خلق الأشياء وركب فيها قواها الحاملة لها ، وإن بطشه شديد ، كما قال تعالى : { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } [الذاريات : 47] ، فبارزوا الجبار بالعداوة ، وجحدوا بآياته وعصوا رسوله ، فلهذا قال : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا } قال بعضهم : وهي الشديدة الهبوب. وقيل : الباردة. وقيل : هي التي لها صوت.
والحق أنها متصفة بجميع ذلك ، فإنها كانت ريحا شديدة قوية ؛ لتكون عقوبتهم من جنس ما اغتروا به من قواهم ، وكانت باردة شديدة البرد جدا ، كقوله تعالى : { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } [الحاقة : 6 ] ، أي : باردة شديدة ، وكانت ذات صوت مزعج ، ومنه سمي النهر المشهور ببلاد المشرق "صرصرا (5) لقوة صوت جريه.
وقوله : { فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ } أي : متتابعات ، { سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا } [ الحاقة : 7 ] ، كقوله { فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ } [القمر : 19] ، أي : ابتدئوا بهذا العذاب في يوم نحس عليهم ، واستمر بهم هذا النحس سبع ليال وثمانية أيام حتى أبادهم عن آخرهم ، واتصل بهم خزي الدنيا بعذاب الآخرة ؛ ولهذا قال تعالى : { لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى } [أي] (6) أشد خزيا لهم ، { وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ } أي : في الأخرى (7) ، كما لم ينصروا في الدنيا ، وما كان لهم من الله من واق يقيهم العذاب ويدرأ عنهم النكال.
وقوله : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } قال ابن عباس ، وأبو العالية ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والسدي ، وابن زيد : بينا لهم (8).
وقال الثوري : دعوناهم.
{ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } أي : بصرناهم ، وبينا لهم ، ووضحنا لهم الحق على لسان نبيهم صالح صلى الله عليه وسلم (9) ، فخالفوه وكذبوه ، وعقروا ناقة الله التي جعلها آية وعلامة على صدق نبيهم ، { فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ } أي : بعث الله عليهم صيحة ورجفة وذلا وهوانا وعذابا ونكالا { بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : من التكذيب والجحود.
__________
(1) في س : "ألبس الله".
(2) في ت : "رسولا".
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) في ت ، س : "أفما يفكرون" ، وفي أ : "فيما يتفكرون".
(5) في ت ، س : "صرصر".
(6) زيادة من أ.
(7) في ت : "الآخرة".
(8) في ت : "وسعيد بن جبير وغيرهم".
(9) في ت ، س : "عليه السلام".

(7/169)


وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)

{ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا [وَكَانُوا يَتَّقُونَ] (1) } أي : من بين أظهرهم ، لم يمسهم سوء ، ولا نالهم من ذلك ضرر ، بل نجاهم الله مع نبيهم صالح [عليه السلام] (2) بإيمانهم ، وتقواهم لله ، عز وجل.
{ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) }
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) زيادة من ت ، أ.

(7/170)


وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)

{ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) }
يقول تعالى : { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي : اذكر لهؤلاء المشركين يوم يحشرون إلى النار (1) { يُوزَعُونَ } ، أي : تجمع الزبانية أولهم على آخرهم ، كما قال تعالى : { وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا } [مريم : 86] ، أي : عطاشا.
وقوله : { حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا } أي : وقفوا عليها ، { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (2) أي : بأعمالهم مما قدموه وأخروه ، لا يُكْتَم منه حرف.
{ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا } أي : لاموا أعضاءهم وجلودهم حين شهدوا عليهم ، فعند ذلك أجابتهم الأعضاء : { قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : فهو لا يخالف ولا يمانع ، وإليه ترجعون.
قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا علي بن قادم ، حدثنا شريك ، عن عبيد المُكْتَب ، عن الشعبي (3) ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وتبسم (4) ، فقال : "ألا تسألوني عن أي شيء ضحكت ؟" قالوا : يا رسول الله من أي شيء ضحكت ؟ قال : "عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة ، يقول : أي ربي ، أليس وعدتني ألا تظلمني ؟ قال : بلى فيقول : فإني لا أقبل عليّ شاهدا إلا من نفسي. فيقول الله تبارك وتعالى : أو ليس كفى بي شهيدا ، وبالملائكة الكرام الكاتبين ؟! قال : فيردد هذا الكلام مرارا". قال : "فيختم على فيه ، وتتكلم أركانه بما كان يعمل ، فيقول : بُعْدًا لكُنَّ وسُحقا ، عنكن كنت أجادل".
ثم رواه (5) هو وابن أبي حاتم ، من حديث أبي عامر الأسدي ، عن الثوري ، عن عُبيد المُكْتَب ، عن فُضيل بن عمرو ، عن الشعبي (6) ثم قال : "لا نعلم رواه عن أنس غير الشعبي". وقد أخرجه مسلم
__________
(1) في ت ، أ : "جهنم".
(2) في ت : "يكسبون" وهو خطأ.
(3) في ت : "وروى الحافظ أبو بكر البزار بإسناده".
(4) في أ : "أو تبسم".
(5) في ت : "ورواه".
(6) ورواه ابن أبي الدنيا في التوبة برقم (18) من طريق مهران بن أبي عمر عن سفيان الثوري بنحوه.

(7/170)


والنسائي جميعا عن أبي بكر بن أبي النضر ، عن أبي النضر ، عن عُبَيد الله بن عبد الرحمن الأشجعي ، عن الثوري به (1). ثم قال النسائي : "لا أعلم أحدا رواه عن الثوري غير الأشجعي". وليس كما قال كما رأيت ، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن إبراهيم ، حدثنا إسماعيل بن عُلَّية ، عن يونس ابن عُبَيْد ، عن حُميد بن هلال قال : قال أبو بُرْدَة : قال أبو موسى : ويدعى الكافر والمنافق للحساب ، فيعرض عليه ربه - عز وجل - عمله ، فيجحد ويقول : أي رب ، وعزتك لقد كتب على هذا الملك ما لم أعمل! فيقول له الملك : أما عملت كذا ، في يوم كذا ، في مكان كذا ؟ فيقول : لا وعزتك ، أي رب ما عملته. [قال] (2) فإذا فعل ذلك خُتِم على فيه - قال الأشعري : فإني لأحسب أول ما ينطق منه فخذه اليمنى.
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا زُهَيْر حدثنا حسن ، عن ابن لَهِيعة : قال دَرّاج عن أبي الهيثم (3) عن أبى سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا كان يوم القيامة عُرّف الكافر بعمله ، فجحد وخاصم ، فيقال : هؤلاء جيرانك ، يشهدون عليك ؟ فيقول : كذبوا. فيقول : أهلك [و] (4) عشيرتك ؟ فيقول : كذبوا. فيقول : احلفوا فيحلفون ، ثم يصمتهم الله وتشهد عليهم ألسنتهم ، ويدخلهم النار" (5).
وقال ابن أبي حاتم : وحدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن إبراهيم ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث : سمعت أبي : حدثنا علي بن زيد ، عن مسلم بن صُبيْح أبي الضُّحى ، عن ابن عباس : أنه قال لابن الأزرق : إن يوم القيامة يأتي على الناس منه حين ، لا ينطقون ولا يعتذرون ولا يتكلمون حتى يؤذن لهم ، ثم يؤذن لهم فيختصمون ، فيجحد الجاحد بشركه بالله ، فيحلفون له كما يحلفون لكم ، فيبعث الله عليهم حين يجحدون شهداء من أنفسهم ، جلودهم وأبصارهم وأيديهم وأرجلهم ، ويختم على أفواههم ، ثم يفتح لهم الأفواه فتخاصم الجوارح ، فتقول : { أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فتقر الألسنة بعد الجحود.
وقال (6) ابن أبي حاتم : حدثنا عبدة بن سليمان ، حدثنا ابن المبارك ، حدثنا صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن جبير الحضرمي ، عن رافع أبي الحسن - وصف رجلا جحد - قال : فيشير الله إلى لسانه ، فيربو في فمه (7) حتى يملأه ، فلا يستطيع أن ينطق بكلمة ، ثم يقول لآرابه (8) كلها : تكلمي واشهدي عليه. فيشهد عليه سمعه وبصره وجلده ، وفرجه ويداه ورجلاه : صنعنا ، عملنا ، فعلنا.
وقد تقدم أحاديث كثيرة ، وآثار عند قوله تعالى في سورة يس : { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [يس : 65] ، بما أغنى عن إعادته هاهنا.
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2969) ، والنسائي في السنن الكبرى برقم (11653).
(2) زيادة من أ.
(3) في ت : "وقال الحافظ أبو يعلى بإسناده".
(4) زيادة من أ.
(5) مسند أبي يعلى (5262) ، ودراج عن أبي الهيثم ، ضعيف.
(6) في ت : "وروى".
(7) في ت ، س ، أ : "فيه".
(8) في أ : "لأركانه".

(7/171)


وقال ابن أبي حاتم - رحمه الله - : حدثنا أبي ، حدثنا سويد بن سعيد ، حدثنا يحيى بن سُلَيم الطائفي ، عن ابن خُثَيْم ، عن أبي الزبير (1) ، عن جابر بن عبد الله قال : لما رجعت إلى النبي (2) صلى الله عليه وسلم مهاجرة البحر قال : "ألا تحدثون بأعاجيب (3) ما رأيتم بأرض الحبشة ؟" فقال فتية منهم : بلى يا رسول الله ، بينا (4) نحن جلوس إذ مرت علينا عجوز من عجائز رهابينهم ، تحمل على رأسها قلة من ماء ، فمرت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها ، ثم دفعها فخرت على ركبتيها ، فانكسرت قلتها. فلما ارتفعت التفتت إليه فقالت : سوف تعلم يا غُدَر ، إذا وضع الله الكرسي ، وجمع الأولين والآخرين ، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون ، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدا ؟ قال : يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "صَدَقَتْ [و] (5) صدقت ، كيف يُقدس الله قوما لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم ؟".
هذا حديث غريب من هذا الوجه. ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الأهوال : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال : أخبرنا يحيى بن سليم ، به (6)
وقوله : { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ } أي : تقول لهم الأعضاء والجلود حين يلومونها على الشهادة عليهم : ما كنتم تتكتمون (7) منا الذي كنتم تفعلونه بل كنتم تجاهرون الله بالكفر والمعاصي ، ولا تبالون منه في زعمكم ؛ لأنكم كنتم لا تعتقدون أنه يعلم جميع أفعالكم ؛ ولهذا قال : { وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ } أي : هذا الظن الفاسد - وهو اعتقادكم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون - هو الذي أتلفكم وأرداكم عند ربكم ، { فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } أي : في مواقف القيامة خسرتم أنفسكم وأهليكم.
قال الإمام أحمد - رحمه الله - : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن عمارة ، عن عبد الرحمن ابن يزيد (8) ، عن عبد الله قال : كنت مستترًا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر : قرشي ، وختناه ثقفيان - أو ثقفي وختناه قرشيان - كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم ، فتكلموا بكلام لم أسمعه ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع كلامنا هذا ؟ فقال الآخر : إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه (9) ، وإذا لم نرفعه لم يسمعه ، فقال الآخر : إن سمع منه شيئا سمعه كله. قال : فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ } إلى قوله : { مِنَ الْخَاسِرِينَ }
وكذا رواه الترمذي عن هناد ، عن أبي معاوية ، بإسناده نحوه (10). وأخرجه أحمد ومسلم والترمذي أيضا ، من حديث سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن عُمارة بن عمير ، عن وهب بن
__________
(1) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
(2) في أ : "رسول الله".
(3) في ت : "بأعجب".
(4) في ت ، س ، أ : "بينما".
(5) زيادة من أ.
(6) الأهوال لابن أبي الدنيا برقم (243) ورواه ابن ماجه في السنن برقم (4010) حدثنا سويد بن سعيد فذكره. قال البوصيري في زوائد ابن ماجه : "هذا إسناد حسن ، سويد مختلف فيه".
(7) في أ : "تكتمون".
(8) في ت : "رواه الإمام أحمد بإسناده".
(9) في ت : "يسمعه".
(10) المسند (1/381) وسنن الترمذي برقم (3249).

(7/172)


ربيعة ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، بنحوه (1). ورواه البخاري ومسلم أيضا ، من حديث السفيانين ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أبي معمر عبد الله بن سَخْبرة ، عن ابن مسعود به (2).
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ } قال : "إنكم تُدعَون مُفَدَّمًا على أفواهكم بالفدام ، فأول شيء يبين (3) عن أحدكم فخذه وكفه (4) (5) ".
قال معمر : وتلا الحسن : { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ } ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قال الله أنا مع عبدي عند ظنه بي ، وأنا معه إذا دعاني" ثم أفترَّ الحسن ينظر في هذا فقال : ألا إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم ، فأما المؤمن فأحسن الظن بربه فأحسن العمل ، وأما الكافر والمنافق فأساءا الظن بالله فأساءا العمل. ثم قال : قال الله تعالى : { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ } إلى قوله : { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
وقال الإمام أحمد : حدثنا النضر بن إسماعيل القاص (6) - وهو أبو المغيرة - حدثنا ابن أبي ليلى ، عن أبي الزبير ، عن جابر (7) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن بالله الظن ، فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله ، فقال الله تعالى : { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (8).
وقوله : { فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ } أي : سواء عليهم أصبروا أم لم يصبروا هم في النار ، لا محيد لهم عنها ، ولا خروج لهم منها. وإن طلبوا أن يستعتبوا ويبدوا أعذارا (9) فما لهم أعذار ، ولا تُقَال لهم عثرات.
قال ابن جرير : ومعنى قوله : { وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا } أي : يسألوا الرجعة إلى الدنيا ، فلا جواب لهم - قال : وهذا كقوله تعالى إخبارا عنهم : { قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون : 106 - 108].
__________
(1) المسند (1/408) وصحيح مسلم برقم (2775) وسنن الترمذي برقم (3249).
(2) صحيح البخاري برقم (4817) ، وصحيح مسلم برقم (2775).
(3) في أ : "ينطق".
(4) في أ : "وكتفه".
(5) تفسير عبد الرزاق (2/151) ، والمصنف (20115) ، ورواه النسائي في السنن (5/4) وابن ماجه في السنن برقم (2536) من طريق عن بهز بن حكيم بنحوه.
(6) في أ : "القاضي".
(7) في ت : "وروى الإمام أحمد عن جابر".
(8) المسند (3/390).
(9) في ت ، أ : "أعذارهم".

(7/173)


وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)

{ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ (29) }
يذكر تعالى أنه هو الذي أضل المشركين ، وأن ذلك بمشيئته وكونه وقدرته ، وهو الحكيم في أفعاله ، بما قَيَّض لهم من القرناء من شياطين الإنس والجن : { فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أي : حَسَّنوا لهم أعمالهم في الماضي ، وبالنسبة إلى المستقبل فلم يروا أنفسهم إلا محسنين ، كما قال تعالى : { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } [الزخرف : 36 ، 37].
وقوله تعالى : { وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ } أي : كلمة العذاب كما حق على أمم قد خلت من قبلهم ، ممن فعل كفعلهم ، من الجن والإنس ، { إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } أي : استوَوَا هم وإياهم في الخسار والدمار.
وقوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ } أي : تواصوا فيما بينهم ألا يطيعوا للقرآن ، ولا ينقادوا لأوامره (1) ، { وَالْغَوْا فِيهِ } أي : إذا تلي لا تسمعوا له. كما قال مجاهد : { وَالْغَوْا فِيهِ } يعني : بالمكاء (2) والصفير والتخليط في المنطق على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن قريش تفعله.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { وَالْغَوْا فِيهِ } عيبوه (3).
وقال قتادة : اجحدوا به ، وأنكروه وعادوه.
{ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } هذا حال هؤلاء الجهلة من الكفار ، ومن سلك مسلكهم عند سماع القرآن. وقد أمر الله - سبحانه - عباده المؤمنين بخلاف ذلك فقال : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [الأعراف : 204].
ثم قال تعالى : منتصرا للقرآن ، ومنتقما ممن عاداه من أهل الكفران : { فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا } أي : في مقابلة ما اعتمدوه في القرآن وعند سماعه ، { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : بشَرِّ أعمالهم وسيِّئ أفعالهم { ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ }
قال سفيان الثوري ، عن سلمة بن كُهَيْل ، عن مالك بن الحصين الفزاري ، عن أبيه (4) ، عن علي ،
__________
(1) في ت : "لأمره".
(2) في ت ، أ : "بالمكاء والتصدية".
(3) في ت ، س : "قعوا فيه ، عيبوه".
(4) في ت : "عن أبيه روى".

(7/174)


رضي الله عنه ، في قوله : { الَّذَيْنِ أَضَلانَا } قال : إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه.
وهكذا روى حبة العُرَنِي عن علي ، مثل ذلك.
وقال السدي ، عن علي : فإبليس يدعو به كل صاحب شرك ، وابن آدم يدعو به كل صاحب كبيرة ، فإبليس - لعنه الله - هو الداعي إلى كل شر من شرك فما دونه ، وابن آدم الأول. كما ثبت في الحديث : "ما قتلت نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ؛ لأنه أول من سن القتل" (1).
وقوله (2) { نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا } أي : أسفل منا في العذاب ليكونا أشد عذابا منا ؛ ولهذا قالوا : { لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ } أي : في الدرك الأسفل من النار ، كما تقدم في "الأعراف" من سؤال الأتباع من الله أن يعذب قادتهم أضعاف عذابهم ، قال : { لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ } [الأعراف : 38] أي : إنه تعالى قد أعطى كلا منهم ما يستحقه من العذاب والنكال ، بحسب عمله وإفساده ، كما قال تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ } [النحل : 88].
__________
(1) الحديث أخرجه الجماعة سوى أبي داود ، وانظر تخريجه عند الآية : 29 من سورة المائدة.
(2) في س : "وقولهم".

(7/175)


إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)

{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) }
يقول تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } أي : أخلصوا العمل لله ، وعملوا بطاعة الله تعالى على ما شرع الله لهم.
قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا الجراح ، حدثنا سلم (1) بن قتيبة أبو قتيبة الشَّعِيري ، حدثنا سهيل (2) بن أبي حزم ، حدثنا ثابت (3) عن أنس بن مالك قال : قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } قد قالها ناس ثم كفر أكثرهم (4) ، فمن قالها حتى (5) يموت فقد (6) استقام عليها.
وكذا رواه النسائي في تفسيره ، والبزار وابن جرير ، عن عمرو بن علي الفلاس ، عن سلم (7) بن قتيبة ، به (8). وكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن الفلاس ، به. ثم قال ابن جرير :
حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عامر بن سعد (9)
__________
(1) في أ : "مسلم".
(2) في أ : "سهل".
(3) في ت : "قال الحافظ أبو يعلى الموصلي بسنده".
(4) في أ : "ثم كفروا".
(5) في ت : "حين".
(6) في ت ، س : "فهو ممن".
(7) في أ : "مسلم".
(8) مسند أبي يعلى 06/213) ، والنسائي في السنن الكبرى برقم (11470) وتفسير الطبري (24/73).
(9) في أ : "سعيد".

(7/175)


، عن سعيد (1) بن نمران (2) قال : قرأت (3) عند أبي بكر الصديق هذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } قال : هم الذين لم يشركوا بالله شيئا.
ثم روي من حديث الأسود بن هلال قال : قال أبو بكر ، رضي الله عنه : ما تقولون في هذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } ؟ قال : فقالوا : { رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } من ذنب. فقال : لقد حملتموها على غير المحمل ، { قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } فلم يلتفتوا إلى إله غيره.
وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، والسدي ، وغير واحد (4).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله الظهراني (5) ، أخبرنا حفص بن عمر العدني ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة قال : سئل ابن عباس (6) ، رضي الله عنهما : أي آية في كتاب الله أرخص ؟ قال قوله : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } على شهادة أن لا إله إلا الله.
وقال الزهري : تلا عمر هذه الآية على المنبر ، ثم قال : استقاموا - والله - لله بطاعته ، ولم يروغوا روغان الثعالب.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } على أداء فرائضه. وكذا قال قتادة ، قال : وكان الحسن يقول : اللهم أنت ربنا ، فارزقنا الاستقامة.
وقال أبو العالية : { ثُمَّ اسْتَقَامُوا } أخلصوا له العمل والدين.
وقال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيْم ، حدثنا يعلى بن عطاء ، عن عبد الله بن سفيان الثقفي ، عن أبيه (7) ؛ أن رجلا قال : يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال : "قل آمنت بالله ، ثم استقم" قلت : فما أتقي ؟ فأومأ إلى لسانه.
ورواه النسائي من حديث شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، به (8).
ثم قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا إبراهيم بن سعد ، حدثني ابن شهاب ، عن محمد بن عبد الرحمن بن ماعز الغامدي ، عن سفيان (9) بن عبد الله الثقفي قال : قلت : يا رسول الله ، حدثني بأمر أعتصم به. قال : "قل ربي الله ، ثم استقم" قلت : يا رسول الله ما أكثر ما تخاف علي ؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرف لسان نفسه ، ثم قال : "هذا".
وهكذا (10) رواه الترمذي وابن ماجه ، من حديث الزهري ، به (11). وقال الترمذي : حسن صحيح.
__________
(1) في ت : "رواه ابن جرير عن سعيد".
(2) في أ : "مهران".
(3) في ت : "قرنت".
(4) في ت : "مجاهد وغيره".
(5) في أ : "الطبراني".
(6) في ت : "وروى ابن أبي الدنيا بسنده عن ابن عباس أنه سئل".
(7) في ت : "وروى الإمام أحمد بسنده".
(8) المسند (4/384) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11489).
(9) في ت : "وروى أحمد عن سفيان".
(10) في أ : "هكذا وكذا".
(11) المسند (3/413) ، وسنن الترمذي برقم (2410) وسنن ابن ماجه برقم (3972).

(7/176)


وقد أخرجه مسلم في صحيحه والنسائي ، من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال : قلت : يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال : "قل آمنت بالله ، ثم استقم" وذكر تمام الحديث (1).
وقوله : { تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ } قال مجاهد ، والسدي ، وزيد بن أسلم ، وابنه : يعني عند الموت قائلين : { أَلا تَخَافُوا } قال مجاهد ، وعكرمة ، وزيد بن أسلم : أي مما تقدمون عليه من أمر الآخرة ، { وَلا تَحْزَنُوا } [أي] (2) على ما خلفتموه من أمر الدنيا ، من ولد وأهل ، ومال أو دين ، فإنا نخلفكم فيه ، { وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } فيبشرونهم بذهاب الشر وحصول الخير.
وهذا كما في حديث البراء (3) ، رضي الله عنه : "إن الملائكة تقول لروح المؤمن : اخرجي أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه ، اخرجي إلى روح وريحان ، ورب غير غضبان".
وقيل : إن الملائكة تتنزل عليهم يوم خروجهم من قبورهم. حكاه ابن جرير عن ابن عباس ، والسدي.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا عبد السلام بن مطهر ، حدثنا جعفر بن سليمان : سمعت ثابتا قرأ سورة "حم السجدة" (4) حتى بلغ : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ } فوقف فقال : بلغنا أن العبد المؤمن حين يبعثه الله من قبره ، يتلقاه الملكان اللذان كانا معه في الدنيا ، فيقولان له : لا تخف ولا تحزن ، { وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } (5) قال : فيؤمن الله خوفه ، ويقر عينه فما عظيمة يخشى الناس يوم القيامة إلا هي للمؤمن قرة عين ، لما هداه الله ، ولما كان يعمل له في الدنيا.
وقال زيد بن أسلم : يبشرونه عند موته ، وفي قبره ، وحين يبعث. رواه ابن أبي حاتم.
وهذا القول يجمع الأقوال كلها ، وهو حسن جدا ، وهو الواقع.
وقوله : { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } أي : تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار : نحن كنا أولياءكم ، أي : قرناءكم في الحياة الدنيا ، نسددكم ونوفقكم ، ونحفظكم بأمر الله ، وكذلك نكون معكم في الآخرة نؤنس منكم الوحشة في القبور ، وعند النفخة في الصور ، ونؤمنكم يوم البعث والنشور ، ونجاوز بكم الصراط المستقيم ، ونوصلكم إلى جنات النعيم. { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ } أي : في الجنة من جميع ما تختارون (6) مما تشتهيه النفوس ، وتقر به العيون ، { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } أي : مهما طلبتم وجدتم ، وحضر بين أيديكم ، [أي] (7) كما اخترتم ،
{ نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ } أي : ضيافة وعطاء وإنعاما من غفور لذنوبكم ، رحيم بكم رءوف ، حيث غفر ، وستر ، ورحم ، ولطف.
__________
(1) صحيح مسلم برقم (38).
(2) زيادة من ت ، س ، أ.
(3) حديث البراء سبق تخريجه عند تفسير الآية : 40 من سورة الأعراف إلا أن هذا اللفظ هو لفظ حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو مخرج في نفس الموضع.
(4) في ت : وروى ابن أبي حاتم عن ثابت أنه قرأ السجدة".
(5) في ت ، س ، أ : "وأبشر" وهو خطأ.
(6) في ت : "تختارونه".
(7) زيادة من ت.

(7/177)


وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديث "سوق الجنة" عند قوله تعالى : { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ } ، فقال :
حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا عبد الحميد بن حبيب (1) بن أبي العشرين أبي سعيد ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني حسان بن عطية ، عن سعيد بن المسيب : أنه لقي أبا هريرة [رضي الله عنه] (2) فقال أبو هريرة : نسأل (3) الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة. فقال سعيد : أو فيها سوق ؟ قال : نعم ، أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة إذا دخلوا فيها ، نزلوا بفضل أعمالهم ، فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة في أيام الدنيا فيزورون الله ، عز وجل ، ويبرز لهم عرشه ، ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة ، وتوضع لهم منابر من نور ، ومنابر من لؤلؤ ، ومنابر من ياقوت ، ومنابر من زبرجد ، ومنابر من ذهب ، ومنابر من فضة ، ويجلس [فيه] (4) أدناهم وما فيهم دنيء على كثبان المسك والكافور ، ما يرون بأن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا.
قال أبو هريرة : قلت : يا رسول الله ، وهل نرى ربنا [يوم القيامة] (5) ؟ قال : "نعم هل تتمارون (6) في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر ؟" قلنا : لا. قال صلى الله عليه وسلم : "فكذلك لا تتمارون في رؤية ربكم تعالى ، ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره الله محاضرة ، حتى إنه ليقول للرجل منهم : يا فلان بن فلان ، أتذكر يوم عملت كذا وكذا ؟ - يذكِّره ببعض غدراته في الدنيا - فيقول : أي رب ، أفلم تغفر لي ؟ فيقول : بلى فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه. قال : فبينما هم على ذلك غشيتهم سحابة من فوقهم ، فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثل ريحه شيئا قط". قال : ثم يقول ربنا - عز وجل - : قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة ، وخذوا ما اشتهيتم". قال : "فنأتي سوقا قد حَفَّت به الملائكة ، فيها ما لم تنظر العيون إلى مثله ، ولم تسمع الآذان ، ولم يخطر على القلوب. قال : فيحمل لنا ما اشتهينا ، ليس يباع فيه شيء ولا يشترى ، وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضا". قال : "فيقبل الرجل ذو المنزلة الرفيعة ، فيلقى من هو دونه - وما فيهم دنيء فيروعه ما يرى عليه من اللباس ، فما ينقضي آخر حديثه حتى يتمثل عليه أحسن منه ؛ وذلك لأنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها.
ثم ننصرف إلى منازلنا ، فيتلقانا أزواجنا فيقلن : مرحبا وأهلا بِحِبَّنا ، لقد جئت وإن بك من الجمال والطيب أفضل مما فارقتنا عليه. فيقول : إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار - عز وجل - وبحقنا أن ننقلب بمثل (7) ما انقلبنا به".
وقد رواه الترمذي في "صفة الجنة" من جامعه ، عن محمد بن إسماعيل ، عن هشام بن عمار ، ورواه ابن ماجه عن هشام بن عمار ، به نحوه (8). ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
__________
(1) في أ : "الوليد".
(2) زيادة من ت.
(3) في أ : "أسأل".
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من أ.
(6) في ت ، س ، أ : "تمارون".
(7) في أ : "على".
(8) سنن الترمذي برقم (2549) وسنن ابن ماجه برقم (4336).

(7/178)


وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)

وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن أبي عَدِي ، عن حميد ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه". قلنا (1) يا رسول الله كلنا نكره الموت ؟ قال : "ليس ذلك كراهية الموت ، ولكن المؤمن إذا حُضِر جاءه البشير من الله بما هو صائر إليه ، فليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقي الله فأحب الله لقاءه" قال : "وإن الفاجر - أو الكافر - إذا حُضِر (2) جاءه بما هو صائر إليه من الشر - أو : ما يلقى من الشر - فكره لقاء الله فكره الله لقاءه".
وهذا حديث صحيح (3) ، وقد ورد في الصحيح من غير هذا الوجه (4).
{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) }
يقول تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ } أي : دعا عباد الله إليه ، { وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } أي : وهو في نفسه مهتد بما يقوله ، فنفعه لنفسه ولغيره لازم ومُتَعَدٍ ، وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه ، وينهون عن المنكر ويأتونه ، بل يأتمر بالخير ويترك الشر ، ويدعو الخلق إلى الخالق تبارك وتعالى. وهذه عامة في كل من دعا إلى خير ، وهو في نفسه مهتد ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أولى الناس بذلك ، كما قال محمد بن سيرين ، والسدي ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقيل : المراد بها المؤذنون الصلحاء ، كما ثبت في صحيح مسلم : "المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة" (5) وفي السنن مرفوعا : "الإمام ضامن ، والمؤذن مؤتمن ، فأرشد الله الأئمة ، وغفر للمؤذنين" (6).
وقال (7) ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن عَرُوبَة الهروي ، حدثنا غسان قاضي هراة وقال أبو زرعة : حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن مطر ، عن الحسن ، عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : "سهام المؤذنين عند الله يوم القيامة كسهام المجاهدين ، وهو بين الأذان والإقامة كالمتشحط في سبيل الله في دمه".
قال : وقال ابن مسعود : "لو كنت مؤذنا ما باليت ألا أحج ولا أعتمر ولا أجاهد".
__________
(1) في أ : "قال".
(2) في أ : "احتضر".
(3) المسند (3/107).
(4) رواه البخاري في صحيحه برقم (6507) ومسلم في صحيحه برقم (2683) من طريق قتادة عن أنس عن عبادة بن الصامت بنحو الحديث المتقدم.
(5) صحيح مسلم برقم (387) من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
(6) رواه أحمد في مسنده (2/232) وأبو داود في السنن برقم (8/5) والترمذي في السنن برقم (207).
(7) في ت : "وروى".

(7/179)


قال : وقال عمر بن الخطاب : لو كنت مؤذنا لكمل أمري ، وما باليت ألا أنتصب لقيام الليل ولا لصيام النهار ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "اللهم اغفر للمؤذنين" ثلاثا ، قال : فقلت : يا رسول الله ، تركتنا ، ونحن نجتلد على الأذان بالسيوف. قال : "كلا يا عمر ، إنه يأتي (1) على الناس زمان يتركون الأذان على ضعفائهم ، وتلك لحوم حرمها الله على النار ، لحوم المؤذنين" (2).
قال : وقالت عائشة : ولهم هذه الآية : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } قالت : فهو المؤذن إذا قال : "حي على الصلاة" فقد دعا إلى الله.
وهكذا قال ابن عمر ، وعكرمة : إنها نزلت في المؤذنين.
وقد ذكر البغوي عن أبي أمامة الباهلي ، رضي الله عنه ، أنه قال في قوله : { وَعَمِلَ صَالِحًا } قال : يعني صلاة ركعتين بين الأذان والإقامة.
ثم أورد البغوي حديث "عبد الله بن المغفل" قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بين كل أذانين صلاة". ثم قال في الثالثة : "لمن شاء" (3) وقد أخرجه الجماعة في كتبهم ، من حديث عبد الله بن بريدة ، عنه (4) وحديث الثوري ، عن زيد العمي ، عن أبي إياس معاوية بن قرة ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال الثوري : لا أراه إلا وقد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم : "الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة".
ورواه أبو داود والترمذي ، والنسائي في "اليوم والليلة" كلهم من حديث الثوري ، به (5). وقال الترمذي : هذا حديث حسن.
ورواه النسائي أيضا من حديث سليمان التيمي ، عن قتادة ، عن أنس ، به (6).
والصحيح أن الآية عامة في المؤذنين وفي غيرهم ، فأما حال نزول هذه الآية فإنه لم يكن الأذان مشروعا بالكلية ؛ لأنها مكية ، والأذان إنما شرع بالمدينة بعد الهجرة ، حين أريه عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري في منامه ، فقصه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمره أن يلقيه على بلال فإنه أندى صوتا ، كما هو مقرر في موضعه ، فالصحيح إذًا أنها عامة ، كما قال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الحسن البصري : أنه تلا هذه الآية : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } فقال : هذا حبيب الله ، هذا ولي الله ، هذا صفوة الله ، هذا خِيَرَة الله ، هذا أحب أهل الأرض إلى الله ، أجاب الله في دعوته ، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته ، وعمل صالحا في إجابته ، وقال :
__________
(1) في ت ، س : "سيأتي".
(2) ورواه الإسماعيلي في مسنده كما في مسند عمر لابن كثير (1/144) من طريق إبراهيم بن طهمان عن مطر عن الحسن البصري عن عمر به والحسن لم يسمع من عمر.
(3) معالم التنزيل للبغوي (7/174).
(4) صحيح البخاري برقم (627) وصحيح مسلم برقم (838) وسنن أبي داود برقم (2283) وسنن الترمذي برقم (185) وسنن النسائي (2/28) وسنن ابن ماجه برقم (1162).
(5) سنن أبي داود برقم (521) وسنن الترمذي برقم (212) والنسائي في السنن الكبرى برقم (9896).
(6) النسائي في السنن الكبرى برقم (9899).

(7/180)


إنني من المسلمين ، هذا خليفة الله.
وقوله : { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ } أي : فرق عظيم بين هذه وهذه ، { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي : من أساء إليك فادفعه عنك بالإحسان إليه ، كما قال عمر [رضي الله عنه] (1) ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه.
وقوله : { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } وهو الصديق ، أي : إذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إليه إلى مصافاتك ومحبتك ، والحنو عليك ، حتى يصير كأنه ولي لك حميم أي : قريب إليك من (2) الشفقة عليك والإحسان إليك.
ثم قال : { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا } أي : وما يقبل (3) هذه الوصية ويعمل بها إلا من صبر على ذلك ، فإنه يشق على النفوس ، { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } أي : ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرى.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في تفسير هذه الآية : أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإساءة ، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان ، وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم.
وقوله : { وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } أي : إن شيطان الإنس ربما ينخدع بالإحسان إليه ، فأما شيطان الجن فإنه لا حيلة فيه إذا وسوس إلا الاستعاذة بخالقه الذي سلطه عليك ، فإذا استعذت بالله ولجأت إليه ، كفه عنك ورد كيده. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا قام إلى الصلاة يقول : "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه" (4).
وقد قدمنا أن هذا المقام لا نظير له في القرآن إلا في "سورة الأعراف" عند قوله : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الأعراف : 199 ، 200] ، وفي سورة المؤمنين عند قوله : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } [المؤمنون : 96 - 98].
[لكن الذي ذكر في الأعراف أخف على النفس مما ذكر في سورة السجدة ؛ لأن الإعراض عن الجاهل وتركه أخف على النفس من الإحسان إلى المسيء فتتلذذ النفس من ذلك ولا انتقاد له إلا بمعالجة ويساعدها الشيطان في هذه الحال ، فتنفعل له وتستعصى على صاحبها ، فتحتاج إلى مجاهدة وقوة إيمان ؛ فلهذا أكد ذلك هاهنا بضمير الفصل والتعريف باللام فقال : { فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } ] (5).
__________
(1) زيادة من ت ، س.
(2) في ت ، أ : "في".
(3) في أ : "يتقبل".
(4) انظر تخريج الحديث عند تفسير الآية : 97 من سورة "المؤمنون".
(5) زيادة من ت ، س.

(7/181)


وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)

{ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) }

(7/182)


وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)

{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) }
يقول تعالى منبها خلقه على قدرته العظيمة ، وأنه الذي لا نظير له وأنه على ما يشاء قادر ، { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } أي : أنه خلق الليل بظلامه ، والنهار بضيائه ، وهما متعاقبان لا يقران ، والشمس ونورها وإشراقها ، والقمر وضياءه وتقدير منازله في فلكه ، واختلاف سيره في سمائه ، ليُعرف باختلاف سيره وسير الشمس مقادير الليل والنهار ، والجمع والشهور والأعوام ، ويتبين بذلك حلول الحقوق ، وأوقات العبادات والمعاملات.
ثم لما كان الشمس والقمر أحسن الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلي ، نبه تعالى على أنهما مخلوقان عبدان من عبيده ، تحت قهره وتسخيره ، فقال : { لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } أي : ولا تشركوا به فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره ، فإنه لا يغفر أن يشرك به ؛ ولهذا قال : { فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا } أي : عن إفراد العبادة له وأبوا إلا أن يشركوا معه غيره ، { فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ } يعني : الملائكة ، { يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ } ، كقوله { فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ } [الأنعام : 89].
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا سفيان - يعني ابن وكيع - حدثنا أبي ، عن ابن أبي ليلى ، عن أبي الزبير ، عن جابر (1) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تسبوا الليل ولا النهار ، ولا الشمس ولا القمر ، ولا الرياح فإنها ترسل رحمة لقوم ، وعذابا لقوم" (2).
وقوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ } أي : على قدرته على إعادة الموتى { أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً } أي : هامدة لا نبات فيها ، بل هي ميتة { فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } أي : أخرجت من جميل ألوان الزروع والثمار ، { إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
__________
(1) في ت : "روى الحافظ أبو يعلى عن جابر".
(2) مسند أبي يعلى (4/139) ، قال الهيثمي في المجمع (8/71) : "إسناده ضعيف".

(7/182)


إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)

{ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) }
قوله : { إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا } ، قال ابن عباس : الإلحاد : وضع الكلام على غير مواضعه.
وقال قتادة وغيره : هو الكفر والعناد.
وقوله : { لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا } أي : فيه تهديد شديد ، ووعيد أكيد ، أي : إنه تعالى عالم بمن يلحد في آياته وأسمائه وصفاته ، وسيجزيه على ذلك بالعقوبة والنكال ؛ ولهذا قال : { أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ؟ أي : أيستوي هذا وهذا ؟ لا يستويان.
ثم قال - عز وجل - تهديدًا (1) للكفرة : { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } قال مجاهد ، والضحاك ، وعطاء الخراساني : { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } : وعيد ، أي : من خير أو شر ، إنه عليم بكم وبصير بأعمالكم ؛ ولهذا قال : { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
ثم قال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ } قال الضحاك ، والسدي ، وقتادة : وهو القرآن { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ } أي : منيع الجناب ، لا يرام أن يأتي أحد بمثله ،
{ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ } أي : ليس للبطلان إليه سبيل ؛ لأنه منزل من رب العالمين ؛ ولهذا قال : { تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } أي : حكيم في أقواله وأفعاله ، حميد بمعنى محمود ، أي : في جميع ما يأمر به وينهى عنه الجميع محمودة عواقبه وغاياته.
ثم قال : { مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ } قال قتادة ، والسدي ، وغيرهما : ما يقال لك من التكذيب إلا كما قد قيل للرسل من قبلك ، فكما قد كذبت فقد كذبوا ، وكما صبروا على أذى قومهم لهم ، فاصبر أنت على أذى قومك لك. وهذا اختيار ابن جرير ، ولم يحك هو ، ولا ابن أبي حاتم غيره.
وقوله : { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ [لِلنَّاسِ] } (2) أي : لمن تاب إليه { وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } أي : لمن استمر على كفره ، وطغيانه ، وعناده ، وشقاقه ومخالفته.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن علي بن زيد (3) عن سعيد بن المسيب قال : لما نزلت هذه الآية : { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لولا غَفْر (4) الله وتجاوزه ما هَنَأ أحدا العيشُ ، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد" (5).
__________
(1) في ت ، س ، أ : "مهددا".
(2) زيادة من أ.
(3) في ت : "روى ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب".
(4) في ت ، س ، أ : "عفو".
(5) إسناده مرسل ، وعلي بن زيد متفق على ضعفه.

(7/183)


وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)

{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) }
لما ذكر تعالى القرآن وفصاحته وبلاغته ، وإحكامه في لفظه ومعناه ، ومع هذا لم يؤمن به المشركون ، نبه على أن كفرهم به كفر عناد وتعنت ، كما قال : { وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ } [الشعراء : 198 ، 199]. وكذلك لو أنزل القرآن كله بلغة العجم ، لقالوا على وجه التعنت والعناد : { لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } أي : لقالوا : هلا أنزل مفصلا بلغة العرب ، ولأنكروا ذلك وقالوا : أعجمي وعربي ؟ أي : كيف ينزل كلام أعجمي على مخاطب عربي لا يفهمه.
هكذا رُوي هذا المعنى عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والسدي ، وغيرهم.
وقيل : المراد بقولهم : { لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } أي : هلا أنزل بعضها بالأعجمي ، وبعضها بالعربي.
هذا قول الحسن البصري ، وكان يقرؤها كذلك بلا استفهام في قوله { أَعْجَمِيٌّ } وهو رواية عن سعيد بن جبير وهو في [التعنت و] (1) العناد أبلغ.
ثم قال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ } أي : قل يا محمد : هذا القرآن لمن آمن به هدى لقلبه وشفاء لما في الصدور من الشكوك (2) والريب ، { وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ } أي : لا يفهمون ما فيه ، { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } أي : لا يهتدون إلى ما فيه من البيان كما قال تعالى : { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } [الإسراء : 82].
{ أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } قال مجاهد : يعني بعيد من قلوبهم.
قال ابن جرير : معناه : كأن من يخاطبهم يناديهم (3) من مكان بعيد ، لا يفهمون ما يقول (4).
قلت : وهذا كقوله تعالى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ } [البقرة : 171].
وقال الضحاك : ينادون يوم القيامة بأشنع أسمائهم.
وقال السدي : كان عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] (5) جالسا عند رجل من المسلمين يقضي ، إذ قال : يا لبَّيكاه. فقال عمر : لِمَ تلبي ؟ هل رأيت أحدا ، أو دعاك أحد ؟ قال : دعاني داع من وراء (6) البحر. فقال عمر : أولئك ينادون من مكان بعيد. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ } أي : كذب وأوذي ، { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } [الأحقاف : 35]. { وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } [الشورى : 14] بتأخير
__________
(1) زيادة من ت ، س.
(2) في أ : "الشرك".
(3) في أ : "يدعوهم".
(4) تفسير الطبري (24/81).
(5) زيادة من ت.
(6) في ت ، س ، أ : "خلف".

(7/184)


مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)

الحساب إلى يوم المعاد ، { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي : لعجل لهم العذاب ، بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ } أي : وما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم لما قالوا ، بل كانوا شاكين فيما قالوا (1) ، غير محققين لشيء كانوا فيه. هكذا وجهه ابن جرير ، وهو محتمل ، والله أعلم.
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (46) }
__________
(1) في ت ، س : "قالوه".

(7/185)


إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آَذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)

{ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) }
يقول تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ } أي : إنما يعود نفع ذلك على نفسه ، { وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا } أي : إنما يرجع وبال ذلك عليه ، { وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ } أي : لا يعاقب أحدا إلا بذنب ، ولا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه ، وإرسال الرسول إليه.
ثم قال : { إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ } أي : لا يعلم ذلك أحد سواه ، كما قال صلى الله عليه وسلم ، وهو سيد البشر لجبريل وهو من سادات الملائكة - حين سأله عن الساعة ، فقال : "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" ، وكما (1) قال تعالى : { إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا } [النازعات : 44] ، وقال { لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ } [الأعراف : 187].
وقوله : { وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ } أي : الجميع بعلمه ، لا يعزب عن علمه (2) مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. وقد قال تعالى : { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا } [الأنعام : 59] ، وقال جلت عظمته : { يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ } [الرعد : 8] ، وقال { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [فاطر : 11].
وقوله : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي } أي : يوم القيامة ينادي الله المشركين على رءوس الخلائق : أين شركائي الذين عبدتموهم معي ؟ { قَالُوا آذَنَّاكَ } أي : أعلمناك ، { مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ } أي : ليس أحد منا اليوم يشهد أن معك شريكا ،
{ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ } أي : ذهبوا فلم ينفعوهم ، { وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ } أي : وظن المشركون يوم القيامة ، وهذا بمعنى اليقين ، { مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ } أي : لا محيد لهم عن عذاب الله ، كقوله تعالى : { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا } [الكهف : 53].
__________
(1) في ت : "ولهذا".
(2) في ت : "عمله".

(7/185)


لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)

{ لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) }
يقول تعالى : لا يَمَلّ الإنسان من دعائه ربّه بالخير - وهو : المال ، وصحة الجسم ، وغير ذلك - وإن مسه الشر - وهو البلاء أو الفقر - { فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ } أي : يقع في ذهنه أنه لا يتهيأ له بعد هذا خير.
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي } أي : إذا أصابه خير ورزق بعد ما كان في شدة ليقولن : هذا لي ، إني كنت أستحقه عند ربي ، { وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً } أي : يكفر بقيام الساعة ، أي : لأجل أنه خُوِّل نعمة يفخر ، ويبطر ، ويكفر ، كما قال تعالى : { كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } [العلق : 6 ، 7].
{ وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى } أي : ولئن كان ثَمّ معاد فليُحسنَنّ إلي ربي ، كما أحسن إلي في هذه الدار ، يتمنى على الله ، عز وجل ، مع إساءته العمل وعدم اليقين. قال تعالى : { فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } يتهدد تعالى من كان هذا عمله واعتقاده بالعقاب والنكال.
ثم قال : { وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ } أي : أعرض عن الطاعة ، واستكبر عن الانقياد لأوامر الله ، عز وجل ، كقوله تعالى : { فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ } [الذاريات : 39].
{ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ } أي : الشدة ، { فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ } أي : يطيل المسألة في الشيء الواحد فالكلام العريض : ما طال لفظه وقل معناه ، والوجيز : عكسه ، وهو : ما قل ودل. وقد قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا (1) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } [يونس : 12].
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) }
يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بالقرآن : { أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ } هَذَا الْقُرْآنُ { مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ } أي : كيف تُرَون حالكم عند الذي أنزله على رسوله ؟ ولهذا قال : { مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } ؟
__________
(1) في ت ، س : "أو قائما أو قاعدا" وهو خطأ.

(7/186)


أي : في كفر وعناد ومشاقة للحق ، ومَسْلَك بعيد من الهدى.
ثم قال : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ } أي : سنظهر لهم دلالاتنا وحُجَجنا على كون القرآن حقا منزلا من عند الله ، عز وجل ، على رسوله صلى الله عليه وسلم بدلائل خارجية { فِي الآفَاقِ } ، من الفتوحات وظهور الإسلام على الأقاليم وسائر الأديان.
قال (1) مجاهد ، والحسن ، والسدي : ودلائل في أنفسهم ، قالوا : وقعة بَدْر ، وفتح مكة ، ونحو ذلك من الوقائع التي حَلّت بهم ، نصر الله فيها محمدا وصحبه ، وخذل فيها الباطل وحِزْبَه.
ويحتمل أن يكون المراد من ذلك ما الإنسان مركب منه وفيه وعليه من المواد والأخلاط والهيئات العجيبة ، كما هو مبسوط في علم التشريح الدال على حكمة الصانع تبارك وتعالى. وكذلك ما هو مجبول عليه من الأخلاق المتباينة ، من حسن وقبيح وبين ذلك ، وما هو متصرف فيه تحت الأقدار التي لا يقدر بحوله ، وقوته ، وحِيَله ، وحذره أن يجوزها ، ولا يتعداها ، كما أنشده ابن أبي الدنيا في كتابه "التفكر والاعتبار" ، عن شيخه أبي جعفر القرشي :
وَإذَا نَظَرْتَ تُريدُ مُعْتَبَرا... فَانظُرْ إليْكَ فَفِيكَ مُعْتَبَرُ...
أنتَ الذي يُمْسِي وَيُصْبحُ في... الدنيا وكُلّ أمُوره عبَرُ...
أنتَ المصرّفُ كانَ في صِغَرٍ... ثُمّ استَقَلَّ بِشَخْصِكَ الكِبَرُ...
أنتَ الذي تَنْعَاه خلْقَتُه... يَنْعاه منه الشَّعْرُ والبَشَرُ...
أنتَ الذي تُعْطَى وَتُسْلَب لا... يُنْجيه من أنْ يُسْلَبَ الحَذَرُ...
أنْتَ الذي لا شَيءَ منْه لَهُ... وَأحَقُّ منْه بِمَاله القَدَرُ...
وقوله تعالى : { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } ؟ أي : كفى بالله (2) شهيدا على أفعال عباده وأقوالهم ، وهو يشهد أن محمدًا صادق فيما أخبر به عنه ، كما قال : { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزلَ إِلَيْكَ أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ } [النساء : 166].
وقوله : { أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ } أي : في شك من قيام الساعة ؛ ولهذا لا يتفكرون فيه ، ولا يعملون له ، ولا يحذرون منه ، بل هو عندهم هَدَرٌ لا يعبئون به وهو واقع لا ريب فيه وكائن لا محالة.
قال ابن أبي الدنيا : حدثنا أحمد بن إبراهيم ، حدثنا خلف بن تميم ، حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد الأنصاري : أن عمر بن عبد العزيز صَعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس ، فإني لم أجمعكم لأمر أحدثه فيكم ، ولكن فكرت في هذا الأمر الذي أنتم إليه صائرون ، فعلمت أن المصدق بهذا الأمر أحمق ، والمكذب به هالك ثم نزل.
__________
(1) في ت ، أ : "قاله".
(2) في ت : "به".

(7/187)


ومعنى قوله ، رضي الله عنه : "أن المصدق به أحمق" أي : لأنه لا يعمل له عمل مثله ، ولا يحذر منه ولا يخاف من هوله ، وهو مع ذلك مصدق به موقن بوقوعه ، وهو مع ذلك يتمادى في لعبه وغفلته وشهواته وذنوبه ، فهو أحمق بهذا الاعتبار ، والأحمق في اللغة : ضعيف العقل.
وقوله : "والمكذب به هالك" هذا واضح ، والله أعلم.
ثم قال تعالى - مقررا على أنه على كل شيء قدير ، وبكل شيء محيط ، وإقامة الساعة لديه يسير سهل عليه تبارك وتعالى - : { أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ } أي : المخلوقات كلها تحت قهره وفي قبضته ، وتحت طي علمه ، وهو المتصرف فيها كلها بحكمه ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. [آخر تفسير سورة فصلت] (1).
__________
(1) زيادة من ت ، س ، أ.

(7/188)


حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)

تفسير سورة الشورى
وهي مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) }
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة. وقد روى ابن جرير هاهنا أثرا غريبا عجيبا منكرا ، فقال :
حدثنا أحمد بن زُهَير ، حدثنا عبد الوهاب بن نَجْدَةَ الحَوْطي ، حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج ، عن أرطاة بن المنذر (1) قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال له - وعنده حُذيفة بن اليمان - : أخبرني عن تفسير قول الله : { حم عسق } قال : فأطرق ثم أعرض عنه ، ثم كرر مقالته فأعرض عنه ، فلم يجبه بشيء وكره مقالته ، ثم كررها الثالثة فلم يُحِرْ إليه شيئا. فقال حذيفة (2) : أنا أنبئك بها ، قد عرفت لم كرهها ؟ نزلت في رجل من أهل بيته يقال له "عبد الإله" - أو : عبد الله - ينزل على نهر من أنهار المشرق تُبْنَى عليه مدينتان (3) ، يشق النهر بينهما شقا ، فإذا أذن الله في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدتهم ، بعث الله على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة وقد احترقت ، كأنها لم تكن مكانها ، وتصبح صاحبتها متعجبة : كيف أفلتت ؟ فما هو إلا بياض يومها ذلك ، حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم ، ثم يخسف الله بها وبهم جميعا ، فذلك قوله : { حم عسق } يعني : عزيمة من الله تعالى وفتنة وقضاء حُمّ : { حم } عين : يعني عدلا منه ، سين : يعني سيكون ، ق : يعني واقع بهاتين المدينتين (4).
وأغرب منه ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في الجزء الثاني من مسند ابن عباس ، وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، ولكن إسناده ضعيف جدا ومنقطع ، فإنه قال :
حدثنا أبو طالب عبد الجبار بن عاصم ، حدثنا أبو عبد الملك الحسن بن يحيى الخُشَني الدمشقي ، عن أبي معاوية قال : صعد عمر بن الخطاب المنبر فقال : أيها الناس هل سمع منكم أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر { حم عسق } ؟ فوثب ابن عباس فقال : أنا : قال : " { حم } اسم من أسماء الله تعالى" قال : فعين ؟ قال : "عاين المولون عذاب يوم بدر" قال : فسين ؟ قال : "سيعلم الذين ظلموا أي منقلب
__________
(1) في ت : "وقد روى ابن جرير هاهنا أثرا غريبا عجيبا بسنده".
(2) في أ : "فقال له حذيفة".
(3) في ت ، م ، أ : "مدينتين".
(4) تفسير الطبري (25/5) ورواه نعيم بن حماد في الفتن برقم (568) من طريق أبي المغيرة عن أرطأة بن المنذر عمن حدثه عن ابن عباس فذكره.

(7/189)


ينقلبون" قال : فقاف ؟ فسكت فقام أبو ذر ، ففسر كما قال ابن عباس ، رضي الله عنهما ، وقال : قاف : قارعة من السماء تغشى الناس (1).
وقوله : { كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي : كما أنزل إليك هذا القرآن ، كذلك أنزل الكتب والصحف على الأنبياء قبلك. وقوله : { اللَّهُ الْعَزِيزُ } أي : في انتقامه ، { الْحَكِيمُ } في أقواله وأفعاله.
قال : الإمام مالك - رحمه الله - عن هشام بن عُرْوَة عن أبيه ، عن عائشة : أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أحيانًا يأتيني مثل صَلْصَلَةِ الجَرَس ، وهو أشده عَلَيّ فيفصم عني قد وَعَيت ما قال. وأحيانا يأتيني الملك رجُلا فيكلمني ، فأعي ما يقول" قالت عائشة (2) فلقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه ، وإن جبينه ليتفصّد عرقا.
أخرجاه في الصحيحين ، ولفظه للبخاري (3).
وقد (4) رواه الطبراني عن عبد الله ابن الإمام أحمد ، عن أبيه ، عن عامر بن صالح ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، عن الحارث بن هشام ؛ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف ينزل عليك الوحي ؟ فقال : "مثل (5) صلصلة الجرس فيفصمُ عني وقد وعَيتُ ما قاله" قال : "وهو أشده علي" قال : "وأحيانا يأتيني الملك فيتمثل لي فيكلمني فأعي ما يقول" (6).
وقال : الإمام (7) أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عمرو بن الوليد ، عن عبد الله بن عمرو (8) ، رضي الله عنهما ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، هل تحس بالوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك ، فما من مرة يوحى إليَّ إلا ظننت أن نفسي تُقبَض" تفرد به أحمد (9).
وقد ذكرنا كيفية إتيان الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول شرح البخاري ، بما أغنى عن إعادته هاهنا ، ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى : { لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } أي : الجميع عبيد له وملك له ، تحت قهره وتصريفه ، { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } كقوله تعالى : { الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ } [ الرعد : 9] { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [ سبأ : 23 ] والآيات في هذا كثيرة.
وقوله : { تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ } قال ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وكعب الأحبار : أي فرقًا ، من العظمة { وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ } كقوله : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } [غافر : 7].
__________
(1) ورواه ابن عساكر في تاريخه كما في الدر المنثور (7/336).
(2) في ت : "عائشة رضي الله عنها".
(3) الموطأ (1/202) وصحيح البخاري برقم (2) وصحيح مسلم برقم (2333).
(4) في أ : "ولقد".
(5) في أ : "فقال : في مثل".
(6) المعجم الكبير (3/259).
(7) في ت : "وروى".
(8) في ت : عمر".
(9) المسند (2/222).

(7/190)


وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)

.
وقوله : { أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } إعلام بذلك وتنويه به.
وقوله : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } يعني : المشركين ، { اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ } أي : شهيد على أعمالهم ، يحصيها ويعدها عدًّا ، وسيجزيهم بها أوفر الجزاء. { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ } أي : إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل.
{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) }
يقول تعالى : وكما أوحينا إلى الأنبياء قبلك ، { أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } أي : واضحا جليا بينا ، { لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى } وهي مكة ، { وَمَنْ حَوْلَهَا } أي : من سائر البلاد شرقا وغربا ، وسميت مكة "أم القرى" ؛ لأنها أشرف من سائر البلاد ، لأدلة كثيرة مذكورة في مواضعها. ومن أوجز ذلك وأدله ما قال (1) الإمام أحمد :
حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب ، عن الزُّهْرِي ، أخبرنا أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عبد الله بن عَدِي بن الحمراء الزهري أخبره : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (2) - وهو واقف بالحَزْوَرَة في سوق مكة - : "والله ، إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أني أُخْرِجْتُ منك ما خرجت" (3).
وهكذا رواية الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، من حديث الزهري ، به (4) وقال الترمذي : حسن صحيح.
وقوله : { وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ } ، وهو يوم القيامة ، يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد.
وقوله : { لا رَيْبَ فِيهِ } أي : لا شك في وقوعه ، وأنه كائن لا محالة. وقوله : { فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ } ، كقوله : { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ } [التغابن : 9] أي : يَغْبَن أهل الجنة أهل النار ، وكقوله تعالى : { ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [هود : 103 - 105] (5).
قال (6) الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا لَيْث ، حدثني أبو قبيل المعافري ، عن شُفَيّ (7)
__________
(1) في ت : "ما رواه".
(2) في ت : "قال".
(3) المسند (4/305).
(4) سنن الترمذي برقم (3925) والنسائي في السنن الكبرى برقم (4252) وسنن ابن ماجه برقم (3108).
(5) قبلها في ت ، م ، أ : "(إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة)".
(6) في ت : "روى".
(7) في أ : "شقيق".

(7/191)


الأصبحي ، عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان ، فقال : "أتدرون ما هذان الكتابان ؟" قال : قلنا : لا إلا أن تخبرنا يا رسول الله قال للذي في يده اليمينى : "هذا كتاب من رب العالمين ، بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم - لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا" ثم قال للذي في يساره : "هذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم - لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا" فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلأي شيء إذًا نعمل إن كان هذا أمر قد فُرِغ منه ؟ فقال (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سَدِّدُوا وقاربوا ، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل الجنة (2) ، وإن عَمِلَ أي عَمل ، وإن صاحب النار يختم له بعمل النار (3) ، وإن عمل أي عمل" ثم قال بيده فقبضها ، ثم قال : "فرغ ربكم عز وجل من العباد" ثم قال باليمنى فنبذ بها فقال : "فريق في الجنة" ، ونبذ باليسرى فقال : "فريق في السعير"
وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعا ، عن قتيبة عن الليث بن سعد وبكر بن مضر ، كلاهما عن أبي قبيل ، عن شُفَيّ بن ماتع (4) الأصبحي ، عن عبد الله بن عمرو ، به (5).
وقال الترمذي : حسن صحيح غريب.
وساقه البغوي في تفسيره من طريق بشر بن بكر (6) ، عن سعيد بن عثمان ، عن أبي الزاهرية ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بنحوه. وعنده زيادات منها : ثم قال : "فريق في الجنة وفريق في السعير ، عدل من الله عز وجل" (7).
ورواه (8) ابن أبي حاتم عن أبيه ، عن عبد الله بن صالح - كاتب الليث - عن الليث ، به.
ورواه ابن جرير عن يونس ، عن ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن أبي قَبِيل ، عن شفي ، عن رجل من الصحابة ، فذكره (9).
ثم روي عن يونس ، عن ابن وَهْب ، عن عمرو بن الحارث وحَيْوَة بن (10) شُرَيْح ، عن يحيى بن أبي أسيد ؛ أن أبا فراس (11) حدثه : أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول : إن الله لما خلق آدم نفضه نفض المزْوَد (12) ، وأخرج منه كل ذريته ، فخرج أمثال النَّغَف ، فقبضهم قبضتين ، ثم قال : شقي وسعيد ، ثم ألقاهما ، ثم قبضهما فقال : فريق في الجنة ، وفريق في السعير (13).
وهذا الموقوف أشبه بالصواب ، والله أعلم.
__________
(1) في ت ، م : "قال".
(2) في م : "بعمل أهل الجنة".
(3) في م ، ت ، أ : "بعمل أهل النار"
(4) في أ : "رافع".
(5) المسند (2/167) وسنن الترمذي برقم (2141) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11473).
(6) في م : "بكير".
(7) معالم التنزيل للبغوي (7/185).
(8) في ت : "روى".
(9) تفسير الطبري (25/7).
(10) في أ : "عن".
(11) في ت : "عن أبي فراس".
(12) في م : "المرود".
(13) تفسير الطبري (25/7).

(7/192)


أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)

وقال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حماد - يعني ابن سلمة - أخبرنا الجريري ، عن أبي نضرة ، أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له : أبو عبد الله - دخل عليه أصحابه يعودونه وهو يبكي ، فقالوا له : ما يبكيك ؟ ألم يقل لك رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خذ من شاربك ثم أقره حتى تلقاني" قال : بلى ، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله قبض بيمينه قبضة ، وأخرى باليد الأخرى ، قال : هذه لهذه ، وهذه لهذه ولا أبالي" فلا أدري في أي القبضتين أنا (1).
وأحاديث القدر في الصحاح والسنن والمسانيد كثيرة جدا ، منها حديث علي ، وابن مسعود ، وعائشة ، وجماعة جمة.
وقوله : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي : إما على الهداية أو على الضلالة ، ولكنه تعالى فاوت بينهم ، فهدى من يشاء (2) إلى الحق ، وأضل من يشاء عنه ، وله الحكمة والحجة البالغة ؛ ولهذا قال : { وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ }
وقال : ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن أبي سويد ، حدثه عن ابن حجيرة : أنه بلغه (3) أن موسى ، عليه السلام ، قال : : يا رب خَلقُك الذين (4) خلقتهم ، جعلت منهم فريقا في الجنة وفريقا في النار ، لو ما أدخلتهم كلهم الجنة ؟! فقال : يا موسى ، ارفع ذَرْعك. فرفع ، قال : قد رفعت. قال : ارفع. فرفع ، فلم يترك شيئا ، قال : يا رب قد رفعت ، قال : ارفع. قال : قد رفعت ، إلا ما لا خير فيه. قال : كذلك أدخل خلقي كلهم الجنة ، إلا ما لا خير فيه.
{ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) }
__________
(1) المسند (4/1769).
(2) في أ : "شاء".
(3) في ت : "وروى ابن جرير بسنده".
(4) في ت : "الذي".

(7/193)


فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)

{ فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) }
يقول تعالى منكرًا على المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله ، ومخبرا أنه هو الولي الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده ، فإنه القادر على إحياء الموتى وهو على كل شيء قدير.
ثم قال : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } أي : مهما اختلفتم فيه من الأمور وهذا عام في جميع الأشياء ، { فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } أي : هو الحاكم فيه بكتابه ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، كقوله : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } [النساء : 59]..
{ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي } أي : الحاكم في كل شيء ، { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أي : أرجع في جميع الأمور.

(7/193)


شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)

وقوله : { فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } أي : خالقهما وما بينهما ، { جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } أي : من جنسكم وشكلكم ، منة عليكم وتفضلا جعل من جنسكم ذكرا وأنثى ، { وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا } أي : وخلق لكم من الأنعام ثمانية أزواج.
وقوله : { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } أي : يخلقكم فيه ، أي : في ذلك الخلق على هذه الصفة لا يزال يذرؤكم (1) فيه ذكورا وإناثا ، خلقا من بعد خلق ، وجيلا بعد جيل ، ونسلا بعد نسل ، من الناس والأنعام.
وقال البغوي رحمه الله : { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } أي : في الرحم. وقيل : في البطن. وقيل : في هذا الوجه من الخلقة.
قال مجاهد : ونسلا بعد نسل من الناس والأنعام.
وقيل : "في" بمعنى "الباء" ، أي : يذرؤكم به.
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } أي : ليس كخالق الأزواج كلها شيء ؛ لأنه الفرد الصمد الذي لا نظير له ، { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }
وقوله : { لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } تقدم تفسيره في "سورة الزمر" ، وحاصل ذلك أنه المتصرف الحاكم فيهما ، { يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ } أي : يوسع على من يشاء ، ويضيق على من يشاء ، وله الحكمة والعدل التام ، { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
{ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) }
يقول تعالى لهذه الأمة : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } ، فذكر أول الرسل بعد آدم وهو نوح ، عليه السلام وآخرهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر من بين ذلك من أولي العزم وهم : إبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ، عليهم السلام. وهذه الآية انتظمت ذكر الخمسة كما اشتملت آية "الأحزاب" عليهم في قوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } الآية[الأحزاب : 7]. والدين الذي جاءت به الرسل كلهم هو : عبادة الله وحده لا شريك له ، كما قال : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء : 25]. وفي
__________
(1) في أ : "نوعكم".

(7/194)


فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)

الحديث : "نحن معشر (1) الأنبياء أولاد علات ديننا واحد" أي : القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له ، وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم ، كقوله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } [المائدة : 48] ؛ ولهذا قال هاهنا : { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } أي : وصى الله [سبحانه و] (2) تعالى جميع الأنبياء ، عليهم السلام ، بالائتلاف والجماعة ، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف.
وقوله : { كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } أي : شق عليهم وأنكروا ما تدعوهم إليه يا محمد من التوحيد.
ثم قال : { اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ } أي : هو الذي يُقدّر الهداية لمن يستحقها ، ويكتب الضلالة على من آثرها على طريق الرشد ؛ ولهذا قال : { وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ } أي : إنما كان مخالفتهم للحق بعد بلوغه إليهم ، وقيام الحجة عليهم ، وما حملهم على ذلك إلا البغيُ والعنادُ والمشاقة.
ثم قال [الله] (3) تعالى : { وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } أي : لولا الكلمة السابقة من الله بإنظار العباد بإقامة حسابهم إلى يوم المعاد ، لعجل لهم العقوبة في الدنيا سريعًا.
وقوله : { وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ } يعني : الجيل المتأخر بعد القرن الأول المكذّب للحق { لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ } أي : ليسوا على يقين من أمرهم ، وإنما هم مقلدون لآبائهم وأسلافهم ، بلا دليل ولا بُرهان ، وهم في حيرة من أمرهم ، وشك مريب ، وشقاق بعيد.
{ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) }
اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات ، كل منها منفصلة عن التي قبلها ، [لها] (4) حكم برأسه - قالوا : ولا نظير لها سوى آية الكرسي ، فإنها أيضا عشرة (5) فصول كهذه.
قوله (6) { فَلِذَلِكَ فَادْعُ } أي : فللذي أوحينا إليك من الدين الذي وصينا به جميع المرسلين قبلك أصحاب الشرائع الكبار المتبعة كأولي العزم وغيرهم ، فادعُ الناس إليه.
وقوله : { وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ } أي : واستقم أنت ومن اتبعك على عبادة الله ، كما أمركم الله عز وجل.
وقوله : { وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } يعني : المشركين فيما اختلقوه ، وكذبوه وافتروه من عبادة الأوثان.
وقوله : { وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ } أي : صدقت بجميع الكتب المنزلة من السماء على
__________
(1) في ت ، م : "معاشر".
(2) زيادة من ت ، م ، أ.
(3) زيادة من م.
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) في ت : "عشر".
(6) في ت : "فقوله".

(7/195)


الأنبياء لا نفرق (1) بين أحد منهم.
وقوله : { وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ } أي : في الحكم كما أمرني الله.
وقوله : { اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } أي : هو المعبود ، لا إله غيره ، فنحن نقر بذلك اختيارا ، وأنتم وإن لم تفعلوه اختيارا ، فله يسجد من في العالمين طوعا وإختيارا.
وقوله : { لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } أي : نحن برآء منكم ، كما قال تعالى : { وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } [يونس : 41].
وقوله : { لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } قال مجاهد : أي لا خصومة. قال السدي : وذلك قبل نزول آية السيف. وهذا مُتَّجَهٌ لأن هذه الآية مكية ، وآية السيف بعد الهجرة.
وقوله : { اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا } أي : يوم القيامة ، كقوله : { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ } [سبأ : 26].
وقوله : { وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } أي : المرجع والمآب يوم الحساب.
__________
(1) في ت : "لا يفرق".

(7/196)


وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)

{ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) }
يقول تعالى - متوعدا الذين يصدون عن سبيل الله من آمن به - : { وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ } أي : يجادلون المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله ، ليصدوهم عما سلكوه من طريق الهدى ، { حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ } أي : باطلة عند الله ، { وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } أي : منه ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } أي : يوم القيامة.
قال ابن عباس ، ومجاهد : جادلوا المؤمنين بعد ما استجابوا لله ولرسوله ، ليصدوهم عن الهدى ، وطمعوا أن تعود الجاهلية.
وقال قتادة : هم اليهود والنصارى ، قالوا لهم : ديننا خير من دينكم ، ونبينا قبل نبيكم ، ونحن خير منكم ، وأولى بالله منكم. وقد كذبوا في ذلك.
ثم قال : { اللَّهُ الَّذِي أَنزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } يعني : الكتب المنزلة من عنده على أنبيائه { والميزان } ، وهو : العدل والإنصاف ، قاله مجاهد ، وقتادة. وهذه كقوله تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } [الحديد : 25] وقوله : { وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ. أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ } [الرحمن : 7 - 9].

(7/196)


اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)

وقوله : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ } فيه ترغيب فيها ، وترهيب منها ، وتزهيد في الدنيا.
وقوله : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا } أي : يقولون : { مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [سبأ : 29] ، وإنما يقولون (1) ذلك تكذيبا واستبعادا ، وكفرا وعنادا ، { وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا } أي : خائفون وجلون من وقوعها { وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ } أي : كائنة لا محالة ، فهم مستعدون لها عاملون من أجلها.
وقد رُوي من طرق تبلغ درجة التواتر ، في الصحاح والحسان ، والسنن والمسانيد ، وفي بعض ألفاظه ؛ أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوت جَهْوَرِيّ ، وهو في بعض أسفاره فناداه فقال : يا محمد. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من صوته "هاؤم". فقال : متى الساعة ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ويحك ، إنها كائنة ، فما أعددت لها ؟" فقال : حُب الله ورسوله. فقال : "أنت مع من أحببت (2).
فقوله في الحديث : "المرء مع من أحب" ، هذا متواتر لا محالة ، والغرض أنه لم يجبه عن وقت الساعة ، بل أمره بالاستعداد لها.
وقوله : { أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ } أي : يحاجّون في وجودها ويدفعون وقوعها ، { لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ } أي : في جهل بين ؛ لأن الذي خلق السموات والأرض قادر على إحياء الموتى بطريق الأولى والأحرى ، كما قال : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم : 27].
{ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) }
يقول تعالى مخبرا عن لطفه بخلقه في رزقه إياهم عن آخرهم ، لا ينسى أحدا منهم ، سواء في رزقه البرّ والفاجر ، كقوله تعالى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [هود : 6] ولها (3) نظائر كثيرة.
وقوله : { يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ } أي : يوسع على من يشاء ، { وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ } أي : لا يعجزه شيء.
__________
(1) في ت : "يقول".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (6167) ومسلم في صحيحه برقم (2639) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3) في ت : "ولهذا".

(7/197)


ثم قال : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ } أي : عمل الآخرة { نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } أي : نقويه ونعينه على ما هو بصدده ، ونكثر نماءه ، ونجزيه بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، إلى ما يشاء الله { وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } أي : ومن كان إنما سعيه ليحصل له شيء من الدنيا ، وليس له إلى الآخرة همَّة (1) البتة بالكلية ، حَرَمه الله الآخرة والدنيا إن شاء أعطاه منها ، وإن لم يشأ لم يحصل (2) له لا هذه ولا هذه ، وفاز هذا الساعي بهذه النية بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة.
والدليل على هذا أن هذه الآية هاهنا مقيدة بالآية التي في "سبحان" وهي قوله تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا } [الإسراء : 18 - 21].
وقال الثوري ، عن مُغيرة ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب [رضي الله عنه] (3) قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بشر هذه الأمة بالسَّنَاء والرفعة ، والنصر والتمكين في الأرض ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا ، لم يكن له في الآخرة من نصيب" (4).
وقوله : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } أي : هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم ، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس ، من تحريم ما حرموا عليهم ، من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، وتحليل الميتة والدم والقمار ، إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالة (5) الباطلة ، التي كانوا قد اخترعوها في جاهليتهم ، من التحليل والتحريم ، والعبادات الباطلة ، والأقوال الفاسدة.
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "رأيت عمرو بن لُحَيّ بن قَمَعَة يَجُر قُصْبَه في النار" (6) لأنه أول من سيب السوائب. وكان هذا الرجل أحد ملوك خزاعة ، وهو أول من فعل هذه الأشياء ، وهو الذي حَمَل قريشا على عبادة الأصنام ، لعنه الله وقبحه ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي : لعوجلوا بالعقوبة ، لولا ما تقدم من الإنظار إلى يوم المعاد ، { وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : شديد موجع (7) في جهنم وبئس المصير.
ثم قال تعالى : { تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا } أي : في عرصات القيامة ، { وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ } أي : الذي يخافون منه واقع بهم لا محالة ، هذا حالهم يوم معادهم ، وهم في هذا الخوف والوجل ، { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ } فأين هذا من هذا :
__________
(1) في ت : "وهم".
(2) في أ : "يجعل".
(3) زيادة من ت.
(4) رواه البغوي في شرح السنة (14/335) من طريق الثوري به.
(5) في أ : "الجهالات".
(6) انظر تخريج هذا الحديث عند تفسير الآية : 103 من سورة المائدة.
(7) في ت ، أ : "وجيع".

(7/198)


أين من هو في العَرَصَات في الذل والهوان والخوف المحقق عليه بظلمه ، ممن هو في روضات الجنات ، فيما يشاء من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومناظر ومناكح وملاذ ، فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
قال : الحسن بن عرفة : حدثنا عمر بن عبد الرحمن الأبار ، حدثنا محمد بن سعد الأنصاري (1) عن أبي طَيْبَة ، قال : إن الشَّرْب من أهل الجنة لتظلهم السحابة فتقول : ما أمْطِرُكُم. قال : فما يدعو داع من (2) القوم بشيء إلا أمطرتهم ، حتى إن القائل منهم ليقول : أمطرينا كواعب أترابا.
رواه ابن جرير ، عن الحسن بن عرفة ، به.
ولهذا قال تعالى : { ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } أي : الفوز العظيم ، والنعمة التامة السابغة الشاملة العامة.
__________
(1) في ت : "روى الحسن بن عرفة بسنده".
(2) في أ : "في".

(7/199)


ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)

{ ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) }
يقول تعالى لما ذكر روضات الجنة ، لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات : { ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي : هذا حاصل لهم كائن لا محالة ، ببشارة الله لهم به.
وقوله : { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } أي : قل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش : لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح لكم ما لا تعطونيه ، وإنما أطلب منكم أن تكفوا شركم عني وتذروني أبلغ رسالات (1) ربي ، إن لم تنصروني فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة.
قال البخاري : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عبد الملك بن ميسرة قال : سمعت طاوسا (2) عن ابن عباس : أنه سئل عن قوله تعالى : { إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } فقال سعيد بن جبير : قربى آل محمد. فقال ابن عباس : عَجِلْتَ إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة ، فقال : إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة. انفرد به البخاري (3).
ورواه الإمام أحمد ، عن يحيى القطان ، عن شعبة به. وهكذا روى عامر الشعبي ، والضحاك ، وعلي بن أبي طلحة ، والعَوْفي ، ويوسف بن مِهْران وغير واحد ، عن ابن عباس ، مثله. وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي ، وأبو مالك ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني (4) حدثنا هاشم بن يزيد الطبراني وجعفر القلانسي قالا حدثنا
__________
(1) في ت ، م ، أ : "رسالة".
(2) في ت : "روى البخاري بسنده".
(3) صحيح البخاري برقم (4818) والمسند (1/229).
(4) في ت : "وروى الطبراني".

(7/199)


آدم بن أبي أياس ، حدثنا شريك ، عن خُصَيف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تَوَدّوني في نفسي لقرابتي منكم ، وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم" (1).
وروى الإمام أحمد ، عن حسن بن موسى : حدثنا قَزَعَة يعني ابن سُوَيد - وابن أبي حاتم - عن أبيه ، عن مسلم بن إبراهيم ، عن قَزَعة بن سويد - عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا أسألكم على ما آتيتكم من البينات والهدى أجرا ، إلا أن تُوَادوا الله ، وأن تقربوا إليه بطاعته" (2).
وهكذا روى قتادة عن الحسن البصري ، مثله.
وهذا كأنه تفسير بقول ثان ، كأنه يقول : { إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } أي : إلا أن تعملوا بالطاعة التي تقربكم عند الله زلفى.
وقول ثالث : وهو ما حكاه البخاري وغيره ، رواية عن سعيد بن جبير ، ما معناه أنه قال : معنى ذلك أن تودوني في قرابتي ، أي : تحسنوا إليهم وتبروهم.
وقال السدي ، عن أبي الديلم قال : لما جيء بعلي بن الحسين أسيرا ، فأقيم على درج دمشق ، قام رجل من أهل الشام فقال : الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم ، وقطع قرني الفتنة. فقال له علي بن الحسين : أقرأت القرآن ؟ قال : نعم. قال : أقرأت آل حم ؟ قال : قرأت القرآن ، ولم أقرأ آل حم. قال : ما قرأت : { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } ؟ قال : وإنكم أنتم (3) هم ؟ قال : نعم.
وقال : أبو إسحاق السَّبِيعيّ : سألت عمرو بن شعيب عن قوله تعالى : { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } فقال : قربى النبي صلى الله عليه وسلم. رواهما ابن جرير (4).
ثم قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا عبد السلام ، حدثني يزيد بن أبي زياد ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : قالت الأنصار : فعلنا وفعلنا ، وكأنهم فخروا فقال ابن عباس - أو : العباس ، شك عبد السلام - : لنا الفضل عليكم. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم في مجالسهم فقال : "يا معشر الأنصار ، ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي ؟" قالوا : بلى ، يا رسول الله. قال : ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي ؟" قالوا : بلى يا رسول الله قال : "أفلا تجيبوني ؟" قالوا : ما نقول يا رسول الله ؟ قال : "ألا تقولون : ألم يخرجك قومك فآويناك ؟ أو لم يكذبوك فصدقناك ؟ أو لم يخذلوك فنصرناك" ؟ قال : فما زال يقول حتى جثوا على الركب ، وقالوا : أموالنا وما في أيدينا لله ولرسوله. قال : فنزلت : { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } (5).
وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن علي بن الحسين ، عن عبد المؤمن بن علي ، عن عبد السلام ، عن
__________
(1) المعجم الكبير (11/435).
(2) المسند (1/268).
(3) في ت ، أ : "لأنتم".
(4) تفسير الطبري (25/17).
(5) تفسير الطبري (25/16).

(7/200)


يزيد بن أبي زياد - وهو ضعيف - بإسناده مثله ، أو قريبا منه.
وفي الصحيحين - في قسم غنائم حنين - قريب من هذا السياق ، ولكن ليس فيه ذكر نزول هذه الآية. وذكْرُ نزولها في المدينة فيه نظر ؛ لأن السورة مكية ، وليس يظهر بين هذه الآية الكريمة وبين السياق مناسبة ، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا رجل سماه ، حدثنا حسين الأشقر ، عن قيس ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جبير (1) عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } قالوا : يا رسول الله ، من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم ؟ قال : "فاطمة وولدها ، عليهم السلام" (2).
وهذا إسناد (3) ضعيف ، فيه مبهم لا يعرف ، عن شيخ شيعي مُتَخَرّق (4) ، وهو حسين الأشقر ، ولا يقبل خبره في هذا المحل. وذكر نزول هذه الآية في المدينة بعيد ؛ فإنها مكية ولم يكن إذ ذاك لفاطمة أولاد بالكلية ، فإنها لم تتزوج بعلي إلا بعد بدر من (5) السنة الثانية من الهجرة.
والحق تفسير الآية بما فسرها به الإمام حَبرُ الأمة ، وترجمان القرآن ، عبد الله بن عباس ، كما رواه عنه البخاري [رحمه الله] (6) ولا تنكر الوصاة (7) بأهل البيت ، والأمر بالإحسان إليهم ، واحترامهم وإكرامهم ، فإنهم من ذرية طاهرة ، من أشرف بيت وجد على وجه الأرض ، فخرًا وحسبًا ونسبًا ، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية ، كما كان عليه سلفهم ، كالعباس وبنيه ، وعلي وأهل بيته وذريته ، رضي الله عنهم أجمعين.
و [قد ثبت] (8) في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بغَدِير خُمّ : "إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي ، وإنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض" (9).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث (10) ، عن العباس بن عبد المطلب قال : قلت : يا رسول الله ، إن قريشا إذا لقي بعضهم بعضا لقوهم ببشر حسن ، وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها ؟ قال : فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا ، وقال : "والذي نفسي بيده ، لا يدخل قلب الرجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله" (11).
ثم قال أحمد (12) حدثنا جرير ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث ، عن عبد المطلب بن ربيعة قال : دخل العباس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنا لنخرج فنرى قريشا تُحدث ، فإذا رأونا
__________
(1) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بسنده".
(2) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (11/444) من طريق حرب الطحان عن حسين الأشقر به.
(3) في أ : "الإسناد".
(4) في أ : "مخترق".
(5) في أ : "في".
(6) زيادة من ت ، م ، أ.
(7) في ت : "ولا ينكر الوصاية".
(8) زيادة من ت ، أ.
(9) صحيح مسلم برقم (2408) بنحوه من حديث زيد بن الأرقم.
(10) في ت : "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(11) المسند (1/207).
(12) في ت : "ثم روى الإمام أحمد".

(7/201)


سكتوا. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودَرّ عِرْقُ بين عينه (1) ، ثم قال : "والله لا يدخل قلب امرئ (2) إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي" (3).
وقال البخاري : حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب ، حدثنا خالد ، حدثنا شعبة ، عن واقد قال : سمعتُ أبي يحدّث (4) عن ابن عمر ، عن أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، قال : ارقبوا محمدا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته (5).
وفي الصحيح : أن الصديق قال لعلي ، رضي الله عنهما : والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي (6) (7).
وقال عمر بن الخطاب للعباس ، رضي الله عنهما : والله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليَّ من إسلام الخطاب لو أسلم ؛ لأن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب.
فحال الشيخين ، رضي الله عنهما ، هو الواجب على كل أحد أن يكون كذلك ؛ ولهذا كانا أفضل المؤمنين بعد النبيين والمرسلين ، رضي الله عنهما ، وعن سائر الصحابة أجمعين.
وقال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن أبي حَيّان التيمي ، حدثني يزيد ابن حيان قال : انطلقت أنا وحُسَيْن بن مَيْسَرة ، وعمر (8) بن مسلم إلى زيد (9) بن أرقم ، فلما جلسنا إليه قال له حصين : لقد لقيتَ يا زيد (10) خيرا كثيرا ، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسمعت حديثه وغزوت معه ، وصليت معه. لقد رأيت يا زيد خيرا كثيرا. حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال : يا ابن أخي ، والله كَبُرت (11) سني ، وقدم عهدي ، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما حدثتكم فاقبلوه ، وما لا فلا تُكَلّفونيه. ثم قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا خطيبًا فينا ، بماء يدعى خُمّا - بين مكة والمدينة - فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر ووعظ ، ثم قال : "أما بعد ، ألا أيها الناس ، إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ، وإني تارك فيكم الثقلين ، أولهما : كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به" فحث على كتاب الله ورغب فيه ، وقال : "وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي" فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : إن نساءه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حُرم الصدقة بعده قال : ومن هم ؟ قال : هم آل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل العباس ، قال : أكل هؤلاء حرم الصدقة ؟ قال : نعم.
وهكذا رواه مسلم [في فضائل] (12) والنسائي من طرق عن يزيد بن حَيّان به (13).
__________
(1) في ت ، أ : "عينيه".
(2) في ت ، أ : "امرئ مسلم".
(3) المسند (1/207).
(4) في ت : "وروى البخاري بإسناده".
(5) صحيح البخاري برقم (3713).
(6) في أ : "أحب إلي من أن أصل قرابتي".
(7) صحيح البخاري برقم (3712).
(8) في ت ، أ : "وعمرو".
(9) في أ : "يزيد".
(10) في أ : "يزيد".
(11) في ت ، أ : "والله لقد كبرت".
(12) زيادة من ت ، م ، أ.
(13) المسند (4/366) وصحيح مسلم برقم (2408) والنسائي في السنن الكبرى برقم (8175).

(7/202)


وقال أبو عيسى الترمذي (1) حدثنا علي بن المنذر الكوفي ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا الأعمش ، عن عطية ، عن أبي سعيد - والأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن زيد بن أرقم - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من (2) السماء إلى الأرض ، والآخر عترتي : أهل بيتي ، ولن يَتَفَرَّقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما"
تفرد بروايته الترمذي (3) ثم قال : هذا حديث حسن غريب.
وقال الترمذي أيضا (4) حدثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي ، حدثنا زيد بن الحسن ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله (5) قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة ، وهو على ناقته القصواء يخطب ، فسمعته يقول : "يا أيها الناس ، إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا : كتاب الله ، وعترتي : أهل بيتي"
تفرد به الترمذي أيضا (6) ، وقال : حسن غريب. وفي الباب عن أبي ذر ، وأبي سعيد ، وزيد بن أرقم ، وحذيفة بن أسيد.
ثم قال الترمذي : حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث ، حدثنا يحيى بن مَعِين ، حدثنا هشام بن يوسف ، عن عبد الله بن سليمان النوفلي ، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن جده عبد الله بن عباس (7) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أحبوا الله لما يغذوكم (8) من نعمه ، وأحبوني (9) بحب الله ، وأحبوا أهل بيتي بحبي"
ثم قال (10) حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه (11).
وقد أوردنا أحاديث أُخَر عند قوله تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [ الأحزاب : 33] (12) ، بما أغنى عن إعادتها هاهنا ، ولله الحمد والمنة.
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا سويد بن سَعِيد ، حدثنا مفضل بن عبد الله ، عن أبي إسحاق ، عن حَنَش قال : سمعت أبا ذر وهو آخذ بحلقة الباب يقول : يا أيها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن أنكرني فأنا أبو ذر ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إنما مثل أهل بيتي فيكم مَثَل سفينة نوح ،
__________
(1) في ت : "وروى الترمذي".
(2) في ت : "بين".
(3) سنن الترمذي برقم (3788).
(4) في ت : "وروى الترمذي".
(5) في ت : "عبد الله رضي الله عنه".
(6) سنن الترمذي برقم (3786).
(7) قي ت : "وروى الترمذي أيضا عن ابن عباس".
(8) في ت : "يغدوكم به".
(9) في ت : "فأحبوني".
(10) في ت : "وقال".
(11) سنن الترمذي برقم (3789).
(12) انظر تفسير الآية : 33 من سورة لأحزاب.

(7/203)


وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)

من دخلها نجا ، ومن تخلف عنها هلك" (1).
هذا بهذا الإسناد ضعيف.
وقوله : { وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا } أي : ومن يعمل حسنة { نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا } أي : أجرا وثوابا ، كقوله { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء : 40].
وقال بعض السلف : [إن] (2) من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ، ومن جزاء السيئة(السيئة) بعدها.
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ } أي : يغفر الكثير من السيئات ، ويكثر القليل من الحسنات ، فيستر ويغفر ، ويضاعف فيشكر.
وقوله : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ } أي : لو افتريت عليه كذبا كما يزعم هؤلاء الجاهلون { يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ } أي : لَطَبَعَ على قلبك وسلبك ما كان آتاك من القرآن ، كقوله تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [الحاقة : 44 - 47] أي : لانتقمنا منه أشد الانتقام ، وما قدر أحد من الناس أن يحجز عنه.
وقوله : { وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ } ليس معطوفا على قوله : { يختم } فيكون مجزوما ، بل هو مرفوع على الابتداء ، قاله ابن جرير ، قال : وحذفت من كتابته "الواو" في رسم المصحف الإمام ، كما حذفت في (3) قوله : { سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } [العلق : 18] وقوله : { وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ } [الإسراء : 11].
وقوله : { وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } معطوف على { وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ } أي : يحققه ويثبته ويبينه ويوضحه بكلماته ، أي : بحججه وبراهينه ، { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : بما تكنه الضمائر ، وتنطوي عليه السرائر.
{ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأرْضِ وَلَكِنْ يُنزلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) }
يقول تعالى ممتنا على عباده بقبول توبتهم إليه إذا تابوا ورجعوا إليه : أنه من كرمه وحلمه أنه يعفو ويصفح ويستر ويغفر ، كقوله : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } [النساء : 110] وقد ثبت في صحيح مسلم ، رحمه الله ، حيث قال :
__________
(1) ورواه الحاكم في المستدرك وصححه (3/150) من طريق مفضل بن صالح عن أبي إسحاق به ، وتعقبه الذهبي بقوله : "فيه مفضل ابن صالح واه" ، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (3/37) من طريق عبد الله بن داهر عن عبد الله بن عبد القدوس عن الأعمش عن أبي إسحاق به ، وفي إسناده عبد الله بن داهر الرازي متروك.
(2) زيادة من ت ، م ، أ.
(3) في ت ، أ : "من".

(7/204)


حدثنا محمد بن الصباح وزهير بن حرب قال (1) حدثنا عمر بن يونس ، حدثنا عكرمة بن عمار ، حدثنا إسحاق بن أبي طلحة ، حدثني أنس بن مالك - وهو عمه (2) - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه ، من أحدكم كان راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه ، وعليها طعامه وشرابه ، فأيس منها ، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها ، قد أيس من راحلته ، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده ، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك - أخطأ من شدة الفرح" (3).
وقد ثبت أيضا في الصحيح من رواية عبد الله بن مسعود نحوه (4) (5).
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري في قوله : { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } : إن أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته (6) في المكان الذي يخاف أن يقتله العطش فيه" (7).
وقال همام بن الحارث : سئل ابن مسعود عن الرجل يفجر بالمرأة ثم يتزوجها ؟ قال : لا بأس به ، وقرأ : { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } الآية رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم من حديث شريك القاضي ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن إبراهيم النخعي ، عن همام فذكره (8).
وقوله : { وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ } أي : يقبل التوبة في المستقبل ويعفو عن السيئات في الماضي ، { وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } أي : هو عالم بجميع ما فعلتم وصنعتم وقلتم ، ومع هذا يتوب على من تاب إليه.
وقوله : { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } قال السدي : يعني يستجيب لهم. وكذا قال ابن جرير : معناه يستجيب الدعاء لهم (9) [لأنفسهم] (10) ولأصحابهم وإخوانهم. وحكاه عن بعض النحاة ، وأنه جعلها كقوله : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } [آل عمران : 195].
ثم روى هو وابن أبي حاتم ، من حديث الأعمش ، عن شقيق بن سلمة ، عن سلمة بن سبرة قال : خطبنا معاذ بالشام فقال : أنتم المؤمنون ، وأنتم أهل الجنة. والله إني أرجو أن يدخل الله من تسبون من فارس والروم الجنة ، وذلك بأن أحدكم إذا عمل له - يعني أحدُهم عملا - قال : أحسنت رحمك (11) الله ، أحسنت بارك الله فيك ، ثم قرأ : { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ }
__________
(1) في أ : "قالا".
(2) في ت : "عمه رضي الله عنه".
(3) صحيح مسلم برقم (2747).
(4) في ت : "مثله".
(5) صحيح مسلم برقم (2744).
(6) في ت : "راحلته".
(7) تفسير عبد الرزاق (2/156) وقد روى متصلا ، فرواه مسلم في صحيحه برقم (2675) من طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام ابن منبه عن أبي هريرة به.
(8) تفسير الطبري (25/18).
(9) في ت ، م : "لهم الدعاء".
(10) زيادة من ت ، م.
(11) في ت ، م ، أ : "يرحمك".

(7/205)


وحكى ابن جرير عن بعض أهل العربية أنه جعل (1) [مثل] (2) قوله : { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا } كقوله : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ } [الزمر : 18] أي : هم الذين يستجيبون للحق ويتبعونه ، كقوله تبارك وتعالى : { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ } [الأنعام : 36] والمعنى الأول أظهر ؛ لقوله (3) تعالى : { وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } أي : يستجيب دعاءهم ويزيدهم فوق ذلك ؛ ولهذا قال ابن أبي حاتم :
حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن المصفى ، حدثنا بقية ، حدثنا إسماعيل بن عبد الله الكندي ، حدثنا الأعمش ، عن شقيق عن عبد الله (4) قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } قال : "الشفاعة لمن وجبت له النار ، ممن صنع إليهم معروفا (5) في الدنيا" (6).
وقال قتادة عن إبراهيم النخعي اللخمي في قوله تعالى : { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } قال : يشفعون في إخوانهم ، { وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } قال : يشفعون في إخوان إخوانهم.
وقوله : { وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } لما ذكر المؤمنين وما لهم من الثواب الجزيل ، ذكر الكافرين وما لهم عنده يوم القيامة من العذاب الشديد الموجع المؤلم يوم معادهم وحسابهم.
وقوله : { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأرْضِ } أي : لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق ، لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض ، أشرا وبطرا.
وقال قتادة : كان يقال : خير العيش ما لا يلهيك ولا يطغيك. وذكر قتادة حديث : "إنما أخاف عليكم ما يخرج الله من زهرة الحياة الدنيا" وسؤال السائل : أيأتي الخير بالشر ؟ الحديث.
وقوله : { وَلَكِنْ يُنزلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } أي : ولكن يرزقهم من الرزق ما يختاره مما فيه صلاحهم ، وهو أعلم بذلك فيغني من يستحق الغنى ، ويفقر من يستحق الفقر. كما جاء في الحديث المروي : "إن من عبادي لمن (7) لا يصلحه إلا الغنى ، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه ، وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الفقر ، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه"
وقوله : { وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا } أي : من بعد إياس الناس من نزول المطر ، ينزله عليهم في وقت حاجتهم وفقرهم إليه ، كقوله : { وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ } [الروم : 49].
وقوله : { وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ } أي : يعم بها الوجود على أهل ذلك القُطْر وتلك الناحية.
__________
(1) في ت ، م : "جعله".
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) في ت : "كقوله".
(4) في ت : "روى ابن أبي حاتم بسنده عن عبد الله".
(5) في أ : "المعروف".
(6) ورواه أبي عاصم في السنة برقم (846) من طريق محمد بن مصفى عن بقية به ، وفي إسيناده إسماعيل الكندي. قال الذهبي في الميزان (1/235) : "عن الأعمش ، وعنه بقية ، بخبر عجيب منكر".
(7) في ت : "من".

(7/206)


وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)

قال قتادة : ذكر لنا أن رجلا قال لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين ، قُحط المطر وقنط الناس ؟ فقال عمر ، رضي الله عنه : مطرتم ، ثم قرأ : { وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ } (1).
{ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } أي : هو المتصرف لخلقه بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم ، وهو المحمود العاقبة في جميع ما يقدره ويفعله.
{ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31) }
يقول تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ : } الدالة على عظمته وقدرته العظيمة وسلطانه القاهر { خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا } أي : ذرأ فيهما ، أي : في السموات والأرض ، { مِنْ دَابَّةٍ } وهذا يشمل الملائكة والجن والإنس وسائر الحيوانات ، على اختلاف أشكالهم وألوانهم ولغاتهم ، وطباعهم وأجناسهم ، وأنواعهم ، وقد فرقهم في أرجاء أقطار الأرض والسموات ، { وهو } مع هذا كله { عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ } أي : يوم القيامة يجمع الأولين والآخرين وسائر الخلائق في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر ، فيحكم فيهم بحكمه العدل الحق.
وقوله : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } أي : مهما أصابكم أيها الناس من المصائب فإنما هو (2) عن سيئات تقدمت لكم { وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } أي : من السيئات ، فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها ، { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } [ فاطر : 45 ] وفي الحديث الصحيح : "والذي نفسي بيده ، ما يصيب المؤمن من نصب ولا وَصَب ولا هم ولا حُزَن ، إلا كفر الله عنه بها من خطاياه ، حتى الشوكة (3) يشاكها" (4).
وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُليَّة ، حدثنا أيوب قال : قرأت في كتاب أبي قِلابَةَ قال : نزلت : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [الزلزلة : 7 ، 8] وأبو بكر يأكل ، فأمسك وقال : يا رسول الله ، إني لراء ما عملت من خير وشر ؟ فقال : "أرأيت ما رأيت مما تكره ، فهو من مثاقيل ذَرّ الشر ، وتدخر مثاقيل الخير حتى تعطاه يوم القيامة" قال : قال أبو إدريس : فإني أرى مصداقها في كتاب الله : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } (5).
ثم رواه من وجه آخر ، عن أبي قِلابَةَ ، عن أنس (6) ، قال : والأول أصح.
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره (25/19).
(2) في ت ، أ : "هي".
(3) في ت ، أ : "بالشوكة".
(4) صحيح البخاري برقم (5641 ، 5642) وصحيح مسلم برقم (2573) "من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما".
(5) تفسير الطبري (25/20).
(6) تفسير الطبري (25/21).

(7/207)


وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع ، حدثنا مروان بن معاوية الفَزَاري ، حدثنا الأزهر بن راشد الكاهلي ، عن الخَضْر بن القَوَّاس البجلي ، عن أبي سخيلة (1) عن علي ، رضي الله عنه قال : ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله عز وجل ، وحدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ }. وسأفسرها لك يا علي : "ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا ، فبما كسبت أيديكم (2) والله تعالى أحلم من أن يُثَنِّى عليه العقوبة في الآخرة ، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله (3) تعالى أكرم من أن يعود بعد عفوه"
وكذا رواه الإمام أحمد ، عن مروان بن معاوية وعَبْدة ، عن أبي سُخَيلة قال : قال علي... فذكر نحوه مرفوعا (4).
ثم روى ابن أبي حاتم [نحوه] (5) من وجه آخر موقوفا فقال : حدثنا أبي ، حدثنا منصور بن أبي مزاحم ، حدثنا أبو سعيد بن أبي الوضاح ، عن أبي الحسن ، عن أبي جُحَيفَة قال : دخلت على علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، فقال : ألا أحدثكم بحديث ينبغي لكل مؤمن أن يَعيَه (6) ؟ قال : فسألناه فتلا (7) هذه الآية : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } قال : ما عاقب الله به في الدنيا فالله أحلم من أن يُثَنِّي عليه العقوبة يوم القيامة ، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود في عفوه يوم القيامة.
وقال (8) الإمام أحمد : حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا طلحة - يعني ابن يحيى - عن أبي بُرْدَةَ ، عن معاوية - هو ابن أبي سفيان ، رضي الله عنهما ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كَفَّرَ الله عنه به من سيئاته" (9).
وقال أحمد أيضا : حدثنا حسين ، عن زائدة ، عن ليث ، عن مجاهد (10) ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا كثرت ذنوب العبد ، ولم يكن له ما يكفرها ، ابتلاه الله بالحَزَنِ ليكفرها" (11).
وقال (12) ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي ، حدثنا أبو أسامة ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن - هو البصري - قال في قوله : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } قال : لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والذي نفس محمد بيده ، ما من خَدْش عود ، ولا اختلاج عرق ، ولا عَثْرة قدم ، إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر" (13).
وقال (14) أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا عمر بن علي ، حدثنا هُشَيمْ ، عن منصور ، عن الحسن ، عن
__________
(1) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
(2) في أ : "أيديكم ويعفو عن كثير".
(3) في ت : "والله".
(4) المسند (1/85).
(5) زيادة من أ.
(6) في أ : "يصيبه".
(7) في ت : "قبل".
(8) في ت : "وروى".
(9) المسند (4/98) قال الهيثمي في المجمع (3/301) : "رجال أحمد رجال الصحيح".
(10) في ت ، م : "عن مجاهد ، وروى أيضا".
(11) المسند (6/157).
(12) في ت : "وروى".
(13) ورواه هناد بن السري في الزهد برقم (431) من طريق إسماعيل بن مسلم به مرسلا.
(14) في ت : "وروى".

(7/208)


عمران بن حصين ، رضي الله عنه ، قال : دخل عليه بعض أصحابه وقد كان ابتلي في جسده ، فقال له بعضهم إنا لَنَبْتَئِسُ لك لما نرى فيك. قال : فلا تبتئس بما ترى ، فإن ما ترى بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر ، ثم تلا هذه الآية : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ }
[قال : ] (1) وحدثنا أبي : حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحمَّاني ، حدثنا جرير عن أبي البلاد (2) قال : قلت للعلاء بن بدر : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } ، وقد ذهب بصري وأنا غلام ؟ قال : فبذنوب والديك.
وحدثنا أبي : حدثنا علي بن محمد الطَّنَافسي ، حدثنا وكيع ، عن عبد العزيز بن أبي راود ، عن الضحاك (3) قال : ما نعلم أحدا حفظ القرآن ثم نسيه (4) إلا بذنب ، ثم قرأ الضحاك : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ }. ثم يقول الضحاك : وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن.
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في أ : "أبي العلا".
(3) في ت : "وروى أيضا عن الضحاك".
(4) في أ : "سيبه".

(7/209)


وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)

{ وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَار فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) }
يقول تعالى : ومن آياته الدالة على قدرته وسلطانه ، تسخيره البحر لتجري فيه الفلك بأمره ، وهي الجواري في البحر كالأعلام ، أي : كالجبال ، قاله مجاهد ، والحسن ، والسدي ، والضحاك ، أي : هي (1) في البحر كالجبال في البر ، .
{ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ } أي : التي تسير بالسفن (2) ، لو شاء لسكنها حتى لا تتحرك (3) السفن ، بل تظل راكدة لا تجيء ولا تذهب ، بل واقفة على ظهره ، أي : على وجه الماء { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ } أي : في الشدائد { شكور } أي : إن في تسخيره البحر وإجرائه الهوى بقدر ما يحتاجون إليه لسيرهم ، لدلالات على نعمه تعالى على خلقه { لِكُلِّ صَبَّارٍ } أي : في الشدائد ، { شكور } في الرخاء.
وقوله : { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا } أي : ولو شاء لأهلك السفن وغرقها بذنوب أهلها الذين هم راكبون عليها (4) { وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ } أي : من ذنوبهم. ولو أخذهم بجميع ذنوبهم لأهلك كل من ركب البحر (5).
وقال بعض علماء التفسير : معنى قوله : { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا } أي : لو شاء لأرسل الريح قوية عاتية ، فأخذت السفن وأحالتها (6) عن سيرها المستقيم ، فصرفتها ذات اليمين أو ذات الشمال ، آبقة لا تسير على طريق ، ولا إلى جهة مقصد.
__________
(1) في أ : "هذه".
(2) في ت : "تسير بها السفن".
(3) في ت : "يتحرك".
(4) في ت ، م ، أ : "فيها".
(5) في م : "كل من يركب في البحر" ، وفي أ : "كل من يركب البحر".
(6) في ت ، أ : "فأجالتها"ن وفي م : "فاجتالتها".

(7/209)


فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)

وهذا القول هو يتضمن هلاكها ، وهو مناسب للأول (1) ، وهو أنه تعالى لو شاء لسكن الريح فوقفت ، أو لقواه فشردت وأبقت وهلكت. ولكن من لطفه (2) ورحمته أنه يرسله بحسب الحاجة ، كما يرسل المطر بقدر الكفاية ، ولو أنزله كثيرا جدا لهدم البنيان ، أو قليلا لما أنبت الزرع (3) والثمار ، حتى إنه يرسل إلى مثل بلاد مصر سيحا من أرض أخرى غيرها (4) ؛ لأنهم لا يحتاجون إلى مطر ، ولو أنزل عليهم لهدم بنيانهم ، وأسقط جدرانهم.
وقوله : { وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ } أي : لا محيد لهم عن بأسنا ونقمتنا ، فإنهم مقهورون بقدرتنا.
{ فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) }
يقول تعالى محقرا بشأن الحياة الدنيا وزينتها ، وما فيها من الزهرة والنعيم الفاني ، بقوله : { فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : مهما حصلتم وجمعتم فلا تغتروا به ، فإنما هو متاع الحياة الدنيا ، وهي دار دنيئة فانية زائلة لا محالة ، { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى } أي : وثواب الله خير من الدنيا ، وهو باق سرمدي ، فلا تقدموا الفاني على الباقي ؛ ولهذا قال : { لِلَّذِينَ آمَنُوا } أي : للذين صبروا على ترك الملاذ في الدنيا ، { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي : ليعينهم على الصبر في أداء الواجبات وترك المحرمات.
ثم قال : { وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ } وقد قدمنا الكلام على الإثم والفواحش في "سورة الأعراف" { وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } أي : سجيتهم [وخلقهم وطبعهم] (5) تقتضي الصفح والعفو عن الناس ، ليس سجيتهم الانتقام من الناس.
وقد ثبت في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط ، إلا أن تنتهك حرمات الله (6) وفي حديث آخر : "كان يقول لأحدنا (7) عند المعتبة : ما له ؟ تربت جبينه" (8).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن زائدة ، عن منصور (9) ، عن إبراهيم قال : كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا ، وكانوا إذا قدروا عفوا.
__________
(1) في ت ، أ : "للقول الأول".
(2) في أ : "لطف الله".
(3) في ت ، م : "الزروع".
(4) في أ : "عليها".
(5) زيادة من أ.
(6) رواه البخاري في صحيحه برقم (6126) من حديث عائشة بلفظ : "وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط ، إلا أن تنتهك حرمة الله ، فينتقم بها الله".
(7) في أ : "للرجل".
(8) رواه البخاري في صحيحه برقم (6031) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(9) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بسنده".

(7/210)


وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)

وقوله : { وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ } أي : اتبعوا رسله وأطاعوا أمره ، واجتنبوا زجره ، { وَأَقَامُوا الصَّلاةَ } وهي أعظم العبادات لله عز وجل ، { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } أي : لا يبرمون أمرا حتى يتشاوروا (1) فيه ، ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها ، كما قال تعالى : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } [آل عمران : 159] ولهذا كان عليه [الصلاة] (2) السلام ، يشاورهم في الحروب ونحوها ، ليطيب بذلك قلوبهم. وهكذا لما حضرت عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] (3) الوفاة حين طعن ، جعل الأمر بعده شورى في ستة نفر ، وهم : عثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وعبد الرحمن بن عوف ، رضي الله عنهم أجمعين ، فاجتمع رأي الصحابة كلهم على تقديم عثمان عليهم ، رضي الله عنهم ، { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } وذلك بالإحسان إلى خلق الله ، الأقرب إليهم منهم فالأقرب.
وقوله : { وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ } أي : فيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم ، ليسوا بعاجزين ولا أذلة ، بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم ، وإن كانوا مع هذا إذا قدروا وعفوا ، كما قال يوسف ، عليه السلام ، لإخوته : { لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] (4) } [يوسف : 92] ، مع قدرته على مؤاخذتهم ومقابلتهم على صنيعهم إليه ، وكما عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية ، ونزلوا من جبل التنعيم ، فلما قدر عليهم مَنَّ عليهم (5) مع قدرته على الانتقام ، وكذلك عفوه عن غَوْرَث بن الحارث ، الذي أراد الفتك به [عليه السلام] (6) حين اخترط سيفه وهو نائم ، فاستيقظ ، عليه السلام ، وهو في يده صَلْتا ، فانتهره فوضعه من يده ، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف من يده ، ودعا أصحابه ، ثم أعلمهم بما كان من أمره وأمر هذا الرجل ، وعفا عنه. وكذلك عفا عن لبيد بن الأعصم (7) ، الذي سحره ، عليه السلام ، ومع هذا لم يعرض له ، ولا عاتبه ، مع قدرته عليه. وكذلك عفوه ، عليه السلام ، عن المرأة اليهودية - وهي زينب أخت (8) مرحب اليهودي الخيبري الذي قتله محمود بن مسلمة - التي سمت الذراع يوم خيبر ، فأخبره الذراع بذلك ، فدعاها فاعترفت فقال : "ما حملك على ذلك" قالت : أردت إن كنت نبيا لم يضرك ، وإن لم تكن نبيا استرحنا منك ، فأطلقها ، عليه الصلاة والسلام ، ولكن لما مات منه بشر بن البراء قتلها به ، والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدا ، والحمد لله (9).
{ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ (43) }
قوله تعالى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } كقوله تعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } [البقرة : 194]
__________
(1) في أ : "يشاورون".
(2) زيادة من ت.
(3) زيادة من ت.
(4) زيادة من أ.
(5) في ت ، م ، أ : "عنهم".
(6) زيادة من ت.
(7) في ت : "أعصم".
(8) في ت ، م : "بنت".
(9) في أ : "ولله الحمد والمنة".

(7/211)


وكقوله (1) { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } [النحل : 129] فشرع العدل وهو القصاص ، وندب إلى الفضل وهو العفو ، كقوله [تعالى] (2) { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } [المائدة : 45] ؛ ولهذا قال هاهنا : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } أي : لا يضيع ذلك عند الله كما صح في الحديث : "وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا" وقوله : { إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } أي : المعتدين ، وهو المبتدئ بالسيئة.
[وقال بعضهم : لما كانت الأقسام ثلاثة : ظالم لنفسه ، ومقتصد ، وسابق بالخيرات ، ذكر الأقسام الثلاثة في هذه الآية فذكر المقتصد وهو الذي يفيض بقدر حقه لقوله : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } ، ثم ذكر السابق بقوله : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } ثم ذكر الظالم بقوله : { إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } فأمر بالعدل ، وندب إلى الفضل ، ونهى من الظلم] (3).
ثم قال : { وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } أي : ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظلمهم.
قال ابن جرير (4) حدثنا محمد بن عبد الله بن بَزيع (5) حدثنا معاذ بن معاذ ، حدثنا (6) ابن عَوْن قال : كنت أسأل عن الانتصار : { وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } فحدثني علي بن زيد (7) بن جدعان عن أم محمد - امرأة أبيه - قال ابن عون : زعموا أنها كانت تدخل على أم المؤمنين عائشة (8) - قالت : قالت أم المؤمنين : دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعندنا زينب بنت جحش ، فجعل يصنع بيده شيئا فلم يَفْطِن لها ، فقلت بيده حتى (9) فَطَّنته لها ، فأمسك. وأقبلت زينب تقحم لعائشة ، فنهاها ، فأبت أن تنتهي. فقال لعائشة : "سُبّيها" فسبتها فغلبتها ، وانطلقت زينب فأتت عليا فقالت : إن عائشة تقع بكم ، وتفعل بكم. فجاءت فاطمة فقال (10) لها "إنها حبة أبيك ورب الكعبة" فانصرفت ، وقالت لعلي : إني قلت له كذا وكذا ، فقال لي كذا وكذا. قال : وجاء علي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه في ذلك (11).
هكذا ورد هذا السياق ، وعلي بن زيد بن جدعان يأتي في رواياته بالمنكرات غالبا ، وهذا فيه نكارة ، والحديث الصحيح خلاف هذا السياق ، كما رواه النسائي وابن ماجه من حديث خالد بن سلمة الفأفاء ، عن عبد الله البَهِيّ ، عن عروة قال : قالت عائشة ، رضي الله عنها : ما علمتُ حتى دخلت عليَّ زينب بغير إذن وهي غضبى ، ثم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : حسبك إذا قلبت لك ابنة أبي بكر ذُرَيّعَتَيهَا ثم أقبلت علي فأعرضت عنها ، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : "دونك فانتصري" فأقبلت عليها حتى رأيتها وقد يبس ريقها في فمها ، ما (12) ترد علي شيئا. فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه. وهذا لفظ
__________
(1) في ت : "وقوله".
(2) زيادة من ت.
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) في ت : "وروى ابن جرير".
(5) في أ : "سويع".
(6) في ت : "عن".
(7) في ت : "يزيد".
(8) في ت : "عائشة رضي الله عنها".
(9) في أ : "فقلت له حتى".
(10) في ت : "فقالت".
(11) تفسير الطبري (25/24).
(12) في م : "لم".

(7/212)


النسائي (1).
وقال البزار : حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا أبو غسان ، حدثنا أبو الأحوص عن أبي حمزة ، عن إبراهيم ، عن الأسود (2) ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من دعا على من ظلمه فقد انتصر".
ورواه الترمذي من حديث أبي الأحوص ، عن أبي حمزة - واسمه ميمون - ثم قال : "لا نعرفه إلا من حديثه ، وقد تكلم فيه من قبل حفظه" (3).
وقوله : { إِنَّمَا السَّبِيلُ } أي : إنما الحرج والعنت { عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } أي : يبدؤون الناس بالظلم. كما جاء في الحديث الصحيح : "المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يَعْتَد المظلوم".
{ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : شديد موجع.
قال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا سعيد بن زيد - أخو حماد بن زيد - حدثنا عثمان الشحام ، حدثنا (4) محمد بن واسع قال : قدمت مكة فإذا على الخندق مَنْظَرَة ، فأخذت فانطلق بي إلى مروان بن المهلب ، وهو أمير على البصرة ، فقال : حاجتك يا أبا عبد الله. قلت حاجتي إن استطعت أن تكون كما قال أخو بني عدي. قال : ومن أخو بني عدي ؟ قال : العلاء بن زياد ، استعمل صديقا له مرة على عمل ، فكتب إليه : أما بعد فإن استطعت ألا تبيت إلا وظهرك خفيف ، وبطنك خميص ، وكفك نقية من دماء المسلمين وأموالهم ، فإنك إذا فعلت (5) ذلك لم يكن عليك سبيل ، { إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فقال (6) صدق والله ونصح ثم قال : ما حاجتك يا أبا عبد الله ؟ قلت : حاجتي أن تلحقني بأهلي. قال : نعم رواه ابن أبي حاتم (7).
ثم إنه تعالى لما ذم الظلم وأهله وشرع القصاص ، قال نادبا إلى العفو والصفح : { وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ } أي : صبر على الأذى وستر السيئة ، { إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ }
قال سعيد بن جبير : [يعني] (8) لمن حق الأمور التي أمر الله بها ، أي : لمن الأمور المشكورة والأفعال الحميدة (9) التي عليها ثواب جزيل وثناء جميل.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمران بن موسى الطرسوسي ، حدثنا عبد الصمد بن يزيد - خادم الفضيل بن عياض - قال : سمعت (10) الفضيل بن عياض يقول (11) إذا أتاك رجل
__________
(1) النسائي في السنن الكبرى برقم (11476) وسنن ابن ماجه برقم (1981) قال البوصيري في الزوائد (2/115) : "هذا إسناد صحيح على شرط مسلم".
(2) في ت : "وروى البزار بسنده".
(3) سنن الترمذي برقم (3552) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (10/347) وابن عدي في الكامل (6/412) من طريق أبي الأحوص به ، وقال ابن عدي : "لا أعلم من يرويه عن أبي حمزة غير أبي الأحوص".
(4) في ت : "عن".
(5) في أ : "قبلت".
(6) في ت ، أ : "فقال مروان".
(7) المصنف لابن أبي شيبة (14/63).
(8) زيادة من أ.
(9) في ت : "المحمودة".
(10) في ت : "وعن".
(11) في ت : "قال".

(7/213)


وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)

يشكو إليك رجلا فقل : "يا أخي ، اعف عنه". فإن العفو أقرب للتقوى ، فإن قال : لا يحتمل قلبي العفو ، ولكن أنتصر كما أمرني الله (1) عز وجل. فقل له (2) إن كنت تحسن أن تنتصر وإلا فارجع إلى باب العفو ، فإنه باب واسع ، فإنه من عفا وأصلح فأجره على الله ، وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل ، وصاحب الانتصار يقلب الأمور (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى - يعني ابن سعيد القطان - عن ابن عَجْلان ، حدثنا سعيد بن أبي سعيد ، (4) عن أبي هريرة ، رضي الله عنه أن رجلا شتم أبا بكر والنبي صلى الله عليه وسلم جالس ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويتبسم ، فلما أكثر رد عليه بعض قوله ، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام ، فلحقه أبو بكر فقال : يا رسول الله إنه كان يشتمني وأنت جالس ، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت! قال : "إنه كان معك ملك يرد عنك ، فلما رددت عليه بعض قوله حضر (5) الشيطان ، فلم أكن لأقعد مع الشيطان". ثم قال : "يا أبا بكر ، ثلاث كلهن حق ، ما من عبد ظُلم بمظلمة فيغضي عنها لله ، إلا أعز الله بها نَصْرَه ، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة ، إلا زاده الله بها كثرة ، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة ، إلا زاده الله بها قلة"
وكذا رواه أبو داود ، عن عبد الأعلى بن حماد ، عن سفيان بن عيينة - قال : ورواه صفوان بن عيسى ، كلاهما عن محمد بن عَجْلان (6) ورواه من طريق الليث ، عن سعيد المَقْبُرِي ، عن بشير بن المحرر ، عن سعيد بن المسيب مرسلا (7).
وهذا الحديث في غاية الحسن في المعنى ، وهو سببُ سبه للصديق (8).
{ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) }
__________
(1) في ت : "ربي".
(2) في ت ، أ : "قال له الفضيل".
(3) بعدها : "رواه ابن أبي حاتم".
(4) في ت : "وروى الإمام أحمد بسنده".
(5) في ت ، م ، أ : "وقع".
(6) المسند (2/436) وسنن أبي داود برقم (4896 ، 4897).
(7) سنن أبي داود برقم (4897).
(8) في ت ، أ : "وهذا الحديث في غاية الحسن وهو مناسب للصديق" ، وفي م : "وهذا الحديث في غاية الحسن في المعنى وهو مناسب للصديق".

(7/214)


وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)

{ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) }
يقول تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة : إنه ما شاء (1) كان ولا راد له ، وما لم يشأ لم يكن فلا موجد له (2) وأنه من هداه فلا مُضِل له ، ومن يضلل (3) فلا هادي له ، كما قال : { وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } [الكهف : 17]
ثم قال مخبرا عن الظالمين ، وهم المشركون بالله { لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ } أي : يوم القيامة يتمنون
__________
(1) في ت : "ما شاء الله".
(2) في أ : "فلا مؤاخذة له".
(3) في ت ، م : "يضلل الله".

(7/214)


اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)

الرجعة إلى الدنيا ، { يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ } ، كما قال [تعالى] (1) { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [الأنعام : 27 ، 28].
وقوله : { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } أي : على النار { خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ } أي : الذي قد اعتراهم بما أسلفوا من عصيان الله ، { يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ } قال مجاهد : يعني ذليل ، أي ينظرون إليها مُسَارقَة خوفا منها ، والذي يحذرون منه واقع بهم لا محالة ، وما هو أعظم مما في نفوسهم ، أجارنا الله من ذلك.
{ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا } أي : يقولون يوم القيامة : { إِنَّ الْخَاسِرِينَ } أي : الخسار (2) الأكبر { الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : ذهب بهم إلى (3) النار فعدموا لذتهم في دار الأبد ، وخسروا أنفسهم ، وفرق بينهم وبين أصحابهم وأحبابهم وأهاليهم وقراباتهم ، (4) فخسروهم ، { أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ } أي : دائم سرمدي أبدي ، لا خروج لهم منها ولا محيد لهم عنها.
وقوله : { وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي : ينقذونهم مما هم فيه من العذاب والنكال ، { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ } أي : ليس له خلاص.
{ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنْسَانَ كَفُورٌ (48) }
لما ذكر تعالى ما يكون في يوم القيامة من الأهوال والأمور العظام الهائلة حَذَّر منه وأمر بالاستعداد له ، فقال : { اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ } أي : إذا أمر بكونه فإنه كلمح البصر يكون ، وليس له دافع ولا مانع.
وقوله : { مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ } أي : ليس لكم حصن تتحصنون فيه ، ولا مكان يستركم وتتنكرون فيه ، فتغيبون عن بصره ، تبارك وتعالى ، بل هو محيط بكم بعلمه وبصره وقدرته ، فلا ملجأ منه إلا إليه ، { يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ. كَلا لا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ } [القيامة : 10 - 12].
وقوله : { فَإِنْ أَعْرَضُوا } يعني : المشركين { فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } أي : لست عليهم بمصيطر. وقال تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [البقرة : 272] ، وقال تعالى : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [الرعد : 40] وقال هاهنا : { إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ } أي : إنما كلفناك أن تبلغهم رسالة الله إليهم.
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في أ : "الخاسر".
(3) في ت : "في".
(4) في ت : "وأقربائهم".

(7/215)


لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)

ثم قال تعالى : { وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا } أي : إذا أصابه رخاء ونعمة فرح بذلك ، { وَإِنْ تُصِبْهُمْ } يعني الناس { سيئة } أي : جدب ونقمة وبلاء وشدة ، { فَإِنَّ الإنْسَانَ كَفُورٌ } أي : يجحد ما تقدم من النعمة (1) ولا يعرف إلا الساعة الراهنة ، فإن أصابته نعمة أشر وبطر ، وإن أصابته محنة يئس وقنط ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [للنساء] (2) يا معشر النساء ، تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار" فقالت امرأة : ولِمَ يا رسول الله ؟ قال : "لأنكن تُكثرن الشكاية ، وتكفرن العشير ، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم تركت يوما قالت : ما رأيت منك خيرا قط" (3) وهذا حال أكثر الناس (4) إلا من هداه الله وألهمه رشده ، وكان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فالمؤمن كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن" (5).
{ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) }
يخبر تعالى أنه خالق السموات والأرض ومالكهما والمتصرف فيهما ، وأنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وأنه يعطي من يشاء ، ويمنع من يشاء ، ولا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع ، وأنه يخلق ما يشاء ، و { يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا } أي : يرزقه البنات فقط - قال البغوي : ومنهم لوط ، عليه السلام { وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ } أي : يرزقه البنين فقط. قال البغوي : كإبراهيم الخليل ، عليه السلام - لم يولد له أنثى ، . { أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا } أي : ويعطي من يشاء من الناس الزوجين الذكر والأنثى ، أي : من هذا وهذا (6). قال البغوي : كمحمد ، عليه الصلاة والسلام { وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا } أي : لا يولد له. قال البغوي : كيحيى وعيسى ، عليهما السلام ، فجعل الناس أربعة أقسام ، منهم من يعطيه البنات ، ومنهم من يعطيه البنين ، ومنهم من يعطيه من النوعين ذكورا وإناثا ، ومنهم من يمنعه هذا وهذا ، فيجعله عقيما لا نسل له ولا يولد له ، { إِنَّهُ عَلِيمٌ } أي : بمن يستحق كل قسم من هذه الأقسام ، { قَدِيرٌ } أي : على من يشاء ، من تفاوت الناس في ذلك.
وهذا المقام شبيه بقوله تعالى عن عيسى : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ } [مريم : 21] أي : دلالة لهم على قدرته ، تعالى وتقدس ، حيث خلق الخلق على أربعة أقسام ، فآدم ، عليه السلام ، مخلوق من تراب لا من ذكر ولا أنثى ، وحواء عليها السلام ، [مخلوقة] (7) من ذكر بلا أنثى ، وسائر الخلق سوى عيسى [عليه السلام] (8) من ذكر وأنثى ، وعيسى ، عليه السلام ، من أنثى بلا ذكر فتمت الدلالة بخلق عيسى ابن مريم ، عليهما السلام ؛ ولهذا قال : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ } ، فهذا المقام في الآباء ، والمقام الأول في الأبناء ، وكل منهما أربعة أقسام ، فسبحان العليم القدير.
__________
(1) في ت ، م : "النعم".
(2) زيادة من ت ، م ، أ.
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (79) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه ، وبرقم (80) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) في ت ، م : "النساء".
(5) رواه مسلم في صحيحه برقم (299) من حديث صهيب رضي الله عنه.
(6) في ت : "هذا من هذا".
(7) زيادة من ت.
(8) زيادة من ت ، م ، وفي أ : "عيسى ابن مريم عليهما السلام".

(7/216)


وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)

{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) }

(7/217)


وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)

{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ (53) }
هذه مقامات (1) الوحي بالنسبة إلى جناب الله ، عز وجل ، وهو أنه تعالى تارة يقذف في روع النبي صلى الله عليه وسلم شيئا لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل ، كما جاء في صحيح ابن حبان ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن رُوح القُدُس نفث في رُوعي : أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب" (2).
وقوله : { أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } كما كلم موسى ، عليه السلام ، فإنه سأل الرؤية بعد التكليم ، فحجب عنها.
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله : "ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب ، وإنه كلم أباك كفاحا" الحديث (3) ، وكان [أبوه] (4) قد قتل يوم أحد ، ولكن هذا في عالم البرزخ ، والآية إنما هي في الدار (5) الدنيا.
وقوله : { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } كما ينزل جبريل [عليه السلام] (6) وغيره من الملائكة على الأنبياء ، عليهم السلام ، { إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } ، فهو علي عليم خبير حكيم.
وقوله (7) { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } يعني : القرآن ، { مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ } أي : على التفصيل الذي شرع لك في القرآن ، { وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ } أي : القرآن { نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } ، كقوله : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [فصلت : 44].
وقوله : { وَإِنَّكَ } [أي] (8) يا محمد { لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } ، وهو الخلق (9) القويم. ثم فسره بقوله : { صِرَاطِ اللَّهِ [الَّذِي] } (10) أي : شرعه الذي أمر به الله ، { الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } أي : ربهما ومالكهما ، والمتصرف فيهما ، الحاكم الذي لا معقب لحكمه ، { أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ } ، أي : ترجع الأمور ، فيفصلها ويحكم فيها.
آخر تفسير سورة "[حم] (11) الشورى" والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) في ت : "مقدمات".
(2) ورواه البغوي في شرح السنة (14/304) من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن زبيد اليامي عمن أخبره عن ابن مسعود به.
(3) رواه الترمذي في السنن برقم (3010) وقال : "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه".
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) في ت : "دار".
(6) زيادة من م.
(7) في ت : "فقوله".
(8) زيادة من م.
(9) في ت ، م ، أ : "الحق".
(10) زيادة من أ.
(11) زيادة من أ.

(7/217)


حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)

تفسير سورة الزخرف
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ (8) }
يقول تعالى : { حم. وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ } أي : البين (1) الواضح الجلي المعاني والألفاظ ؛ لأنه نزل (2) بلغة العرب التي هي أفصح اللغات للتخاطب (3) بين الناس ؛ ولهذا قال : { إِنَّا جَعَلْنَاهُ } أي : أنزلناه { قُرْآنًا عَرَبِيًّا } أي : بلغة العرب فصيحا واضحا ، { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي : تفهمونه وتتدبرونه ، كما قال : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } [الشعراء : 195].
وقوله تعالى : { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } بين شرفه في الملأ الأعلى ، ليشرفه ويعظمه ويطيعه أهل الأرض ، فقال تعالى : { وإنه } أي : القرآن { فِي أُمِّ الْكِتَابِ } أي : اللوح المحفوظ ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، { لدينا } أي : عندنا ، قاله قتادة وغيره ، { لعلي } أي : ذو مكانة عظيمة وشرف وفضل ، قاله قتادة { حكيم } أي : محكم بريء من اللبس والزيغ.
وهذا كله تنبيه على شرفه وفضله ، كما قال : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ. تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الواقعة : 77 - 80] وقال : { كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرَامٍ بَرَرَةٍ } [عبس : 11 - 16] ؛ ولهذا استنبط العلماء ، رحمهم الله ، من هاتين الآيتين : أن المُحدِثَ لا يمس المصحف ، كما ورد به الحديث إن صح ؛ لأن (4) الملائكة يعظمون المصاحف المشتملة على القرآن في الملأ الأعلى ، فأهل الأرض بذلك أولى وأحرى ، لأنه نزل عليهم ، وخطابه متوجه إليهم ، فهم أحق أن يقابلوه بالإكرام والتعظيم ، والانقياد له بالقبول والتسليم ، لقوله : { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ }
وقوله : { أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ } اختلف المفسرون في معناها ، فقيل : معناها : أتحسبون أن نصفح عنكم فلا نعذبكم ولم تفعلوا ما أمرتم به ؟ قاله ابن عباس ، ومجاهد وأبو صالح ، والسدي ، واختاره ابن جرير. (5)
وقال قتادة في قوله : : { أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا } : والله لو أن هذا القرآن رفع حين ردته
__________
(1) في أ : "النير".
(2) في ت ، م : "منزل".
(3) في ت ، م : "المتخاطب".
(4) في ت ، أ : "إن صح ، وقوله : "لا تمس المصحف إلا وانت طاهر" لأن".
(5) في ت : "ومجاهد وغيرهما".

(7/218)


وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)

أوائل (1) هذه الأمة لهلكوا ، ولكن الله عاد بعائدته ورحمته ، وكرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة ، أو ما شاء الله من ذلك.
وقول قتادة لطيف المعنى جدا ، وحاصله أنه يقول في معناه : أنه تعالى من لطفه ورحمته بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير والذكر (2) الحكيم - وهو القرآن - وإن كانوا مسرفين معرضين عنه ، بل أمر (3) به ليهتدي من قَدّر هدايته ، وتقوم الحجة على من كتب شقاوته.
ثم قال تعالى - مسليا لنبيه في تكذيب من كذبه من قومه ، وآمرا له بالصبر عليهم - : { وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأوَّلِينَ } أي : في شيع الأولين ، { وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي : يكذبونه ويسخرون به.
وقوله : { فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا } أي : فأهلكنا المكذبين بالرسل ، وقد كانوا أشد بطشا من هؤلاء المكذبين لك يا محمد. كقوله : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً } [غافر : 82] والآيات في ذلك كثيرة.
وقوله : { وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ } قال مجاهد : سنتهم. وقال قتادة : عقوبتهم. وقال غيرهما : عبرتهم ، أي : جعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين أن يصيبهم ما أصابهم ، كقوله في آخر هذه السورة : { فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ } [الزخرف : 56]. وكقوله : { سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ } [غافر : 85] وقال : { وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا } [الأحزاب : 62].
{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) }
__________
(1) في ت : "أول".
(2) في ت ، م ، أ : "إلى الخير وإلى الذكر".
(3) في ت ، م : "يأمر".

(7/219)


وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)

{ وَالَّذِي نزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) }
يقول تعالى : ولئن سألت - يا محمد - هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره : { مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ } أي : ليعترفن بأن الخالق لذلك هو الله [تعالى] (1) وحده لا شريك له ، وهم مع هذا يعبدون معه غيره من الأصنام والأنداد.
ثم قال : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا } أي : فراشًا قرارًا ثابتة ، يسيرون عليها ويقومون وينامون وينصرفون ، مع أنها مخلوقة على تيار الماء ، لكنه أرساها بالجبال لئلا تميد هكذا ولا هكذا ، { وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا } أي : طرقا بين الجبال والأودية { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي : في سيركم من بلد إلى بلد ،
__________
(1) زيادة من أ.

(7/219)


وقطر إلى قطر ، وإقليم إلى إقليم.
{ وَالَّذِي نزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ } أي : بحسب الكفاية لزروعكم (1) وثماركم وشربكم ، لأنفسكم ولأنعامكم. وقوله : { فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا } أي : أرضا ميتة ، فلما جاءها الماء اهتزت وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج.
ثم نبه بإحياء الأرض على إحياء الأجساد يوم المعاد بعد موتها ، فقال : { كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ }
ثم قال : { وَالَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا } أي : مما تنبت الأرض من سائر الأصناف ، من نبات وزروع وثمار وأزاهير ، وغير ذلك [أي] (2) من الحيوانات على اختلاف أجناسها وأصنافها ، { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ } أي : السفن { وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ } أي : ذللها لكم وسخرها ويسرها لأكلكم لحومها ، وشربكم ألبانها وركوبكم ظهورها ؛ ولهذا قال : { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } (3) أي : لتستووا (4) متمكنين مرتفقين { عَلَى ظُهُورِهِ } أي : على ظهور هذا الجنس ، { ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ } أي : فيما سخر لكم { إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } أي : مقاومين. ولولا تسخير (5) الله لنا هذا ما قدرنا عليه.
قال ابن عباس (6) ، وقتادة ، والسدي وابن زيد : { مقرنين } أي : مطيقين. (7)
{ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } أي : لصائرون إليه بعد مماتنا ، وإليه سيرنا الأكبر. وهذا من باب التنبيه بسير الدنيا على سير الآخرة ، كما نبه بالزاد الدنيوي على [الزاد] (8) الأخروي في قوله : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } [البقرة : 197] وباللباس الدنيوي على الأخروي في قوله تعالى : { وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ] } [الأعراف : 26].
ذكر الأحاديث الواردة عند ركوب الدابة :
حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه :
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا شريك بن عبد الله ، عن أبي إسحاق ، عن علي بن ربيعة قال : رأيت عليا ، رضي الله عنه ، أتى (9) بدابة ، فلما وضع رجله في الرِّكاب قال : باسم الله. فلما استوى عليها قال : الحمد لله ، { سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } ثم حمد الله ثلاثا ، وكبر ثلاثا ، ثم قال : سبحانك ، لا إله إلا أنت ، قد ظلمت نفسي فاغفر لي. ثم ضحك فقلت له : من أي شيء ضحكت (10) يا أمير المؤمنين ؟ فقال : رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت (11) ، ثم ضحك. فقلت : مم ضحكت يا رسول الله ؟ فقال : "يعجب الرب (12) من عبده إذا قال : رب اغفر لي. ويقول : علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري".
__________
(1) في ت ، م : "لزرعكم".
(2) زيادة من ت.
(3) في ت : "ظهره".
(4) في أ : "لتستقروا".
(5) في م : "ولولا ما يسخر".
(6) في أ : "عياض".
(7) في أ : "مطيعين".
(8) زيادة من ت ، م ، أ.
(9) في ت : "أنه أتى".
(10) في ت ، م : "مم ضحكت".
(11) في ت ، م ، أ : "فعل مثل ما فعلت".
(12) في ت ، م : "الرب عز وجل".

(7/220)


وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، من حديث أبي الأحوص - زاد النسائي : ومنصور - عن أبي إسحاق السَّبِيعي ، عن علي بن ربيعة الأسدي الوالبي ، به (1) (2). وقال الترمذي : حسن صحيح.
وقد قال عبد الرحمن بن مَهْدِيّ ، عن شعبة : قلت لأبي إسحاق السَّبِيعي : ممن سمعت هذا الحديث ؟ قال : من يونس بن خباب. فلقيت يونس بن خباب فقلت : ممن سمعته ؟ فقال : من رجل سمعه من علي بن ربيعة. ورواه بعضهم عن يونس بن خباب ، عن شقيق بن عقبة الأسدي ، عن علي بن ربيعة الوالبي ، به. (3)
حديث عبد الله بن عباس ، رضي الله عنهما :
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا أبو بكر بن عبد الله ، عن علي بن أبي طلحة ، عن عبد الله بن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أردفه على دابته ، فلما استوى عليها كبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا ، وحمد (4) ثلاثا ، وهلل الله واحدة. ثم استلقى عليه فضحك ، ثم أقبل عليه فقال : "ما من امرئ مسلم يركب دابة فيصنع كما صنعت ، إلا أقبل الله ، عز وجل ، عليه ، فضحك إليه كما ضحكت إليك". تفرد به أحمد. (5)
حديث عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما :
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو كامل حدثنا حماد بن سلمة ، عن أبي الزبير ، عن علي بن عبد الله البارقي ، عن عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركب راحلته كبر ثلاثا ، ثم قال : { سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ }. ثم يقول : "اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى ، ومن العمل ما ترضى. اللهم ، هون علينا السفر واطو لنا البعيد. اللهم ، أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل. اللهم ، اصحبنا في سفرنا ، واخلفنا في أهلنا". وكان إذا رجع إلى أهله قال : "آيبون تائبون إن شاء الله ، عابدون ، لربنا حامدون".
وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي ، من حديث ابن جريج ، والترمذي من حديث حماد بن سلمة ، كلاهما عن أبي الزبير ، به. (6)
حديث آخر :
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم ، عن
__________
(1) في ت : "رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي".
(2) المسند (1/97) وسنن أبي داود برقم (2602) وسنن الترمذي برقم (3446) والنسائي في السنن الكبري برقم (8800).
(3) تحفة الأشراف للمزي (7/436).
(4) في ت ، أ : "وحمد الله ثلاثا".
(5) المسند (2/330) قال الهيثمي في المجمع (10/131) : "فيه أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف".
(6) المسند (2/144) وصحيح مسلم برقم (1342) وسنن أبي داود برقم (2599) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10382) وسنن الترمذي برقم (3447).

(7/221)


وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)

عمرو بن الحكم بن ثوبان (1) ، عن أبي لاس الخزاعي قال : حملنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبل من إبل الصدقة إلى الحج. فقلنا : يا رسول الله ، ما نرى (2) أن تحملنا هذه! فقال : "ما من بعير إلا في ذروته شيطان ، فاذكروا اسم الله عليها إذا ركبتموها كما آمركم (3) ، ثم امتهنوها لأنفسكم ، فإنما يحمل الله عز وجل". (4)
أبو لاس اسمه : محمد بن الأسود بن خَلَف.
حديث آخر في معناه :
قال أحمد : حدثنا عَتَّاب ، أخبرنا عبد الله(ح) وعلي بن إسحاق ، أخبرنا عبد الله - يعني ابن المبارك - أخبرنا أسامة بن زيد ، أخبرني محمد بن حمزة ؛ أنه سمع أباه يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "على ظهر كل بعير شيطان ، فإن ركبتموها فسموا الله ، عز وجل ، ثم لا تقصروا عن حاجاتكم". (5)
{ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ (20) }
يقول تعالى مخبرا عن المشركين فيما افتروه وكذبوه في جعلهم بعض الأنعام لطواغيتهم وبعضها لله ، كما ذكر الله عنهم في سورة "الأنعام" ، في قوله : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } [الأنعام : 136]. وكذلك جعلوا له من قسمي (6) البنات والبنين أخسَّهما وأردأهما وهو البنات ، كما قال تعالى : { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى. تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى } [النجم : 21 ، 22]. وقال هاهنا : { وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ }
ثم قال : { أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ } وهذا إنكار عليهم غاية الإنكار. ثم ذكر تمام الإنكار فقال : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ } أي : إذا بشر أحد هؤلاء بما جعلوه لله من البنات يأنف من ذلك غاية الأنفة ، وتعلوه كآبة من سوء ما بشر به ،
__________
(1) في ت : "رواه الإمام أحمد بسنده".
(2) في م : "ما ترى".
(3) في ت : "أمرتم".
(4) المسند (4/221) ورجاله ثقات.
(5) المسند (3/494) وقال الهيثمي في المجمع (10/131) : "رجاله رجال الصحيح غير محمد بن حمزة وهو ثقة".
(6) في ت : "من كل قسم".

(7/222)


ويتوارى من القوم من خجله من ذلك ، يقول تعالى : فكيف تأنفون أنتم من ذلك ، وتنسبونه إلى الله عز وجل ؟.
ثم قال : { أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } أي : المرأة ناقصة يكمل نقصها بلبس الحلي منذ تكون طفلة ، وإذا خاصمت فلا عبارة لها ، بل هي عاجزة عَيِيَّة ، أوَ مَنْ يكون هكذا ينسب إلى جناب الله عز وجل (1) ؟! فالأنثى ناقصة الظاهر والباطن ، في الصورة والمعنى ، فيكمل نقص ظاهرها وصورتها بلبس الحلي وما في معناه ، ليجبر ما فيها من نقص ، كما قال بعض شعراء العرب :
وَمَا الحَلْي إلا زينَةٌ من نقيصةٍ... يتمّمُ من حُسْن إذا الحُسْن قَصَّرا...
وأمَّا إذَا كان الجمالُ موفَّرا... كحُسْنك ، لم يَحْتَجْ إلى أن يزَوَّرا...
وأما نقص معناها ، فإنها ضعيفة عاجزة عن الانتصار عند الانتصار ، لا عبارة لها ولا همة ، كما قال بعض العرب وقد بشر ببنت : "ما هي بنعم الولد : نصرها بالبكاء ، وبرها سرقة".
وقوله : { وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا } أي : اعتقدوا فيهم ذلك ، فأنكر عليهم تعالى قولهم ذلك ، فقال : { أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ } أي : شاهدوه وقد خلقهم الله إناثا ، { سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ } أي : بذلك ، { ويسألون } عن ذلك يوم القيامة. وهذا تهديد شديد ، ووعيد أكيد.
{ وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } أي : لو أراد الله لحال بيننا وبين عبادة هذه الأصنام ، التي هي على صور (2) الملائكة التي هي بنات الله ، فإنه عالم بذلك وهو يقررنا عليه ، فجمعوا بين أنواع كثيرة من الخطأ :
أحدها : جَعْلُهم لله ولدا ، تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوا كبيرا.
الثاني : دعواهم أنه اصطفى البنات على البنين ، فجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا.
الثالث : عبادتهم لهم مع ذلك كله ، بلا دليل ولا برهان ، ولا إذن من الله عز وجل ، بل بمجرد الآراء والأهواء ، والتقليد للأسلاف والكبراء والآباء ، والخبط في الجاهلية الجهلاء.
الرابع : احتجاجهم بتقديرهم على ذلك قَدَرا [والحجة إنما تكون بالشرع] (3) ، وقد جهلوا في هذا الاحتجاج جهلا كبيرًا ، فإنه تعالى قد أنكر ذلك عليهم أشد الإنكار ، فإنه منذ بعث الرسل وأنزل الكتب يأمر بعبادته وحده لا شريك له ، وينهى عن عبادة ما سواه ، قال [تعالى] (4) ، { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [النحل : 36] ، وقال تعالى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [الزخرف : 45].
__________
(1) في ت : "الله تعالى" ، وفي م ، أ : "الله العظيم".
(2) في أ : "صورة".
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.

(7/223)


أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)

وقال في هذه الآية - بعد أن ذكر حجتهم هذه - : { مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ } أي : بصحة ما قالوه واحتجوا به { إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ } أي : يكذبون ويتقولون.
وقال مجاهد في قوله : { مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ } أي (1) ما يعلمون قدرة الله على ذلك.
{ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) }
__________
(1) في ت ، م : "يعني".

(7/224)


وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)

{ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) }
يقول تعالى منكرا على المشركين في عبادتهم غير الله بلا برهان ولا دليل ولا حجة : { أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ } أي : من قبل شركهم ، { فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ } أي : فيما هم فيه ، أي : ليس الأمر كذلك ، كقوله : { أَمْ أَنزلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ } [الروم : 35] أي : لم يكن ذلك.
ثم قال : { بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ } أي : ليس لهم مستند (1) فيما هم فيه من الشرك سوى تقليد الآباء والأجداد ، بأنهم كانوا على أمة ، والمراد بها الدين هاهنا ، وفي قوله : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } [الأنبياء : 92].
وقولهم : { وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ } أي : ورائهم { مهتدون } ، دعوى منهم بلا دليل.
ثم بين تعالى أن مقالة هؤلاء قد سبقهم إليها أشباههم ونظراؤهم من الأمم السالفة المكذبة للرسل ، تشابهت قلوبهم ، فقالوا مثل مقالتهم : { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } [الذاريات : 52 ، 53] ، وهكذا قال هاهنا : { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ }
ثم قال تعالى : { قل } أي : يا محمد لهؤلاء المشركين : { أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } أي : ولو علموا وتيقنوا صحة ما جئتهم به ، لما انقادوا لذلك بسوء قصدهم ومكابرتهم للحق وأهله.
قال الله تعالى : { فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } أي : من الأمم المكذبة بأنواع من العذاب ، كما فصله تعالى في قصصهم ، { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } ؟ أي : كيف بادوا وهلكوا ، وكيف نجى الله المؤمنين ؟.
__________
(1) في أ : "سند".

(7/224)


وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) }

(7/225)


وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)

{ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) }
يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء ، ووالد من بعث بعده من الأنبياء ، الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها : أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان ، فقال : { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ. وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } أي : هذه الكلمة ، وهي عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ، وخلع ما سواه من الأوثان ، وهي "لا إله إلا الله" أي : جعلها دائمة في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم ، عليه السلام ، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي : إليها.
وقال عكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وغيرهم (1) في قوله تعالى : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } يعني : لا إله إلا الله ، لا يزال في ذريته من يقولها. ورُوي نحوه عن ابن عباس.
وقال ابن زيد : كلمة الإسلام. وهو يرجع إلى ما قاله الجماعة.
ثم قال تعالى : { بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ } يعني : المشركين ، { وآباءهم } أي : فتطاول عليهم العمر في ضلالهم (2) ، { حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ } أي : بين الرسالة والنذارة.
{ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ } أي : كابروه وعاندوه ودفعوا (3) بالصدور والراح كفرا وحسدا وبغيا ، { وقالوا } [أي] (4) كالمعترضين على الذي أنزله تعالى وتقدس : { لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } أي : هلا كان إنزال هذا القرآن على رجل عظيم كبير في أعينهم من القريتين ؟ يعنون مكة والطائف. قاله ابن عباس ، وعكرمة ، ومحمد بن كعب القرظي ، وقتادة والسدي ، وابن زيد.
__________
(1) في ت : "وغيرهما".
(2) في م : "ضلالتهم".
(3) في أ : "ودفعوه".
(4) زيادة من ت ، م.

(7/225)


وقد ذكر غير واحد منهم (1) : أنهم أرادوا بذلك الوليد بن المغيرة ، وعروة بن مسعود الثقفي.
وقال مالك عن زيد بن أسلم ، والضحاك ، والسدي : يعنون الوليد بن المغيرة ، ومسعود بن عمرو الثقفي.
وعن مجاهد : عمير بن عمرو بن مسعود الثقفي. وعنه أيضا : أنهم يعنون الوليد بن المغيرة ، وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفي.
وعن مجاهد : يعنون عتبة بن ربيعة بمكة ، وابن عبد يا ليل بالطائف.
وقال السدي : عنوا [بذلك] (2) الوليد بن المغيرة ، وكنانة بن عمرو بن عمير الثقفي.
والظاهر : أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان.
قال الله تعالى رادا عليهم في هذا الاعتراض : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } ؟ أي : ليس الأمر مردودا إليهم ، بل إلى الله ، عز وجل ، والله أعلم حيث يجعل رسالاته ، فإنه لا ينزلها إلا على أزكى الخلق قلبا ونفسا ، وأشرفهم بيتا وأطهرهم أصلا.
ثم قال تعالى مبينا أنه قد فاوت بين خلقه فيما أعطاهم من الأموال والأرزاق والعقول والفهوم ، وغير ذلك من القوى الظاهرة والباطنة ، فقال : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ }
وقوله : { لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا } قيل : معناه ليسخر (3) بعضهم بعضا في الأعمال ، لاحتياج هذا إلى هذا ، وهذا إلى هذا ، قاله السدي وغيره.
وقال قتادة والضحاك : ليملك بعضهم بعضا. وهو (4) راجع إلى الأول.
ثم قال : { وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } أي : رحمة الله بخلقه خير لهم مما بأيديهم من الأموال ومتاع الحياة الدنيا.
ثم قال تعالى : { وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي : لولا أن يعتقد كثير من الناس الجهلة أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه ، فيجتمعوا على الكفر لأجل المال - هذا معنى قول ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، وغيرهم - { لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ [عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ] } (5) أي : سلالم ودرجا من فضة - قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي : وابن زيد ، وغيرهم - { عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } ، أي : يصعدون.
{ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا } (6) أي : أغلاقا على أبوابهم { وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ } ، أي : جميع ذلك يكون فضة ، { وزخرفا } ، أي : وذهبا. قاله ابن عباس ، وقتادة ، والسدي ، وابن زيد. (7)
__________
(1) في م ، أ : "منهم وقتادة".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : "لتسخير".
(4) في ت ، أ : "وهذا".
(5) زيادة من ت.
(6) في ت : (أبوابا وسررا).
(7) في ت : "ابن عباس وغيرهم".

(7/226)


ثم قال : { وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : إنما ذلك من الدنيا الفانية الزائلة الحقيرة عند الله [تعالى] (1) أي : يعجل (2) لهم بحسناتهم التي يعملونها في الدنيا مآكل ومشارب ، ليوافوا الآخرة وليس لهم عند الله حسنة يجزيهم بها ، كما ورد به الحديث الصحيح (3). [وقد] (4) ورد في حديث آخر : "لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ، ما سقى منها كافرا شربة ماء" ، أسنده البغوي من رواية زكريا بن منظور ، عن أبى حازم ، عن سهل بن سعد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره (5) ورواه الطبراني من طريق زمعة بن صالح ، عن أبي حازم عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم : "لو عدلت الدنيا جناح بعوضة ، ما أعطى كافرا منها شيئا". (6)
ثم قال : { وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } أي : هي لهم خاصة لا يشاركهم : فيها [أحد] (7) غيرهم ولهذا لما قال عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين صعد إليه في تلك المشربه لما آلى من نسائه ، فرآه [عمر] (8) على رمال حصير قد أثر بجنبه (9) فابتدرت عيناه بالبكاء وقال : يا رسول الله هذا كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت صفوة الله من خلقه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس وقال : "أوَ في (10) شك أنت يا ابن الخطاب ؟" ثم قال : "أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا" وفي رواية : "أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟" (11)
وفي الصحيحين أيضا وغيرهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ، ولا تأكلوا في صحافها ، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة". وإنما خولهم الله تعالى في الدنيا لحقارتها ، كما روى الترمذي وابن ماجه ، من طريق أبي حازم ، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ، ما سقى منها كافرا شربة ماء أبدا" ، قال الترمذي : حسن صحيح (12).
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت : "يجعل".
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (2808) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(4) زيادة من م.
(5) معالم التنزيل للبغوي (7/213).
(6) المعجم الكبير (6/178) وفي إسناده زمعة بن صالح وهو ضعيف.
(7) زيادة من أ.
(8) زيادة من أ.
(9) في ت ، م ، أ : "بجلده".
(10) في ت : "أفي".
(11) انظر تخريج هذا الحديث عند تفسير الآية : 131 من سورة طه.
(12) سنن الترمذي برقم (2320) وسنن ابن ماجه برقم (4110).

(7/227)


وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)

{ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) }
يقول تعالى : { وَمَنْ يَعْشُ } أي : يتعامى ويتغافل ويعرض ، { عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ } والعشا في العين : ضعف بصرها. والمراد هاهنا : عشا البصيرة ، { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } كقوله : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } [النساء : 115] ، وكقوله : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [الصف : 5] ، وكقوله : { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } [فصلت : 25] ؛ ولهذا قال هاهنا : { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ. حَتَّى إِذَا جَاءَنَا } أي : هذا الذي تغافل عن الهدى نقيض له من الشياطين من يضله ، ويهديه إلى صراط الجحيم. فإذا وافى الله يوم القيامة يتبرم بالشيطان الذي وكل به ، { قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ } [أي : فبئس القرين كنت لي في الدنيا] (1) وقرأ بعضهم : "حتى إذا جاءانا" يعني : القرين والمقارن.
قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن سعيد الجُرَيري قال : بلغنا أن الكافر إذا بعث من قبره يوم القيامة سَفَع بيده شيطان فلم يفارقه ، حتى يصيرهما الله تعالى إلى النار ، فذلك حين يقول : { يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ } (2)
والمراد بالمشرقين هنا (3) هو ما بين المشرق والمغرب. وإنما استعمل هاهنا تغليبا ، كما يقال (4) القمران ، والعمران ، والأبوان ، [والعسران] (5). قاله ابن جرير وغيره.
[ولما كان الاشتراك في المصيبة في الدنيا يحصل به تسلية لمن شاركه في مصيبته ، كما قالت الخنساء تبكي أخاها :
ولَوْلا كثرةُ الباكين حَوْلي... عَلَى قَتْلاهم لقتلتُ نَفْسي...
وما يَبْكُون مثلَ أخي ولكن... أُسَلِّي النفسَ عنه بالتأسِّي...
قطع الله بذلك بين أهل النار ، فلا يحصل لهم بذلك تأسي وتسلية ولا تخفيف]. (6)
ثم قال تعالى : { وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } أي : لا يغني عنكم اجتماعكم في النار واشتراككم في العذاب الأليم.
وقوله : { أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي : ليس ذلك إليك ، إنما عليك البلاغ ، وليس عليك هداهم ، ولكن الله يهدي من يشاء ، ويضل من يشاء ، وهو الحكم العدل (7) في ذلك.
__________
(1) زيادة من ت.
(2) تفسير عبد الرزاق (2/161).
(3) في ت ، م ، أ : "هاهنا".
(4) في ت ، م : "قيل".
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من ت ، أ.
(7) في ت ، م ، أ : "الحاكم العادل".

(7/228)


ثم قال : { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ } أي : لا بد أن ننتقم منهم ونعاقبهم ، ولو ذهبت أنت ، { أَوْ (1) نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ } أي : نحن قادرون على هذا وعلى هذا. ولم يقبض الله رسوله حتى أقر عينه من أعدائه ، وحكمه في نواصيهم ، وملكه ما تضمنته صياصيهم. هذا معنى قول السدي ، واختاره ابن جرير.
وقال ابن جرير (2) حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن (3) ثور ، عن معمر قال : تلا قتادة : { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ } فقال : ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقيت النقمة ، ولم يُرِ الله (4) نبيه صلى الله عليه وسلم في أمته شيئا يكرهه ، حتى مضى (5) ، ولم يكن نبي قط إلا ورأى (6) العقوبة في أمته ، إلا نبيكم صلى الله عليه وسلم. قال : وذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرِيَ ما يصيب أمته من بعده ، فما رُئِي ضاحكا منبسطا حتى قبضه الله عز وجل. (7)
وذكر من رواية سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة نحوه. ثم روى ابن جرير عن الحسن نحو ذلك أيضا.
وفي الحديث : "النجوم أمنة للسماء ، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما تُوعَدُ ، وأنا أمَنَة لأصحابي ، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون". (8)
ثم قال تعالى : { فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي : خذ بالقرآن المنزل على قلبك ، فإنه هو الحق ، وما يهدي إليه هو الحق المفضي إلى صراط الله المستقيم ، الموصل إلى جنات النعيم ، والخير الدائم المقيم.
ثم قال : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ } قيل : معناه لشرف (9) لك ولقومك ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، وابن زيد. واختاره ابن جرير ، ولم يحك سواه.
وأورد البغوي هاهنا حديث الزهري ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن معاوية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن هذا الأمر في قريش لا ينازعهم فيه أحد إلا أكَبَّه الله على وجهه ما أقاموا الدين". رواه البخاري. (10)
و[قيل] (11) معناه : أنه شرف لهم من حيث إنه أنزل بلغتهم ، فهم أفهم الناس له ، فينبغي أن يكونوا أقوم الناس به وأعملهم بمقتضاه ، وهكذا كان خيارهم وصفوتهم من الخُلَّص من المهاجرين السابقين الأولين ، ومن شابههم وتابعهم.
وقيل : معناه : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ } أي : لتذكير لك ولقومك ، وتخصيصهم بالذكر لا ينفي من سواهم ، كقوله : { لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ } [الأنبياء : 10] ، وكقوله : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } [الشعراء : 214].
__________
(1) في ت ، أ : "وإما" وهو خطأ.
(2) في ت : "وروى هو قال".
(3) في ت : "أبو".
(4) في أ : "الله تعالى".
(5) في ت ، م : "قبض".
(6) في ت ، م ، أ : "إلا وقد رأى".
(7) تفسير الطبري (25/45).
(8) رواه مسلم في صحيحه برقم (2531) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(9) في م : "الشرف".
(10) معالم التنزيل للبغوي (7/215) وصحيح البخاري برقم (3500).
(11) زيادة من ت ، م.

(7/229)


وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47)

{ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } أي : عن هذا القرآن وكيف كنتم في العمل به والاستجابة له.
وقوله : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } ؟ أي : جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه من عبادة الله وحده لا شريك له ، ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد ، كقوله : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [النحل : 36]. قال مجاهد : في قراءة عبد الله بن مسعود : "واسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا". وهكذا حكاه قتادة والضحاك والسدي ، عن ابن مسعود. وهذا كأنه تفسير لا تلاوة ، والله أعلم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : واسألهم ليلة الإسراء ، فإن الأنبياء جُمِعوا له. واختار ابن جرير الأول ، [والله أعلم] (1).
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) }
__________
(1) زيادة من أ.

(7/230)


وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)

{ وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) }
يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله موسى ، عليه السلام ، أنه ابتعثه إلى فرعون وملئه من الأمراء والوزراء والقادة ، والأتباع والرعايا ، من القبط وبني إسرائيل ، يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وينهاهم عن عبادة ما سواه ، وأنه بعث معه آيات عظاما ، كيده وعصاه ، وما أرسل معه من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، ومن نقص الزروع والأنفس والثمرات ، ومع هذا كله استكبروا عن اتباعها والانقياد لها ، وكذبوها وسخروا منها ، وضحكوا ممن جاءهم بها. { وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } ومع هذا ما رجعوا عن غيهم وضلالهم ، وجهلهم وخبالهم. وكلما جاءتهم آية من هذه الآيات يضرعون إلى موسى ، عليه السلام ، ويتلطفون له في العبارة بقولهم : { يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ } أي : العالم ، قاله ابن جرير. وكان علماء زمانهم هم السحرة. ولم يكن السحر عندهم في زمانهم مذموما ، فليس هذا منهم على سبيل الانتقاص منهم ؛ لأن الحال حال ضرورة منهم إليه لا تناسب ذلك ، وإنما هو تعظيم في زعمهم ، ففي كل مرة يَعِدُون موسى [عليه السلام] (1) إن كشف عنهم هذا أن يؤمنوا ويرسلوا معه بني إسرائيل. وفي كل مرة ينكثون ما عاهدوا عليه ، وهذا كقوله [تعالى] (2) { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ. وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى (3) ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ } [الأعراف : 133 - 135].
__________
(1) زيادة من ت.
(2) زيادة من ت.
(3) في ت ، م : "يا أيها الساحر" وهو خطأ.

(7/230)


وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ (56)

{ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ (56) }.
يقول تعالى مخبرا عن فرعون وتمرده وعتوه وكفره وعناده : أنه جمع قومه ، فنادى فيهم متبجحا مفتخرا بملك مصر وتصرفه فيها : { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي } ، قال قتادة قد كانت لهم جنان وأنهار ماء ، { أَفَلا تُبْصِرُونَ } ؟ أي : أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة والملك ، يعني : وموسى وأتباعه (1) فقراء ضعفاء. وهذا كقوله تعالى : { فَحَشَرَ فَنَادَى. فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى. فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى } [النازعات : 23 - 25].
وقوله : { أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ } قال السدي : يقول : بل أنا خير من هذا الذي هو مهين. وهكذا قال بعض نحاة البصرة : إن "أم" هاهنا بمعنى "بل". ويؤيد هذا ما حكاه الفراء عن بعض القراء أنه قرأها : "أما أنا خير من هذا الذي هو مهين". قال ابن جرير : ولو صحت هذه القراءة لكان معناها صحيحا واضحا ، ولكنها خلاف قراءة الأمصار ، فإنهم قرؤوا : { أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ } ؟ على الاستفهام.
قلت : وعلى كل تقدير فإنما يعني فرعون - عليه اللعنة (2) - أنه خير من موسى ، عليه السلام ، وقد كذب في قوله هذا كذبا بينا واضحا ، فعليه لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.
ويعني بقوله : { مهين } كما قال سفيان : حقير. وقال قتادة والسدي : يعني : ضعيف. وقال ابن جرير : يعني : لا ملك له ولا سلطان ولا مال.
{ وَلا يَكَادُ يُبِينُ } يعني : لا يكاد يفصح عن كلامه (3) ، فهو عيي حصر. (4)
قال السدي : { وَلا يَكَادُ يُبِينُ } أي : لا يكاد يفهم. وقال قتادة ، والسدي ، وابن جرير : يعني عيي اللسان. وقال سفيان : يعني في لسانه شيء من الجمرة حين (5) وضعها في فيه وهو صغير.
وهذا الذي قاله فرعون - لعنه الله - كذب واختلاق ، وإنما حمله على هذا الكفر والعناد ، وهو ينظر إلى موسى ، عليه السلام ، بعين كافرة شقية ، وقد كان موسى (6) ، عليه السلام ، من الجلالة والعظمة والبهاء في صورة يبهر (7) أبصار ذوي [الأبصار و] (8) الألباب. وقوله : { مهين } كذب ، بل هو المهين الحقير خِلْقةً وخلقا ودينا. وموسى [عليه السلام] (9) هو الشريف الرئيس الصادق البار
__________
(1) في أ : "ومن معه".
(2) في ت ، م ، أ : "لعنة الله".
(3) في ت : "بكلامه".
(4) في ت ، أ : "حصير".
(5) في ت : "التي".
(6) في ت : "الموسى".
(7) في ت ، م : "تبهر".
(8) زيادة من ت.
(9) زيادة من ت ، م.

(7/231)


الراشد (1). وقوله : { وَلا يَكَادُ يُبِينُ } افتراء أيضا ، فإنه وإن كان قد أصاب لسانه في حال صغره شيء من جهة تلك الجمرة ، فقد سأل الله ، عز وجل ، أن يحل عقدة من لسانه ليفقهوا قوله ، وقد استجاب الله (2) له في [ذلك في] (3) قوله : { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى } [طه : 26] ، وبتقدير أن يكون قد بقى شيء لم يسأل إزالته ، كما قاله الحسن البصري ، وإنما سأل زوال ما يحصل معه الإبلاغ والإفهام ، فالأشياء الخلقية (4) التي ليست من فعل العبد لا يعاب بها ولا يذم عليها ، وفرعون وإن كان يفهم وله عقل فهو يدري هذا ، وإنما أراد الترويج على رعيته ، فإنهم كانوا جهلة أغبياء ، وهكذا كقوله : { فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ (5) مِنْ ذَهَبٍ } أي : وهي ما يجعل في الأيدي من الحلي ، قاله ابن عباس وقتادة وغير واحد ، { أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } أي : يكتنفونه خدمة له ويشهدون بتصديقه ، نظر (6) إلى الشكل الظاهر ، ولم يفهم السر المعنوي الذي هو أظهر مما نظر إليه ، لو كان يعلم ؛ ولهذا قال تعالى : { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ } أي : استخف عقولهم ، فدعاهم إلى الضلالة فاستجابوا له ، { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ }.
قال الله تعالى : { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } ، قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { آسفونا } أسخطونا.
وقال الضحاك ، عنه : أغضبونا. وهكذا قال ابن عباس أيضا ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن كعب القرظي ، وقتادة ، والسدي ، وغيرهم (7) من المفسرين.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبيد الله (8) ابن أخي ابن وهب ، حدثنا عمي ، حدثنا ابن لهيعة ، عن عقبة بن مسلم التجيبي (9) عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد ما شاء ، وهو مقيم على معاصيه ، فإنما ذلك استدراج منه له" ثم تلا { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } (10).
وحدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحِمَّاني ، حدثنا قيس بن الربيع ، عن قيس بن مسلم (11) ، عن طارق بن شهاب قال : كنت عند عبد الله فذكر عنده موت الفجأة ، فقال : تخفيف على المؤمن ، وحسرة على الكافر. ثم قرأ : { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ }.
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : وجدت النقمة مع الغفلة ، يعني قوله : { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ }.
وقوله : { فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ } : قال أبو مجلز : { سَلَفًا } لمثل من عمل بعملهم.
__________
(1) في ت : "الرشيد".
(2) في ت : "استجاب الله دعاءه له".
(3) زيادة من ت ، م.
(4) في ت : "الخلقية" ، وفي م : "الخلقة".
(5) في أ : "أسورة".
(6) في ت ، أ : "نظرا".
(7) في ت : "غير واحد".
(8) في أ : "عبد الله".
(9) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
(10) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (4926) "مجمع البحرين" ، والبيهقي في شعب الإيمان برقم (4540) من طريق عبد الله ابن صالح عن حرملة بن عمران به ، ورواه أحمد في مسنده (4/145) عن رشدين بن سعد ، والدولابي في الكنى (1/111) عن حجاج بن سليمان كلاهما عن حرملة بن عمران به ، وقد حسنه الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء.
(11) في ت : "وروى أيضا".

(7/232)


وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59)

وقال هو ومجاهد : { ومثلا } أي : عبرة لمن بعدهم.
{ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) }.
يقول تعالى مخبرا عن تعنت قريش في كفرهم وتعمدهم العناد والجدل : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } قال غير واحد ، عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، والسدي : يضحكون (1) ، أي : أعجبوا بذلك.
وقال قتادة : يجزعون ويضحكون. وقال إبراهيم النخعي : يعرضون.
وكان السبب في ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق في السيرة حيث قال : وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد ، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم ، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش ، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرض له النضر بن الحارث ، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ، ثم تلا عليه وعليهم : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } الآيات [الأنبياء : 98]. ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل عبد الله بن الزّبعَرى التميمي (2) حتى جلس ، فقال الوليد بن المغيرة له : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب وما قعد ، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم ، فقال عبد الله بن الزبعرى : أما والله لو وجدته لَخَصَمْتُه ، سلوا (3) محمدا : أكلّ ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده ، فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيرا ، والنصارى تعبد المسيح [عيسى] (4) ابن مريم ؟ فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعرى ، ورأوا أنه قد احتج وخاصم ، فذُكِر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "كل من أحب أن يعبد من دون الله ، فهو مع من عبده ، فإنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته" فأنزل الله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } [الأنبياء : 101] أي : عيسى وعزير ومن عبد (5) معهما من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله ، عز وجل ، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله. ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنهم بنات الله : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ } الآيات [الأنبياء : 26] ، ونزل
__________
(1) في ت ، أ : "وعكرمة وغيرهم يعني يعجبون".
(2) في ت ، م ، أ : "السهمي".
(3) في ت ، م : "فسلوا".
(4) زيادة من ت ، م ، أ.
(5) في ت ، م : "عبدوا".

(7/233)


فيما يذكر من أمر عيسى وأنه يعبد من دون الله. وعجب (1) الوليد ومن حضره من حجته وخصومته : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } أي : يصدون عن أمرك بذلك من قوله. ثم ذكر عيسى فقال : { إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ. وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ } أي : ما وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى وإبراء الأسقام ، فكفى به دليلا على علم الساعة ، يقول : { فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } (2).
وذكر ابن جرير من رواية العَوفي ، عن ابن عباس قوله : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } قال : يعني قريشا ، لما قيل لهم : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [الأنبياء : 98] إلى آخر الآيات ، فقالت له قريش : فما ابن مريم ؟ قال : "ذاك عبد الله ورسوله". فقالوا : والله ما يريد هذا إلا أن نتخذه ربا ، كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم ربا ، فقال الله تعالى (3) { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ }.
وقال (4) الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا شيبان ، عن عاصم بن أبي النَّجُود ، عن أبي رَزِين ، عن أبي يحيى - مولى ابن عقيل الأنصاري - قال : قال ابن عباس : لقد علمت آية من القرآن ما سألني عنها رجل قط ، فما أدري أعلمها الناس فلم يسألوا عنها ، أم لم يفطنوا لها فيسألوا عنها. قال : ثم طفق يحدثنا ، فلما قام تلاومنا ألا نكون سألناه عنها. فقلت : أنا لها إذا راح غدا. فلما راح الغد قلت : يا ابن عباس ، ذكرت أمس أن آية من القرآن لم يسألك عنها رجل قط ، فلا تدري أعلمها الناس (5) أم لم يفطنوا لها ؟ فقلت : أخبرني عنها وعن اللاتي قرأت قبلها. قال : نعم ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش : "يا معشر قريش ، إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير" ، وقد علمت قريش أن النصارى تعبد عيسى ابن مريم ، وما تقول في محمد ، فقالوا : يا محمد ، ألست تزعم أن عيسى كان نبيا وعبدا من عباد الله صالحا ، فإن كنت صادقا كان (6) آلهتهم كما تقولون ؟ قال : فأنزل الله : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ }. قلت : ما يَصِدون ؟ قال : يضحكون ، { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ } قال : هو خروج عيسى ابن مريم قبل القيامة. (7)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن يعقوب الدمشقي ، حدثنا آدم ، حدثنا شيبان ، عن عاصم بن أبي النَّجُود ، عن أبي أحمد مولى الأنصار (8) ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا معشر قريش ، إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير". فقالوا له : ألست تزعم أن عيسى كان نبيا وعبدا من عباد الله صالحا ، فقد كان يُعبد من دون الله ؟ فأنزل الله عز وجل : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ }.
__________
(1) في أ : "وتعجب".
(2) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/358).
(3) في ت ، م : "عز وجل".
(4) في ت : "وروى".
(5) في أ : "أعلمها الناس فلم يسألوا عنها".
(6) في م ، أ : "فإن".
(7) المسند (1/318).
(8) في أ : "الأنصاريين".

(7/234)


(1)
وقال مجاهد في قوله : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } : قالت قريش : إنما يريد محمد أن نعبده كما عبد قوم عيسى عيسى. ونحو هذا قال قتادة.
وقوله : { وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } : قال قتادة : يقولون : آلهتنا خير منه. وقال قتادة : قرأ ابن مسعود : "وقالوا أآلهتنا خير أم هذا" ، يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم.
وقوله : { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا } أي : مراء ، وهم يعلمون أنه ليس بوارد على الآية ؛ لأنها لما لا يعقل ، وهي قوله : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [الأنبياء : 98]. ثم هي خطاب لقريش ، وهم إنما كانوا يعبدون الأصنام والأنداد ، ولم يكونوا يعبدون المسيح حتى يوردوه ، فتعين أن مقالتهم إنما كانت جدلا منهم ، ليسوا يعتقدون صحتها.
وقد قال (2) الإمام أحمد ، رحمه الله تعالى : حدثنا ابن نمير ، حدثنا حجاج بن دينار ، عن أبي غالب ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه ، إلا أورثوا الجدل" ، ثم تلا هذه الآية : { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ }.
وقد رواه الترمذي ، وابن ماجه ، وابن جرير ، من حديث حجاج بن دينار ، به (3). ثم قال الترمذي : حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديثه كذا قال.
وقد روي من وجه آخر عن أبي أمامة بزيادة فقال ابن أبي حاتم : حدثنا حميد بن عياش الرملي ، حدثنا مؤمَّل ، حدثنا حماد ، أخبرنا ابن مخزوم ، عن القاسم أبي عبد الرحمن الشامي ، عن أبي أمامة - قال حماد : لا أدري رفعه (4) أم لا ؟ - قال : ما ضلت أمة بعد نبيها إلا كان أول ضلالها التكذيب بالقدر ، وما ضلت أمة بعد نبيها إلا أعطوا الجدل ، ثم قرأ : { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } (5)
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا أبو كريب ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، عن عباد بن عباد ، عن جعفر ، عن القاسم (6) ، عن أبي أمامة قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يتنازعون في القرآن ، فغضب غضبا شديدا حتى كأنما صب على وجهه الخل ، ثم قال : "لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، فإنه ما ضل قوم قط إلا أوتوا (7) الجدل" ، ثم تلا { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ }
__________
(1) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (12/154).
(2) في ت : "روى".
(3) المسند (5/256) وسنن الترمذي برقم (3253) وسنن ابن ماجه برقم (48) وتفسير الطبري (25/53).
(4) في أ : "أرفعه".
(5) وفي إسناده القاسم بن عبد الرحمن الشامي ، ضعفه ابن حبان ، وقال : "كان يروى عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المعضلات".
(6) في أ : "جعفر بن القاسم".
(7) في ت : "أورثوا".

(7/235)


(1)
وقوله : { إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } يعني : عيسى ، عليه السلام ، ما هو إلا عبد [من عباد الله] (2) أنعم الله عليه بالنبوة والرسالة ، { وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } أي : دلالة وحجة وبرهانا على قدرتنا على ما نشاء.
وقوله : { وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ } أي : بدلكم (3) { مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ } ، قال السدي : يخلفونك فيها. وقال ابن عباس ، وقتادة : يخلف بعضهم بعضا ، كما يخلف بعضكم بعضا. وهذا القول يستلزم الأول. وقال مجاهد : يعمرون الأرض بدلكم.
وقوله : { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ } : تقدم تفسير ابن إسحاق : أن المراد من ذلك : ما بُعث به عيسى ، عليه السلام ، من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، وغير ذلك من الأسقام. وفي هذا نظر. وأبعد منه ما حكاه قتادة ، عن الحسن البصري وسعيد بن جبير : أي الضمير في { وإنه } ، عائد على القرآن ، بل الصحيح أنه عائد على عيسى [عليه السلام] (4) ، فإن السياق في ذكره ، ثم المراد بذلك نزوله قبل يوم القيامة ، كما قال تبارك وتعالى : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } أي : قبل موت عيسى ، عليه الصلاة والسلام ، ثم { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا } [النساء : 159] ، ويؤيد هذا المعنى القراءة الأخرى : "وإنه لعَلَم للساعة" أي : أمارة ودليل على وقوع الساعة ، قال مجاهد : { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ } أي : آية للساعة خروج عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة. وهكذا روي عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (5) ، وابن عباس ، وأبي العالية ، وأبي مالك ، وعكرمة ، والحسنن وقتادة ، والضحاك ، وغيرهم.
وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بنزول عيسى [ابن مريم] (6) ، عليه السلام قبل يوم القيامة إماما عادلا وحكما مقسطا.
وقوله : { فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا } أي : لا تشكوا (7) فيها ، إنها واقعة وكائنة لا محالة ، { واتبعون } أي : فيما أخبركم به { هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ } أي : عن اتباع الحق { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ } أي : بالنبوة { وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ }
قال ابن جرير : يعني من الأمور الدينية لا الدنيوية (8). وهذا الذي قاله حسن جيد ، ثم رد قول من زعم أن "بعض" هاهنا بمعنى "كل" ، واستشهد بقول لبيد الشاعر :
__________
(1) تفسير الطبري (25/53).
(2) زيادة من ت ، م.
(3) في ت : "بدلا منكم".
(4) زيادة من ت.
(5) زيادة من ت.
(6) زيادة من ت ، م.
(7) في ت ، م ، أ : "تشكون".
(8) تفسير الطبري (25/55).

(7/236)


وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)

تَرّاك أمْكنَة إذَا لم أرْضَها (1) أو يَعْتَلق (2) بَعْضَ النفوس حمَامُها (3)
وأولوه على أنه أراد جميع النفوس. قال ابن جرير : وإنما أراد نفسه فقط ، وعبر بالبعض عنها. وهذا الذي قاله محتمل.
وقوله : { فَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : [فيما] (4) أمركم به ، { وأطيعون } ، فيما جئتكم به ، { إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } أي : أنا وأنتم عبيد له ، فقراء إليه ، مشتركون في عبادته وحده لا شريك له ، { هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } أي : هذا الذي جئتكم به هو الصراط المستقيم ، وهو عبادة الرب ، عز وجل ، وحده.
وقوله : { فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ } أي : اختلفت الفرق وصاروا شيعا فيه ، منهم من يقر بأنه عبد الله ورسوله - وهو الحق - ومنهم من يدعي أنه ولد الله ، ومنهم من يقول : إنه الله - تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا - ولهذا قال : { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ }
{ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ (60) }
__________
(1) في أ : "أرمنها".
(2) في أ : "يقتلوا".
(3) البيت في تفسير الطبري (25/55) وديوان لبيد العامري (ص313).
(4) زيادة من ت ، م ، أ.

(7/237)


هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)

{ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) }.
يقول تعالى : هل ينتظر هؤلاء المشركون المكذبون للرسل { إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } ؟ أي : فإنها كائنة لا محالة وواقعة ، وهؤلاء غافلون عنها غير مستعدين [لها] (1) فإذا جاءت إنما تجيء وهم لا يشعرون بها ، فحينئذ يندمون كل الندم ، حيث لا ينفعهم ولا يدفع عنهم.
وقوله : { الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ } أي : كل صداقة وصحابة لغير الله فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان لله ، عز وجل ، فإنه دائم بدوامه. وهذا كما قال إبراهيم ، عليه السلام ، لقومه : { إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } [ العنكبوت : 25 ].
وقال عبد الرزاق : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث (2) ، عن علي ، رضي الله
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت : "وروى ابن أبي حاتم عن علي".

(7/237)


عنه : { الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ } قال : خليلان مؤمنان ، وخليلان كافران ، فتوفي أحد المؤمنين وبشر بالجنة فذكر خليله ، فقال : اللهم ، إن فلانا خليلي كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر ، وينبئني أني ملاقيك ، اللهم فلا تضله بعدي حتى تريه مثل ما أريتني ، وترضى عنه كما رضيت عني. فيقال له : اذهب فلو تعلم ما له عندي لضحكت كثيرا وبكيت قليلا. قال : ثم يموت الآخر ، فتجتمع أرواحهما ، فيقال : ليثن أحدكما (1) على صاحبه ، فيقول كل واحد منهما لصاحبه : نعم الأخ ، ونعم الصاحب ، ونعم الخليل. وإذا مات أحد الكافرين ، وبشر بالنار ذكر خليله فيقول : اللهم إن خليلي فلانا كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك ، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ، ويخبرني أني غير ملاقيك ، اللهم فلا تهده بعدي حتى تريه مثل ما أريتني ، وتسخط عليه كما (2) سخطت علي. قال : فيموت الكافر الآخر ، فيجمع بين أرواحهما فيقال : ليثن كل واحد منكما على صاحبه. فيقول كل واحد منهما لصاحبه : بئس الأخ ، وبئس الصاحب ، وبئس الخليل. رواه ابن أبي حاتم (3).
وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : صارت كل خلة عداوة يوم القيامة إلا المتقين.
وروى الحافظ ابن عساكر - في ترجمة هشام بن أحمد - عن هشام بن عبد الله بن كثير : حدثنا أبو جعفر محمد بن الخضر بالرقة ، عن معافي : حدثنا حكيم بن نافع ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو أن رجلين تحابا في الله ، أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب ، لجمع الله بينهما يوم القيامة ، يقول : هذا الذي أحببته في" (4).
وقوله : { يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ } ثم بشرهم.
فقال : { الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ } أي : آمنت قلوبهم وبواطنهم ، وانقادت لشرع الله جوارحهم وظواهرهم.
قال المعتمر بن سليمان ، عن أبيه : إذا كان يوم القيامة فإن الناس حين يبعثون لا يبقى أحد منهم إلا فزع ، فينادي مناد : { يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ } فيرجوها الناس كلهم ، قال : فيتبعُها : { الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ } ، قال : فييأس الناس منها غير المؤمنين. { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ } أي : يقال لهم : ادخلوا الجنة { أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ } أي : نظراؤكم { تُحْبَرُونَ } أي : تنعمون وتسعدون ، وقد تقدم تفسيرها في سورة الروم.
{ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ } أي : زبادي آنية الطعام ، { وَأَكْوَابٍ } وهي : آنية الشراب ، أي : من ذهب لا خراطيم لها ولا عُرَى ، { وَفِيهَا مَا تَشْهِي الأنْفُسُ } - وقرأ بعضهم : "تشتهيه
__________
(1) في أ : "أحدهما".
(2) في ت : "مثل ما".
(3) تفسير عبد الرزاق (2/164).
(4) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (27/79).

(7/238)


الأنفس" - { وَتَلَذُّ الأعْيُنُ } أي : طيب الطعم والريح وحسن المنظر.
قال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، أخبرني إسماعيل بن أبي سعيد (1) ، عن (2) عكرمة - مولى ابن عباس - أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن أدنى أهل الجنة منزلة وأسفلهم درجة لرجل لا يدخل الجنة بعده أحد ، يفسح له في بصره مسيرة مائة عام في قصور من ذهب ، وخيام من لؤلؤ ، ليس فيها موضع شبر إلا معمور يغدى عليه ويراح بسبعين ألف صحفة من ذهب ، ليس فيها صحفة إلا فيها لون ليس في الأخرى ، مثله شهوته في آخرها كشهوته في أولها ، لو نزل به جميع أهل الأرض لوسع عليهم مما أعطي ، لا ينقص ذلك مما أوتي شيئا" (3).
وقال (4) ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد ، حدثنا عمرو بن سواد السرحي ، حدثنا عبد الله بن وهب ، عن ابن لهيعة ، عن عقيل بن خالد ، عن الحسن ، عن أبي هريرة : أن أبا أمامة ، رضي الله عنه ، حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم - وذكر الجنة - فقال : "والذي نفس محمد بيده ، ليأخذن أحدكم اللقمة فيجعلها في فيه ، ثم يخطر على باله طعام آخر ، فيتحول الطعام الذي في فيه على الذي اشتهى" ثم قرأ : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ (5) الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (6).
وقال (7) الإمام أحمد : حدثنا حسن - هو ابن موسى - حدثنا سُكَيْن بن عبد العزيز ، حدثنا الأشعث الضرير ، عن شهر بن حَوْشَب ، عن أبي هريرة (8) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أدنى أهل الجنة منزلة إن له لسبع درجات ، وهو على السادسة وفوقه السابعة ، وإن له ثلثمائة خادم ، ويغدى عليه ويراح كل يوم بثلثمائة صحفة - ولا أعلمه إلا قال : من ذهب - في كل صحفة لون ليس في الأخرى ، وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره ، ومن الأشربة ثلاثمائة إناء ، في كل إناء لون ليس في الآخر ، وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره ، وإنه يقول : يا رب ، لو أذنت لي لأطعمت أهل الجنة وسقيتهم ، لم ينقص مما عندي شيء ، وإن له من الحور العين لاثنين وسبعين زوجة ، سوى أزواجه من الدنيا ، وإن الواحدة منهن ليأخذ مقعدها قدر ميل من الأرض" (9).
{ وَأَنْتُمْ فِيهَا } أي : في الجنة { خَالِدُونَ } أي : لا تخرجون منها ولا تبغون عنها حولا. ثم قيل لهم على وجه التفضل والامتنان : { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : أعمالكم الصالحة كانت سببا لشمول رحمة الله إياكم ، فإنه لا يدخل أحدًا عمله الجنة ، ولكن بفضل من الله ورحمته.
__________
(1) في م : "سعد".
(2) في أ : "أن".
(3) تفسير عبد الرزاق (2/165).
(4) في ت : "وروى".
(5) في ت : "ما تشتهي" وهو خطأ.
(6) وفي إسناده الحسن البصري لم يسمع من أبي هريرة.
(7) في ت : "وروى".
(8) في ت : "أبي هريرة رضي الله عنه".
(9) المسند (2/537).

(7/239)


وإنما الدرجات تفاوتها (1) بحسب عمل الصالحات.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا الفضل بن شاذان المقرئ ، حدثنا يوسف بن يعقوب - يعني الصفار - حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن أبي صالح (2) ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كل أهل النار يرى منزله من الجنة حسرة ، فيقول : { لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [الزمر : 57] وكل أهل الجنة يرى منزله من النار فيقول : { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ } [الأعراف : 43] ، ليكون (3) له شكرا". قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار ، فالكافر يرث المؤمنَ منزلَه من النار ، والمؤمن يرث الكافرَ منزله من الجنة" وذلك (4) قوله تعالى : { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } (5).
وقوله : { لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ } أي : من جميع الأنواع ، { مِنْهَا تَأْكُلُونَ } أي : مهما اخترتم وأردتم. ولما ذكر [الله تعالى] (6) الطعام والشراب ، ذكر بعده الفاكهة لتتم [هذه] (7) النعمة والغبطة.
__________
(1) في أ : "وإنما الدرجات ينال تفاوتها".
(2) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بسنده".
(3) في ت ، م : "فيكون".
(4) في ت ، م : "فيكون".
(5) ورواه أحمد في مسنده (2/512) من طريق أبي بكر بن عياش به مختصرا.
(6) زيادة من ت.
(7) زيادة من ت.

(7/240)


إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)

{ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) }.
لما ذكر [تعالى] (1) حال السعداء ، ثنى بذكر الأشقياء ، فقال : { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ. لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ } أي : ساعة واحدة { وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } أي : آيسون من كل خير ، { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ } أي : بأعمالهم السيئة بعد قيام الحجج عليهم وإرسال الرسل إليهم ، فكذبوا وعصوا ، فجوزوا بذلك جزاء وفاقا ، وما ربك بظلام للعبيد.
{ وَنَادَوْا يَامَالِكُ } وهو : خازن النار.
قال البخاري : حدثنا حجاج بن مِنْهال ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن عطاء (2) ، عن صفوان بن يعلى ، عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر : { وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ }
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت : "روى البخاري بإسناده".

(7/240)


قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)

(1) أي : ليقبض أرواحنا فيريحنا مما نحن فيه ، فإنهم كما قال تعالى : { لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا } [فاطر : 36]. وقال : { وَيَتَجَنَّبُهَا (2) الأشْقَى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى. ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى } [الأعلى : 11 - 13] ، فلما سألوا أن يموتوا أجابهم مالك ، { قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ } : قال ابن عباس : مكث ألف سنة ، ثم قال : إنكم ماكثون. رواه ابن أبي حاتم.
أي : لا خروج لكم منها ولا محيد لكم عنها.
ثم ذكر سبب شقوتهم وهو مخالفتهم للحق ومعاندتهم له فقال : { لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ } أي : بيناه لكم ووضحناه وفسرناه ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } أي : ولكن كانت سجاياكم لا تقبله ولا تقبل عليه ، وإنما تنقاد للباطل وتعظمه ، وتصد عن الحق وتأباه ، وتبغض أهله ، فعودوا على أنفسكم بالملامة ، واندموا حيث لا تنفعكم (3) الندامة.
ثم قال تعالى : { أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } قال مجاهد : أرادوا كيد شر فكدناهم.
وهذا الذي قاله مجاهد كما قال تعالى : { وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } [النمل : 50] ، وذلك لأن المشركين كانوا يتحيلون في رد الحق بالباطل بحيل ومكر يسلكونه ، فكادهم الله ، ورد وبال ذلك عليهم ؛ ولهذا قال : { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ } أي : سرهم وعلانيتهم ، { بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } أي : نحن نعلم ما هم عليه ، والملائكة أيضا يكتبون أعمالهم ، صغيرها وكبيرها.
{ قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) }
يقول تعالى : { قُلْ } يا محمد : { إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } أي : لو فرض هذا لعبدته
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4819).
(2) في م : "وسيجنبها".
(3) في ت ، م : "لا تنفع".

(7/241)


على ذلك لأني عبد من عبيده ، مطيع لجميع ما يأمرني به ، ليس عندي استكبار ولا إباء عن عبادته ، فلو فرض كان هذا ، ولكن هذا ممتنع في حقه تعالى ، والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضا ، كما قال تعالى : { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [الزمر : 4].
[و] (1) قال بعض المفسرين في قوله : { فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } أي : الآنفين. ومنهم سفيان الثوري ، والبخاري حكاه فقال : ويقال : { أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } الجاحدين ، من عبد يعبد.
وذكر ابن جرير لهذا القول من الشواهد ما رواه عن يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب ، حدثني ابن أبي ذئب ، عن أبي قُسَيْط (2) ، عن بَعَجة بن زيد الجهني ؛ أن امرأة منهم دخلت على زوجها - وهو رجل منهم أيضا - فولدت له في ستة أشهر ، فذكر ذلك زوجها لعثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، فأمر بها أن ترجم ، فدخل عليه علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، فقال : إن الله يقول في كتابه : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا } [الأحقاف : 15] ، وقال { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [لقمان : 14] ، قال : فوالله ما عبد عثمان ، رضي الله عنه ، أن بعث إليها : ترد - قال يونس : قال ابن وهب : عبد : استنكف. (3)
[و] (4) قال الشاعر :
مَتَى مَا يَشَأ ذُو الوُدِّ يصْرِمْ خَليله... ويَعْبَدُ عَلَيه لا مِحَالَة ظَالمًا (5)
وهذا القول فيه نظر ؛ لأنه كيف يلتئم مع الشرط فيكون تقديره : إن كان هذا فأنا ممتنع منه ؟ هذا فيه نظر ، فليتأمل. اللهم إلا أن يقال : "إن" ليست شرطا ، وإنما هي نافية كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ } ، يقول : لم يكن للرحمن ولد فأنا أول الشاهدين.
وقال قتادة : هي كلمة من كلام العرب : { قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } أي : إن ذلك لم يكن فلا ينبغي.
وقال أبو صخر : { قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } أي : فأنا أول من عبده بأن لا ولد له ، وأول من وحده. وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال مجاهد : { فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } أي : أول من عبده ووحده وكذبكم.
__________
(1) زيادة من ت ، م.
(2) في ت : "ما رواه بإسناده".
(3) تفسير الطبري (25/61).
(4) زيادة من ت ، م.
(5) البيت في تفسير الطبري (25/60).

(7/242)


وقال البخاري : { فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } الآنفين. وهما لغتان ، رجل عابد وعبد (1).
والأول أقرب على أنه شرط وجزاء ، ولكن هو ممتنع.
وقال السدي [في قوله] (2) { قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } يقول : لو كان له ولد كنت أول من عبده ، بأن له ولدا ، لكن لا ولد له. وهو اختيار ابن جرير ، وردّ قول من زعم أن "إن" نافية.
ولهذا قال : { سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } أي : تعالى وتقدس وتنزه خالق الأشياء عن أن يكون له ولد ، فإنه فرد أحد صمد ، لا نظير له ولا كفء له ، فلا (3) ولد له.
وقوله : { فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا } أي : في جهلهم وضلالهم { وَيَلْعَبُوا } في دنياهم { حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ } وهو يوم القيامة ، أي : فسوف يعلمون كيف يكون مصيرهم ، ومآلهم ، وحالهم في ذلك اليوم.
وقوله : { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ } أي : هو إله من في السماء ، وإله من في الأرض ، يعبده أهلهما ، وكلهم خاضعون له ، أذلاء بين يديه ، { وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ }
وهذه الآية كقوله تعالى : { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } [الأنعام : 3] أي : هو المدعو الله في السموات والأرض.
{ وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } أي : هو خالقهما ومالكهما والمتصرف فيهما ، بلا مدافعة ولا ممانعة ، فسبحانه وتعالى عن الولد ، وتبارك : أي استقر له السلامة من العيوب والنقائص ؛ لأنه الرب العلي العظيم ، المالك للأشياء ، الذي بيده أزمة الأمور نقضا وإبراما ، { وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } أي : لا يجليها لوقتها إلا هو ، { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي : فيجازي كلا بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.
ثم قال تعالى : { وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } أي : من الأصنام والأوثان { الشَّفَاعَةَ } أي : لا يقدرون على الشفاعة لهم ، { إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } هذا استثناء منقطع ، أي : لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم ، فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له.
ثم قال : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي : ولئن سألت هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره { مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } أي : هم يعترفون (4) أنه الخالق للأشياء جميعها ، وحده لا شريك له في ذلك ، ومع هذا يعبدون معه غيره ، ممن لا يملك شيئا ولا يقدر على شيء ، فهم في
__________
(1) صحيح البخاري (8/568) "فتح الباري".
(2) زيادة من أ.
(3) في ت : "ولا".
(4) في ت : "يعرفون".

(7/243)


ذلك في غاية الجهل والسفاهة وسخافة العقل ؛ ولهذا قال : { فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ }
وقوله : { وَقِيلِهِ (1) يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ } أي : وقال : محمد : قيله ، أي : شكا إلى ربه شكواه من قومه الذين كذبوه ، فقال : يا رب ، إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ، كما أخبر تعالى في الآية الأخرى : { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا } [الفرقان : 30] وهذا الذي قلناه هو [معنى] (2) قول ابن مسعود ، ومجاهد ، وقتادة ، وعليه فسر ابن جرير (3).
قال البخاري : وقرأ عبد الله - يعني ابن مسعود - : "وقال الرسول يا رب". (4)
وقال مجاهد في قوله : { وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ } ، قال : فأبر الله قول محمد.
وقال قتادة : هو قول نبيكم صلى الله عليه وسلم يشكو قومه إلى ربه عز وجل.
ثم حكى ابن جرير في قوله : { وَقِيلِهِ يَا رَبِّ } قراءتين ، إحداهما النصب ، ولها توجيهان : أحدهما أنه معطوف على قوله : { نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ } [الزخرف : 80] والثاني : أن يقدر فعل ، وقال : قيلَه. والثانية : الخفض ، وقيلِهِ ، عطفا على قوله : { وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } تقديره : وعِلم قيله.
وقوله : { فَاصْفَحْ عَنْهُمْ } أي : المشركين ، { وَقُلْ سَلامٌ } أي : لا تجاوبهم بمثل ما يخاطبونك به من الكلام السيئ ، ولكن تألفهم واصفح عنهم فعلا وقولا { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (5) } ، هذا تهديد منه تعالى لهم ، ولهذا أحل بهم بأسه الذي لا يرد ، وأعلى دينه وكلمته ، وشرع بعد ذلك الجهاد والجلاد ، حتى دخل الناس في دين الله أفواجا ، وانتشر الإسلام في المشارق والمغارب.
آخر تفسير سورة الزخرف
__________
(1) في ت : "وقيل هو".
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) تفسير الطبري (25/62).
(4) صحيح البخاري (8/568) "فتح الباري".
(5) في م : "تعلمون".

(7/244)


حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)

تفسير سورة الدخان
وهي مكية.
قال الترمذي : حدثنا سفيان بن وَكِيع ، حدثنا زيد بن الحباب ، عن عُمَر بن أبي خَثْعَم ، عن يحيى بن أبى كثير ، عن أبي سلمة (1) ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قرأ(حم الدخان) في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك".
ثم قال : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وعمَر (2) بن أبي خثعم يضعف. قال البخاري : منكر الحديث (3).
ثم قال : حدثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي ، حدثنا زيد بن الحباب ، عن هشام أبي المقدام ، عن الحسن (4) ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قرأ(حم الدخان) في ليلة الجمعة ، غفر له".
ثم قال : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وهشام (5) أبو المقدام يضعف ، والحسن لم يسمع من أبي هريرة كذا قال أيوب ، ويونس بن عبيد ، وعلي بن زيد (6).
وفي مسند البزار من رواية أبي الطفيل عامر بن واثلة ، عن زيد بن حارثة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن صَيَّاد : "إني قد خبأت خبأ فما هو ؟" وخبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الدخان ، فقال : هو الدُّخ. فقال : "اخسأ ما شاء الله كان". ثم انصرف (7).
بسم الله الرحمن الرحيم
{ حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ (8) }
يقول تعالى مخبرا عن القرآن العظيم : إنه أنزله في ليلة مباركة ، وهي ليلة القدر ، كما قال تعالى : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } [ القدر : 1 ] وكان ذلك في شهر رمضان ، كما قال : تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } [ البقرة : 185 ]
__________
(1) في ت : "روى الترمذي بإسناده".
(2) في ت : "الوجه ، وفي إسناده عمر".
(3) سنن الترمذي برقم (2888).
(4) في ت : "وروى الترمذي بإسناده".
(5) في ت : "الوجه ، وفي إسناده هشام".
(6) سنن الترمذي برقم (2889).
(7) مسند البزار برقم (3399) "كشف الأستار" ورواه الطبراني في المعجم الكبير (5/88) من طريق زياد بن الفرات عن أبي الطفيل به. قال الهيثمي في المجمع (8/4) : "فيه زياد بن الحسن بن فرات ، ضعفه أبو حاتم ووثقه ابن حبان".

(7/245)


بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)

وقد ذكرنا الأحاديث (1) الواردة في ذلك في "سورة البقرة" بما أغنى عن إعادته.
ومن قال : إنها ليلة النصف من شعبان - كما روي عن عكرمة - فقد أبعد النَّجْعَة فإن نص القرآن أنها في رمضان. والحديث الذي رواه عبد الله بن صالح ، عن الليث ، عن عقيل عن الزهري : أخبرني عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان ، حتى إن الرجل لينكح ويولد له ، وقد أخرج اسمه في الموتى" (2) فهو حديث مرسل ، ومثله لا يعارض به النصوص.
وقوله : { إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ } أي : معلمين الناس ما ينفعهم ويضرهم شرعًا ، لتقوم حجة الله على عباده.
وقوله : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } أي : في ليلة القدر يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة ، وما يكون فيها من الآجال والأرزاق ، وما يكون فيها إلى آخرها. وهكذا روي عن ابن عمر ، وأبي مالك ، ومجاهد ، والضحاك ، وغير واحد من السلف.
وقوله : { حكيم } أي : محكم لا يبدل ولا يغير ؛ ولهذا قال : { أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا } أي : جميع ما يكون ويقدره الله تعالى وما يوحيه (3) فبأمره وإذنه وعلمه ، { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } أي : إلى الناس رسولا يتلو عليهم آيات الله مبينات ، فإن الحاجة كانت ماسة إليه ؛ ولهذا قال : { رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } أي : الذي أنزل هذا القرآن هو رب السموات والأرض وخالقهما ومالكهما وما فيهما ، { إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ } أي : إن كنتم متحققين.
ثم قال : { لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ } وهذه الآية كقوله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ [فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ] } (4) الآية [ الأعراف : 158 ].
{ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) }
يقول تعالى : بل هؤلاء المشركون في شك يلعبون ، أي : قد جاءهم اليقين (5) ، وهم يشكون فيه ، ويمترون ولا يصدقون به ، ثم قال متوعدا لهم ومتهددًا : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ }.
قال سليمان بن مِهْرَان الأعمش ، عن أبي الضُّحَى مسلم بن صُبَيْح (6) ، عن مسروق قال : دخلنا
__________
(1) في ت : "ألآثار".
(2) رواه الطبراني في تفسيره (25/65) والبيهقي في شعب الإيمان برقم (3839) من طريق الليث عن عقيل به.
(3) في أ : "يوجبه".
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) في ت : "المبين".
(6) في ت : "روى البخاري ومسلم في صحيحيهما".

(7/246)


المسجد - يعني مسجد الكوفة - عند أبواب كندة ، فإذا رجل يقص على أصحابه : { يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } تدرون ما ذلك الدخان ؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة ، فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ، ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام. قال : فأتينا ابن مسعود فذكرنا ذلك له ، وكان مضطجعًا ففزع فقعد ، وقال (1) إن الله عز وجل قال لنبيكم صلى الله عليه وسلم : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } [ ص : 86 ] ، إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم : "الله أعلم" سأحدثكم عن ذلك ، إن قريشا لما أبطأت عن الإسلام واستعصت (2) على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دعا عليهم بسنين كسني يوسف ، فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة ، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان - وفي رواية : فجعل الرجل ينظر إلى السماء ، فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد - [قال] (3) قال الله تعالى : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل : يا رسول الله استسق الله لمضر ، فإنها قد هلكت. فاستسقى لهم فَسُقُوا فأنزل الله : { إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ } قال : ابن مسعود : فيكشف العذاب عنهم يوم القيامة ، فلما أصابهم الرفاهية عادوا إلى حالهم ، فأنزل الله : { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ } ، قال : يعني يوم بدر.
قال ابن مسعود : فقد مضى خمسة : الدخان ، والروم ، والقمر ، والبطشة ، واللِّزام. وهذا الحديث مخرج في الصحيحين. (4) ورواه الإمام أحمد في مسنده ، وهو عند الترمذي والنسائي في تفسيرهما (5) ، وعند ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق متعددة ، عن الأعمش ، به (6) وقد وافق ابن مسعود على تفسير الآية بهذا ، وأن الدخان مضى ، جماعة من السلف كمجاهد ، وأبي العالية ، وإبراهيم النخعي ، والضحاك ، وعطية العوفي ، وهو اختيار ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا جعفر بن مسافر ، حدثنا يحيى بن حسان ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا (7) عبد الرحمن الأعرج في قوله : { يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } قال : كان يوم فتح مكة.
وهذا القول غريب جدًا بل منكر.
وقال آخرون : لم يمض الدخان بعد ، بل هو من أمارات (8) الساعة ، كما تقدم من حديث أبي سَرِيحة (9) حذيفة بن أسيد الغفاري ، رضي الله عنه ، قال : أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر الساعة ، فقال : "لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، وخروج عيسى ابن مريم ، والدجال ، وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس
__________
(1) في ت ، م : "فقال".
(2) في أ : "واستصعبت".
(3) زيادة من أ.
(4) صحيح البخاري برقم (4820) وصحيح مسلم برقم (2798).
(5) في م : "تفسيريهما".
(6) المسند (1/380 ، 431) وسنن الترمذي برقم (3254) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11481) وتفسير الطبري (25/66)
(7) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن".
(8) في ت : "آيات".
(9) في ت : "أبي سريحة في".

(7/247)


- أو : تحشر الناس - : تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا" تفرد بإخراجه مسلم في صحيحه (1).
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن الصياد : "إني خبأت لك خَبْأ" قال : هو الدُّخ. فقال له : "اخسأ فلن تعدو قدرك" قال : وخبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } (2).
وهذا فيه إشعار بأنه من المنتظر المرتقب ، وابن صياد كاشف على طريقة الكهان بلسان الجان ، وهم يُقَرطمون العبارة ؛ ولهذا قال : "هو الدُّخ" يعني : الدخان. فعندها عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مادته وأنها شيطانية ، فقال له : "اخسأ فلن تعدو قدرك".
ثم قال ابن جرير : وحدثني عصام بن رَوَّاد بن الجراح ، حدثنا أبي ، حدثنا سفيان بن سعيد الثوري ، حدثنا منصور بن المعتمر ، عن رِبْعِي بن حِرَاش قال : سمعت حذيفة بن اليمان يقول (3) : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أول الآيات الدجال ، ونزول عيسى ابن مريم ، ونار تخرج من قعر عدن أبين ، تسوق الناس إلى المحشر ، تقيل معهم إذا قالوا ، والدخان - قال حذيفة : يا رسول الله ، وما الدخان ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } - يملأ ما بين المشرق والمغرب ، يمكث أربعين يومًا وليلة ، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة (4) ، وأما الكافر فيكون بمنزلة السكران ، يخرج من منخريه وأذنيه ودبره" (5).
قال ابن جرير : لو صح هذا الحديث لكان فاصلا وإنما لم أشهد له بالصحة ؛ لأن محمد بن خلف العسقلاني حدثني أنه سأل روادا عن هذا الحديث : هل سمعه من سفيان ؟ فقال له : لا قال : فقلت : أقرأته عليه ؟ قال : لا قال : فقلت له : فقرئ عليه وأنت حاضر فأقر به ؟ فقال : لا فقلت له : فمن أين جئت به ؟ فقال : جاءني به قوم فعرضوه علي ، وقالوا لي : اسمعه منا. فقرءوه عليَّ ثم ذهبوا به ، فحدثوا به عني ، أو كما قال (6).
وقد أجاد ابن جرير في هذا الحديث هاهنا ، فإنه موضوع بهذا السند ، وقد أكثر ابن جرير من سياقه في أماكن من هذا التفسير ، وفيه منكرات كثيرة جدًا ، ولا سيما في أول سورة "بني إسرائيل" في ذكر المسجد الأقصى ، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثنا خليل ، عن الحسن ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يهيج الدخان بالناس ، فأما المؤمن فيأخذه كالزكمة ، وأما الكافر فينفخه حتى يخرج من كل مسمع منه".
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2901).
(2) صحيح البخاري برقم (3055) وصحيح مسلم برقم (2930) من حديث عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما.
(3) في ت : "وروى ابن أبي حاتم عن حذيفة قال".
(4) في ت ، م : "الزكام".
(5) تفسير الطبري (25/68) ومن طريقه رواه الثعلبي في تفسيره كما في تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي (1174) والبغوي في معالم التنزيل (7/230).
(6) تفسير الطبري (25/68).

(7/248)


ورواه سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي سعيد الخدري موقوفًا. ورواه عوف ، عن الحسن قوله.
وقال ابن جرير أيضًا : حدثني محمد بن عوف ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ، حدثني أبي ، حدثني ضَمْضَم بن زُرعَة ، عن شُريح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن ربكم أنذركم ثلاثا : الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة ، ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه والثانية الدابة والثالثة الدجال".
ورواه الطبراني عن هاشم بن يزيد ، عن محمد بن إسماعيل بن عياش ، به (1) وهذا
إسناد جيد.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : لم تمض آية الدخان بعد ، يأخذ المؤمن كهيئة الزكام ، وتنفخ الكافر حتى ينفذ.
وروى ابن جرير من حديث الوليد بن جميع ، عن عبد الملك بن المغيرة ، عن عبد الرحمن بن البيلماني ، عن ابن عمر قال : يخرج الدخان فيأخذ المؤمن كهيئة الزكام ، ويدخل في مسامع الكافر والمنافق حتى يكون كالرأس الحنيذ ، أي : المشوي على الرَّضف.
ثم قال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة عن ابن جريج (2) ، عن عبد الله بن أبي مليكة قال : غدوت على ابن عباس ، رضي الله عنهما ، ذات يوم فقال : ما نمت الليلة حتى أصبحت. قلت : لم ؟ قال : قالوا طلع الكوكب ذو الذنب ، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق ، فما نمت حتى أصبحت (3) وهكذا رواه ابن أبي حاتم (4) ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، عن سفيان ، عن عبد الله بن أبي يزيد ، عن عبد الله بن أبي مليكة ، عن ابن عباس فذكره. وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن. وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين أجمعين ، مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما ، التي أوردناها مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة ، مع أنه ظاهر القرآن.
قال الله تعالى : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } أي : بين واضح يراه كل أحد. وعلى ما فسر به ابن مسعود ، رضي الله عنه : إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد. وهكذا قوله : { يَغْشَى النَّاسَ } أي : يتغشاهم ويَعُمهم (5) ، ولو كان أمرا خياليًّا يخص أهل مكة المشركين لما
__________
(1) تفسير الطبري (25/68) والمعجم الكبير (3/292) وقول الحافظ ابن كثير هنا : "هذا إسناد جيد" متعقب فإن لهذه النسخة ثلاث علل :
الأولى : محمد بن إسماعيل بن عياش قال أبو حاتم : "لم يسمع من أبيه شيئا ، حملوه على أن يحدث فحدث".
الثانية : ضمضم بن زرعة ، ضعفه أبو حاتم ووثقه ابن معين ومحمد بن إسماعيل بن عياش قال أبو داود : "لم يكن بذاك".
الثالثة : شريح بن عبيد ، قد كلم في سماعه من أبي مالك الأشعري قال أبو حاتم : "شريح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعري مرسل".
(2) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
(3) تفسير الطبري (25/68).
(4) في ت : "ورواه ابن جرير هكذا" ، وفي أ : "وهكذا رواه ابن جرير".
(5) في أ : "ويغمهم".

(7/249)


قيل فيه : { يَغْشَى النَّاسَ }
وقوله : { هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : يقال لهم ذلك تقريعًا وتوبيخًا ، كقوله تعالى : { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } [ الطور : 13 ، 14] ، أو يقول بعضهم لبعض ذلك.
وقوله : { رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ } أي : يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه سائلين رفعه وكشفه عنهم ، كقوله : { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنعام : 27 ]. وكذا قوله : { وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ } [ إبراهيم : 44 ] ، وهكذا قال هاهنا : { أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ }
يقول : كيف لهم بالتذكر ، وقد أرسلنا إليهم رسولا بين الرسالة والنذارة ، ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه ، بل كذبوه وقالوا : معلم مجنون. وهذا كقوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } [ الفجر : 23 ، 24] ، وقوله (1) تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ. وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ. وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ } [ سبأ : 51 - 54 ].
وقوله : { إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ } (2) يحتمل معنيين :
أحدهما : أنه يقوله (3) تعالى : ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا ، لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب ، كقوله : { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ المؤمنون : 75 ] ، وكقوله : { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام : 28].
والثاني : أن يكون المراد : إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلا بعد انعقاد أسبابه (4) ووصوله إليكم ، وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال ، ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم ، كقوله تعالى : { إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [ يونس : 98 ] ، ولم يكن العذاب باشرهم ، واتصل بهم بل كان قد انعقد سببه [ووصوله] (5) عليهم ، ولا يلزم أيضًا أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه ، قال الله تعالى إخبارًا عن شعيب أنه قال لقومه حين قالوا : { لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّه مِنْهَا } [ الأعراف : 88 ، 89 ] ، وشعيب [عليه السلام] (6) لم يكن قط على ملتهم وطريقتهم.
وقال قتادة : { إِنَّكُمْ عَائِدُونَ } إلى عذاب الله.
__________
(1) في ت ، م : "وكقوله".
(2) في ت : "كاشف".
(3) في أ : "يقول".
(4) في ت ، م ، أ : "سببه".
(5) زيادة من ت ، أ.
(6) زيادة من ت ، م ، أ.

(7/250)


وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)

وقوله تعالى : { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ } فسر ذلك ابن مسعود بيوم بدر. وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود على تفسيره الدخان بما تقدم ، وروي أيضًا عن ابن عباس [وجماعة] (1) من رواية العوفي ، عنه. وعن أبي بن كعب وجماعة ، وهو محتمل.
والظاهر أن ذلك يوم القيامة ، وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضًا.
قال (2) ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة قال : قال ابن عباس : قال ابن مسعود : البطشة الكبرى : يوم بدر ، وأنا أقول : هي يوم القيامة (3).
وهذا إسناد صحيح عنه ، وبه يقول الحسن البصري ، وعكرمة في أصح الروايتين (4) ، عنه.
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) }
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت : "وروى".
(3) تفسير الطبري (25/70).
(4) في ت : "القولين".

(7/251)


وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)

{ وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ (33) }
يقول تعالى : ولقد اختبرنا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون ، وهم قبط مصر ، { وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ } يعني : موسى كليمه ، عليه السلام ،
{ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ } ، كقوله : { فَأَرْسِلْ (1) مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } [ طه : 47 ].
وقوله : { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } أي : مأمون على ما أبلغكموه.
وقوله : { وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ } أي : لا تستكبروا عن اتباع آياته ، والانقياد لحججه والإيمان ببراهينه (2) ، كقوله : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ].
{ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ [ مُبِينٍ ] } (3) أي : بحجة ظاهرة واضحة ، وهي ما أرسله الله به من الآيات البينات والأدلة القاطعة (4).
__________
(1) في ت ، م ، أ : "وأن أرسل" وهو خطأ.
(2) في أ : "بألوهيته".
(3) زيادة من ت ، م ، أ.
(4) في ت ، من أ : "القاطعات".

(7/251)


{ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ } قال ابن عباس ، وأبو صالح : هو الرجم باللسان وهو الشتم.
وقال قتادة : [هو] (1) الرجم بالحجارة.
أي (2) أعوذ بالله الذي خلقني وخلقكم [من] (3) أن تصلوا إليَّ بسوء من قول أو فعل.
{ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ } أي : فلا تتعرضوا (4) إليَّ ، ودعوا الأمر بيني وبينكم مسالمة إلى أن يقضي الله بيننا. فلما طال مقامه بين أظهرهم ، وأقام حجج الله عليهم ، كل ذلك وما زادهم ذلك إلا كفرًا وعنادًا ، دعا ربه عليهم دعوة نفذت فيهم ، كما قال تعالى : { وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا } [ يونس : 88 ، 89 ]. وهكذا قال هاهنا : { فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ } فعند ذلك أمره الله تعالى أن يخرج ببني إسرائيل من بين أظهرهم من غير أمر فرعون ومشاورته واستئذانه ؛ ولهذا قال : { فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ } كما قال : { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى } [ طه : 77].
وقوله هاهنا : { وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ } وذلك أن موسى ، عليه السلام ، لما جاوز هو وبنو إسرائيل البحر ، أراد موسى أن يضربه بعصاه حتى يعود كما كان ، ليصير حائلا بينهم وبين فرعون ، فلا يصل إليهم. فأمره الله (5) أن يتركه على حاله ساكنًا ، وبشره بأنهم جند مغرقون فيه (6) ، وأنه لا يخاف دركًا ولا يخشى.
قال ابن عباس : { وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا } كهيئته وامضِهْ. وقال مجاهد { رهوا } طريقًا يبسًا كهيئته ، يقول : لا تأمره يرجع ، اتركه حتى يرجع آخرهم. وكذا قال عكرمة ، والربيع بن أنس ، والضحاك ، وقتادة ، وابن زيد وكعب الأحبار وسِمَاك بن حرب ، وغير واحد (7).
ثم قال تعالى : { كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ } وهي البساتين { وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ } والمراد بها الأنهار والآبار ، { وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } وهي المساكن الكريمة الأنيقة والأماكن الحسنة.
وقال مجاهد ، وسعيد بن جبير : { وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } المنابر.
وقال ابن لَهِيعة ، عن وهب (8) بن عبد الله المعافري ، عن عبد الله بن عمرو قال : نيل مصر سيد الأنهار ، سخر الله له كل نهر بين المشرق والمغرب ، وذلَّلَهُ له ، فإذا أراد الله أن يجري نيل مصر أمر كل نهر أن يمده ، فأمدته الأنهار بمائها ، وفجر الله له الأرض عيونًا ، فإذا انتهى جريه إلى ما أراد الله ، أوحى الله إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره.
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في أ : "إني".
(3) زيادة من ت ، م.
(4) في أ : "تعترضوا".
(5) في ت : "تعالى".
(6) في ت : "أي في البحر" ، وفي أ : "أي فيه".
(7) في ت : "وغيرهما".
(8) في م : "ولهب".

(7/252)


وقال في قوله تعالى : { كَمْ تَرَكُوا (1) مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ } قال : ، كانت الجنان بحافتي هذا النيل من أوله إلى آخره في الشقين جميعًا ، ما بين أسوان إلى رشيد ، وكان له تسعة (2) خلج : خليج الإسكندرية ، وخليج دمياط ، وخليج سردوس ، وخليج منف ، وخليج الفيوم ، وخليج المنهى ، متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء ، وزروع ما بين الجبلين كله من أول مصر إلى آخر ما يبلغه الماء ، وكانت جميع أرض مصر تروى من ستة عشر ذراعًا ، لما قدروا ودبروا من قناطرها وجسورها وخلجها.
{ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ } أي : عيشة كانوا يتفكهون فيها فيأكلون ما شاؤوا ويلبسون ما أحبوا مع الأموال والجاهات والحكم في البلاد ، فسلبوا ذلك جميعه في صبيحة واحدة ، وفارقوا الدنيا وصاروا إلى جهنم وبئس المصير ، واستولى على البلاد المصرية وتلك الحواصل الفرعونية والممالك القبطية بنو إسرائيل ، كما قال تعالى : { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء : 59 ] وقال في موضع أخر (3) : { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ } [ الأعراف : 137 ]. وقال هاهنا : { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ } وهم بنو إسرائيل ، كما تقدم.
وقوله : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ } أي : لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم ، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله فيها فقدتهم ؛ فلهذا استحقوا ألا ينظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم ، وعتوهم وعنادهم.
قال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا أحمد بن إسحاق البصري ، حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن عبيدة ، حدثني يزيد الرقاشي ، حدثني أنس بن مالك (4) ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما من عبد إلا وله في السماء بابان : باب يخرج منه رزقه ، وباب يدخل منه (5) عمله وكلامه ، فإذا مات فقداه وبكيا عليه" وتلا هذه الآية : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ } وذُكر أنهم لم يكونوا عملوا (6) على الأرض عملا صالحا يبكي عليهم. ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ، ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم (7).
ورواه ابن أبي حاتم من حديث موسى بن عبيدة وهو الربذي.
وقال ابن جرير : حدثني يحيى بن طلحة ، حدثني عيسى بن يونس ، عن صفوان بن عمرو ، عن شريح بن عبيد الحضرمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (8) إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا. ألا لا غربة على مؤمن ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض". ثم
__________
(1) في ت ، م : "فأخرجناهم" وهو خطأ ولعل الناسخ أراد الآية : 75 من سورة الشعراء.
(2) في ت ، م : "تسع".
(3) في ت ، م ، أ : "الآية".
(4) في ت : "وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي بإسناده عن أنس بن مالك رضي الله عنه".
(5) في ت ، أ : "فيه".
(6) في ت ، م : "يعملون".
(7) مسند أبي يعلى (7/160) ورواه الترمذي في السنن برقم (3255) من طريق موسى بن عبيدة به مختصر ، وقال الترمذي : "هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه ، وموسى بن عبيدة ويزيد بن أبان الرقاشي يضعفان في الحديث".
(8) في ت : "وروى ابن جرير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال".

(7/253)


قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ } ثم قال : "إنهما لا يبكيان على الكافر" (1).
وقال (2) ابن أبى حاتم : حدثنا أحمد بن عصام حدثنا أبو أحمد - يعني الزبيري - حدثنا العلاء بن صالح ، عن المنهال بن عمرو ، عن عباد بن عبد الله قال : سأل رجل عليًّا رضي الله عنه : هل تبكي السماء والأرض على أحد ؟ فقال له : لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك ، إنه ليس [من] (3) عبد إلا له مصلى في الأرض ، ومصعد عمله من السماء. وإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض ، ولا عمل يصعد في السماء ، ثم قرأ علي ، رضي الله عنه { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ }
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا طلق بن غَنَّام ، عن زائدة ، عن منصور ، عن منهال ، عن سعيد بن جبير قال : أتى ابنَ عباس رجلٌ فقال : يا أبا عباس أرأيت قول الله : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ } فهل تبكي السماء والأرض على أحد ؟ قال : نعم إنه ليس أحد من الخلائق إلا وله باب في السماء منه ينزل رزقه ، وفيه يصعد عمله ، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه بكى عليه ، وإذا فقد مصلاه من الأرض التي كان يصلي فيها ويذكر الله فيها بكت عليه ، وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار صالحة ، ولم يكن يصعد إلى الله منهم خير ، فلم تبك عليهم السماء والأرض (4).
وروى العوفي ، عن ابن عباس ، نحو هذا.
وقال سفيان الثوري ، عن أبي يحيى القَتَّات ، عن مجاهد ، عن (5) ابن عباس [رضي الله عنهما] (6) قال : كان يقال : تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحًا. وكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وغير واحد.
وقال مجاهد أيضا : ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحًا ، قال : فقلت له : أتبكي الأرض ؟ فقال : أتعجب ؟ وما للأرض لا تبكي على عبد ، كان يعمرها بالركوع والسجود ؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل ؟
وقال قتادة : كانوا أهون على الله من أن تبكي عليهم السماء والأرض.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا عبد السلام بن عاصم ، حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، حدثنا المستورد بن سابق ، عن عبيد المكتب ، عن إبراهيم قال : ما بكت السماء منذ كانت الدنيا إلا على اثنين قلت لعبيد : أليس السماء والأرض تبكي على المؤمن ؟ قال : ذاك مقامه حيث يصعد عمله. قال : وتدري ما بكاء السماء ؟ قلت (7) لا قال : تحمر وتصير وردة كالدهان ، إن يحيى
__________
(1) تفسير الطبري (25/75) ورواه ابن أبي الدنيا في ذكر الموت كما في الدر المنثور (7/412) وهو مرسل.
(2) في ت : "وروى".
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) تفسير الطبري (25/74).
(5) في ت : "وعن".
(6) زيادة من ت.
(7) في أ : "قال".

(7/254)


بن زكريا لما قتل احمرت السماء وقطرت دمًا. وإن حسين بن علي لما قتل احمرت السماء.
وحدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو غسان محمد بن عمرو - زُنَيج - حدثنا جرير ، عن يزيد بن أبي زياد قال : لما قتل حسين (1) بن علي ، رضي الله عنهما ، احمرت آفاق السماء أربعة أشهر. قال يزيد : واحمرارها بكاؤها. وهكذا قال السدي الكبير.
وقال عطاء الخراساني : بكاؤها : أن تحمر أطرافها.
وذكروا (2) أيضًا في مقتل الحسين أنه ما قلب حجر يومئذ إلا وجد تحته دم عَبِيط ، وأنه كسفت الشمس ، واحمر الأفق ، وسقطت حجارة. وفي كل من ذلك نظر ، والظاهر أنه من سُخْف الشيعة وكذبهم ، ليعظموا الأمر - ولا شك أنه عظيم - ولكن لم يقع هذا الذي اختلقوه وكذبوه ، وقد وقع ما هو أعظم من [ذلك] (3) - قتل الحسين رضي الله عنه - ولم يقع شيء مما ذكروه ، فإنه قد قتل أبوه علي بن أبي طالب ، وهو أفضل منه بالإجماع ولم يقع (4) [شيء من] (5) ذلك ، وعثمان بن عفان قتل محصورًا مظلومًا ، ولم يكن شيء من ذلك. وعمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، قتل في المحراب في صلاة الصبح ، وكأن المسلمين لم تطرقهم مصيبة قبل ذلك ، ولم يكن شيء من ذلك. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد البشر في الدنيا والآخرة يوم مات لم يكن شيء مما ذكروه. ويوم مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم خسفت الشمس فقال الناس : [الشمس] (6) خسفت لموت إبراهيم ، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف ، وخطبهم وبين لهم أن الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته (7).
وقوله : { وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ } يمتن عليهم تعالى بذلك ، حيث أنقذهم مما كانوا فيه من إهانة فرعون وإذلاله لهم ، وتسخيره إياهم في (8) الأعمال المهينة الشاقة.
وقوله : { مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا [مِنَ الْمُسْرِفِينَ ] } (9) أي : مستكبرًا جبارًا عنيدًا ، كقوله : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ [وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ] (10) } [ القصص : 4 ].
وقوله : { فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ } [ المؤمنون : 46 ] ، [وقوله { فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ } ] (11) [ العنكبوت : 39 ] ، [ فكان فرعون ] سِرفًا (12) في أمره ، سخيف الرأي على نفسه.
وقوله : { وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } قال مجاهد : { اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } على من هم بين ظهريه. وقال قتادة : اختيروا على أهل زمانهم ذلك. وكان يقال : إن
__________
(1) في ت ، م : "الحسين".
(2) في ت : "وذكر".
(3) زيادة من أ.
(4) في ت ، أ : "يكن".
(5) زيادة من ت ، أ.
(6) زيادة من ت ، وفي أ : "خسفت الشمس".
(7) رواه البخاري في صحيحه برقم (1043) ومسلم في صحيحه برقم (915).
(8) في أ : "من".
(9) زيادة من أ.
(10) زيادة من أ.
(11) [فكان فرعون] زيادة من ت ، أ.
(12) في ت ، أ : "مسرفا".

(7/255)


إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)

لكل زمان عالما. وهذه (1) كقوله تعالى : { قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ } [ الأعراف : 144 ] أي : أهل زمانه ، وكقوله لمريم : { وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 42 ] أي : في زمانها ؛ فإن خديجة أفضل منها ، وكذا آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، أو مساوية لها في الفضل ، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام.
وقوله : { وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ } أي : [من] (2) الحجج والبراهين وخوارق العادات { مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ } أي : اختبار ظاهر جلي لمن اهتدى به.
{ إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلا مَوْتَتُنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) }
يقول تعالى منكرًا على المشركين في إنكارهم البعث والمعاد ، وأنه ما ثم إلا هذه الحياة الدنيا ، ولا حياة بعد الممات ، ولا بعث ولا نشور. ويحتجون بآبائهم الماضين الذين ذهبوا فلم يرجعوا ، فإن كان البعث حقًا { فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وهذه حجة باطلة وشبهة فاسدة ، فإن المعاد إنما هو يوم القيامة لا في هذه الدار ، [بل] (3) بعد انقضائها وذهابها وفراغها يعيد الله العالمين خلقًا جديدًا ، ويجعل الظالمين لنار جهنم وقودًا ، يوم تكون (4) شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا.
ثم قال تعالى متهددًا لهم ، ومتوعدًا ومنذرًا لهم بأسه الذي لا يرد ، كما حل بأشباههم (5) ونظرائهم من المشركين والمنكرين للبعث وكقوم تبع - وهم سبأ - حيث أهلكهم الله وخَرَّب بلادهم ، وشردهم في البلاد ، وفرقهم شذر مذر ، كما تقدم ذلك في سورة سبأ ، وهي مُصَدَّرة بإنكار المشركين للمعاد. وكذلك هاهنا شبههم بأولئك ، وقد كانوا عربًا من قحطان كما أن هؤلاء عرب من عدنان ، وقد كانت حمير - وهم سبأ - كلما ملك فيهم رجل سموه تُبَّعًا ، كما يقال : كسرى لمن ملك الفرس ، وقيصر لمن ملك الروم ، وفرعون لمن ملك مصر كافرا ، والنجاشي لمن ملك الحبشة ، وغير ذلك من أعلام الأجناس. ولكن اتفق أن بعض تبابعتهم خرج من اليمن وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند ، واشتد (6) ملكه وعظم سلطانه وجيشه ، واتسعت مملكته وبلاده ، وكثرت رعاياه وهو الذي مَصَّر الحيرة فاتفق أنه مَرَّ بالمدينة النبوية وذلك في أيام الجاهلية ، فأراد قتال أهلها فمانعوه وقاتلوه بالنهار ، وجعلوا يَقْرُونه بالليل ، فاستحيا منهم وكف عنهم ، واستصحب معه حبرين من أحبار يهود كانا قد نصحاه وأخبراه أنه لا سبيل له على هذه البلدة ؛ فإنها مُهَاجَرُ نبي يكون في آخر الزمان ، فرجع عنها وأخذهما معه إلى بلاد اليمن ، فلما اجتاز بمكة أراد هدم الكعبة فنهياه [عن ذلك] (7) أيضًا ، وأخبراه بعظمة هذا البيت ، وأنه من بناية إبراهيم الخليل وأنه سيكون له شأن عظيم على يدي
__________
(1) في م : "وهذا".
(2) زيادة من ت.
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) في ت : "تكونوا" وفي م : "تكونون".
(5) في ت : "بأشياعهم".
(6) في أ : "واستمد".
(7) زيادة من أ.

(7/256)


ذلك النبي المبعوث في آخر الزمان ، فعظمها وطاف بها (1) ، وكساها الملاء والوصائل والحبير. ثم كر راجعًا إلى اليمن ودعا أهلها إلى التهود معه ، وكان إذ ذاك دين موسى ، عليه السلام ، فيه من يكون على الهداية قبل بعثة المسيح ، عليه السلام ، فتهود معه عامة أهل اليمن. وقد ذكر القصة بطولها الإمام محمد بن إسحاق في كتابه السيرة (2) وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه ترجمة حافلة ، أورد فيها أشياء كثيرة مما ذكرنا وما لم نذكر (3). وذكر أنه ملك دمشق ، وأنه كان إذا استعرض الخيل صُفَّت له من دمشق إلى اليمن ، ثم ساق من طريق عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن أبي ذئب (4) ، عن المقبري ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما أدري الحدود طهارة لأهلها أم لا ؟ ولا أدري تبع لعينًا (5) كان أم لا ؟ ولا أدري ذو القرنين نبيًّا كان أم ملكا ؟" وقال غيره : "أعزيرًا كان نبيًّا أم لا ؟". وكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن محمد بن حماد الظهراني ، (6) عن عبد الرزاق (7).
قال الدارقطني : تفرد به عبد الرزاق (8). ثم روى ابن عساكر من طريق محمد بن كُرَيْب ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، مرفوعا : "عُزيرُ لا أدري أنبيًّا كان أم لا ؟ ولا أدري ألعين تُبَّع أم لا ؟" (9).
ثم أورد ما جاء في النهي عن سبه ولعنته ، كما سيأتي. وكأنه - والله أعلم - كان كافرًا ثم أسلم وتابع دين الكليم (10) على يدي من كان من أحبار اليهود في ذلك الزمان على الحق قبل بعثة المسيح ، عليه السلام ، وحج البيت في زمن الجُرهُميين ، وكساه الملاء والوصائل من الحرير والحبر ونحر عنده ستة آلاف بدنة وعظمه وأكرمه. ثم عاد إلى اليمن. وقد ساق قصته بطولها الحافظ ابن عساكر ، من طرق متعددة مطولة (11) مبسوطة ، عن أبي بن كعب وعبد الله بن سلام ، وعبد الله بن عباس وكعب الأحبار. وإليه المرجع في ذلك كله ، وإلى عبد الله بن سلام أيضًا ، وهو أثبت وأكبر وأعلم. وكذا روى قصته وهب بن مُنَبِّه ، ومحمد بن إسحاق في السيرة كما هو مشهور فيها. وقد اختلط على الحافظ ابن عساكر في بعض السياقات ترجمة تُبَّع هذا بترجمة آخر متأخر عنه بدهر طويل ، فإن تُبَّعًا هذا المشار إليه في القرآن أسلم قومه على يديه ، ثم لما مات (12) عادوا بعده إلى عبادة الأصنام والنيران ، فعاقبهم الله تعالى كما ذكره في سورة سبأ ، وقد بسطنا قصتهم هنالك ، ولله الحمد والمنة.
وقال سعيد بن جبير : كسا تبع الكعبة ، وكان سعيد ينهى عن سبه.
__________
(1) في ت : "فمعظم الكعبة فطاف بها".
(2) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/19).
(3) تاريخ دمشق (3/500 "القسم المخطوط").
(4) في ت ، أ : "ذؤيب".
(5) في ت : "أمينا".
(6) في م : "الطبراني".
(7) ورواه الحاكم في المستدرك (1/36) من طريق عبد الرزاق به ، ورواه أبو داود في سننه برقم (4674) من طريق عبد الرزاق به إلا أنه قال : "عزيز" بدل : "ذو القرنين".
(8) قال الحافظ ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/50) : "وحديث عبادة بن الصامت : "إن الحدود كفارة لأهلها" أصح وأثبت سندا" ثم ساقه من طريق البخاري بسنده إلى عبادة بن الصامت.
(9) تاريخ دمشق (3/501 "القسم المخطوط").
(10) في ت ، م ، أ : "الخليل".
(11) في م : "طويلة".
(12) في ت ، م ، أ : "توفي".

(7/257)


وتُبَّع هذا هو تُبَّع الأوسط ، واسمه أسعد أبو (1) كُرَيْب بن مَلْكيكرب (2) اليماني ذكروا أنه ملك على قومه ثلاثمائة سنة وستا (3) وعشرين سنة ، ولم يكن في حمير أطول مدة منه ، وتوفي قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو من سبعمائة عام. وذكروا أنه لما ذكر له الحبران من يهود المدينة أن هذه البلدة مُهَاجَرُ نبي آخر في الزمان (4) ، اسمه أحمد ، قال في ذلك شعرا واستودعه عند أهل المدينة. وكانوا يتوارثونه ويروونه خلفًا عن سلف. وكان ممن يحفظه أبو أيوب خالد بن زيد الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره ، وهو :
شَهِدْتُ عَلَى أَحْمَدَ أنَّه... رَسُولٌ مِنَ اللهِ بَاري النَّسَمْ...
فَلَو مُدَّ عُمْري إلى عُمْرِهِ... لَكُنْت وَزيرا له وابن عَمْ...
وَجَاهَدْتُ بالسَّيفِ أعْدَاءَهُ... وَفرَّجتُ عَنْ صَدْرِه كُلَّ غَمْ...
وذكر ابن أبي الدنيا أنه حُفِر قبر بصنعاء في الإسلام ، فوجدوا فيه امرأتين صحيحتين ، وعند رءوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب : "هذا قبر حبي ولميس - وروي : حبي وتماضر - ابنتي تُبَّع ماتتا ، وهما تشهدان أن لا إله إلا الله ولا تشركان به شيئًا ، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما.
وقد ذكرنا في "سورة سبأ" شعر سبأ في ذلك أيضًا.
قال قتادة : ذكر لنا أن كعبًا كان يقول في تبع : نُعِت نَعْت الرجل الصالح ، ذم الله تعالى قومه ولم يذمه ، قال : وكانت عائشة تقول : لا تسبوا تُبَّعًا ؛ فإنه قد كان رجلا صالحًا.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثنا عبد الله بن لَهِيعَة عن أبي زُرْعَة - يعني عمرو بن جابر الحضرمي - قال : سمعت سهل بن سعد الساعدي يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تسبوا تُبَّعًا ؛ فإنه قد كان أسلم".
ورواه الإمام أحمد في مسنده عن حسن بن موسى ، عن ابن لَهِيعة ، به (5).
وقال الطبراني : حدثنا أحمد بن علي الأبار ، حدثنا أحمد بن محمد بن أبي بَزَّة ، حدثنا مؤمل ابن إسماعيل ، حدثنا سفيان ، عن سمَاك بن حرب ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا تسبوا تبعا ؛ فإنه قد أسلم" (6).
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن أبي ذئب ، عن المقْبُري ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أدري ، تُبَّع نبيًّا كان أم غير نبي" (7).
__________
(1) في ت : "بن".
(2) في م : "مليكرب".
(3) في ت ، م ، أ : "وستة".
(4) في ت ، م ، أ : "نبي في آخر الزمان".
(5) المسند (5/340) قال الحافظ ابن حجر في تخريج الكشاف : "فيه ابن لهيعة ، وعمرو بن جابر ، وهما ضعيفان".
(6) المعجم الكبير (11/296) وقال الهيثمي في المجمع (8/769 : "فيه أحمد بن أبي بزة المكي ، ولم أعرفه ، وبقية رجاله ثقات".
(7) ورواه الثعلبي في تفسيره كما في تخريج الكشاف للزيلعي (3/270) من طريق عبد الرزاق بهذا اللفظ.

(7/258)


وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)

وتقدم بهذا السند من رواية ابن أبي حاتم كما أورده ابن عساكر : "لا أدري تُبَّع كان لعينًا (1) أم لا ؟". فالله أعلم.
ورواه ابن عساكر من طريق زكريا بن يحيى البدي (2) ، عن عكرمة ، عن ابن عباس موقوفًا.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا عمران أبو الهذيل ، أخبرني تميم بن عبد الرحمن قال : قال عطاء بن أبي رباح : لا تسبوا تُبَّعًا ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى (3) عن سبه (4).
{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) }
__________
(1) في أ : "نبيا".
(2) في أ : "المدني".
(3) في ت ، أ : "قد نهى".
(4) تفسير عبد الرزاق (2/171).

(7/259)


إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)

{ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) }
يقول تعالى مخبرًا عن عدله وتنزيهه نفسه عن اللعب والعبث والباطل ، كقوله : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } [ ص : 27] ، وقال { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } [ المؤمنون : 115 ، 116 ].
ثم قال : { إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ } وهو يوم القيامة ، يفصل الله فيه بين الخلائق ، فيعذب الكافرين ويثيب المؤمنين.
وقوله : { مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ } أي : يجمعهم كلهم أولهم وآخرهم.
{ يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا } أي : لا ينفع قريب قريبًا ، كقوله : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] ، وكقوله { وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا. يُبَصَّرُونَهُمْ } [ المعارج : 10 ، 11 ] أي : لا يسأل أخًا له عن حاله وهو يراه عيانًا.
وقوله : { وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ } أي : لا ينصر القريب قريبه ، ولا يأتيه نصره من خارج.
ثم قال : { إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ } أي : لا ينفع يومئذ إلا من رحمه الله ، عز وجل ، لخلقه (1) { إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } أي : هو عزيز ذو رحمة واسعة.
{ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الأثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) }
يقول تعالى مخبرًا عما يعذب به [عباده] (2) الكافرين الجاحدين للقائه : { إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ }
__________
(1) في أ : "إلا رحمة الله بخلقه".
(2) زيادة من ت ، أ.

(7/259)


والأثيم أي : في قوله وفعله ، وهو الكافر. وذكر غير واحد أنه أبو جهل ، ولا شك في دخوله في هذه الآية ، ولكن ليست خاصة به.
قال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن الأعمش ، عن إبراهيم (1) عن همام بن الحارث ، أن أبا الدرداء كان يقرئ رجلا { إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ } فقال : طعام اليتيم فقال أبو الدرداء قل : إن شجرة الزقوم طعام الفاجر. أي : ليس له طعام غيرها.
قال مجاهد : ولو وقعت منها قطرة في (2) الأرض لأفسدت على أهل الأرض معايشهم. وقد تقدم نحوه مرفوعا.
وقوله : { كَالْمُهْلِ } قالوا : كعكر الزيت { يَغْلِي فِي الْبُطُونِ. كَغَلْيِ الْحَمِيمِ } أي : من حرارتها ورداءتها.
وقوله : { خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ } أي : [خذوا] (3) الكافر ، وقد ورد أنه تعالى إذا قال للزبانية { خُذُوهُ } ابتدره سبعون ألفًا منهم.
{ فَاعْتِلُوهُ } أي : سوقوه سحبا ودفعا في ظهره.
قال مجاهد : { خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ } أي : خذوه فادفعوه.
وقال الفرزدق :
لَيسَ الكِرَامُ بِنَاحِلِيكَ أَبَاهُمُ... حَتَّى تُرَدَّ إلى عَطيَّة تُعْتَلُ (4) (5)
{ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ } أي : وسطها.
{ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ } كقوله { يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ. يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ } [ الحج : 19 ، 20 ].
وقد تقدم أن الملك يضربه بمقمعة من حديد ، تفتح (6) دماغه ، ثم يصب الحميم على رأسه فينزل في بدنه ، فيسلت ما في بطنه من أمعائه ، حتى تمرق (7) من كعبيه - أعاذنا الله تعالى من ذلك.
وقوله : { ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } أي : قولوا له ذلك على وجه التهكم والتوبيخ.
وقال الضحاك عن ابن عباس : أي لست بعزيز ولا كريم.
وقد قال (8) الأموي في مغازيه : حدثنا أسباط ، حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن عكرمة قال : لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل - لعنه الله - فقال : "إن الله تعالى أمرني أن أقول لك : { أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى. ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى } [ القيامة : 34 ، 35 ] قال : فنزع ثوبه من يده (9) وقال : ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء. ولقد علمت أني أمنع (10) أهل البطحاء ، وأنا العزيز الكريم. قال : فقتله الله تعالى يوم بدر وأذله وعيره بكلمته ، وأنزل : { ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } (11).
وقوله : { إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ } ، كقوله { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا. هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ } [ الطور : 13 - 15 ] ،
__________
(1) في ت : "وروى ابن جرير بإسناده".
(2) في ت : "على".
(3) زيادة من ت.
(4) في أ : "مقتل".
(5) البيت في تفسير الطبري (25/80).
(6) في أ : "فيفتح".
(7) في أ : "يمزق".
(8) في ت : "روى".
(9) في ت ، أ : "بدنه".
(10) في ت : "أني من أمنع".
(11) ذكره السيوطي في الدر المنثور (7/418) وهو مرسل.

(7/260)


إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)

؛ ولهذا قال هاهنا : { إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ }
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) }
لما ذكر تعالى حال الأشقياء عطف بذكر [حال] (1) السعداء - ولهذا سُمّي القرآن مثاني - فقال : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ } أي : لله في الدنيا { فِي مَقَامٍ أَمِينٍ } أي : في الآخرة وهو الجنة ، قد أمنوا فيها من الموت والخروج ، ومن كل هم وحزن وجزع (2) وتعب ونصب ، ومن الشيطان وكيده ، وسائر الآفات والمصائب.
{ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } وهذا في مقابلة ما أولئك فيه من شجر (3) الزقوم ، وشرب الحميم.
وقوله تعالى : { يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } وهو : رفيع الحرير ، كالقمصان ونحوها (4) { وَإِسْتَبْرَقٍ } وهو ما فيه بريق ولمعان وذلك كالرياش ، وما يلبس على أعالي القماش ، { مُتَقَابِلِينَ } أي : على السرر لا يجلس أحد منهم وظهره إلى غيره.
وقوله : { كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ } أي : هذا العطاء مع ما قد منحناهم من الزوجات الحور العين الحسان اللاتي { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ } [ الرحمن : 56 ، 74 ]{ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ } [ الرحمن : 58 ]{ هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ } [ الرحمن : 60 ].
قال (5) ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نوح بن حبيب ، حدثنا نصر بن مزاحم العطار ، حدثنا عمر بن سعد ، عن رجل عن أنس - رفعه نوح - قال : لو أن حوراء بَزَقَت في بحر لُجِّي ، لعَذُبَ ذلك الماء لعذوبة ريقها (6).
وقوله : { يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ } أي : مهما طلبوا من أنواع الثمار أحضر لهم ، وهم آمنون من انقطاعه وامتناعه ، بل يحضر إليهم (7) كلما أرادوا.
وقوله : { لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى } هذا استثناء يؤكد النفي ، فإنه استثناء منقطع ومعناه : أنهم لا يذوقون فيها الموت أبدًا ، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يؤتى بالموت في صورة كبش أملح ، فيوقف بين الجنة والنار ثم يذبح ، ثم يقال : يا أهل الجنة خلود فلا (8) موت ، ويا أهل النار خلود فلا (9) موت" وقد تقدم الحديث في سورة مريم (10).
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في م : "وجوع".
(3) في ت ، م : "شرب".
(4) في ت : "وغيرها".
(5) في ت : "وروى".
(6) ورواه أبو نعيم في صفة الجنة برقم (386) من وجه آخر ، فرواه من طريق محمد بن إسماعيل الحساني ، عن منصور الواسطي ، عن أبي النصر الأبار ، عن أنس مرفوعا بنحوه.
(7) في ت ، م ، أ : "لهم".
(8) في أ : "بلا".
(9) في أ : "بلا".
(10) انظر : تخريج الحديث عند الآية : 39 من سورة مريم.

(7/261)


وقال عبد الرزاق : حدثنا سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي مسلم الأغر ، عن أبي سعيد وأبي هريرة ، رضي الله عنهما ، قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يقال لأهل الجنة : إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا ، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدًا ، وإن لكم أن تنعموا فلا تَبْأسوا أبدًا ، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا". رواه مسلم عن إسحاق بن راهويه وعبد بن حميد ، كلاهما عن عبد الرزاق به (1).
هكذا يقول أبو إسحاق وأهل العراق "أبو مسلم الأغر" ، وأهل المدينة يقولون : "أبو عبد الله الأغر" (2).
وقال أبو بكر بن أبي داود السجستاني : حدثنا أحمد بن حفص ، عن أبيه ، عن إبراهيم بن طَهْمَان ، عن الحجاج - هو ابن حجاج (3) - عن عبادة (4) ، عن عبيد الله بن عمرو ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من اتقى الله دخل الجنة ، ينعم فيها ولا يبأس ، ويحيا فيها فلا يموت ، لا تبلى ثيابه ، ولا يفنى شبابه" (5).
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن يحيى ، حدثنا عمرو بن محمد الناقد ، حدثنا سليمان بن عبيد الله الرقي ، حدثنا مصعب بن إبراهيم ، حدثنا عمران بن الربيع الكوفي ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن محمد بن المُنْكَدِر ، عن جابر ، رضي الله عنه ، قال : سُئل نبي الله صلى الله عليه وسلم : أينام أهل الجنة ؟ فقال : "النوم أخو الموت ، وأهل الجنة لا ينامون" (6).
وهكذا رواه أبو بكر بن مُرْدَويه في تفسيره : حدثنا أحمد بن القاسم بن صدقة المصري ، حدثنا المقدام بن داود ، حدثنا عبد الله بن المغيرة ، حدثنا سفيان الثوري ، عن محمد بن الْمنكَدِر ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "النوم أخو الموت ، وأهل الجنة لا ينامون" (7).
وقال أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا الفضل بن يعقوب ، حدثنا محمد بن يوسف الفِريابي ، عن سفيان ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر قال : قيل : يا رسول الله ، هل ينام أهل الجنة ؟ قال : "لا النوم أخو الموت" ثم قال : "لا نعلم أحدًا أسنده عن ابن المنكدر ، عن جابر إلا الثوري ، ولا عن الثوري ، إلا الفريابي" (8) هكذا قال ، وقد تقدم خلاف ذلك ، والله أعلم.
وقوله : { وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } أي : مع هذا النعيم العظيم المقيم قد وقاهم ، وسلمهم ونجاهم وزحزحهم من (9) العذاب الأليم في دركات الجحيم ، فحصل لهم المطلوب ، ونجاهم من المرهوب ؛
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2837).
(2) والأول هو الصواب كما بين ذلك الإمام المزي في تهذيب الكمال.
(3) في أ : "الحجاج".
(4) في م ، أ : "قتادة".
(5) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (4895) "مجمع البحرين" من طريق أحمد بن حفص به.
(6) المعجم الأوسط برقم (4875) "مجمع البحرين" وفي إسناده مصعب بن إبراهيم العبسي ، منكر الحديث.
(7) ورواه أبو نعيم في الحلية (7/90) من طريق أحمد بن القاسم عن المقدام بن داود به ، وقال : "غريب من حديث الثوري ، تفرد به عبد الله".
(8) مسند البزار برقم (3517) "كشف الأستار" قال الهيثمي في المجمع (10/415) : "رجال البزار رجال الصحيح".
(9) في ت : "عن".

(7/262)


ولهذا قال : { فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } أي : إنما كان هذا (1) بفضله عليهم وإحسانه إليهم كما ثبت في الصحيح (2) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "اعملوا وسددوا وقاربوا ، واعلموا أن أحدًا لن يُدخله عمله الجنة" قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : "ولا أنا إلا أن يتغمَّدني الله برحمة منه وفضل" (3).
وقوله : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي : إنما يسرنا هذا القرآن الذي أنزلناه سهلا واضحًا بينًا جليًا بلسانك الذي هو أفصح اللغات وأجلاها وأحلاها وأعلاها { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي : يتفهمون ويعملون. ثم لما كان مع هذا البيان والوضوح من الناس من كفر وخالف وعاند ، قال الله تعالى لرسوله مسليا له وواعدًا له بالنصر ، ومتوعدًا لمن كذبه بالعطب والهلاك : { فَارْتَقِبْ } أي : انتظر { إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ } أي : فسيعلمون (4) لمن يكون النصر والظفر وعُلُو الكلمة في الدنيا والآخرة ، فإنها لك يا محمد ولإخوانك من النبيين والمرسلين ومن اتبعكم من المؤمنين ، كما قال تعالى : { كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ] ، وقال تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ غافر : 51 ، 52 ].
آخر تفسير سورة الدخان ، ولله الحمد والمنة ، وبه التوفيق والعصمة
__________
(1) في ت : "ذلك".
(2) في أ : "الصحيحين".
(3) صحيح البخاري برقم (6467) من حديث عائشة ، رضي الله عنها.
(4) في م : "فستعلمون".

(7/263)


حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)

تفسير سورة الجاثية
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ حم (1) تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) }
يُرشد تعالى خلقه إلى التفكر في آلائه ونعمه ، وقدرته العظيمة التي خلق بها السموات الأرض ، وما فيهما من المخلوقات المختلفة الأجناس والأنواع من الملائكة والجن والإنس ، والدواب والطيور والوحوش والسباع والحشرات ، وما في البحر من الأصناف المتنوعة ، واختلاف الليل والنهار في تعاقبهما دائبين لا يفتران ، هذا بظلامه وهذا بضيائه ، وما أنزل الله تعالى من السحاب من المطر في وقت الحاجة إليه ، وسماه رزقًا ؛ لأن به يحصل الرزق ، { فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } أي : بعد ما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء.
وقوله : { وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ } أي : جنوبا وشآما (1) ، ودبورًا وصبًا ، بحرية وبرية ، ليلية ونهارية. ومنها ما هو للمطر ، ومنها ما هو للقاح ، ومنها ما هو غذاء للأرواح ، ومنها ما هو عقيم [لا ينتج] (2).
وقال أولا { لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ } (3) ، ثم { يوقنون } ثم { يعقلون } وهو تَرَقٍّ من حال شريف إلى ما هو أشرف منه وأعلى. وهذه الآيات شبيهة بآية "البقرة" وهي قوله : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 164 ]. وقد أورد ابن أبي حاتم هاهنا عن وهب بن مُنَبِّه أثرا طويلا غريبًا في خلق الإنسان من الأخلاط الأربعة.
{ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) }
__________
(1) في ت ، أ : "وشمالا".
(2) زيادة من ت ، م ، أ.
(3) في ت ، أ : "لقوم يؤمنون" وهو خطأ.

(7/264)


اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)

يقول تعالى : هذه آيات الله - يعني القرآن بما فيه من الحجج والبينات - { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ } أي : متضمنة الحق من الحق ، فإذا كانوا لا يؤمنون بها ولا ينقادون لها ، فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ؟!
ثم قال : { وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } أي : أفاك في قوله كذاب ، حلاف مهين أثيم في فعله وقيله (1) كافر بآيات الله ؛ ولهذا قال : { يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ } أي : تقرأ عليه { ثُمَّ يُصِرُّ } أي : على كفره وجحوده استكبارًا وعنادا { كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا } أي : كأنه ما سمعها ، { فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [أي] (2) فأخبره أن له عند الله يوم القيامة عذابا أليما موجعا.
{ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا } أي : إذا حفظ شيئًا من القرآن كفر به واتخذه سخريا وهزوا ، { أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } أي : في مقابلة ما استهان بالقرآن واستهزأ به ؛ ولهذا روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو (3).
ثم فسر العذاب الحاصل له يوم معاده (4) فقال : { مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ } أي : كل من اتصف بذلك سيصيرون إلى جهنم يوم القيامة ، { وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا } أي : لا تنفعهم أموالهم ولا أولادهم ، { وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ } أي : ولا تغني عنهم الآلهة التي عبدوها من دون الله شيئًا ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
ثم قال تعالى : { هَذَا هُدًى } يعني القرآن { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ } وهو المؤلم (5) الموجع.
{ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) }
__________
(1) في ت ، أ : "وقلبه".
(2) زيادة من ت ، م.
(3) صحيح مسلم برقم (1869).
(4) في أ : "القيامة".
(5) في أ : "المقلق".

(7/265)


قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)

{ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) }
يذكر تعالى نعمه على عبيده فيما سخر لهم من البحر { لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ } ، وهي السفن فيه بأمره تعالى ، فإنه هو الذي أمر البحر أن يحملها { وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } أي : في المتاجر والمكاسب ، { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : على حصول المنافع المجلوبة إليكم من الأقاليم النائية والآفاق القاصية.

(7/265)


وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)

ثم قال تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } أي : من الكواكب والجبال ، والبحار والأنهار ، وجميع ما تنتفعون به ، أي : الجميع من فضله وإحسانه وامتنانه ؛ ولهذا قال : { جَمِيعًا مِنْهُ } أي : من عنده وحده لا شريك له في ذلك ، كما قال تعالى : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [ النحل : 53 ].
وروى ابن جرير من طريق العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } كل شيء هو من الله ، وذلك الاسم فيه اسم من أسمائه ، فذلك جميعا منه ، ولا ينازعه فيه المنازعون ، واستيقن أنه كذلك.
وقال (1) ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن خَلَف العسقلاني ، حدثنا الفِرْياني ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن المِنْهال بن عمرو ، عن أبي أراكة قال : سأل رجل عبد الله بن عمرو قال : مم خلق الخلق ؟ قال : من النور والنار ، والظلمة والثرى. قال وائت ابن عباس فاسأله. فأتاه فقال له مثل ذلك ، فقال : ارجع إليه فسله : مم خلق ذلك كله ؟ فرجع إليه فسأله ، فتلا { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } هذا أثر غريب ، وفيه نكارة.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
وقوله : { قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ } أي : يصفحوا عنهم ويحملوا (2) الأذى منهم. وهذا كان في ابتداء الإسلام ، أمروا أن يصبروا على أذى المشركين وأهل الكتاب ، ليكون ذلك لتأليف قلوبهم (3) ، ثم لما أصروا على العناد شرع الله للمؤمنين الجلاد والجهاد. هكذا روي عن ابن عباس ، وقتادة.
وقال مجاهد [في قوله] (4) { لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ } لا يبالون (5) نعم الله.
وقوله : { لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : إذا صفحوا (6) عنهم في الدنيا ، فإن الله مجازيهم بأعمالهم السيئة في الآخرة ؛ ولهذا قال : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } أي : تعودون إليه يوم القيامة فتعرضون بأعمالكم [عليه] (7) فيجزيكم بأعمالكم خيرها وشرها.
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) }
__________
(1) في ت : "وروى".
(2) في أ : "ويحتملوا".
(3) في ت ، م ، أ : "كالتأليف لهم".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ : "ينالون".
(6) في أ : "أي اصفحوا".
(7) زيادة من ت ، م ، أ.

(7/266)


أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)

يذكر تعالى ما أنعم به على بني إسرائيل من إنزال الكتب عليهم وإرسال الرسل إليهم ، وجعله الملك فيهم ؛ ولهذا قال : { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } أي : من المآكل والمشارب ، { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } أي : في زمانهم.
{ وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ } أي : حججا وبراهين وأدلة قاطعات ، فقامت (1) عليهم الحجج ثم اختلفوا بعد ذلك من بعد قيام الحجة ، وإنما كان ذلك بغيا منهم على بعضهم بعضا ، { إِنَّ رَبَّكَ } يا محمد { يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : سيفصل بينهم بحكمه العدل. وهذا فيه تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم ، وأن تقصد منهجهم ؛ ولهذا قال : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا } أي : اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو ، وأعرض عن المشركين ، وقال هاهنا : { وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } أي : وماذا تغني (2) عنهم ولايتهم لبعضهم بعضا ، فإنهم لا يزيدونهم إلا خسارا ودمارا وهلاكا ، { وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } ، وهو تعالى يخرجهم من الظلمات إلى النور ، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات.
ثم قال : { هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ } يعني : القرآن { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }
{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) }
__________
(1) في ت : "فقامت به".
(2) في ت : "وما يغني".

(7/267)


أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)

{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) }
يقول تعالى : لا يستوي المؤمنون والكافرون ، كما قال : { لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ الحشر : 20] وقال هاهنا : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ } أي : عملوها وكسبوها { أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } أي : نساويهم بهم في الدنيا والآخرة! { سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي : ساء ما ظنوا بنا وبعدلنا أن نُسَاوي بين الأبرار والفجار في الدار الآخرة ، وفي هذه الدار.
قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا مُؤمَّل بن إهابَ ، حدثنا بُكَير (1) بن عثمان التَّنُوخِي ، حدثنا الوَضِين بن عطاء ، عن يزيد بن مَرْثَد الباجي (2) ، عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : إن الله بنى دينه على أربعة أركان ، فمن صبر عليهن ولم يعمل بهن لقي الله [وهو] (3) من الفاسقين. قيل : وما هن يا أبا ذر ؟ قال : يسلم حلال الله لله ، وحرام الله لله ، وأمر الله لله ، ونهي الله لله ، لا يؤتمن عليهن إلا الله.
__________
(1) في أ : "بكر".
(2) في ت : "وروى الحافظ أبو يعلى بإسناده".
(3) زيادة من ت.

(7/267)


وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)

قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : "كما أنه لا يجتنى من الشوك (1) العنب ، كذلك لا ينال الفجار منازل الأبرار" (2).
هذا حديث غريب من هذا الوجه. وقد ذكر محمد بن إسحاق في كتاب "السيرة" أنهم وجدوا حجرا بمكة في أسِّ الكعبة مكتوب (3) عليه : تعملون السيئات وترجون الحسنات ؟ أجل كما يجتنى من الشوك العنب (4).
وقد روى الطبراني من حديث شعبة ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن أبي الضحى ، عن مسروق (5) ، أن تميما الداري قام ليلة حتى أصبح يردد هذه الآية : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } ؛ ولهذا قال تعالى : { سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ }
، وقال (6) { وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ } أي : بالعدل ، { وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } (7).
ثم قال [تعالى] (8) { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } أي : إنما يأتمر بهواه ، فمهما رآه حسنا فعله ، ومهما رآه قبيحا تركه : وهذا قد يستدل به على المعتزلة في قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين.
وعن مالك فيما روي عنه من التفسير : لا يهوى شيئا إلا عبده.
وقوله : { وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } يحتمل قولين :
أحدها (9) وأضله الله لعلمه أنه يستحق ذلك. والآخر : وأضله الله بعد بلوغ العلم إليه ، وقيام الحجة عليه. والثاني يستلزم الأول ، ولا ينعكس.
{ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً } أي : فلا يسمع ما ينفعه ، ولا يعي شيئا يهتدي به ، ولا يرى حجة يستضيء بها ؛ ولهذا قال : { فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } كقوله : { مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ (10) وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأعراف : 186].
{ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) }
يخبر تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد : { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا }
__________
(1) في ت : "الشوكة".
(2) وذكره ابن حجر في المطالب العالية (3/154) وعزاه لأبي يعلى ، وأظنه في الكبير ، ويزيد بن مرثد الهمداني روايته عن أبي ذر مرسله. تنبيه : وقع هنا "الباجي" ولم يقع لي هذه النسبة له.
(3) في ت ، م : "مكتوبا" وهو الصواب.
(4) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/196).
(5) في ت : "وقد روى الطبراني بسنده".
(6) في ت ، م ، أ : "وقوله".
(7) المعجم الكبير (2/50).
(8) زيادة من ت.
(9) في أ : "أحدهما".
(10) في ت ، م : "ومن يضلل الله فما له من هاد" وهو خطأ.

(7/268)


أي : ما ثم إلا هذه الدار ، يموت قوم ويعيش آخرون وما ثم معاد ولا قيامة وهذا يقوله مشركو (1) العرب المنكرون للمعاد ، ويقوله الفلاسفة الإلهيون منهم ، وهم ينكرون البداءة (2) والرجعة ، ويقوله الفلاسفة الدهرية الدورية المنكرون للصانع المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه. وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى ، فكابروا المعقول (3) وكذبوا المنقول ، ولهذا قالوا (4) { وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ } قال الله تعالى : { وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ } أي : يتوهمون ويتخيلون.
فأما الحديث الذي أخرجه صاحبا الصحيح ، وأبو داود ، والنسائي ، من رواية سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يقول الله تعالى : يؤذيني ابن آدم ؛ يسب الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أقلب ليله ونهاره" (5) وفي رواية : "لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر" (6).
وقد أورده ابن جرير بسياق غريب جدا فقال : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "كان أهل الجاهلية يقولون : إنما يهلكنا الليل والنهار ، وهو الذي يهلكنا ، يميتنا ويحيينا ، فقال الله في كتابه : { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ } قال : "ويسبون الدهر ، فقال الله عز وجل : يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار" (7).
وكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أحمد بن منصور ، عن شُرَيْح بن النعمان ، عن ابن عيينة مثله : ثم روي عن يونس ، عن ابن وهب ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "قال الله تعالى : يسب ابن آدم الدهر ، وأنا الدهر ، بيدي الليل والنهار".
وأخرجه (8) صاحبا الصحيح والنسائي ، من حديث يونس بن زيد ، به (9).
وقال محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يقول الله : استقرضت عبدي فلم يعطني ، وسَبّنِي عبدي ، يقول : وادهراه. وأنا الدهر" (10).
قال الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله ، عليه الصلاة والسلام : "لا تسبوا الدهر ؛ فإن الله هو الدهر" : كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة ، قالوا : يا
__________
(1) في أ : "منكرو".
(2) في أ : "البداوة".
(3) في ت ، أ : "وكابروا العقول".
(4) في ت ، أ : "قال".
(5) صحيح البخاري برقم (4826) وصحيح مسلم برقم (2246) وسنن أبي داود برقم (5274) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11687).
(6) صحيح مسلم برقم (2246).
(7) تفسير الطبري (25/92).
(8) في ت : "أخرجاه" وهو خطأ ، والصواب : "أخرجه" ؛ حتى لا يجتمع عاملان على معمول واحد.
(9) صحيح البخاري برقم (6181) وصحيح مسلم برقم (2246) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11686).
(10) رواه الطبري في تفسيره (25/92) من طريق سلمة عن محمد بن إسحاق به ، وخالفه يزيد بن هارون ، فرواه عن محمد ابن إسحاق ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، به وأخرجه الحاكم في المستدرك (2/453) وقال : "هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم".

(7/269)


وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)

خيبة الدهر. فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه ، وإنما فاعلها هو الله [عز وجل] (1) فكأنهم إنما سبوا ، الله عز وجل ؛ لأنه فاعل ذلك في الحقيقة ، فلهذا نُهي (2) عن سب الدهر بهذا الاعتبار ؛ لأن الله هو الدهر الذي يعنونه ، ويسندون إليه تلك الأفعال.
هذا أحسن ما قيل في تفسيره ، وهو المراد ، والله أعلم. وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى ، أخذا من هذا الحديث..
وقوله (3) تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } (4) أي : إذا استدل عليهم وبين لهم الحق ، وأن الله قادر على إعادة الأبدان بعد فنائها وتفرقها ، { مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : أحيوهم إن كان ما تقولونه حقا.
قال الله تعالى : { قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ } أي : كما تشاهدون ذلك يخرجكم من العدم إلى الوجود ، { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [ البقرة : 28] أي : الذي قدر على البداءة قادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى.. { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم 27 ] ، { ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ } أي : إنما يجمعكم ليوم القيامة لا يعيدكم في الدنيا حتى تقولوا : { ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ } [ التغابن : 9 ] (5) { لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ. لِيَوْمِ الْفَصْلِ } [ المرسلات : 12 ، 13 ] ، { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ } [ هود : 104 ] وقال هاهنا : { ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ } أي : لا شك فيه ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } أي : فلهذا ينكرون المعاد ، ويستبعدون قيام الأجساد ، قال الله تعالى : { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا } [ المعارج : 6 ، 7 ] أي : يرون وقوعه بعيدا ، والمؤمنون يرون ذلك سهلا قريبا.
{ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) }
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض ، الحاكم فيهما (6) في الدنيا والآخرة ؛ ولهذا قال : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ } أي : يوم (7) القيامة { يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ } وهم الكافرون بالله الجاحدون بما أنزله على رسله من الآيات البينات والدلائل الواضحات.
وقال ابن أبي حاتم : قدم سفيان الثوري المدينة ، فسمع المعافري (8) يتكلم ببعض ما يضحك به الناس. فقال له : يا شيخ ، أما علمت أن لله يومًا يخسر فيه المبطلون ؟ قال : فما زالت تعرف في المعافري (9) حتى لحق بالله ، عز وجل. ذكره ابن أبي حاتم.
__________
(1) زيادة من ت ، م.
(2) في أ : "أنهى".
(3) في ت : "وقال".
(4) في م : "عليه" وهو خطأ.
(5) في ت : "الفصل" وهو خطأ.
(6) في م : "فيما".
(7) في ت ، أ : "تقوم".
(8) في ت ، م ، أ : "العاضري".
(9) في ت ، م ، أ : "العاضري".

(7/270)


ثم قال : { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } أي : على ركبها من الشدة والعظمة ، ويقال : إن هذا [يكون] (1) إذا جيء بجهنم فإنها تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه ، حتى إبراهيم الخليل ، ويقول : نفسي ، نفسي ، نفسي لا أسألك اليوم إلا نفسي ، وحتى أن عيسى ليقول : لا أسألك اليوم إلا نفسي ، لا أسألك [اليوم] (2) مريم التي ولدتني.
قال مجاهد ، وكعب الأحبار ، والحسن البصري : { كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } أي : على الركب. وقال عِكْرِمة : { جاثية } متميزة على ناحيتها ، (3) وليس على الركب. والأول أولى.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن عبد الله بن باباه (4) ، أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (5) قال : "كأني أراكم جاثين بالكوم دون جهنم" (6).
وقال إسماعيل بن رافع المديني (7) ، عن محمد بن كعب ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، مرفوعا في حديث الصورة (8) : فيتميز الناس وتجثو الأمم ، وهي التي يقول الله : { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا } (9).
وهذا فيه جمع بين القولين : ولا منافاة ، والله أعلم.
وقوله : { كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا } يعني : كتاب أعمالها ، كقوله : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ } [ الزمر : 69 ] ؛ ولهذا قال : { الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : تجازون بأعمالكم خيرها وشرها ، كقوله تعالى : { يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ. بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ. وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } [ القيامة : 13 - 15 ].
ثم قال : { هَذَا (10) كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ } أي : يستحضر (11) جميع أعمالكم من غير زيادة ولا نقص (12) ، كقوله تعالى : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [ الكهف : 49].
وقوله : { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : إنا كنا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم.
قال ابن عباس وغيره : تكتب الملائكة أعمال العباد ، ثم تصعد بها إلى السماء ، فيقابلون الملائكة الذين في ديوان الأعمال على ما بأيديهم مما قد أبرز لهم من اللوح المحفوظ في كل ليلة قدر ، مما كتبه (13) الله في القدم على العباد قبل أن يخلقهم ، فلا يزيد حرفا ولا ينقص حرفا ، ثم قرأ : { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : "ناصيتها".
(4) في ت : "وقال ابن أبي حاتم بإسناده".
(5) زيادة من ت.
(6) ورواه أبو نعيم في زوائد زهد ابن المبارك برقم (360) وأبو نعيم في الحلية (7/299) من طريق سفيان بن عيينة به.
(7) في أ : "المدني".
(8) في ت ، م ، أ : "الصور".
(9) انظر تفسير حديث الصور عند الآية : 73 من سورة الأنعام.
(10) في ت ، م ، أ : "ولهذا" وهو خطأ.
(11) في أ : "سيحضر".
(12) في م : "نقصان".
(13) في أ : "مما قد كتبه".

(7/271)


فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)

{ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) }

(7/272)


وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)

{ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السمواتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) }.
يخبر تعالى عن حكمه في خلقه يوم القيامة ، فقال : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي : آمنت قلوبهم وعملت جوارحهم الأعمال الصالحات (1) ، وهي الخالصة الموافقة للشرع ، { فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ } ، وهي الجنة ، كما ثبت في الصحيح أن الله قال للجنة : "أنت رحمتي ، أرحم بك من أشاء" (2).
{ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ } أي : البين الواضح.
ثم قال : { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ } أي : يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا : أما (3) قرئت عليكم آيات الرحمن فاستكبرتم عن اتباعها ، وأعرضتم عند (4) سماعها ، { وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ } أي : في أفعالكم ، مع ما اشتملت عليه قلوبكم من التكذيب ؟
{ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا } أي : إذا قال لكم المؤمنون ذلك ، { قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ } أي : لا نعرفها ، { إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا } أي : إن نتوهم وقوعها إلا توهما ، أي مرجوحا (5) ؛ ولهذا قال : { وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } أي : بمتحققين ، قال الله تعالى : { وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا } أي : وظهر لهم عقوبة أعمالهم السيئة ، { وَحَاقَ بِهِمْ } أي : أحاط بهم { مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي : من العذاب والنكال ، { وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ } أي : نعاملكم معاملة الناسي لكم في نار جهنم { كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } أي : فلم تعملوا له لأنكم لم تصدقوا به ، { وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }
وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لبعض العبيد يوم القيامة : "ألم أزوجك ؟ ألم أكرمك ؟
__________
(1) في ت ، أ : "الصالحة".
(2) صحيح البخاري برقم (4850) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(3) في أ : "لما".
(4) في أ : "عن".
(5) في أ : "مرجوعا".

(7/272)


ألم أسخر لك الخيل والإبل ، وأذرك ترأس وتَرْبَع ؟ فيقول : بلى ، يا رب. فيقول : أفظننت أنك مُلاقيّ ؟ فيقول : لا. فيقول الله تعالى : فاليوم أنساك كما نسيتني" (1).
قال الله تعالى : { ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } أي : إنما جازيناكم هذا الجزاء لأنكم اتخذتم حجج الله عليكم سخريا ، تسخرون وتستهزئون بها ، { وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } أي : خدعتكم فاطمأننتم إليها ، فأصبحتم من الخاسرين ؛ ولهذا قال : { فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا } أي : من النار { وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } أي : لا يطلب منهم العتبى ، بل يعذبون بغير حساب ولا عتاب ، كما تدخل طائفة من المؤمنين الجنة بغير عذاب ولا حساب.
ثم لما ذكر حكمه في المؤمنين والكافرين قال : { فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السمواتِ وَرَبِّ الأرْضِ } أي : المالك لهما وما فيهما ؛ ولهذا قال : { رَبِّ الْعَالَمِينَ }.
ثم قال : { وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السمواتِ وَالأرْضِ } قال مجاهد : يعني السلطان. أي : هو العظيم الممجد ، الذي كل شيء خاضع لديه فقير إليه. وقد ورد في الحديث الصحيح : "يقول الله تعالى (2) العظمة إزاري والكبرياء ردائي ، فمن نازعني واحدًا منهما أسكنته ناري". ورواه مسلم من حديث الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن الأغر أبي مسلم ، عن أبي هريرة وأبي سعيد ، رضي الله عنهما ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحوه (3).
وقوله : { وَهُوَ الْعَزِيزُ } أي : الذي لا يغالب ولا يمانع ، { الحكيم } في أقواله وأفعاله ، وشرعه وقدره ، تعالى وتقدس ، لا إله إلا هو (4).
آخر تفسير سورة الجاثية [ولله الحمد والمنة] (5)
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2968) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(2) في ت : "أن الله تعالى يقول".
(3) صحيح مسلم برقم (2620).
(4) في أ : "لا إله غيره ولا رب سواه".
(5) زيادة من ت ، م ، أ.

(7/273)


حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)

تفسير سورة الأحقاف
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ حم (1) تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) }

(7/274)


وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)

{ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) }.
يخبر تعالى أنه نزل الكتاب على عبده ورسوله محمد ، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين ، ووصف نفسه بالعزة التي لا ترام ، والحكمة في الأقوال والأفعال ، ثم قال : { مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ } أي : لا على وجه العبث والباطل ، { وَأَجَلٌ مُسَمًّى } أي : إلى مدة معينة مضروبة لا تزيد ولا تنقص.
قوله : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ } أي : لاهون (1) عما يراد بهم ، وقد أنزل إليهم كتابا وأرسل إليهم رسول ، وهم معرضون عن ذلك كله ، أي : وسيعلمون غبّ ذلك.
ثم قال : { قُلْ } أي : لهؤلاء المشركين العابدين مع الله غيره : { أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ } أي : أرشدوني إلى المكان الذي استقلوا بخلقه من الأرض ، { أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ } أي : ولا شرك لهم في السموات ولا في الأرض ، وما يملكون من قطمير ، إن المُلْك والتصرّف كله إلا الله ، عز وجل ، فكيف تعبدون معه غيره ، وتشركون به ؟ من أرشدكم إلى هذا ؟ من دعاكم إليه ؟ أهو أمركم به ؟ أم هو شيء اقترحتموه من عند أنفسكم ؟ ولهذا قال : { اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا } أي : هاتوا كتابا من كتب الله المنزلة على الأنبياء (2) ، عليهم الصلاة والسلام ، يأمركم بعبادة هذه الأصنام ، { أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ } أي : دليل بَيِّن على هذا المسلك الذي سلكتموه { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : لا دليل لكم نقليًا ولا عقليا على ذلك ؛ ولهذا قرأ آخرون : "أو أثَرَة من علم" أي : أو علم صحيح يأثرونه عن أحد ممن قبلهم ، كما قال مجاهد في قوله : { أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ } أو أحد يأثُر علما.
__________
(1) في ت ، م ، أ : "لاهين".
(2) في ت ، م ، أ : "هاتوا كتابا من الكتب المنزلة على أنبيائهم".

(7/274)


وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)

وقال العَوْفي ، عن ابن عباس : أو بينة من الأمر.
وقال (1) الإمام أحمد : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، حدثنا صفوان بن (2) سُلَيم ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن ابن عباس قال سفيان : لا أعلم إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم : "أو أثَرَة من علم" قال : "الخط" (3).
وقال أبو بكر بن عياش : أو بقية من علم. وقال الحسن البصري : { أَوْ أَثَارَةٍ } شيء يستخرجه فيثيره.
وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو بكر بن عياش أيضا : { أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ } يعني الخط.
وقال قتادة : { أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ } خاصة من علم.
وكل هذه الأقوال متقاربة ، وهي راجعة إلى ما قلناه ، وهو اختيار ابن جرير رحمه الله وأكرمه ، وأحسن مثواه.
وقوله : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } أي : لا أضل ممن يدعو أصناما ، ويطلب منها ما لا تستطيعه إلى يوم القيامة ، وهي غافلة عما يقول ، لا تسمع ولا تبصر ولا تبطش ؛ لأنها جماد حجَارة صُمّ.
وقوله : { وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } ، كقوله تعالى : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } [مريم : 81 ، 82] أي : سيخونونهم (4) أحوج ما يكونون إليهم ، وقال الخليل : { إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } [العنكبوت : 25].
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) }.
يقول تعالى مخبرا عن المشركين في كفرهم وعنادهم : أنهم إذا تتلى عليهم آيات الله بينات ، أي : في حال بيانها ووضوحها وجلائها ، يقولون : { هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } أي : سحر واضح ، وقد كَذَبوا وافتروا وضَلّوا وكفروا { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } يعنون : محمدا صلى الله عليه وسلم. قال الله [تعالى] (5) { قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } أي : لو كذبت عليه وزعمت أنه أرسلني - وليس كذلك - لعاقبني أشد
__________
(1) في ت : "وروى".
(2) في أ : "عن" وهو خطأ.
(3) المسند (1/226).
(4) في أ : "سيجدونهم".
(5) زيادة من ت ، أ.

(7/275)


العقوبة ، ولم يَقْدرْ أحد من أهل الأرض ، لا أنتم ولا غيركم أن يجيرني منه ، كقوله : { قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ } [الجن : 22 ، 23] ، وقال تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ. لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [الحاقة : 44 - 47] ؛ ولهذا قال هاهنا : { قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } ، هذا تهديد لهم ، ووعيد أكيد ، وترهيب شديد.
وقوله : { وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } ترغيب لهم إلى التوبة والإنابة ، أي : ومع هذا كله إن رجعتم وتبتم ، تاب عليكم وعفا عنكم ، وغفر [لكم] (1) ورحم. وهذه الآية كقوله في سورة الفرقان : { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا. قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } [الفرقان : 5 ، 6].
وقوله : { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ } أي : لست بأول رسول طرق العالم ، بل قد جاءت الرسل من قبلي ، فما أنا بالأمر الذي لا نظير له حتى تستنكروني وتستبعدوا (2) بعثتي إليكم ، فإنه قد أرسل الله قبلي جميع الأنبياء إلى الأمم.
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ } ما أنا بأول رسول. ولم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم غير ذلك.
وقوله : { وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية : نزل بعدها { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [الفتح : 2]. وهكذا قال عكرمة ، والحسن ، وقتادة : إنها منسوخة بقوله : { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } ، قالوا : ولما نزلت هذه الآية قال رجل من المسلمين : هذا قد بين الله ما هو فاعل بك يا رسول الله ، فما هو فاعل بنا ؟ فأنزل الله : { لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ } [الفتح : 5].
هكذا قال ، والذي هو ثابت في الصحيح أن المؤمنين قالوا : هنيئا لك يا رسول الله ، فما لنا ؟ فأنزل الله هذه الآية.
وقال الضحاك : { وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ } : ما أدري بماذا أومر ، وبماذا أنهى بعد هذا ؟
وقال أبو بكر الهذلِيّ ، عن الحسن البصري في قوله : { وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ } قال : أما في الآخرة فمعاذ الله ، قد علم أنه في الجنة ، ولكن قال : لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا ، أخرج كما أخرجت الأنبياء [من] (3) قبلي ؟ أم أقتل كما قتلت الأنبياء من قبلي ؟ ولا أدري أيخسف بكم أو تُرمون بالحجارة ؟
وهذا القول هو الذي عَوّل عليه ابن جرير ، وأنه لا يجوز غيره ، ولا شك أن هذا هو اللائق به ، صلوات الله وسلامه عليه ، فإنه بالنسبة إلى الآخرة جازم أنه يصير إلى الجنة هو ومن اتبعه ، وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يئُول إليه أمره وأمر مشركي قريش إلى ماذا : أيؤمنون أم يكفرون ، فيعذبون
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت ، م ، أ : "وتستبعدون".
(3) زيادة من أ.

(7/276)


قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)

فيستأصلون بكفرهم (1) ؟ فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد :
حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن ابن شهاب عن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أم العلاء - وهي امرأة من نسائهم - أخبرته - وكانت بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - قالت : طار لهم في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين عثمانُ بن مظعون. فاشتكى عثمان عندنا فَمرَّضناه ، حتى إذا توفي أدْرَجناه في أثوابه ، فدخل علينا رسول الله فقلت : رحمة الله عليك أبا السائب ، شهادتي عليك ، لقد أكرمك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وما يدريك أن الله أكرمه ؟" فقلت : لا أدري بأبي أنت وأمي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما هو فقد جاءه (2) اليقين من ربه ، وإني لأرجو له الخير ، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي!" قالت : فقلت : والله لا أزكي أحدا بعده أبدا. وأحزنني ذلك ، فنمت فرأيت لعثمان عينا تجري ، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ذاك (3) عمله".
فقد انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم (4) ، وفي لفظ له : "ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به" (5). وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ ، بدليل قولها : "فأحزنني ذلك". وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعين بالجنة إلا الذي (6) نص الشارع على تعيينهم ، كالعشرة ، وابن سلام ، والغُميصاء ، وبلال ، وسراقة ، وعبد الله بن عمرو بن حرام والد (7) جابر ، والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة ، وزيد بن حارثة ، وجعفر ، وابن رواحة ، وما أشبه هؤلاء.
وقوله : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ } أي : إنما أتبع ما ينزله الله عليَّ من الوحي ، { وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ } أي : بين النّذَارة ، وأمري (8) ظاهر لكل ذي لب وعقل.
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) }.
يقول تعالى : { قُلْ } يا محمد لهؤلاء المشركين الكافرين بالقرآن : { أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ } هذا القرآن { مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ } أي : ما ظنكم أن الله صانع بكم إن كان هذا الكتاب الذي جئتكم به قد أنزله
__________
(1) في ت ، أ : "كغيرهم".
(2) في أ : "جاءه والله".
(3) في ت : "ذلك".
(4) المسند (6/436) وصحيح البخاري برقم (1243).
(5) صحيح البخاري برقم (2687).
(6) في أ : "الذين".
(7) في ت : "أبو".
(8) في أ : "أرى".

(7/277)


عليَّ لأبلغكموه ، وقد كَفَرتم به وكذبتموه ، { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ } أي : وقد شهدت بصدقه وصحته الكتب المتقدمة المنزلة على الأنبياء قبلي ، بشرت به وأخبرت بمثل ما أخبر هذا القرآن به.
وقوله : { فَآمَنَ } أي : هذا الذي شهد بصدقه من بني إسرائيل لمعرفته بحقيته { وَاسْتَكْبَرْتُمْ } أنتم : عن اتباعه.
وقال مسروق : فآمن هذا الشاهد بنبيه وكتابه ، وكفرتم أنتم بنبيكم وكتابكم { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
وهذا الشاهد اسم جنس يعم عبد الله بن سلام وغير ، ه فإن هذه الآية مكية نزلت قبل إسلام عبد الله بن سلام. وهذه كقوله : { وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } [القصص : 53] ، وقال : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا } [الإسراء : 107 ، 108].
قال مسروق ، والشعبي : ليس بعبد الله بن سلام ، هذه الآية مكية ، وإسلام عبد الله بن سلام كان بالمدينة. رواه عنهما ابن جرير وابن أبي حاتم ، واختاره ابن جرير.
وقال مالك ، عن أبي النَّضْر ، عن عامر بن سعد (1) ، عن أبيه قال : ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض : "إنه من أهل الجنة" ، إلا لعبد الله بن سلام ، قال : وفيه نزلت : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ }
رواه البخاري ومسلم والنسائي ، من حديث مالك ، به (2). وكذا قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وعكرمة ، ويوسف بن عبد الله بن سلام ، وهلال بن يَسَاف ، والسُّدَّي ، والثوري ، ومالك بن أنس ، وابن زيد ؛ أنهم كلهم قالوا : إنه عبد الله بن سلام.
وقوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } أي : قالوا عن المؤمنين بالقرآن : لو كان القرآن خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه (3). يعنون بلالا وعمارا وصُهَيبا وخبابا وأشباههم وأقرانهم (4) من المستضعفين والعبيد والإماء ، وما ذاك إلا لأنهم عند أنفسهم يعتقدون أن لهم عند الله وجاهة وله بهم عناية. وقد غلطوا في ذلك غلطا فاحشا ، وأخطئوا خطأ بينا ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا } [الأنعام : 53] أي : يتعجبون : كيف اهتدى هؤلاء دوننا ؛ ولهذا قالوا : { لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } وأما أهل السنة (5) والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة : هو بدعة ؛ لأنه لو كان خيرا لسبقونا إليه ، لأنهم
__________
(1) في أ : "سعيد".
(2) صحيح البخاري برقم (3812) وصحيح مسلم برقم (2483) والنسائي في السنن الكبرى برقم (8252).
(3) في ت : "ما سبقونا إليه هؤلاء".
(4) في أ : "وأضرابهم".
(5) في م ، ت ، أ : "يعني المؤمنين ، وأما أهل السنة".

(7/278)


لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها (1).
وقوله : { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ } أي : بالقرآن { فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ } أي : كذب { قَدِيمٌ } أي : مأثور عن الأقدمين ، فينتقصون القرآن وأهله ، وهذا هو الكبر الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بطر (2) الحق ، وغَمْط الناس" (3).
ثم قال : { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى } وهو التوراة { إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ } يعني : القرآن { مُصَدِّقٌ } أي : لما قبله من الكتب { لِسَانًا عَرَبِيًّا } أي : فصيحا بينا واضحا ، { لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ } أي : مشتمل على النّذارة للكافرين والبشارة للمؤمنين.
وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } تقدم تفسيرها في سورة "حم ، السجدة". (4)
وقوله : { فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي : فيما يستقبلون ، { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما خلفوا ، { أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : الأعمال سبب لنيل الرحمة لهم وسُبُوغها (5) عليهم.
__________
(1) في ت ، م : "إليه".
(2) في أ : "الكبر بطر".
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (91) من حديث عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه.
(4) راجع تفسير هذه الآية عند الآية : 30 من سورة السجدة.
(5) وشيوعها".

(7/279)


وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)

{ وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) }.
لما ذكر تعالى في الآية الأولى التوحيد له وإخلاص العبادة والاستقامة إليه ، عطف بالوصية بالوالدين ، كما هو مقرون في غير ما آية من القرآن ، كقوله : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [الإسراء : 23] وقال : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [لقمان : 14] ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. وقال هاهنا : { وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا } أي : أمرناه بالإحسان إليهما والحنو عليهما.
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، أخبرني سِمَاك بن حرب قال : سمعت مُصْعب بن سعد (1) يحدث عن سعد قال : قالت أم سعد لسعد : أليس قد أمر الله بطاعة الوالدين ، فلا آكل طعاما ، ولا أشرب شرابا حتى تكفر بالله. فامتنعت من الطعام والشراب ، حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا ، ونزلت هذه الآية : { وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا } الآية [العنكبوت : 8].
__________
(1) في أ : "حرب".

(7/279)


ورواه مسلم وأهل السنن إلا ابن ماجه ، من حديث شعبة بإسناده ، نحوه وأطول منه (1).
{ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا } أي : قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعبا ، من وِحَام وغشيان وثقل وكرب ، إلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة ، { وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا } أي : بمشقة أيضا من الطلق وشدته ، { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا }
وقد استدل علي ، رضي الله عنه ، بهذه الآية مع التي في لقمان : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [لقمان : 14] ، وقوله : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [البقرة : 233] ، على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، وهو استنباط قوي صحيح. ووافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة ، رضي الله عنهم.
قال محمد بن إسحاق بن يسار ، عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيْط ، عن بَعْجَةَ (2) بن عبد الله الجهني قال : تزوج رجل منا امرأة من جُهَيْنة ، فولدت له لتمام ستة أشهر ، فانطلق زوجها إلى عثمان فذكر ذلك له ، فبعث إليها ، فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها ، فقالت : ما يبكيك ؟! فوالله ما التبس بي أحد من خلق الله غيره قط ، فيقضي الله في ما شاء. فلما أتي بها عثمان أمر برجمها ، فبلغ ذلك عليا فأتاه ، فقال له : ما تصنع ؟ قال : ولدت تماما لستة أشهر ، وهل يكون ذلك ؟ فقال له [علي] (3) أما تقرأ القرآن ؟ قال : بلى. قال : أما سمعت الله يقول : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا } وقال : { [يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ ] حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } (4) ، فلم نجده بقي إلا ستة أشهر ، قال : فقال عثمان : والله ما فطنت لهذا ، علي بالمرأة فوجدوها قد فُرِغَ منها ، قال : فقال بَعْجَةُ : فوالله ما الغراب بالغراب ، ولا البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه. فلما رآه أبوه قال : ابني إني والله لا أشك فيه ، قال : وأبلاه (5) الله بهذه القرحة قرحة الآكلة ، فما زالت تأكله حتى مات (6).
رواه ابن أبي حاتم ، وقد أوردناه من وجه آخر عند قوله : { فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } [الزخرف : 81].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا فَرْوَة بن أبي المَغْرَاء ، حدثنا علي بن مِسْهَر ، عن داود بن أبي هند ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس (7) قال : إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاه من الرضاع أحد وعشرون شهرا ، وإذا وضعته لسبعة أشهر كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرًا ، وإذا وضعته لستة أشهر فحولين كاملين ؛ لأن الله تعالى يقول : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا }
{ حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } أي : قوى وشب وارتجل { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } أي : تناهى عقله وكمل فهمه وحلمه. ويقال : إنه لا يتغير غالبا عما يكون عليه ابن الأربعين.
__________
(1) مسند الطيالسي برقم (208) وصحيح مسلم يرقم (1748) وسنن أبي داود برقم (2740) وسنن الترمذي برقم (3079) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11196) لكن النسائي لم يرو الشاهد هنا وإنما روى أوله.
(2) في ت ، أ : "معمر".
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في ت ، م ، أ : "وابتلاه".
(6) ورواه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور للسيوطي 07/441).
(7) في ت : "عن عكرمة وروى عن ابن عباس".

(7/280)


قال أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن القاسم بن عبد الرحمن قال : قلت لمسروق : متى يؤخذ الرجل بذنوبه ؟ قال : إذا بَلَغْتَ الأربعين ، فَخُذْ حذرك.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عُبَيد الله القواريري ، حدثنا عَزْرَة بن قيس الأزدي - وكان قد بلغ مائة سنة - حدثنا أبو الحسن السلولي (1) عنه وزادني (2) قال : قال محمد بن عمرو بن عثمان ، عن عثمان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "العبد المسلم إذا بلغ أربعين سنة خفف الله حسابه ، وإذا بلغ (3) ستين سنة رزقه الله الإنابة إليه ، وإذا بلغ سبعين سنة أحبّه أهل السماء ، وإذا بلغ ثمانين سنة ثبت الله حسناته ومحا سيئاته ، وإذا بلغ تسعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وشفَّعه الله في أهل بيته ، وكتب في السماء : أسير (4) الله في أرضه" (5).
وقد روي هذا من غير هذا الوجه ، وهو في مسند الإمام أحمد (6) (7).
وقد قال الحجاج بن عبد الله الحكمي أحد أمراء بني أمية بدمشق : تركت المعاصي والذنوب أربعين سنة حياء من الناس ، ثم تركتها حياء من الله ، عز وجل.
وما أحسن قول الشاعر :
صَبَا ما صَبَا حَتى عَلا الشَّيبُ رأسَهُ... فلمَّا عَلاهُ قال للباطل : ابطُل (8)
{ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي } أي : ألهمني { أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ } أي : في المستقبل ، { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي } أي : نسلي وعقبي ، { إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد التوبة والإنابة إلى الله ، عز وجل ، ويعزم عليها.
وقد روى أبو داود في سننه ، عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم أن يقولوا في التشهد : "اللهم ، ألف بين قلوبنا ، وأصلح ذات بيننا ، واهدنا سبُل (9) السلام ، ونجنا من الظلمات إلى النور ، وجنّبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا ، وأزواجنا ، وذرياتنا ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ، واجعلنا شاكرين لنعمتك ، مثنين بها قابليها ، وأتممها علينا" (10).
قال الله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ } أي : هؤلاء المتصفون بما ذكرنا ، التائبون إلى الله المنيبون إليه ، المستدركون ما فات بالتوبة والاستغفار ، هم الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ، ويتجاوز عن سيئاتهم ، فيغفر لهم الكثير من الزلل ، ويتقبل منهم اليسير من العمل ، { فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ } أي : هم في جملة أصحاب الجنة ، وهذا حكمهم عند الله كما وعد
__________
(1) في م ، أ : "أبو الحسن الكوفي - عمر بن أوس".
(2) في ت : "وروى الحافظ".
(3) في ت ، م : "رزقه".
(4) في ت ، م ، أ : "أمين".
(5) قال الهيثمي في المجمع (10/205) : "رواه أبو يعلى في الكبير وفيه عزرة بن قيس الأزدي ، وهو ضعيف".
(6) في ت : "وهذا الحديث في مسند الإمام أحمد".
(7) رواه الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ، المسند (3/218).
(8) في ت ، م ، أ : "أبعد".
(9) في ت : "سبيل".
(10) سنن أبي داود برقم (969).

(7/281)


الله من تاب إليه وأناب ؛ ولهذا قال : { وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ }
قال (1) ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا المُعْتَمِر بن سليمان ، عن الحكم بن أبان ، عن الغطْرِيف ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس (2) ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن الروح الأمين ، عليه (3) السلام ، قال : "يؤتى (4) بحسنات العبد وسيئاته (5) ، فيقتص (6) بعضها ببعض ، فإن بقيت حسنة وسع الله له في الجنة" قال : فدخلتُ على يزداد فَحُدّث بمثل هذا الحديث قال : قلت : فإن ذهبت الحسنة ؟ قال : { أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } (7).
وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، عن المعتمر بن سليمان ، بإسناده مثله - وزاد عن الروح الأمين. قال : قال الرب ، جل جلاله : يؤتى بحسنات العبد وسيئاته... فذكره ، وهو حديث غريب ، وإسنادٌ جيد لا بأس به.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سليمان بن مَعْبَد ، حدثنا عمرو بن عاصم الكلائي ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر (8) جعفر بن أبي وَحْشية ، عن يوسف بن سعد (9) ، عن محمد بن حاطب قال : ونزل في داري حيث ظهر علي على أهل البصرة ، فقال لي يوما : لقد شهدتُ أمير المؤمنين عليا ، وعنده عمارا وصعصعة والأشتر ومحمد بن أبي بكر ، فذكروا عثمان فنالوا منه ، وكان علي ، رضي الله عنه ، على السرير ، ومعه عود في يده ، فقال قائل منهم : إن عندكم من يفصل بينكم فسألوه ، فقال علي : كان عثمان من الذين قال الله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } قال : والله عثمان وأصحاب عثمان - قالها ثلاثا - قال يوسف : فقلت لمحمد بن حاطب : آلله لسمعت هذا من عليّ ؟ قال : آلله لسمعت هذا من علي ، رضي الله عنه.
__________
(1) في ت : "وروى".
(2) في ت : "ابن عباس رضي الله عنه".
(3) في م : "عليهما".
(4) في ت : "تؤتى".
(5) في أ : "وسيئاته يوم القيامة".
(6) في أ : "فيقبض".
(7) تفسير الطبري (26/12) ورواه أبو نعيم في الحلية (3/91) من طريق معتمر بن سليمان به ، وقال أبو نعيم : "هذا حديث غريب من حديث جابر ، والغطويف تفرد به عنه الحكم بن أبان العدني".
(8) في أ : "بشير".
(9) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".

(7/282)


وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)

{ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) }.
لما ذكر تعالى حال الداعين للوالدين البارين بهما وما لهم عنده من الفوز والنجاة ، عطف بحال الأشقياء العاقين للوالدين فقال : { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا } - وهذا عام في كل من قال هذا ، ومن زعم أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر فقوله ضعيف ؛ لأن عبد الرحمن بن أبي بكر أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه ، وكان من خيار أهل زمانه.
وروى العَوْفي ، عن ابن عباس : أنها نزلت في ابن لأبي بكر الصديق. وفي صحة هذا نظر ، والله أعلم.
وقال ابن جُرَيْج ، عن مجاهد : نزلت في عبد الله بن أبي بكر. وهذا أيضا قاله ابن جريج.
وقال آخرون : عبد الرحمن بن أبي بكر. وقاله (1) السدي. وإنما هذا عام في كل من عق والديه وكذب بالحق ، فقال لوالديه : { أُفٍّ لَكُمَا } عقهما.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا يحيى بن أبي زائدة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، أخبرني عبد الله بن المديني قال : إني لفي المسجد حين خطب مَرْوان ، فقال : إن الله أرى (2) أمير المؤمنين في يزيد رأيا حسنا ، وإن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر عمر ، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر : أهرقلية ؟! إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده ، ولا أحدا من أهل بيته ، ولا جعلها معاوية في ولده إلا رحمة وكرامة لولده. فقال مروان : ألست الذي قال لوالديه : أف لكما ؟ فقال عبد الرحمن : ألست ابن اللعين الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباك ؟ قال : وسمعتهما عائشة فقالت : يا مروان ، أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا ؟ كذبتَ ، ما فيه نزلت ، ولكن نزلت في فلان بن فلان. ثم انتحب مروان ، ثم نزل عن المنبر حتى أتى باب حجرتها ، فجعل يكلمها حتى انصرف (3).
وقد رواه البخاري بإسناد آخر ولفظ آخر ، فقال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عَوانة ، عن أبي بِشْر ، عن يوسف بن مَاهَك قال : كان مَرْوان على الحجاز ، استعمله معاوية بن أبي سفيان ، فخطب وجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه ، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا ، فقال : خذوه. فدخل بيت عائشة ، رضي الله عنها ، فلم يقدروا عليه ، فقال (4) مروان : إن هذا الذي أنزل فيه : { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي } فقالت عائشة من وراء الحجاب : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن ، إلا أن الله أنزل عُذرِي (5).
طريق أخرى : قال النسائي : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أميَّة بن خالد ، حدثنا شعبة ، عن محمد بن زياد قال : لما بايع معاوية لابنه ، قال مروان : سُنَّة أبي بكر وعمر. فقال عبد الرحمن بن أبي
__________
(1) في ت ، م : "وهذا قول".
(2) في م ، أ : "الله قد أرى".
(3) ورواه ابن مردويه فغي تفسيره كما في الدر المنثور (7/444).
(4) في أ : "فلم يقدر عليه فقام فقال".
(5) صحيح البخاري برقم (4827).

(7/283)


بكر : سُنَّة هرقل وقيصر. فقال مروان : هذا الذي أنزل الله فيه : { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا } الآية ، فبلغ ذلك عائشة فقالت : كذب مروان! والله ما هو به ، ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروانُ في صلبه ، فمروان فَضَضٌ (1) من لعنة الله (2).
وقوله : { أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ } أي : [أن] (3) أبعث { وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي } أن (4) قد مضى الناس فلم يرجع منهم مخبر ، { وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ } أي : يسألان الله فيه أن يهديه ويقولان لولدهما : { وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } قال الله [تعالى] (5) { أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } أي : دخلوا في زمرة أشباههم وأضرابهم من الكافرين الخاسرين أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
وقوله : { أولئك } بعد قوله : { وَالَّذِي قَالَ } دليل على ما ذكرناه من أنه جنس يعم كل من كان كذلك.
وقال الحسن وقتادة : هو الكافر الفاجر العاق لوالديه ، المكذب بالبعث.
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة سهل بن داود ، من طريق هشام بن عمار : حدثنا حماد بن عبد الرحمن ، حدثنا خالد بن الزبرقان الحلبي ، عن سليمان بن حبيب المحاربي ، عن أبي أمامة الباهلي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أربعة لعنهم الله من فوق عرشه ، وأَمَّنتْ عليهم الملائكة : مضل المساكين - قال خالد : الذي يهوي بيده إلى المسكين فيقول : هلم أعطيك ، فإذا جاءه قال : ليس معي شيء - والذي يقول للمكفوف : اتق الدابة ، وليس بين يديه شيء. والرجل يسأل عن دار القوم فيدلونه على غيرها ، والذي يضرب الوالدين حتى يستغيثا" (6). غريب جدا.
وقوله : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا } أي : لكل عذاب بحسب عمله ، { وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } أي : لا يظلمهم مثقال ذرة فما دونها.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : درجات النار تذهب سفالا ودرجات الجنة تذهب علوا.
وقوله : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } أي : يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا. وقد تورع [أمير المؤمنين] (7) عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، عن (8) كثير من طيبات المآكل والمشارب ، وتنزه عنها ، ويقول : [إني] (9) أخاف أن أكون كالذين قال الله تعالى لهم وقَرَّعهم : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا }
__________
(1) في أ : "بعض".
(2) النسائي في السنن الكبرى برقم (11491).
(3) زيادة من ت.
(4) في ت ، أ : "أي".
(5) زيادة من ت ، م.
(6) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (10/221) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (4/251) من طريق هشام بن عمار به. قال ابن أبي حاتم في العلل (2/413) : "سألت أبي عن هذا الحديث فقال : هذا حديث منكر". قال الهيثمي في المجمع (4/251) : "حماد بن عبد الرحمن العكي عن خالد بن الزبرقان ، وكلاهما ضعيف".
(7) زيادة من ت ، م ، أ.
(8) في أ : "على".
(9) زيادة من ت ، م ، أ.

(7/284)


وقال أبو مِجْلَز : ليتفقَّدَنّ أقوامٌ حَسَنات كانت لهم في الدنيا ، فيقال لهم : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا }
وقوله : { فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ } فجوزوا من جنس عملهم ، فكما نَعَّموا أنفسهم واستكبروا عن اتباع الحق ، وتعاطوا الفسق والمعاصي ، جازاهم الله بعذاب الهون ، وهو الإهانة والخزي والآلام الموجعة ، والحسرات المتتابعة والمنازل في الدركات المفظعة ، أجارنا الله من ذلك كله.

(7/285)


وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)

{ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) }.
يقول تعالى مسليا لنبيه في تكذيب من كذبه من قومه : { وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ } وهو هود ، عليه السلام ، بعثه الله إلى عاد الأولى ، وكانوا يسكنون الأحقاف - جمع حقْف وهو : الجبل من الرمل - قاله ابن زيد. وقال عكرمة : الأحقاف : الجبل والغار. وقال علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه : الأحقاف : واد بحضرموت ، يدعى بُرْهوت ، تلقى فيه أرواح الكفار. وقال قتادة : ذُكر لنا أن عادا كانوا حيا باليمن أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها : الشِّحْر.
قال ابن ماجه : "باب إذا دعا فليبدأ بنفسه" : حدثنا الحسين بن علي الخلال ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يرحمنا الله ، وأخا عاد" (1).
وقوله : { وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } يعني : وقد أرسل الله إلى من حَول بلادهم من القرى مرسلين ومنذرين ، كقوله : { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا } [البقرة : 66] ، وكقوله : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأنزلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [فصلت : 13 ، 14] (2) (3) أي : قال لهم هود ذلك ، فأجابه قومه قائلين : { أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا } أي : لتصدنا { عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }
__________
(1) سنن ابن ماجه (3852) وقال البوصيري في الزوائد (3/204) : "هذا إسناد صحيح وله شواهد في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي بن كعب".
(2) في م : "تولوا" ، وهو خطأ.
(3) في ت ، م ، أ ، هـ : "إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم" ، والصواب ما أثبتناه.

(7/285)


استعجلوا عذاب الله وعقوبته ، استبعادًا منهم وقوعه ، كقوله : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا } [الشورى : 18].
{ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ } (1) أي : الله أعلم بكم إن كنتم مستحقين لتعجيل العذاب فيفعل (2) ذلك بكم ، وأما أنا فمن شأني أني أبلغكم ما أرسلت به ، { وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ } أي : لا تعقلون ولا تفهمون.
قال الله تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ } أي : لما رأوا العذاب مستقبلهم ، اعتقدوا أنه عارض ممطر ، ففرحوا واستبشروا به (3) ، وقد كانوا ممحلين محتاجين إلى المطر ، قال الله تعالى : { بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : هو العذاب الذي قلتم : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }
{ تُدَمِّرُ } أي : تخرب { كُلِّ شَيْءٍ } من بلادهم ، مما من شأنه الخراب { بِأَمْرِ رَبِّهَا } أي : بإذن الله لها في ذلك ، كقوله : { مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } [الذاريات : 42] أي : كالشيء البالي. ولهذا قال : { فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ } أي : قد بادوا كلهم عن آخرهم ولم تبق لهم باقية ، { كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } أي : هذا حكمنا فيمن كذب رسلنا ، وخالف أمرنا.
وقد ورد حديث في قصتهم وهو غريب جدًا من غرائب الحديث وأفراده ، قال الإمام أحمد :
حدثنا زيد بن الحُبَاب ، حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي قال : حدثنا عاصم بن أبي النَّجُود ، عن أبي وائل ، عن الحارث البكري قال : خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمررت بالرَبْذَة ، فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها ، فقالت لي : يا عبد الله ، إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة ، فهل أنت مبلغي إليه ؟ قال : فحملتها فأتيت بها المدينة ، فإذا المسجد غاص بأهله ، وإذا راية سوداء تخفق ، وإذا بلال متقلد السيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : ما شأن الناس ؟ قالوا : يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها. قال : فجلست ، فدخل منزله - أو قال : رحله - فاستأذنت عليه ، فأذن لي ، فدخلت فسلمت ، فقال : "هل كان بينكم وبين تميم شيء ؟ قلت : نعم ، وكانت لنا الدبرة (4) عليهم ، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع ، بها فسألتني أن أحملها إليك ، وها هي بالباب : فأذن لها فدخلت ، فقلت : يا رسول الله ، إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزا فاجعل الدهناء ، فحميت العجوز واستوفزت ، وقالت : يا رسول الله ، فإلى أين يضطر مضطرك ؟ قال : قلت : إن مثلي ما قال الأول : "مِعْزَى حَمَلَت حَتْفَها" ، حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصما ، أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد. قال : "هيه ، وما وافد عاد ؟" - وهو أعلم بالحديث منه ، ولكن يستطعمه (5) - قلت : إن عادًا قحطوا فبعثوا وافدًا لهم يقال له : قَيل ، فمر بمعاوية بن بكر ، فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان يقال لهما "الجرادتان" - فلما مضى الشهر خرج إلى جبال مَهْرة فقال : اللهم ،
__________
(1) في م : "وقال" وهو خطأ.
(2) في م ، أ : "فسيفعل".
(3) في م ، ت : "ففرحوا به واستبشروا به".
(4) في ت ، أ : "الدائرة".
(5) في أ : "يستعظمه".

(7/286)


إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه ، ولا إلى أسير فأفاديه ، اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه. فمرت به سحابات سود ، فنودي منها : "اختر" ، فأومأ إلى سحابة منها سوداء ، فنودي منها : "خذها رمادًا رمددًا (1) ، لا تبقي من عاد أحدا". قال : فما بلغني أنه أرسل عليهم من الريح إلا كقدر ما يجري في خاتمي هذا ، حتى هلكوا - قال أبو وائل : وصدق - وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدًا لهم قالوا : "لا تكن كوافد عاد".
رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه ، كما تقدم في سورة "الأعراف" (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا هارون بن معروف ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا عمرو : أن أبا النضر حدثه عن سليمان بن يسار ، عن عائشة (3) أنها قالت : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعًا ضاحكا حتى أرى منه لهواته ، إنما كان يتبسم. قالت : وكان (4) إذا رأى غيما - أو ريحا - عرف ذلك في وجهه ، قالت : يا رسول الله ، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر ، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية ؟ فقال : "يا عائشة ، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب ، قد عذب قوم بالريح ، وقد رأى قوم العذاب فقالوا : هذا عارض ممطرنا". وأخرجاه (5) من حديث ابن وهب (6).
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، عن سفيان ، عن المقدام بن شريح ، عن أبيه ، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئا في أفق من آفاق السماء ، ترك عمله ، وإن كان في صلاته ، ثم يقول : "اللهم ، إني أعوذ بك من شر ما فيه" (7). فإن كشفه الله حمد الله ، وإن أمطرت قال : "اللهم ، صيبا نافعا" (8).
طريق أخرى : قال مسلم في صحيحه : حدثنا أبو الطاهر ، أخبرنا ابن وهب ، سمعت ابن جريج يحدث عن عطاء بن أبي رباح ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال : "اللهم ، إني أسألك خيرها ، وخير ما فيها ، وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها ، وشر ما فيها ، وشر ما أرسلت به". قالت : وإذا تَخَيَّلت السماء تغير لونه ، وخرج ودخل ، وأقبل وأدبر ، فإذا مطرت سري عنه ، فعرفت ذلك عائشة ، فسألته ، فقال : "لعله يا عائشة كما قال قوم عاد : { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا } (9).
وقد ذكرنا قصة هلاك عاد (10) في سورتي "الأعراف وهود" (11) بما أغنى عن إعادته هاهنا ، ولله
__________
(1) في ت : "رمدا".
(2) المسند (3/482) وانظر تخريج بقية هذا الحديث عند الآية : 73 من سورة الأعراف.
(3) في ت : "عائشة رضي الله عنها".
(4) في ت ، م : "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(5) في ت : "أخرجه".
(6) المسند (6/66) وصحيح البخاري برقم (4828 ، 4829) وصحيح مسلم برقم (899).
(7) في م : "من سوء عاقبته".
(8) المسند (6/190).
(9) صحيح مسلم برقم (899).
(10) في ت ، م ، أ : "هلاك قوم عاد".
(11) راجع قصة هلاك قوم عاد عند تفسير الآيات : 65 - 72 من سورة الاعراف والآيات : 50 - 60 من سورة هود.

(7/287)


وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)

الحمد والمنة.
وقال الطبراني : حدثنا عبدان بن أحمد ، حدثنا إسماعيل بن زكريا الكوفي ، حدثنا أبو مالك ، عن مسلم الملائي ، عن مجاهد وسعيد بن جبير (1) ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما فتح على عاد من الريح إلا مثل موضع الخاتم ، ثم أرسلت عليهم [فحملتهم] البدو إلى الحضر فلما رآها أهل الحضر قالوا : هذا عارض ممطرنا مستقبل أوديتنا. وكان أهل البوادي فيها ، فألقى أهل البادية على أهل الحاضرة حتى هلكوا. قال : عتت على خزانها حتى خرجت من خلال الأبواب (2) " (3).
{ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) }.
يقول تعالى : ولقد مكنا الأمم السالفة في الدنيا من الأموال والأولاد ، وأعطيناهم منها (4) ما لم نعطكم مثله ولا قريبا منه ، { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي : وأحاط بهم العذاب والنكال الذي كانوا يكذبون به ويستبعدون وقوعه ، أي : فاحذروا أيها المخاطبون أن تكونوا مثلهم ، فيصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب في الدنيا والآخرة.
وقوله : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى } يعني : أهل مكة ، قد أهلك الله الأمم المكذبة بالرسل مما حولها كعاد ، وكانوا بالأحقاف بحضرموت عند اليمن وثمود ، وكانت منازلهم بينهم وبين الشام ، وكذلك سبأ وهم أهل اليمن ، ومدين وكانت في طريقهم وممرهم إلى غزة ، وكذلك بحيرة قوم لوط ، كانوا يمرون بها أيضا.
وقوله : { وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ } أي : بيناها ووضحناها ، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَة } أي : فهلا نصروهم عند احتياجهم إليهم ، { بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ } أي : بل ذهبوا عنهم أحوج ما كانوا إليهم ، { وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ } أي : كذبهم ، { وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي : وافتراؤهم في اتخاذهم إياهم آلهة ، وقد خابوا وخسروا في عبادتهم لها ، واعتمادهم عليها.
__________
(1) في ت : "وروى الطبراني بإسناده".
(2) في ت : "البيوت".
(3) المعجم الكبير (12/42) ، قال الهيثمي في المجمع (7/113) : "فيه مسلم الملائي وهو ضعيف".
(4) في ت : "فيها".

(7/288)


وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)

{ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) }.
قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو : سمعت عكرمة ، عن الزبير : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ } قال : بنخلة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء الآخرة ، { كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } [الجن : 19] ، قال سفيان : اللبد : بعضهم على بعض ، كاللبد بعضه على بعض (1).
تفرد به أحمد ، وسيأتي من رواية ابن جرير ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أنهم سبعة من جن نَصِيبين.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عوانة(ح) - وقال (2) الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه "دلائل النبوة" : أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان ، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار ، حدثنا إسماعيل القاضي ، أخبرنا مسدد ، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير (3) ، عن ابن عباس قال : ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم ، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا : ما لكم ؟ فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب. قالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء ، فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا له ، فقالوا : هذا - والله - الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم ، قالوا : يا قومنا ، إنا سمعنا قرآنا عجبا ، يهدي إلى الرشد فآمنا به ، ولن نشرك بربنا أحدا ، وأنزل الله على نبيه (4) : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ } [الجن : 1] ، وإنما أوحي إليه قول الجن.
رواه البخاري عن مُسَدَّد بنحوه ، وأخرجه مسلم عن شيبان بن فروخ ، عن أبي عوانة ، به. ورواه
__________
(1) المسند (1/167).
(2) في م : "الحافظ الشهير".
(3) في ت : "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(4) في ت ، م ، أ : "نبيه صلى الله عليه وسلم".

(7/289)


الترمذي والنسائي في التفسير ، من حديث أبي عوانة (1).
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا أبو أحمد ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير (2) ، عن ابن عباس ، قال : كان الجن يستمعون (3) الوحي ، فيسمعون الكلمة فيزيدون فيها عشرا ، فيكون ما سمعوا حقًا وما زادوا باطلا وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب ، فشكوا ذلك إلى إبليس فقال : ما هذا إلا من أمر قد حدث. فبث جنوده ، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بين جبلي نخلة ، فأتوه فأخبروه ، فقال : هذا الحدث الذي حدث في الأرض.
ورواه الترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سننيهما ، من حديث إسرائيل به (4) وقال الترمذي : حسن صحيح.
وهكذا رواه أيوب عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس. وكذا رواه العوفي ، عن ابن عباس أيضا ، بمثل هذا السياق بطوله ، وهكذا قال الحسن البصري : إنه ، عليه السلام ، ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله عليه بخبرهم.
وذكر محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان ، عن محمد بن كعب القرظي قصة خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ودعائه إياهم إلى الله عز وجل ، وإبائهم عليه. فذكر القصة بطولها ، وأورد ذلك الدعاء الحسن : "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي" إلى آخره. قال : فلما انصرف عنهم بات بنخلة ، فقرأ تلك الليلة من القرآن فاستمعه الجن من أهل نصيبين (5).
وهذا صحيح ، ولكن قوله : "إن الجن كان استماعهم تلك الليلة". فيه نظر ؛ لأن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء ، كما دل عليه حديث ابن عباس المذكور ، وخروجه ، عليه السلام ، إلى الطائف كان بعد موت عمه ، وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين ، كما قرره ابن إسحاق وغيره [والله أعلم] (6).
وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن زر (7) ، عن عبد الله بن مسعود قال : هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة ، فلما سمعوه قالوا : أنصتوا. قال (8) صه ، وكانوا تسعة (9) أحدهم زوبعة ، فأنزل الله عز وجل : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ } إلى : { ضَلالٍ مُبِينٍ } (10).
__________
(1) المسند (1/252) ، ودلائل النبوة للبيهقي (2/225).
(2) في ت : "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(3) في ت ، م : "فيستمعون".
(4) صحيح البخاري برقم (773) وصحيح مسلم برقم (449) ، وسنن الترمذي برقم (3323) ، والنسائي في السنن الكبرى برقم (1164).
(5) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/419).
(6) زيادة من ت.
(7) في ت : "وروى أبو بكر بن أبي شيبة بسنده".
(8) في ت ، م : "قالوا".
(9) في أ : "سبعة".
(10) ورواه الحاكم في المستدرك (2/456) من طريق أبي بكر بن أبي شيبة به ، وقال : "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.

(7/290)


فهذا مع الأول من رواية ابن عباس يقتضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر بحضورهم في هذه المرة وإنما استمعوا قراءته ، ثم رجعوا إلى قومهم ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالا قوما بعد قوم ، وفوجا بعد فوج ، كما سيأتي بذلك الأخبار في موضعها والآثار ، مما سنوردها (1) هاهنا إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
فأما ما رواه البخاري ومسلم جميعا ، عن أبي قدامة عبيد الله بن سعيد السرخسي ، عن أبي أسامة حماد بن أسامة ، عن مسعر بن كدام ، عن معن بن عبد الرحمن قال : سمعت أبي قال : سألت مسروقا : من آذن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة استمعوا القرآن ؟ فقال : حدثني أبوك - يعني ابن مسعود (2) - أنه آذنته بهم شجرة (3) - فيحتمل أن يكون هذا في المرة الأولى ، ويكون إثباتا مقدما على نفي ابن عباس ، ويحتمل أن يكون هذا في بعض المرات المتأخرات ، والله أعلم. ويحتمل أن يكون في الأولى ولكن لم يشعر بهم حال استماعهم حتى آذنته بهم الشجرة ، أي : أعلمته باستماعهم ، والله أعلم.
قال الحافظ البيهقي : وهذا الذي حكاه ابن عباس رضي الله عنهما (4) ، إنما هو في أول ما سمعت (5) الجن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمت حاله ، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم ، ثم بعد ذلك أتاه داعي الجن فقرأ عليهم القرآن ، ودعاهم إلى الله ، عز وجل ، كما رواه عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه (6).
ذكر الرواية عنه بذلك :
قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا داود عن الشعبي - وابن أبي زائدة ، أخبرنا داود ، عن الشعبي (7) - عن علقمة قال : قلت لعبد الله بن مسعود : هل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد ؟ فقال : ما صحبه منا أحد ، ولكنا فقدناه ذات ليلة بمكة ، فقلنا : اغتيل ؟ استطير ؟ ما فعل ؟ قال : فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فلما كان في وجه الصبح - أو قال : في السحر - إذا نحن به يجيء من قبل حراء ، فقلنا : يا رسول الله - فذكروا له الذي كانوا فيه - فقال : "إنه أتاني داعي الجن ، فأتيتهم فقرأت عليهم". قال : فانطلق ، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم - قال : وقال الشعبي : سألوه الزاد - قال عامر : سألوه بمكة ، وكانوا من جن الجزيرة ، فقال : "كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما كان عليه لحما ، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم - قال - فلا تستنجوا بهما ، فإنهما زاد إخوانكم من الجن".
وهكذا رواه مسلم في صحيحه ، عن علي بن حجر ، عن إسماعيل بن علية ، به نحوه (8).
وقال مسلم أيضا : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود - وهو ابن أبي هند - عن عامر قال : سألت علقمة : هل كان ابن مسعود ، رضي الله عنه ، شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة
__________
(1) في ت : "نوردها".
(2) في ت : "ابن مسعود رضي الله عنه".
(3) صحيح البخاري برقم (3859) وصحيح مسلم برقم (450).
(4) في م ، أ : "عنه".
(5) في أ : "ما استمعت".
(6) دلائل النبوة للبيهقي (2/227).
(7) في ت : "فروى الإمام أحمد بسنده".
(8) المسند (1/436) ، وصحيح مسلم برقم (450).

(7/291)


الجن ؟ قال : فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود ؛ فقلت : هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال : لا ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب ، فقلنا : استطير ؟ اغتيل ؟ قال : فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء ، قال : فقلنا : يا رسول الله ، فقدناك فطلبناك فلم نجدك ، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فقال : "أتاني داعي الجن ، فذهبت معهم ، فقرأت عليهم القرآن". قال : فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ، وسألوه الزاد فقال : "كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما ، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فلا تستنجوا بهما ، فإنهما طعام إخوانكم" (1).
طريق أخرى عن ابن مسعود : قال أبو جعفر بن جرير : حدثني أحمد بن عبد الرحمن ، حدثني عمي ، حدثني يونس ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ؛ أن بن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "بت الليلة أقرأ على الجن ربعا (2) بالحجون" (3).
طريق أخرى : فيها أنه كان معه ليلة الجن ، قال ابن جرير رحمه الله : حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، حدثنا عمي عبد الله بن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن أبي عثمان بن سنة الخزاعي - وكان من أهل الشام (4) - أن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهو بمكة : "من أحب منكم أن يحضر أمر الجن الليلة فليفعل". فلم يحضر منهم أحد غيري ، قال : فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة خط لي برجله خطا ، ثم أمرني أن أجلس فيه ، ثم انطلق حتى قام ، فافتتح القرآن فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه ، حتى ما أسمع صوته ، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين ، حتى بقي منهم رهط ، ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر ، فانطلق فتبرز ، ثم أتاني فقال : "ما فعل الرهط ؟" فقلت : هم أولئك يا رسول الله ، فأعطاهم عظما وروثا زادا ، ثم نهى أن يستطيب أحد بروث أو عظم.
ورواه ابن جرير عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، عن أبي زرعة وهب الله بن راشد ، عن يونس بن يزيد الأيلي ، به (5).
ورواه البيهقي في الدلائل ، من حديث عبد الله بن صالح - كاتب الليث - عن الليث ، عن يونس به (6).
وقد روى إسحاق بن راهويه ، عن جرير ، عن قابوس بن أبي ظبيان ، عن أبيه ، عن ابن مسعود ، فذكر نحو ما تقدم (7).
__________
(1) صحيح مسلم برقم (450).
(2) في م : "وقفا" ، وفي أ : "رفعا".
(3) تفسير الطبري (26/21) ورواه أحمد في المسند (1/416) من طريق يونس عن الزهري ، به.
(4) في ت : "روى مسلم وروى ابن جرير بسنده".
(5) تفسير الطبري (26/21).
(6) دلائل النبوة للبيهقي (2/330) ، ورواه الحاكم في المستدرك (2/503) من طريق عبد الله بن صالح به ، قال الذهبي : "هو صحيح عند جماعة".
(7) وفي إسناده قابوس بن أبي ظبيان ، ضعفه أبو حاتم والنسائي وأحمد ، وقال ابن حبان : "ينفرد عن أبيه بما لا أصل له ، فربما رفع المرسل وأسند الموقوف".

(7/292)


ورواه الحافظ أبو نعيم ، من طريق موسى بن عبيدة ، عن سعيد بن الحارث ، عن أبي المعلى (1) ، عن ابن مسعود فذكر نحوه أيضا (2).
طريق أخرى : قال أبو نعيم : حدثنا أبو بكر بن مالك ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني أبي قال : حدثنا عفان وعكرمة قالا حدثنا معتمر قال : قال أبي : حدثني أبو تميمة ، عن عمرو - ولعله قد يكون قال : البكالي - يحدثه عمرو ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : استتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلقنا حتى أتينا مكان كذا وكذا ، فخط لي خطا فقال : "كن بين ظهر هذه لا تخرج منها ؛ فإنك إن خرجت منها هلكت" فذكر الحديث بطوله وفيه غرابة شديدة (3).
طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن يحيى بن أبي كثير (4) ، عن عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي ؛ أنه قال لابن مسعود : حدثت أنك كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن ؟ قال : أجل. قال : فكيف كان ؟ فذكر الحديث كله ، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم خط عليه خطا ، وقال : "لا تبرح منها" فذكر مثل العَجَاجة السوداء غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذعر ثلاث مرات ، حتى إذا كان قريبا من الصبح ، أتاني النبي (5) صلى الله عليه وسلم فقال : "أنمت ؟" فقلت : لا والله ، ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك ، تقول : "اجلسوا" فقال : "لو خرجت لم آمن أن يخطفك (6) بعضهم". ثم قال : "هل رأيت شيئا ؟" فقلت : نعم رأيت رجالا سودًا مستشعرين (7) ثيابا بياضا. قال : "أولئك جن نصيبين سألوني المتاع - والمتاع : الزاد - فمتعتهم بكل عظم حائل ، أو بعرة أو روثة" - فقلت : يا رسول الله ، وما يغني ذلك عنهم ؟ فقال : "إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل ، ولا روثا إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت ، فلا يستنقين أحد منكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة" (8).
طريق أخرى : قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي وأبو نصر بن قتادة قالا أخبرنا أبو محمد يحيى بن منصور القاضي ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البُوشَنْجي ، حدثنا روح بن صلاح ، حدثنا موسى بن علي بن رباح ، عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود قال : استتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "إن نفرا من الجن - خمسة عشر بني إخوة وبني عم - يأتونني الليلة ، فأقرأ عليهم القرآن" ، فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد ، فخط لي خطا وأجلسني فيه ، وقال لي : "لا تخرج من هذا". فبت فيه حتى أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع السحر في يده عظم حائل وروثة حُمَمة فقال لي : "إذا ذهبت إلى الخلاء فلا تستنج بشيء من هؤلاء". قال : فلما أصبحت قلت : لأعلمن علمي حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، فذهبت فرأيت موضع مبرك (9) ستين بعيرا (10).
طريق أخرى : قال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، حدثنا العباس
__________
(1) في أ : "إسماعيل".
(2) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (10/80) من طريق موسى بن عبيدة الربذي ، به.
(3) لم أجده في دلائل النبوة وهو في المسند للإمام أحمد (1/399).
(4) في ت : "روى ابن جرير بسنده".
(5) في م : "رسول الله".
(6) في أ : "يختطفك".
(7) في ت ، أ : "مستثفرين".
(8) تفسير الطبري (26/21).
(9) في أ : "منزل".
(10) دلائل النبوة للبيهقي (2/231).

(7/293)


بن محمد الدُّوري ، حدثنا عثمان بن عمر (1) ، عن المستمر بن الريان ، عن أبي الجوزاء ، عن عبد الله بن مسعود قال : انطلقت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ، حتى أتى الحجون ، فخط لي خطًا ، ثم تقدم إليهم فازدحموا عليه ، فقال سيد لهم يقال له : "وردان" : أنا أرحلهم عنك. فقال : إني لن يجيرني من الله أحد (2).
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا سفيان ، عن أبي فزارة العبسي ، حدثنا أبو زيد - مولى عمرو بن حريث - عن ابن مسعود قال : لما كان ليلة الجن قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : "أمعك ماء ؟" قلت : ليس معي ماء ، ولكن معي إداوة فيها نبيذ. فقال النبي : "تمرة طيبة وماء طهور" فتوضأ.
ورواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، من حديث أبي زيد ، به (3).
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، أخبرنا ابن لهيعة ، عن قيس بن الحجاج ، عن حنش الصنعاني ، عن ابن عباس ، عن عبد الله بن مسعود ؛ أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ، فقال رسول الله : "يا عبد الله ، أمعك ماء ؟" قال : معي نبيذ في إداوة ، فقال (4) اصبب علي". فتوضأ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "يا عبد الله شراب وطهور" (5).
تفرد به أحمد من هذا الوجه ، وقد أورده الدارقطني من طريق آخر ، عن ابن مسعود ، [به] (6) (7).
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرني أبي عن ميناء ، عن عبد الله قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن ، فلما انصرف تنفس ، فقلت : ما شأنك ؟ قال : "نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود".
هكذا رأيته في المسند مختصرا (8) ، وقد رواه الحافظ أبو نعيم في كتابه "دلائل النبوة" ، فقال : حدثنا سليمان بن أحمد بن أيوب ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم - وحدثنا أبو بكر بن مالك ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا أبي قالا حدثنا عبد الرزاق ، عن أبيه ، عن ميناء ، عن ابن مسعود قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن ، فتنفس ، فقلت : ما لك يا رسول الله ؟ قال : "نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود". قلت : استخلف. قال : "من ؟" قلت : أبا بكر. فسكت (9) ، ثم مضى ساعة فتنفس ، فقلت : ما شأنك بأبي أنت وأمي يا رسول الله ؟ قال : "نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود". قلت : استخلف. قال : "من ؟" قلت : عمر [بن الخطاب] (10). فسكت ، ثم مضى ساعة ، ثم تنفس فقلت : ما شأنك ؟ قال : "نعيت إلي نفسي". قلت : فاستخلف. قال صلى الله عليه وسلم : "من ؟" قلت : علي بن أبي طالب. قال صلى الله عليه وسلم : "أما والذي نفسي بيده ، لئن أطاعوه ليدخلن الجنة أجمعين أكتعين. (11).
__________
(1) في أ : "عن عمر".
(2) دلائل النبوة للبيهقي (2/231).
(3) المسند (1/449) ، وسنن أبي داود برقم (84) وسنن الترمذي برقم (88) وسنن ابن ماجه برقم (384).
(4) في م : "قال".
(5) المسند (1/398) وقد تفرد به ابن لهيعة ، وهو ضعيف.
(6) زيادة من م.
(7) سنن الدارقطني (1/77) من طريق داود بن أبي هند عن عامر بن علقمة بن قيس. قال : قلت لعبد الله بن مسعود : أشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منكم ليلة أتاه داعي الجن ؟ قال : لا ، قال الدارقطني : "هذا الصحيح عن ابن مسعود".
(8) المسند (1/449).
(9) في ت ، م : "أبو بكر. قال : فسكت".
(10) زيادة من م.
(11) المعجم الكبير للطبراني (10/82) وفيه ميناء بن أبي ميناء ، كذاب.

(7/294)


وهو حديث غريب جدًّا ، وأحرى به ألا يكون محفوظا ، وبتقدير صحته فالظاهر أن هذا بعد وفودهم إليه بالمدينة على ما سنورده ، فإن في ذلك الوقت في آخر الأمر لما فتحت مكة ، ودخل الناس والجان أيضا في دين الله أفواجا ، نزلت سورة (1) { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } ، وهي السورة التي نعيت نفسه الكريمة فيها إليه ، كما قد نص على ذلك ابن عباس ، ووافقه عمر بن الخطاب عليه ، وقد ورد في ذلك حديث سنورده عند تفسيرها ، والله أعلم. وقد رواه أبو نعيم أيضا ، عن الطبراني ، عن محمد بن عبد الله الحضرمي ، عن علي بن الحسين بن أبي بردة ، عن يحيى بن سعيد (2) الأسلمي ، عن حرب بن صَبِيح ، عن سعيد بن مسلمة ، عن أبي مرة الصنعاني ، عن أبي عبد الله الجدلي ، عن ابن مسعود ، فذكره وذكر فيه قصة الاستخلاف (3) ، وهذا إسناد غريب ، وسياق عجيب.
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أبي رافع ، عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (4) خط حوله ، فكان أحدهم (5) مثل سواد النحل ، وقال لي : "لا تبرح مكانك" ، فأقرأهم كتاب الله " ، فلما رأى الزُّط قال : كأنهم هؤلاء. وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أمعك ماء ؟" قلت : لا. قال : "أمعك نبيذ ؟" قلت : نعم. فتوضأ به (6).
طريق أخرى مرسلة : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله الظهراني (7) ، أخبرنا حفص بن عمر العدني ، حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة في قوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ } قال : هم اثنا عشر ألفا جاؤوا من جزيرة الموصل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن مسعود : "أنظرني حتى آتيك" ، وخط عليه خطا ، وقال : "لا تبرح حتى آتيك". فلما خشيهم ابن مسعود كاد أن يذهب ، فذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبرح ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "لو ذهبت ما التقينا إلى يوم القيامة" (8).
طريق أخرى مرسلة أيضا : قال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة في قوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ } قال : ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نِينَوَى ، وأن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : "إني أمرت أن أقرأ على الجن فأيكم يتبعني ؟" فأطرقوا ، ثم استتبعهم فأطرقوا ، ثم استتبعهم الثالثة فقال رجل : يا رسول الله ، إن ذاك لذو ندبة فأتبعه ابن مسعود أخو هذيل ، قال : فدخل النبي صلى الله عليه وسلم شعبا يقال له : "شعب الحجون" ، وخط عليه ، وخط على ابن مسعود ليثبته بذلك ، قال : فجعلت أهال وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها ، وسمعت لغطا شديدا ، حتى خفت على نبي الله صلى الله عليه وسلم ، ثم تلا القرآن ، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : يا رسول الله ، ما اللغط الذي سمعت ؟ قال : "اختصموا في قتيل ، فقضي بينهم بالحق". رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم (9).
__________
(1) في ت : "سورة النصر".
(2) في أ : "يعلى".
(3) المعجم الكبير للطبراني (10/81) وفي إسناده يحيى الأسلمي وهو ضعيف.
(4) في م ، أ : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن".
(5) في أ : "فكان يجيء أحدهم".
(6) المسند (1/455).
(7) في م : "الطبراني".
(8) وفي إسناده الحكم بن أبان ، وهو ضعيف.
(9) تفسير الطبري (26/20).

(7/295)


فهذه الطرق كلها تدل (1) على أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الجن قصدا ، فتلا عليهم القرآن ، ودعاهم إلى الله ، عز وجل ، وشرع الله لهم على لسانه ما هم محتاجون إليه في ذلك الوقت. وقد يحتمل أن أول مرة سمعوه يقرأ القرآن [و] (2) لم يشعر بهم ، كما قاله ابن عباس ، رضي الله عنهما (3) ، ثم بعد ذلك وفدوا إليه كما رواه ابن مسعود. وأما ابن مسعود فإنه لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حال مخاطبته الجن ودعائه إياهم ، وإنما كان بعيدا منه ، ولم يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم أحد سواه ، ومع هذا لم يشهد حال المخاطبة ، هذه طريقة البيهقي.
وقد يحتمل أن يكون أول مرة خرج إليهم لم يكن معه ابن مسعود ولا غيره ، كما هو ظاهر سياق الرواية الأولى من طريق الإمام أحمد ، وهي عند مسلم. ثم بعد ذلك خرج معه ليلة أخرى ، والله أعلم ، كما روى ابن أبي حاتم في تفسير : { قُلْ أُوحِيَ } ، من حديث ابن جريج قال : قال عبد العزيز بن عمر : أما الجن الذين لقوه بنخلة فجن نينوى ، وأما الجن الذين لقوه بمكة فجن نصيبين ، وتأوله البيهقي على أنه يقول : "فبتنا بشر ليلة بات بها قوم" ، على غير ابن مسعود ممن لم يعلم بخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الجن ، وهو محتمل على بعد ، والله أعلم.
وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عمرو محمد بن عبد الله (4) الأديب ، أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي ، أخبرنا الحسن بن سفيان ، حدثني سويد بن سعيد ، حدثنا عمرو بن يحيى ، عن جده سعيد بن عمرو ، قال (5) كان أبو هريرة يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإداوة لوضوئه وحاجته ، فأدركه يوما فقال : "من هذا ؟" قال : أنا أبو هريرة قال : "ائتني بأحجار أستنج بها ، ولا تأتني بعظم ولا روثة". فأتيته بأحجار في ثوبي ، فوضعتها إلى جنبه حتى إذا فرغ وقام اتبعته ، فقلت : يا رسول الله ، ما بال العظم والروثة (6) ؟ قال : "أتاني وفد جن نصيبين ، فسألوني الزاد ، فدعوت الله لهم ألا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوه طعاما" (7).
أخرجه البخاري في صحيحه ، عن موسى بن إسماعيل ، عن عمرو بن يحيى ، بإسناده قريبا منه (8) فهذا يدل مع ما تقدم على أنهم وفدوا عليه بعد ذلك. وسنذكر ما يدل على تكرار ذلك.
وقد روي عن ابن عباس غير ما ذكر (9) عنه أولا من وجه جيد ، فقال ابن جرير :
حدثنا أبو كريب ، حدثنا عبد الحميد الحماني ، حدثنا النضر بن عربي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ } الآية ، [قال] (10) كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم (11).
فهذا يدل على أنه قد روى القصتين.
__________
(1) في ت : "فهذه الأحاديث التي ذكرناها كلها تدل".
(2) زيادة من ت.
(3) في ت ، أ : "عنه".
(4) في أ : "عبد الوهاب".
(5) في ت : "وقال الحافظ أبو بكر البيهقي بسنده".
(6) في ت : "الروث".
(7) دلائل النبوة للبيهقي (2/233).
(8) صحيح البخاري برقم (3860).
(9) في أ : "ما روي".
(10) زيادة من أ.
(11) تفسير الطبري (26/22).

(7/296)


وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا سويد بن عبد العزيز ، حدثنا رجل سماه ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ } الآية ، قال : كانوا سبعة نفر ، ثلاثة من أهل حران ، وأربعة من أهل نصيبين ، وكانت أسماؤهم حيى وحسى ومسى ، وشاصر وناصر ، والأرد وإبيان والأحقم.
وذكر أبو حمزة الثمالي أن هذا الحي من الجن كان يقال لهم : بنو الشيصبان ، وكانوا أكثر الجن عددا وأشرفهم نسبا ، وهم كانوا عامة جنود إبليس.
وقال سفيان الثوري ، عن عاصم ، عن ذَرّ ، عن ابن مسعود : كانوا تسعة ، أحدهم زوبعة ، أتوه من أصل نخلة.
وتقدم عنه أنهم كانوا خمسة عشر ، وفي رواية : أنهم كانوا على ستين راحلة ، وتقدم عنه أن اسم سيدهم وردان ، وقيل : كانوا ثلاثمائة ، وتقدم عن عكرمة أنهم كانوا اثنى عشر ألفا ، فلعل هذا الاختلاف دليل على تكرر وفادتهم عليه صلوات الله وسلامه عليه ، ومما يدل على ذلك ما قاله (1) البخاري في صحيحه :
حدثنا يحيى بن سليمان ، حدثني ابن وهب ، حدثني عمر - هو ابن محمد - أن سالما حدثه ، عن عبد الله بن عمر قال : ما سمعت عمر يقول لشيء قط : "إني لأظنه كذا" إلا كان كما يظن ، بينما عمر بن الخطاب جالس إذ مر به رجل جميل ، فقال : لقد أخطأ ظني - أو : إن هذا على دينه في الجاهلية - أو لقد كان كاهنهم - علي بالرجل ، فدعى له (2) ، فقال له ذلك ، فقال : ما رأيت كاليوم استقبل له رجل مسلم. قال : فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني. قال : كنت كاهنهم في الجاهلية. قال : فما أعجب ما جاءتك به جِنِيَّتُك. قال : بينما أنا يوما في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع ، فقالت :
ألم تَرْ الجِنَّ وإبْلاسَهَا... ويَأسَها من بعد إنْكَاسِها...
ولُحوقَها بالقلاص وَأَحْلاسها
قال عمر : صدق ، بينما أنا نائم عند آلهتهم ، إذ جاء رجل بعجل فذبحه ، فصرخ به صارخ ، لم أسمع صارخا قط أشد صوتا منه يقول : يا جليح ، أمر نجيح ، رجل فصيح يقول : "لا إله إلا الله" فوثب (3) القوم ، فقلت : لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا ؟ ثم نادى يا جليح ، أمر نجيح ، رجل فصيح يقول : "لا إله إلا الله". فقمت ، فما نشبنا أن قيل : هذا نبي.
هذا سياق البخاري (4) ، وقد رواه البيهقي من حديث ابن وهب ، بنحوه ، ثم قال : "وظاهر هذه الرواية يوهم أن عمر بنفسه سمع الصارخ يصرخ من العجل الذي ذبح ، وكذلك هو صريح (5) في رواية ضعيفة عن عمر في إسلامه ، وسائر الروايات تدل على أن هذا الكاهن هو الذي أخبر بذلك عن
__________
(1) في م : "ما رواه".
(2) في ت ، م ، أ : "فدعى فجيء به له".
(3) في م ، أ : "قال : فوثب".
(4) صحيح البخاري برقم (3866).
(5) في ت ، م ، أ : "صريحا" وهو خطأ.

(7/297)


رؤيته وسماعه ، والله أعلم" (1).
وهذا الذي قاله البيهقي هو المتجهن وهذا الرجل هو سواد بن قارب ، وقد ذكرت هذا (2) مستقصى في سيرة عمر ، رضي الله عنه ، فمن أراده فليأخذه من ثَمَّ ، ولله الحمد [والمنة] (3).
قال البيهقي : "حديث سواد بن قارب ، ويشبه أن يكون هذا هو الكاهن الذي لم يذكر اسمه في الحديث الصحيح".
أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب المفسر من أصل سماعه ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار الأصبهاني ، قراءة عليه ، حدثنا أبو جعفر أحمد بن موسى الحمار الكوفي بالكوفة ، حدثنا زياد بن يزيد بن بادويه أبو بكر القصري ، حدثنا محمد بن نواس الكوفي ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق ، عن البراء [رضي الله عنه] (4) قال : بينما عمر بن الخطاب يخطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ قال : أيها الناس ، أفيكم سواد بن قارب ؟ قال : فلم يجبه أحد تلك السنة ، فلما كانت السنة المقبلة قال : أيها الناس ، أفيكم سواد بن قارب ؟ قال : فقلت : يا أمير المؤمنين ، وما سواد بن قارب ؟ قال : فقال له عمر : إن سواد بن قارب كان بَدءُ إسلامه شيئا عجيبا ، قال : فبينا نحن كذلك إذ طلع سواد بن قارب ، قال : فقال له عمر : يا سواد حدثنا ببدء إسلامك ، كيف كان ؟ قال سواد : فإني كنت نازلا بالهند ، وكان لي رَئِيّ من الجن ، قال : فبينا أنا ذات ليلة نائم ، إذ جاءني في منامي ذلك. قال : قم فافهم واعقل إن كنت تعقل ، قد بعث رسول من لؤي بن غالب ، ثم أنشأ يقول :
عَجِبتُ للجنِّ وأنْجَاسِها (5) وشَدّها العيسَ بأحْلاسهَا...
تَهْوي إلى مَكةَ تَبْغي الهُدَى... مَا مُؤمنو الجِنِّ كَأرْجَاسهَا...
فَانْهَض إلى الصَّفْوةِ من هَاشمٍ... واسْمُ بعينَيْك إلى رَاسِهَا...
قال : ثم أنبهني فأفزعني ، وقال : يا سواد بن قارب ، إن الله بعث نبيًا فانهض إليه تهتد وترشد. فلما كان من الليلة الثانية أتاني فأنبهني ، ثم أنشأ يقول كذلك :
عَجِبتُ للجنِّ وَتَطْلابِها... وَشَدهَا العِيسَ بأقْتَابِهَا...
تَهْوي إلى مَكّةَ تَبْغي الهُدَى... ليسَ قُداماها كَأذْنَابِها...
فانهض إلى الصّفْوةِ من هَاشمٍ... واسْمُ بعَيْنَيك إلى نَابِها (6)
فلما كان في الليلة الثالثة أتاني فأنبهني ، ثم قال :
عَجِبتُ للجِنّ وَتَخْبارها... وَشَدَّها العِيسَ بأكْوَارهَا...
تَهْوي إلى مَكَّةَ تَبْغِي الهُدَى... لَيْسَ ذَوُو الشَّر كَأخْيَارهَا...
فَانْهَضْ إلى الصَّفْوةِ من هَاشمٍ... مَا مُؤمِنو الجِنِّ كَكُفَّارهَا...
__________
(1) دلائل النبوة للبيهقي 02/245).
(2) في ت : "ذلك".
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من ت.
(5) في أ : "وأجناسها".
(6) في أ : "يابها".

(7/298)


قال : فلما سمعته تكرر ليلة بعد ليلة ، وقع في قلبي حب الإسلام من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله ، قال : فانطلقت إلى رحلي فشددته على راحلتي ، فما حللت [عليه] (1) نسعة ولا عقدت أخرى حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو بالمدينة - يعني مكة - والناس عليه كعرف الفرس ، فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم قال : "مرحبا بك يا سواد بن قارب ، قد علمنا ما جاء بك". قال : قلت : يا رسول الله ، قد قلت شعرا ، فاسمعه مني. قال سواد : فقلت :
أتَانِي رئيَّ بعد لُيَلٍ وهَجْعةٍ... وَلم يَكُ فيما قَدْ بَلوَتُ بكَاذبِ...
ثَلاثٍ لَيَال قَولُه كُلَّ لَيْلَة : ... أتاك رسول (2) من لُؤيّ بن غَالبِ...
فَشَمَّرتُ عن سَاقي الإزَارَ ووسطت... بي الدَّعلب الوَجْنَاءُ عند السَّبَاسبِ...
فَأشْهَدُ أنّ اللهَ لا شَيء غَيْرهُ... وَأَنّكَ مَأْمُونٌ عَلَى كُِّل غَائبِ...
وأَنَّك أَدْنَى المُرْسَلِينَ شَفَاعَة... إلى اللهِ يا ابنَ الأكرَمينَ الأطايبِ...
فَمُرنَا بمَا يَأتِيكَ يا خَيرَ مُرْسل (3) وإنْ كَانَ فِيمَا جَاءَ شَيبُ الذّوَائبِ...
وَكُنْ لي شَفِيعا يَومَ لا ذُو شَفَاعةٍ... سِوَاك بِمغْنٍ عن سَوَاد بن قَاربِ...
قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ، وقال لي : "أفلحت يا سواد" : فقال له عمر : هل يأتيك رئيك الآن ؟ فقال : منذ قرأت القرآن لم يأتني ، ونعم العوض كتاب الله من الجن (4).
ثم أسنده البيهقي من وجهين آخرين (5). ومما يدل على وفادتهم إليه ، عليه السلام (6) ، بعد ما هاجر إلى المدينة ، الحديث الذي رواه الحافظ أبو نعيم في كتاب "دلائل النبوة" [فقال] (7) :
حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا محمد بن عبدة المصيصي ، حدثنا أبو تَوْبَة الربيع بن نافع ، حدثنا معاوية بن سلام ، عن زيد بن أسلم : أنه سمع أبا سلام يقول : حدثني من حدثه عمرو بن غيلان الثقفي قال : أتيت عبد الله بن مسعود فقلت له : حدثت أنك كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن ؟ قال : أجل قلت : حدثني كيف كان شأنه ؟ فقال : إن أهل الصفة أخذ كل رجل منهم رجل (8) يعشيه ، وتركت فلم يأخذني أحد منهم ، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "من هذا ؟" فقلت : أنا ابن مسعود. فقال : "ما أخذك أحد يعشيك ؟" فقلت : لا. قال : "فانطلق لعلي أجد لك شيئا". قال : فانطلقنا حتى أتى حجرة أم سلمة فتركني (9) ودخل إلى أهله ، ثم خرجت الجارية فقالت : يا ابن مسعود ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجد لك عشاء ، فارجع إلى مضجعك. قال : فرجعت إلى المسجد ، فجمعت حصباء المسجد فتوسدته ، والتففت بثوبي ، فلم ألبث إلا قليلا حتى جاءت الجارية ، فقالت :
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت ، م : "نبي".
(3) في ت : "من مشى".
(4) دلائل النبوة للبيهقي (1/248).
(5) دلائل النبوة للبيهقي (1/252).
(6) في أ : "على الإسلام".
(7) زيادة من أ.
(8) في ت ، أ : "رجلا" وهو خطأ.
(9) في أ : "فتركني قائما".

(7/299)


أجب رسول الله (1). فاتبعتها وأنا أرجو العشاء ، حتى إذا بلغت مقامي ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عسيب من نخل ، فعرض به على صدري فقال : "أتنطلق أنت معي (2) حيث انطلقت ؟" قلت : ما شاء الله. فأعادها علي ثلاث مرات ، كل ذلك أقول : ما شاء الله. فانطلق وانطلقت معه ، حتى أتينا بقيع الغرقد ، فخط بعصاه خطا ، ثم قال : "اجلس فيها ، ولا تبرج حتى آتيك". ثم انطلق يمشي وأنا أنظر إليه خلال النخل ، حتى إذا كان من حيث لا أراه ثارت (3) العَجَاجة السوداء ، ففرقت فقلت : ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإني أظن أن (4) هوازن مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه ، فأسعى إلى البيوت ، فأستغيث الناس. فذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني : أن لا أبرح مكاني الذي أنا فيه ، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرعهم بعصاه ويقول : "اجلسوا". فجلسوا حتى كاد ينشق عمود الصبح ، ثم ثاروا وذهبوا ، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "أنمت بعدي ؟" فقلت : لا (5) ، ولقد فزعت الفزعة الأولى ، حتى رأيت أن آتي البيوت فأستغيث الناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك ، وكنت أظنها هوازن ، مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه. فقال : "لو أنك خرجت من هذه الحلقة ما آمنهم (6) عليك أن يختطفك بعضهم ، فهل رأيت من شيء منهم ؟" فقلت : رأيت رجالا سودا مستشعرين (7) بثياب بيض ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أولئك وفد جن نصيبين ، أتوني فسألوني الزاد والمتاع ، فمتعتهم بكل عظم حائل أو روثة أو بعرة". قلت : وما يغني عنهم ذلك ؟ قال : "إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان عليه يوم أكل ، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها الذي كان فيها يوم أكلت ، فلا يستنقي أحد منكم بعظم ولا بعرة (8) " (9).
وهذا إسناد غريب جدًا (10) ، ولكن فيه رجل مبهم لم يسم [والله أعلم] (11) ، وقد روى الحافظ أبو نعيم من حديث بقية بن الوليد ، حدثني نمير بن زيد القنبر (12) ، حدثنا أبي ، حدثنا قحافة بن ربيعة ، حدثني الزبير بن العوام قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح في مسجد المدينة ، فلما انصرف قال : "أيكم يتبعني إلى وفد الجن الليلة ؟" فأسكت القوم ثلاثا ، فمر بي فأخذ بيدي ، فجعلت أمشي معه حتى حبست عنا جبال المدينة كلها ، وأفضينا إلى أرض براز ، فإذا برجال طوال كأنهم الرماح ، مستشعرين (13) بثيابهم من بين أرجلهم ، فلما رأيتهم غشيتني رعدة شديدة ، ثم ذكر نحو حديث ابن مسعود المتقدم (14) ، وهذا حديث غريب ، والله أعلم.
ومما يتعلق بوفود الجن ما رواه الحافظ أبو نعيم : حدثنا أبو محمد بن حيان ، حدثنا أبو الطيب أحمد بن روح ، حدثنا يعقوب الدَّوْرَقي ، حدثنا الوليد بن بكير التميمي ، حدثنا حصين بن عمر (15)
__________
(1) في ت : "رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(2) في ت ، م : "انطلق معي" ، وفي أ : "انطلق أنت معي".
(3) في ت ، م ، أ : "ثارت مثل العجاجة".
(4) في ت ، م ، أ : "هذه".
(5) في أ : "لا والله".
(6) في ت ، م : "ما أمنت" وفي أ : "ما آمن".
(7) في ت ، أ : "مستثفرين".
(8) في ت : "ولا روثة".
(9) لم أجده في دلائل النبوة المطبوعة لأبي نعيم.
(10) في تن أ : "وهذا سياق غريب".
(11) زيادة من ت ، أ.
(12) في ت ، أ : "حدثني بهز بن يزيد الليثي".
(13) في ت ، أ : "مستثفرين".
(14) لم أجده في دلائل النبوة المطبوعة لأبي نعيم.
(15) في م : "عمير".

(7/300)


، أخبرني عبيد المُكتب ، عن إبراهيم قال : خرج نفر من أصحاب عبد الله (1) يريدون الحج ، حتى إذا كانوا في بعض الطريق ، إذا هم بحية تنثني (2) على الطريق أبيض ، ينفخ منه ريح المسك ، فقلت لأصحابي : امضوا ، فلست ببارح حتى أنظر إلى ما يصير إليه أمر هذه الحية. قال : فما لبثت أن ماتت ، فعمدت إلى خرقة بيضاء فلففتها فيها ، ثم نحيتها عن الطريق فدفنتها ، وأدركت أصحابي في المتعشى. قال : فوالله إنا لقعود إذ أقبل (3) أربع نسوة من قبل المغرب ، فقالت واحدة منهن : أيكم دفن عمرًا ؟ قلنا : ومن عمرو ، قالت : أيكم دفن الحية ؟ قال : قلت : أنا. قالت : أما والله لقد دفنت صواما قواما ، يأمر بما أنزل الله ، ولقد آمن بنبيكم ، وسمع صفته من (4) السماء قبل أن يبعث بأربعمائة عام. قال الرجل فحمدنا (5) الله ، ثم قضينا حجتنا (6) ، ثم مررت بعمر بن الخطاب في المدينة ، فأنبأته بأمر الحية ، فقال : صدقت ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لقد آمن بي قبل أن أبعث بأربعمائة سنة" (7).
وهذا حديث غريب جدا ، والله أعلم.
قال أبو نعيم : وقد روى الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن الشعبي ، عن رجل من ثقيف ، بنحوه. وروى عبد الله بن أحمد والِّظهراني ، عن صفوان بن المعطل - هو الذي نزل ودفن تلك الحية من بين الصحابة - وأنهم قالوا : أما إنه آخر التسعة موتا الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمعون القرآن (8).
وروى أبو نعيم من حديث الليث بن سعد ، عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجِشُون ، عن عمه (9) ، عن معاذ بن عُبَيْد الله (10) بن معمر قال : كنت جالسا عند عثمان بن عفان ، فجاء رجل فقال : يا أمير المؤمنين ، إني كنت بفلاة من الأرض ، فذكر أنه رأى ثعبانين (11) اقتتلا ثم قتل أحدهما الآخر ، قال : فذهبت إلى المعترك ، فوجدت حيات كثيرة مقتولة ، وإذ ينفح من بعضها ريح المسك ، فجعلت أشمُّها واحدة واحدة ، حتى وجدت ذلك من حية صفراء رقيقة ، فلففتها في عمامتي ودفنتها. فبينا أنا أمشي إذ ناداني (12) مناد : يا عبد الله ، لقد هُدِيتَ! هذان حيان (13) من الجن بنو أشعيبان وبنو أقيش التقوا ، فكان من القتلى ما رأيت ، واستشهد الذي دفنته ، وكان من الذين سمعوا الوحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال : فقال عثمان لذلك الرجل : إن كنت صادقا فقد رأيت عجبا ، وإن كنت كاذبا فعليك كذبك (14).
فقوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ } أي : طائفة من الجن ، { يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا }
__________
(1) في م : "عبيد الله".
(2) في أ : "تمشي".
(3) في ت ، م : "جاء".
(4) في ت : "في".
(5) في أ : "فحمدت".
(6) في ت ، م ، أ : "حجنا".
(7) دلائل النبوة لأبي نعيم (ص306).
(8) لم أجده في دلائل النبوة المطبوعة لأبي نعيم.
(9) في ت : "وروى أبو نعيم بإسناده".
(10) في ت ، م ، أ : "عبد الله".
(11) في ت ، أ ، م : "إعصارين".
(12) في أ : "هذا جان".
(13) في ت ، م : "نادى".
(14) دلائل النبوة لأبي نعيم (ص305).

(7/301)


أي : استمعوا (1) وهذا أدب منهم.
وقد قال الحافظ البيهقي : حدثنا الإمام أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان ، أخبرنا أبو الحسن محمد بن عبد الله الدقاق ، حدثنا محمد بن إبراهيم البُوشَنْجي ، حدثنا هِشام بن عمار الدمشقي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن زهير بن محمد ، عن محمد بن المُنْكَدِر ، عن جابر بن عبد الله قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة "الرحمن" حتى ختمها ، ثم قال : "ما لي أراكم سكوتا ، لَلْجِنّ كانوا أحسن منكم ردًا ، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } إلا قالوا : ولا بشيء من آلائك - أو نعمك - ربنا نكذب ، فلك الحمد".
ورواه الترمذي في التفسير ، عن أبي مسلم عبد الرحمن بن واقد ، عن الوليد بن مسلم به (2). قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه ، فقرأ عليهم سورة الرحمن ، فذكره ، ثم قال الترمذي : "غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد ، عن زهير" كذا قال. وقد رواه البيهقي من حديث مروان بن محمد الطاطري ، عن زهير بن محمد ، به مثله (3) (4).
وقوله : { فَلَمَّا قُضِيَ } أي : فرغ. كقوله : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ } [الجمعة : 10] ، { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } [فصلت : 12] ، { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ } [البقرة : 200]{ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ } أي : رجعوا إلى قومهم فأنذروهم ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كقوله : { لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [التوبة : 122].
وقد استدل بهذه الآية على أنه في الجن نُذُرٌ ، وليس فيهم رسل : ولا شك أن الجن لم يبعث الله منهم رسولا ؛ لقوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [يوسف : 109] ، وقال { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ } [الفرقان : 20] ، وقال عن إبراهيم الخليل : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } [العنكبوت : 27].
فكل نبي بعثه الله بعد إبراهيم فمن ذريته وسلالته ، فأما قوله تعالى في [سورة] (5) الأنعام : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } [الأنعام : 130] ، فالمراد من مجموع الجنسين ، فيصدق على أحدهما وهو الإنس ، كقوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } [الرحمن : 22] أي : أحدهما. ثم إنه تعالى فسر إنذار الجن لقومهم فقال مخبرًا عنهم : { قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ] } (6) ، ولم يذكروا عيسى ؛ لأن عيسى ، عليه السلام ، أنزل عليه الإنجيل فيه مواعظ وترقيقات وقليل من التحليل والتحريم ، وهو في الحقيقة كالمتمم لشريعة التوراة ، فالعمدة هو التوراة ؛ فلهذا قالوا : أنزل من بعد موسى. وهكذا قال ورقة بن نوفل ، حين أخبره النبي
__________
(1) في ت ، م : "استمعوه".
(2) دلائل النبوة للبيهقي (1/232) وسنن الترمذي برقم (3291).
(3) في ت : "بمعناه".
(4) دلائل النبوة للبيهقي (1/232).
(5) زيادة من ت.
(6) زيادة من أ.

(7/302)


صلى الله عليه وسلم بقصة نزول جبريل [عليه السلام] (1) عليه أول مرة ، فقال : بَخ بَخ ، هذا الناموس الذي كان يأتي موسى ، يا ليتني أكون فيها جَذَعًا.
{ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : من الكتب المنزلة قبله على الأنبياء. وقولهم : { يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ } أي : في الاعتقاد والإخبار ، { وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ } في الأعمال ، فإن القرآن يشتمل على شيئين (2) خبر وطلب (3) ، فخبره صدق ، وطلبه عدل ، كما قال : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا } [الأنعام : 115] ، وقال { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ } [التوبة : 33] ، فالهدى هو : العلم النافع ، ودين الحق : هو العمل الصالح. وهكذا قالت الجن : { يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ } في الاعتقادات ، { وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ } أي : في العمليات.
{ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ } فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمدًا صلوات الله وسلامه عليه (4) إلى الثقلين الإنس والجن حيث دعاهم إلى الله ، وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين ، وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم ، وهي سورة الرحمن ؛ ولهذا قال (5) { أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ }
وقوله : { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ } قيل : إن "من" هاهنا زائدة وفيه نظر ؛ لأن زيادتها في الإثبات قليل ، وقيل : إنها على بابها للتبغيض ، { وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } أي : ويقيكم من عذابه الأليم.
وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة ، وإنما جزاء صالحيهم أن يجاروا من عذاب النار يوم القيامة ؛ ولهذا قالوا هذا في هذا المقام ، وهو مقام تبجح ومبالغة فلو كان لهم جزاء على الإيمان أعلى من هذا لأوشك أن يذكروه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي قال : حدثت عن جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : لا يدخل مؤمنو الجن الجنة ؛ لأنهم من ذرية إبليس ، ولا تدخل ذرية إبليس الجنة.
والحق أن مُؤمِنَهم كمؤمني الإنس يدخلون الجنة ، كما هو مذهب جماعة (6) من السلف ، وقد استدل بعضهم لهذا بقوله : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ } [الرحمن : 74] ، وفي هذا الاستدلال نظر ، وأحسن منه قوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن : 46 ، 47] ، فقد امتن تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة ، وقد قابلت الجِنّ هذه الآية بالشكر القولي أبلغ من الإنس ، فقالوا : "ولا بِشَيء من آلائك ربنا نكذب ، فلك الحمد" فلم يكن تعالى ليمتنّ عليهم بجزاء لا يحصل لهم ، وأيضا فإنه إذا كان يجازي كافرهم بالنار - وهو مقام عدل - فَلأنْ يجازي مؤمنهم بالجنة - وهو مقام فَضْل - بطريق الأولى والأحرى. ومما يدل أيضا على ذلك عمومُ قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نزلا } [الكهف : 107] ، وما
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت : "نوعين".
(3) في أ : "خبرا وطلبا".
(4) في ت : "صلى الله عليه وسلم".
(5) في م : "قالوا".
(6) في ت ، أ : "طائفة".

(7/303)


أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)

أشبه ذلك من الآيات. وقد أفردت هذه المسألة في جزء على حدة ، ولله الحمد والمنة. وهذه الجنة لا يزال فيها فضل حتى ينشئ الله لها خلقا ، أفلا يسكنها من آمن به وعمل له صالحا ؟ وما ذكروه هاهنا من الجزاء على الإيمان من تكفير الذنوب والإجارة من العذاب الأليم ، هو يستلزم دخول الجنة ؛ لأنه ليس في الآخرة إلا الجنة أو النار ، فمن أجير من النار دخل الجنة لا محالة. ولم يرد معنا نص صريح ولا ظاهر عن (1) الشارع أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة وإن أجيروا من النار ، ولو صح لقلنا به ، والله أعلم. وهذا نوح ، عليه السلام ، يقول لقومه : { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } [نوح : 4] ، (2) ولا خلاف أن مؤمني قومه في الجنة ، فكذلك هؤلاء. وقد حكي فيهم أقوال غريبة فعن عُمَر بن عبد العزيز : أنهم لا يدخلون بُحْبُوحَةَ الجنة ، وإنما يكونون في رَبَضها وحولها وفي أرجائها. ومن الناس من زعم أنهم في الجنة يراهم بنو آدم ولا يرون بني آدم عكس ما كانوا عليه في الدار الدنيا. ومن الناس من قال : لا يأكلون في الجنة ولا يشربون ، وإنما يلهمون التسبيح والتحميد والتقديس ، عِوَضا عن الطعام والشراب كالملائكة ، لأنهم من جنسهم. وكل هذه الأقوال فيها نظر ، ولا دليل عليها.
ثم قال مخبرا عنه : { وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ } أي : بل قدرة الله شاملة له ومحيطة به ، { وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ } أي : لا يجيرهم منه أحدٌ { أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } وهذا مقامُ تهديد وترهيب ، فَدَعَوا قومهم بالترغيب والترهيب ؛ ولهذا نجع في كثير منهم ، وجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفودا وفودا ، كما تقدم بيانه.
{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) }.
يقول تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا } أي : هؤلاء المنكرون للبعث يوم القيامة ، المستبعدون لقيام الأجساد يوم المعاد { أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ } أي : ولم يَكْرثهُ خَلْقُهن ، بل قال لها : "كوني" فكانت ، بلا ممانعة ولا مخالفة ، بل طائعة مجيبة خائفة وجلة ، أفليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ؟ كما قال في الآية الأخرى : { لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [غافر : 57] ، ولهذا قال : { بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
__________
(1) في أ : "من".
(2) في ت ، أ : "ويجركم" وهو خطأ.

(7/304)


ثم قال متهددا ومتوعدا لمن كفر به : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ } أي : يقال لهم : أما هذا حق ؟ أفسحر هذا ؟ أم أنتم لا تبصرون ؟ { قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا } أي : لا يسعهم إلا الاعتراف ، { قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } ثم قال تعالى آمرا رسوله (1) صلى الله عليه وسلم بالصبر على تكذيب من كذبه من قومه ، { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } أي : على تكذيب قومهم لهم. وقد اختلفوا في تعداد أولي العزم على أقوال ، وأشهرها أنهم : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، وخاتم الأنبياء كلهم محمد صلى الله عليه وسلم ، قد نص الله على أسمائهم من بين الأنبياء في آيتين من (2) سُورَتَي "الأحزاب" و "الشورى" ، وقد يحتمل أن يكون المراد بأولي العزم جميع الرّسُل ، وتكون { مِنَ } في قوله : { مِنَ الرُّسُلِ } لبيان الجنس ، والله أعلم. وقد قال ابن أبي حاتم :
حدثنا محمد بن الحجاج الحضرمي ، حدثنا السري بن حَيَّان ، حدثنا عباد بن عباد ، حدثنا مجالد بن سعيد ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : قالت لي عائشة [رضي الله عنها] (3) : ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما ثم طواه ، ثم ظل صائما ثم طواه ، ثم ظل صائما ، [ثم] (4) قال : "يا عائشة ، إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد. يا عائشة ، إن الله لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ، ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم ، فقال : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } وإني - والله - لأصبرن كما صبروا جَهدي ، ولا قوة إلا بالله" (5)
{ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ } أي : لا تستعجل لهم حلول العقوبة بهم ، كقوله : { وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا } [المزمل : 11] ، وكقوله { فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا } [الطارق : 17].
{ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ } ، كقوله { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [النازعات : 46] ، وكقوله { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } [يونس : 45] ، [وحاصل ذلك أنهم استقصروا مدة لبثهم في الدنيا وفي البرزخ حين عاينوا يوم القيامة وشدائدها وطولها] (6).
وقوله : { بَلاغٌ } قال ابن جرير : يحتمل معنيين ، أحدهما : أن يكون تقديره : وذلك لَبثَ بلاغ. والآخر : أن يكون تقديره : هذا القرآن بلاغ.
وقوله : { فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } أي : لا يهلك على الله إلا هالك ، وهذا من عدله تعالى أنه لا يعذب إلا من يستحق العذاب.
آخر تفسير سورة الأحقاف
__________
(1) في ت : "لرسوله".
(2) في ت : "في".
(3) زيادة من ت.
(4) زيادة من ت ، م ، أ.
(5) ورواه الديلمي في مسند الفردوس برقم (8628) "مكرر" من طريق محمد بن حجاج الحضرمي به.
(6) زيادة من ت ، أ.

(7/305)


الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)

تفسير سورة القتال
[وهي مدنية] (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نزلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) }.
يقول تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : بآيات الله ، { وصدوا } غيرهم { عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي : أبطلها وأذهبها ، ولم يجعل لها جزاء ولا ثوابا ، كقوله تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [ الفرقان : 23 ].
ثم قال : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي : آمنت قلوبهم وسرائرهم ، وانقادت جوارحهم وبواطنهم وظواهرهم ، { وَآمَنُوا بِمَا نزلَ عَلَى مُحَمَّدٍ } ، عطف خاص على عام ، وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله : { وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ } جملة معترضة حسنة ؛ ولهذا قال : { كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } قال ابن عباس : أي أمرهم. وقال مجاهد : شأنهم. وقال قتادة وابن زيد : حالهم. والكل متقارب. وقد جاء في حديث تشميت العاطس : "يهديكم الله ويصلح بالكم" (2).
ثم قال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ } أي : إنما أبطلنا أعمال الكفار ، وتجاوزنا عن سيئات الأبرار ، وأصلحنا شؤونهم ؛ لأن الذين كفروا اتبعوا الباطل ، أي : اختاروا الباطل على الحق ، { وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } أي : يبين لهم مآل أعمالهم ، وما يصيرون إليه في معادهم.
__________
(1) زيادة من ت ، م ، أ.
(2) رواه أبو داود في السنن برقم (5038) والترمذي في السنن برقم (2739) وابن ماجه في السنن برقم (3715) وقال الترمذي : "هذا حديث حسن صحيح".

(7/306)


فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)

{ فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) }.
يقول تعالى مرشدا للمؤمنين إلى ما يعتمدونه في حروبهم مع المشركين : { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ } أي : إذا واجهتموهم فاحصدوهم حصدا بالسيوف ، { حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا } أي : أهلكتموهم قتلا { فشدوا } [وثاق] (1) الأسارى الذين تأسرونهم ، ثم أنتم بعد انقضاء الحرب وانفصال المعركة مخيرون في أمرهم ، إن شئتم مننتم عليهم فأطلقتم أساراهم مجانا ، وإن شئتم فاديتموهم بمال تأخذونه منهم وتشاطرونهم عليه. والظاهر أن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر ، فإن الله ، سبحانه ، عاتب المؤمنين على الاستكثار من الأسارى يومئذ ليأخذوا منهم الفداء ، والتقلل من القتل يومئذ فقال : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ الأنفال : 67 ، 68 ].
ثم قد ادعى بعض العلماء أن هذه الآية - المخيرة بين مفاداة الأسير والمن عليه - منسوخة بقوله تعالى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ] } (2) الآية [ التوبة : 5 ] ، رواه العوفي عن ابن عباس. وقاله قتادة ، والضحاك ، والسدي ، وابن جُرَيْج.
وقال الآخرون - وهم الأكثرون - : ليست بمنسوخة.
ثم قال بعضهم : إنما الإمام مُخَيَّر بين المن على الأسير ومفاداته فقط ، ولا يجوز له قتله.
وقال آخرون منهم : بل له أن يقتله إن شاء ، لحديث قتل النبي صلى الله عليه وسلم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي مُعَيط من أسارى بدر ، وقال ثمامة بن أثال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال له : "ما عندك يا ثمامة ؟" فقال : إن تَقْتَلْ تَقْتُلْ ذا دَمٍ ، وإن تمنن تمنن على شاكر ، وإن كنت تريد المال فَسَلْ تُعطَ منه ما شئت (3).
وزاد الشافعي ، رحمه الله ، فقال : الإمام مخير بين قتله أو المن عليه ، أو مفاداته أو استرقاقه أيضا. وهذه المسألة مُحَرّرة في علم الفروع ، وقد دللنا على ذلك في كتابنا "الأحكام" ، ولله الحمد والمنة.
وقوله : { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } قال مجاهد : حتى ينزل عيسى ابن مريم
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) زيادة من أ.
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (4372) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(7/307)


[عليه السلام]. (1) وكأنه أخذه من قوله صلى الله عليه وسلم : "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال" (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن إبراهيم بن سليمان ، عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرَشي (3) ، عن جُبَير بن نُفيَر ؛ أن سلمة بن نُفيَل أخبرهم : أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني سَيَّبْتُ الخيل ، وألقيت السلاح ، ووضعت الحرب أوزارها ، وقلت : "لا قتال" فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "الآن جاء القتال ، لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الناس يُزيغ (4) الله قلوب أقوام فيقاتلونهم : ويرزقهم الله (5) منهم ، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك. ألا إن عُقْرَ دار المؤمنين الشام ، والخيلُ معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة".
وهكذا رواه النسائي من طريقين ، عن جُبَيْر بن نُفَير ، عن سلمة بن نُفَيْل السكوني ، به (6).
وقال أبو القاسم البغوي : حدثنا داود بن رُشَيْد ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن محمد بن مهاجر ، عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرَشي ، عن جبير بن نُفَير ، عن النواس بن سمعان قال : لما فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم فَتْح فقالوا : يا رسول الله ، سيبت الخيل ، ووضعت السلاح ، ووضعت الحرب أوزارها ، قالوا : لا قتال ، قال : "كذبوا ، الآن ، جاء القتال ، لا يزال الله يُرَفِّع (7) قلوب قوم يقاتلونهم ، فيرزقهم منهم ، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ، وعُقْر دار المسلمين بالشام".
وهكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن داود بن رُشَيْد ، به (8). والمحفوظ أنه من رواية سلمة بن نُفَيْل كما تقدم. وهذا يقوي القول بعدم النسخ ، كأنه شرع هذا الحكم في الحرب إلى ألا يبقى حرب.
وقال قتادة : { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } حتى لا يبقى شرك. وهذا كقوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } [ البقرة : 193 ]. ثم قال بعضهم : { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أي : أوزار المحاربين ، وهم المشركون ، بأن يتوبوا إلى الله عز وجل. وقيل : أوزار أهلها (9) بأن يبذلوا الوسع في طاعة الله ، عز وجل.
وقوله : { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ } أي : هذا ولو شاء الله لانتقم من الكافرين بعقوبة ونَكَال من عنده ، { وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } أي : ولكن شرع لكم الجهاد وقتال الأعداء ليختبركم ، ويبلو أخباركم. كما ذكر حكمته في شرعية الجهاد في سورتي "آل عمران" و "براءة" في قوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 142 ].
__________
(1) زيادة من ت.
(2) رواه أبو داود في السنن برقم (2484) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
(3) في ت : "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(4) في أ : "يرفع".
(5) في أ : "قاتلونهم ويرزقه الله".
(6) المسند (4/104) وسنن النسائي (6/214).
(7) في أ : "يرفع".
(8) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (1617) "موارد" من طريق أبي يعلى عن داود بن رشيد به ، ورواه النسائي في السنن (6/214) من طريق إبراهيم بن أبي عبلة ، عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي ، عن جبير بن نفير عن سلمة بن نفيل مرفوعا بنحوه.
(9) في ت ، أ : "وقيل : أوزارها".

(7/308)


وقال في سورة براءة : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ التوبة : 14 ، 15 ].
ثم لما كان من شأن القتال أن يُقتل كثيرٌ من المؤمنين ، قال : { وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي : لن يذهبها بل يكثرها وينميها ويضاعفها. ومنهم من يجري عليه عمله في طول بَرْزَخه ، كما ورد بذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده ، حيث قال :
حدثنا زيد بن يحيى الدمشقي ، حدثنا ابن ثوبان ، عن أبيه ، عن مكحول ، عن كثير بن مُرّة (1) ، عن قيس الجذامي - رجل كانت له صحبة - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه : يُكَفر عنه كل خطيئة ، ويرى مقعده من الجنة ، ويزوج من الحور العين ، ويؤمن من الفزع الأكبر ، ومن عذاب القبر ، ويحلى حُلَّة (2) الإيمان" (3). تفرد (4) به أحمد رحمه الله.
حديث آخر : قال أحمد (5) أيضا : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن بَحِير (6) ابن سعيد ، عن خالد بن مَعْدان ، عن المقدام بن معد يكرب الكندي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن للشهيد عند الله ست خصال : أن يغفر له في أول دَفْعَة من دمه ، ويرى مقعده من الجنة ، ويحلى حُلَّة (7) الإيمان ، ويزوج من الحور العين ، ويجار من عذاب القبر ، ويَأمَن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويُشَفَّع في سبعين إنسانا من أقاربه".
وقد أخرجه الترمذي وصححه ابن ماجه (8).
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عَمْرو ، وعن أبي قتادة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يُغفر للشهيد كل شيء إلا الدَّيْن" (9). وروي من حديث جماعة من الصحابة ، وقال أبو الدرداء : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته". ورواه أبو داود (10). والأحاديث في فضل الشهيد (11) كثيرة جدا.
وقوله : { سيهديهم } أي : إلى الجنة ، كقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } [ يونس : 9 ].
__________
(1) في ت : "أحمد بإسناده".
(2) في أ : "بحلة".
(3) المسند (4/200) قال الهيثمي في المجمع (5/293) : "فيه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبانن وثقه أبو حاتم وجماعة وضعفه جماعة".
(4) في ت : "انفرد".
(5) في ت : "وروى أحمد".
(6) في م ، أ : "يحيى".
(7) في ت ، م ، أ : "حلية".
(8) المسند (4/131) وسنن الترمذي برقم (1663) وسنن ابن ماجه برقم (2799).
(9) صحيح مسلم برقم (1886).
(10) سنن أبي داود برقم (2522).
(11) في ت ، م : "الشهداء".

(7/309)


وقوله : { وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } أي : أمرهم وحالهم ، { وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } أي : عرفهم بها وهداهم إليها.
قال مجاهد : يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم ، وحيث قسم الله لهم منها ، لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا ، لا يستدلون عليها أحدا. وروى مالك عن ابن زيد بن أسلم نحو هذا.
وقال محمد بن كعب : يعرفون بيوتهم إذا دخلوا الجنة ، كما تعرفون بيوتكم إذا انصرفتم من الجمعة.
وقال مقاتل بن حَيَّان : بلغنا أن الملك الذي كان وُكِّل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه في الجنة ، ويتبعه ابن آدم حتى يأتي أقصى منزل هو له ، فيعرّفه كل شيء أعطاه الله في الجنة ، فإذا انتهى إلى أقصى منزله في الجنة دخل [إلى] (1) منزله وأزواجه ، وانصرف الملك عنه ذكرهن (2) ابن أبي حاتم ، رحمه الله.
وقد ورد الحديث الصحيح بذلك أيضا ، رواه البخاري من حديث قتادة ، عن أبي المتوكل الناجي ، عن أبي سعيد الخدري [رضي الله عنه] (3) ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار ، يتقاصّون مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا هُذّبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة ، والذي نفسي بيده ، إن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزله الذي كان في الدنيا" (4).
ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } ، كقوله : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ } [ الحج : 40 ] ، فإن الجزاء من جنس العمل ؛ ولهذا قال : { وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } ، كما جاء في الحديث : "من بَلَّغ ذا سلطان حاجة مَنْ لا يستطيع إبلاغها ، ثبت الله قدمه على الصراط يوم القيامة".
ثم قال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ } ، عكس تثبيت الأقدام للمؤمنين الناصرين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد ثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "تَعِس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد القَطِيفة - [وفي رواية : تعس عبد الخميصة] (5) - تعس وانتكس ، وإذا شِيكَ فلا انتقش" ، أي : فلا شفاه الله.
وقوله : { وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي : أحبطها وأبطلها ؛ ولهذا قال : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ } أي : لا يريدونه ولا يحبونه ، { فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في ت : "ذكر هذا".
(3) زيادة من ت.
(4) صحيح البخاري برقم (6535).
(5) زيادة من تن أ.

(7/310)


أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)

{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ (11) }

(7/311)


إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)

{ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ (13) }.
يقول تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا } يعني : المشركين بالله المكذبين لرسوله { فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } أي : عاقبهم بتكذيبهم وكفرهم ، أي : ونجى المؤمنين من بين أظهرهم ؛ ولهذا قال : { وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا }
ثم قال : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ } ، ولهذا لما قال أبو سفيان صخرُ بن حرب رئيس المشركين يوم أحد حين سأل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن أبي بكر وعمر فلم يجب ، وقال : أما هؤلاء فقد هلكوا ، وأجابه عمر بن الخطاب فقال : كذبت يا عدو الله ، بل أبقى الله لك ما يسوؤك ، وإن الذين عَدَدت لأحياء [كلهم] (1). فقال أبو سفيان : يوم بيوم بدر ، والحرب سِجال ، أما إنكم ستجدون مُثْلَةً لم آمر بها ولم تسؤني ، ثم ذهب يرتجز ويقول : اعل هُبَل ، اعل هبل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا تجيبوه ؟" قالوا : يا رسول الله ، وما نقول ؟ قال : "قولوا : الله أعلى وأجلّ" ثم قال أبو سفيان : لنا العزى ، ولا عُزّى لكم. فقال : "ألا تجيبوه ؟" قالوا : وما نقول يا رسول الله ؟ قال : "قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم" (2).
ثم قال [تعالى (3) { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي : يوم القيامة { وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ } أي : في دنياهم ، يتمتعون بها ويأكلون منها كأكل الأنعام ، خَضْما وقضما وليس لهم همة إلا في ذلك. ولهذا ثبت في الصحيح : "المؤمن يأكل في مِعيّ واحد ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء" (4).
ثم قال : { وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ } أي : يوم جزائهم.
وقوله : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ } يعني : مكة ، { أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ } ، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لأهل مكة ، في تكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو سيد المرسلين (5) وخاتم الأنبياء ، فإذا كان الله ، عز وجل ، قد أهلك الأمم الذين كذبوا الرسل قبله بسببهم ، وقد كانوا أشد قوة من هؤلاء ، فماذا ظن هؤلاء أن يفعل الله بهم في الدنيا والأخرى ؟ فإن رفع عن كثير منهم العقوبة في الدنيا لبركة وجود الرسول نبي الرحمة ، فإن العذاب يوفر على
__________
(1) زيادة من أ.
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (4043) من حديث البراء رضي الله عنه.
(3) زيادة من أ.
(4) رواه البخاري في صحيحه برقم (5393) ومسلم في صحيحه برقم (2060) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(5) في ت : "الرسل".

(7/311)


أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)

الكافرين به في معادهم ، { يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ } [ هود : 20 ].
وقوله : { مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ } أي : الذين أخرجوك من بين أظهرهم.
وقال ابن أبي حاتم : ذكر أبي ، عن محمد بن عبد الأعلى ، عن المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن حَنَش (1) ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن النبي (2) صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار أراه قال : التفت (3) إلى مكة - وقال : "أنت أحب بلاد الله إلى الله ، وأنت أحبّ بلاد الله إليّ ، ولو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك" (4). فأعدى الأعداء من عَدَا على الله في حرمه ، أو قتل غير قاتله ، أو قتل بذُحُول الجاهلية ، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ }
{ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) }.
يقول : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } أي : على بصيرة ويقين في أمر الله ودينه ، بما أنزل الله في كتابه من الهدى والعلم ، وبما جَبَله الله عليه من الفطرة المستقيمة ، { كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } أي : ليس هذا ، كهذا كقوله : { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى } [ الرعد : 19 ] ، وكقوله : { لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ الحشر : 20 ].
ثم قال : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ } قال عكرمة : { مَثَلُ الْجَنَّةِ } أي : نعتها (5) : { فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ } قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة : يعني غير متغير. وقال قتادة ، والضحاك ، وعطاء الخراساني : غير منتن. والعرب تقول : أَسِن الماء ، إذا تَغَيَّر ريحه.
وفي حديث مرفوع أورده ابن أبي حاتم : { غَيْرِ آسِنٍ } يعني : الصافي الذي لا كَدَر فيه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وَكِيع ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مُرَّة (6) ، عن مسروق قال : قال عبد الله : أنهار الجنة تُفَجَّر من جبل من مسك.
__________
(1) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بسنده".
(2) في ت : "أن رسول الله".
(3) في ت ، م : "وداراه".
(4) ورواه الطبري في تفسيره (26/31).
(5) في ت ، م ، أ : "نعيمها".
(6) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بسنده".

(7/312)


{ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } أي : بل في غاية البياض والحلاوة والدسومة. وفي حديث مرفوع : "لم يخرج من ضُرُوع الماشية".
{ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ } أي : ليست كريهة الطعم والرائحة كخمر الدنيا ، بل [هي] (1) حسنة المنظر والطعم والرائحة والفعل ، { لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزفُونَ } [ الصافات : 47] ، { لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزفُونَ } [ الواقعة : 19] ، { بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ } [ الصافات : 46] ، وفي حديث مرفوع : "لم تعصرها الرجال بأقدامها".
[وقوله] (2) { وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى } أي : وهو في غاية الصفاء ، وحسن اللون والطعم والريح ، وفي حديث مرفوع : "لم يخرج من بطون النحل".
وقال (3) الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا الجُريري ، عن حكيم بن معاوية ، عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "في الجنة بحر اللبن ، وبحر الماء ، وبحر العسل ، وبحر الخمر ، ثم تشقق الأنهار منها بعد".
ورواه الترمذي في "صفة الجنة" ، عن محمد بن بَشار ، عن يزيد بن هارون ، عن سعيد بن إياس الجَريري ، به (4) وقال : حسن صحيح.
وقال أبو بكر بن مردويه (5) حدثنا أحمد بن محمد بن عاصم ، حدثنا عبد الله بن محمد بن النعمان ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا الحارث بن عبيد أبو قدامة الإيادي ، حدثنا أبو عمران الجوني ، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هذه الأنهار تَشخُبُ من جنة عدن في جَوْبَة ، ثم تصدع بعد أنهارا" (6)
وفي الصحيح : "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ، ومنه تُفَجَّر أنهار الجنة ، وفوقه عرش الرحمن" (7).
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا مصعب بن إبراهيم بن حمزة الزبيري ، وعبد الله بن الصفر السكري قالا حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ، حدثنا عبد الرحمن بن المغيرة ، حدثني عبد الرحمن بن عياش ، عن دلهم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر بن المنتفق العقيلي ، عن أبيه ، عن عمه لقيط بن عامر ، قال دلهم : وحدثنيه أيضا أبو الأسود ، عن عاصم بن لقيط أن لقيط
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) زيادة من ت.
(3) في ت : "وروى".
(4) المسند (5/5) وسنن الترمذي برقم (2571) ورواه أبو نعيم في الحلية (6/204) عن طريق الجريري به ، وقال : "غريب عن الجريري تفرد به عن حكيم".
(5) في ت : "وروى ابن مردويه".
(6) ورواه أبو نعيم في صفة الجنة برقم (314) من طريق معلى بن أسد عن الحارث بن عبيد به.
(7) سبق تخريج الحديث عند تفسير الآية : 133 من سورة آل عمران.

(7/313)


بن عامر خرج وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : يا رسول الله ، فعلام نطلع من الجنة ؟ قال : "على أنهار عسل مصفى ، وأنهار من خمر (1) ما بها صداع ولا ندامة ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وماء غير آسن ، وفاكهة ، لعمر إلهك ما تعلمون وخير من مثله ، وأزواج مطهرة" قلت : يا رسول الله ، أو لنا فيها أزواج مصلحات ؟ قال : "الصالحات للصالحين تلذونهن مثل لذاتكم في الدنيا ويلذونكم ، غير ألا توالد" (2).
وقال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا : حدثنا يعقوب بن عبيدة (3) ، عن يزيد بن هارون ، أخبرني الجريري ، عن معاوية بن قرة ، عن أبيه (4) ، عن أنس بن مالك قال : لعلكم تظنون أن أنهار الجنة تجري في أخدود في الأرض ، والله إنها لتجري سائحة على وجه الأرض ، حافاتها قباب اللؤلؤ ، وطينها المسك الأذْفَر (5).
وقد رواه أبو بكر ابن مَرْدُويه ، من حديث مهدي بن حكيم ، عن يزيد بن هارون ، به مرفوعا (6).
وقوله : { وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } ، كقوله : { يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ } [ الدخان : 55]. وقوله : { فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } [ الرحمن : 52 ].
وقوله : { وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ } أي : مع ذلك كله.
وقوله : { كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ } أي : أهؤلاء الذين ذكرنا منزلتهم من الجنة كمن هو خالد في النار ؟ ليس هؤلاء كهؤلاء ، أي : ليس من هو في الدرجات كمن هو (7) في الدركات ، { وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا } أي : حارا (8) شديد الحر ، لا يستطاع. { فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ } أي : قطع ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء ، عياذا بالله من ذلك.
__________
(1) في ت ، م ، أ : "كأس".
(2) المعجم الكبير (19/211) من حديث طويل كأن الحافظ اختصره ، وصورة السند في المعجم الكبير : "حدثنا مصعب بن إبراهيم بن حمزة الزبيري وعبد الله بن الصقر العسكري - وصوابه : السكري - قالا : حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ، حدثنا عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الله بن خالد بن حزام ، حدثني عبد الرحمن بن عياش الأنصاري ثم المسعودي عن دلهم بن الأسود عن عاصم بن لقيط أن لقيط بن عامر خرج... الحديث". وهناك عطف بالواو يوهم أن هناك إسنادا آخر رواه الطبراني ، وليس عنده إلا من هذا الطريق ، وقد رواه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند (4/13) من طريق إبراهيم بن حمزة بن مصعب بن الزبير عن عبد الرحمن بن المغيرة الحزامي عن عبد الله بن عياش عن دلهم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر بن المنتفق العقيلي عن أبيه عن عمه لقيط بن عامر فذكره.
(3) في م : "عبيد".
(4) في ت : "وروى ابن أبي الدنيا بسنده".
(5) وذكره المنذري في الترغيب والترهيب (4/518) وقال : "وروى ابن أبي الدنيا بسنده".
(6) ورواه أبو نعيم في الحلية (6/205) من طريق محمد بن أحمد الزهري عن مهدي بن حكيم بن مهدي به مرفوعا.
(7) في م : "هو خالد".
(8) في ت : "صار".

(7/314)


وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)

{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) }.
يقول تعالى مخبرا عن المنافقين في بلادتهم وقلة فهمهم حيث كانوا يجلسون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه ولا يفهمون منه شيئا ، فإذا خرجوا من عنده { قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } من الصحابة : { مَاذَا قَالَ آنِفًا } أي : الساعة ، لا يعقلون ما يقال (1) ، ولا يكترثون له.
قال الله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } أي : فلا فهم صحيح ، ولا قصد صحيح.
ثم قال : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى } أي : والذين قصدوا الهداية وفقهم الله لها فهداهم إليها ، وثبتهم عليها وزادهم منها ، { وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } أي : ألهمهم رشدهم.
وقوله : { فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً } أي : وهم غافلون عنها ، { فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا } أي : أمارات اقترابها ، كقوله تعالى : { هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى أَزِفَتِ الآزِفَةُ } [ النجم : 56 ، 57 ] ، وكقوله : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } [ القمر : 1 ] وقوله : { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ } [ النحل : 1] ، وقوله : { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 1 ] ، فبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة ؛ لأنه خاتم الرسل الذي أكمل الله به الدين ، وأقام به الحجة على العالمين. وقد أخبر - صلوات الله وسلامه عليه - بأمارات الساعة وأشراطها ، وأبان عن ذلك وأوضحه بما لم يؤته نبي قبله ، كما هو مبسوط في موضعه.
وقال الحسن البصري : بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة. وهو كما قال ؛ ولهذا جاء في أسمائه عليه السلام ، أنه نبي التوبة ، ونبي الملحمة ، والحاشر الذي يُحشَر الناس على قدميه ، والعاقب الذي ليس بعده نبي.
وقال (2) البخاري : حدثنا أحمد بن المقدام ، حدثنا فضيل بن سليمان ، حدثنا أبو حازم ، حدثنا (3) سهل بن سعد قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بأصبعيه هكذا ، بالوسطى والتي تليها : "بعثت أنا والساعة كهاتين" (4).
ثم قال تعالى : { فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ } أي : فكيف للكافرين بالتذكر (5) إذا جاءتهم القيامة ، حيث لا ينفعهم ذلك (6) ، كقوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى } [ الفجر : 23 ] ،
__________
(1) في أ : "ما يقول".
(2) في ت : "وروى".
(3) في ت : "عن".
(4) صحيح البخاري برقم (4936).
(5) في ت : "التذكير".
(6) في ت : "التذكير".

(7/315)


{ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [ سبأ : 52 ].
وقوله : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ } هذا إخبار : بأنه لا إله إلا الله ، ولا يتأتى (1) كونه آمرا بعلم ذلك ؛ ولهذا عطف عليه بقوله : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي ، وإسرافي في أمري ، وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر لي هَزْلي وجدّي ، وخَطَئي وعَمْدي ، وكل ذلك عندي" (2). وفي الصحيح أنه كان يقول في آخر الصلاة : "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أسرفت ، وما أنت أعلم به مني ، أنت إلهي لا إله إلا أنت" (3) وفي الصحيح أنه قال : "يا أيها الناس ، توبوا إلى ربكم ، فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" (4)
وقال (5) الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن عاصم الأحول قال : سمعت (6) عبد الله بن سرجس قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلت معه من طعامه ، فقلت : غفر الله لك يا رسول الله فقلت : استغفر لك (7) ؟ فقال : "نعم ، ولكم" ، وقرأ : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } ، ثم نظرت إلى نُغْض كتفه الأيمن - أو : كتفه الأيسر شعبة الذي شك - فإذا هو كهيئة الجمع عليه الثآليل.
رواه مسلم ، والترمذي ، والنسائي (8) ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من طرق ، عن عاصم الأحول ، به (9).
وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو يعلى : حدثنا مُحَرَّز بن عون (10) ، حدثنا عثمان بن مطر ، حدثنا عبد الغفور ، عن أبي نَصِيرَة ، عن أبي رجاء ، عن أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار ، فأكثروا منهما ، فإن إبليس قال : أهلكت (11) الناس بالذنوب ، وأهلكوني بـ "لا إله إلا الله" ، والاستغفار فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء ، فهم يحسبون أنهم مهتدون" (12).
وفي الأثر المروي : "قال إبليس : وعزتك وجلالك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في
__________
(1) في أ : "إلا هو ولا ينافي".
(2) صحيح البخاري برقم (6398).
(3) صحيح مسلم برقم (769).
(4) صحيح البخاري برقم (6307).
(5) في ت : "وروى".
(6) في ت : "عن".
(7) في ت ، م ، أ : "استغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(8) في ت : "والنسائي وابن ماجه".
(9) المسند (5/82) وصحيح مسلم برقم (2346) والشمائل للترمذي برقم (22) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11496).
(10) في م : "محمد بن عوف" وفي هـ : "محمد بن عون". والتصويب من مسند أبي يعلى.
(11) في م : "قال : إنما أهلكت".
(12) مسند أبي يعلى (1/123) ، وقال الهيثمي في المجمع (10/207) : "فيه عثمان بن مطر وهو ضعيف".

(7/316)


أجسادهم. فقال الله عز وجل : وعزتي وجلالي ولا أزال أغفر لهم ما استغفروني" (1)
والأحاديث في فضل الاستغفار كثيرة جدا.
وقوله : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } أي : يعلم تصرفكم في نهاركم ومستقركم في ليلكم ، كقوله : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ } [ الأنعام : 60 ] ، وكقوله : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ هود : 6 ]. وهذا القول ذهب إليه ابن جريج ، وهو اختيار ابن جرير. وعن ابن عباس : متقلبكم في الدنيا ، ومثواكم في الآخرة.
وقال السدي : متقلبكم في الدنيا ، ومثواكم في قبوركم.
والأول أولى وأظهر ، والله أعلم.
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (3/29) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(7/317)


وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)

{ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) }.
يقول تعالى مخبرا عن المؤمنين أنهم تمنوا شرعية الجهاد ، فلما فرضه الله ، عز وجل (1) ، وأمر به نكل عنه كثير من الناس ، كقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا } [النساء : 77].
وقال ها هنا : { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ } أي : مشتملة على حُكْم القتال ؛ ولهذا قال : { فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } أي : من فزعهم ورعبهم وجبنهم من لقاء الأعداء. ثم قال مشجعا لهم : { فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ } أي : وكان الأولى بهم أن يسمعوا ويطيعوا ، أي : في الحالة الراهنة ، { فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ } أي : جد الحال ، وحضر القتال ، { فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ } أي : أخلصوا له النية ، { لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ }
وقوله : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ } أي : عن الجهاد ونكلتم عنه ، { أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ }
__________
(1) في ت : "الله تعالى".

(7/317)


أي : تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء ، تسفكون الدماء وتقطعون الأرحام ؛ ولهذا قال : { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموما ، وعن قطع الأرحام خصوصا ، بل قد أمر [الله] (1) تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام ، وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال وبذل الأموال. وقد وردت الأحاديث الصحاح والحسان بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من طرق عديدة ، ووجوه كثيرة.
قال البخاري : حدثنا خالد بن مَخْلَد ، حدثنا سليمان ، حدثني معاوية بن أبي مُزَرّد ، عن سعيد بن يسار (2) ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "خلق الله الخلق ، فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن عز وجل ، فقال : مه! فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة. فقال : ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ؟ قالت : بلى. قال : فذاك (3). قال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } (4).
ثم رواه البخاري من طريقين آخرين ، عن معاوية بن أبي مزرد ، به. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اقرؤوا إن شئتم : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } (5) ورواه مسلم من حديث معاوية بن أبي مزرد ، به (6).
وقال (7) الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل أخبرنا عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن ، عن أبيه ، عن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من ذنب أحرى أن يعجل الله عقوبته في الدنيا ، مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة ، من البغي وقطيعة الرحم".
رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ، من حديث إسماعيل - هو ابن عُلَية - به (8). وقال الترمذي : هذا حديث صحيح.
وقال (9) الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا ميمون أبو محمد المرئي ، حدثنا محمد بن عباد المخزومي ، عن ثوبان ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من سره النِّساء في الأجل ، والزيادة في الرزق ، فليصل رحمه" (10). تفرد به أحمد ، وله شاهد في الصحيح.
__________
(1) زيادة من ت ، م ، أ.
(2) في ت : "فروى البخاري بسنده".
(3) في أ : "فذلك لك".
(4) صحيح البخاري برقم (4830).
(5) صحيح البخاري برقم (4831 ، 4832) لكن زاد أبو الحباب بين معاوية وسعيد بن يسار.
(6) صحيح مسلم برقم (2554) من طريق معاوية بن أبي مزرد عن عمه أبي الحباب عن سعيد بن يسار به.
(7) في ت : "وروى".
(8) المسند (5/38) وسنن أبي داود برقم (4902) وسنن الترمذي برقم (2511) وسنن ابن ماجه برقم (4211).
(9) في ت : "وروى".
(10) المسند (5/279) وشاهده حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا : "من سره أن يبسط عليه رزقه ، أو ينسأ في أثره فليصل رحمه". رواه البخاري في صحيحه برقم (5986) ومسلم في صحيحه برقم (2557) واللفظ لمسلم.

(7/318)


وقال (1) أحمد أيضا : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا حجاج بن أرطاة ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن لي ذوي أرحام ، أصل ويقطعون ، وأعفو ويظلمون ، وأحسن ويسيئون ، أفأكافئهم ؟ قال : "لا إذن تتركون جميعا ، ولكن جُدْ بالفضل وصلهم ؛ فإنه لن يزال معك ظهير من الله ، عز وجل ، ما كنت على ذلك" (2).
تفرد به من هذا الوجه ، وله شاهد (3) من وجه آخر.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يَعْلَى ، حدثنا فِطْر ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو (4) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الرحم معلقة بالعرش ، وليس الواصل بالمكافئ ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها" ، رواه البخاري (5) (6).
وقال أحمد : حدثنا بهز ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا قتادة ، عن أبي ثمامة الثقفي ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "توضع الرحم يوم القيامة لها حُجْنَة كحجنة المغزل ، تتكلم بلسان طُلَق ذُلَق ، فتصل من وصلها وتقطع من قطعها" (7).
وقال (8) الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو ، عن أبي قابوس ، عن عبد الله بن عمرو - يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم - قال : "الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا أهل الأرض (9) يرحمكم أهل السماء ، والرحم شُجْنَة من الرحمن ، من وصلها وصلته ، ومن قطعها بتته".
وقد رواه أبو داود (10) والترمذي ، من حديث سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، به (11). وهذا هو الذي يروي بتسلسل الأولية (12) ، وقال الترمذي : حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا هشام الدَّسْتَوائي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ ؛ أن أباه حدثه : أنه دخل على عبد الرحمن بن عوف وهو مريض ، فقال له عبد الرحمن : وصلتك رَحمٌ ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "قال الله عز وجل : أنا الرحمن ، خلقت الرحم وشققت لها من اسمي ، فمن يصلها أصله ، ومن يقطعها أقطعه فأبته - أو قال : من يبتها أبته".
تفرد به من هذا الوجه (13). ورواه أحمد أيضا من حديث الزهري ، عن أبي سلمة ، عن الرداد -
__________
(1) في ت : "وروى".
(2) المسند (2/181).
(3) في أ : "شواهد".
(4) في ت : "عن ابن عمر".
(5) في ت : "انفرد به".
(6) المسند (2/163) وصحيح البخاري برقم (5991).
(7) المسند (2/189) قال الهيثمي في المجمع (8/150) : "رجال أحمد رجال الصحيح غير أبي ثمامة الثقفي ، وثقه ابن حبان".
(8) في ت : "رواه".
(9) في أ : "ارحموا من في الأرض".
(10) في ت : "وقد رواه أحمد وأبو داود".
(11) المسند (2/160) وسنن أبي داود برقم (4941) وسنن الترمذي برقم (1924).
(12) وأروي هذا الحديث بالإجازة مسلسلا بأول ما سمع ، إلا أن الأولية تنقطع فيما فوق سفيان ، وعلى هذا فشرط المسلسل غير كتحقق عند التدقيق.
(13) المسند (1/191).

(7/319)


أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)

أو أبي الردّاد - عن عبد الرحمن بن عوف ، به (1). ورواه أبو داود والترمذي ، من رواية أبي سلمة ، عن أبيه (2). والأحاديث في هذا كثيرة.
وقال الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا محمد بن عمار الموصلي ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن محمد بن عبد الله بن علاثة (3) ، عن الحجاج بن الفُرَافِصَة ، عن أبي عمر البصري ، عن سلمان (4) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الأرواح جنود مجندة ، فما تَعارف منها ائتلف/ ، وما تناكر منها اختلف" (5).
وبه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا ظهر القول ، وخزن العمل ، وائتلفت الألسنة ، وتباغضت القلوب ، وقطع كل ذي رحم رحمه ، فعند ذلك لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم" (6).
{ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نزلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) }.
يقول تعالى آمرًا بتدبر القرآن وتفهمه ، وناهيا عن الإعراض عنه ، فقال : { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } أي : بل على قلوب أقفالها ، فهي مُطْبَقَة لا يخلص إليها شيء من معانيه.
قال ابن جرير : حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد قال : حدثنا (7) حماد بن زيد ، حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما : { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } ، فقال شاب من أهل اليمن : بل عليها (8) أقفالها حتى يكون الله عز وجل يفتحها أو يفرجها. فما زال الشاب في نفس عمر ، رضي الله عنه ، حتى ولي ، فاستعان به (9).
ثم قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ } أي : فارقوا الإيمان ورجعوا إلى الكفر ، { مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ } أي : زين لهم ذلك وحسنه ، { وَأَمْلَى لَهُمْ } أي : غرهم
__________
(1) المسند (1/194) وقال الترمذي في السنن : "روى معمر عن الزهري هذا الحديث عن أبي سلمة عن رداد الليثي عن عبد الرحمن ابن عوف ، قال محمد - يعني البخاري - : حديث معمر خطأ" والصحيح الرواية الآتية في السنن.
(2) سنن أبي داود برقم (1624) وسنن الترمذي برقم (1907).
(3) في هـ : "الحجاج بن يونس" والتصويب من المعجم الكبير.
(4) في هـ : "سليمان" والتصويب من المعجم الكبير.
(5) المعجم الكبير (6/263) وقال الهيثمي في المجمع (7/287) : "فيه جماعة لم أعرفهم". وله شاهد من حديث أبي هريرة رواه أحمد في المسند (2/295).
(6) المعجم الكبير (6/263) والكلام عليه كالذي قبله.
(7) في ت ، م : "ابن".
(8) في تن م : "بل على قلوب".
(9) تفسير الطبري (26/37).

(7/320)


أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)

وخدعهم ، { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نزلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ } أي : مالئوهم وناصحوهم في الباطن على الباطل ، وهذا شأن المنافقين يظهرون خلاف ما يبطنون ؛ ولهذا قال الله عز وجل : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } أي : [يعلم] (1) ما يسرون وما يخفون ، الله مطلع عليه وعالم به ، كقوله : { وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } [ النساء : 81 ].
ثم قال : { فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } أي : كيف حالهم إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم وتعصت الأرواح في أجسادهم ، واستخرجتها الملائكة بالعنف والقهر والضرب ، كما قال : { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } الآية [ الأنفال : 50 ] ، وقال : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ } أي : بالضرب { أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } [ الأنعام : 93 ] ؛ ولهذا قال ها هنا : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }
{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) }
__________
(1) زيادة من ت.

(7/321)


وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)

{ وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) }.
يقول تعالى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ } أي : اعتقد (1) المنافقون أن الله لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين ؟ بل سيوضح أمرهم ويجليه حتى يفهمهم (2) ذوو البصائر ، وقد أنزل تعالى في ذلك سورة "براءة" ، فبين فيها فضائحهم وما يعتمدونه من الأفعال الدالة على نفاقهم ؛ ولهذا إنما كانت تسمى الفاضحة. والأضغان : جمع ضغن ، وهو ما في النفوس من الحسد والحقد للإسلام وأهله والقائمين بنصره.
وقوله : { وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ } يقول تعالى : ولو نشاء يا محمد لأريناك أشخاصهم ، فعرفتهم (3) عيانا ، ولكن لم يفعل تعالى ذلك في جميع المنافقين سترا منه على خلقه ، وحملا للأمور على ظاهر السلامة ، ورد السرائر إلى عالمها ، { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } أي : فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم ، يفهم المتكلم من أي الحزبين هو بمعاني كلامه وفحواه ، وهو المراد من لحن القول ، كما قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه : ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه ، وفلتات لسانه. وفي الحديث : "ما أسر أحد سريرة إلا كساه الله
__________
(1) في م : "أيعتقد".
(2) في أ : "يفهمه".
(3) في ت : "تعرفهم".

(7/321)


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)

جلبابها ، إن خيرا فخير ، وإن شرًّا فشر" (1). وقد ذكرنا ما يستدل به على نفاق الرجل ، وتكلمنا على نفاق العمل والاعتقاد (2) في أول "شرح البخاري" ، بما أغنى عن إعادته ها هنا. وقد ورد في الحديث تعيين جماعة من المنافقين. قال الإمام أحمد :
حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن سلمة ، عن عياض بن عياض ، عن أبيه ، عن أبي مسعود عقبة بن عمرو ، رضي الله عنه ، قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : "إن منكم (3) منافقين ، فمن سميت فليقم". ثم قال : "قم يا فلان ، قم يا فلان ، قم يا فلان". حتى سمى ستة وثلاثين رجلا ثم قال : "إن فيكم - أو : منكم (4) - فاتقوا الله". قال : فمر عمر برجل ممن سمى مقنع قد كان يعرفه ، فقال : ما لك ؟ فحدثه بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : بعدًا لك سائر اليوم (5).
وقوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ } أي : ولنختبرنكم بالأوامر والنواهي ، { حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ }. وليس في تقدم علم الله تعالى بما هو كائن أنه سيكون شك ولا ريب ، فالمراد : حتى نعلم وقوعه ؛ ولهذا يقول ابن عباس في مثل هذا : إلا لنعلم ، أي : لنرى.
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) }.
يخبر تعالى عمن كفر وصد عن سبيل الله ، وخالف الرسول وشاقه ، وارتد عن الإيمان من بعد ما تبين له الهدى : أنه لن يضر الله شيئًا ، وإنما يضر نفسه ويخسرها يوم معادها ، وسيحبط الله عمله فلا يثيبه على سالف ما تقدم من عمله الذي عقبه بردته مثقال بعوضة من خير ، بل يحبطه ويمحقه بالكلية ، كما أن الحسنات يذهبن السيئات.
وقد قال الإمام محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة : حدثنا أبو قدامة ، حدثنا وكيع ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية قال : (6) كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يظنون أنه لا يضر مع "لا إله إلا الله" ذنب ، كما لا ينفع مع الشرك عمل ، فنزلت : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ }
k فخافوا أن يبطل الذنب العمل.
__________
(1) سيأتي تخريج هذا الحديث عند تفسير الآية : 29 من سورة الفتح.
(2) في أ : "النفاق العملي والاعتقادي".
(3) في ت : "فيكم".
(4) في ت : "ومنكم".
(5) المسند (5/273) قال الهيثمي في المجمع (1/112) : "فيه عياض بن أبي عياض عن أبيه ولم أر من ترجمهما".
(6) في ت : "روى الإمام أحمد بإسناده".

(7/322)


إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)

ثم روي من طريق عبد الله بن المبارك : أخبرني بكير بن معروف ، عن مقاتل بن حيان ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبول ، حتى نزلت : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } ، فقلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فقلنا : الكبائر الموجبات والفواحش ، حتى نزلت : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [ النساء : 48 ] ، فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك ، فكنا نخاف على من أصاب الكبائر والفواحش ، ونرجو لمن لم يصيبها (1).
ثم أمر تعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله التي هي سعادتهم في الدنيا والآخرة ، ونهاهم عن الارتداد الذي هو مبطل للأعمال ؛ ولهذا قال : { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } أي : بالردة ؛ ولهذا قال بعدها : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } ، كقوله { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } الآية.
ثم قال لعباده المؤمنين : { فَلا تَهِنُوا } أي : لا تضعفوا عن الأعداء ، { وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ } أي : المهادنة والمسالمة ، ووضع القتال بينكم وبين الكفار في حال قوتكم وكثرة عَدَدِكم وعُدَدِكُمْ ؛ ولهذا قال : { فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ } أي : في حال علوكم على عدوكم ، فأما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة (2) بالنسبة إلى جميع المسلمين ، ورأى الإمام في المعاهدة والمهادنة مصلحة ، فله أن يفعل ذلك ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صده كفار قريش عن مكة ، ودعوه إلى الصلح ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين ، فأجابهم إلى ذلك.
وقوله : { وَاللَّهُ مَعَكُمْ } فيه بشارة عظيمة بالنصر والظفر على الأعداء ، { وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } أي : ولن يحبطها ويبطلها ويسلبكم إياها ، بل يوفيكم ثوابها ولا ينقصكم منها شيئا.
{ إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) }.
يقول تعالى تحقيرًا لأمر الدنيا وتهوينا لشأنها : { إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } أي : حاصلها ذلك إلا ما كان منها لله عز وجل ؛ ولهذا قال : { وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ } أي : هو غني عنكم لا يطلب منكم شيئا ، وإنما فرض عليكم الصدقات من الأموال مواساة لإخوانكم
__________
(1) تعظيم قدر الصلاة للمروزي برقم (698 ، 699).
(2) في ت : "فئة كثيرة".

(7/323)


الفقراء ، ليعود نفع ذلك عليكم ، ويرجع ثوابه إليكم.
ثم قال : { إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا } أي : يحرجكم (1) تبخلوا : { وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ }
قال قتادة : "قد علم الله أن في إخراج الأموال إخراج الأضغان". وصدق قتادة فإن المال محبوب ، ولا يصرف إلا فيما هو أحب إلى الشخص منه.
وقوله : { هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ } أي : لا يجيب إلى ذلك { وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ } أي : إنما نقص نفسه من الأجر ، وإنما يعود وبال ذلك عليه ، { وَاللَّهُ الْغَنِيُّ } أي : عن كل ما سواه ، وكل شيء فقير إليه دائما ؛ ولهذا قال : { وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ } أي : بالذات إليه. فوصفه بالغنى وصف لازم له ، ووصف الخلق بالفقر وصف لازم لهم ، [أي] (2) لا ينفكون عنه.
وقوله : { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا } أي : عن طاعته واتباع شرعه (3) { يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } أي : ولكن يكونون سامعين مطيعين له ولأوامره.
وقال (4) ابن أبي حاتم ، وابن جرير : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني مسلم بن خالد ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (5) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية : { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } ، قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدل بنا ثم لا يكونوا أمثالنا ؟ قال : فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي ثم قال : "هذا وقومه ، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس" (6) تفرد به مسلم بن خالد الزنجي ، ورواه عنه غير واحد ، وقد تكلم فيه بعض الأئمة ، والله أعلم.
آخر تفسير سورة القتال
__________
(1) في أ : "يحوجكم".
(2) زيادة من ت.
(3) في ت : "شرعته" وفي أ : "شريعته".
(4) في ت : "وروى".
(5) زيادة من ت.
(6) تفسير الطبري (26/43) ومسلم بن خالد الزنجي ضعفه ابن معين وقال البخاري : منكر الحديث لكنه لم ينفرد به ، فقد توبع :
تابعه شيخ من أهل المدينة عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه به ، أخرجه الترمذي برقم (3260) وقال : "هذا حديث غريب في إسناده مقال".
تابعه عبد الله بن جعفر بن نجيح عن العلاء عن أبيه به ، أخرجه الترمذي برقم (3261) وعبد الله بن جعفر والد على بن المديني ضعيف.

(7/324)


إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)

تفسير سورة الفتح
وهي مكية
قال الإمام أحمد (1) حدثنا وَكِيع ، حدثنا شُعْبَة ، عن معاوية بن قرة قال : سمعت عبد الله بن مغفل يقول : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في مسيره سورة الفتح على راحلته فرجَّع فيها - قال معاوية : لولا أني أكره أن يجتمع الناس علينا لحكيت لكم قراءته ، أخرجاه من حديث شعبة به (2).
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) }.
نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة ، حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام ليقضي عمرته فيه ، وحالوا بينه وبين ذلك ، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة ، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتي من قابل ، فأجابهم إلى ذلك على تكره من جماعة من الصحابة ، منهم عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، كما سيأتي تفصيله في موضعه من تفسير هذه السورة إن شاء الله. فلما نحر هديه حيث أحصر ، ورجع ، أنزل الله ، عز وجل ، هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم ، وجعل ذلك الصلح فتحًا باعتبار ما فيه من المصلحة ، وما آل الأمر إليه ، كما روى عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، وغيره أنه قال : إنكم تعدون الفتح فتح مكة ، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية.
وقال الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية (3).
وقال (4) البخاري : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة ، وقد كان فتح مكة فتحًا ، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية ، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة ، والحديبية بئر. فنزحناها فلم نترك فيها قطرة ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاها فجلس على شفيرها ، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ، ثم تمضمض ودعا ، ثم صبه فيها ، فتركناها غير بعيد ، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركائبنا (5).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو نوح ، حدثنا مالك بن أنس ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه (6) ، عن عمر بن الخطاب قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، قال : فسألته عن شيء - ثلاث مرات - فلم
__________
(1) في ت : "وروى البخاري ومسلم والإمام أحمد".
(2) المسند (5/24) وصحيح البخاري برقم (4835) وصحيح مسلم برقم (794).
(3) رواه الطبري (26/44).
(4) في ت : "وروى".
(5) صحيح البخاري برقم (4150).
(6) في ت : "وروى الإمام أحمد بإسناده".

(7/325)


يرد علي ، قال : فقلت لنفسي : ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ، نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فلم يرد عليك ؟ قال : فركبت راحلتي فتقدمت مخافة أن يكون نزل في شيء ، قال : فإذا أنا بمناد ينادي : يا عمر ، أين عمر ؟ قال : فرجعت وأنا أظن أنه نزل في شيء ، قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "نزلت (1) علي الليلة (2) سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ }.
ورواه البخاري ، والترمذي ، والنسائي من طرق ، عن مالك ، رحمه الله (3) ، وقال علي بن المديني : هذا إسناد مديني [جيد] (4) لم نجده إلا عندهم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم : { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } مرجعه من الحديبية ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على الأرض" ، ثم قرأها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : هنيئا مريئا يا نبي الله ، لقد بين الله ، عز وجل ، ماذا يفعل بك ، فماذا يفعل بنا ؟ فنزلت عليه : { لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ } حتى بلغ : { فَوْزًا عَظِيمًا } [الفتح : 5] ، أخرجاه في الصحيحين من رواية قتادة به (5).
وقال (6) الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا مُجَمِّعُ بن يعقوب ، قال : سمعت أبي يحدث عن عمه عبد الرحمن بن أبي يزيد الأنصاري عن عمه مجمع بن جارية الأنصاري - وكان أحد (7) القراء الذين قرءوا القرآن - قال : شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر ، فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس ؟ قالوا : أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرجنا مع الناس نوجف ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم ، فاجتمع الناس عليه ، فقرأ عليهم : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } ، قال : فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي رسول الله ، وفتح هو ؟ قال : "إي والذي نفس محمد بيده ، إنه لفتح". فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهما ، وكان الجيش ألفا وخمسمائة فارس ، فأعطى الفارس سهمين ، وأعطى الراجل سهما.
رواه أبو داود في الجهاد عن محمد بن عيسى ، عن مجمع بن يعقوب ، به (8).
وقال (9) ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، حدثنا أبو بحر ، حدثنا شعبة ، حدثنا جامع بن شداد ، عن عبد الرحمن بن أبي علقمة ، قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول (10) : لما
__________
(1) في م : "نزل".
(2) في ت ، م : "البارحة".
(3) المسند (1/31) وصحيح البخاري برقم (4833) وسنن الترمذي برقم (3262) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11499).
(4) زيادة من م.
(5) المسند (3/197) وصحيح البخاري برقم (4148) وصحيح مسلم برقم (1786).
(6) في ت : "وروى".
(7) في ت : "أحب".
(8) المسند (3/420) وسنن أبي داود برقم (2736).
(9) في ت : "وروى".
(10) في ت : "عن ابن مسعود قال".

(7/326)


أقبلنا من الحديبية أعرسنا فنمنا ، فلم نستيقظ إلا بالشمس قد طلعت ، فاستيقظنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم ، قال : فقلنا : "امضوا" (1). فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال : "افعلوا ما كنتم تفعلون وكذلك [يفعل] (2) من نام أو نسي". قال : وفقدنا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبنها ، فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة ، فأتيته بها فركبها (3) ، فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي ، قال : وكان إذا أتاه [الوحي] (4) اشتد عليه ، فلما سري عنه أخبرنا أنه أنزل عليه : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا }.
وقد رواه أحمد وأبو داود ، والنسائي من غير وجه ، عن جامع بن شداد به (5).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة ، قال : سمعت المغيرة بن شعبة (6) يقول : كان النبي (7) صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم قدماه ، فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : "أفلا أكون عبدًا شكورًا".
أخرجاه (8) وبقية الجماعة إلا أبا داود من حديث زياد به (9).
وقال الإمام أحمد : حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ابن وهب ، حدثني أبو صخر ، عن ابن قسيط ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تتفطر رجلاه (10).
فقالت له عائشة : يا رسول الله ، أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : "يا عائشة ، أفلا أكون عبدا شكورا ؟".
أخرجه مسلم في الصحيح من رواية عبد الله بن وهب ، به (11).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا عبد الله بن عون الخراز - وكان ثقة بمكة - حدثنا محمد بن بشر (12) حدثنا مسعر ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه - أو قال ساقاه - فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : "أفلا أكون عبدًا شكورًا ؟" غريب من هذا الوجه (13).
__________
(1) في م : "انصتوا".
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) في ت : "فركب".
(4) زيادة من م.
(5) تفسير الطبري (26/43) والمسند (1/464) وسنن أبي داود برقم (447) والنسائي في السنن الكبرى برقم (8853).
(6) في ت : "وروى الإمام أحمد بسنده".
(7) في أ : "رسول الله".
(8) في ت : "أخرجه البخاري ومسلم".
(9) المسند (4/55) وصحيح البخاري برقم (4836) وصحيح مسلم برقم (2819) وسنن الترمذي برقم (412) وسنن النسائي (3/219) وسنن ابن ماجه برقم (1419).
(10) في أ : "ينفطر قدماه".
(11) المسند (6/115) وصحيح مسلم برقم (2820).
(12) في ا : "بشير".
(13) ورواه أبو يعلى في المسند (5/280) من طريق عبد الله بن عون الخراز به ، ورواه البزار في مسنده برقم (2380) "كشف الأستار" من طريق الحسين بن الأسود عن محمد بن بشر به ، وقال البزار : "لا نعلم أحدا حدث بهذا الحديث بهذا الإسناد إلا الحسين بن بشر وعبد الله بن عون الخزار ، وقد رواه غيرهما عن محمد بن بشر عن مسعر ، عن زياد بن علاقة ، عن المغيرة بن شعبةن وهو الصواب" فكلام الإمام البزار هنا موضح لقول الحافظ ابن كثير : "غريب من هذا الوجه".

(7/327)


هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)

فقوله : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } أي : بينا ظاهرا ، والمراد به صلح الحديبية فإنه حصل بسببه خير جزيل ، وآمن الناس واجتمع بعضهم ببعض (1) ، وتكلم المؤمن مع الكافر ، وانتشر العلم النافع والإيمان.
وقوله : { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } : هذا من خصائصه - صلوات الله وسلامه عليه - التي لا يشاركه فيها غيره. وليس صحيح في ثواب الأعمال لغيره غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو - صلوات الله وسلامه عليه - في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه ، لا من الأولين ولا من الآخرين ، وهو أكمل البشر على الإطلاق ، وسيدهم في الدنيا والآخرة. ولما كان أطوع خلق الله لله ، وأكثرهم (2) تعظيما لأوامره (3) ونواهيه. قال حين بركت به الناقة : "حبسها حابس الفيل" ثم قال : "والذي نفسي بيده ، لا يسألوني اليوم شيئا يعظمون به حرمات الله إلا أجبتهم إليها" (4) فلما أطاع الله في ذلك وأجاب إلى الصلح ، قال الله له : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } أي : في الدنيا والآخرة ، { وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } أي : بما يشرعه لك من الشرع العظيم والدين القويم.
{ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا } أي : بسبب خضوعك لأمر الله يرفعك الله وينصرك على أعدائك ، كما جاء في الحديث الصحيح : "وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله" (5). وعن عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] (6) أنه قال : ما عاقبت - أي في الدنيا والآخرة - أحدا عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله فيه.
{ هُوَ الَّذِي أَنزلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) }
يقول تعالى : { هُوَ الَّذِي أَنزلَ السَّكِينَةَ } أي : جعل الطمأنينة. قاله ابن عباس ، وعنه : الرحمة.
وقال قتادة : الوقار في قلوب المؤمنين. وهم الصحابة يوم الحديبية ، الذين استجابوا لله ولرسوله وانقادوا لحكم الله ورسوله ، فلما اطمأنت قلوبهم لذلك ، واستقرت ، زادهم إيمانًا مع إيمانهم.
__________
(1) في م : "بعضا".
(2) في ت ، أ : "وأشدهم"
(3) في ت : "لأوامر الله".
(4) رواه البخاري في صحيحه برقم (2731 ، 2732).
(5) رواه مسلم في صحيحه برقم (2588) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) زيادة من ت.

(7/328)


إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)

وقد استدل بها البخاري وغيره من الأئمة على تفاضل الإيمان في القلوب.
ثم ذكر تعالى أنه لو شاء لانتصر من الكافرين ، فقال : { وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } أي : ولو أرسل عليهم ملكا واحدا لأباد خضراءهم ، ولكنه تعالى شرع لعباده المؤمنين الجهاد والقتال ، لما له في ذلك من الحكمة البالغة والحجة القاطعة ، والبراهين الدامغة ؛ ولهذا قال : { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا }
ثم قال تعالى : { لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } ، قد تقدم حديث أنس : قالوا : هنيئا لك يا رسول الله ، هذا لك فما لنا ؟ فأنزل الله : { لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } أي : ماكثين فيها أبدا. { وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } أي : خطاياهم وذنوبهم ، فلا يعاقبهم عليها ، بل يعفو ويصفح ويغفر ، ويستر ويرحم ويشكر ، { وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا } ، كقوله { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [آل عمرن : 185].
وقوله : { وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ } أي : يتهمون الله في حكمه ، ويظنون بالرسول وأصحابه أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية ؛ ولهذا قال : { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ } أي : أبعدهم من رحمته { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا }.
ثم قال مؤكدا لقدرته على الانتقام من الأعداء - أعداء الإسلام من الكفرة والمنافقين - : { وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا }.
{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا (9) }

(7/329)


إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)

{ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) }
يقول تعالى لنبيه محمد - صلوات الله وسلامه عليه (1) { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا } أي : على الخلق ، { وَمُبَشِّرًا } أي : للمؤمنين ، { وَنَذِيرًا } أي : للكافرين. وقد تقدم تفسيرها في سورة "الأحزاب" (2).
{ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ } ، قال ابن عباس وغير واحد : يعظموه ، { وَتُوَقِّرُوهُ } من التوقير وهو الاحترام والإجلال والإعظام ، { وَتُسَبِّحُوهُ } أي : يسبحون الله ، { بُكْرَةً وَأَصِيلا } أي : أول النهار وآخره.
ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم تشريفا له وتعظيما وتكريما : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } كقوله { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } [النساء : 80] ، { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } أي : هو حاضر معهم يسمع أقوالهم ويرى مكانهم ، ويعلم ضمائرهم وظواهرهم ، فهو تعالى هو المبايع بواسطة رسوله
__________
(1) في ت ، م : "صلى الله عليه وسلم".
(2) عند الآية الخامسة والأربعين.

(7/329)


صلى الله عليه وسلم كقوله : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة : 111].
وقد قال (1) ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا الفضل بن يحيى الأنباري ، حدثنا علي بن بكار ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من سل سيفه في سبيل الله ، فقد بايع الله" (2).
وحدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، أخبرنا جرير ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر : "والله ليبعثه الله يوم القيامة له عينان ينظر بهما ، ولسان ينطق ، به ويشهد على من استلمه بالحق ، فمن استلمه فقد بايع الله" ، ثم قرأ : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } (3).
ولهذا قال هاهنا : { فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ } أي : إنما يعود وبال ذلك على الناكث ، والله غني عنه ، { وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } أي : ثوابًا جزيلا. وهذه البيعة هي بيعة الرضوان ، وكانت تحت شجرة سَمُر بالحديبية ، وكان الصحابة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ قيل : ألف وثلثمائة. وقيل : أربعمائة. وقيل : وخمسمائة. والأوسط (4) أصح.
ذكر الأحاديث الواردة في ذلك :
قال البخاري : حدثنا قتيبة ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن جابر قال : كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة.
ورواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة ، به (5). وأخرجاه أيضا من حديث الأعمش ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن جابر قال : كنا يومئذ ألفا وأربعمائة ، ووضع يده في ذلك الماء ، فنبع الماء من بين أصابعه ، حتى رووا كلهم (6).
وهذا مختصر من سياق آخر حين ذكر قصة عطشهم يوم الحديبية ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاهم سهما من كنانته ، فوضعوه في بئر الحديبية ، فجاشت بالماء ، حتى كفتهم ، فقيل لجابر : كم كنتم يومئذ ؟ قال : كنا ألفا وأربعمائة ، ولو كنا مائة ألف لكفانا (7). وفي رواية [في] (8) الصحيحين عن جابر : أنهم كانوا خمس عشرة مائة (9).
__________
(1) في ت : "وروى".
(2) ورواه ابن مردويه كما في الجامع الصغير ، ورمز له السيوطي بالضعف.
(3) ورواه الترمذي في السنن برقم (961) من طريق قتيبة عن جرير بإسناده إلى قوله : "يشهد على من استلمه بالحق" ولم يذكر الآية ، وقال الترمذي : "هذا حديث حسن".
(4) في ت : "والأول".
(5) صحيح البخاري برقم (4840) وصحيح مسلم برقم (1856).
(6) صحيح البخاري برقم (4154) وصحيح مسلم برقم (1856).
(7) رواه البخاري في صحيحه برقم (5639).
(8) زيادة من م ، أ.
(9) صحيح البخاري برقم (4152) وصحيح مسلم برقم (1856).

(7/330)


وروى البخاري من حديث قتادة ، قلت لسعيد بن المسيب : كم كان الذين شهدوا بيعة الرضوان ؟ قال : خمس عشرة مائة.
قلت : فإن جابر بن عبد الله ، رضي الله عنهما ، قال : كانوا أربع عشرة مائة. قال رحمه الله : وهم ، هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة (1).
قال البيهقي : هذه الرواية تدل على أنه كان في القديم يقول : خمس عشرة مائة ، ثم ذكر الوهم فقال : أربع عشرة مائة (2).
وروى العوفي عن ابن عباس : أنهم كانوا ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين. والمشهور الذي رواه غير واحد عنه : أربع عشرة مائة ، وهذا هو الذي رواه البيهقي ، عن الحاكم ، عن الأصم ، عن العباس الدوري ، عن يحيى بن معين ، عن شبابة بن سوار ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبيه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ألفا وأربعمائة (3). وكذلك هو في رواية سلمة بن الأكوع ، ومعقل بن يسار ، والبراء بن عازب. وبه يقول غير واحد من أصحاب المغازي والسير. وقد أخرج صاحبا الصحيح من حديث شعبة ، عن عمرو بن مرة قال : سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول : كان أصحاب الشجرة ألفا وأربعمائة ، وكانت أسلم يومئذ ثمن المهاجرين (4).
وروى محمد بن إسحاق في السيرة ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم ، أنهما حدثاه قالا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت ، لا يريد قتالا وساق معه الهدي سبعين بدنة ، وكان الناس سبعمائة رجل ، كل بدنة عن عشرة نفر ، وكان جابر بن عبد الله فيما بلغني عنه يقول : كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة (5).
كذا قال ابن إسحاق وهو معدود من أوهامه ، فإن المحفوظ في الصحيحين أنهم كانوا بضع عشرة مائة.
ذكر سبب هذه البيعة العظيمة :
قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة : ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة ليبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له ، فقال : يا رسول الله ، إني أخاف قريشا على نفسي ، وليس بمكة من بني عدي بن كعب من يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها ، وغلظي (6) عليها ، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني ، عثمان بن عفان ، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش ، يخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وأنه جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4153).
(2) دلائل النبوة للبيهقي (4/97).
(3) دلائل النبوة للبيهقي (4/98).
(4) صحيح البخاري برقم (4155) وصحيح مسلم برقم (1857).
(5) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (2/308).
(6) في ت ، م : "غلظتي".

(7/331)


فخرج عثمان إلى مكة ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة ، أو قبل أن يدخلها ، فحمله بين يديه ، ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (1) ما أرسله به ، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول صلى الله عليه وسلم. واحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل.
قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه أن عثمان قد قتل : "لا نبرح حتى نناجز القوم". ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة. فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، فكان الناس يقولون : بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت. وكان جابر بن عبد الله يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبايعهم على الموت ، ولكن بايعنا على ألا نفر.
فبايع الناس ، ولم يتخلف أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة ، فكان جابر يقول : والله لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته ، قد ضبأ إليها يستتر بها من الناس ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي كان من أمر عثمان باطل. (2)
وذكر ابن لهيعة عن الأسود (3). عن عروة بن الزبير قريبا من هذا السياق ، وزاد في سياقه : أن قريشا بعثوا وعندهم عثمان [بن عفان] (4) سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى ، ومكرز بن حفص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبينما هم عندهم إذ وقع كلام بين (5) بعض المسلمين وبعض المشركين ، وتراموا بالنبل والحجارة ، وصاح الفريقان كلاهما ، وارتهن كل من الفريقين من عنده من الرسل ، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا إن روح القدس قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر بالبيعة ، فاخرجوا على اسم الله فبايعوا ، فسار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة فبايعوه على ألا يفروا أبدا ، فأرعب ذلك المشركين (6) ، وأرسلوا من كان عندهم من المسلمين ، ودعوا إلى الموادعة والصلح.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان ، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار ، حدثنا تمتام (7) ، حدثنا الحسن بن بشر (8) ، حدثنا الحكم بن عبد الملك ، عن قتادة ، عن أنس (9) بن مالك قال : لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيعة الرضوان كان عثمان بن عفان [رضي الله عنه] (10) رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ، فبايع الناس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اللهم إن عثمان في حاجة الله وحاجة رسوله". فضرب بإحدى يديه على الأخرى ، فكانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان خيرا من أيديهم لأنفسهم (11).
__________
(1) زيادة من ت ، م.
(2) السيرة النبوية لابن هشام (2/315).
(3) في ت : "أبي الأسود".
(4) زيادة من أ.
(5) في م : "من".
(6) في ت : "المشركون" وهو خطأ.
(7) في أ ، م : "هشام".
(8) في أ : "بشير".
(9) في ت : "وروى البيهقي بسنده".
(10) زيادة من ت.
(11) لم أجده في دلائل النبوة ولعله في غيره.

(7/332)


قال ابن هشام (1) : حدثني من أثق به عمن حدثه بإسناد له ، عن أبي مليكة (2) ، عن ابن عمر قال : بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان ، فضرب بإحدى يديه على الأخرى.
وقال عبد الملك بن هشام النحوي : فذكر وكيع ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي : أن أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان أبو سنان الأسدي (3).
وقال أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي : حدثنا سفيان ، حدثنا ابن أبي خالد ، عن الشعبي ، قال : لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة ، كان أول من انتهى إليه أبو سنان [الأسدي رضي الله عنه] (4) ، فقال : ابسط يدك أبايعك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "علام تبايعني ؟". فقال أبو سنان : على ما في نفسك. هذا أبو سنان [بن] (5) وهب الأسدي [رضي الله عنه] (6) (7).
وقال البخاري : حدثنا شجاع بن الوليد ، سمع النضر بن محمد : حدثنا صخر [بن الربيع] (8) ، عن نافع ، قال : إن الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر ، وليس كذلك ، ولكن عمر يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى الفرس له عند رجل من الأنصار أن يأتي به ليقاتل عليه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع عند الشجرة ، وعمر لا يدري بذلك ، فبايعه عبد الله ، ثم ذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر ، وعمر يستلئم للقتال ، فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع تحت الشجرة ، فانطلق ، فذهب معه حتى بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي التي يتحدث الناس أن ابن عمر (9) أسلم قبل عمر.
ثم قال البخاري : وقال هشام بن عمار : حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا عمر بن محمد العمري ، أخبرني نافع ، عن ابن عمر ، أن الناس كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية قد تفرقوا في ظلال الشجر ، فإذا الناس محدقون بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال - يعني عمر - : يا عبد الله ، انظر ما شأن الناس قد أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم. فوجدهم يبايعون ، فبايع ثم رجع إلى عمر فخرج فبايع.
وقد أسنده البيهقي عن أبي (10) عمرو الأديب ، عن أبي بكر الإسماعيلي ، عن الحسن بن سفيان ، عن دحيم : حدثني الوليد بن مسلم فذكره (11).
وقال الليث ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة فبايعناه ، وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة ، وقال : بايعناه على ألا نفر ، ولم نبايعه على الموت. رواه مسلم عن قتيبة عنه (12).
وروى مسلم عن يحيى بن يحيى ، عن يزيد بن زريع ، عن خالد ، عن الحكم بن عبد الله بن الأعرج ، عن معقل بن يسار ، قال : لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس (13) ، وأنا رافع
__________
(1) في أ : "شهاب".
(2) في أ : "عن أبي بكر بن أبي مليكة".
(3) السيرة النبوية (2/316).
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من م ، أ.
(6) زيادة من م ، أ.
(7) ورواه البيهقي في دلائل النبوة (4/137) من طريق الحميدي به.
(8) زيادة من ت ، أ.
(9) في أ : "عبد الله بن عمر".
(10) في أ : "ابن".
(11) صحيح البخاري برقم (4187).
(12) صحيح مسلم برقم (1856).
(13) في م : "والناس يبايعون النبي".

(7/333)


غصنا من أغصانها عن رأسه ، ونحن أربع عشرة مائة ، قال : ولم نبايعه على الموت ، ولكن بايعناه على ألا نفر (1).
وقال البخاري : حدثنا المكي بن إبراهيم ، عن يزيد بن أبي عبيد ، عن سلمة بن الأكوع ، قال : بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة. قال يزيد : قلت : يا أبا مسلم (2) ، على أي شيء كنتم تبايعون يومئذ ؟ قال : على الموت (3).
وقال البخاري أيضا : حدثنا أبو عاصم ، حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة ، قال : بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ثم تنحيت ، فقال : "يا سلمة ألا تبايع ؟" قلت : بايعت ، قال : "أقبل فبايع". فدنوت فبايعته. قلت : علام بايعته يا سلمة ؟ قال : على الموت. وأخرجه مسلم من وجه آخر عن يزيد بن أبي عبيد (4). وكذا روى البخاري عن عباد بن تميم ، أنهم بايعوه على الموت (5).
وقال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو الفضل بن إبراهم ، حدثنا أحمد بن سلمة ، حدثنا إسحاق بن إبراهم ، حدثنا أبو عامر العقدي عبد الملك بن عمرو ، حدثنا عكرمة بن عمار اليمامي ، عن إياس بن سلمة ، عن أبيه سلمة (6) بن الأكوع قال : قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربع عشرة مائة ، وعليها خمسون شاة لا ترويها ، فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جباها - يعني الركي - فإما دعا وإما بصق فيها ، فجاشت ، فسقينا واستقينا. قال : ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى البيعة في أصل الشجرة. فبايعته أول الناس ، ثم بايع وبايع ، حتى إذا كان في وسط الناس قال صلى الله عليه وسلم : "بايعني يا سلمة". قال : قلت : يا رسول الله ، قد بايعتك في أول الناس. قال : "وأيضا". قال : ورآني رسول الله صلى الله عليه وسلم عزلا فأعطاني حجفة - أو درقة - ثم بايع حتى إذا كان في آخر الناس قال صلى الله عليه وسلم : "ألا تبايع يا سلمة ؟" قال : قلت : يا رسول الله ، قد بايعتك (7) في أول الناس وأوسطهم. قال : "وأيضا". فبايعته الثالثة ، فقال : "يا سلمة ، أين حجفتك أو درقتك التي أعطيتك ؟". قال : قلت : يا رسول الله ، لقيني عامر عزلا فأعطيتها إياه : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : "إنك كالذي قال الأول : اللهم أبغني حبيبا هو أحب إلي من نفسي" قال : ثم إن المشركين من أهل مكة راسلونا في الصلح حتى مشى بعضنا في بعض فاصطلحنا. قال : وكنت خادما لطلحة بن عبيد الله ، رضي الله عنه ، أسقي فرسه وأحسه (8) وآكل من طعامه ، وتركت أهلي ومالي مهاجرا إلى الله ورسوله. فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة ، واختلط بعضنا ببعض ، أتيت شجرة فكسحت شوكها ، ثم اضطجعت (9) في أصلها في ظلها ، فأتاني أربعة من مشركي أهل مكة ، فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبغضتهم ، وتحولت إلى شجرة أخرى فعلقوا سلاحهم واضطجعوا ، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي : يا للمهاجرين ، قتل ابن زنيم. فاخترطت سيفي ، فشددت على أولئك الأربعة وهم
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1858).
(2) في م : "مسلمة".
(3) صحيح البخاري برقم (2960).
(4) صحيح مسلم برقم (1860).
(5) صحيح البخاري برقم (2959).
(6) في ت : "وقال البيهقي بسنده عن سلمة".
(7) في ت : "بايعت".
(8) في ت ، م : "وأجنبه".
(9) في تن م ، أ : "واضطجعت".

(7/334)


رقود ، فأخذت سلاحهم وجعلته ضغثا في يدي ، ثم قلت (1) : والذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم ، لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه ، قال : ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : وجاء عمي عامر برجل من العَبَلات يقال له : "مكرز" من المشركين يقوده ، حتى وقفنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين من المشركين ، فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : "دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه" ، فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنزل الله [عز وجل] (2) : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } الآية [الفتح : 24].
وهكذا رواه مسلم عن إسحاق بن إبراهيم بن راهويه بسنده نحوه ، أو قريبا منه (3).
وثبت في الصحيحين من حديث أبي عوانة ، عن طارق ، عن سعيد بن المسيب ، قال : كان أبي ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة. قال : فانطلقنا من قابل حاجين ، فخفي علينا مكانها ، فإن كان تبينت لكم ، فأنتم أعلم (4).
وقال أبو بكر الحميدي : حدثنا سفيان ، حدثنا أبو الزبير ، حدثنا (5) جابر ، قال : لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة ، وجدنا رجلا منا يقال له "الجد بن قيس" مختبئا تحت إبط بعيره".
رواه مسلم من حديث ابن جريج ، عن ابن الزبير ، به (6).
وقال الحميدي أيضا : حدثنا سفيان (7) ، عن عمرو ، سمع جابرا ، قال : كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة ، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنتم خير أهل الأرض اليوم". قال جابر : لو كنت أبصر (8) لأريتكم موضع الشجرة. قال سفيان : إنهم اختلفوا في موضعها. أخرجاه من حديث سفيان (9).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا الليث. عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة" (10).
وقال (11) ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن هارون الفلاس المخرمي ، حدثنا سعد بن عمرو الأشعثي ، حدثنا محمد بن ثابت العبدي ، عن خداش بن عياش ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يدخل من بايع تحت الشجرة كلهم الجنة إلا صاحب الجمل الأحمر". قال : فانطلقنا نبتدره فإذا رجل قد أضل بعيره ، فقلنا : تعال فبايع. فقال : أصيب بعيري أحب إلي من أن أبايع (12).
__________
(1) في تن م : "وقلت".
(2) زيادة من ت ، م.
(3) دلائل النبوة للبيهقي (4/138) ، وصحيح مسلم برقم (1807).
(4) صحيح البخاري برقم (4164) وصحيح مسلم برقم (1859) واللفظ لمسلم.
(5) في م : "عن".
(6) مسند الحميدي (2/537) وصحيح مسلم برقم (1856).
(7) في ت : "وفي الصحيحين من حديث سفيان".
(8) في ت ، م : "انظر".
(9) مسند الحميدي (2/514) وصحيح البخاري برقم (4154) وصحيح مسلم برقم (1856).
(10) المسند (3/350).
(11) في ت : "وروى".
(12) وفي إسناده محمد بن ثابت العبدي ، ضعفه ابن معين وشيخه خداش بن عياش وثقه ابن حبان ، وقال الترمذي : "لا نعرف خداشا هذا من هو".

(7/335)


سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)

وقال عبد الله بن أحمد : حدثنا عبيد الله بن معاذ ، حدثنا أبي حدثنا قرة ، عن أبي الزبير (1) ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من يصعد الثنية ، ثنية المرار ، فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل". فكان أول من صعد خيل بني (2) الخزرج ، ثم تبادر الناس بعد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر". فقلنا : تعال يستغفر لك رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (3). فقال : والله لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم. فإذا هو رجل ينشد ضالة (4). رواه مسلم عن عبيد الله ، به (5).
وقال ابن جريج : أخبرني أبو الزبير ، أنه سمع جابرا يقول : أخبرتني أم مبشر أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة : "لا يدخل النار - إن شاء الله - من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها أحد". قالت : بلى يا رسول الله. فانتهرها ، فقالت لحفصة : { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا } [مريم : 71] ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "قد قال الله : { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا } [مريم : 72] ، رواه مسلم (6).
وفيه أيضا عن قتيبة ، عن الليث ، عن أبي الزبير ، عن جابر ؛ أن عبدًا لحاطب بن أبي بلتعة جاء يشكو حاطبا ، فقال : يا رسول الله ، ليدخلن حاطب النار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كذبت ، لا يدخلها ؛ فإنه قد شهد بدرا والحديبية" (7).
ولهذا قال تعالى في الثناء عليهم : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [الفتح : 10] ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } [الفتح : 18].
{ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) }
__________
(1) في ت : "وقال عبد الله بن أحمد بسنده".
(2) في أ : "من".
(3) زيادة من ت.
(4) في أ : "ضالته".
(5) صحيح مسلم برقم (2780).
(6) صحيح مسلم برقم (2496).
(7) صحيح مسلم برقم (2494).

(7/336)


سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)

يقول تعالى مخبرا رسوله (1) - صلوات الله وسلامه عليه (2) - بما يعتذر به المخلفون من الأعراب الذين اختاروا المقام في أهليهم وشغلهم (3) ، وتركوا المسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاعتذروا بشغلهم بذلك ، وسألوا أن يستغفر لهم الرسول (4) صلى الله عليه وسلم ، وذلك قول منهم لا على سبيل الاعتقاد ، بل على وجه التقية والمصانعة ؛ ولهذا قال تعالى : { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا } أي : لا يقدر أحد أن يرد ما أراده فيكم تعالى وتقدس ، وهو العليم بسرائركم وضمائركم ، وإن صانعتمونا وتابعتمونا (5) ؛ ولهذا قال : { بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا }.
ثم قال : { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا } أي : لم يكن تخلفكم تخلف معذور ولا عاص ، بل تخلف نفاق ، { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا } أي : اعتقدتم أنهم يقتلون وتستأصل شأفتهم وتستباد خضراؤهم ، ولا يرجع منهم مخبر ، { وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا } أي : هلكى. قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وغير واحد. وقال قتادة : فاسدين. وقيل : هي بلغة عمان.
ثم قال : { وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي : من لم يخلص العمل في الظاهر والباطن لله ، فإن الله تعالى سيعذبه في السعير ، وإن أظهر للناس ما يعتقدون خلاف ما هو عليه في نفس الأمر.
ثم بين تعالى أنه الحاكم المالك المتصرف في أهل السموات والأرض : { يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } أي : لمن تاب إليه وأناب ، وخضع لديه.
{ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا (15) }
يقول تعالى مخبرًا عن الأعراب الذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة (6) الحديبية ، إذ ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى خيبر يفتتحونها : أنهم يسألون أن يخرجوا معهم إلى المغنم ، وقد تخلفوا عن وقت محاربة الأعداء ومجالدتهم ومصابرتهم ، فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يأذن لهم في ذلك ، معاقبة لهم من جنس ذنبهم. فإن الله تعالى قد وعد أهل الحديبية بمغانم خيبر وحدهم لا يشركهم فيها غيرهم من الأعراب المتخلفين ، فلا (7) يقع غير ذلك شرعا وقدرا ؛ ولهذا قال : { يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ }
قال مجاهد ، وقتادة ، وجويبر : وهو الوعد الذي وعد به أهل الحديبية. واختاره ابن جرير (8).
__________
(1) في ت ، م : "لرسوله".
(2) في ت : "صلى الله عليه وسلم".
(3) في ت ، أ : "والشغل بهم".
(4) في م : "رسول الله".
(5) في ت : "أو نافقتمونا".
(6) في ت ، م ، أ : "عمرة".
(7) في ت : "ولا".
(8) تفسير الطبري (26/50).

(7/337)


وقال ابن زيد : هو قوله : { فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ } [التوبة : 83].
وهذا الذي قاله ابن زيد فيه نظر ؛ لأن هذه الآية التي في "براءة" نزلت في غزوة تبوك ، وهي متأخرة عن غزوة (1) الحديبية.
وقال ابن جريج : { يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ } يعني : بتثبيطهم المسلمين عن الجهاد.
{ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ } أي : وعد الله أهل الحديبية قبل سؤالكم (2) الخروج معهم ، { فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا } أي : أن نشرككم في المغانم ، { بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا } أي : ليس الأمر كما زعموا ، ولكن لا فهم لهم (3).
__________
(1) في ت ، م ، أ : "عمرة".
(2) في ت ، م : "قبل أن يسألوكم".
(3) في ت ، أ : "لأنهم عدو لهم".

(7/338)


قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)

{ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) }
اختلف المفسرون في هؤلاء القوم الذين يدعون إليهم ، الذين هم أولو بأس شديد ، على أقوال :
أحدها : أنهم هوازن. رواه شعبة عن أبي بِشْر ، عن سعيد بن جبير - أو عكرمة (1) ، أو جميعا - ورواه هُشيم عن أبي بشر ، عنهما. وبه يقول قتادة في رواية عنه.
الثاني : ثقف ، قاله الضحاك.
الثالث : بنو حنيفة ، قاله جويبر. ورواه محمد بن إسحاق ، عن الزهري. وروي مثله عن سعيد وعكرمة.
الرابع : هم أهل فارس. رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وبه يقول عطاء ، ومجاهد ، وعكرمة - في إحدى الروايات عنه.
وقال كعب الأحبار : هم الروم. وعن ابن أبي ليلى ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة : هم فارس والروم. وعن مجاهد : هم أهل الأوثان. وعنه أيضا : هم رجال أولو بأس شديد ، ولم يعين فرقة. وبه يقول ابن جريج ، وهو اختيار ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الأشج ، حدثنا عبد الرحمن بن الحسن القواريري ، عن مَعْمَر (2) ، عن
__________
(1) في ت : "هوازن قاله عكرمة".
(2) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بسنده".

(7/338)


لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)

الزهري ، في قوله : { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } قال : لم يأت أولئك بعد.
وحدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي خالد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة في قوله : { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } قال : هم البارزون.
قال : وحدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما صغار الأعين ، ذلف الآنف ، كأن وجوههم المجانّ المطرقة". قال سفيان : هم الترك (1).
قال ابن أبي عمر : وجدت في مكان (2) آخر : ابن أبي خالد عن أبيه قال : نزل علينا أبو هريرة ففسر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تقاتلون قومًا نعالهم الشَّعْر" قال : هم البارزون ، يعني الأكراد (3).
وقوله : { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } يعني : يشرع لكم جهادهم وقتالهم ، فلا يزال ذلك مستمرا عليهم ، ولكم النصرة عليهم ، أو يسلمون فيدخلون في دينكم بلا قتال بل باختيار.
ثم قال : { فَإِنْ تُطِيعُوا } أي : تستجيبوا وتنفروا في الجهاد وتؤدوا الذي عليكم فيه ، { يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ } يعني : زمن الحديبية ، حيث دعيتم (4) فتخلفتم ، { يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }
ثم ذكر الأعذار في ترك الجهاد ، فمنها لازم كالعمى والعرج المستمر ، وعارض كالمرض الذي يطرأ أياما ثم يزول ، فهو في حال مرضه ملحق بذوي الأعذار اللازمة حتى يبرأ.
ثم قال تعالى مرغبا في الجهاد وطاعة الله ورسوله : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ } أي : ينكل عن الجهاد ، ويقبل على المعاش { يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا } في الدنيا بالمذلة ، وفي الآخرة بالنار.
{ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) }
يخبر تعالى عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، وقد تقدم ذكر عدتهم ، وأنهم كانوا ألفا وأربعمائة ، وأن الشجرة كانت سمرة بأرض الحديبية.
__________
(1) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف برقم (19199) والبخاري في صحيحه برقم (2929) من طريق سفيان عن الزهري بإسناده : "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما كأن وجوههم المجان المطرقة" ورواه البخاري في صحيحه برقم (2928) من طريق صالح ، عن الأعرج عن أبي هريرة بنحوه.
(2) في ت : "وقال ابن أبي عمرو حديث في موضع".
(3) وقد ذكر بعض المؤرخين أن أصحاب بابك المخرمي كانوا ينتعلون الشعر ، فهم المقصودون بهذا الحديث.
(4) في ت : "ذهبتم".

(7/339)


وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)

قال البخاري : حدثنا محمود ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن طارق بن عبد الرحمن قال : انطلقت حاجًا فمررت بقوم يصلون ، فقلت (1) ما هذا المسجد ؟ قالوا : هذه الشجرة ، حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان ، فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته ، فقال سعيد : حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة. قال : فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها ، فقال سعيد : إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم ، فأنتم أعلم (2).
وقوله : { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } أي : من الصدق والوفاء ، والسمع والطاعة ، { فَأَنزلَ السَّكِينَةَ } : وهي الطمأنينة ، { عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } : وهو ما أجرى الله على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم ، وما حصل بذلك من الخير العام المستمر المتصل بفتح خيبر وفتح مكة ، ثم فتح سائر البلاد والأقاليم عليهم ، وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة ؛ ولهذا قال : { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا (3) وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا }
قال (4) ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، أخبرنا موسى ، أخبرنا موسى - يعني ابن عبيدة - حدثني إياس (5) بن سلمة ، عن أبيه ، قال : بينما نحن قائلون. إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيها الناس ، البيعة البيعة ، نزل روح القدس. قال : فَثُرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه ، فذلك قول الله تعالى (6) : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } [قال] (7) : فبايع لعثمان بإحد يديه على الأخرى ، فقال الناس : هنيئا لابن عفان ، طوف بالبيت ونحن (8) هاهنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو مكث كذا كذا سنة ما طاف حتى أطوف" (9).
{ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا (23) }
__________
(1) في م : "وقلت".
(2) صحيح البخاري برقم (4163).
(3) في ت : "تأخذونها".
(4) في ت : "وروى".
(5) في ت : "عن أبان".
(6) في ت ، م : "فذلك قوله تعالى".
(7) زيادم من ت ، م.
(8) في ت ، م : "وذكر".
(9) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (1/90) من طريق عبيد الله بن موسى به ، قال الهيثمي في المجمع (9/84) : "فيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف".

(7/340)


وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)

{ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) }

(7/340)


قال مجاهد في قوله : { وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } : هي جميع المغانم إلى اليوم ، { فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ } يعني : فتح خيبر.
وروى العوفي عن ابن عباس : { فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ } يعني : صلح الحديبية.
{ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ } أي : لم ينلكم سوء مما كان أعداؤكم أضمروه لكم من المحاربة والقتال. وكذلك كف أيدي الناس [عنكم] (1) الذين خلفتموهم وراء أظهركم عن عيالكم وحريمكم ، { وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } أي : يعتبرون بذلك ، فإن الله حافظهم وناصرهم على سائر الأعداء ، مع قلة عددهم ، وليعلموا بصنيع الله هذا بهم أنه العليم بعواقب الأمور ، وأن الخيرة فيما يختاره لعباده المؤمنين وإن كرهوه في الظاهر ، كما قال : { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } [البقرة : 216].
{ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } أي : بسبب انقيادكم لأمره واتباعكم طاعته ، وموافقتكم رسوله (2).
وقوله : { وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا } أي : وغنيمة أخرى وفتحا آخر معينا لم تكونوا تقدرون عليها ، قد يَسَّرها الله عليكم ، وأحاط بها لكم ، فإنه تعالى يرزق عباده المتقين له من حيث لا يحتسبون.
وقد اختلف المفسرون في هذه الغنيمة ، ما المراد بها ؟ فقال العَوْفي عن ابن عباس : هي خيبر. وهذا على قوله في قوله تعالى : { فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ } إنها صلح الحديبية. وقاله الضحاك ، وابن إسحاق ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال قتادة : هي مكة. واختاره ابن جرير.
وقال ابن أبي ليلى ، والحسن البصري : هي فارس والروم.
وقال مجاهد : هي كل فتح وغنيمة إلى يوم القيامة.
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، عن سماك الحنفي ، عن ابن عباس : { وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا } قال : هذه الفتوح التي تفتح إلى اليوم (3).
وقوله : { وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا } يقول تعالى مبشرا لعباده المؤمنين : بأنه لو ناجزهم المشركون لنصر الله رسوله وعباده المؤمنين عليهم ، ولانهزم جيش الكفار (4) فارا مدبرا لا يجدون وليا ولا نصيرا ؛ لأنهم محاربون لله ولرسوله ولحزبه (5) المؤمنين.
ثم قال : { سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا } أي : هذه سنة الله وعادته في خلقه ، ما تقابل الكفر والإيمان في موطن فيصل إلى نصر الله الإيمان على الكفر ، فرفع الحق ووضع الباطل ، كما فعل تعالى يوم بدر بأوليائه المؤمنين نصرهم على أعدائه من المشركين ، مع قلة عدد المسلمين وعُدَدهم ، وكثرة المشركين وعددهم (6).
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت ، م : "لرسوله".
(3) في ت : "إلى يوم القيامة".
(4) في م : "الكفر".
(5) في ت ، أ : "ولعباده".
(6) في ت ، م : "ومددهم".

(7/341)


وقوله : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } : هذا امتنان من الله على عباده المؤمنين حين كف أيدي المشركين عنهم ، فلم يصل (1) إليهم منهم سوء ، وكفّ أيدي المؤمنين من المشركين فلم يقاتلوهم عند المسجد الحرام ، بل صان كلا من الفريقين ، وأوجد بينهم صلحا فيه خيَرَةٌ للمؤمنين ، وعاقبة لهم في الدنيا والآخرة. وقد تقدم في حديث سلمة بن الأكوع حين جاءوا بأولئك السبعين الأسارى فأوثقوهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إليهم وقال : "أرسلوهم يكن لهم بدء الفجور وثنَاه". قال : وفي ذلك أنزل الله : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ } الآية.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك قال : لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون رجلا من أهل مكة في السلاح ، من قبل جبل التنعيم ، يريدون غرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا عليهم فأخذوا - قال عفان : فعفا عنهم - ونزلت هذه الآية : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ }
ورواه مسلم وأبو داود في سننه ، والترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما ، من طرق ، عن حماد بن سلمة ، به (2).
وقال أحمد - أيضا - : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا الحسين بن واقد ، حدثنا ثابت البُنَاني ، عن (3) عبد الله بن مُغَفَّل المُزَنِي قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن ، وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلي بن أبي طالب. وسهلُ بن عمرو بين يديه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : "اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم" ، فأخذ سهل بيده وقال : ما نعرف الرحمن الرحيم. اكتب في قضيتنا ما نعرف. قال : "اكتب باسمك اللهم" ، وكتب : "هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة". فأمسك سهل بن عمرو بيده وقال : لقد ظلمناك إن كنت رسوله ، اكتب في قضيتنا ما نعرف. فقال : "اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله". فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح ، فثاروا في (4) وجوهنا ، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذ الله بأسماعهم ، فقمنا إليهم فأخذناهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هل جئتم في عهد أحد ؟ أو : هل (5) جعل لكم أحد أمانا ؟" فقالوا : لا. فخلى سبيلهم ، فأنزل الله : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا }. رواه النسائي من حديث حسين بن واقد ، به (6).
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حُمَيْد ، حدثنا يعقوب القُمّي ، حدثنا جعفر ، عن ابن أبْزَى قال : لما
__________
(1) في ت : "تصل".
(2) المسند (3/122) وصحيح مسلم برقم (1808) وسنن أبي داود برقم (2688) وسنن الترمذي برقم (3264) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11510).
(3) في ت : "بن".
(4) في ت ، م : "إلى".
(5) في ت : "وهل".
(6) المسند (4/86) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11511).

(7/342)


خرج النبي صلى الله عليه وسلم بالهدي وانتهى إلى ذي الحليفة ، قال له عمر : يا نبي الله ، تدخل على قوم لك حَرْب بغير سلاح ولا كُرَاع ؟ قال : فبعث إلى المدينة ، فلم يدع فيها كراعا ولا سلاحا إلا حمله ، فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل ، فسار حتى أتى منى ، فنزل بمنى ، فأتاه عينه أن عكرمة بن أبي جهل قد خرج عليك في خمسمائة ، فقال لخالد بن الوليد : "يا خالد ، هذا ابن عمك أتاك في الخيل (1) ، فقال خالد : أنا سيف الله ، وسيف رسوله - فيومئذ سمي سيف الله - يا رسول الله ، ارم بي أين شئت. فبعثه على خيل ، فلقي عكرمة في الشعب فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ، ثم عاد في الثانية فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ، ثم عاد في الثالثة فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ، فأنزل الله : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ [مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ] } (2) إلى : { عَذَابًا أَلِيمًا }. قال : فكف الله النبي عنهم من بعد أن أظفره (3) عليهم لبقايا من المسلمين كانوا بقوا فيها كراهية أن تطأهم الخيل (4).
ورواه ابن أبي حاتم عن ابن أبزى بنحوه. وهذا السياق فيه نظر ؛ فإنه لا يجوز أن يكون عام الحديبية ؛ لأن خالدا لم يكن أسلم ؛ بل قد كان طليعة المشركين (5) يومئذ ، كما ثبت في الصحيح. ولا يجوز أن يكون في عمرة القضاء ، لأنهم قاضوه على أن يأتي من العام المقبل (6) فيعتمر ويقيم بمكة ثلاثة أيام ، فلما قدم لم يمانعوه ، ولا حاربوه ولا قاتلوه. فإن قيل : فيكون يوم الفتح ؟ فالجواب : ولا يجوز أن يكون يوم الفتح ؛ لأنه لم يسق عام الفتح هَديًا ، وإنما جاء محاربا مقاتلا في جيش عَرَمْرَم ، فهذا السياق فيه خلل ، قد وقع فيه شيء فليتأمل ، والله أعلم.
وقال ابن إسحاق : حدثني من لا أتهم ، عن عكرمة مولى ابن عباس : أن قريشا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين ، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا من أصحابه أحدًا ، فأُخذُوا أخذًا ، فأُتي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعفا عنهم وخلى سبيلهم ، وقد كانوا رموا إلى (7) عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم (8) بالحجارة والنبل. قال ابن إسحاق : وفي ذلك أنزل الله : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ } الآية (9).
وقال قتادة : ذكر لنا أن رجلا يقال له : "ابن زُنَيْم" اطلع على الثنية من الحديبية ، فرماه المشركون بسهم فقتلوه ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا فأتوه باثني عشر فارسًا من الكفار ، فقال لهم : "هل لكم علي عهد ؟ هل لكم علي ذمة ؟". قالوا : لا. فأرسلهم ، وأنزل الله في ذلك : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ } الآية.
__________
(1) في أ : "الجبل".
(2) زيادة من ت.
(3) في أ : "أظفركم".
(4) تفسير الطبري (26/59).
(5) في أ : "للمشركين".
(6) في ت : "قابل".
(7) في أ : "في".
(8) في ت ، م : "عسكر المسلمين".
(9) رواه الطبري في تفسيره (26/59).

(7/343)


هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)

{ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) }
يقول تعالى مخبرا عن الكفار من مشركي العرب من قريش ومن مالأهم (1) على نصرتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : هم الكفار دون غيرهم ، { وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أي : وأنتم أحق به ، وأنتم أهله في نفس الأمر ، { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } أي : وصدوا الهدي أن يصل (2) إلى محله ، وهذا من بغيهم وعنادهم ، وكان الهديُ سبعين بدنة ، كما سيأتي بيانه.
وقوله : { وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ } أي : بين أظهرهم ممن يكتم إيمانه ويخفيه منهم خيفة على أنفسهم من قومهم ، لكنا سَلَّطناكم عليهم فقتلتموهم وأبدتم خضراءهم ، ولكن بين أفنائهم من المؤمنين والمؤمنات أقوام لا تعرفونهم حالة (3) القتل ؛ ولهذا قال : { لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ } أي : إثم وغرامة { بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ } أي : يؤخر عقوبتهم ليخلص من بين أظهرهم المؤمنين ، وليرجع كثير منهم إلى الإسلام.
ثم قال : { لَوْ تَزَيَّلُوا } أي : لو تميز الكفار من المؤمنين الذين بين أظهرهم { لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } أي : لسلطناكم عليهم فلقتلتموهم قتلا ذريعا.
قال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أبو الزِّنْباع - روح بن الفرج - حدثنا عبد الرحمن بن أبي عباد المكي ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله (4) أبو سعيد - مولى بني هاشم - حدثنا حُجْر بن خلف : سمعت عبد الله بن عوف (5) يقول (6) : سمعت (7) جنيد بن سبع يقول (8) : قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول النهار كافرا ، وقاتلت معه آخر النهار مسلما ، وفينا نزلت : { وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ } قال : كنا تسعة نفر : سبعة رجال وامرأتين (9).
ثم رواه من طريق أخرى عن محمد بن عباد المكي به ، وقال فيه : عن أبي جمعة جنيد بن سبيع ، فذكره (10) والصواب أبو جعفر : حبيب بن سباع. ورواه ابن أبي حاتم من حديث حجر بن خلف (11) ،
__________
(1) في ت ، أ : "ولا هم".
(2) في ت : "يبلغ".
(3) في أ : "حال".
(4) في م ، أ : "عبيد الله".
(5) في أ : "عمرو".
(6) في ت : "روى الحافظ الطبراني بسنده".
(7) في ت : "عن".
(8) في ت : "قال".
(9) المعجم الكبير (2/290).
(10) المعجم الكبير (4/24).
(11) في أ : "حنيف".

(7/344)


به. وقال : كنا ثلاثة (1) رجال وتسع نسوة ، وفينا نزلت : { وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ }.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري ، حدثنا عبد الله بن عثمان بن جبلة ، عن أبي حمزة (2) ، عن عطاء عن سعيد بن جبير (3) ، عن ابن عباس : { لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } يقول : لو تزيل الكفار من المؤمنين ، لعذبهم الله عذابا أليما بقتلهم إياهم.
وقوله : { إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ } ، وذلك حين أبوا أن يكتبوا "بسم الله الرحمن الرحيم" ، وأبوا أن يكتبوا : "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله" ، { فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } ، وهي قول : "لا إله إلا الله" ، كما قال ابن جرير ، وعبد الله ابن الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن قزعة أبو علي البصري ، حدثنا سفيان بن حبيب ، حدثنا شعبة ، عن ثوير (4) ، عن أبيه عن الطفيل - يعني : ابن أبي بن كعب (5) [رضي الله عنه] (6) - عن أبيه [أنه] (7) سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } قال : "لا إله إلا الله".
وكذا رواه الترمذي عن الحسن بن قزعة ، وقال : غريب لا نعرفه إلا من حديثه ، وسألت أبا زُرْعَة عنه فلم يعرفه إلا من هذا الوجه (8).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني الليث ، حدثني عبد الرحمن بن خالد ، عن ابن شهاب (9) ، عن سعيد بن المسيب ، أن أبا هريرة أخبره ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فمن قال : لا إله إلا الله ، فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه ، وحسابه على الله" ، وأنزل الله في كتابه ، وذكر قوما فقال : { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } [الصافات : 35] ، وقال الله جل ثناؤه : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } وهي : "لا إله إلا الله ، محمد رسول الله" ، فاستكبروا عنها واستكبر عنها المشركون (10) يوم الحديبية ، وكاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قضية المدة..
وكذا رواه بهذه الزيادات ابن جرير من حديث الزهري (11) ، والظاهر أنها مدرجة من كلام الزهري ، والله أعلم.
وقال مجاهد : { كَلِمَةَ التَّقْوَى } : الإخلاص. وقال عطاء بن أبي رباح : هي لا إله إلا الله وحده لا شريك ، له له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير.
__________
(1) في م : "ثلاث".
(2) في أ : "عن أبي هريرة".
(3) في ت : "روى ابن أبي حاتم بسنده".
(4) في أ : "ثور".
(5) في ت : "كما روى ابن جرير بسنده عن أبي بن كعب".
(6) زيادة من ت.
(7) زيادة من ت ، م.
(8) تفسير الطبري (26/66) وزوائد عبد الله على المسند (5/138) وسنن الترمذي برقم (3265).
(9) في ت : "وروى بن أبي حاتم بسنده".
(10) في أ : "قريش".
(11) تفسير الطبري (26/66).

(7/345)


وقال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن عروة ، عن المسور : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } قال : لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له.
وقال الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن عَبَاية بن رِبْعِي ، عن علي : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } قال : لا إله إلا الله ، والله أكبر. وكذا قال ابن عمر ، رضي الله عنهما.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } قال : يقول : شهادة أن لا إله إلا الله ، وهي رأس كل تقوى.
وقال سعيد بن جبير : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } قال : لا إله إلا الله والجهاد في سبيله.
وقال عطاء الخراساني : هي : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله.
وقال عبد الله بن المبارك ، عن مَعْمَر عن الزهري : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } قال : بسم الله الرحمن الرحيم.
وقال قتادة : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } قال : لا إله إلا الله.
{ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } : كان المسلمون أحق بها ، وكانوا أهلها.
{ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } أي : هو عليم بمن يستحق الخير من يستحق الشر.
وقد قال النسائي : حدثنا إبراهيم بن سعيد ، حدثنا شبابة بن سوار ، عن أبي رزين ، عن عبد الله بن العلاء بن زبر ، عن بسر بن عبيد الله ، عن أبي إدريس ، عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ : { إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ } [الفتح : 26] ، ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام. فبلغ ذلك عمر فأغلظ له ، فقال : إنك لتعلم أني كنت أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلمني مما علمه الله. فقال عمر : بل أنت رجل عندك علم وقرآن ، فاقرأ وعلم مما علمك الله ورسوله (1).
وهذا ذكر الأحاديث الواردة في قصة الحديبية وقصة الصلح :
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا محمد بن إسحاق بن يَسَار ، عن الزهري ، عن عُرْوَة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت ، لا يريد قتالا وساق معه الهدي سبعين بدنة ، وكان الناس سبعمائة رجل ، فكانت كل بدنة عن عشرة ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي (2) ، فقال : يا رسول الله ، هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجت معها العُوذ المطافيل ، قد لبست جلود النمور ، يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة أبدًا ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموه إلى كراع الغميم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا ويح قريش! قد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر
__________
(1) النسائي في السنن الكبرى برقم (11505).
(2) في ت : "بشر بن كعب الكلبي".

(7/346)


الناس ؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله [عليهم] (1) دخلوا في الإسلام وهم وافرون ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فماذا تظن قريش ؟ فوالله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتى يظهرني الله أو تنفرد هذه السالفة". ثم أمر الناس فسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض على طريق تخرجه (2) على ثنية المرار والحديبية من أسفل مكة. قال : فسلك بالجيش تلك الطريق ، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم ، ركضوا راجعين إلى قريش ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا سلك ثنية المرار ، بركت ناقته ، فقال الناس : خلأت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما خلأت ، وما ذلك (3) لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة ، والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم ، إلا أعطيتهم إياها" [ثم] (4) قال للناس : "انزلوا". قالوا : يا رسول الله ، ما بالوادي من ماء ينزل عليه الناس. فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمًا من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه ، فنزل في قليب من تلك القلب ، فغرزه فيه فجاش بالماء حتى ضرب الناس عنه بعطن. فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا بُدَيل بن ورقاء في رجال من خزاعة ، فقال لهم كقوله لبشر بن سفيان ، فرجعوا إلى قريش فقالوا : يا معشر قريش ، إنكم تعجلون على محمد ، وإن محمدًا لم يأت لقتال ، إنما جاء زائرًا لهذا البيت معظمًا لحقه ، فاتهموهم.
قال محمد بن إسحاق : قال الزهري : [و] (5) كانت خزاعة في عَيْبَة رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركها ومسلمها ، لا يخفون على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا كان بمكة ، فقالوا : وإن كان إنما جاء لذلك فوالله لا يدخلها أبدًا علينا عَنْوة ، ولا يتحدث بذلك العرب. ثم بعثوا إليه مِكْرَز بن حفص ، أحد بني عامر بن لؤي ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "هذا رجل غادر". فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ما كَلَّم به أصحابه ، ثم رجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (6) ؛ فبعثوا إليه الحليس بن علقمة الكناني ، وهو يومئذ سيد الأحابيش ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "هذا من قوم يتألهون ، فابعثوا الهَدْي" في وجهه ، فبعثوا الهدي ، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عُرْض الوادي في قلائده قد أكل أوتاره من طول الحبس عن محله ، رجع ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظامًا لما رأى (7) ، فقال : يا معشر قريش ، قد رأيت ما لا يحل صَده ، الهدي في قلائده قد أكل أوتاره من طول الحبس عن محله. قالوا : اجلس ، إنما أنت أعرابي لا علم لك. فبعثوا إليه عروة بن مسعود الثقفي ، فقال : يا معشر قريش ، إن قد رأيت ما يلقى منكم من تبعثون إلى محمد إذا جاءكم ، من التعنيف وسوء اللفظ ، وقد عرفتم أنكم والد وأنا ولد ، وقد سمعت بالذي نابكم ، فجمعت من أطاعني من قومي ، ثم جئت حتى آسيتكم بنفسي. قالوا : صدقت ما أنت عندنا بمتهم. فخرج (8) حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه ، فقال : يا محمد جمعت أوباش الناس ، ثم جئت بهم لبيضتك لتفضها ، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور ، يعاهدون الله
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ : "يحرصه".
(3) في ت : "وما ذاك".
(4) زيادة من ت ، م ، أ.
(5) زيادة من ت ، م.
(6) زيادة من ت ، م.
(7) في ت : "فلما رجع إلى أصحابه".
(8) في أ : "ثم خرج".

(7/347)


ألا تدخلها عليهم عنوة أبدا ، وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا. قال : وأبو بكر قاعد خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : امصص بظر اللات! أنحن ننكشف عنه ؟! قال : من هذا يا محمد ؟ قال : "هذا ابن أبي قحافة". قال : أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها ، ولكن هذه بها. ثم تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد (1) ، قال : فقرع يده. ثم قال : أمسك يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل - والله - لا تصل إليك. قال : ويحك! ما أفظعك وأغلظك! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال : من هذا يا محمد ؟ قال صلى الله عليه وسلم : "هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة". قال : أغدر ، وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس ؟! قال فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما كلم به أصحابه ، وأخبره أنه لم يأت يريد حربا. قال : فقام من عند رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (2) وقد رأى ما يصنع به أصحابه ، لا يتوضأ وضوءا إلا ابتدروه ، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه ، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه. فرجع إلى قريش فقال : يا معشر قريش ، إنى جئت كسرى في ملكه ، وجئت قيصر والنجاشي في ملكهما ، والله ما رأيت مَلكا قط مثل محمد في أصحابه ، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا ، فروا رأيكم. قال : وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك قد بعث خراش بن أمية الخزاعي إلى مكة ، وحمله على جمل له يقال له : "الثعلب" فلما دخل مكة عقرت (3) به قريش ، وأرادوا قتل خراش ، فمنعتهم الأحابيش ، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا عمر ليبعثه إلى مكة ، فقال : يا رسول الله ، إنى أخاف قريشا على نفسي ، وليس بها من بني عدي أحد يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ، ولكن أدلك على رجل هو أعز مني : عثمان بن عفان. قال : فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعثه إلى قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب أحد ، وإنما جاء زائرا لهذا البيت ، معظما لحرمته. فخرج عثمان حتى أتى مكة ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص ، فنزل عن دابته وحمله بين يديه وردف خلفه ، وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش ، فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به ، فقالوا لعثمان : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به ، فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (4) قال : واحتبسته قريش عندها ، قال : وبلغ رسول الله أن عثمان قد قتل.
قال محمد : فحدثني الزهري : أن قريشًا بعثوا سهل بن عمرو ، وقالوا : ائت محمدًا فصالحه ولا يكون في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، فوالله لا تحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبدًا. فأتاه سهل بن عمرو فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل". فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلما وأطالا الكلام ، وتراجعا حتى جرى بينهما الصلح ، فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب ، وثب عمر بن الخطاب فأت أبا بكر فقال : يا أبا بكر ، أو ليس برسول الله ؟ أو لسنا بالمسلمين ؟ أو ليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى. قال : فعلام نعطي الذلة في ديننا ؟ فقال أبو بكر : يا عمر ،
__________
(1) في ت : "بالحدد".
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) في ت : "عثرت".
(4) زيادة من ت ، أ.

(7/348)


الزم غرزه حيث كان ، فإني أشهد أنه رسول الله. [ثم] (1) قال عمر : وأنا أشهد. ثم أتى رسول الله فقال : يا رسول الله ، أو لسنا بالمسلمين أو ليسوا بالمشركين ؟ قال : "بلى" قال : فعلام نعطي الذلة في ديننا ؟ فقال : "أنا عبد الله ورسوله ، لن أخالف أمره ولن يضيعني". ثم قال عمر : ما زلت أصوم وأصلي وأتصدق وأعتق من (2) الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خيرا. قال : ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب [رضي الله عنه] (3) فقال : اكتب : "بسم الله الرحمن الرحيم". فقال سهل بن عمرو : ولا أعرف هذا ، ولكن اكتب : "باسمك اللهم ، فقال رسول الله : "اكتب باسمك اللهم. هذا ما صلح (4) عليه محمد رسول الله ، سهل بن عمرو" ، فقال سهل بن عمرو : ولو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ، ولكن اكتب هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله ، وسهل بن عمرو ، على وضع الحرب عشر سنين ، يأمن فيها الناس ، ويكف بعضهم عن بعض ، على أنه من أتى رسول الله (5) من أصحابه بغير إذن وليه ، رده عليهم ، ومن أتى قريشا ممن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (6) لم يردوه عليه وأن بيننا عيبة مكفوفة ، وأنه لا أسلال ولا أغلال ، وكان في شرطهم حين كتبوا الكتاب : أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده ، دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ، فتواثبت خزاعة فقالوا : نحن في عقد رسول الله وعهده ، وتواثبت بنو بكر فقالوا : نحن في عقد قريش وعهدهم ، وأنك ترجع عنا عامنا هذا فلا تدخل علينا مكة ، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فتدخلها بأصحابك ، وأقمت بها ثلاثًا معك سلاح الراكب لا تدخلها بغير السيوف في القرب ، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب ، إذا جاءه أبو جندل بن سهل بن عمرو في الحديد قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (7) قال : وقد كان أصحاب رسول الله خرجوا وهم لا يشكون في الفتح ، لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع ، وما تحمل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (8) على نفسه ، دخل الناس من ذلك أمر عظيم ، حتى كادوا أن يهلكوا. فلما رأى سهل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وقال : يا محمد ، قد لجّت (9) القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال : "صدقت". فقام إليه فأخذ بتلابيبه. قال : وصرخ أبو جندل بأعلى صوته : يا معشر المسلمين ، أتردونني إلى أهل الشرك فيفتنوني في ديني ؟ قال : فزاد الناس شرا إلى ما بهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أبا جندل ، اصبر واحتسب ، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا ، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا فأعطيناهم على ذلك وأعطونا عليه عهدا (10) ، وإنا لن نغدر بهم". قال : فوثب إليه عمر بن الخطاب فجعل يمشي مع [أبي] (11) جندل إلى جنبه وهو يقول : اصبر أبا جندل ، فإنما هم المشركون ، وإنما دم أحدهم دم كلب ، قال : ويدني قائم السيف منه ، قال : يقول : رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه قال : فضن الرجل بأبيه. قال : ونفذت القضية ، فلما فرغا من الكتاب ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الحرم ، وهو مضطرب في الحل ، قال : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "يا أيها الناس ، انحروا (12) واحلقوا". قال : فما قام أحد. قال : ثم عاد بمثلها ، فما قام رجل حتى عاد صلى الله عليه وسلم بمثلها ، فما قام رجل.
فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على أم سلمة فقال : "يا أم سلمة ما شأن الناس ؟" قالت : يا رسول الله ، قد دخلهم ما رأيت ، فلا تُكَلِّمن (13) منهم إنسانًا ، واعمد إلى هديك حيث كان فانحره واحلق ، فلو قد فعلت ذلك فعل الناس ذلك. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكلم أحدًا حتى أتى هديه فنحره ، ثم جلس فحلق ، قال : فقام الناس ينحرون ويحلقون. قال : حتى إذا كان بين مكة والمدينة في وسط الطريق نزلت سورة الفتح.
هكذا ساقه أحمد من هذا الوجه ، وهكذا رواه يونس بن بُكَيْر وزياد البكائي ، عن ابن إسحاق ، بنحوه (14) ، وفيه إغراب ، وقد رواه أيضا عن عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الزهري ، به نحوه (15) وخالفه في أشياء وقد رواه البخاري ، رحمه الله ، في صحيحه ، فساقه سياقة (16) حسنة مطولة بزيادات جيدة ، فقال في كتاب الشروط (17) من صحيحه :
حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر : أخبرني الزهري : أخبرني عُرْوة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم ، يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه ، قالا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه ، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره ، وأحرم منها بعمرة وبعث عينًا له من خزاعة ، وسار حتى إذا كان بغير الأشطاط أتاه عينه ، فقال : إن قريشًا قد جمعوا لك جموعًا ، وقد جمعوا لك الأحابيش وهم مقاتلوك وصادوك ومانعوك. فقال : "أشيروا أيها الناس عليّ ، أترون أن نميل عل عيالهم ، وذراري هؤلاء الذين يريدون أن صدونا عن البيت ؟" وفي لفظ : "أترون أن نميل على ذراري هؤلاء الذين أعانوهم. فإن يأتونا كان الله قد قطع عُنُقا من المشركين وإلا تركناهم محزونين" ، وفي لفظ : "فإن قعدوا قعدوا موتورين مجهودين محرُوبين وإن نجوا يكن عنقا قطعها الله ، أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه ؟". فقال أبو بكر [رضي الله عنه] (18) : يا رسول الله خرجت عامدًا لهذا البيت ، لا نريد قتل أحد ولا حربًا ، فتوجه له ، فمن صدنا عنه قاتلناه. وفي لفظ : فقال أبو بكر ، رضي الله عنه : الله ورسوله علم إنما جئنا معتمرين ، ولم نجئ لقتال أحد ، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "فروحوا إذن" ، وفي لفظ : "فامضوا على اسم الله".
حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن خالد بن الوليد في خيل لقريش طليعة ،
__________
(1) زيادة من م ، أ.
(2) في ت : "عن".
(3) زيادة من ت.
(4) في أ : "ما صالح".
(5) في أ : "محمدا".
(6) زيادة من ت.
(7) زيادة من ت.
(8) زيادة من ت ، أ.
(9) في ت ، أ : "تمت".
(10) في ت ، م ، أ : "عهدنا".
(11) زيادة من ت ، م ، أ.
(12) في ت ، أ : "انحروا في الحرم".
(13) في ت ، أ : "فلا تكلمن".
(14) المسند (4/323) والسيرة النبوية لابن هشام (2/316).
(15) رواه أحمد في مسنده (4/328) من طريق عبد الرزاق به.
(16) في م : "بسياقات".
(17) في ت ، م : "الشرط".
(18) زيادة من أ.

(7/349)


فخذوا ذات اليمين". فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقَتَرة الجيش ، فانطلق يركض نذيرًا لقريش ، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها ، بركت به راحلته. فقال الناس : حل حل فألحت ، فقالوا : خلأت القصواء ، خلأت القصواء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل". ثم قال : "والذي نفسي بيده ، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله ، إلا أعطيتهم إياها". ثم زجرها فوثبت ، فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء ، يتبرضه الناس تبرضًا ، فلم يلبث (1) الناس حتى نزحوه ، وشكي (2) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش ، فانتزع من كنانته سهمًا ثم أمرهم أن يجعلوه فيه ، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه ، فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة ، وكانوا عيبة نصح رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (3) من أهل تهامة ، فقال : إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي ، نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إنا لم نجئ لقتال أحد ، ولكن جئنا معتمرين ، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب فأضرت بهم ، فإن شاؤوا ماددنهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس ، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ، وإلا فقد جموا ، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، ولينفذن (4) الله أمره" قال بديل : سأبلغهم ما تقول ، فانطلق حتى أتى قريشا فقال : إنا قد جئنا من عند هذا الرجل ، وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا ، فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء. وقال : ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته يقول : قال : سمعته يقول كذا وكذا ، فحدثهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام عروة بن مسعود فقال : أي قوم ، ألستم بالوالد ؟ قالوا : بلى. قال : أولست بالولد ؟ قالوا : بلى. قال : فهل تتهموني ؟ قالوا : لا. قال : ألستم تعلمون أني أستنفرت أهل عكاظ ، فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني ؟ قالوا : بلى. قال : فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته. قالوا : ائته. فأتاه فجعل يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له نحوا من قوله لبديل بن ورقاء. فقال عروة عند ذلك : أي محمد ، أرأيت إن استأصلت أمر قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك ؟ وإن تك الأخرى فإني والله لأرى وجوها ، وإني لأرى أشوابا (5) من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك ، فقال أبو بكر ، رضي الله عنه : امصص بَظْر اللات! أنحن نفر وندعه ؟! قال : من ذا ؟ قالوا : أبو بكر. قال : أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها ، لأجبتك. قال : وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما كلمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة ، رضي الله عنه قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر ، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف ، وقال له : أخر يدك من لحية النبي صلى الله عليه وسلم. فرفع عروة رأسه وقال : من هذا ؟ قال : المغيرة بن شعبة. فقال : أي غدر ، ألست أسعى في غدرتك ؟! وكان المغيرة بن شعبة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أما الإسلام فأقبل ، وأما المال فلست منه في شي".
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه (6) ، قال : فوالله ما تنخم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (7) نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذ توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون النظر إليه ، تعظيما له صلى الله عليه وسلم ، فرجع عروة إلى أصحابه فقال : أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك ، ووفدت على كسرى وقيصر والنجاشي ، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدًا ، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يُحدون النظر إليه تعظيما له ، وإنه قد عرض عليكم خطة رشْد فاقبلوها. فقال رجل منهم من بني كنانة : دعوني آته. فقالوا : ائته فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : "هذا فلان ، وهو من قوم يعظمون البُدْن ، فابعثوها له" فبُعِثَتْ له ، واستقبله الناس يُلَبُّون ، فلما رأى ذلك قال : سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. فلما رجع إلى أصحابه قال : رأيت البُدْن قد قُلِّدت وأشعرت ، فما أرى أن يُصَدُّوا عن البيت. فقال (8) رجل منهم يقال له : "مِكْرَز بن حفص" ، فقال : دعوني آته. فقالوا : ائته. فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم : "هذا مكرز [بن حفص] (9) وهو رجل فاجر" ، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهل بن عمرو.
وقال معمر : أخبرني أيوب ، عن عِكْرِمَةَ أنه قال : لما جاء سهل بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم : "قد سَهُل لكم من أمركم".
قال معمر : قال الزهري في حديثه : فجاء سهل بن عمرو فقال : هات أكتب بيننا وبينك (10) كتابا فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "[اكتب] (11) : بسم الله الرحمن الرحيم" ، فقال سهل [بن عمرو] (12) : أما "الرحمن" فوالله ما أدري ما هو ، ولكن اكتب : "باسمك اللهم" ، كما كنت تكتب. فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا "بسم الله الرحمن الرحيم". فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اكتب : باسمك اللهم". ثم قال : "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله". فقال سهل : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : "محمد بن عبد الله" ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "والله إني لرسول الله وإن كذبتموني. اكتب محمد بن عبد الله" قال الزهري : وذلك لقوله : "والله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها". فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به". فقال سهل : والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضُغْطَةً ، ولكن ذلك من العام المقبل ، فكتب ، فقال سهل : "وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا". فقال المسلمون : سبحان الله! كيف يُرَدُّ إلى المشركين وقد جاء مسلما ؟! فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهل
__________
(1) في ت ، م : "يلبثه".
(2) في أ : "شكوا".
(3) زيادة من م.
(4) في ت ، م : "أو لينفذن".
(5) في أ : "أوشابا".
(6) في ت : "بعينه".
(7) زيادة من ت.
(8) في أ : "فقام".
(9) زيادة من أ.
(10) في ت : "بينكم".
(11) زيادة من أ.
(12) زيادة من ت ، م.

(7/351)


بن عمرو يرسُفُ في قيوده قد (1) خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين ، فقال سهل : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن تَرُدّه إلي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إنا لم نَقْضِ الكتاب بعد". قال : فوالله إذًا لا أصالحك على شيء أبدا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "فأجزه لي" فقال : ما أنا بمجيز ذلك لك ، قال : "بلى فافعل". قال : ما أنا بفاعل. قال مكرز : بلى قد أجزناه لك. قال أبو جندل : أي معشر المسلمين ، أرَدّ إلى المشركين وقد جئت مسلما ؟ ألا ترون ما قد لقيت ؟! وكان قد عُذِّبَ عذابا شديدا في الله عز وجل. قال عمر [بن الخطاب] (2) رضي الله عنه : فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : ألست نبي الله حقا ؟ قال صلى الله عليه وسلم : "بلى". قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : "بلى". قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذا ؟ قال : "إني رسول الله ، ولستُ أعصيه ، وهو ناصري" ، قلت : أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : "بلى ، أفأخبرتك أنا نأتيه (3) العام ؟" قلت : لا قال : "فإنك آتيه ومُطوِّف به". قال : فأتيت أبا بكر فقلت : يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا ؟ قال : بلى. قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى. قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذا ؟ قال : أيها الرجل ، إنه رسول الله ، وليس يعصي ربه ، وهو ناصره ، فاستمسك بغَرْزه ، فوالله إنه على الحق. قلت : أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : بلى قال : أفأخبرك أنك تأتيه العام ؟ قلت : لا. قال : فإنك تأتيه وتطوف به.
قال الزهري : قال عمر : فعملت لذلك أعمالا. قال : فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول (4) الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : "قوموا فانحروا ثم احلقوا". قال : فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات!! فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، قالت له أم سلمة : يا نبي الله ، أتحب ذلك ؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك ، فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك ، نحر بدنه ، ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما ، ثم جاءه نسوة مؤمنات ، فأنزل الله ، عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } حتى بلغ : { بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } [الممتحنة : 10]. فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك ، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان ، والأخرى صفوان بن أمية. ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير - رجل من قريش - وهو مسلم ، فأرسلوا في طلبه رجلين ، فقالوا : العهد الذي جعلت لنا ، فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة ، فنزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدًا ، فاستله الآخر ، فقال : أجل! والله إنه لجيد ، لقد جربت منه ثم جربت ، فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه ، فأمكنه منه فضربه حتى بَرَد ، وفَرّ الآخر حتى أتى المدينة ، فدخل المسجد يعدو ، فقال رسول الله (5) صلى الله عليه وسلم حين رآه : "لقد رأى هذا ذُعرًا" ، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال :
__________
(1) في ت : "حتى".
(2) زيادة من ت.
(3) في ت : "أنك تأتيه".
(4) في ت : "النبي".
(5) في م : "االنبي".

(7/353)


قتل والله صاحبي ، وإني لمقتول. فجاء أبو بصير فقال : يا رسول الله ، قد - والله - أوفى الله ذمتك ، قد رددتني إليهم ثم نجاني الله منهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "ويل أمّه مِسْعَرُ حرب! لو كان له أحد". فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم ، فخرج حتى أتى سيف البحر ، قال : وتفلت منهم أبو جندل بن سهل ، فلحق بأبي بصير ، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير ، حتى اجتمعت منهم عصابة ، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم ، وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم : "فمن أتاه منهم فهو آمن". فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ، وأنزل الله عز وجل : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ } حتى بلغ : { حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ } ، وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه رسول الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم ، وحالوا بينهم وبين البيت.
هكذا ساقه البخاري هاهنا (1) ، وقد أخرجه في التفسير ، وفي عمرة الحديبية ، وفي الحج ، وغير ذلك من حديث معمر وسفيان بن عيينة ، كلاهما عن الزهري ، به (2) ووقع في بعض الأماكن عن الزهري ، عن عروة ، عن مروان والمِسْوَر بن [مَخْرَمة] (3) ، عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك (4). وهذا أشبه والله أعلم ، ولم يسقه أبسط من هاهنا ، وبينه وبين سياق ابن إسحاق تباين في مواضع ، وهناك فوائد ينبغي إضافتها إلى ما هاهنا ، ولذلك سقنا تلك الرواية وهذه ، والله المستعان وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
وقال البخاري في التفسير : حدثنا أحمد بن إسحاق السُّلَمِي ، حدثنا يعلى ، حدثنا عبد العزيز بن سياه ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : أتيت أبا وائل أسأله فقال : كنا بصفين فقال رجل : ألم تر إلى الذين يدعون إلى كتاب الله ؟ فقال علي بن أبي طالب : نعم. فقال سهل بن حُنَيْف : اتهمُوا أنفسكم ، فلقد رأيتنا يوم الحديبية - يعني : الصلح الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين - ولو نرى قتالا لقاتلنا ، فجاء عمر فقال : ألسنا على الحق وهم على الباطل ؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ فقال : "بلى" قال : ففيم نعطي الدنية في ديننا ، ونرجع ولما يحكم الله بيننا ؟ فقال : "يا ابن الخطاب ، إني رسول الله ، ولن يضيعني الله أبدا" ، فرجع متغيظا ، فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال : يا أبا بكر ، ألسنا على الحق وهم على الباطل ، فقال : يا ابن الخطاب ، إنه رسول الله ، ولن يضيعه الله أبدا ، فنزلت سورة الفتح (5).
وقد رواه البخاري أيضا في مواضع أخر ومسلم والنسائي من طرق أخر عن أبي وائل سفيان (6)
__________
(1) صحيح البخاري برقم (2731 ، 2732).
(2) صحيح البخاري برقم (4180).
(3) زيادة من م.
(4) رواه البخاري في صحيحه في أول الشروط برقم (2711).
(5) صحيح البخاري برقم (4844).
(6) في هـ : "شقيق".

(7/354)


لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)

ابن سلمة ، عن سهل (1) بن حنيف به (2) ، وفي بعض ألفاظه : "يا أيها الناس ، اتهموا الرأي ، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أقدر على أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره لرددته" وفي رواية : فنزلت سورة الفتح ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب فقرأها عليه.
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن أنس ، أن قريشا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فيهم سهل بن عمرو ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي : "اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم" ، فقال سهل : لا ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم ، ولكن اكتب ما نعرف : "باسمك اللهم". فقال : "اكتب من محمد رسول الله". قال : لو نعلم (3) أنك رسول الله لاتبعناك ، ولكن اكتب : اسمك واسم أبيك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اكتب : من محمد بن عبد الله". واشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن (4) من جاء منكم لم نرده عليكم ، ومن جاءكم منا رددتموه علينا ، فقال : يا رسول الله أتكتب هذا ؟ قال : "نعم ، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله". رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة ، به (5).
وقال أحمد أيضا : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا عكرمة بن عمار قال : حدثني سماك ، عن عبد الله بن عباس قال : لما خرجت الحرورية اعتزلوا ، فقلت لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية صالح المشركين ، فقال لعلي : "اكتب يا علي : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله" قالوا : لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك ، فقال رسول الله : "امح يا علي ، اللهم إنك تعلم أني رسولك ، امح يا علي ، واكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله". والله لرسول الله خير من علي ، وقد محا نفسه ، ولم يكن محوه ذلك يمحاه من النبوة ، أخرجت من هذه ؟ قالوا : نعم.
ورواه أبو داود من حديث عكرمة بن عمار اليمامي ، بنحوه (6).
وروى الإمام أحمد ، عن يحيى بن آدم : حدثنا زهير ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن مِقْسَم ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية سبعين بدنة فيها جمل لأبي جهل ، فلما صُدَّت عن البيت حَنَّتْ كما تَحِنُّ إلى أولادها (7).
{ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) }.
__________
(1) في م : "سهل".
(2) صحيح البخاري برقم ( 3181 ، 7308 ، 4189 ، 3182) وصحيح مسلم برقم (1785) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11504).
(3) في م : "علمنا".
(4) في م : "أنه".
(5) المسند (3/268) وصحيح مسلم برقم (1784).
(6) المسند (1/342) وسنن أبي داود برقم (4037).
(7) المسند (1/314).

(7/355)


كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُرِىَ في المنام أنه دخل مكة وطاف بالبيت فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة ، فلما ساروا عام الحديبية لم يشك جماعة منهم أن هذه الرؤيا تتفسر (1) هذا العام ، فلما وقع ما وقع من قضية الصلح ورجعوا عامهم ذلك على أن يعودوا من قابل ، وقع في نفوس بعض الصحابة من ذلك شيء ، حتى سأل عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، في ذلك ، فقال له فيما قال : أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : "بلى ، أفأخبرتك أنك تأتيه (2) عامك هذا" قال : لا قال : "فإنك آتيه ومطوف به". وبهذا أجاب الصديق ، رضي الله عنه ، أيضا حَذْو القُذَّة بالقُذَّة ؛ ولهذا قال تعالى : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ } : [و] (3) هذا لتحقيق الخبر وتوكيده ، وليس هذا من الاستثناء في شيء ، [وقوله] (4) : { آمِنِينَ } أي : في حال دخولكم. وقوله : { مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } ، حال مقدرة ؛ لأنهم في حال حرمهم (5) لم يكونوا محلقين ومقصرين ، وإنما كان هذا في ثاني الحال ، كان منهم من حلق رأسه ومنهم من قصره ، وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "رحم الله المحلقين" ، قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : "رحم الله المحلقين". قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : "رحم الله المحلقين". قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : "والمقصرين" في الثالثة أو الرابعة (6).
وقوله : { لا تَخَافُونَ } : حال مؤكدة في المعنى ، فأثبت لهم الأمن حال الدخول ، ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد لا يخافون من أحد. وهذا كان في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة رجع إلى المدينة فأقام بها ذا الحجة والمحرم ، وخرج في صفر إلى خيبر ففتحها الله عليه بعضها عنوة وبعضها صلحا ، وهي إقليم عظيم كثير النخل (7) والزروع ، فاستخدم (8) من فيها من اليهود عليها على الشطر ، وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم ، ولم يشهدها أحد غيرهم إلا الذين قدموا من الحبشة ، جعفر بن أبي طالب وأصحابه ، وأبو موسى الأشعري وأصحابه ، ولم يغب منهم أحد ، قال ابن زيد : إلا أبا دجانة سِمَاك بن خَرَشَة ، كما هو مقرر في موضعه ثم رجع إلى المدينة ، فلما كان في ذي القعدة [في] (9) سنة سبع خرج إلى مكة معتمرا هو وأهل الحديبية ، فأحرم من ذي الحليفة ، وساق معه الهدي ، قيل : كان ستين بدنة ، فلبى وسار أصحابه يلبون. فلما كان قريبا من مر الظهران بعث محمد بن مسلمة بالخيل والسلاح أمامه ، فلما رآه المشركون رعبوا رعبا شديدا ، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم ، وأنه قد نكث العهد الذي بينه بينهم من وضع القتال عشر سنين ، وذهبوا فأخبروا أهل مكة ، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم ، بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن يأجج ، وسار إلى مكة بالسيف مغمدة في قربها ، كما شارطهم عليه. فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مِكْرَز
__________
(1) في أ : "تتعين".
(2) في ت ، م : "آتيه".
(3) زيادة من ت.
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) في م ، أ : "دخولهم".
(6) صحيح البخاري برقم (1727) وصحيح مسلم برقم (1301) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(7) في أ : "النخيل".
(8) في ت : "واستخدم".
(9) زيادة من ت.

(7/356)


بن حفص فقال : يا محمد ، ما عرفناك تنقض العهد. قال : "وما ذاك ؟" قال (1) : دخلت : علينا بالسلاح والقسي والرماح. فقال : "لم يكن ذلك ، وقد بعثنا به إلى يأجج" ، فقال : بهذا عرفناك ، بالبر والوفاء. وخرجت رؤوس الكفار من مكة لئلا ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم و [لا] (2) إلى أصحابه غيظا وحنقا ، وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فدخلها عليه الصلاة والسلام ، وبين يديه أصحابه يلبون ، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى ، وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية ، وعبد الله بن رواحة الأنصاري آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقودها ، وهو يقول :
باسم الذي لا دين إلا دينُه... باسم الذي محمدٌ رسوله...
خَلُّوا بني الكُفَّار عَنْ سَبِيله... اليوم نضربكم على تَأْويله...
كما ضربناكم على تنزيله... ضربًا يزيلُ الهام عَن مَقِيله...
ويُذْهِل الخليل عن خليله... قد أنزل الرحمن في تنزيله...
في صُحف تتلى على رسُوله... بأن خير القَتْل في سبيله...
يا رب إني مؤمن بقيله
فهذا مجموع من روايات متفرقة.
قال يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر (3) بن حزم قال : لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء ، دخلها وعبد الله بن رواحة آخذ بخطام ناقته صلى الله عليه وسلم (4) ، وهو يقول :
خلّوا بني الكفار عن سبيله... إني شَهيدٌ أنه رَسُولُهُ...
خلوا فكل (5) الخير في رسوله... يا رب إني مؤمن بقيله...
نحن قتلناكم على تأويله... كما قتلناكم على تنزيله...
ضربًا يُزيل الهام عن مقيله... ويذهل الخليل عن خليله...
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن أنس بن مالك قال : لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء ، مشى عبد الله بن رواحة بين يديه ، وفي رواية وابن رواحة آخذ بغرزه ، وهو يقول :
__________
(1) في ت ، م : "فقال".
(2) زيادة من ت ، م ، أ.
(3) في ت : "محمد".
(4) في ت : "مشى عبد الله بن رواحة بين يديه".
(5) في ت : "وكل".

(7/357)


خلوا بني الكفار عن سبيله... قد نزل الرحمن في تنزيله...
بأن خير القتل في سبيله... يا رب إني مؤمن بقيله...
نحن قتلناكم على تأويله... كما قتلناكم على تنزيله...
ضربًا يزيل الهام عن مقيله... ويذهل الخليل عن خليله...
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن الصباح ، حدثنا إسماعيل - يعني : ابن زكريا - عن عبد الله - يعني : ابن عثمان - عن أبي الطُّفَيْل (1) ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مرّ الظهران في عمرته ، بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشا [تقول] (2) : ما يتباعثون من العَجَف. فقال أصحابه : لو انتحرنا من ظهرنا ، فأكلنا من لحمه ، وحَسَونا من مَرَقه ، أصبحنا غدا حين ندخل على القوم وبنا جَمَامَة. قال : "لا تفعلوا ، ولكن اجمعوا لي (3) من أزوادكم". فجمعوا له وبسطوا الأنطاع ، فأكلوا حتى تركوا وحثا كل واحد منهم في جرابه ، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل المسجد ، وقعدت قريش نحو الحجر ، فاضطبع بردائه ، ثم قال : "لا يرى (4) القوم فيكم غميرة" فاستلم الركن ثم رَمَل ، حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود ، فقالت قريش : ما ترضون بالمشي أما إنكم لتنقُزُون نَقْزَ الظباء ، ففعل ذلك ثلاثة أشواط ، فكانت سُنَّة. قال أبو الطفيل : فأخبرني ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في حجة الوداع (5).
وقال (6) أحمد أيضا : حدثنا يونس ؛ حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة ، وقد وهنتهم حُمّى يثرب ، ولقوا منها سوءا ، فقال المشركون : إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب ، ولقوا منها شرا ، وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحجر ، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم [أصحابه] (7) أن يرملوا الأشواط الثلاثة ؛ ليرى المشركون جلدهم ، قال : فرملوا ثلاثة أشواط ، وأمرهم أن يمشوا بين الركنين حيث لا يراهم المشركون ، ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط كلها إلا إبقاء عليهم ، فقال المشركون : أهؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم ؟ هؤلاء أجلد من كذا وكذا.
أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد ، به (8) وفي لفظ : قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة ، أي من ذي القعدة ، فقال المشركون : إنه يقدم عليكم وفد قد وهنتهم حمى يثرب ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة ، ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.
__________
(1) في ت : "وروى الإمام أحمد بسنده".
(2) زيادة من تن أ.
(3) في ت ، أ : "إلي".
(4) في ت : "ألا ترى".
(5) المسند (1/305).
(6) في ت : "وروى".
(7) زيادة من ت.
(8) المسند (1/295) وصحيح البخاري برقم (4256) وصحيح مسلم برقم (2266).

(7/358)


قال البخاري : وزاد ابن سلمة - يعني حماد بن سلمة - عن أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم لعامه الذي استأمن قال : "ارملوا". ليري المشركون قوتهم ، والمشركون من قبل قعيقعان.
وحدثنا محمد ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : إنما سعى النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت وبالصفا والمروة ، ليرى المشركون قوته (1).
ورواه في مواضع أخر ، ومسلم والنسائي ، من طرق ، عن سفيان بن عيينة ، به (2).
وقال أيضا : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، سمع ابن أبي أوفى يقول : لما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سترناه من غلمان المشركين ومنهم ؛ أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. انفرد به البخاري دون مسلم (3).
وقال (4) البخاري أيضا : حدثنا محمد بن رافع ، حدثنا سريج بن النعمان ، حدثنا فليح ، وحدثني محمد بن الحسين بن إبراهيم ، حدثنا أبي حدثنا فليح بن سليمان ، عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا ، فحال كفار قريش بينه وبين البيت ، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية ، وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل ، ولا يحمل سلاحا عليهم إلا سيوفا ، ولا يقيم بها إلا ما أحبوا. فاعتمر من العام المقبل ، فدخلها كما كان صالحهم ، فلما أن قام بها ثلاثا ، أمروه أن يخرج فخرج.
وهو في صحيح مسلم أيضا (5).
وقال البخاري أيضا : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة ، فأبى أهل مكة أن يَدَعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام ، فلما كتبوا الكتاب كتبوا : "هذا ما قاضانا عليه محمد رسول الله". قالوا : لا نقر بهذا ، ولو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئًا ، ولكن أنت محمد بن عبد الله. قال : "أنا رسول الله ، وأنا محمد بن عبد الله". ثم قال لعلي بن أبي طالب : "امح رسول الله". قال : لا والله لا أمحوك أبدا. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب ، وليس يحسن يكتب ، فكتب : "هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله : لا يدخل مكة السلاح إلا السيف في القراب ، وألا يخرج من أهلها بأحد أراد أن يتبعه ، وألا يمنع من أصحابه أحدا إن أراد أن يقيم بها" فلما دخلها ومضى الأجل ، أتوا عليا فقالوا : قل لصاحبك : اخرج عنا فقد مضى الأجل ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فتبعته ابنة حمزة تنادي : يا عم ، يا عم. فتناولها علي فأخذ بيدها ، وقال لفاطمة : دونك ابنة عمك فحملتها ، فاختصم فيها علي وزيد
__________
(1) صحيح البخاري برقم (42579.
(2) صحيح البخاري برقم (1649) وصحيح مسلم برقم (1266) والنسائي في السنن الكبرى برقم (39739.
(3) صحيح البخاري برقم (4255).
(4) في ت : "روى".
(5) صحيح البخاري برقم (4252).

(7/359)


وجعفر ، فقال عليّ : أنا أخذتها وهي ابنة عمي ، وقال جعفر : ابنة عمي وخالتها تحتي ، وقال زيد : ابنة أخي ، فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها ، وقال : "الخالة بمنزلة الأم" ، وقال لعلي : "أنت مني وأنا منك" وقال لجعفر : "أشبهت خلقي وخلقي" وقال لزيد : "أنت أخونا ومولانا" قال علي : ألا تتزوج ابنة حمزة ؟ قال : "إنها ابنة أخي من الرضاعة" انفرد به من هذا الوجه (1).
وقوله : { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا } أي : فعلم الله تعالى من الخيرة والمصلحة في صرفكم عن مكة ودخولكم إليها عامكم ذلك ما لم تعلموا أنتم ، { فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ } أي : قبل دخولكم الذي وعدتم به في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم ، { فَتْحًا قَرِيبًا } : وهو الصلح الذي كان بينكم وبين أعدائكم من المشركين.
ثم قال تعالى ، مبشرا للمؤمنين بنصرة الرسول صلوات الله [وسلامه] (2) عليه على عدوه وعلى سائر أهل الأرض : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ } أي : بالعلم النافع والعمل الصالح ؛ فإن الشريعة تشتمل على شيئين : علم وعمل ، فالعلم الشرعي صحيح ، والعمل الشرعي مقبول ، فإخباراتها حق وإنشاءاتها عدل ، { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } أي : على أهل جميع الأديان من سائر أهل الأرض ، من عرب وعجم ومليين (3) ومشركين ، { وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } أي : أنه رسوله ، وهو ناصره.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4251).
(2) زيادة من ت.
(3) في أ : "مسلمين".

(7/360)


مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)

{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) }
يخبر تعالى عن محمد صلوات الله عليه (1) ، أنه رسوله حقا بلا شك ولا ريب ، فقال : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } ، وهذا مبتدأ وخبر ، وهو مشتمل على كل وصف جميل ، ثم ثنى بالثناء على أصحابه فقال : { وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } ، كما قال تعالى : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } [المائدة : 54] وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديدا عنيفًا على الكفار ، رحيما برًا بالأخيار ، غضوبًا عبوسًا في وجه الكافر ، ضحوكا بشوشًا في وجه أخيه المؤمن ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً } [التوبة : 123] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى
__________
(1) في ت : "صلى الله عليه وسلم" وفي م : "صلوات الله وسلامه عليه".

(7/360)


منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمَّى والسَّهر" (1) ، وقال : "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" وشبك بين أصابعه (2) كلا الحديثين في الصحيح.
وقوله : { تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } : وصفهم بكثرة العمل وكثرة (3) الصلاة ، وهي خير الأعمال ، ووصفهم بالإخلاص فيها لله ، عز وجل ، والاحتساب عند الله جزيل الثواب ، وهو الجنة (4) المشتملة على فضل الله ، وهو سعة الرزق عليهم ، ورضاه ، تعالى ، عنهم وهو أكبر من الأول ، كما قال : { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } [التوبة : 72].
وقوله : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } : قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ } يعني : السمت الحسن.
وقال مجاهد وغير واحد : يعني : الخشوع والتواضع.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطُّنَافسي ، حدثنا حسين الجَعْفي ، عن زائدة (5) ، عن منصور عن مجاهد : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } قال : الخشوع قلت : ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه ، فقال : ربما كان بين عيني من هو أقسى قلبا من فرعون.
وقال السدي : الصلاة تحسن وجوههم.
وقال بعض السلف : من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار.
وقد أسنده ابن ماجه في سننه ، عن إسماعيل بن محمد الطَّلْحي ، عن ثابت بن موسى ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : قال رسول الله (6) صلى الله عليه وسلم : "من كَثُرَتْ صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار" والصحيح أنه موقوف (7).
وقال بعضهم : إن للحسنة نورا في القلب ، وضياء في الوجه ، وسعة في الرزق ، ومحبة في قلوب الناس.
وقال أمير المؤمنين عثمان : ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صَفَحَات وجهه ، وفَلتَات لسانه.
والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه ، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله أصلح الله ظاهره للناس ، كما روي عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، أنه قال : من أصلح سريرته أصلح الله علانيته.
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمود بن محمد المروزي ، حدثنا حامد بن آدم المروزي ،
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (3011) ومسلم فس صحيحه برقم (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (481) ومسلم في صحيحه برقم (2585) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(3) في ت ، م : "وذكر".
(4) في م : "المحبة".
(5) في م : "المحبة".
(6) في ت : "عن النبي".
(7) سنن ابن ماجة برقم (1333).

(7/361)


حدثنا الفضل بن موسى ، عن محمد بن عبيد الله العَرْزَمي ، عن سلمة بن كُهَيْل (1) ، عن جُنْدَب بن سفيان البَجَلي قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر" ، العرزمي متروك (2).
وقال (3) الإمام أحمد : حدثنا حسن بن (4) موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : "لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة ، لخرج عمله للناس كائنا ما (5) كان" (6).
وقال (7) الإمام أحمد [أيضا] (8) : حدثنا حسن ، حدثنا زُهَيْر ، حدثنا قابوس بن أبي ظَبْيَان : أن أباه حدثه عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : "إن الهدي الصالح ، والسمت الصالح ، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة" ورواه أبو داود عن عبد الله بن محمد النفيلي ، عن زهير ، به (9).
فالصحابة [رضي الله عنهم] (10) خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم ، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم.
وقال مالك ، رحمه الله : بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام يقولون : "والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا". وصدقوا في ذلك ، فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة ، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد نوه الله بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة (11) ؛ ولهذا قال هاهنا : { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ } ، ثُمَّ قَالَ : { وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ [فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ } : { أَخْرَجَ شَطْأَهُ ] } (12) أي : فراخه ، { فَآزَرَهُ } أي : شده { فَاسْتَغْلَظَ } أي : شب وطال ، { فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ } أي : فكذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطء مع الزرع ، { لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ }.
ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك - رحمه الله ، في رواية عنه - بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة ، قال : لأنهم يغيظونهم ، ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الآية. ووافقه طائفة من العلماء على ذلك. والأحاديث في فضائل الصحابة والنهي عن التعرض لهم بمساءة كثيرة (13) ، ويكفيهم ثناء الله عليهم ، ورضاه عنهم.
__________
(1) في ت : "وروى أبو القاسم الطبراني بإسناده".
(2) المعجم الكبير (2/171) وحامد بن آدم كذاب.
(3) في ت : "وروى".
(4) في أ : "عن".
(5) في ت : "من".
(6) المسند (3/28).
(7) في ت : "وروى".
(8) زيادة من ت.
(9) المسند (1/296) وسنن أبي داود برقم (4776).
(10) زيادة من ت ، م ، أ.
(11) في م : "المقدسة".
(12) زيادة من م.
(13) في م : "كبيرة".

(7/362)


ثم قال : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ } من" هذه لبيان الجنس ، { مَغْفِرَةً } أي : لذنوبهم. { وَأَجْرًا عَظِيمًا } أي : ثوابا جزيلا ورزقا كريما ، ووعد الله حق وصدق ، لا يخلف ولا يبدل ، وكل من اقتفى أثر الصحابة فهو في حكمهم ، ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة ، رضي الله عنهم وأرضاهم ، وجعل جنات الفردوس مأواهم (1) ، وقد فعل.
قال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه" (2).
آخر تفسير سورة الفتح ، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) في ت ، م ، أ : "مثواهم".
(2) صحيح مسلم برقم (2540).

(7/363)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)

تفسير سورة الحجرات
وهي مدنية (1).
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) }
هذه آداب (2) ، أدب الله بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به الرسول صلى الله عليه وسلم من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [وَاتَّقُوا اللَّهَ ] } (3) ، أي : لا تسرعوا في الأشياء بين يديه ، أي : قبله ، بل كونوا تبعا له في جميع الأمور ، حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ ، [إذ] (4) قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن : "بم تحكم ؟" قال : بكتاب الله. قال : "فإن لم تجد ؟" قال : بسنة رسول الله. قال : "فإن لم تجد ؟" قال : أجتهد رأيي ، فضرب في صدره وقال : "الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله ، لما يرضي رسول الله".
وقد رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه (5). فالغرض منه أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة ، ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة.
وقال العَوْفي عنه : نهى (6) أن يتكلموا بين يدي كلامه.
وقال مجاهد : لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء ، حتى يقضي الله على لسانه.
وقال الضحاك : لا تقضوا أمرا دون الله ورسوله من شرائع دينكم.
وقال سفيان الثوري : { لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } بقول ولا فعل.
__________
(1) في أ : "وهي مدنية ثمان عشرة آية".
(2) في م : "آيات".
(3) زيادة من م.
(4) زيادة من ت ، وفي أ : "حيث".
(5) سبق الكلام عليه في مقدمة الكتاب.
(6) في ت ، م ، أ : "نهوا".

(7/364)


وقال الحسن البصري : { لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } قال : لا تدعوا قبل الإمام.
وقال قتادة : ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون : لو أنزل في كذا كذا ، وكذا لو صنع كذا ، فكره الله ذلك ، وتقدم فيه.
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : فيما أمركم به ، { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } أي : لأقوالكم { عَلِيمٌ } بنياتكم.
وقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } : هذا أدب ثان أدب الله به المؤمنين ألا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم [فوق صوته] (1). وقد روي أنها نزلت في الشيخين أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما.
وقال البخاري : حدثنا بسرة بن صفوان اللخمي ، حدثنا نافع بن عمر ، عن ابن أبي مُلَيْكَة قال : كاد الخيِّران أن يهلكا ، أبو بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم ، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع ، وأشار الآخر برجل آخر - قال نافع : لا أحفظ اسمه - فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي. قال : ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما في ذلك ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } الآية ، قال ابن الزبير : فما كان عمر يسمعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه ، ولم يذكر ذلك عن أبيه : يعني أبا بكر رضي الله عنه. انفرد به دون مسلم (2).
ثم قال البخاري : حدثنا حسن بن محمد ، حدثنا حَجَّاج ، عن ابن جُرَيْج ، حدثني ابن أبي مليكة : أن عبد الله بن الزبير أخبره : أنه قَدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : أمرّ القعقاعَ بن مَعْبد. وقال عمر : بل أمرّ الأقرع بن حابس ، فقال أبو بكر : ما أردت إلى - أو : إلا - خلافي. فقال عمر : ما أردتُ خلافَك ، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما ، فنزلت في ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } ، حتى انقضت الآية ، { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ } الآية [الحجرات : 5].
وهكذا رواه هاهنا منفردا به أيضا (3).
وقال (4) الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا الفضل بن سهل ، حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا حصين بن عُمَر ، عن مُخَارق ، عن طارق بن شهاب ، عن أبى بكر الصديق قال : لما نزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } ، قلت : يا رسول الله ، والله لا أكلمك إلا كأخي السّرار (5).
__________
(1) زيادة من ت ، م ، أ.
(2) صحيح البخاري برقم (4845).
(3) صحيح البخاري برقم (4847).
(4) في ت : "وروى".
(5) مسند البزار برقم (2257) "كشف الأستار" وقال : "لا نعلمه يروى متصلا إلا عن أبي بكر ، وحصين حدث بأحاديث لم يتابع عليها ، ومخارق مشهور ، ومن عداه أجلاء".

(7/365)


حصين بن عمر هذا - وإن كان ضعيفًا - لكن قد رويناه من حديث عبد الرحمن بن عوف ، وأبي هريرة [رضي الله عنه] (1) بنحو ذلك ، والله أعلم (2).
وقال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا أزهر بن سعد ، أخبرنا ابن عون ، أنبأني موسى بن أنس (3) ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس ، فقال رجل : يا رسول الله ، أنا أعلم لك علمه. فأتاه فوجده في بيته مُنَكِّسًا رأسه ، فقال له : ما شأنك ؟ فقال : شر ، كان يَرْفَعُ صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد حبط عمله ، فهو من أهل النار. فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا ، قال موسى : فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال : "اذهب إليه فقل له : إنك لست من أهل النار ، ولكنك من أهل الجنة" تفرد به البخاري من هذا الوجه (4).
وقال الإمام أحمد : حدثنا هاشم ، حدثنا (5) سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس قال : لما نزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } إلى : { وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ } ، وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت فقال : أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حبط عملي ، أنا من أهل النار ، وجلس في أهله حزينا ، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له : تفقدك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما لك ؟ قال : أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم ، وأجهر له بالقول حبط عملي ، أنا من أهل النار. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما قال ، فقال : "لا بل هو من أهل الجنة". قال أنس : فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة. فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض الانكشاف ، فجاء ثابت بن قيس بن شماس ، وقد تحنط ولبس كفنه ، فقال : بئسما تُعوّدون أقرانكم. فقاتلهم حتى قُتل (6) (7).
وقال مسلم : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البُناني ، عن أنس بن مالك قال : لما نزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } إلى آخر الآية ، جلس ثابت في بيته ، قال : أنا من أهل النار. واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال (8) النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ : "يا أبا عمرو ، ما شأن ثابت ؟ أشتكى ؟" فقال سعد : إنه لجاري ، وما علمت له بشكوى. قال : فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله (9) صلى الله عليه وسلم ، فقال ثابت : أُنزلَت هذه الآية ، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنا من أهل النار. فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بل ، هو من أهل الجنة".
__________
(1) زيادة من أ.
(2) أما حديث أبي هريرة فرواه الحاكم في المستدرك (2/462) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه ، وقال : "صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
(3) في ت : "وروى البخاري بسنده".
(4) صحيح البخاري برقم (4846).
(5) في ت : "ابن".
(6) في ت : "حتى قتل رحمه الله".
(7) المسند (3/137).
(8) في م : "فسأل".
(9) في م : "النبي".

(7/366)


ثم رواه مسلم عن أحمد بن سعيد (1) الدارمي ، عن حَيَّان بن هلال ، عن سليمان بن المغيرة ، به ، قال : ولم يذكر سعد بن معاذ. وعن قطن بن نُسَير عن جعفر بن سليمان (2) ، عن ثابت ، عن أنس بنحوه. وقال : ليس فيه ذكر سعد بن معاذ.
حدثنا هُرَيم (3) بن عبد الأعلى الأسدي ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، سمعت أبي يذكر ، عن ثابت ، عن أنس قال : لما نزلت هذه الآية ، واقتص الحديث ، ولم يذكر سعد بن معاذ ، وزاد : فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رَجلٌ من أهل الجنة. (4).
فهذه الطرق الثلاث مُعَلّلة لرواية حماد بن سلمة ، فيما تفرد به من ذكر سعد بن معاذ. والصحيح : أن حال نزول هذه الآية لم يكن سعد بن معاذ موجودًا ؛ لأنه كان قد مات بعد بني قريظة بأيام قلائل سنة خمس ، وهذه الآية نزلت في وفد بني تميم ، والوفود إنما تواتروا في سنة تسع من الهجرة ، والله أعلم.
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا زيد بن الحُبَاب ، حدثنا أبو ثابت بن ثابت بن قيس بن شمَّاس ، حدثني عمي إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس ، عن أبيه قال : لما نزلت هذه الآية : { لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ } قال : قعد ثابت بن قيس (5) في الطريق يبكي ، قال : فمر به عاصم بن عدي من بني العَجلان ، فقال : ما يبكيك يا ثابت ؟ قال : هذه الآية ، أتخوف أن تكون نزلت فيَّ وأنا صيت ، رفيع الصوت. قال : فمضى عاصم بن عدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وغلبه البكاء ، فأتى امرأته جميلة ابنة عبد الله بن أبي بن سلول فقال لها : إذا دخلتُ بيت فَرَسي فشدّي عَلَيّ الضبَّة بمسمار فضربته بمسمار حتى إذا خرج عطفه ، وقال : لا أخرج حتى يتوفاني الله ، عز وجل ، أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال : وأتى عاصم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره ، فقال : "اذهب فادعه لي". فجاء عاصم إلى المكان فلم يجده ، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفَرَس ، فقال له : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك. فقال : اكسر الضبة. قال : فخرجا فأتيا (6) النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما يبكيك يا ثابت ؟". فقال : أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في : { لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ }. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما ترضى أن تَعِيش حَميدًا ، وتقتل شهيدا ، وتدخل الجنة ؟". فقال : رضيت ببشرى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا أرفع صوتي أبدا على صوت النبي صلى الله عليه وسلم. قال : وأنزل الله : { إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } (7). (8)
وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين كذلك ، فقد نهى الله عز وجل ، عن رفع الأصوات
__________
(1) في أ : "سعد".
(2) في م : "مسلم".
(3) في م : "هدبة".
(4) صحيح مسلم برقم (119).
(5) في أ : "ثابت بن قيس بن شماس".
(6) في أ : "حتى أتيا".
(7) في أ : بعدها : " لهم مغفرة وأجر عظيم " بدل "الآية".
(8) تفسير الطبري (26/75).

(7/367)


إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)

بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] (1) أنه سمع صَوت رجلين في مسجد رسول الله (2) صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما ، فجاء ، فقال : أتدريان أين أنتما ؟ ثم قال : مِن أين أنتما ؟ قالا من أهل الطائف. فقال : لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا (3).
وقال العلماء : يكره رفع الصوت عند قبره ، كما كان يكره في حياته ؛ لأنه محترم حيا وفي قبره ، صلوات الله وسلامه عليه (4) ، دائما. ثم نهى عن الجهر له بالقول كما يجهر الرجل لمخاطبه ممن عداه ، بل يخاطب بسكينة ووقار وتعظيم ؛ ولهذا قال : { وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } ، كما قال : { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } [النور : 63].
وقوله : { أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ } أي : إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك ، فيغضب الله لغضبه ، فيحبط الله عمل من أغضبه وهو لا يدري ، كما جاء في الصحيح : "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يُلقي لها بَالا يكتب له بها الجنة. وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله لا يُلقي لها بالا يَهْوِي بها في النار أبعد ما بين السموات والأرض" (5).
ثم ندب الله عز وجل (6) ، إلى خفض الصوت عنده ، وحَثّ على ذلك ، وأرشد إليه ، ورغَّب فيه ، فقال : { إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } أي : أخلصها لها وجعلها أهلا ومحلا { لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ }.
وقد قال (7) الإمام أحمد في كتاب الزهد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : كُتب إلى عمر (8) يا أمير المؤمنين ، رجل لا يشتهي المعصية ولا يعمل بها ، أفضل ، أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها ؟ فكتب عمر ، رضي الله عنه : إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها { أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } (9).
{ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) }
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت ، م : "النبي".
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (470) من طريق السائب بن يزيد فذكره.
(4) في ت : "صلى الله عليه وسلم".
(5) صحيح البخاري برقم (6478) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) في ت : "سبحانه وتعالى".
(7) في ت : "وقد روى".
(8) في ت : "عمر بن الخطاب رضي الله عنه".
(9) ذكره السيوطي في الدر المنثور (7/552) وعزاه لأحمد في الزهد.

(7/368)


وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

{ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) }
ثم إنه تعالى ذَمّ الذين ينادونه من وراء الحجرات ، وهي بيوت نسائه ، كما يصنع أجلاف الأعراب ، فقال : { أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ }
ثم أرشد إلى الأدب في ذلك فقال : { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } أي :

(7/368)


لكان لهم في ذلك الخيرة والمصلحة في الدنيا والآخرة.
ثم قال داعيا لهم إلى التوبة والإنابة : { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
وقد ذُكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي ، فيما أورده غير واحد ، قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا وُهَيْب ، حدثنا موسى بن عقبة ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن الأقرع بن حابس ؛ أنه نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات ، فقال : يا محمد ، يا محمد - وفي رواية : يا رسول الله - فلم يجبه. فقال : يا رسول الله ، إن حمدي لزين ، وإن ذمي لشين ، فقال : " ذاك الله ، عز وجل" (1).
وقال ابن جرير : حدثنا أبو عمار الحسين بن حُرَيْث المروزي ، حدثنا الفضل بن موسى ، عن الحسين بن واقد ، عن أبي إسحاق (2) ، عن البراء في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ } قال : جاء رجل رسول الله (3) فقال : يا محمد ، إن حمدي زين ، وذمي شين. فقال : "ذاك الله ، عز وجل" (4).
وهكذا ذكره الحسن البصري ، وقتادة مرسلا.
وقال سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي عَمْرَة قال : كان بِشْر بن غالب ولَبِيد بن عُطَارِد - أو بشر بن عطارد ولبيد بن غالب - وهما عند الحجاج جالسان - فقال بشر بن غالب للبيد بن عطارد : نزلت في قومك بني تميم : { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ } قال : فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال : أما إنه لو علم بآخر الآية أجابه : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا } [الحجرات : 17] ، قالوا : أسلمنا ، ولم يقاتلك بنو أسد (5).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عَمرو بن علي الباهلي ، حدثنا المعتمر بن سليمان : سمعت داود الطفاوي يحدث عن أبي مسلم (6) البجلي (7) ، عن زيد بن أرقم قال : اجتمع أناس من العرب فقالوا : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل ، فإن يك نبيا فنحن أسعد الناس به ، وإن يك ملكا نعش بجناحه. قال : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قالوا ، فجاءوا إلى حجرته فجعلوا ينادونه وهو في حجرته : يا محمد ، يا محمد. فأنزل الله [عز وجل] (8) : { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ } قال : فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني فمدها ، فجعل يقول : "لقد صدق الله قولك يا زيد ، لقد صدق الله قولك يا زيد".
__________
(1) المسند (3/488) ، وقال الهيثمي في المجمع (7/108) : "إسناد أحمد رجاله رجال الصحيح إن كان أبو سلمة سمع من الأقرع بن حابس ، وإلا فهو مرسل".
(2) في ت : "وروى ابن جرير بسنده".
(3) في ت ، أ : "رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(4) تفسير الطبري (26/77).
(5) تفسير الطبري (26/77).
(6) في م ، أ : "سلمة".
(7) في ت : "وروى ابن جرير بسنده".
(8) زيادة من أ.

(7/369)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)

ورواه ابن جرير ، عن الحسن بن عرفة ، عن المعتمر بن سليمان ، به (1).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) }.
يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق ليُحتَاطَ له ، لئلا يحكم بقوله فيكون - في نفس الأمر - كاذبًا أو مخطئًا ، فيكون الحاكم بقوله قد اقتفى وراءه ، وقد نهى الله عن اتباع سبيل المفسدين ، ومن هاهنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال لاحتمال فسقه في نفس الأمر ، وقبلها آخرون لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق ، وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال. وقد قررنا (2) هذه المسألة في كتاب العلم من شرح البخاري ، ولله الحمد والمنة.
وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق. وقد روي ذلك من طرق ، ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من رواية ملك بني المصطلق ، وهو الحارث بن ضِرَار ، والد جُويرية (3) بنت الحارث أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، قال الإمام أحمد :
حدثنا محمد بن سابق ، حدثنا عيسى بن دينار ، حدثني أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي يقول : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاني إلى الإسلام ، فدخلت فيه وأقررت به ، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها ، وقلت : يا رسول الله ، أرجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة ، فمن استجاب لي جمعت زكاته ، ويُرسل إليَّ رسول الله رسولا لإبَّان كذا وكذا ليأتيك بما جمَعتُ من الزكاة. فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له ، وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه ، احتبس عليه الرسول فلم يأته ، فظن الحارث أنه قد حدث فيه سُخْطة من الله ورسوله ، فدعا بسَرَوات قومه ، فقال لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وَقَّت لي وقتا يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة ، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخُلْف ، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة كانت ، فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة ، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فَرَق - أي : خاف - فرجع فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث. وأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفَصَل عن المدينة لقيهم الحارث ، فقالوا : هذا الحارث ، فلما
__________
(1) تفسير الطبري (26/77) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (5/210) من طريق إسحاق بن راهويه عن معتمر بن سليمان به ، قال الهيثمي في المجمع (7/108) : "فيه داود الطفاوي وثقه ابن حبان ، وضعفه ابن معين ، وبقية رجاله ثقات".
(2) في ت : "قررت".
(3) في أ : "ميمونة".

(7/370)


غشيهم قال لهم : إلى من بُعثتم ؟ قالوا : إليك. قال : ولم ؟ قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك الوليد بن عقبة ، فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله. قال : لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته بَتَّةً ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "منعت الزكاة وأردت قتل رسولي ؟". قال : لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني ، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول رسول الله (1) صلى الله عليه وسلم ، خشيت أن يكون كانت سخطة من الله ورسوله. قال : فنزلت الحجرات : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ } إلى قوله : { حكيم }
ورواه ابن أبي حاتم عن المنذر بن شاذان التمار ، عن محمد بن سابق به. ورواه الطبراني من حديث محمد بن سابق ، به (2) ، غير أنه سماه الحارث بن سرار ، والصواب : الحارث بن ضرار ، كما تقدم.
وقال (3) ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا جعفر بن عَوْن ، عن موسى بن عبيدة ، عن ثابت مولى أم سلمة ، عن أم سلمة قالت : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا في صدقات بني المصطلق بعد الوقيعة (4) ، فسمع بذلك القوم ، فتلقوه يعظمون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله ، قالت : فرجع إلى رسول الله (5) فقال : إن بني المصطلق قد منعوني (6) صدقاتهم. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون. قالت : فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصفوا له حين صلى الظهر ، فقالوا : نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله ، بعثت إلينا رجلا مصدقًا ، فسررنا بذلك ، وقرت به أعيننا ، ثم إنه رجع من بعض الطريق ، فخشينا أن يكون ذلك غضبا من الله ومن رسوله ، فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال فأذن بصلاة العصر ، قالت : ونزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } (7).
وروى ابن جرير أيضا من طريق العَوْفي ، عن ابن عباس في هذه الآية قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيْط إلى بني المصطلق ليأخذ منهم الصدقات ، وإنهم لما أتاهم الخبر فرحوا وخرجوا يتلقون رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه لما حُدِّثَ الوليد أنهم خرجوا يتلقونه ، رجع الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك غضبا شديدا ، فبينا هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد فقالوا : يا رسول الله ، إنا حدثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق ، وإنا خشينا أن ما رده كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا ، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله. وإن النبي صلى الله عليه وسلم استغشهم وهمّ بهم ، فأنزل الله (8) عذرهم في الكتاب ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } إلى آخر الآية (9).
__________
(1) في ت : "احتبس علي يا رسول الله".
(2) المسند (4/279) والمعجم الكبير (3/274) قال الهيثمي في المجمع (7/109) : "رجال أحمد ثقات" ، وهذا متعقب فإن دينار والدعيسي لم يوثقه إلا ابن حبان ، ولا يعرف له راويا غير ابنه عيسى.
(3) في ت : "وروى".
(4) في ت : "الوقعة".
(5) في ت ، م ، أ : "رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(6) في ت ، م : "منعوا".
(7) تفسير الطبري (26/78) وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف ، وثابت مولى أم سلمة مجهول.
(8) في م : "الله عز وجل".
(9) تفسير الطبري (26/78).

(7/371)


وقال مجاهد وقتادة : أرسل رسول الله الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ليُصدّقهم ، فتلقوه بالصدقة ، فرجع فقال : إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك - زاد قتادة : وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام - فبعث رسول الله خالد بن الوليد إليهم ، وأمره أن يتثبت ولا يعجل. فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه ، فلما جاءوا أخبروا خالدا أنهم مستمسكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فلما أصبحوا أتاهم خالد فرأى الذي يعجبه ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر ، فأنزل الله هذه الآية. قال قتادة : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "التَّبيُّن من الله ، والعَجَلَة من الشيطان".
وكذا ذكر غير واحد من السلف ، منهم : ابن أبي ليلى ، ويزيد بن رومان ، والضحاك ، ومقاتل بن حَيَّان ، وغيرهم في هذه الآية : أنها نزلت في الوليد بن عقبة ، والله أعلم (1).
وقوله : { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ } أي : اعلموا أن بين أظهركم رسول الله فعظِّموه ووقروه ، وتأدبوا معه ، وانقادوا لأمره ، فإنه أعلم بمصالحكم ، وأشفق عليكم منكم ، ورأيه فيكم أتمّ من رأيكم لأنفسكم ، كما قال تعالى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [الأحزاب : 6].
ثم بَيَّن [تعالى] (2) أن رأيهم سخيف بالنسبة إلى مراعاة مصالحهم فقال : { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ } أي : لو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدى ذلك إلى عنتكم وحَرَجكم ، كما قال تعالى : { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ } [المؤمنون : 71].
وقوله : { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } أي : حببه إلى نفوسكم وحسنه في قلوبكم.
قال (3) الإمام أحمد : حدثنا بَهْز ، حدثنا علي بن مَسْعَدة ، حدثنا قتادة ، عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "الإسلام علانية ، والإيمان في القلب" قال : ثم يشير بيده إلى صدره ثلاث مرات ، ثم يقول : "التقوى هاهنا ، التقوى هاهنا" (4).
{ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } أي : وبغض إليكم الكفر والفسوق ، وهي : الذنوب
__________
(1) وقد ذهب إلى ذلك كثير من المفسرين ، وهذا القول فيه نظر ؛ فإن الروايات التي ساقت القصة معلولة ، وأحسنها وهي رواية أحمد عن الحارث بن ضرار الخزاعي ، وفي إسنادها مجهول ، وقد أنكر القاضي أبو بكر بن العربي في كتابه "العواصم من القواصم" (ص102) هذه القصة قال : "وقد اختلف فيه ، فقيل : نزلت في ذلك - أي في شأن الوليد. وقيل : في علي والوليد في قصة أخرى - وقيل : إن الوليد سيق يوم الفتح في جملة الصبيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح روءسهم وبرك عليهم إلا هو فقال : إنه كان على رأسي خلوق ، فامتنع صلى الله عليه وسلم من مسه ، فمن يكون في مثل هذه السنن يرسل مصدقا ، وبهذا الاختلاف يسقط العلماء الأحاديث القوية ، وكيف يفسق رجل هذا الكلام ؟ فكيف برجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وللشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله كلام على الوليد بن عقبة في الأنوار الكاشفة (ص263) أثبت فيه أنه لم يؤثر له رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن جملة ما نفاه هذا الحديث الذي ذكره ابن العربي.
(2) زيادة من ت.
(3) في ت : "وروى".
(4) المسند (3/134) قال الهيثمي في المجمع (1/52) : "رجاله رجال الصحيح ما خلا علي بن مسعدة ، وقد وثقه ابن حبان وأبو داود الطيالسي وأبو حاتم وابن معين وضعفه آخرون".

(7/372)


وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)

الكبار. والعصيان وهي جميع المعاصي. وهذا تدريج لكمال النعمة.
وقوله : { أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ } أي : المتصفون بهذه الصفة هم الراشدون ، الذين قد آتاهم الله رشدهم.
قال (1) الإمام أحمد : حدثنا مروان بن معاوية الفزاري ، حدثنا عبد الواحد بن أيمن المكي ، عن ابن رفاعة الزرقي ، عن أبيه قال : لما كان يوم أحد (2) وانكفأ المشركون ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "استووا حتى أثني على ربي ، عز وجل" فصاروا خلفه صفوفًا ، فقال : "اللهم لك الحمد كله. اللهم لا قابض لما بسطت ، ولا باسط لما قبضت ، ولا هادي لمن أضللت ، ولا مُضل لمن هديت. ولا معطي لما منعت ، ولا مانع لما أعطيت. ولا مقرب لما باعدت ، ولا مباعد لما قربت. اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك. اللهم ، إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. اللهم إني أسألك النعيم يوم العَيْلَة ، والأمن يوم الخوف. اللهم إنى عائذ بك من شر ما أعطيتنا ، ومن شر ما منعتنا. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين. اللهم ، توفنا مسلمين ، وأحينا مسلمين ، وألحقنا بالصالحين ، غير خزايا ولا مفتونين. اللهم ، قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك ، واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب ، إله الحق".
ورواه النسائي في اليوم والليلة عن زياد بن أيوب ، عن مَرْوَان بن معاوية ، عن عبد الواحد بن أيمن ، عن عُبَيْد بن رِفاعة ، عن أبيه ، به (3).
وفي الحديث المرفوع : "من سرته حسنته ، وساءته سيئته ، فهو مؤمن" (4).
ثم قال : { فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً } أي : هذا العطاء (5) الذي منحكموه هو فضل منه عليكم ونعمة من لدنه ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية ، حكيم في أقواله وأفعاله ، وشرعه وقدره.
{ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) }
__________
(1) في ت : "روى".
(2) في أ : "الحديبية".
(3) المسند (3/424) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10445).
(4) رواه أحمد في مسنده (1/18) والترمذي في السنن برقم (2165) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال الترمذي : "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه".
(5) في ت : "القضاء".

(7/373)


يقول تعالى آمرًا بالإصلاح بين المسلمين (1) الباغين بعضهم على بعض : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } ، فسماهم مؤمنين مع الاقتتال. وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج من الإيمان بالمعصية وإن عظمت ، لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم. وهكذا ثبت في صحيح البخاري من حديث الحسن ، عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوما ومعه على المنبر الحسن بن علي ، فجعل ينظر إليه مرة وإلى الناس أخرى ويقول : "إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" (2). فكان كما قال ، صلوات الله وسلامه عليه ، أصلح الله به بين أهل الشام وأهل العراق ، بعد الحروب الطويلة والواقعات المهولة.
وقوله : { فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } أي : حتى ترجع إلى أمر الله (3) وتسمع للحق وتطيعه ، كما ثبت في الصحيح عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "انصر أخاك ظالما أو مظلوما". قلت : يا رسول الله ، هذا نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما ؟ قال : "تمنعه من الظلم ، فذاك نصرك إياه" (4).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عارم ، حدثنا معتمر قال : سمعت أبي يحدث : أن أنسًا قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم ، لو أتيت عبد الله بن أبي ؟ فانطلق إليه نبي الله صلى الله عليه وسلم وركب حمارًا ، وانطلق المسلمون يمشون ، وهي أرض سبخة ، فلما انطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إليك عني ، فوالله لقد آذاني ريح حمارك" فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله أطيب ريحا منك. قال : فغضب لعبد الله رجال من قومه ، فغضب لكل واحد منهما أصحابه ، قال : فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال ، فبلغنا أنه أنزلت فيهم : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا }
ورواه البخاري في "الصلح" عن مُسَدَّد ، ومسلم في "المغازي" عن محمد بن عبد الأعلى ، كلاهما عن المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، به نحوه (5).
وذكر سعيد بن جبير : أن الأوس والخزرج كان بينهما قتال بالسعف والنعال ، فأنزل الله هذه الآية ، فأمر بالصلح بينهما.
وقال السدي : كان رجلا من الأنصار يقال له : "عمران" ، كانت له امرأة تدعى أم زيد (6) ، وإن المرأة أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في عُلَيَّة له لا يدخل عليها أحد من أهلها. وإن المرأة بعثت إلى أهلها ، فجاء قومها وأنزلوها لينطلقوا بها ، وإن الرجل قد كان خرج ، فاستعان أهل الرجل ، فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وبين أهلها ، فتدافعوا واجتلدوا بالنعال ، فنزلت فيهم هذه
__________
(1) في أ : "المقتتلين".
(2) صحيح البخاري برقم (2704).
(3) في ت ، م : "إلى أمر الله ورسوله".
(4) صحيح البخاري برقم (2443).
(5) المسند (3/157) وصحيح البخاري برقم (2691) وصحيح مسلم برقم (1799).
(6) في أ : "يزيد".

(7/374)


الآية. فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصلح بينهم ، وفاءوا إلى أمر الله.
وقوله : { فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } أي : اعدلوا بينهم فيما كان أصاب بعضهم لبعض ، بالقسط ، وهو العدل ، { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا عبد الأعلى ، عن مَعْمَر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب (1) ، عن عبد الله بن عمرو ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ بين يدي الرحمن ، بما أقسطوا في الدنيا".
ورواه النسائي (2) عن محمد بن المثنى ، عن عبد الأعلى ، به (3). وهذا إسناده جيد قوي ، رجاله على شرط الصحيح.
وحدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عمرو بن أوس ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور على يمين العرش ، الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما وَلُوا".
ورواه مسلم والنسائي ، من حديث سفيان بن عيينة ، به (4).
وقوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } أي : الجميع إخوة في الدين ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" (5). وفي الصحيح : "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" (6). وفي الصحيح أيضا : "إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك : آمين ، ولك بمثله" (7). والأحاديث في هذا كثيرة ، وفي الصحيح : "مثل المؤمنين في تَوادِّهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسَّهَر". وفي الصحيح أيضا : "المؤمن للمؤمن كالبنيان ، يشد بعضه بعضا" وشبك بين أصابعه (8).
وقال أحمد : حدثنا أحمد بن الحجاج ، حدثنا عبد الله ، أخبرنا مصعب بن ثابت ، حدثني أبو حازم قال : سمعت سهل بن سعد الساعدي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، يألم المؤمن لأهل الإيمان ، كما يألم الجسد لما في الرأس" (9). تفرد به ولا بأس بإسناده.
__________
(1) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بسنده".
(2) في ت : "مسلم".
(3) النسائي في السنن الكبرى برقم (5917).
(4) صحيح مسلم برقم (1827) وسنن النسائي (8/321).
(5) رواه البخاري في صحيحه برقم (2442) ومسلم في صحيحه برقم (2580) من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
(6) صحيح مسلم برقم (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(7) صحيح مسلم برقم (2732) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
(8) صحيح البخاري برقم (6011) وصحيح مسلم برقم (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(9) المسند (5/340) وقال الهيثمي في المجمع (8/187) : "رجال أحمد رجال الصحيح".

(7/375)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)

وقوله : { فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } يعني : الفئتين المقتتلتين ، { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : في جميع أموركم { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ، وهذا تحقيق منه تعالى للرحمة لمن اتقاه.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) }
ينهى تعالى عن السخرية بالناس ، وهو احتقارهم والاستهزاء بهم ، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "الكِبْر بطر الحق وغَمْص الناس" ويروى : "وغمط الناس" (1) والمراد من ذلك : احتقارهم واستصغارهم ، وهذا حرام ، فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدرا عند الله وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له ؛ ولهذا قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ } ، فنص على نهي الرجال وعطف بنهي النساء.
وقوله : { وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } أي : لا تلمزوا الناس. والهمَّاز اللَّماز من الرجال مذموم ملعون ، كما قال [تعالى] : (2) { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ } [الهمزة : 1] ، فالهمز بالفعل واللمز بالقول ، كما قال : { هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ } [القلم : 11] أي : يحتقر الناس ويهمزهم طاعنًا عليهم ، ويمشي بينهم بالنميمة وهي : اللمز بالمقال ؛ ولهذا قال هاهنا : { وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } ، كما قال : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } [النساء : 29] أي : لا يقتل بعضكم بعضا (3).
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، ومقاتل بن حَيَّان : { وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } أي : لا يطعن بعضكم على بعض.
وقوله : { وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ } أي : لا تتداعوا بالألقاب ، وهي التي يسوء الشخص سماعها.
قال (4) الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا داود بن أبي هند ، عن الشعبي قال : حدثني أبو جَبِيرة (5) بن الضحاك قال : فينا نزلت في بني سلمة : { وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ } قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة ، فكان إذا دُعِىَ أحد منهم باسم من تلك الأسماء قالوا : يا رسول الله ، إنه يغضب من هذا. فنزلت : { وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ }
ورواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل ، عن وُهَيْب ، عن داود ، به (6).
وقوله : { بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ } أي : بئس الصفة والاسم الفسوق وهو : التنابز بالألقاب ، كما كان أهل الجاهلية يتناعتون ، بعدما دخلتم (7) في الإسلام وعقلتموه ، { وَمَنْ لَمْ يَتُبْ }
__________
(1) صحيح مسلم برقم (91) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2) زيادة من ت.
(3) في م : "أي : لا يطعن بعذكم على بعض".
(4) في ت : "وروى".
(5) في ت : "عن أبي جبيرة".
(6) المسند (4/260) وسنن أبي داود برقم ( 4962) ورواه الترمذي في السنن برقم (3268) من طريق داود بن أبي هند به ، وقال الترمذي : "حديث حسن صحيح".
(7) في ت : "دخلوا".

(7/376)


أي : من هذا { فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }

(7/377)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) }
يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن كثير من الظن ، وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله ؛ لأن بعض ذلك يكون إثما محضا ، فليجتنب كثير منه احتياطا ، وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، أنه قال : ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المسلم إلا خيرا ، وأنت تجد لها في الخير محملا (1).
وقال أبو عبد الله بن ماجه : حدثنا أبو القاسم بن أبي ضمرة نصر بن محمد بن سليمان الحِمْصي ، حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن أبي قيس النَّضري ، حدثنا (2) عبد الله بن عمر (3) قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول : "ما أطيبك وأطيب ريحك ، ما أعظمك وأعظم حرمتك. والذي نفس محمد بيده ، لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ، ماله ودمه ، وأن يظن به إلا خير (4). تفرد به ابن ماجه من هذا الوجه (5).
وقال مالك ، عن أبي الزِّناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إياكم والظن فإن الظن (6) أكذب الحديث ، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا".
رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ، ومسلم عن يحيى بن يحيى ، وأبو داود عن العتبي [ثلاثتهم] (7) ، عن مالك ، به (8).
وقال سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن أنس [رضي الله عنه] (9) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تقاطعوا ، ولا تدابروا ، ولا تباغضوا ، ولا تحاسدوا ، وكونوا عباد الله إخوانا ، ولا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام".
رواه مسلم والترمذي - وصححه - من حديث سفيان بن عيينة ، به (10).
__________
(1) رواه أحمد في الزهد كما في الدر المنثور (7/565).
(2) في ت : "وروى ابن ماجه بسنده عن".
(3) في ت : "بن عمر رضي الله عنه".
(4) في ت ، م : "خيرا".
(5) سنن ابن ماجه برقم (3932) وقال البوصيري في الزوائد (3/223) "هذا إسناد فيه مقال ، نصر بن محمد ضعفه أبو حاتم وذكره ابن حبان في الثقات ، وباقي رجال الإسناد ثقات".
(6) في ت ، م : "فإنه".
(7) زيادة من أ.
(8) الموطأ (2/908) وصحيح البخاري برقم (6066) وصحيح مسلم برقم (2563).
(9) زيادة من ت.
(10) صحيح مسلم برقم (2559) ، وسنن الترمذي برقم (1935).

(7/377)


وقال (1) الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله القِرْمِطي العدوي ، حدثنا بكر بن عبد الوهاب المدني ، حدثنا إسماعيل بن قيس الأنصاري ، حدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي الرجال ، عن أبيه ، عن جده حارثة بن النعمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثلاث لازمات لأمتي : الطِّيَرَةُ ، والحسد وسوء الظن". فقال رجل : ما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه ؟ قال : "إذا حسدت فاستغفر الله ، وإذا ظننت فلا تحقق ، وإذا تطيرت فَأمض (2) " (3). وقال (4) أبو داود : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن زيد قال : أتي ابن مسعود ، رضي الله عنه ، برجل (5) ، فقيل له : هذا فلان تقطر لحيته خمرا. فقال عبد الله : إنا قد نهينا عن التجسس ، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به (6).
سماه ابن أبي حاتم في روايته الوليد بن عقبة بن أبي معيط (7).
وقال (8) الإمام أحمد : حدثنا هاشم ، حدثنا لَيْث ، عن إبراهيم بن نَشِيط الخَوْلاني ، عن كعب بن علقمة ، عن أبي الهيثم ، عن دُخَيْن كاتب عقبة قال : قلت لعقبة : إن لنا جيرانا يشربون الخمر ، وأنا داع لهم الشرط فيأخذونهم. قال : لا تفعل ، ولكن عظهم وتهددهم. قال : ففعل فلم ينتهوا. قال : فجاءه دُخَيْن فقال : إني قد نهيتهم فلم ينتهوا ، وإني داع لهم الشرط فيأخذونهم. قال : لا تفعل ، ولكن عظهم وتهددهم. قال : ففعل فلم ينتهوا. قال : فجاءه دخين فقال : إني قد نهيتهم فلم ينتهوا ، وإني داع لهم الشرط فتأخذهم. فقال له عقبة : ويحك لا تفعل ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها".
ورواه أبو داود والنسائي من حديث الليث بن سعد ، به نحوه (9).
وقال سفيان الثوري ، عن ثور ، عن راشد بن سعد ، عن معاوية قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم" أو : "كدت أن تفسدهم". فقال أبو الدرداء : كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نفعه الله بها. رواه أبو داود منفردا به من حديث الثوري ، به (10).
وقال أبو داود أيضا : حدثنا سعيد بن عمرو الحضرمي ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، حدثنا ضَمْضَم بن زُرَعَة ، عن شُرَيْح بن عبيد ، عن جُبَيْر بن نُفَيْر ، وكثير بن مُرَّة ، وعمرو بن الأسود ، والمقدام بن معد يكرب (11) ، وأبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس ،
__________
(1) في ت : "وروى".
(2) في ت : "وإذا نظرت فاغضض" وفي م ، أ : "وإذا تطيرت فاغمض".
(3) المعجم الكبير (3/228) ، قال الهيثمي في المجمع (8/78) : "فيه إسماعيل بن قيس الأنصاري وهو ضعيف".
(4) في ت : "وروى".
(5) لفظة "برجل" غير موجودة بسنن أبي داود.
(6) سنن أبي داود برقم (4890).
(7) وذلك لما أكثر الناس في الوليد بن عقبة ، وقد كان ابن مسعود على بيت المال في ولاية الوليد بن عقبة في عهد عثمان رضي الله عنه وقصة جلد الوليد على الخمر مشهورة في الصحيحين.
(8) في ت : "وروى".
(9) المسند (4/153) وسنن أبي داود برقم (4892) والنسائي في السنن الكبري برقم (7283).
(10) سنن أبي داود برقم (4888).
(11) في م : "معدي كرب".

(7/378)


أفسدهم" (1).
[وقوله] : (2) { وَلا تَجَسَّسُوا } أي : على بعضكم بعضا. والتجسس غالبا يطلق في الشر ، ومنه الجاسوس. وأما التحسس فيكون غالبا في الخير ، كما قال تعالى إخبارا عن يعقوب [عليه السلام] (3) أنه قال : { يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ } [يوسف : 87] ، وقد يستعمل كل منهما في الشر ، كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تجسسوا ، ولا تحسسوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا" (4).
وقال الأوزاعي : التجسس : البحث عن الشيء. والتحسس : الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون ، أو يتسمع على أبوابهم. والتدابر : الصَّرْم. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله : { وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } فيه نهي عن الغيبة ، وقد فسرها الشارع كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود : حدثنا القَعْنَبِي ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة (5) قال : قيل : يا رسول الله ، ما الغيبة ؟ قال : "ذكرك أخاك بما يكره". قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته".
ورواه الترمذي عن قتيبة ، عن الدَّرَاوَرْدي ، به (6). وقال : حسن صحيح. ورواه ابن جرير عن بُنْدَار ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن العلاء (7). وهكذا قال ابن عمر ، ومسروق ، وقتادة ، وأبو إسحاق ، ومعاوية بن قُرَّة.
وقال (8) أبو داود : حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا يحيى ، عن سفيان ، حدثني علي بن الأقمر ، عن أبي حذيفة ، عن عائشة قالت : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : حسبك من صفية كذا وكذا! - قال غير مسدد : تعني قصيرة - فقال : "لقد قلت كلمة لو مُزِجَتْ بماء البحر لمزجته". قالت : وحكيت له إنسانا ، فقال صلى الله عليه وسلم : "ما أحب أني حكيت إنسانًا ، وإن لي كذا وكذا".
ورواه الترمذي من حديث يحيى القَطَّان ، وعبد الرحمن بن مَهْدِيّ ، ووَكِيع ، ثلاثتهم عن سفيان الثوري ، عن علي بن الأقمر ، عن أبي حذيفة سلمة بن صهيبة الأرحبي ، عن عائشة ، به. وقال : حسن صحيح (9).
وقال ابن جرير : حدثني ابن أبي الشوارب : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا سليمان الشيباني ، حدثنا حسان بن المخارق (10) ؛ أن امرأة دخلت على عائشة ، فلما قامت لتخرج أشارت عائشة بيدها
__________
(1) سنن أبي داود برقم (4889).
(2) زيادة من ت.
(3) زيادة من ت.
(4) صحيح البخاري برقم (2442).
(5) في ت : "أبي هريرة رضي الله عنه".
(6) سنن أبي داود برقم (4874) وسنن الترمذي برقم (1935).
(7) تفسير الطبري (26/86).
(8) في ت : "وروى".
(9) سنن أبي داود برقم (4875) وسنن الترمذي برقم (2502 ، 2503).
(10) في ت : "وروى ابن جرير بسنده".

(7/379)


إلى النبي صلى الله عليه وسلم - أي : إنها قصيرة - فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اغتبتيها" (1).
والغيبة محرمة بالإجماع ، ولا يستثنى من ذلك إلا ما رجحت مصلحته ، كما في الجرح والتعديل والنصيحة ، كقوله صلى الله عليه وسلم (2) ، لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر : "ائذنوا له ، بئس أخو العشيرة" (3) ، وكقوله لفاطمة بنت قيس - وقد خطبها معاوية وأبو الجهم - : "أما معاوية فصعلوك (4) ، وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه" (5). وكذا ما جرى مجرى ذلك. ثم بقيتها على التحريم الشديد ، وقد ورد فيها الزجر الأكيد (6) ؛ ولهذا شبهها تعالى بأكل اللحم من الإنسان الميت ، كما قال تعالى : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ } ؟ أي : كما تكرهون هذا طبعا ، فاكرهوا ذاك شرعا ؛ فإن عقوبته أشد من هذا وهذا من التنفير عنها والتحذير منها ، كما قال ، عليه السلام ، في العائد في هبته : "كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه" ، وقد قال : "ليس لنا مثل السوء". وثبت في الصحاح (7) والحسان والمسانيد من غير وجه أنه ، عليه السلام ، قال في خطبة [حجة] (8) الوداع : "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا" (9).
وقال (10) أبو داود : حدثنا واصل بن عبد الأعلى ، حدثنا أسباط بن محمد ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كل المسلم على المسلم حرام : ماله وعرضه ودمه ، حسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم".
ورواه الترمذي (11) عن عبيد بن أسباط بن محمد ، عن أبيه ، به (12). وقال : حسن غريب.
وحدثنا عثمان بن أبي شيبة (13) ، حدثنا الأسود بن عامر ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن سعيد بن عبد الله (14) بن جريج ، عن أبي برزة الأسلمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه ، لا تغتابوا المسلمين ، ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته".
تفرد به أبو داود (15). وقد روي من حديث البراء بن عازب ، فقال الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثنا إبراهيم بن دينار ، حدثنا مصعب بن سلام ، عن حمزة بن حبيب الزيات ، عن أبي إسحاق
__________
(1) تفسير الطبري (26/87).
(2) في ت : "عليه السلام".
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (3132) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4) في أ : "فصعلوك لا مال له".
(5) رواه مسلم في صحيحه برقم (1480).
(6) في ت ، م : "الشديد".
(7) في ت ، م : "الصحيح".
(8) زيادة من ت ، م ، أ.
(9) رواه مسلم في صحيحه برقم (1218) من حديث جابر رضي الله عنه.
(10) في ت : "وروى".
(11) في ت : "رواه الترمذي وحسنه".
(12) سنن أبي داود برقم (4882) وسنن الترمذي برقم (1927).
(13) في ت : "وروى أبو داود".
(14) في أ : "عبيد الله".
(15) سنن أبي داود برقم (4880).

(7/380)


السَّبِيعي (1) ، عن البراء بن عازب (2) قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العواتق في بيوتها - أو قال : في خدورها - فقال : "يا معشر من آمن بلسانه ، لا تغتابوا المسلمين ، ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه (3) في جوف بيته" (4).
طريق أخرى عن ابن عمر : قال أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي : أخبرنا عبد الله بن ناجية ، حدثنا يحيى بن أكثم ، حدثنا الفضل بن موسى الشيباني ، عن الحسين بن واقد ، عن أوفى بن دَلْهَم ، عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يا معشر من آمن بلسانه ولم يُفْضِ الإيمانُ إلى قلبه ، لا تغتابوا المسلمين ، ولا تتبعوا عوراتهم ؛ فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله". قال : ونظر ابن عمر يوما إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك ، وللمؤمن أعظمُ حرمة عند الله منك (5).
قال أبو داود : وحدثنا حَيْوَة بن شُرَيْح ، حدثنا بَقِيَّة ، عن ابن ثوبان ، عن أبيه ، عن مكحول ، عن وقاص بن ربيعة ، عن المستورد ؛ أنه حدثه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها في (6) جهنم (7) ، ومن كُسى ثوبا برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله في (8) جهنم. ومن قام برجل مقام سمعةٍ ورياء فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة". تفرد به أبو داود (9).
وحدثنا ابن مصفى ، حدثنا بقية وأبو المغيرة قالا حدثنا صفوان ، حدثني راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لما عُرِج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس ، يخمشون وجوههم وصدورهم ، قلت : من هؤلاء يا جبرائيل (10) ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ، ويقعون في أعراضهم".
تفرد به أبو داود ، وهكذا رواه الإمام أحمد ، عن أبي المغيرة عبد القدوس بن الحجاج الشامي ، به (11).
وقال (12) ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن عبدة ، حدثنا أبو عبد الصمد بن عبد العزيز ابن عبد الصمد العمي ، حدثنا أبو هارون العَبْديّ ، عن أبي سعيد الخدري [رضي الله عنه] (13) قال : قلنا يا رسول الله ، حدثنا ما رأيت ليلة أسريَ بك ؟... قال : "ثم انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير ، رجال ونساء مُوَكَّل بهم رجال يعمدون إلى عُرْض جنَب أحدهم فَيَحْذُون منه الحُذْوَة من مثل النعل ثم يضعونه في فيّ أحدهم ، فيقال له : "كل كما (14) أكلت" ، وهو يجد من أكله الموت - يا
__________
(1) في ت : "وروى الحافظ أبو يعلى في مسنده بسنده".
(2) في ت : "البراء بن عازب رضي الله عنه".
(3) في ت : "يفضحه ولو في".
(4) مسند أبي يعلى (3/237) قال الهيثمي في المجمع (8/93) : "رجاله ثقات".
(5) ورواه الترمذي في السنن برقم (2032) من طريق الفضل بن موسى به ، وقال : "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسين بن واقد".
(6) في ت ، م ، أ : "من".
(7) في ت : "في نار جهنم".
(8) في أ : "من".
(9) سنن أبي داود برقم (4881).
(10) في ت ، م : "جبريل".
(11) سنن أبي داود برقم (4878) ، والمسند (3/224).
(12) في ت : "وروى".
(13) زيادة من ت.
(14) في ت : "ما".

(7/381)


محمد - لو يجد الموت وهو يكره عليه فقلت : يا جبرائيل (1) ، من هؤلاء : قال : هؤلاء الهمَّازون اللمَّازون أصحاب النميمة. فيقال (2) : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ } وهو يكره على أكل لحمه.
هكذا أورد هذا الحديث ، وقد سقناه بطوله في أول تفسير "سورة سبحان" ولله الحمد (3).
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده : حدثنا الربيع ، عن يزيد ، عن أنس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يصوموا يوما ولا يفطرن أحدٌ حتى آذن له. فصام الناس ، فلما أمسوا جعل الرجل يجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : ظللت منذ اليوم صائما ، فائذن لي. فأفطر فيأذن له ، ويجيء الرجل فيقول ذلك ، فيأذن له ، حتى جاء رجل فقال : يا رسول الله ، إن فتاتين من أهلك ظلتا منذ اليوم صائمتين ، فائذن لهما فَلْيفطرا فأعرض عنه ، ثم أعاد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما صامتا ، وكيف صام من ظل يأكل لحوم الناس ؟ اذهب ، فمرهما إن كانتا صائمتين أن يستقيئا". ففعلتا ، فقاءت كل واحدة منهما عَلَقةً علقَةً فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو ماتتا وهما فيهما لأكلتهما النار" (4).
إسناد ضعيف ، ومتن غريب. وقد رواه الحافظ البيهقي من حديث يزيد بن هارون : حدثنا سليمان التيمي قال : سمعت رجلا يحدث في مجلس أبي عثمان النَّهْدِي عن عبيد - مولى رسول الله (5) - أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن رجلا أتى رسول الله فقال : يا رسول الله ، إن هاهنا امرأتين صامتا ، وإنهما كادتا تموتان من العطش - أرَاهُ قال : بالهاجرة - فأعرض عنه - أو : سكت عنه - فقال : يا نبي الله ، إنهما - والله قد ماتتا أو كادتا تموتان (6). فقال : ادعهما. فجاءتا ، قال : فجيء بقدح - أو عُسّ - فقال لإحداهما : " قيئي" فقاءت من قيح ودم وصديد حتى قاءت نصف القدح. ثم قال للأخرى : قيئي فقاءت قيحا ودما وصديدا ولحما ودما عبيطا وغيره حتى ملأت القدح. فقال : إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما ، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما ، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس.
وهكذا قد رواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون وابن أبي عدي ، كلاهما عن سليمان بن طِرْخان التيمي ، به مثله أو نحوه (7). ثم رواه أيضا من حديث مُسَدَّد ، عن يحيى القَطَّان ، عن عثمان بن غياث ، حدثني رجل أظنه في حلقة أبي عثمان ، عن سعد - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنهم أمروا بصيام ، فجاء رجل في نصف النهار فقال : يا رسول الله ، فلانة وفلانة قد بلغتا الجهد. فأعرض عنه مرتين أو ثلاثا ، ثم قال : "ادعهما". فجاء بعُس - أو : قَدَح - فقال لإحداهما : "قيئي" ، فقاءت لَحْمًا ودمًا عبيطا وقيحا ، وقال للأخرى مثل ذلك ، فقال : "إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما ، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما ، أتت إحداهما للأخرى فلم تزالا تأكلان لحوم الناس حتى امتلأت أجوافهما
__________
(1) في ت ، م : "جبريل".
(2) في أ : "فقال".
(3) عند الآية الأولى.
(4) مسند الطيالسي برقم (2107).
(5) في ت ، م : "رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(6) في ت : "أن تموتا".
(7) المسند (5/431) ورواه ابن أبي الدنيا في الصمت برقم (171) من طريق يزيد بن هارون عن سليمان التيمي به.

(7/382)


قيحا" (1).
وقال البيهقي : كذا قال "عن سعد" ، والأول - وهو عبيد - أصح.
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا عمرو بن الضحاك بن مَخْلَد ، حدثنا أبي أبو عاصم ، حدثنا ابن جُرَيْج ، أخبرني أبو الزبير (2) عن ابن عَمّ لأبي هريرة أن ماعزًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني قد زنيت فأعرض عنه - قالها أربعا - فلما كان في الخامسة قال : "زنيت" ؟ قال : نعم. قال : "وتدري ما الزنا ؟" قال : نعم ، أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا. قال : "ما تريد إلى هذا القول ؟" قال : أريد أن تطهرني. قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أدخلت ذلك منك في ذلك منها كما يغيب المِيل في المكحلة والرِّشاء (3) في البئر ؟". قال : نعم ، يا رسول الله. قال : فأمر برجمه فرجم ، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يقول أحدهما لصاحبه : ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رُجمَ رجم الكلب. ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم حتى مَرّ بجيفة حمار فقال : أين فلان وفلان ؟ أنزلا فكلا من جيفة هذا الحمار" قالا غفر الله لك يا رسول ، الله وهل يُؤكل هذا ؟ قال : "فما نلتما من أخيكما (4) آنفا أشد أكلا من ، والذي نفسي بيده ، إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها" (5) ]إسناده صحيح] (6).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثني أبي ، حدثنا واصل - مولى ابن عيينة - حدثني خالد بن عُرْفُطَة ، عن طلحة بن نافع ، عن جابر بن عبد الله قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فارتفعت ريح جيفة منتنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتدرون ما هذه الريح ؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين (7) " (8).
طريق أخرى : قال عبد بن حُميد في مسنده : حدثنا إبراهيم بن الأشعث ، حدثنا الفُضيل بن عياض ، عن سليمان ، عن أبي سفيان - وهو طلحة بن نافع - عن جابر قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فهاجت ريح منتنة (9) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن نفرًا من المنافقين اغتابوا ناسا من المسلمين ، فلذلك بعثت هذه الريح" وربما قال : "فلذلك هاجت هذه الريح" (10).
وقال السدي في قوله : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا } : زعم أن سلمان الفارسي كان مع رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفر يخدمهما ويخف لهما ، وينال من طعامهما ، وأن سلمان لما سار الناس ذات يوم وبقي سلمان نائما ، لم يسر معهم ، فجعل صاحباه يكلمانه (11) فلم يجداه ، فضربا الخِباء فقالا ما يريد سليمان - أو : هذا العبد - شيئا غير هذا : أن يجيء إلى طعام مقدور ، وخباء مضروب! فلما جاء سلمان أرسلاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب لهما إداما ، فانطلق فأتى رسول
__________
(1) المسند (5/431).
(2) في ت : "وروى الحافظ أبو يعلى بمسنده".
(3) في ت ، م ، أ : "والعصا".
(4) في ت : "من عرض أخيكما".
(5) مسند أبي يعلى (6/524) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (8/227) من طريق عمرو بن الضحاك به ؛ ورواه أبو داود في السنن برقم (4429) من طريق الضحاك به.
(6) زيادة من ت.
(7) في ت ، أ : "الناس".
(8) المسند (3/351) قال الهيثمي في المجمع (8/91) : "رجاله ثقات".
(9) في م : "ريح شديدة منتنة".
(10) المنتخب برقم (1026).
(11) في م : "يكلماه".

(7/383)


الله [صلى الله عليه وسلم] (1) ومعه قَدَح له ، فقال : يا رسول الله ، بعثني أصحابي لِتؤدِمَهم إن كان عندك ؟ قال : "ما يصنع أصحابك بالأدْم ؟ قد ائتدموا". فرجع سلمان يخبرهما بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا لا والذي بعثك بالحق ، ما أصبنا طعاما منذ نزلنا. قال : "إنكما قد ائتدمتما بسلمان بقولكما".
قال : ونزلت : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا } ، إنه كان نائما (2).
وروى الحافظ الضياء المقدسي في كتابه "المختارة" من طريق حَبَّان بن هلال ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك قال : كانت العرب تخدم بعضها بعضا في الأسفار ، وكان مع أبي بكر وعمر ما رجل يخدمهما ، فناما فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعاما ، فقالا إن هذا لنؤوم ، فأيقظاه ، فقالا له : ائت رسول الله فقل له : إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام ، ويستأدمانك.
فقال : "إنهما قد ائتدما" فجاءا فقالا يا رسول الله ، بأي شيء ائتدمنا ؟ فقال : "بلحم أخيكما ، والذي نفسي بيده ، إني لأرى لحمه بين ثناياكما". فقالا استغفر لنا يا رسول الله فقال : "مُرَاه فليستغفر لكما" (3).
وقال (4) الحافظ أبو يعلى : حدثنا الحكم بن موسى ، حدثنا محمد بن مسلم ، عن محمد بن إسحاق ، عن عمه موسى بن يَسار ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أكل من لحم أخيه في الدنيا ، قُرِّب له لحمه في الآخرة ، فيقال له : كله مَيْتًا كما أكلته حَيًّا. قال : فيأكله ويَكْلَح ويصيح". غريب جدا (5).
وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : فيما أمركم به ونهاكم عنه ، فراقبوه في ذلك واخشوا منه ، { إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } أي : تواب على من تاب إليه ، رحيم بمن رجع إليه ، واعتمد عليه.
قال الجمهور من العلماء : طريق المغتاب للناس في توبته أن يُقلع (6) عن ذلك ، ويعزم على ألا يعود. وهل يشترط الندم على ما فات ؟ فيه نزاع ، وأن يتحلل من الذي اغتابه. وقال آخرون : لا يشترط أن يتحلله فإنه إذا (7) أعلمه بذلك ربما تأذى أشد مما إذا لم يعلم بما كان منه ، فطريقه إذًا أن يثني عليه بما فيه في المجالس التي كان يذمه فيها ، وأن يرد عنه الغيبة بحسبه وطاقته ، فتكون (8) تلك بتلك ، كما قال (9) الإمام أحمد :
حدثنا أحمد بن الحجاج ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا يحيى بن أيوب ، عن عبد الله بن سليمان ؛ أن إسماعيل بن يحيى المعَافِريّ أخبره أن سهل بن معاذ بن أنس الجُهَنِيّ أخبره ، عن أبيه ، عن (10) النبي
__________
(1) زيادة من ت.
(2) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره كما في الدر المنثور (7/570).
(3) المختارة برقم (1697).
(4) في ت : "وروى".
(5) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (4961) "مجمع البحرين" من طريق محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق به ، وقال : لم يروه عن ابن إسحاق إلا محمد بن سلمة وقد وقع هنا "محمد بن مسلم" وأظنه تصحيفا ، لكني لا أستطيع الجزم بذلك قال الهيثمي في المجمع (8/92) : "فيه ابن إسحاق وهو مدلس ومن لم أعرفه".
(6) في م : "يرجع".
(7) في ت : "لو".
(8) في ت : "لتكون".
(9) في ت : "روى".
(10) في ت : "أن".

(7/384)


يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)

صلى الله عليه وسلم قال : "من حمى مؤمنا من منافق يعيبه (1) ، بعث الله إليه ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم. ومن رمى مؤمنا بشيء يريد شينه ، حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال". وكذا رواه أبو داود من حديث عبد الله - وهو ابن المبارك - به بنحوه (2).
وقال (3) أبو داود أيضا : حدثنا إسحاق بن الصباح ، حدثنا ابن أبي مريم ، أخبرنا الليث : حدثني يحيى بن سليم ؛ أنه سمع إسماعيل بن بشير يقول : سمعت جابر بن عبد الله ، وأبا طلحة بن سهل الأنصاري يقولان : قال (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من امرىء يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه ، إلا خذله الله في مواطن يحب فيها نصرته. وما من امرئ ينصر امرأ مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه ، وينتهك فيه من حرمته (5) ، إلا نصره الله في مواطن يحب فيها نصرته". تفرد به أبو داود (6).
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) }
يقول تعالى مخبرًا للناس أنه خلقهم من نفس واحدة ، وجعل منها زوجها ، وهما آدم وحواء ، وجعلهم شعوبا ، وهي أعم من القبائل ، وبعد القبائل مراتب أخر كالفصائل والعشائر والعمائر والأفخاذ وغير ذلك.
وقيل : المراد بالشعوب بطون العَجَم ، وبالقبائل بطون العرب ، كما أن الأسباط بطون بني إسرائيل. وقد لخصت هذا في مقدمة مفردة جمعتها من كتاب : "الإنباه" لأبي عمر (7) بن عبد البر ، ومن كتاب "القصد والأمم ، في معرفة أنساب العرب والعجم". فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء سواء ، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية ، وهي طاعة الله ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا قال تعالى بعد النهي عن الغيبة واحتقار بعض الناس بعضًا ، منبها على تساويهم في البشرية : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا } أي : ليحصل التعارف بينهم ، كلٌ يرجع إلى قبيلته.
وقال مجاهد في قوله : { لِتَعَارَفُوا } ، كما يقال : فلان بن فلان من كذا وكذا ، أي : من قبيلة كذا وكذا.
وقال سفيان الثوري : كانت حِمْير ينتسبون إلى مُخَاليفها ، وكانت عرب الحجاز ينتسبون إلى قبائلها.
وقد قال (8) أبو عيسى الترمذي : حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن عبد
__________
(1) في أ "بغيبة".
(2) المسند (3/441) وسنن أبي داود برقم (4883).
(3) في ت : "وروى".
(4) في ت : "أن".
(5) في أ : "عرضه".
(6) سنن أبي داود برقم (4884).
(7) في م : "عمرو".
(8) في ت : "وروى".

(7/385)


الملك بن عيسى الثقفي ، عن يزيد - مولى المنبعث - عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ؛ فإن صلة الرحم محبة في الأهل ، مثراة في المال ، منسأة في الأثر". ثم قال : غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه (1).
وقوله : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } أي : إنما تتفاضلون عند الله بالتقوى لا بالأحساب. وقد وردت الأحاديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
قال (2) البخاري رحمه الله : حدثنا محمد بن سلام ، حدثنا عبدة ، عن عبيد الله ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس أكرم ؟ قال : "أكرمهم عند الله أتقاهم" قالوا : ليس عن هذا نسألك. قال : "فأكرم الناس يوسف نبي الله ، ابن نبي الله ، ابن خليل الله". قالوا : ليس عن هذا نسألك. قال : "فعن معادن العرب تسألوني ؟" قالوا : نعم. قال : "فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فَقِهُوا" (3).
وقد رواه البخاري في غير موضع من طرق عن عبدة بن سليمان (4). ورواه النسائي في التفسير من حديث عبيد الله - وهو ابن عمر العمري - به (5).
حديث آخر : قال مسلم (6) ، رحمه الله : حدثنا عمرو الناقد ، حدثنا كَثِير بن هشام ، حدثنا جعفر بن برقان ، عن يزيد بن الأصم ، عن أبي هريرة (7) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
ورواه ابن ماجه عن أحمد بن سنان ، عن كَثِير بن هشام ، به (8).
حديث آخر : وقال (9) الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، عن أبي هلال ، عن بكر ، عن أبي ذر قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : "انظر ، فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى (10). تفرد به أحمد (11).
حديث آخر : وقال (12) الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أبو عبيدة عبد الوارث بن إبراهيم العسكري ، حدثنا عبد الرحمن بن عمرو بن جَبَلة ، حدثنا عبيد بن حنين الطائي ، سمعت محمد بن حبيب بن خِرَاش العَصَرِيّ ، يحدث عن أبيه : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (13) : المسلمون إخوة ، لا
__________
(1) سنن الترمذي برقم (1979).
(2) في ت : "فروى".
(3) صحيح البخاري برقم (4689).
(4) صحيح البخاري برقم (3374 ، 3383).
(5) النسائي في السنن الكبرى برقم (11250).
(6) في ت : "وروى".
(7) في ت : "أبي هريرة رضي الله عنه".
(8) صحيح مسلم برقم (2564) وسنن ابن ماجه برقم (4143).
(9) في ت : "وروى".
(10) في ت : "بتقوى الله".
(11) المسند (5/158).
(12) في ت : "وروى".
(13) في ت : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال".

(7/386)


فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى" (1)
حديث آخر : قال (2) أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا أحمد بن يحيى الكوفي ، حدثنا الحسن بن الحسين ، حدثنا قيس - يعني ابن الربيع - عن شبيب بن غَرْقَدَة (3) ، عن المستظل بن حصين ، عن حذيفة (4) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كلكم بنو آدم. وآدم خلق من تراب ، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم ، أو ليكونن أهون على الله من الجِعْلان".
ثم قال : لا نعرفه عن حذيفة إلا من هذا الوجه (5).
حديث آخر : قال (6) ابن أبي حاتم : حدثنا الربيع بن سليمان ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا يحيى بن زكريا القطان ، حدثنا موسى بن عبيدة ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر قال : طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته القَصْواء يستلم الأركان (7) بمحجن في يده ، فما وجد لها مناخًا في المسجد حتى نزل صلى الله عليه وسلم على أيدي الرجال ، فخرج بها إلى بطن المسيل فأنيخت. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبهم على راحلته ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل (8) ثم قال : "يا أيها الناس ، إن الله قد أذهب عنكم عُبِّية الجاهلية وتعظمها بآبائها ، فالناس رجلان : رجل بر تقي كريم على الله ، وفاجر شقي هين على الله. إن الله يقول : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } ثم قال : "أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم".
هكذا (9) رواه عبد بن حميد ، عن أبي عاصم الضحاك بن مَخْلَد ، عن موسى بن عبيدة ، به (10).
حديث آخر : قال (11) الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن الحارث بن يزيد ، عن علي بن رباح ، عن عقبة بن عامر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن أنسابكم هذه ليست بمسبة على أحد ، كلكم بنو آدم طَفَّ الصاع لم يملؤه ، ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين وتقوى ، وكفى بالرجل أن يكون بَذِيّا بخيلا فاحشًا".
وقد رواه ابن جرير ، عن يونس ، عن ابن وهب ، عن ابن لَهِيعة ، به (12) ولفظه : "الناس لآدم وحواء ، طف الصاع لم يَمْلَئُوه ، إن الله لا يسألكم عن أحسابكم ولا عن أنسابكم يوم القيامة ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
__________
(1) المعجم الكبير (4/25) وقال الهيثمي في المجمع (8/84) : "فيه عبد الرحمن بن عمرو بن جبلة ، وهو متروك".
(2) في ت : "وروى".
(3) في أ : "عروة".
(4) في ت : "عن حذيفة رضي الله عنه".
(5) مسند البزار برقم (3584) وقال الهيثمي في المجمع (8/86) : "فيه الحسن بن الحسين العرني وهو ضعيف".
(6) في ت : "وروى".
(7) في ت : "الركن".
(8) في ت ، أ : "بما هو عليه".
(9) في ت : "وهكذا".
(10) المنتخب لعبد بن حميد برقم (793) وفيه موسى بن عبيدة الزبدي وهو ضعيف.
(11) في ت : "وروى".
(12) المسند (4/158) وتفسير الطبري (26/89) قال الهيثمي في المجمع (8/84) : "فيه ابن لهيعة وفيه لين ، وبقية رجاله وثقوا". قلت : الراوي عنه في رواية الطبري عبد اله بن وهب ، فهذه متابعة قوية ليحيى بن إسحاق.

(7/387)


قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)

وليس هو في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه.
حديث آخر : قال (1) الإمام أحمد : حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا شريك ، عن سِمَاك ، عن عبد الله بن عَمِيرة زوج درة ابنة أبي لهب ، عن درة بنت أبي لهب قالت : قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ، فقال : يا رسول الله ، أي الناس خير ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : "خير الناس أقرؤهم ، وأتقاهم لله عز وجل ، وآمرهم بالمعروف ، وأنهاهم عن المنكر ، وأوصلهم للرحم" (2).
حديث آخر : قال (3) الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا أبو الأسود ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة قالت : ما أعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء من الدنيا ، ولا أعجبه أحد قط ، إلا ذو تقى. تفرد به أحمد رحمه الله (4).
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } أي : عليم بكم ، خبير بأموركم ، فيهدي من يشاء ، ويضل من يشاء ، ويرحم من يشاء ، ويعذب من يشاء ، ويفضل من يشاء على من يشاء ، وهو الحكيم العليم الخبير في ذلك كله. وقد استدل بهذه الآية الكريمة وهذه الأحاديث الشريفة ، من ذهب من العلماء إلى أن الكفاءة في النكاح لا تشترط ، ولا يشترط سوى الدين ، لقوله : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } وذهب الآخرون إلى أدلة أخرى مذكورة في كتب الفقه ، وقد ذكرنا طرفا من ذلك في "كتاب الأحكام" ولله الحمد والمنة. وقد روى الطبراني عن عبد الرحمن أنه سمع رجلا من بني هاشم يقول : أنا أولى الناس برسول الله. فقال : غيرك أولى به منك ، ولك منه نسبه.
{ قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) }
__________
(1) في ت : "وروى".
(2) المسند (6/432) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (24/257) من طريق شريك به ، وقال الهيثمي في المجمع (7/263) : "رجالهما ثقات ، وفي كلام بعضهم كلام لا يضر".
(3) في ت : "وروى".
(4) المسند (6/69).

(7/388)


يقول تعالى منكرا على الأعراب الذين أول ما دخلوا في الإسلام ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان ، ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم بعد : { قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ }. وقد استفيد من هذه الآية الكريمة : أن الإيمان أخص من الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ، ويدل عليه حديث جبريل ، عليه السلام ، حين سأل عن الإسلام ، ثم عن الإيمان ، ثم عن الإحسان ، فترقى من الأعم إلى الأخص ، ثم للأخص منه.
قال (1) الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه قال : أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا ولم يعط رجلا منهم شيئًا ، فقال سعد : يا رسول الله ، أعطيت فلانًا وفلانا ولم تُعط فلانًا شيئًا ، وهو مؤمن ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أو مسلم" حتى أعادها سعد ثلاثا ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : "أو مسلم" ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إني لأعطي رجالا وأدع من هو أحب إليّ منهم فلم أعطيه شيئًا ؛ مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم".
أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري ، به (2).
فقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين المسلم والمؤمن ، فدل على أن الإيمان أخص من الإسلام. وقد قررنا ذلك بأدلته في أول شرح كتاب الإيمان من "صحيح البخاري" ولله الحمد والمنة. ودل ذلك على أن ذاك الرجل كان مسلما ليس منافقًا ؛ لأنه تركه من العطاء ووكله إلى ما هو فيه من الإسلام ، فدل هذا على (3) أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية ليسوا بمنافقين ، وإنما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم ، فادعوا لأنفسهم مقاما أعلى مما وصلوا إليه ، فأدبوا في ذلك. وهذا معنى قول ابن عباس وإبراهيم النخعي ، وقتادة ، واختاره ابن جرير. وإنما قلنا هذا لأن البخاري ، رحمه الله ، ذهب إلى أن هؤلاء كانوا منافقين يُظهرون الإيمان وليسوا كذلك. وقد روي عن سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وابن زيد أنهم قالوا في قوله : { وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } أي : استسلمنا خوف القتل والسباء. قال مجاهد : نزلت في بني أسد بن خزيمة. وقال قتادة : نزلت في قوم امتنوا بإيمانهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والصحيح الأول ؛ أنهم قوم ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان ، ولم يحصل لهم بعد ، فأدبوا وأعلموا أن ذلك لم يصلوا إليه بعد ، ولو كانوا منافقين لعنفوا وفضحوا ، كما ذكر المنافقون في سورة براءة. وإنما قيل لهؤلاء تأديبًا : { قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } أي : لم تصلوا إلى حقيقة الإيمان بعد.
ثم قال : { وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ [شَيْئًا ] } (4) أي : لا ينقصكم من أجوركم شيئا ، كقوله : { وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } [الطور : 21].
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : لمن تاب إليه وأناب.
__________
(1) في ت : "وروى".
(2) المسند (1/176) وصحيح البخاري برقم (27) وصحيح مسلم برقم (150).
(3) في ت : "إلى".
(4) زيادة من ت.

(7/389)


وقوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } أي : إنما المؤمنون الكُمَّل { الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } أي : لم يشكوا ولا تزلزلوا ، بل ثبتوا (1) على حال واحدة ، وهي التصديق المحض ، { وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي : وبذلوا مهجهم (2) ونفائس أموالهم في طاعة الله ورضوانه ، { أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } أي : في قولهم إذا قالوا : "إنهم مؤمنون" ، لا كبعض الأعراب الذين ليس معهم من الدين إلا الكلمة الظاهرة.
وقال (3) الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن غيلان ، حدثنا رِشْدين ، حدثني عمرو بن الحارث ، عن أبي السمح ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد (4) قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء : [الذين] (5) آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. والذي يأمنه الناس على أموالهم وأنفسهم. ثم الذي إذا أشرف على طمع تركه لله ، عز وجل" (6).
وقوله : { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ } أي : أتخبرونه (7) بما في ضمائركم ، { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } أي : لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }.
ثم قال [تعالى] (8) : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا } ، يعني : الأعراب [الذين] (9) يمنون بإسلامهم ومتابعتهم ونصرتهم على الرسول ، يقول الله ردًا عليهم : { قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ } ، فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم ، ولله المنة عليكم فيه ، { بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : في دعواكم ذلك ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم حنين : "يا معشر الأنصار ، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ؟ وعالة فأغناكم الله بي ؟" كلما قال شيئًا قالوا : الله ورسوله أَمَنُّ (10).
وقال (11) الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي ، عن محمد بن قيس ، عن أبي عون ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (12) قال : جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، أسلمنا وقاتلتك العرب ، ولم تقاتلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن فقههم قليل ، وإن الشيطان ينطق (13) على ألسنتهم". ونزلت هذه الآية : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
__________
(1) في ت : "تثبتوا".
(2) في ت : "مهجتهم".
(3) في ت : "وروى".
(4) في ت : "أبي سعيد رضي الله عنه".
(5) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(6) المسند (3/8) وفي إسناده بن أبي السمح عن أبي الهيثم وهو ضعيف.
(7) في ت : "أتخبرون".
(8) زيادة من ت.
(9) زيادة من ت ، أ.
(10) رواه البخاري في صحيحه برقم (4330) من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه.
(11) في ت : "وروى".
(12) زيادة من ت.
(13) في أ : "ينطق".

(7/390)


ثم قال : لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه ، ولا نعلم روى أبو عون محمد بن عبيد الله ، عن سعيد بن جبير ، غير (1) هذا الحديث (2).
ثم كرر الإخبار بعلمه بجميع الكائنات ، وبصره بأعمال المخلوقات فقال : { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }
آخر تفسير الحجرات ، ولله الحمد والمنة
__________
(1) في أ : "سوى".
(2) ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (11519) من طريق يحيى بن سعيد الأموي به.

(7/391)


تفسير سورة ق
وهي مكية.
وهذه السورة هي أول الحزب المفصل على الصحيح ، وقيل : من الحجرات. وأما ما يقوله العامة (1) : إنه من(عَمّ) فلا أصل له ، ولم يقله أحد من العلماء المعتبرين (2) فيما نعلم. والدليل على أن هذه السورة هي أول المفصل ما رواه أبو داود في سننه ، باب "تحزيب القرآن" ثم قال :
حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا قُرَّان بن تمام ، (ح) وحدثنا عبد الله بن سعيد أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد سليمان بن حبان - وهذا لفظه - عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى ، عن عثمان بن عبد الله بن أوس ، عن جده - قال عبد الله بن سعيد : حدثنيه أوس بن حذيفة - ثم اتفقا. قال : قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف ، قال : فنزلت الأحلاف على المغيرة بن شعبة ، وأنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بني مالك في قُبة له - قال مسَدَّد : وكان في الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثقيف ، قال : كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (3) كل ليلة يأتينا بعد العشاء يحدثنا - قال أبو سعيد : قائما على رجليه حتى يراوح بين رجليه من طول القيام - فأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه قريش ، ثم يقول : لا سواء (4) وكنا مستضعفين مستذلين - قال مُسدَّد : بمكة - فلما خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب بيننا وبينهم ، ندال عليهم ويدالون علينا. فلما كانت ليلة أبطأ (5) عن الوقت الذي كان يأتينا فيه ، فقلنا : لقد أبطأت عنا (6) الليلة! قال : "إنه طرأ علي حزبي من القرآن ، فكرهت أن أجيء حتى أتمه". قال أوس : سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف تحزبون القرآن ؟ فقالوا : ثلاث ، وخمس ، وسبع ، وتسع ، وإحدى عشرة ، وثلاث عشرة ، وحزب المفصل وحده.
ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن أبي خالد الأحمر ، به. ورواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن عبد الله بن عبد الرحمن ، هو ابن (7) يعلى الطائفي به (8).
إذا علم هذا ، فإذا عددت ثمانيا وأربعين سورة ، فالتي بعدهن سورة "ق". بيانه : ثلاث : البقرة ، وآل عمران ، والنساء. وخمس : المائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، وبراءة. وسبع : يونس ، وهود ، ويوسف ، والرعد ، وإبراهيم ، والحجر ، والنحل. وتسع : سبحان ، والكهف ، ومريم ، وطه ، والأنبياء ، والحج ، والمؤمنون ، والنور ، والفرقان. وإحدى عشرة : الشعراء ، والنمل ، والقصص ، والعنكبوت ، والروم ، ولقمان ، والم ، السجدة ، والأحزاب ، وسبأ ، وفاطر ، و يس. وثلاث عشرة : الصافات ، وص ، والزمر ، وغافر ، و حم ، السجدة ، وحم عسق ، والزخرف ، والدخان ، والجاثية ،
__________
(1) في م ، أ : "العوام".
(2) في أ : "المفسرين".
(3) زيادة من م ، أ.
(4) في م ، أ : "لا أساء".
(5) في م : "أبطأ علينا".
(6) في أ : "علينا".
(7) في أ : "أبو".
(8) سنن أبي داود برقم (1393) وسنن ابن ماجه برقم (1345) ، والمسند (4/9).

(7/392)


ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)

والأحقاف ، والقتال ، والفتح ، والحجرات. ثم بعد ذلك الحزب المفصل كما قاله الصحابة ، رضي الله عنهم. فتعين أن أوله سورة "ق" وهو الذي قلناه (1) ، ولله الحمد والمنة.
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا مالك ، عن ضَمْرة بن سعيد ، عن عُبَيد الله (2) بن عبد الله ؛ أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيد ؟ قال : بقاف ، واقتربت.
ورواه مسلم وأهل السنن الأربعة ، من حديث مالك ، به (3). وفي رواية لمسلم عن فليح (4) عن ضمرة ، عن عبيد الله (5) ، عن أبي واقد قال : سألني عمر ، فذكره (6).
حديث آخر : وقال أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، حدثني عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد (7) بن زُرَارة ، عن أم هشام بنت حارثة قالت : لقد كان تَنُّورنا وتنور النبي صلى الله عليه وسلم واحدا سنتين ، أو سنة وبعض سنة ، وما أخذت { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } إلا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس.
رواه مسلم [أيضا] (8) من حديث ابن إسحاق ، به (9).
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن خبيب (10) ، عن عبد الله بن محمد بن معن ، عن ابنة الحارث بن النعمان قالت : ما حفظت "ق" إلا من فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يخطب بها كل جمعة. قالت : وكان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدًا.
وكذا رواه مسلم والنسائي وابن ماجه ، من حديث شعبة ، به (11).
والقصد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار ، كالعيد والجمع ، لاشتمالها على ابتداء الخلق والبعث والنشور ، والمعاد والقيام ، والحساب ، والجنة والنار ، والثواب والعقاب ، والترغيب والترهيب.
{ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) }
__________
(1) في أ : "قدمناه".
(2) في م : "عبد الله".
(3) المسند (5/217) وصحيح مسلم برقم (891) ، وسنن أبي داود برقم (1154) وسنن الترمذي برقم (534) وسنن النسائي (3/183) وسنن ابن ماجه برقم (1282).
(4) في م ، أ : "مالك".
(5) في م : "عبد الله".
(6) صحيح مسلم برقم (891).
(7) في م ، أ : "أسعد".
(8) زيادة من م.
(9) المسند (6/435) وصحيح مسلم برقم (873).
(10) في م ، أ : "حبيب".
(11) سنن أبي داود برقم (1100) وصحيح مسلم برقم (873) وسنن النسائي (2/157) لكنه ليس من هذا الطريق.

(7/393)


{ ق } : حرف من حروف الهجاء المذكورة (1) في أوائل السور ، كقوله : (ص ، ن ، الم ، حم ، طس) ونحو ذلك ، قاله مجاهد وغيره. وقد أسلفنا الكلام عليها ، في أول "سورة البقرة" بما أغنى عن إعادته.
وقد روي عن بعض السلف أنهم قالوا { ق } : جبل محيط بجميع الأرض ، يقال له جبل قاف. وكأن هذا - والله أعلم - من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس ، لما رأى من جواز الرواية عنهم فيما (2) لا يصدق ولا يكذب. وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم ، يلبسون به على الناس أمر دينهم ، كما افترى في هذه الأمة - مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها - أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وما بالعهد من قدم ، فكيف بأمة بني إسرائيل مع طول المدى ، وقلة الحفاظ النقاد فيهم ، وشربهم الخمور (3) ، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه ، وتبديل كتب الله وآياته! وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله : "وحدثوا عن بني إسرائيل ، ولا حرج" فيما قد يجوزه العقل ، فأما فيما تُحيله العقول ويحكم عليه بالبطلان ، ويغلب على الظنون كذبه ، فليس من هذا القبيل - والله أعلم.
وقد أكثر كثير من السلف من المفسرين ، وكذا طائفة كثيرة من الخلف ، من الحكاية عن كتب أهل الكتاب في تفسير القرآن المجيد ، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم ، ولله الحمد والمنة ، حتى إن الإمام أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي ، رحمه الله ، أورد هاهنا أثرا غريبا لا يصح سنده عن ابن عباس فقال :
حدثنا أبي قال : حدثت عن محمد بن إسماعيل المخزومي : حدثنا ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : خلق الله من وراء هذه الأرض بحرًا محيطًا ، ثم خلق من وراء ذلك جبلا يقال له "ق" السماء الدنيا مرفوعة عليه. ثم خلق الله من وراء ذلك الجبل أرضا مثل تلك الأرض سبع مرات. ثم خلق من وراء ذلك بحرا محيطًا بها ، ثم خلق من وراء ذلك جبلا يقال له "ق" السماء الثانية مرفوعة عليه ، حتى عد سبع أرضين ، وسبعة أبحر ، وسبعة أجبل ، وسبع سموات. قال : وذلك قوله : { وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ } [لقمان : 27].
فإسناد هذا الأثر فيه انقطاع ، والذي رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { ق } قال : هو اسم من أسماء الله ، عز وجل.
والذي ثبت عن مجاهد : أنه حرف من حروف الهجاء ، كقوله : (ص ، ن ، حم ، طس ، الم) ونحو ذلك. فهذه تُبْعِد ما تقدم عن ابن عباس.
وقيل : المراد "قضِي الأمر واللهِ" ، وأن قوله : { ق } دلت على المحذوف من بقية الكلم (4) كقول
__________
(1) في م : "الذي تقدم ذكرها".
(2) في م : "مما".
(3) في أ : "الخمر".
(4) في م ، أ : "الكلمة".

(7/394)


الشاعر : قلت لها : قفي فقلت : قاف...
وفي هذا التفسير نظر ؛ لأن الحذف في الكلام إنما يكون إذا دل دليل عليه ، ومن أين يفهم هذا من ذكر هذا الحرف ؟.
وقوله : { وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } أي : الكريم العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد.
واختلفوا في جواب القسم ما هو ؟ فحكى ابن جرير عن بعض النحاة أنه قوله : { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ }
وفي هذا نظر ، بل الجواب هو مضمون الكلام بعد القسم ، وهو إثبات النبوة ، وإثبات المعاد ، وتقريره وتحقيقه وإن لم يكن القسم متلقى لفظًا ، وهذا كثير في أقسام القرآن كما تقدم في قوله : { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } [ ص : 1 ، 2 ] ، وهكذا قال هاهنا : { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } أي : تعجبوا من إرسال رسول إليهم من البشر كقوله تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ } [ يونس : 2 ] أي : وليس هذا بعجيب ؛ فإن الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس.
ثم قال مخبرًا عنهم في عجبهم أيضًا من المعاد واستبعادهم لوقوعه : { أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } أي : يقولون : أإذا متنا وبلينا ، وتقطعت الأوصال منا ، وصرنا ترابا ، كيف يمكن الرجوع بعد ذلك إلى هذه البنية والتركيب ؟ { ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } أي : بعيد الوقوع ، ومعنى هذا : أنهم يعتقدون استحالته وعدم إمكانه.
قال الله تعالى رادًا عليهم : { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ } أي : ما تأكل من أجسادهم في البلى ، نعلم ذلك ولا يخفى علينا أين تفرقت الأبدان ؟ وأين ذهبت ؟ وإلى أين صارت ؟ { وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } أي : حافظ لذلك ، فالعلم شامل ، والكتاب أيضًا فيه كل الأشياء مضبوطة.
قال العوْفِي ، عن ابن عباس في قوله : { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ } أي : ما تأكل من لحومهم وأبشارهم ، وعظامهم وأشعارهم. وكذا قال مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وغيرهم.
ثم بين تعالى سبب كفرهم وعنادهم واستبعادهم ما ليس ببعيد فقال : { بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ } أي : وهذا حال كل من خرج عن الحق ، مهما قال بعد ذلك فهو باطل. والمريج : المختلف المضطرب الملتبس المنكر خلاله ، كقوله : { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } [ الذاريات : 8 ، 9 ].

(7/395)


أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)

{ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) }
يقول تعالى منبها للعباد على قدرته العظيمة التي أظهر بها ما هو أعظم مما تعجبوا مستبعدين لوقوعه : { أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا } ؟ أي : بالمصابيح ، { وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ }. قال مجاهد : يعني من شقوق. وقال غيره : فتوق. وقال غيره : من صدوع. والمعنى متقارب ، كقوله تعالى : { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ } [ الملك : 3 ، 4 ] أي : كليل ، أي : عن أن يرى عيبًا أو نقصًا.
وقوله : { وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا } أي : وسعناها وفرشناها ، { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } وهي : الجبال ؛ لئلا تميد بأهلها وتضطرب ؛ فإنها مُقَرة على تيار الماء المحيط بها من جميع جوانبها ، { وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } أي : من جميع الزروع والثمار والنبات والأنواع ، { وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ الذاريات : 49 ] ، وقوله : { بهيج } أي : حسن نضر.
{ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } أي : ومشاهدة خلق السموات [والأرض] (1) وما جعل [الله] (2) فيهما من الآيات العظيمة تبصرة ودلالة وذكرى لكل عبد منيب ، أي : خاضع خائف وجل رَجَّاع إلى الله عز وجل.
وقوله تعالى : { وَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا } أي : نافعًا ، { فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ } أي : حدائق من بساتين ونحوها ، { وَحَبَّ الْحَصِيدِ } وهو : الزرع الذي يراد لحبه وادخاره.
{ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ } أي : طوالا شاهقات. وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، وغيرهم : الباسقات الطوال. { لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ } أي : منضود. { رِزْقًا لِلْعِبَادِ } أي : للخلق ، { وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا } وهي : الأرض التي كانت هامدة ، فلما نزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ، من أزاهير وغير ذلك ، مما يحار الطرف في (3) حسنها ، وذلك بعد ما كانت لا نبات بها ، فأصبحت تهتز خضراء ، فهذا مثال للبعث بعد الموت والهلاك ، كذلك يحيي الله الموتى. وهذا المشاهد من عظيم قدرته بالحس أعظم مما أنكره الجاحدون للبعث (4) كقوله تعالى : { لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [ غافر : 57 ] ، وقوله : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الأحقاف : 33 ] ، وقال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً (5) فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ فصلت : 39 ].
__________
(1) زيادة من م ، أ.
(2) زيادة من أ.
(3) في م : "من".
(4) في م ، أ : "البعث".
(5) في م : "هامدة" وهو خطأ.

(7/396)


كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)

{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) }
يقول تعالى متهددا لكفار قريش بما أحله بأشباههم ونظرائهم وأمثالهم من المكذبين قبلهم ، من النقمات والعذاب الأليم في الدنيا ، كقوم نوح وما عذبهم الله به من الغرق العام (1) لجميع أهل الأرض ، وأصحاب الرس وقد تقدمت قصتهم في سورة "الفرقان" (2) { وَثَمُودُ. وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ } ، وهم أمته الذين بعث إليهم من أهل سدوم ومعاملتها من الغور ، وكيف خسف الله بهم الأرض ، وأحال أرضهم بحيرة منتنة خبيثة ؛ بكفرهم وطغيانهم ومخالفتهم الحق.
{ وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ } وهم قوم شعيب عليه السلام ، { وَقَوْمُ تُبَّعٍ } وهو اليماني. وقد ذكرنا من شأنه في سورة الدخان ما أغنى عن إعادته هاهنا ولله الحمد.
{ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ } أي : كل من هذه الأمم وهؤلاء القرون كذب رسوله (3) ، ومن كذب رسولا (4) فكأنما كذب جميع الرسل ، كقوله : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } [ الشعراء : 105 ] ، وإنما جاءهم رسول واحد ، فهم في نفس الأمر لو جاءهم جميع الرسل كذبوهم ، { فَحَقَّ وَعِيدِ } أي : فحق عليهم ما أوعدهم الله ، على التكذيب من العذاب والنكال فليحذر المخاطبون أن يصيبهم ما أصابهم فإنهم قد كذبوا رسولهم كما كذب أولئك.
وقوله : { أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ } أي : أفأعجزنا (5) ابتداء الخلق حتى هم في شك من الإعادة ، { بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } والمعنى : أن ابتداء الخلق لم يعجزنا والإعادة أسهل منه ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] ، وقال الله تعالى : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [ يس : 78 - 79] ، وقد تقدم في الصحيح : "يقول الله تعالى : يؤذيني ابن آدم ، يقول : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته" (6).
__________
(1) في م : "العظيم".
(2) تقدم ذلك في سورة الفرقان عند الآية رقم (38).
(3) في أ : "رسولهم".
(4) في م : "برسول".
(5) في م : "فأعجزنا".
(6) صحيح البخاري برقم (4974) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(7/397)


وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)

{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) }

(7/397)


يخبر تعالى عن قدرته على الإنسان بأنه خالقه ، وعمله محيط بجميع أموره ، حتى إنه تعالى يعلم ما توسوس به نفوس بني آدم من الخير والشر. وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن الله (1) تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل" (2).
وقوله : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } يعني : ملائكته تعالى أقربُ إلى الإنسان من حبل وريده (3) إليه. ومن تأوله على العلم فإنما فر لئلا يلزم حلول أو اتحاد ، وهما منفيان بالإجماع ، تعالى الله وتقدس ، ولكن اللفظ لا يقتضيه فإنه لم يقل : وأنا أقرب إليه من حبل الوريد ، وإنما قال : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } كما قال في المحتضر : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ } [ الواقعة : 85 ] ، يعني ملائكته. وكما قال [تعالى] (4) : { إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] ، فالملائكة نزلت بالذكر - وهو القرآن - بإذن الله ، عز وجل. وكذلك (5) الملائكة أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه بإقدار (6) الله لهم على ذلك ، فالملك لَمّة في الإنسان كما أن للشيطان لمة وكذلك : "الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" ، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق ؛ ولهذا قال هاهنا : { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ } يعني : الملكين اللذين يكتبان عمل الإنسان. { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ } أي : مترصد (7).
{ مَا يَلْفِظُ } أي : ابن آدم { مِنْ قَوْلٍ } أي : ما يتكلم بكلمة (8) { إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } أي : إلا ولها من يراقبها معتد (9) لذلك يكتبها ، لا يترك كلمة ولا حركة ، كما قال تعالى : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [ الانفطار : 10 - 12 ].
وقد اختلف العلماء : هل يكتب الملك كل شيء من الكلام ؟ وهو قول الحسن وقتادة ، أو إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب كما هو قول ابن عباس ، على قولين ، وظاهر الآية الأول ، لعموم قوله : { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة الليثي ، عن أبيه ، عن جده علقمة ، عن بلال بن الحارث المزني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت ، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه (10). وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت ، يكتب الله عليه بها (11) سخطه إلى يوم يلقاه". قال : فكان علقمة يقول : كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث.
ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه ، من حديث محمد بن عمرو به (12). وقال الترمذي : حسن
__________
(1) في أ : "إن الله تعالى".
(2) صحيح البخاري برقم (5269) وصحيح مسلم برقم (127).
(3) في أ : "الوريد".
(4) زيادة من م ، أ.
(5) في أ : "ولذلك".
(6) في م : "باقتدار".
(7) في م : "مرصد".
(8) في م : "بكلام".
(9) في م : "معد".
(10) في أ : "القيامة".
(11) في م : "له بها عليه".
(12) المسند (3/469) وسنن الترمذي برقم (2319) والنسائي في السنن الكبرى ، كما في تحفة الأشراف (2/103) وسنن ابن ماجه برقم (3969).

(7/398)


صحيح. وله شاهد (1) في الصحيح (2).
وقال الأحنف بن قيس : صاحب اليمين يكتب الخير ، وهو أمير على صاحب الشمال ، فإن أصاب العبد خطيئة قال له : أمسك ، فإن استغفر الله تعالى نهاه أن يكتبها ، وإن أبى كتبها. رواه ابن أبي حاتم.
وقال الحسن البصري وتلا هذه الآية : { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ } : يا ابن آدم ، بُسطت لك صحيفة ، ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك ، والآخر عن شمالك ، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك ، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك فاعمل (3) ما شئت ، أقلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك ، وجعلت في عنقك معك في قبرك ، حتى تخرج يوم القيامة ، فعند ذلك يقول : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } [ الإسراء : 13 ، 14 ] ثم يقول : عدل - والله - فيك من جعلك حسيب نفسك.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } قال : يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر ، حتى إنه ليكتب قوله : "أكلت ، شربت ، ذهبت ، جئت ، رأيت" ، حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله ، فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر ، وألقى سائره ، وذلك قوله : { يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } [ الرعد : 39 ] ، وذكر عن الإمام أحمد أنه كان يئن في مرضه ، فبلغه عن طاوس أنه قال : يكتب الملك كل شيء حتى الأنين. فلم يئن أحمد حتى مات رحمه الله (4).
وقوله : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } ، يقول تعالى : وجاءت - أيها الإنسان - سكرة الموت بالحق ، أي : كشفت لك عن اليقين الذي كنت تمتري فيه ، { ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } أي : هذا هو الذي كنت تفر منه قد جاءك ، فلا محيد ولا مناص ، ولا فكاك ولا خلاص.
وقد اختلف المفسرون في المخاطب بقوله : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } ، فالصحيح أن المخاطب بذلك الإنسان من حيث هو. وقيل : الكافر ، وقيل : غير ذلك.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا إبراهيم بن زياد - سَبَلان - أخبرنا عَبَّاد بن عَبَّاد عن محمد بن عمرو بن علقمة ، عن أبيه عن جده علقمة بن وقاص (5) أن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : حضرت أبي وهو يموت ، وأنا جالسة عند رأسه ، فأخذته غشيةٌ فتمثلت ببيت من الشعر :
من لا يزال دمعه مُقَنَّعا... فإنه لا بد مرةً (6) مدقوق (7)
__________
(1) في أ : "شواهد".
(2) شاهده حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه البخاري في صحيحه برقم (6478).
(3) في أ : "فاملل".
(4) رواه صالح بن الإمام أحمد في سيرة أبيه.
(5) في أ : "أبي وقاص" وهو خطأ. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب.
(6) في أ : "من دمعه".
(7) البيت في النهاية لابن الأثير (4/115) وعنده : لا بد يوما أن يهراق.

(7/399)


قالت : فرفع رأسه فقال : يا بنية ، ليس كذلك ولكن كما قال تعالى : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ }.
وحدثنا (1) خلف بن هشام ؛ حدثنا أبو شهاب [الخياط] (2) ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن البهي قال : لما أن ثقل أبو بكر (3) ، رضي الله عنه ، جاءت عائشة ، رضي الله عنها ، فتمثلت بهذا البيت :
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر (4)
فكشف عن وجهه وقال : ليس كذلك ، ولكن قولي : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } وقد أوردت لهذا الأثر طرقا [كثيرة] (5) في سيرة الصديق عند ذكر وفاته ، رضي الله عنه.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول : "سبحان الله! إن للموت لسكرات". وفي قوله : { ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } قولان :
أحدهما : أن "ما" هاهنا موصولة ، أي : الذي كنت منه تحيد - بمعنى : تبتعد وتنأى وتفر - قد حل بك ونزل بساحتك.
والقول الثاني : أن "ما" نافية بمعنى : ذلك ما كنت تقدر على الفرار منه ولا الحيد عنه.
وقد قال الطبراني في المعجم الكبير : حدثنا محمد بن علي الصائغ المكي ، حدثنا حفص بن عمر الحدي ، حدثنا معاذ بن محمد الهُذَلي ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، عن سَمُرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مثل الذي يفر من الموت مثل الثعلب ، تطلبه الأرض بدَيْن ، فجاء يسعى حتى إذا أعيى وأسهر دخل جحره ، فقالت له الأرض : يا ثعلب ، ديني. فخرج وله حصاص ، فلم يزل كذلك حتى تقطعت عنقه ومات" (6).
ومضمون هذا المثل : كما لا انفكاك له ولا محيد عن الأرض كذلك الإنسان لا محيد له عن الموت.
وقوله : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ }. قد تقدم الكلام على حديث النفخ في الصور والفزع والصعق والبعث (7) ، وذلك يوم القيامة. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته ، وانتظر أن يؤذن له". قالوا : يا رسول الله كيف نقول ؟ قال : "قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل". فقال القوم : حسبنا الله ونعم الوكيل.
__________
(1) في أ : "وحديث".
(2) زيادة من م ، أ.
(3) في م : "أبا بكر".
(4) البيت لحاتم الطائي وهو في ديوانه ص (50) أ. هـ مستفادا من طبعة الشعب.
(5) زيادة من م ، أ.
(6) المعجم الكبير (7/222) وقال الهيثمي في المجمع (2/320) : "فيه معاذ بن محمد الهذلي ، قال العقيلي : لا يتابع على رفع حديثه".
(7) في م : "للفزع وللصعق وللبعث".

(7/400)


{ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } أي : ملك يسوقه إلى المحشر ، وملك يشهد عليه بأعماله. هذا هو الظاهر من الآية الكريمة. وهو اختيار ابن جرير ، ثم روي من حديث إسماعيل بن أبى خالد عن يحيى بن رافع - مولى لثقيف - قال : سمعت عثمان بن عفان يخطب (1) ، فقرأ هذه الآية : { وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } ، فقال : سائق يسوقها إلى الله ، وشاهد يشهد عليها بما عملت. وكذا قال مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد.
وقال مُطَرِّف ، عن أبي جعفر - مولى أشجع - عن أبي هريرة : السائق : الملك والشهيد : العمل. وكذا قال الضحاك والسدي.
وقال العَوْفي عن ابن عباس : السائق من الملائكة ، والشهيد : الإنسان نفسه ، يشهد على نفسه. وبه قال الضحاك بن مُزاحِم أيضا.
وحكى ابن جرير ثلاثة أقوال في المراد بهذا الخطاب في قوله : { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ }
أحدها : أن المراد بذلك الكافر. رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس. وبه يقول الضحاك بن مزاحم وصالح بن كيسان.
والثاني : أن المراد بذلك كل أحد من بر وفاجر ؛ لأن الآخرة بالنسبة إلى الدنيا كاليقظة والدنيا كالمنام. وهذا اختيار ابن جرير ، ونقله عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس.
والثالث : أن المخاطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. وبه يقول زيد بن أسلم ، وابنه. والمعنى على قولهما : لقد كنت في غفلة من هذا الشأن (2) قبل أن يوحى إليك ، فكشفنا عنك غطاءك بإنزاله إليك ، فبصرك اليوم حديد.
والظاهر من السياق خلاف هذا ، بل الخطاب مع الإنسان من حيث هو ، والمراد بقوله : { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا } يعني : من هذا اليوم ، { فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } أي : قوي ؛ لأن كل واحد يوم القيامة يكون مستبصرا ، حتى الكفار في الدنيا يكونون يوم القيامة على الاستقامة ، لكن لا ينفعهم ذلك. قال الله تعالى : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [ مريم : 38 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } [ السجدة : 12].
__________
(1) في م : "خطب".
(2) في أ : "القرآن".

(7/401)


وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)

{ وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (29) }
يقول تعالى مخبرًا عن الملك الموكل بعمل ابن آدم : أنه يشهد عليه يوم القيامة بما فعل (1) ويقول : { هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } أي : معتد (2) محضر (3) بلا زيادة ولا نقصان.
وقال مجاهد : هذا كلام الملك السائق يقول : هذا ابن آدم الذي وكلتني به ، قد أحضرته.
وقد اختار ابن جرير أن يعم السائق والشهيد ، وله اتجاه وقوة.
فعند ذلك يحكم الله ، سبحانه تعالى ، في الخليقة بالعدل فيقول : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ }
وقد اختلف النحاة في قوله : { ألقيا } فقال بعضهم : هي لغة لبعض العرب يخاطبون المفرد بالتثنية ، كما روي عن الحجاج أنه كان يقول : يا حرسي ، اضربا عنقه ، ومما أنشد ابن جرير على هذه اللغة قول الشاعر :
فإن تزجراني - يا ابن عفان - أنزجر... وإن تتركاني أحم عرضا ممنعا (4)
وقيل : بل هي نون التأكيد ، سهلت إلى الألف. وهذا بعيد ؛ لأن هذا إنما يكون في الوقف ، والظاهر أنها مخاطبة مع السائق والشهيد ، فالسائق أحضره إلى عرصة الحساب ، فلما أدى الشهيد عليه ، أمرهما الله تعالى بإلقائه في نار جهنم وبئس المصير.
{ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } أي : كثير الكفر والتكذيب بالحق ، { عنيد } : معاند للحق ، معارض له بالباطل مع علمه بذلك. { مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ } أي : لا يؤدي ما عليه من الحقوق ، ولا بر فيه ولا صلة ولا صدقة ، { معتد } أي : فيما ينفقه ويصرفه ، يتجاوز فيه الحد.
وقال قتادة : معتد في منطقه وسيرته وأمره.
{ مريب } أي : شاك في أمره ، مريب لمن نظر في أمره.
{ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } أي : أشرك بالله فعبد معه غيره ، { فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ }. وقد تقدم في الحديث : أن عنقًا من النار يبرز للخلائق فينادي بصوت يسمع الخلائق : إني وكلت بثلاثة ، بكل جبار ، ومن جعل مع الله إلها آخر ، وبالمصورين ثم تلوى (5) عليهم.
قال الإمام أحمد : حدثنا معاوية - هو ابن هشام - حدثنا شيبان ، عن فِراس عن عطية (6) ، عن أبي سعيد الخدري عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "يخرج عنق من النار يتكلم ، يقول : وكلت اليوم بثلاثة :
__________
(1) في أ : "بما عمل".
(2) في م ، أ : "معد".
(3) في أ : "محص".
(4) تفسير الطبري (26/103).
(5) في م ، أ : "تنطوي".
(6) في م : "حدثنا شيبان هو ابن هشام عن فراس عن عطية".

(7/402)


يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)

بكل جبار ، ومن جعل مع الله إلها آخر ، ومن قتل نفسا بغير نفس (1). فتنطوي عليهم ، فتقذفهم في غمرات جهنم" (2).
{ قَالَ قَرِينُهُ } : قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وغيرهم : هو الشيطان الذي وكل به : { رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ } أي : يقول عن الإنسان الذي قد وافى القيامة كافرًا ، يتبرأ منه شيطانه ، فيقول : { رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ } أي : ما أضللته ، { وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ } أي : بل كان هو في نفسه ضالا قابلا للباطل معاندًا للحق. كما أخبر تعالى في الآية الأخرى في قوله : { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ إبراهيم : 22 ].
وقوله : { قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ } يقول (3) الرب عز وجل للإنسي وقرينه من الجن ، وذلك أنهما يختصمان بين يدي الحق فيقول الإنسي : يا رب ، هذا أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني. ويقول الشيطان : { رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ } أي : عن منهج الحق. فيقول الرب عز وجل لهما : { لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ } أي : عندي ، { وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ } أي : قد أعذرت إليكم على ألسنة الرسل ، وأنزلت الكتب ، وقامت عليكم الحجج والبينات والبراهين.
{ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ } قال مجاهد : يعني قد قضيت ما أنا قاض ، { وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ } أي : لست أعذب أحدا بذنب أحد ، ولكن لا أعذب أحدًا إلا بذنبه ، بعد قيام الحجة عليه.
{ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) }
يخبر تعالى أنه يقول لجهنم يوم القيامة : هل امتلأت ؟ وذلك أنه وعدها أن سيملؤها من الجنة والناس أجمعين ، فهو سبحانه يأمر بمن (4) يأمر به إليها ، ويلقى وهي تقول : { هَلْ مِنْ مَزِيدٍ } أي : هل بقي شيء تزيدوني ؟ هذا هو الظاهر من سياق الآية ، وعليه تدل الأحاديث :
قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا عبد الله بن أبي الأسود ، حدثنا حَرَمي بن عُمَارة حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يُلقَى في النار ، وتقول : هل من مزيد ، حتى يضع قدمه فيها ، فتقول قط قط" (5).
__________
(1) في م : "حق".
(2) المسند (3/40).
(3) في م : "يقوله".
(4) في م : "من".
(5) صحيح البخاري برقم (4848).

(7/403)


وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول : هل من مزيد ؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه ، فينزوي بعضها إلى بعض ، وتقول : قط قط ، وعزتك وكَرَمِك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا آخر فيسكنهم في فضول (1) الجنة" (2).
ثم رواه مسلم من حديث قتادة ، بنحوه (3). ورواه أبان العطار وسليمان التيمي ، عن قتادة ، بنحوه (4).
حديث آخر : قال (5) البخاري : حدثنا محمد بن موسى القطان ، حدثنا أبو سفيان الحميري سعيد بن يحيى بن مهدي ، حدثنا عَوْف ، عن محمد عن أبي هريرة - رفعه ، وأكثر ما كان يوقفه أبو سفيان - : "يقال لجهنم : هل امتلأت ، وتقول : هل من مزيد ، فيضع الرب ، عز وجل ، قدمه عليها (6) ، فتقول : قط قط" (7).
رواه أيوب وهشام بن حسان عن محمد بن سيرين ، به (8).
طريق أخرى : قال (9) البخاري : وحدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن همام (10) عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "تحاجت الجنة والنار ، فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم. قال الله ، عز وجل ، للجنة : أنت رحمتي ، أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار : إنما أنت عذابي ، أعذب بك من أشاء من عبادي ، ولكل واحدة منكما ملؤها ، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله ، فتقول : قط قط ، فهنالك تمتلئ ويزوي (11) بعضها إلى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحدا ، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا آخر" (12).
حديث آخر : قال (13) مسلم في صحيحه : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "احتجت الجنة والنار ، فقالت النار : فيَّ الجبارون والمتكبرون. وقالت الجنة : فيَّ ضعفاء الناس ومساكينهم. فقضى بينهما ، فقال للجنة : إنما أنت رحمتي ، أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار : إنما أنت عذابي ، أعذب بك من
__________
(1) في أ : "فضل".
(2) المسند (3/234).
(3) صحيح مسلم برقم (4848).
(4) أخرجه الطبري في تفسيره (26/106).
(5) في م : "وقال".
(6) في م : "عليها قدمه".
(7) صحيح البخاري برقم (4849).
(8) رواه احمد في مسنده (2/507) من طريق هشام بن حسان به. ورواه الطبري في تفسيره (26/107) من طريق أيوب وهشام بن حسان به.
(9) في م : "وقال".
(10) في م : "همام بن منبه".
(11) في أ : "ينزوي".
(12) صحيح البخاري برقم (4850).
(13) في م : "وقال".

(7/404)


أشاء من عبادي ، ولكل واحدة منكما ملؤها" انفرد به مسلم دون البخاري (1) من هذا الوجه. والله ، سبحانه وتعالى ، أعلم.
وقد رواه الإمام أحمد من طريق أخرى ، عن أبي سعيد بأبسط من هذا السياق فقال :
حدثنا حسن وروح قالا حدثنا حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن أبي سعيد الخدري ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "افتخرت الجنة والنار ، فقالت النار : يا رب ، يدخلني الجبابرة والمتكبرون والملوك والأشراف. وقالت الجنة : أي رب ، يدخلني الضعفاء والفقراء والمساكين. فيقول الله ، عز وجل ، للنار : أنت عذابي ، أصيب بك من أشاء. وقال للجنة : أنت رحمتي ، وسعت كل شيء ، ولكل واحدة منكما ملؤها ، فيلقى في النار أهلها فتقول : هل من مزيد ؟ قال : ويلقى فيها وتقول : هل من مزيد ؟ ويلقى فيها وتقول : هل من مزيد ؟ حتى يأتيها (2) عز وجل ، فيضع قدمه عليها ، فتزوي وتقول : قدني ، قدني. وأما الجنة فيبقى فيها ما شاء الله أن يبقى ، فينشئ الله لها خلقا ما يشاء" (3).
حديث آخر : وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثنا عقبة بن مُكْرَم ، حدثنا يونس ، حدثنا عبد الغفار بن القاسم ، عن عُدي بن ثابت ، عن زِرِّ بن حُبَيْش ، عن أبي بن كعب ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يعرفني الله ، عز وجل ، نفسه يوم القيامة ، فأسجد سجدة يرضى بها عني ، ثم أمدحه مدحة يرضى بها عني ، ثم يؤذن لي في الكلام ، ثم تمر أمتي على الصراط - مضروب بين ظهراني جهنم - فيمرون أسرع من الطرف والسهم ، وأسرع من أجود الخيل ، حتى يخرج الرجل منها يحبو ، وهي الأعمال. وجهنم تسأل المزيد ، حتى يضع فيها قدمه ، فينزوي بعضها إلى بعض وتقول : قط قط! وأنا على الحوض". قيل : وما الحوض يا رسول الله ؟ قال : "والذي نفسي بيده ، إن شرابه أبيض من اللبن ، وأحلى من العسل ، وأبرد من الثلج ، وأطيب ريحا من المسك. وآنيته أكثر من عدد النجوم ، لا يشرب منه إنسان فيظمأ أبدا ، ولا يصرف فيروى أبدا" (4). وهذا القول هو اختيار ابن جرير.
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو يحيى الحمَّاني (5) عن نضر الخزاز ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ } قال : ما امتلأت ، قال : تقول : وهل في من مكان يزاد في.
وكذا روى الحكم بن أبان عن عكرمة : { وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ } : وهل في مدخل واحد ، قد
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2847).
(2) في م : "يأتيها ربها".
(3) المسند (3/13).
(4) ورواه ابن أبي عاصم في السنة برقم (790) من طريق عقبة بن مكرم به.
وقال الألباني : "إسناده موضوع آفته عبد الغفار بن القاسم ، وهو أبو مريم الأنصاري كان يضع الحديث كما قال ابن المديني وأبو داود".
(5) في م : "الحمان".

(7/405)


امتلأت.
[و] (1) قال الوليد بن مسلم ، عن يزيد بن أبي مريم أنه سمع مجاهدًا يقول : لا يزال يقذف فيها حتى تقول : قد امتلأت فتقول : هل [فيَّ] (2) من مزيد ؟ وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو هذا.
فعند هؤلاء أن قوله تعالى : { هَلِ امْتَلأتِ } ، إنما هو بعد ما يضع عليها قدمه ، فتنزوي وتقول حينئذ : هل بقي في [من] (3) مزيد ؟ يسع شيئا.
قال العوفي ، عن ابن عباس : وذلك حين لا يبقى فيها موضع [يسع] (4) إبرة. فالله (5) أعلم.
وقوله : { وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } : قال قتادة ، وأبو مالك ، والسدي : { أُزْلِفَتِ } أدنيت وقربت من المتقين ، { غَيْرَ بَعِيدٍ } وذلك يوم القيامة ، وليس ببعيد ؛ لأنه واقع لا محالة ، وكل ما هو آت آت.
{ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ } (6) أي : رجاع تائب مقلع ، { حفيظ } أي : يحفظ العهد فلا ينقضه و[لا] (7) ينكثه.
وقال عبيد بن عمير : الأواب : الحفيظ الذي لا يجلس مجلسًا [فيقوم] (8) حتى يستغفر الله ، عز وجل.
{ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ } أي : من خاف الله في سره حيث لا يراه أحد إلا الله. كقوله [عليه السلام] (9) ورجل ذكر الله خاليا ، ففاضت عيناه".
{ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } أي : ولقي الله يوم القيامة بقلب سليم منيب إليه خاضع لديه.
{ ادْخُلُوهَا } أي : الجنة { بِسَلامٍ } ، قال قتادة : سلموا من عذاب الله ، وسلم عليهم ملائكة الله.
وقوله : { ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ } أي : يخلدون في الجنة فلا يموتون أبدًا ، ولا يظعنون أبدًا ، ولا يبغون عنها حولا.
وقوله : { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا } أي : مهما اختاروا وجدوا من أي أصناف الملاذ طلبوا أحضر لهم.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا عمرو بن عثمان ، حدثنا بَقِيَّة ، عن بَحِير (10) بن سعد ، عن خالد بن مَعْدان ، عن كثير بن مُرَّة قال : من المزيد أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول : ماذا تريدون فأمطره لكم ؟ فلا يدعون بشيء إلا أمطرتهم. قال كثير : لئن أشهدني الله ذلك لأقولن : أمطرينا جواري مزينات.
__________
(1) زيادة من م.
(2) زيادة من م.
(3) زيادة من م.
(4) زيادة من م ، أ.
(5) في م : "والله".
(6) في أ : (أواب حفيظ).
(7) زيادة من م.
(8) زيادة من م ، أ.
(9) زيادة من م ، أ.
(10) في م : "يحيى".

(7/406)


وفي الحديث عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : "إنك لتشتهي الطير في الجنة ، فيخر بين يديك مشويا" (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني أبي عن عامر الأحول ، عن أبي الصديق (2) ، عن أبي سعيد الخدري ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة ، كان حمله ووضعه وسِنّه في ساعة واحدة".
ورواه الترمذي وابن ماجه ، عن بُنْدار ، عن معاذ بن هشام ، به (3) وقال الترمذي : حسن غريب ، وزاد "كما يشتهي".
وقوله : { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } كقوله تعالى : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26]. وقد تقدم في صحيح مسلم عن صُهَيب بن سنان الرومي : أنها النظر إلى وجه الله الكريم. وقد روى البزار وابن أبي حاتم ، من حديث شريك القاضي ، عن عثمان بن عمير أبي اليقظان ، عن أنس بن مالك في قوله عز وجل : { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } قال : يظهر لهم الرب ، عز وجل ، في كل جمعة (4).
وقد رواه الإمام أبو عبد الله الشافعي مرفوعًا فقال في مسنده : أخبرنا إبراهيم بن محمد ، حدثني موسى بن عبيدة ، حدثني أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير (5) أنه سمع أنس بن مالك يقول : أتى جبرائيل بمرآة بيضاء فيها نكتة إلى رسول الله ، فقال النبي (6) صلى الله عليه وسلم : "ما هذه ؟" فقال : هذه الجمعة ، فُضّلتَ بها أنت وأمتك ، فالناس لكم فيها تبع اليهود والنصارى ، ولكم فيها خير ، ولكم فيها ساعة لا يوافقها مؤمن (7) يدعو الله بخير إلا استجيب له ، وهو عندنا يوم المزيد. قال النبي صلى الله عليه وسلم : "يا جبريل ، وما يوم المزيد ؟" قال : إن ربك اتخذ في الفردوس واديا أفيح فيه كثب المسك ، فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله ما شاء (8) من ملائكته ، وحوله منابر من نور ، عليها مقاعد النبيين ، وحف تلك المنابر بمنابر من ذهب ، مكللة بالياقوت والزبرجد ، عليها الشهداء والصديقون (9) فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب ، فيقول الله عز وجل : أنا ربكم ، قد صدقتكم وعدي ، فسلوني أعطكم. فيقولون : ربنا ، نسألك رضوانك ، فيقول : قد رضيت عنكم ، ولكم علي ما تمنيتم ، ولدي مزيد. فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير ، وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش ، وفيه خلق آدم ، وفيه تقوم الساعة".
__________
(1) رواه الحسن بن عرفة في جزئه برقم (22) والبزار في مسنده برقم (3532) "كشف الأستار" وابن عدي في الكامل (6/689) من طريق خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن ابن مسعود مرفوعا به. وفيه حميد الأعرج ، قال البخاري : منكر الحديث وقال ابن حبان : أحاديثه شبه الموضوعة.
(2) في م : "عن أبي بكر الصديق".
(3) المسند (3/9) وسنن الترمذي برقم (2563) وسنن ابن ماجة برقم (4338).
(4) في أ : "جهة".
(5) في م : "عن عبيد الله بن عمير" وفي الأصل : "عبد الله عمير" والتصويب من الأم للشافعي.
(6) في م : "رسول الله".
(7) في أ : "لا يوافقها عبد مؤمن".
(8) في م : "ناسا".
(9) في أ : "الصالحون".

(7/407)


[و] (1) هكذا أورده الإمام الشافعي في كتاب "الجمعة" من الأم (2) ، وله طرق عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه. وقد أورد ابن جرير هذا من رواية عثمان بن عمير ، عن أنس بأبسط من هذا (3) وذكر هاهنا أثرًا مطولا عن أنس بن مالك موقوفًا وفيه غرائب كثيرة (4).
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا دَراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الرجل في الجنة ليتكئ في الجنة سبعين سنة قبل أن يتحول ثم تأتيه امرأة فتضرب على منكبه (5) فينظر وجهه في خدها أصفى من المرآة ، وإن أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب. فتسلم عليه ، فيرد السلام ، فيسألها : من أنت ؟ فتقول : أنا من المزيد. وإنه ليكون عليها سبعون حلة ، أدناها مثل النعمان ، من طوبى ، فينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك ، وإن عليها من التيجان ، إن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب" (6).
وهكذا رواه عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن دراج ، به (7).
__________
(1) زيادة من م.
(2) الأم (1/185).
(3) تفسير الطبري (26/109).
(4) تفسير الطبري (26/109).
(5) في أ : "منكبيه".
(6) المسند (3/75) وفيه : دراج عن أبي الهيثم ، ضعيف.
(7) رواه الطبري في تفسيره (26/110) والكلام عليه كسابقه.

(7/408)


وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)

{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) }
يقول تعالى : وكم أهلكنا قبل هؤلاء المنكرين (1) : { مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا } أي : كانوا أكثر منهم وأشد قوة ، وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها ؛ ولهذا قال هاهنا : { فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ } قال ابن عباس : أثروا فيها. وقال مجاهد : { فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ } : ضربوا في الأرض. وقال قتادة : فساروا في البلاد ، أي ساروا فيها يبتغون الأرزاق والمتاجر والمكاسب أكثر مما طفتم أنتم فيها ويقال لمن طوف في البلاد : نقب فيها. قال امرؤ القيس :
لقد نَقَّبْتُ في الآفاق حَتّى... رضيتُ من الغَنِيمة بالإيَابِ (2)
__________
(1) في م ، أ : "المكذبين".
(2) البيت في تفسير الطبري (26/110).

(7/408)


وقوله : { هَلْ مِنْ مَحِيصٍ } أي : هل من مفر كان لهم من قضاء الله وقدره ؟ وهل نفعهم ما جمعوه ورد عنهم عذاب الله إذ جاءهم لما كذبوا الرسل ؟ فأنتم أيضًا لا مفر لكم ولا محيد ولا مناص ولا محيص.
وقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى } أي : لعبرة { لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ } أي : لُبٌّ يَعِي به. وقال مجاهد : عقل { أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } أي : استمع الكلام فوعاه ، وتعقله بقلبه وتفهمه بلبه.
وقال مجاهد : { أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ } يعني : لا يحدث نفسه بغيره ، { وَهُوَ شَهِيدٌ } وقال : شاهد بالقلب (1).
وقال الضحاك : العرب تقول : ألقى فلان سمعه : إذا استمع بأذنيه وهو شاهد يقول غير غائب. وهكذا قال الثوري وغير واحد.
وقوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ } : فيه تقرير المعاد ؛ لأن من قدر على خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن ، قادر على أن يحيي الموتى بطريق الأولى والأحرى.
وقال قتادة : قالت اليهود - عليهم لعائن الله - : خلق الله السموات والأرض في ستة أيام ، ثم استراح في اليوم السابع ، وهو يوم السبت ، وهم يسمونه يوم الراحة ، فأنزل الله تكذيبهم فيما قالوه وتأولوه : { وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ } أي : من إعياء ولا نصب ولا تعب ، كما قال في الآية الأخرى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الأحقاف : 33 ] ، وكما قال : { لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [ غافر : 57 ] وقال { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا } [ النازعات : 27 ].
وقوله : { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } يعني : المكذبين ، اصبر عليهم واهجرهم هجرًا جميلا { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } ، وكانت الصلاة المفروضة قبل الإسراء ثنتين قبل طلوع الشمس في وقت الفجر ، وقبل الغروب في وقت العصر ، وقيام الليل كان واجبًا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أمته حولا ثم نسخ في حق الأمة وجوبه. ثم بعد ذلك نسخ الله ذلك كله ليلة الإسراء بخمس صلوات ، ولكن منهن (2) صلاة الصبح والعصر ، فهما قبل طلوع الشمس وقبل الغروب.
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم (3) ، عن جرير بن عبد الله قال : كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال : "أما إنكم ستعرضون على ربكم فترونه كما ترون هذا القمر ، لا تضامون فيه ، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ، فافعلوا" ثم قرأ : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ }
__________
(1) في م : "القلب".
(2) في أ : "بينهن".
(3) في أ : "حاتم".

(7/409)


ورواه البخاري ومسلم وبقية الجماعة ، من حديث إسماعيل ، به (1).
وقوله : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ } أي : فصل له ، كقوله : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } [ الإسراء : 79 ].
{ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } قال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : هو التسبيح بعد الصلاة.
ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال : جاء فقراء المهاجرين فقالوا : يا رسول الله ، ذهب أهل الدثور بالدرجات (2) العُلَى والنعيم المقيم. فقال : "وما ذاك ؟" قالوا : يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق! قال : "أفلا أعلمكم شيئًا إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من فعل مثل ما فعلتم ؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين". قال : فقالوا : يا رسول الله ، سمع إخواننا أهل الأموال (3) بما فعلنا ، ففعلوا مثله. قال : "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" (4).
والقول الثاني : أن المراد بقوله : { وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } هما الركعتان بعد المغرب ، روي ذلك عن عمر وعلي ، وابنه الحسن وابن عباس ، وأبي هريرة ، وأبي أمامة ، وبه يقول مجاهد ، وعكرمة ، والشعبي ، والنَّخَعِي والحسن ، وقتادة وغيرهم.
قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع وعبد الرحمن ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عاصم بن ضَمْرَة ، عن علي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على أثر كل صلاة مكتوبة ركعتين (5) إلا الفجر والعصر. وقال عبد الرحمن : دبر كل صلاة.
ورواه أبو داود والنسائي ، من حديث سفيان الثوري ، به (6). زاد النسائي : ومطرف ، عن أبي إسحاق ، به (7).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني ، حدثنا ابن فضيل ، عن رشدين بن كريب ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : بت ليلة عند رسول صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين خفيفتين ، اللتين قبل الفجر. ثم خرج إلى الصلاة فقال : "يا ابن عباس ، ركعتين قبل صلاة الفجر إدبار النجوم ، وركعتين بعد المغرب إدبار السجود".
ورواه الترمذي عن أبي هشام الرفاعي ، عن محمد بن فضيل ، به (8). وقال : غريب لا نعرفه إلا
__________
(1) المسند (4/365) وصحيح البخاري برقم (4851) وصحيح مسلم برقم (633) وسنن أبي داود برقم (3729) وسنن الترمذي برقم (2551) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11330) وسنن ابن ماجه برقم (117).
(2) في أ : "بالأجور".
(3) في أ : "الإيمان".
(4) صحيح البخاري برقم (6329) وصحيح مسلم برقم (595).
(5) في م : "ركعتين مكتوبة".
(6) المسند (1/124) وسنن أبي داود برقم (1275) والنسائي في السنن الكبرى برقم (341).
(7) النسائي في السنن الكبرى برقم (346).
(8) سنن الترمذي برقم (3275).

(7/410)


وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)

من هذا الوجه.
وحديث ابن عباس ، وأنه بات في بيت خالته ميمونة وصلى تلك الليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ركعة ، ثابت في الصحيحين (1) وغيرهما ، فأما هذه الزيادة فغريبة [و] (2) لا تعرف إلا من هذا الوجه ، ورِشْدِين بن كُرَيْب ضعيف ، ولعله من كلام ابن عباس موقوفا عليه ، والله أعلم.
{ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45) }
يقول تعالى : { وَاسْتَمِعْ } يا محمد { يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ } قال قتادة : قال كعب الأحبار : يأمر الله [تعالى] (3) ملكا (4) أن ينادي على صخرة بيت المقدس : أيتها العظام البالية ، والأوصال المتقطعة ، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء.
{ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ } يعني : النفخة في الصور التي تأتي بالحق الذي كان أكثرهم فيه يمترون. { ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ } أي : من الأجداث.
{ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ } أي : هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ، وهو أهون عليه ، وإليه مصير (5) الخلائق كلهم ، فيجازي كلا بعمله ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر.
وقوله : { يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا } : وذلك أن الله تعالى (6) ينزل مطرًا من السماء تنبت به أجساد الخلائق في قبورها ، كما ينبت الحب في الثرى بالماء ، فإذا تكاملت الأجساد أمر الله إسرافيل فينفخ في الصور ، وقد أودعت الأرواح في ثقب في الصور ، فإذا نفخ إسرافيل فيه خرجت الأرواح تتوهج بين السماء والأرض ، فيقول الله ، عز وجل : وعزتي وجلالي ، لترجعن كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره ، فترجع كل روح إلى جسدها ، فتدب فيه كما يدب السم في اللديغ وتنشق (7) الأرض عنهم ، فيقومون إلى موقف الحساب سراعا ، مبادرين إلى أمر الله ، عز وجل ، { مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } [ القمر : 8 ] ، وقال الله تعالى : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا } [ الإسراء : 52 ] ، وفي صحيح مسلم عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنا أول من تنشق عنه الأرض" (8).
__________
(1) صحيح البخاري برقم (1198) وصحيح مسلم برقم (763).
(2) زيادة من م.
(3) زيادة من م.
(4) في م : "ملكان".
(5) في م : "تصير".
(6) في م : "عز وجل".
(7) في م : "وتتشقق".
(8) رواه مسلم في صحيحه برقم (2278) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ولم أهتد إليه من حديث أنس.

(7/411)


وقوله : { ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } أي : تلك إعادة سهلة علينا ، يسيرة لدينا ، كما قال تعالى : { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [ القمر : 50 ] ، وقال تعالى : { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [ لقمان : 28 ].
وقوله : { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } أي : نحن علمنا محيط بما يقول لك المشركون من التكذيب فلا يهيدنك ذلك ، كقوله [تعالى] (1) : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ الحجر : 97 - 99 ].
وقوله : { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } أي : ولست بالذي تجبر هؤلاء على الهدى ، وليس ذلك ما كلفت به.
وقال مجاهد ، وقتادة ، والضحاك : { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } أي : لا تتجبر عليهم.
والقول الأول أولى ، ولو أراد ما قالوه لقال : ولا تكن جبارًا عليهم ، وإنما قال : { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } بمعنى : وما أنت بمجبرهم على الإيمان إنما أنت مبلغ.
قال الفراء : سمعت العرب تقول : جبر فلان فلانا على كذا (2) ، بمعنى أجبره (3).
ثم قال تعالى : { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } أي : بلغ أنت رسالة ربك ، فإنما (4) يتذكر من يخاف الله ووعيده ويرجو وعده ، كقوله [تعالى] (5) : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [ الرعد : 40 ] ، وقوله : { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } [ الغاشية : 21 ، 22] ، { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ البقرة : 272 ] ، { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ القصص : 56 ] ، ولهذا قال هاهنا : { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } كان قتادة يقول : اللهم ، اجعلنا ممن يخاف وعيدك ، ويرجو موعودك ، يا بار ، يا رحيم.
آخر تفسير سورة(ق) ، والحمد لله وحده ، وحسبنا الله ونعم الوكيل
__________
(1) زيادة من م.
(2) في م : "جبر فلان على فلان كذا".
(3) انظر تفسير الطبري (26/115).
(4) في م : "فأما".
(5) زيادة من م.

(7/412)


وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)

تفسير سورة الذاريات
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) }

(7/413)


وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)

{ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) }
قال شعبة (1) بن الحجاج ، عن سِمَاك ، عن خالد بن عَرْعَرَة أنه سمع عليا وشعبة أيضًا ، عن القاسم بن أبي بزَّة ، عن أبي الطُّفَيْل ، سمع عليًا. وثبت أيضًا من غير وجه ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : أنه صعد منبر الكوفة فقال : لا تسألوني عن آية في كتاب الله ، ولا عن سنة عن رسول الله ، إلا أنبأتكم بذلك. فقام إليه ابن الكواء فقال : يا أمير المؤمنين ، ما معنى قوله تعالى : { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا } ؟ قال : الريح [قال] (2) : { فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا } ؟ قال : السحاب. [قال] (3) : { فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا } ؟ قال : السفن. [قال] (4) : { فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا } ؟ قال : الملائكة (5).
وقد روي في ذلك حديث مرفوع ، فقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إبراهيم بن هانئ ، حدثنا سعيد بن سلام العطار ، حدثنا أبو بكر بن أبي سَبْرَة ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب قال : جاء صَبِيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن { الذَّارِيَاتِ ذَرْوًا } ؟ فقال : هي الرياح ، ولولا أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته. قال : فأخبرني عن { الْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا } قال : هي الملائكة ، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته. قال : فأخبرني عن { الْجَارِيَاتِ يُسْرًا } قال : هي السفن ، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته. ثم أمر به فضرب مائة ، وجعل في بيت ، فلما برأ (6) [دعا به و] (7) ضربه مائة أخرى ، وحمله على قَتَب ، وكتب إلى أبي موسى الأشعري : امنع الناس من مجالسته. فلم يزل كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف بالأيمان الغليظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا. فكتب في ذلك إلى عمر ، فكتب عمر : ما إخاله إلا صدق ، فخل بينه وبين مجالسة الناس.
__________
(1) في أ : "سعيد".
(2) زيادة من م.
(3) زيادة من م.
(4) زيادة من م.
(5) رواه الطبري في تفسيره (26/115) عن محمد بن المثنى عن محمد بن جعفر عن شعبة به.
(6) في م : "برد".
(7) زيادة من م ، أ.

(7/413)


قال أبو بكر البزار : فأبو بكر بن أبي سبرة لين ، وسعيد بن سلام ليس من أصحاب الحديث (1).
قلت : فهذا الحديث ضعيف رفعه ، وأقرب ما فيه أنه موقوف على عمر ، فإن قصة صَبِيغ بن عسل مشهورة مع عمر (2) ، وإنما ضربه لأنه ظهر له من أمره فيما يسأل تعنتا وعنادا ، والله أعلم.
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر هذه القصة في ترجمة صبيغ مطولة (3). وهكذا فسرها ابن عباس ، وابن عمر ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، وغير واحد. ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم غير ذلك.
وقد قيل : إن المراد بالذاريات : الريح كما تقدم وبالحاملات وقرًا : السحاب كما تقدم ؛ لأنها تحمل الماء ، كما قال زيد بن عمرو بن نفيل :
وَأسْلَمْتُ نَفْسي لمَنْ أسْلَمَتْ... لَهُ المزْنُ تَحْمِلُ عَذْبا زُلالا (4)
فأما الجاريات يسرًا ، فالمشهور عن الجمهور - كما تقدم - : أنها السفن ، تجري ميسرة في الماء جريا سهلا. وقال بعضهم : هي النجوم تجري يسرا (5) في أفلاكها ، ليكون ذلك ترقيا من الأدنى إلى الأعلى ، إلى ما هو أعلى منه ، فالرياح فوقها السحاب ، والنجوم فوق ذلك ، والمقسمات أمرا الملائكة فوق ذلك ، تنزل بأوامر الله الشرعية والكونية. وهذا قسم من الله عز جل على وقوع المعاد ؛ ولهذا قال : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ } أي : لخبر صدق ، { وَإِنَّ الدِّينَ } ، وهو : الحساب { لواقع } أي : لكائن لا محالة.
ثم قال : { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ } قال ابن عباس : ذات البهاء والجمال والحسن والاستواء. وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جُبَيْر ، وأبو مالك (6) ، وأبو صالح ، والسدي ، وقتادة ، وعطية العوفي ، والربيع بن أنس ، وغيرهم.
وقال الضحاك ، والمِنْهَال بن عمرو ، وغيرهما : مثل تجعد الماء والرمل والزرع إذا ضربته الريح ، فينسج بعضه بعضا طرائق [طرائق] (7) ، فذلك الحبك.
قال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أنه قال : "إن من ورائكم الكذاب المضل ، وإن رأسه من ورائه حُبُك حُبُك" يعني بالحبك : الجعودة (8).
وعن أبي صالح : { ذَاتِ الْحُبُكِ } : الشدة. وقال خصيف : { ذَاتِ الْحُبُكِ } : ذات الصفافة.
__________
(1) مسند البزار برقم (2259) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/112) : "فيه أبو بكر بن أبي سبرة ، وهو متروك".
(2) في م : "مع التميمي عمر".
(3) تاريخ دمشق (8/230) "القسم المخطوط".
(4) البيت في سيرة ابن هشام (1/231).
(5) في أ : "سيرا".
(6) في م : "وابن مالك".
(7) زيادة من م ، أ.
(8) تفسير الطبري (26/118) ورواه أحمد في مسنده (5/410) من طريق إسماعيل بن علية به.

(7/414)


وقال الحسن بن أبي الحسن البصري : { ذَاتِ الْحُبُكِ } : حبكت بالنجوم.
وقال قتادة : عن سالم بن أبي الجَعْد ، عن مَعْدان بن أبي طلحة ، عن عمرو البكالي ، عن عبد الله بن عمرو : { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ } : يعني : السماء السابعة.
وكأنه - والله أعلم - أراد بذلك السماء التي فيها الكواكب الثابتة ، وهي عند كثير من علماء الهيئة في الفلك الثامن الذي فوق السابع ، والله أعلم. وكل هذه الأقوال ترجع إلى شيء واحد ، وهو الحسن والبهاء ، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما (1) ، فإنها من حسنها مرتفعة شفافة صفيقة ، شديدة البناء ، متسعة الأرجاء ، أنيقة البهاء ، مكللة بالنجوم الثوابت والسيارات ، موشحة بالشمس والقمر والكواكب الزاهرات.
وقوله : { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ } أي : إنكم أيها المشركون المكذبون للرسل لفي قول مختلف مضطرب ، لا يلتئم ولا يجتمع.
وقال قتادة : إنكم لفي قول مختلف ، [يعني] (2) ما بين مصدق بالقرآن ومكذب به.
{ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } أي : إنما يروج على من هو ضال في نفسه ؛ لأنه قول باطل إنما ينقاد له ويضل بسببه ويؤفك عنه من هو مأفوك ضال غَمْر ، لا فهم له ، كما قال تعالى : { فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ } [ الصافات : 161 - 163 ].
قال ابن عباس ، والسدي : { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } : يضل عنه من ضل. وقال مجاهد : { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } يؤفن عنه من أفن. وقال الحسن البصري : يصرف عن هذا القرآن من كذب به.
وقوله : { قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ } قال مجاهد : الكذابون. قال : وهي مثل التي في عبس : { قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ } [ عبس : 17 ] ، والخراصون الذين يقولون لا نبعث ولا يوقنون.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ } أي : لعن المرتابون.
وهكذا كان معاذ ، رضي الله عنه ، يقول في خطبه : هلك المرتابون. وقال قتادة : الخراصون أهل الغرة والظنون.
وقوله : { الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } : قال ابن عباس وغير واحد : في الكفر والشك غافلون لاهون.
{ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ } : وإنما يقولون هذا تكذيبا وعنادا وشكا واستبعادا. قال الله تعالى : { يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ }.
قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وغير واحد : { يفتنون } : يعذبون [قال مجاهد] (3) : كما
__________
(1) في م ، أ : "عنه".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من م ، أ.

(7/415)


إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)

يفتن الذهب على النار.
وقال جماعة آخرون كمجاهد أيضا ، وعكرمة ، وإبراهيم النَّخَعِي ، وزيد بن أسلم ، وسفيان الثوري : { يفتنون } : يحرقون.
{ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ } : قال مجاهد : حريقكم. وقال غيره : عذابكم. { هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } : أي : يقال لهم ذلك تقريعًا وتوبيخًا وتحقيرًا وتصغيرًا.
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) }
يقول تعالى مخبرا عن المتقين لله ، عز وجل : إنهم يوم معادهم يكونون في جنات وعيون ، بخلاف ما أولئك الأشقياء فيه من العذاب والنكال ، والحريق والأغلال.
وقوله : { آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } : قال ابن جرير : أي عاملين بما آتاهم الله (1) من الفرائض. { إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } أي : قبل أن يفرض (2) عليهم الفرائض. كانوا محسنين في الأعمال أيضا. ثم روى عن ابن حميد ، حدثنا مهْرَان ، عن سفيان ، عن أبي عمر ، عن مسلم البطين ، عن ابن عباس في قوله : { آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } قال : من الفرائض ، { إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } : قبل الفرائض يعملون. وهذا الإسناد ضعيف ، ولا يصح (3) عن ابن عباس. وقد رواه عثمان بن أبي شيبة ، عن معاوية بن هشام ، عن سفيان ، عن أبي عمر البزار ، عن مسلم (4) البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، فذكره. والذي فسر به ابن جرير فيه نظر ؛ لأن قوله : { آَخِذِينَ } حال من قوله : { فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } : فالمتقون في حال كونهم في الجنات والعيون آخذون ما آتاهم ربهم (5) ، أي : من النعيم والسرور والغبطة.
وقوله (6) : { إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ } أي : في الدار الدنيا { محسنين } ، كقوله : { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ } [ الحاقة : 24 ] ثم إنه تعالى بَيَّن إحسانهم في العمل فقال : { كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } ، اختلف المفسرون في ذلك على قولين :
أحدهما : أن "ما" نافية ، تقديره : كانوا قليلا من الليل لا يهجعونه. قال ابن عباس : لم تكن
__________
(1) في م : "ربهم".
(2) في م : "تفرض".
(3) في م : "لا يصح".
(4) في م : "عن أبي مسلم".
(5) في م : "الله".
(6) في م : "وقولهم".

(7/416)


تمضي عليهم ليلة إلا يأخذون منها ولو شيئا. وقال قتادة ، عن مطرف بن عبد الله : قلَّ ليلة تأتي عليهم لا يصلون فيها لله ، عز وجل ، إما من أولها وإما من أوسطها. وقال مجاهد : قلَّ ما يرقدون ليلة حتى (1) الصباح لا يتهجدون. وكذا قال قتادة. وقال أنس بن مالك ، وأبو العالية : كانوا يصلون بين المغرب والعشاء. وقال أبو جعفر الباقر ، كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة.
والقول الثاني : أن "ما" مصدرية ، تقديره : كانوا قليلا من الليل هجوعهم ونومهم. واختاره ابن جرير. وقال الحسن البصري : { كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } : كابدوا قيام الليل ، فلا ينامون من الليل إلا أقله ، ونشطوا فمدوا إلى السحر ، حتى كان الاستغفار بسحر. وقال قتادة : قال الأحنف بن قيس : { كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } : كانوا لا ينامون إلا قليلا ثم يقول : لست من أهل هذه الآية. وقال الحسن البصري : كان الأحنف بن قيس يقول : عرضت عملي على عمل أهل الجنة ، فإذا قوم قد باينونا بونًا بعيدا ، إذا قوم لا نبلغ أعمالهم ، كانوا قليلا من الليل ما يهجعون. وعرضت عملي على عمل أهل النار فإذا قوم لا خير فيهم يكذبون (2) بكتاب الله وبرسل الله ، يكذبون بالبعث بعد الموت ، فوجدت من خيرنا منزلة قومًا خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : قال رجل من بني تميم لأبي : يا أبا أسامة ، صفة لا أجدها فينا ، ذكر الله قوما فقال : { كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } ، ونحن والله قليلا من الليل ما نقوم. فقال له أبي : طوبى لمن رقد إذا نعس ، واتقى الله إذا استيقظ.
وقال عبد الله بن سلام : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، انجفل الناس إليه ، فكنت فيمن انجفل. فلما رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه رَجُل كذاب ، فكان أول ما سمعته يقول : "يا أيها الناس ، أطعموا الطعام ، وصِلُوا الأرحام ، وأفشوا السلام ، وصَلُّوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام" (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثني حيي بن عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلى ، عن عبد الله بن عمرو ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها". فقال أبو موسى الأشعري : لمن هي يا رسول الله ؟ قال : "لمن ألان الكلام ، وأطعم الطعام ، وبات لله قائما ، والناس نيام" (4).
وقال مَعْمَر في قوله : { كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } : كان (5) الزهري والحسن يقولان :
__________
(1) في م : "إلى".
(2) في م : "فيكذبون".
(3) رواه أحمد في المسند (5/451) والترمذي في السنن برقم (2485) وابن ماجه في السنن برقم (1334).
(4) المسند (2/173) وقال الهيثمي في المجمع 05/16) : "فيه ابن لهيعة وحديثه حسن ، وبقية رجاله ثقات" ولعل تحسين الحافظ الهيثمي لحديث ابن لهيعة لأنه قد توبع : تابعه عبد الله بن وهب - روايته عن ابن لهيعة صحيحة - أخرجه الطبراني في المعجم الكبير برقم (103) "الجزء المفقود".
(5) في م : "قال".

(7/417)


كانوا كثيرا من الليل ما يصلون.
وقال ابن عباس ، وإبراهيم النَّخَعِي : { كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } : ما ينامون.
وقال الضحاك : { إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلا } ثم ابتدأ فقال : { مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }.
وقوله عز وجل : { وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }. قال مجاهد ، وغير واحد : يصلون. وقال آخرون : قاموا الليل ، وأخروا الاستغفار إلى الأسحار. كما قال تعالى : { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ } [ آل عمران : 17 ] ، فإن كان الاستغفار في صلاة فهو أحسن. وقد ثبت في الصحاح وغيرها عن جماعة من الصحابة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن الله ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير ، فيقول : هل من تائب فأتوب عليه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من سائل فيعطى سؤله ؟ حتى يطلع الفجر" (1).
وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى إخبارا عن يعقوب : أنه قال لبنيه : { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي } [ يوسف 98 ] قالوا : أخرهم إلى وقت السحر.
وقوله : { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } : لما وصفهم بالصلاة ثنى بوصفهم (2) بالزكاة والبر والصلة ، فقال : { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ } (3) أي : جزء مقسوم قد أفرزوه { لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } ، أما السائل فمعروف ، وهو الذي يبتدئ بالسؤال ، وله حق ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا وَكِيع وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان ، عن مصعب بن محمد ، عن يعلى بن أبي يحيى ، عن فاطمة بنت الحسين ، عن أبيها الحسين بن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "للسائل حق وإن جاء على فرس".
ورواه أبو داود من حديث سفيان الثوري ، به (4) ثم أسنده من وجه آخر عن علي بن أبي طالب (5). وروي من حديث الهِرْماس بن زياد مرفوعا (6).
وأما { المحروم } ، فقال ابن عباس ، ومجاهد : هو المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم. يعني : لا سهم له في بيت المال ، ولا كسب له ، ولا حرفة يتقوت منها.
وقالت أم المؤمنين عائشة : هو المحارَف الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه. وقال الضحاك : هو الذي لا يكون له مال إلا ذهب ، قضى الله له ذلك.
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه برقم (758).
(2) في م ، أ : "وصفهم".
(3) في م ، أ : (حق للسائل والمحروم).
(4) المسند (1/201) وسنن أبي داود برقم (1665).
(5) سنن أبي داود برقم (1666).
(6) رواه الطبراني في المعجم الكبير (22/203) من طريق سليمان الدمشقي عن عثمان بن فايد عن عكرمة بن عمار عن الهرماس مرفوعا به وفيه عثمان بن فايد وهو ضعيف.

(7/418)


وقال أبو قِلابَة : جاء سيل باليمامة فذهب بمال رجل ، فقال رجل من الصحابة : هذا المحروم.
وقال ابن عباس أيضا ، وسعيد بن المسيَّب ، وإبراهيم النخعي ، ونافع - مولى ابن عمر - وعطاء بن أبي رباح { المحروم } : المحارف.
وقال قتادة ، والزهري : { الْمَحْرُوم } : الذي لا يسأل الناس شيئا ، قال الزهري وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليس المسكين بالطوَّاف الذي ترده اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يُفطن له فيتصدق عليه".
وهذا الحديث قد أسنده الشيخان في صحيحيهما من وجه آخر (1).
وقال سعيد بن جبير : هو الذي يجيء وقد قُسِّم المغنم ، فيرضخ له.
وقال محمد بن إسحاق : حدثني بعض أصحابنا قال : كنا مع عمر بن عبد العزيز في طريق مكة فجاء كلب فانتزع عمر كتف شاة فرمى بها إليه ، وقال : يقولون : إنه المحروم.
وقال الشعبي : أعياني أن أعلم ما المحروم.
واختار ابن جرير أن المحروم : [هو] (2) الذي لا مال له بأي سبب كان ، قد ذهب ماله ، سواء كان لا يقدر على الكسب ، أو قد هلك ماله أو نحوه (3) بآفة أو نحوها.
وقال الثوري ، عن قيس بن مسلم ، عن الحسن بن محمد ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فغنموا ، فجاء قوم لم يشهدوا الغنيمة فنزلت هذه الآية : { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } (4).
وهذا يقتضي أن هذه مدنية ، وليس كذلك ، بل هي مكية شاملة لما بعدها.
وقوله : { وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ } أي : فيها من الآيات الدالة على عظمة خالقها وقدرته الباهرة ، مما قد ذرأ فيها من صنوف النبات والحيوانات ، والمهاد والجبال ، والقفار والأنهار والبحار ، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم ، وما جبلوا عليه من الإرادات والقوى ، وما بينهم من التفاوت في العقول والفهوم والحركات ، والسعادة والشقاوة ، وما في تركيبهم من الحكم في وضع كل عضو من أعضائهم (5) في المحل الذي هو محتاج إليه فيه ؛ ولهذا قال : { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ } : قال قتادة : من تفكر في خلق نفسه عرف أنه إنما خلق ولينت مفاصله للعبادة.
ثم قال : { وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ } يعني : المطر ، { وَمَا تُوعَدُونَ } يعني : الجنة. قاله ابن عباس ،
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4539) وصحيح مسلم برقم (1039) من طريق شريك بن عبد الله عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة مرفوعا.
(2) زيادة من م.
(3) في م : "أو ثمرة".
(4) رواه الطبري في تفسيره (26/125).
(5) في م ، أ : "أجسادهم".

(7/419)


هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)

ومجاهد وغير واحد.
وقال سفيان الثوري : قرأ واصل الأحدب هذه الآية : { وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } فقال : ألا إني (1) أرى رزقي في السماء ، وأنا أطلبه في الأرض ؟ فدخل خربة فمكث [فيها] (2) ثلاثا لا يصيب شيئا ، فلما أن كان في اليوم الثالث إذا هو بِدَوْخَلَة من رطب ، وكان له أخ أحسن نية منه ، فدخل معه فصارتا دوخلتين ، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق الموت بينهما (3).
وقوله : { فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ } يقسم تعالى بنفسه الكريمة أن ما وعدهم به من أمر القيامة والبعث والجزاء ، كائن لا محالة ، وهو حق لا مرية فيه ، فلا تشكوا فيه كما لا تشكوا في نطقكم حين تنطقون. وكان معاذ ، رضي الله عنه ، إذا حدث بالشيء يقول لصاحبه : إن هذا لحق كما أنك هاهنا.
قال مسدد ، عن ابن أبي عَدِيّ ، عن عَوْف ، عن الحسن البصري قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "قاتل الله أقوامًا أقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا".
ورواه ابن جرير ، عن بُنْدَار ، عن ابن أبي عدي ، عن عوف ، عن الحسن ، فذكره مرسلا (4).
{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) }
هذه القصة قد تقدمت في سورة "هود" و "الحجر" (5) أيضا. وقوله : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ } أي : الذين أرصد لهم الكرامة. وقد ذهب الإمام أحمد وطائفة من العلماء إلى وجوب الضيافة للنزيل ، وقد وردت السنة بذلك كما هو ظاهر التنزيل.
وقوله : { قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ } : الرفع أقوى وأثبت من النصب ، فرده أفضل من التسليم ؛ ولهذا قال تعالى : { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } [ النساء : 86 ] ، فالخليل اختار الأفضل.
وقوله : { قَوْمٌ مُنْكَرُونَ } : وذلك أن الملائكة وهم : جبريل وإسرافيل وميكائيل قدموا عليه في صور شبان حسان عليهم مهابة عظيمة ؛ ولهذا قال : { قَوْمٌ مُنْكَرُونَ }.
__________
(1) في م : "لا أرى رزقي".
(2) زيادة من م.
(3) في م : "بينهما الموت".
(4) تفسير الطبري (26/127).
(5) تقدم تفسير ذلك في سورة هود عند الآيات : 69 - 73 وكذلك في سورة الحجر عند الآيات : 51 - 56.

(7/420)


وقوله : { فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ } أي : انسل خفية في سرعة ، { فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ } أي : من خيار ماله. وفي الآية الأخرى : { فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } [ هود : 69 ] أي : مشوي على الرَّضف ، { فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ } أي : أدناه منهم ، { قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ } : تلطف في العبارة وعرض حسن.
وهذه الآية انتظمت آداب الضيافة ؛ فإنه جاء بطعامه (1) من حيث لا يشعرون بسرعة ، ولم يمتن عليهم أولا فقال : "نأتيكم بطعام ؟" بل جاء به بسرعة (2) وخفاء ، وأتى بأفضل ما وجد من ماله ، وهو عجل فتي سمين مشوي ، فقربه إليهم ، لم يضعه ، وقال : اقتربوا ، بل وضعه بين أيديهم ، ولم يأمرهم أمرا يشق على سامعه بصيغة الجزم ، بل قال : { أَلا تَأْكُلُونَ } على سبيل العرض والتلطف ، كما يقول القائل اليوم : إن رأيت أن تتفضل وتحسن وتتصدق ، فافعل (3).
وقوله : { فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } : هذا محال على ما تقدم في القصة في السورة الأخرى ، وهو (4) قوله : { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ } [ هود : 70 ، 71 ] أي : استبشرت بهلاكهم ؛ لتمردهم وعتوهم على الله ، فعند ذلك بشرتها الملائكة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب. { قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ } [ هود 72 ، 73 ] ؛ ولهذا قال هاهنا : { وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } ، فالبشارة له هي بشارة لها ؛ لأن الولد منهما ، فكل منهما بشر به.
وقوله : { فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ } أي : في صرخة عظيمة (5) ورنة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وأبو صالح ، والضحاك ، وزيد بن أسلم والثوري والسدي وهي قولها : { يَا وَيْلَتَا } { فَصَكَّتْ وَجْهَهَا } (6) أي : ضربت بيدها على جبينها ، قاله مجاهد وابن (7) سابط.
وقال ابن عباس : لطمت ، أي تعجبا كما تتعجب (8) النساء من الأمر الغريب ، { وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } أي : كيف ألد وأنا عجوز [عقيم] (9) ، وقد كنتُ في حال الصبا عقيما لا أحبل ؟.
{ قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ } (10) أي : عليم بما تستحقون من الكرامة ، حكيم في أقواله وأفعاله.
__________
(1) في م : "بطعام".
(2) في أ : "في سرعة".
(3) وقد توسع الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه "جلاء الأفهام" (ص181 - 184) في الكلام على آداب الضيافة في هذه الآيات.
(4) في م : "وهي".
(5) في م ، أ : "وعيطة".
(6) في م : "وصكت".
(7) في م : "وأبو".
(8) في م : "يتعجب".
(9) زيادة من أ.
(10) في م : "العليم الحكيم" وهو خطأ.

(7/421)


قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)

{ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الألِيمَ (37) }

(7/421)


وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)

قال الله مخبرا عن إبراهيم ، عليه السلام : { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } [ هود : 74 - 76 ].
وقال هاهنا : { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ } أي : ما شأنكم وفيم جئتم ؟.
{ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ } يعنون قوم لوط.
{ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً } أي : معلمة { عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ } أي : مكتتبة عنده بأسمائهم ، كل حجر عليه اسم صاحبه ، فقال في سورة العنكبوت : { قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ } [ العنكبوت : 32].وقال هاهنا : { فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } ، وهم لوط وأهل بيته إلا امرأته.
{ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } احتج بهذه [الآية] (1) من ذهب إلى رأي المعتزلة ، ممن لا يفرق بين مسمى الإيمان والإسلام ؛ لأنه أطلق عليهم المؤمنين والمسلمين. وهذا الاستدلال ضعيف ؛ لأن هؤلاء كانوا قوما مؤمنين ، وعندنا أن كل مؤمن مسلم لا ينعكس ، فاتفق الاسمان هاهنا لخصوصية الحال ، ولا يلزم ذلك في كل حال.
وقوله : { وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الألِيمَ } أي : جعلناها عبرة ، لما أنزلنا بهم من العذاب والنكال وحجارة السجيل ، وجعلنا (2) محلتهم بحيرة منتنة خبيثة ، ففي ذلك عبرة للمؤمنين ، { لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الألِيمَ }
{ وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) }
يقول تعالى : { وَفِي مُوسَى } [آية] (3) { إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } أي : بدليل باهر وحجة قاطعة ، { فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ } أي : فأعرض فرعون عما جاءه (4) به موسى من الحق المبين ، استكبارا
__________
(1) زيادة من م.
(2) في م ، أ : "وجعل".
(3) زيادة من م.
(4) في م : "جاء".

(7/422)


وعنادا.
وقال مجاهد : تعزز بأصحابه. وقال قتادة : غلب عدُو الله على قومه. وقال ابن زيد : { فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ } أي : بجموعه التي معه ، ثم قرأ : { لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ } [ هود : 80 ].
والمعنى الأول قوي كقوله : { ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [ الحج : 9 ] أي : معرض عن الحق مستكبر ، { وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } أي : لا يخلو أمرك فيما جئتني به من أن تكون ساحرا ، أو مجنونا.
قال الله تعالى : { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ } أي : ألقيناهم في اليم ، وهو البحر ، { وَهُوَ مُلِيمٌ } أي : وهو ملوم كافر جاحد فاجر معاند.
ثم قال : { وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ } أي : المفسدة التي لا تنتج شيئا. قاله الضحاك ، وقتادة ، وغيرهما.
ولهذا قال : { مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ } أي : مما تفسده الريح { إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } أي : كالشيء الهالك البالي.
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبيد الله بن أخي ابن وهب ، حدثنا عمي عبد الله بن وهب ، حدثني عبد الله - يعني : ابن عياش (1) - القتباني ، حدثني عبد الله بن سليمان ، عن دراج ، عن عيسى بن هلال الصَّدَفِي ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الريح مسخرة من الثانية - يعني من الأرض الثانية - فلما أراد الله أن يهلك عادًا أمر خازن الريح أن يرسل عليهم ريحا تهلك عادا ، قال : أي رَبَ ، أرسل عليهم [من] (2) الريح قدر منخر الثور ؟ قال له الجبار : لا إذًا تكفأ الأرض ومن عليها ، ولكن أرسل [عليهم] (3) بقدر خاتم. فهي التي يقول (4) الله في كتابه : { مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ }
هذا الحديث رفعه منكر (5) ، والأقرب أن يكون موقوفا على عبد الله بن عمرو ، من زاملتيه اللتين (6) أصابهما يوم اليرموك ، والله أعلم.
قال سعيد بن المسيب وغيره في قوله : { إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ } قالوا : هي الجنوب. وقد ثبت في الصحيح من رواية شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نصرت بالصّبا ، وأهلكت عاد بالدبور" (7).
{ وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ } قال ابن جرير : يعني إلى وقت فناء آجالكم.
__________
(1) في م : "ابن عباس".
(2) زيادة من م.
(3) زيادة من م.
(4) في م ، أ : "قال".
(5) رواه الحاكم في المستدرك (4/594) وابن منده في كتاب التوحيد (1/186) من طريق عبد الله بن وهب بأطول منه.
وقال ابن منده : إسناده متصل مشهور ورواته مصريين. وصححه الحاكم وتعقبه الذهبي بقوله : "بل منكر ، فيه عبد الله بن عياس ضعفه أبو داود ، وعند مسلم أنه ثقة ، ودراج وهو كثير المناكير".
(6) في م : "اللذين".
(7) صححه مسلم برقم (900).

(7/423)


وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)

.
والظاهر أن هذه كقوله : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ } [ فصلت : 17 ].
وهكذا قال هاهنا : { وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ } ، وذلك أنهم انتظروا العذاب ثلاثة أيام وجاءهم في صبيحة اليوم الرابع بُكْرَة النهار { فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ } أي : من هَرَبٍ ولا نهوض ، { وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ } أي : ولا يقدرون على أن ينتصروا مما هم فيه.
وقوله : { وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ } أي : وأهلكنا قوم نوح من قبل هؤلاء { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } وكل هذه القصص قد تقدمت مبسوطة في أماكن كثيرة ، من سور متعددة.
{ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) }
يقول تعالى منبها على خلق العالم العلوي والسفلي : { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا } أي : جعلناها سقفا [محفوظا] (1) رفيعا { بأيد } أي : بقوة. قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والثوري ، وغير واحد ، { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } ، أي : قد وسعنا أرجاءها ورفعناها بغير عمد ، حتى استقلت كما هي.
{ وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا } أي : جعلناها فراشًا للمخلوقات ، { فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ } أي : وجعلناها مهدا لأهلها.
{ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } أي : جميع المخلوقات أزواج : سماء وأرض ، وليل ونهار ، وشمس وقمر ، وبر وبحر ، وضياء وظلام ، وإيمان وكفر ، وموت وحياة ، وشقاء وسعادة ، وجنة ونار ، حتى الحيوانات [جن وإنس ، ذكور وإناث] (2) والنباتات ، ولهذا قال : { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي : لتعلموا أن الخالق واحدٌ لا شريك له.
{ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ } أي : الجئوا إليه ، واعتمدوا في أموركم عليه ، { إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ }.
{ وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } أي : [و] (3) لا تشركوا به شيئا ، { إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ }.
__________
(1) زيادة من م.
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من م.

(7/424)


كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)

{ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) }

(7/424)


يقول تعالى مسليا نبيه صلى الله عليه وسلم : وكما قال لك هؤلاء المشركون ، قال المكذبون الأولون لرسلهم : { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } !.
قال الله تعالى : { أَتَوَاصَوْا بِهِ } أي : أوصى بعضُهم بعضا بهذه المقالة ؟ " { بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } أي : لكن هم قوم طغاة ، تشابهت قلوبهم ، فقال متأخرهم كما قال متقدمهم.
قال الله تعالى : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } أي : فأعرض عنهم يا محمد ، { فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ } يعني : فما نلومك على ذلك.
{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } أي : إنما تنتفع (1) بها القلوب المؤمنة.
ثم قال : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } أي : إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي ، لا لاحتياجي إليهم.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { إِلا لِيَعْبُدُونِ } أي : إلا ليقروا بعبادتي طوعا أو كرها (2) وهذا اختيار ابن جرير.
وقال ابن جُرَيْج : إلا ليعرفون. وقال الربيع بن أنس : { إِلا لِيَعْبُدُونِ } أي : إلا للعبادة. وقال السدي : من العبادة ما ينفع ومنها ما لا ينفع ، { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ لقمان : 25 ] هذا منهم عبادة ، وليس ينفعهم مع الشرك. وقال الضحاك : المراد بذلك المؤمنون.
وقوله : { مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } قال (3) الإمام أحمد :
حدثنا يحيى بن آدم وأبو سعيد قالا حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد (4) ، عن عبد الله بن مسعود قال : أقرأني رسول الله (5) صلى الله عليه وسلم : "إني لأنا الرزاق ذو القوة المتين".
ورواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، من حديث إسرائيل ، وقال الترمذي : حسن صحيح (6).
ومعنى الآية : أنه تعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له ، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء ، ومن عصاه عذبه أشد العذاب ، وأخبر أنه غير محتاج إليهم ، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم ، فهو خالقهم ورازقهم.
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا عمران - يعني ابن زائدة بن نَشِيط - عن أبيه ، عن أبي خالد - هو الوالبي - عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله : "يا ابن
__________
(1) في م ، أ : "فإنما ينتفع".
(2) في م : "وكرها".
(3) في م : "وقال".
(4) في أ : "زيد".
(5) في م : "النبي".
(6) المسند (1/394) وسنن أبي داود برقم (3989) وسنن الترمذي برقم (2940) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11527).

(7/425)


آدم ، تَفَرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غِنًى ، وأسدّ فقرك ، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك".
ورواه الترمذي وابن ماجه ، من حديث عمران بن زائدة ، وقال الترمذي : حسن غريب (1).
وقد روى الإمام أحمد عن وكيع وأبي معاوية ، عن الأعمش ، عن سلام أبي شُرحْبِيل ، سمعت حَبَّة وسواء ابني خالد يقولان : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعمل عملا أو يبني بناء - وقال أبو معاوية : يصلح شيئا - فأعناه عليه ، فلما فرغ دعا لنا وقال : "لا تيأسا من الرزق ما تهززت رءوسكما ، فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشرة ، ثم يعطيه الله ويرزقه" (2). و [قد ورد] (3) في بعض الكتب الإلهية : "يقول الله تعالى : ابن آدم ، خلقتك لعبادتي فلا تلعب ، وتكفلت برزقك فلا تتعب فاطلبني تجدني ؛ فإن وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فُتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء".
وقوله : { فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا } أي : نصيبا من العذاب ، { مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ } أي : فلا يستعجلون ذلك ، فإنه واقع [بهم] (4) لا محالة.
{ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ } يعني : يوم القيامة.
آخر تفسير سورة الذاريات
__________
(1) المسند (2/358) وسنن الترمذي برقم (2466) وسنن ابن ماجه برقم (4107).
(2) المسند (3/469).
(3) زيادة من م ، أ.
(4) زيادة من أ.

(7/426)


وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)

تفسير سورة الطور
وهي مكية
قال مالك ، عن الزهري ، عن محمد بن جُبَير بن مطعم ، عن أبيه : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور ، فما سمعت أحدا أحسن صوتا - أو قراءة - منه.
أخرجاه من طريق مالك (1) وقال البخاري :
حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن محمد بن عبد الرحمن بن نَوْفَل ، عن عُرْوَةَ ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن أم سلمة قالت : شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي ، فقال : "طُوفي من وراء الناس وأنت راكبة" ، فطفت ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت يقرأ بالطور وكتاب مسطور (2).
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) }
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4845) وصحيح مسلم برقم (463).
(2) صحيح البخاري برقم (4853) وصحيح مسلم برقم (1276).

(7/427)


أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)

{ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) }
يقسم تعالى بمخلوقاته الدالة على قدرته العظيمة : أن عذابه واقع بأعدائه ، وأنه لا دافع له عنهم. فالطور هو : الجبل الذي يكون فيه أشجار ، مثل الذي كلم الله عليه موسى ، وأرسل منه عيسى ، وما لم يكن فيه شجر لا يسمى طورا ، إنما يقال له : جبل.
{ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ } قيل : هو اللوح المحفوظ. وقيل : الكتب المنزلة المكتوبة التي تقرأ على الناس جهارا ؛ ولهذا قال : { فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ }. ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء - بعد مجاوزته إلى السماء السابعة - : "ثم رفع بي (1) إلى البيت المعمور ، وإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه آخر ما عليهم" يعني : يتعبدون فيه ويطوفون ، كما
__________
(1) في م : "لي".

(7/427)


يطوف أهل الأرض بكعبتهم كذلك ذاك البيت ، هو كعبة أهل السماء السابعة ؛ ولهذا وجد إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، مسندا ظهره إلى البيت المعمور ؛ لأنه باني الكعبة الأرضية ، والجزاء من جنس العمل ، وهو بحيال الكعبة ، وفي كل سماء بيت يتعبد فيه أهلها ، ويصلون إليه ، والذي في السماء الدنيا يقال له : بيت العزة. والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا روح بن جناح ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "في السماء السابعة بيت يقال له : "المعمور" ؛ بحيال الكعبة ، وفي السماء الرابعة نهر يقال له : "الحيوان" يدخله جبريل كل يوم ، فينغمس فيه انغماسة ، ثم يخرج فينتفض انتفاضة يخر عنه سبعون ألف قطرة ، يخلق الله من كل قطرة ملكا يؤمرون أن يأتوا البيت المعمور ، فيصلوا (1) فيه فيفعلون ، ثم يخرجون فلا يعودون إليه أبدا ، ويولي عليهم أحدهم ، يؤمر أن يقف بهم من السماء موقفا يسبحون الله فيه إلى أن تقوم الساعة".
هذا حديث غريب جدا ، تفرد به روح بن جناح هذا ، وهو القرشي الأموي مولاهم أبو سعد الدمشقي ، وقد أنكر هذا الحديث عليه جماعة من الحفاظ منهم : الجوزجاني ، والعقيلي ، والحاكم أبو عبد الله النيسابوري ، وغيرهم.
قال الحاكم : لا أصل له من حديث أبي هريرة ، ولا سعيد ، ولا الزهري (2)
وقال ابن جرير : حدثنا هَنَّاد بن السُّريّ ، حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك بن حرب ، عن خالد بن (3) عرعرة ؛ أن رجلا قال لعلي : ما البيت المعمور ؟ قال : بيت في السماء يقال له : "الضُّراح" وهو بحيال الكعبة من فوقها ، حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض ، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ، لا (4) يعودون فيه أبدا (5)
وكذا رواه شعبة وسفيان الثوري ، عن سِمَاك وعندهما أن ابن الكواء هو السائل عن ذلك ، ثم رواه ابن جرير عن أبي كُرَيب ، عن طَلْق بن غنام ، عن زائدة ، عن عاصم ، عن علي بن ربيعة قال : سأل ابن الكواء عليا عن البيت المعمور ، قال : مسجد في السماء يقال له : "الضُّراح" ، يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ، ثم لا يعودون فيه أبدا. ورواه من حديث أبي الطُّفَيْل ، عن علي بمثله.
وقال العَوْفي عن ابن عباس : هو بيت حذاء العرش ، تعمره الملائكة ، يصلي فيه كل يوم سبعون
__________
(1) في م : "فيصلون".
(2) ورواه ابن عدي في الكامل (3/144) من طريق هشام بن عمار به ، وقال : "سمعت ابن حماد يقول : قال السعدي : روح بن جناح ذكر عنالزهري حديثا معضلا في البيت المعمور" ثم ساقه بإسناده وتعقبه بقوله : "ولا يعرف هذا الحديث إلا بروح بن جناح عن الزهري".
(3) في م : "عن".
(4) في م : "ثم لا".
(5) تفسير الطبري (27/10)

(7/428)


ألفا من الملائكة ثم لا يعودون إليه ، وكذا قال عكرمة ، ومجاهد ، والربيع بن أنس ، والسدي ، وغير واحد من السلف.
وقال قتادة : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لأصحابه : "هل تدرون ما البيت المعمور ؟" قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : "فإنه مسجد في السماء بحيال الكعبة ، لو خر لخر عليها ، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك ، إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم".
وزعم الضحاك أنه يعمره طائفة من الملائكة يقال لهم : الحِن (1) ، من قبيلة إبليس (2) ، فالله أعلم.
وقوله : { وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ } : قال سفيان الثوري ، وشعبة ، وأبو الأحوص ، عن سِمَاك ، عن خالد بن عَرْعَرَة ، عن علي : { وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ } يعني : السماء ، قال سفيان : ثم تلا { وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 32 ]. وكذا قال مجاهد ، وقتادة ، والسدي ، وابن جُرَيْج ، وابن زيد ، واختاره ابن جرير.
وقال الربيع بن أنس : هو العرش يعني : أنه سقف لجميع المخلوقات ، وله اتجاه ، وهو يُراد مع غيره كما قاله الجمهور.
وقوله : { وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ } : قال الربيع بن أنس : هو الماء الذي تحت العرش ، الذي ينزل [الله] (3) منه المطر الذي يحيى به الأجساد في قبورها يوم معادها. وقال الجمهور : هو هذا البحر. واختلف في معنى قوله : { المسجور } ، فقال بعضهم : المراد أنه يوقد يوم القيامة نارا كقوله : { وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ } [ التكوير : 6 ] أي : أضرمت فتصير (4) نارا تتأجج ، محيطة بأهل الموقف. رواه سعيد بن المسيب’ عن علي بن أبي طالب ، ورُوي عن ابن عباس. وبه يقول سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعبد الله بن عبيد بن عُمير (5) وغيرهم.
وقال العلاء بن بدر : إنما سمي البحر المسجور لأنه لا يُشرب منه ماء ، ولا يسقى به زرع ، وكذلك البحار يوم القيامة. كذا رواه عنه ابن أبي حاتم.
وعن سعيد بن جُبير : { وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ } يعني : المرسل. وقال قتادة : { [وَالْبَحْرِ] الْمَسْجُورِ } (6) المملوء. واختاره ابن جرير ووجهه بأنه ليس موقدا اليوم فهو مملوء.
وقيل : المراد به الفارغ ، قال الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء ، عن ذي الرمة ، عن ابن عباس في قوله : { وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ } قال : الفارغ ؛ خرجت أمة تستسقي فرجعت فقالت : "إن الحوض مسجور" ، تعني : فارغا. رواه ابن مردويه في مسانيد الشعراء.
__________
(1) في م ، أ : "الجن".
(2) تفسير الطبري (27/11).
(3) زيادة من م ، أ.
(4) في م : "فصيرت".
(5) في م : "وعبيد الله بن عمير".
(6) زيادة من م.

(7/429)


وقيل : المراد بالمسجور : الممنوع المكفوف عن الأرض ؛ لئلا (1) يغمرها فيغرق أهلها. قاله (2) علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه يقول السدي وغيره ، وعليه يدل الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، رحمه الله ، في مسنده ، فإنه قال :
حدثنا يزيد ، حدثنا (3) العوام ، حدثني شيخ كان مرابطا بالساحل قال : لقيت أبا صالح مولى عمر بن الخطاب فقال : حدثنا عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ليس من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات ، يستأذن الله أن ينفضخ (4) عليهم ، فيكفه الله عز وجل" (5).
وقال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي : حدثنا الحسن بن سفيان ، عن إسحاق بن راهويه ، عن يزيد - وهو ابن هارون - عن العوام بن حوشب ، حدثني شيخ مرابط قال : خرجت ليلة لحرسي (6) لم يخرج أحد من الحرس غيري ، فأتيت الميناء فصعدت ، فجعل يخيل إليَّ أن البحر يشرف يحاذي رءوس الجبال ، فعل ذلك مرارا وأنا مستيقظ ، فلقيت أبا صالح فقال : حدثنا عمر بن الخطاب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ما من ليلة إلا والبحر يشرف ثلاث مرات ، يستأذن الله أن ينفضخ عليهم ، فيكفه الله عز وجل". فيه رجل مبهم لم يسم (7).
وقوله : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } : هذا هو المقسم عليه ، أي : الواقع (8) بالكافرين ، كما قال في الآية الأخرى : { مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ } أي : ليس له دافع يدفعه عنهم إذا أراد الله بهم ذلك.
قال الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن داود ، عن صالح المري ، عن جعفر بن (9) زيد العبدي قال : خرج عمر يَعِسّ المدينة ذات ليلة ، فمر بدار رجل من المسلمين ، فوافقه قائما يصلي ، فوقف يستمع قراءته فقرأ : { والطور } حتى بلغ { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ } قال : قسم - ورب الكعبة - حق. فنزل عن حماره واستند إلى حائط ، فمكث مليا ، ثم رجع إلى منزله ، فمكث شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه ، رضي الله عنه (10).
وقال الإمام أبو عبيد في "فضائل القرآن" : حدثنا محمد بن صالح ، حدثنا هشام بن حسان ، عن الحسن : أن عمر قرأ : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ } (11) ، فربا لها ربوة عيد منها عشرين يوما (12).
وقوله : { يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا } : قال ابن عباس وقتادة : تتحرك تحريكا. وعن ابن عباس : هو تشققها ، وقال مجاهد : تدور دورا. وقال الضحاك : استدارتها وتحريكها لأمر الله ، وموج بعضها في
__________
(1) في م : "لا".
(2) في م : "وقال".
(3) في م : "بن".
(4) في م : "ينفضح".
(5) المسند (1/43) ورواه من طريق ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/52) وقال : "العوام ضعيف ، والشيخ مجهول".
(6) في م : "لمحرثي".
(7) وذكره المؤلف في مسند عمر (2/608) من رواية الإسماعيلي ، وقال : "فيه رجل مبهم لم يسم ، والله أعلم بحاله".
(8) في م : "واقع".
(9) في أ : "عن".
(10) وذكره المؤلف في مسند عمر (2/608) من رواية ابن أبي الدنيا وفي إسناده صالح المري ، ووقع في مسند عمر "المدني" فإن كان المري فهو ضعيف.
(11) زيادة من م.
(12) فضائل القرآن لأبي عبيد (ص 64).

(7/430)


إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)

بعض. وهذا اختيار ابن جرير أنه التحرك (1) في استدارة. قال : وأنشد أبو عبيدة معمر بن المثنى بيت الأعشى :
كأن مشْيَتَها من بيتِ جَارتها... مَورُ السحابة لا رَيْثٌ ولا عجل (2)
{ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا } أي : تذهب فتصير هباء منبثا ، وتنسف نسفا.
{ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } أي : ويل لهم ذلك اليوم من عذاب الله ونكاله بهم ، وعقابه لهم.
{ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ } أي : هم في الدنيا يخوضون في الباطل ، ويتخذون دينهم هزوا ولعبا.
{ يَوْمَ يُدَعُّونَ } أي : يدفعون ويساقون ، { إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } : وقال مجاهد ، والشعبي ، ومحمد بن كعب ، والضحاك ، والسدي ، والثوري : يدفعون فيها دفعا.
{ هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } أي : تقول لهم الزبانية ذلك تقريعا وتوبيخا.
{ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا } أي : ادخلوها دخول من تغمره من جميع جهاته { فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ } أي : سواء صبرتم على عذابها ونكالها أم لم تصبروا ، لا محيد لكم عنها ولا خلاص لكم منها (3) ، { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : ولا يظلم الله أحدا ، بل يجازي كلا بعمله.
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) }
يخبر تعالى عن حال السعداء فقال : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ } ، وذلك بضد ما أولئك فيه من العذاب والنكال.
{ فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } أي : يتفكهون بما آتاهم الله من النعيم ، من أصناف الملاذ ، من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب وغير ذلك ، { وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } أي : وقد نجاهم من عذاب النار ، وتلك نعمة مستقلة بذاتها على حدتها مع ما أضيف إليها من دخول الجنة ، التي فيها من السرور ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
وقوله : { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ، كقوله : { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ } [ الحاقة : 24 ]. أي هذا بذاك ، تفضلا منه وإحسانا.
وقوله : { مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ } قال الثوري ، عن حصين ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : السرر في الحجال.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا صفوان بن عمرو ؛ أنه سمع الهيثم بن
__________
(1) في م ، أ : "المتحرك".
(2) البيت في تفسير الطبري (27/13).
(3) في أ : "فيها".

(7/431)


وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)

مالك الطائي يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الرجل ليتكئ المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحول عنه ولا يمله ، يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه".
وحدثنا أبي ، حدثنا هُدْبَة بن خالد ، عن سليمان بن المغيرة ، عن ثابت قال : بلغنا أن الرجل ليتكئ في الجنة سبعين سنة ، عنده من أزواجه وخدمه وما أعطاه الله من الكرامة والنعيم ، فإذا حانت منه نظرة فإذا أزواج له لم يكن رآهن قبل ذلك ، فيقلن : قد آن لك أن تجعل لنا منك نصيبا.
ومعنى { مصفوفة } أي : وجوه بعضهم إلى بعض ، كقوله : { عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } [ الصافات : 44 ]. { وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ } أي : وجعلناهم قرينات صالحات ، وزوجات حسانا من الحور العين.
وقال مجاهد : { وزوجناهم } : أنكحناهم بحور عين ، وقد تقدم وصفهن في غير موضع بما أغنى عن إعادته.
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) }
يخبر تعالى عن فضله وكرمه ، وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه : أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان يُلحقهم بآبائهم في المنزلة وإن لم يبلغوا عملهم ، لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم ، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه ، بأن يرفع الناقص العمل ، بكامل العمل ، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته ، للتساوي بينه وبين ذاك ؛ ولهذا قال : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ }
قال الثوري ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته ، وإن كانوا دونه في العمل ، لتقر بهم عينه ثم قرأ : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ }
رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سفيان الثوري ، به. وكذا رواه ابن جرير من حديث شعبة عن عمرو بن مُرَّة به (1). ورواه البزار ، عن سهل بن بحر (2) ، عن الحسن بن حماد الوراق ، عن قيس بن الربيع ، عن عمرو بن مُرّة ، عن سعيد ، عن ابن عباس مرفوعا ، فذكره ، ثم قال : وقد رواه
__________
(1) تفسير الطبري (27/15).
(2) في أ : "يحيى".

(7/432)


الثوري ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد عن ابن عباس موقوفا (1).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد (2) البيروتي ، أخبرني محمد بن شعيب (3) أخبرني شيبان ، أخبرني ليث ، عن حبيب بن أبي ثابت الأسدي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قول الله ، عز وجل : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } قال : هم ذرية المؤمن ، يموتون على الإيمان : فإن كانت منازل آبائهم ، أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم ، ولم ينقصوا من أعمالهم التي عملوا شيئا.
وقال الحافظ الطبراني : حدثنا الحسين بن إسحاق التُّسْتَرِي ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن غَزْوان ، حدثنا شريك ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - أظنه عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال : "إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده ، فيقال : إنهم لم يبلغوا درجتك. فيقول : يا رب ، قد عملت لي ولهم. فيؤمر بإلحاقهم به ، وقرأ ابن عباس { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ } الآية (4).
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس في هذه الآية : يقول : والذين أدرك ذريتهم الإيمان فعملوا بطاعتي ، ألحقتهم بإيمانهم إلى الجنة ، وأولادهم الصغار تلحق بهم.
وهذا راجع إلى التفسير الأول ، فإن ذاك مفسر أصرح من هذا. وهكذا يقول الشعبي ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم ، وقتادة ، وأبو صالح ، والربيع بن أنس ، والضحاك ، وابن زيد. وهو اختيار ابن جرير. وقد قال عبد الله بن الإمام أحمد :
حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا حمد بن فُضَيْل ، عن محمد بن عثمان ، عن زاذان ، عن علي قال : سألتْ خديجة النبي صلى الله عليه وسلم ، عن ولدين ماتا لها في الجاهلية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هما في النار". فلما رأى الكراهة في وجهها قال : "لو رأيت مكانهما لأبغضتهما". قالت : يا رسول الله ، فولدي منك. قال : " في الجنة". قال : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن المؤمنين وأولادهم في الجنة ، وإن المشركين وأولادهم في النار". ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } [الآية] (5) (6).
هذا فضله تعالى على الأبناء ببركة عمل الآباء ، وأما فضله على الآباء ببركة دعاء الأبناء ، فقد
__________
(1) مسند البزار برقم (2260) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/114) : "فيه قيس بن الربيع وثقه شعبة والثوري ، وفيه ضعف".
(2) في م ، أ : "يزيد".
(3) في م : "شعبة".
(4) رواه الطبراني في المجمع الكبير (11/440) حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن غزوان به. ورواه في المعجم الصغير برقم (640) حدثنا عبد الله بن يزيد الدقيقي حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن غزوان به. ولم أجد رواية الحسين بن إبراهيم التستري.
(5) زيادة من م.
(6) زوائد عبد الله على المسند (1/134) وقال الهيثمي في المجمع (7/217) : "فيه محمد بن عثمان ولم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح".

(7/433)


قال الإمام أحمد :
حدثنا يزيد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن عاصم بن أبي النَّجُود ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول : يا رب ، أنى لي هذه ؟ فيقول : باستغفار ولدك لك" (1).
إسناده (2) صحيح ، ولم يخرجوه من هذا الوجه ، ولكن له شاهد في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له" (3)
وقوله : { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } لما أخبر عن مقام الفضل ، وهو رفع درجة الذرية إلى منزلة الآباء من غير عمل يقتضي ذلك ، أخبر عن مقام العدل ، وهو أنه لا يؤاخذ أحدا بذنب أحد ، بل { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } أي : مرتهن بعمله ، لا يحمل عليه ذنب غيره من الناس ، سواء كان أبا أو ابنا ، كما قال : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ } [ المدثر : 38 - 41 ].
وقوله : { وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ } أي : وألحقناهم بفواكه ولحوم من أنواع شتى ، مما يستطاب ويشتهى.
وقوله { يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا } أي : يتعاطون فيها كأسا ، أي : من الخمر. قاله الضحاك. { لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ } أي : لا يتكلمون عنها (4) بكلام لاغ أي : هَذَيَان ولا إثم أي : فُحْش ، كما تتكلم به الشربة من أهل الدنيا.
وقال ابن عباس : اللغو : الباطل. والتأثيم : الكذب.
وقال مجاهد : لا يستبون ولا يؤثمون.
وقال قتادة : كان ذلك في الدنيا مع الشيطان.
فنزه الله خمر الآخرة عن قاذورات خمر الدنيا وأذاها ، فنفى عنها - كما تقدم - صداع الرأس ، ووجع البطن ، وإزالة العقل بالكلية ، وأخبر أنها لا تحملهم على الكلام السيئ الفارغ عن الفائدة المتضمن هَذَيَانا وفُحشا ، وأخبر بحسن منظرها ، وطيب طعمها ومخبرها فقال : { بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزفُونَ } [ الصافات : 46 ، 47 ] ، وقال { لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزفُونَ } [ الواقعة : 19 ] ، وقال هاهنا : { يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ }
__________
(1) المسند (2/509).
(2) في م : "إسناد".
(3) صحيح مسلم برقم (1631).
(4) في م : "فيها".

(7/434)


فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)

وقوله : { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ } : إخبار عن خَدَمهم وحَشَمهم في الجنة كأنهم اللؤلؤ الرطب ، المكنون في حسنهم وبهائهم (1) ونظافتهم وحسن ملابسهم ، كما قال { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ } [ الواقعة : 17 ، 18 ].
وقوله : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ } أي : أقبلوا يتحادثون ويتساءلون عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا ، وهذا كما يتحادث أهل الشراب على شرابهم إذا أخذ فيهم الشراب بما كان من أمرهم.
{ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } أي : قد كنا في الدار الدنيا ونحن بين أهلنا خائفين من ربنا مشفقين من عذابه وعقابه ، { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ } أي : فتصدق علينا وأجارنا مما نخاف.
{ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ } أي : نتضرع إليه فاستجاب [الله] (2) لنا وأعطانا سؤلنا ، { إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ }
وقد ورد في هذا المقام حديث ، رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده فقال : حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا سعيد بن دينار ، حدثنا الربيع بن صبيح ، عن الحسن ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا دخل أهل الجنة الجنة اشتاقوا إلى الإخوان ، فيجيء سرير هذا حتى يحاذي سرير هذا ، فيتحدثان ، فيتكئ هذا ويتكئ هذا ، فيتحدثان بما كان في الدنيا ، فيقول أحدهما لصاحبه : يا فلان ، تدري أي يوم غفر الله لنا ؟ يوم كنا في موضع كذا وكذا ، فدعونا الله - عز وجل - فغفر لنا".
ثم قال البزار : لا نعرفه يُرْوَى إلا بهذا الإسناد (3).
قلت : وسعيد بن دينار الدمشقي قال أبو حاتم : هو مجهول ، وشيخه الربيع بن صبيح قد تكلم فيه غير واحد من جهة حفظه ، وهو رجل صالح ثقة في نفسه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأوْدِيّ ، حدثنا وَكيع ، عن الأعمش ، عن أبي الضحَى ، عن مسروق ، عن عائشة ؛ أنها قرأت هذه الآية : { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } فقالت : اللهم مُنَّ علينا وقنا عذاب السموم ، إنك أنت البر الرحيم. قيل للأعمش : في الصلاة ؟ قال : نعم (4).
{ فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) }
__________
(1) في م : "وبياضهم".
(2) زيادة من أ.
(3) مسند البزار برقم (3553) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (10/421) : "رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن دينار والربيع بن صبيح وهما ضعيفان وقد وثقا".
(4) ورواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي في شعيب الإيمان كما في الدر المنثور للسيوطي (7/634).

(7/435)


أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)

{ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) }

(7/435)


يقول (1) تعالى آمرا رسوله ، صلوات الله وسلامه عليه ، بأن يبلغ رسالته إلى عباده ، وأن يذكرهم بما أنزل الله عليه. ثم نفى عنه ما يرميه به أهل البهتان والفجور فقال : { فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ } أي : لست بحمد الله بكاهن كما تقوله (2) الجهلة من كفار قريش. والكاهن : الذي يأتيه الرئي من الجان بالكلمة يتلقاها من خبر السماء ، { وَلا مَجْنُونٍ } : وهو الذي يتخبطه الشيطان من المس.
ثم قال تعالى منكرا عليهم في قولهم في الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه : { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ } أي : قوارع الدهر. والمنون : الموت : يقولون : ننظره ونصبر عليه حتى يأتيه الموت فنستريح منه ومن شأنه ، قال الله تعالى : { قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ } أي : انتظروا فإني منتظر معكم ، وستعلمون لمن تكون العاقبة والنّصرة في الدنيا والآخرة.
قال محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : إن قريشا لما اجتمعوا في دار الندوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال قائل منهم : احتبسوه (3) في وثاق ، ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك ، كما هلك من هلك قبله من الشعراء : زهير والنابغة ، إنما هو كأحدهم. فأنزل الله في ذلك من قولهم : { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ } (4).
ثم قال تعالى : { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا } أي : عقولهم تأمرهم بهذا الذي يقولونه فيك من الأقوال الباطلة التي يعلمون في أنفسهم أنها كذب وزور ؟ { أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } أي : ولكن هم قوم ضلال معاندون ، فهذا هو الذي يحملهم على ما قالوه فيك.
وقوله : { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ } أي : اختلقه وافتراه من عند نفسه ، يعنون القرآن : قال الله : { بَلْ لا يُؤْمِنُونَ } أي : كفرهم هو الذي يحملهم (5) على هذه المقالة. { فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ } أي : إن كانوا صادقين في قولهم : "تَقوَّله وافتراه" فليأتوا بمثل ما جاء به محمد [صلى الله عليه وسلم] (6) من هذا القرآن ، فإنهم لو اجتمعوا هم وجميع أهل الأرض من الجن والإنس ، ما جاءوا بمثله ، ولا بعشر سور [من] (7) مثله ، ولا بسورة من مثله.
__________
(1) في م : "قال".
(2) في م : "يقوله".
(3) في أ : "احبسوه".
(4) رواه الطبري في تفسيره (27/19) من طريق ابن إسحاق به
(5) في م : "حملهم"
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من م.

(7/436)


أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)

{ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) }
هذا المقام في إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية ، فقال تعالى : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } أي : أوجدوا من غير موجد ؟ أم هم أوجدوا أنفسهم ؟ أي : لا هذا ولا هذا ، بل الله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا.
قال البخاري : حدثنا الحُمَيديّ ، حدثنا سفيان قال : حدثوني عن الزهري ، عن محمد بن جبير ابن مطعم ، عن أبيه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور ، فلما بلغ هذه الآية : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ. أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ. أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ } كاد قلبي أن يطير (1).
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من طرق ، عن الزهري ، به (2). وجبير بن مطعم كان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر في فداء الأسارى ، وكان إذ ذاك مشركا ، وكان سماعه هذه الآية من هذه السورة من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك.
ثم قال تعالى : { أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ } أي : أهم خلقوا السموات والأرض ؟ وهذا إنكار عليهم في شركهم بالله ، وهم يعلمون أنه الخالق وحده ، لا شريك له. ولكن عدم إيقانهم هو الذي يحملهم على ذلك ، { أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ } أي : أهم يتصرفون في الملك وبيدهم مفاتيح الخزائن ، { أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ } أي : المحاسبون للخلائق ، ليس الأمر كذلك ، بل الله ، عز وجل ، هو المالك المتصرف الفعال لما يريد.
وقوله : { أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ } أي : مرقاة إلى الملأ الأعلى ، { فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } أي : فليأت الذي يستمع لهم بحجة ظاهرة.
على صحة ما هم فيه من الفعال والمقال ، أي : وليس لهم سبيل إلى ذلك ، فليسوا على شيء ، ولا لهم دليل.
ثم قال منكرا عليهم فيما نسبوه إليه من البنات ، وجعلهم الملائكة إناثا ، واختيارهم لأنفسهم الذكور على الإناث ، بحيث إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم. هذا وقد جعلوا الملائكة بنات الله ، وعبدوهم مع الله ، فقال : { أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ } وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ، { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا } أي : أجرة على إبلاغك إياهم رسالة الله ؟ أي : لست تسألهم على ذلك شيئا ، { فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ } أي : فهم (3) من أدنى شيء يتبرمون منه ، ويثقلهم ويشق عليهم ، { أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } أي : ليس الأمر كذلك ، فإنه لا يعلم أحد من أهل السموات والأرض الغيب إلا الله ، { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ } يقول تعالى : أم يريد هؤلاء بقولهم
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4854).
(2) صحيح البخاري برقم (765) ، (4023) وصحيح مسلم برقم (463).
(3) في م ، أ : "فإنهم".

(7/437)


وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)

هذا في الرسول وفي الدين غرور الناس وكيد الرسول وأصحابه ، فكيدهم إنما يرجع وباله على أنفسهم ، فالذين كفروا هم المكيدون ، { أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ }. وهذا إنكار شديد على المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد مع الله. ثم نزه نفسه الكريمة عما يقولون ويفترون ويشركون ، فقال : { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ }
{ وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49) }
يقول تعالى مخبرا عن المشركين بالعناد والمكابرة للمحسوس : { وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا } أي : عليهم يعذبون به ، لما صدقوا ولما (1) أيقنوا ، بل يقولون : هذا { سَحَابٌ مَرْكُومٌ } أي : متراكم. وهذه كقوله تعالى : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ } [ الحجر : 14 ، 15 ]. قال الله تعالى : { فذرهم } أي : دعهم - يا محمد - { حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ } ، وذلك يوم القيامة ، { يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } أي : لا ينفعهم كيدهم ومكرهم الذي استعملوه في الدنيا ، لا يُجدي عنهم يوم القيامة شيئا ، { وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ }
ثم قال : { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ } أي : قبل ذلك في الدار الدنيا ، كقوله : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ السجدة : 21 ] ، ولهذا قال : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } أي : نعذبهم في الدنيا ، ونبتليهم فيها بالمصائب ، لعلهم يرجعون وينيبون (2) ، فلا يفهمون ما يراد بهم ، بل إذا جلي عنهم مما كانوا فيه ، عادوا إلى أسوأ (3) ما كانوا عليه ، كما جاء في بعض الأحاديث : "إن المنافق إذا مرض وعوفي مثله في ذلك كمثل البعير ، لا يدري فيما عقلوه ولا فيما أرسلوه" (4). وفي الأثر الإلهي : كم أعصيك ولا تعاقبني ؟ قال الله : يا عبدي ، كم أعافيك (5) وأنت لا تدري ؟
وقوله : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } أي : اصبر على أذاهم ولا تبالهم ، فإنك بمرأى منا وتحت كلاءتنا ، والله يعصمك من الناس.
وقوله : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } قال الضحاك : أي إلى الصلاة : سبحانك اللهم
__________
(1) في م : "ولا".
(2) في أ : "ينسون"
(3) في أ : "أشر".
(4) رواه أبو داود في السنن برقم (3089) من حديث عامر الرام رضي الله عنه.
(5) في م ، أ : "أعاقبك".

(7/438)


وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك.
وقد روي مثله عن الربيع بن أنس ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهما.
وروى مسلم في صحيحه ، عن عمر أنه كان يقول هذا في ابتداء الصلاة (1). ورواه أحمد وأهل السنن ، عن أبي سعيد وغيره ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك (2).
وقال أبو الجوزاء : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } أي : من نومك من فراشك. واختاره ابن جرير : ويتأيد هذا القول بما رواه الإمام أحمد :
حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني عُمَير (3) بن هانئ ، حدثني جنادة بن أبي أمية ، حدثنا عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من تعار من الليل فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير. سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم قال : رب اغفر لي - أو قال : ثم دعا - استجيب له ، فإن عزم فتوضأ ، ثم صلى تقبلت صلاته".
وأخرجه البخاري في صحيحه ، وأهل السنن ، من حديث الوليد بن مسلم ، به (4).
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } قال : من كل مجلس.
وقال الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } قال : إذا أراد الرجل أن يقوم من مجلسه قال : سبحانك اللهم وبحمدك.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم الدمشقي ، حدثنا محمد ابن شعيب ، أخبرني طلحة بن عمرو الحضرمي ، عن عطاء بن أبي رباح ؛ أنه حدثه عن قول الله : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } يقول : حين تقوم من كل مجلس ، إن كنت أحسنت ازددت خيرا ، وإن كان غير ذلك كان هذا كفارة له.
وقد قال عبد الرزاق في جامعه : أخبرنا معمر ، عن عبد الكريم الجَزَرِي ، عن أبي عثمان الفقير ؛ أن جبريل علم النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه أن يقول : سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك. قال معمر : وسمعت غيره يقول : هذا القول كفارة المجالس (5)
وهذا مرسل ، وقد وردت أحاديث مسندة من طرق - يقوي بعضها بعضا - بذلك ، فمن ذلك حديث ابن جُرَيْج ، عن سُهَيْل بن (6) أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
__________
(1) صحيح مسلم برقم (399).
(2) المسند (3/50) وسنن أبي داود برقم (775) وسنن الترمذي برقم (242) وسنن النسائي (2/132) وسنن ابن ماجة برقم (804).
(3) في أ : "عمر".
(4) المسند (5/313) وصحيح البخاري برقم (1154) وسنن أبي داود برقم (5060) وسنن الترمذي برقم (3414) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10697) وسنن ابن ماجة برقم (3878).
(5) المصنف برقم (19796).
(6) في م : "عن".

(7/439)


من جلس في مجلس فكثر (1) فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه : سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ، إلا غفر (2) له ما كان في مجلسه ذلك".
رواه الترمذي - وهذا لفظه - والنسائي في اليوم والليلة ، من حديث ابن جريج. وقال الترمذي : حسن صحيح. وأخرجه الحاكم في مستدركه وقال : إسناد على شرط مسلم ، إلا أن البخاري علله (3).
قلت : علله الإمام أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو حاتم ، وأبو زُرَعة ، والدارقطني ، وغيرهم. ونسبوا الوهم فيه إلى ابن جُرَيْج. على أن أبا داود قد رواه في سننه من طريق غير (4) ابن جريج إلى أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه (5) ورواه أبو داود - واللفظ له - والنسائي ، والحاكم في المستدرك ، من طريق الحجاج بن دينار ، عن هاشم (6) عن أبي العالية ، عن أبي بَرْزَة الأسلمي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس : "سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك". فقال رجل : يا رسول الله ، إنك لتقول قولا ما كنت تقوله فيما مضى ؟! قال : "كفارة لما يكون في المجلس" (7).
وقد روي مرسلا عن أبي العالية ، والله (8) أعلم. وهكذا رواه النسائي والحاكم ، من حديث الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن رافع بن خَدِيج ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله سواء (9) وروي مرسلا أيضا ، والله أعلم. وكذا رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو ؛ أنه قال : "كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات ، إلا كفر بهن عنه ، ولا يقولهن في مجلس خير ومجلس ذكر ، إلا ختم له بهن كما يختم بالخاتم على الصحيفة : سبحانك اللهم وبحمدك ، لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك" (10) وأخرجه الحاكم من حديث أم المؤمنين عائشة ، وصححه ، ومن رواية جُبَير بن مطعم (11) ورواه أبو بكر الإسماعيلي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أفردت لذلك جزءا على حدة بذكر طرقه وألفاظه وعلله ، وما يتعلق به ، ولله الحمد والمنة (12)
وقوله : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ } أي : اذكره واعبده بالتلاوة والصلاة في الليل ، كما قال : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } [ الإسراء : 79 ].
__________
(1) في : "فأكثر".
(2) في م ، أ : "إلا غفر الله له".
(3) سنن الترمذي برقم (3433) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10230) والمستدرك (1/536).
(4) في أ : "عن".
(5) سنن أبي داود برقم (4858).
(6) في أ : "عن أبي هاشم".
(7) سنن أبي داود برقم (4859) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10259) والمستدرك (1/537).
(8) في م : "فالله".
(9) النسائي في السنن الكبرى برقم (10260) والمستدرك (1/537).
(10) سنن أبي داود برقم (4857).
(11) المستدرك (1/537).
(12) وقد ذكرت أحاديث كفارة المجلس عند تفسير الصافات في خاتمتها.

(7/440)


وقوله : { وَإِدْبَارَ النُّجُومِ } قد تقدم في حديث ابن عباس أنهما الركعتان اللتان قبل صلاة الفجر ، فإنهما مشروعتان عند إدبار النجوم ، أي : عند جنوحها للغيبوبة. وقد روى (1) [في حديث] (2) ابن سيلان ، عن أبي هريرة مرفوعا : "لا تَدَعُوهما ، وإن طردتكم الخيل". يعني : ركعتي الفجر (3) رواه أبو داود. ومن هذا الحديث حكي عن بعض أصحاب الإمام أحمد القول بوجوبهما ، وهو ضعيف لحديث : "خمس صلوات في اليوم والليلة". قال : هل علي غيرها (4) ؟ قال : "لا إلا أن تطوع" (5) وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهدًا منه على ركعتي الفجر (6) وفي لفظ لمسلم : "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" (7)
آخر تفسير سورة الطور [ والله أعلم] (8)
__________
(1) في م ، أ : "ورد".
(2) زيادة من م ، أ.
(3) رواه أبو داود في السنن برقم (1258).
(4) في أ : "غيرهن".
(5) رواه البخاري في صحيحه برقم (46) ومسلم في صحيحه برقم (11) من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
(6) صحيح البخاري برقم (1169) وصحيح مسلم برقم (724).
(7) صحيح مسلم برقم (725).
(8) زيادة من أ.

(7/441)


وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)

تفسير سورة النجم
وهي مكية.
قال البخاري : حدثنا نصر بن علي ، أخبرني أبو أحمد ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الأسود بن يزيد ، عن عبد الله قال : أولُ سورة أنزلت فيها سَجْدة : { والنَّجم } ، قال : فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه ، إلا رجلا رأيته أخذ كفًّا من تُرَاب فسجد عليه ، فرأيته بعد ذلك قُتِل كافرًا ، وهو أمية بن خَلَف (1).
وقد رواه البخاري أيضا في مواضع ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، من طرق ، عن أبي إسحاق ، به (2). وقوله في الممتنع : إنه أمية بن خلف في هذه الرواية مشكل ، فإنه قد جاء من غير هذه الطريق أنه عتبة بن ربيعة.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى (4) }.
قال الشعبي وغيره : الخالق يُقسِم بما شاء من خَلْقه ، والمخلوق لا ينبغي له أن يقسم إلا بالخالق. رواه ابن أبي حاتم.
واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } فقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : يعني بالنجم : الثُّريَّا إذا سقطت مع الفجر. وكذا رُوي عن ابن عباس ، وسفيان الثوري. واختاره ابن جرير. وزعم السدي أنها الزهرة.
وقال الضحاك : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } إذا رُمي به الشياطين. وهذا القول له اتجاه.
وروى الأعمش ، عن مجاهد في قوله : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } يعني : القرآن إذا نزل. وهذه الآية كقوله تعالى : { فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ. تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الواقعة : 75 - 80 ].
وقوله : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } هذا هو المقسم عليه ، وهو الشهادة للرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، بأنه بار راشد تابع للحق ، ليس بضال ، وهو : الجاهل الذي يسلك على غير طريق
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4863).
(2) صحيح البخاري برقم (1070 ، 3853 ، 3972) وصحيح مسلم برقم (576) وسنن أبي داود برقم (1406) وسنن النسائي (2/160).

(7/442)


بغير علم ، والغاوي : هو العالم بالحق العادل عنه قصدًا إلى غيره ، فنزه الله [سبحانه وتعالى] (1) رسوله وشَرْعَه عن مشابهة أهل (2) الضلال كالنصارى وطرائق اليهود ، وعن (3) علم الشيء وكتمانه والعمل بخلافه ، بل هو صلوات الله وسلامه عليه ، وما بعثه الله به من الشرع العظيم في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد ؛ ولهذا قال : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } أي : ما يقول قولا عن هوى وغرض ، { إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى } أي : إنما يقول ما أمر به ، يبلغه إلى الناس كاملا موفَّرًا من غير زيادة ولا نقصان ، كما رواه الإمام أحمد.
حدثنا يزيد ، حدثنا حَرِيز بن عثمان ، عن عبد الرحمن بن مَيْسَرَة ، عن أبي أمامة ؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ليدخلنّ الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثلُ الحيين - أو : مثل أحد الحيين - : رَبِيعة ومُضَر". فقال رجل : يا رسول الله ، أو ما ربيعة من مضر ؟ قال : "إنما أقول ما أقول" (4).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عُبَيد الله بن الأخنس ، أخبرنا الوليد بن عبد الله ، عن يوسف بن مَاهَك ، عن عبد الله بن عمرو قال : كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه ، فنهتني قريش فقالوا : إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر ، يتكلم في الغضب. فأمسكتُ عن الكتاب ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : "اكتب ، فوالذي نفسي بيده ، ما خرج مني إلا حق".
ورواه أبو داود عن مُسَدَّد وأبي بكر بن أبي شيبة ، كلاهما عن يحيى بن سعيد القَطَّان ، به (5).
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أحمد بن منصور ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا الليث ، عن ابن عَجْلان ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح ، عن أبي هُرَيرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما أخبرتكم أنه الذي من عند الله ، فهو الذي لا شَكّ فيه". ثم قال : لا نعلمه يُروَى إلا بهذا الإسناد (6).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا ليث ، عن محمد ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا أقول إلا حقا". قال بعض أصحابه : فإنك تداعبنا يا رسول الله ؟ قال : "إني لا أقول إلا حقا" (7).
__________
(1) زيادة من م.
(2) في م : "أصحاب".
(3) في م : "وهي".
(4) المسند (5/257) وقال الهيثمي في المجمع (10/381) : "رجال أحمد رجال الصحيح غير عبد الرحمن بن ميسرة وهو ثقة".
(5) المسند (2/162) وسنن أبي داود برقم (3646).
(6) مسند البزار برقم (203) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (1/179) : "فيه أحمد بن منصور الرمادي وهو ثقة ، وفيه كلام لا يضر وبقية رجاله رجال الصحيح ، وعبد الله بن صالح مختلف فيه".
(7) المسند (2/340) ورواه الترمذي في السنن برقم (1990) من طريق المقبري به وقال : "هذا حديث حسن صحيح".

(7/443)


عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)

{ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) }.
يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه عَلَّمه الذي جاء به إلى الناس { شَدِيدُ الْقُوَى } ، وهو جبريل ، عليه السلام ، كما قال : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [ التكوير : 19 - 21 ].
وقال هاهنا : { ذُو مِرَّةٍ } أي : ذو قوة. قاله مجاهد ، والحسن ، وابن زيد. وقال ابن عباس : ذو منظر حسن.
وقال قتادة : ذو خَلْق طويل حسن.
ولا منافاة بين القولين ؛ فإنه ، عليه السلام ، ذو منظر حسن ، وقوة شديدة. وقد ورد في الحديث الصحيح من رواية أبي هريرة وابن عمرو (1) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا تحل الصدقة لغنيٍّ ، ولا لِذِي مرّة سَوِيّ" (2).
وقوله : { فَاسْتَوَى } يعني : جبريل ، عليه السلام. قاله مجاهد والحسن وقتادة ، والربيع بن أنس.
{ وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى } يعني : جبريل ، استوى في الأفق الأعلى. قاله عكرمة وغير واحد. قال عكرمة : والأفق الأعلى : الذي يأتي منه الصبح. وقال مجاهد : هو مطلع الشمس. وقال قتادة : هو الذي يأتي منه النهار. وكذا قال ابن زيد ، وغيرهم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا مُصَرِّف بن عمرو اليامي أبو القاسم ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن طلحة بن مصرف ، حدثني أبي ، عن الوليد - هو ابن قيس - عن إسحاق بن أبي الكَهْتَلَة أظنه ذكره عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين ، أما واحدة فإنه سأله أن يراه في صورته فسد الأفق. وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد ، فذلك (3) قوله : { وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى }.
وقد قال ابن جرير هاهنا قولا لم أره لغيره ، ولا حكاه هو عن أحد ، وحاصله : أنه ذهب إلى أن المعنى : { فَاسْتَوَى } أي : هذا الشديد القوى ذو المرة هو ومحمد صلى الله عليهما وسلم { بِالأفُقِ الأعْلَى } أي : استويا جميعا بالأفق ، وذلك ليلة الإسراء كذا قال ، ولم يوافقه أحد على ذلك. ثم
__________
(1) في م : "ابن عمرو وأبي هريرة".
(2) حديث عبد الله بن عمرو : رواه أبو داود في السنن برقم (1634) والترمذي في السنن برقم (652) عن ريحان بن يزيد عنه وحديث أبي هريرة : رواه النسائي في السنن (5/99) وابن ماجه في السنن برقم (1839) عن سالم بن أبي الجعد عنه.
(3) في م : "فكذلك".

(7/444)


شرع يوجه ما قال من حيث العربية فقال : وهذا كقوله تعالى : { أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا } [ النمل : 67 ] ، فعطف بالآباء على المكنّى في { كنا } من غير إظهار "نحن" ، فكذلك قوله : { فَاسْتَوَى. وَهُوَ } قال : وذكر الفراء عن بعض العرب أنه أنشده :
ألم تَرَ أنّ النبعَ يَصْلُبُ عُودُه... ولا يَسْتَوي والخرْوعُ المُتَقصِّفُ (1)
وهذا الذي قاله من جهة العربية متجه ، ولكن لا يساعده المعنى على ذلك ؛ فإن هذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء ، بل قبلها ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الأرض ، فهبط عليه جبريل ، عليه السلام ، وتدلى إليه ، فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها ، له ستمائة جناح ، ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ، يعني ليلة الإسراء ، وكانت هذه الرؤية الأولى في أوائل البعثة بعد ما جاءه جبريل ، عليه السلام ، أول مرة ، فأوحى الله إليه صدر سورة "اقرأ" ، ثم فتر الوحي فترة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم فيها مرارا ليتردى من رؤوس الجبال ، فكلما هَمّ بذلك ناداه جبريل من الهواء : "يا محمد ، أنت رسول الله حقا ، وأنا جبريل". فيسكن لذلك جأشه ، وتقر عينه ، وكلما طال عليه الأمر عاد لمثلها ، حتى تَبَدّى له جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأبطح في صورته التي خلقه الله عليها ، له ستمائة جناح قد سد عُظْم خلقه الأفق ، فاقترب منه (2) وأوحى إليه عن الله ، عز وجل ، ما أمره به ، فعرف عند ذلك عظمة المَلَك الذي جاءه بالرسالة ، وجلالة قَدْره ، وعلوّ مكانته عند خالقه الذي بعثه إليه. فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حيث قال :
حدثنا سلمة بن شَبِيب ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا الحارث بن عبيد ، عن أبي عمران الجَوْني ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بينا أنا قاعد إذ جاء جبريل ، عليه السلام ، فوَكَز بين كتفي ، فقمت إلى شجرة فيها كَوَكْرَي الطير ، فقعد في أحدهما وقعدت في الآخر. فَسَمَت وارتفعت حتى سَدّت الخافقين وأنا أقلب طرفي ، ولو شئت أن أمس السماء لمسست ، فالتفت إلي جبريل كأنه حلْس لاطٍ (3) ، فعرفتُ فضل علْمه بالله علي. وفُتِح لي بابٌ من أبواب السماء ورأيت النور الأعظم ، وإذا دون الحجاب رفرفة الدر والياقوت. وأوحى إلي ما شاء الله أن يوحي".
ثم قال البزار : لا يرويه إلا الحارث بن عبيد ، وكان رجلا مشهورا من أهل البصرة (4).
قلت : الحارث بن عُبَيد هذا هو أبو قدامة الإيادي ، أخرج له مسلم في صحيحه إلا أن ابن معين ضعَّفه ، وقال : ليس هو بشيء. وقال الإمام أحمد : مضطرب الحديث. وقال أبو حاتم الرازي : كتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن حبان : كَثُر وَهَمه فلا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد. فهذا الحديث من غرائب رواياته ، فإن فيه نكارة وغرابة ألفاظ وسياقًا عجيبا ، ولعله منام ، والله أعلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، حدثنا شريك ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن عبد الله
__________
(1) البيت في تفسير الطبري (27/25) وهو لجرير بن عطية.
(2) في م : "وأقرب منه".
(3) في م : "لاطي".
(4) مسند البزار برقم (58).

(7/445)


قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح ، كل جناح منها قد سَدّ الأفق ، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم (1). انفرد به أحمد (2).
وقال أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن إدريس بن مُنَبِّه ، عن وهب بن منبه ، عن ابن عباس قال : سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل أن يراه في صورته ، فقال : ادع ربك. فدعا ربه ، عز وجل ، فطلع عليه سواد من قبل المشرق ، فجعل يرتفع وينتشر ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم صعِق ، فأتاه فَنَعَشَه ومسح البزاق عن شِدْقه.
انفرد به أحمد (3). وقد رواه ابن عساكر في ترجمة "عتبة بن أبي لهب" ، من طريق محمد بن إسحاق ، عن عثمان بن عروة بن الزبير ، عن أبيه ، عن هَبَّار بن الأسود قال : كان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهزا إلى الشام ، فتجهزت معهما ، فقال ابنه عتبة : والله لأنطلقن إلى محمد ولأوذينه في ربه ، سبحانه ، فانطلق حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ، هو يكفر بالذي دنى فتدلى ، فكان قاب قوسين أو أدنى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم ابعث إليه كلبا من كلابك". ثم انصرف عنه فرجع إلى أبيه فقال : يا بني ، ما قلت له ؟ فذكر له ما قال له ، قال : فما قال لك ؟ قال : قال : "اللهم سلط عليه كلبا من كلابك" قال : يا بني ، والله ما آمنُ عليك دُعاءه. فسرنا حتى نزلنا الشراة ، وهي مأْسَدَة ، ونزلنا إلى صَوْمَعة راهب ، فقال الراهب : يا معشر العرب ، ما أنزلكم هذه البلاد فإنها تسرح الأسْدُ فيها كما تسرح الغنم ؟ فقال لنا أبو لهب : إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي ، وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوةً - والله - ما آمنها عليه ، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة ، وافرشوا لابني عليها ، ثم افرشوا حولها. ففعلنا ، فجاء الأسد فَشَمّ وجوهنا ، فلما لم يجد ما يريد تَقَبّض ، فوثب ، فإذا هو فوق المتاع ، فشم وجهه ثم هزمه هَزْمة فَفَضخ رأسه. فقال أبو لهب : قد عرفت أنه لا ينفلت عن دعوة محمد (4).
وقوله : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } أي : فاقترب جبريل إلى محمد لما هبط عليه إلى الأرض ، حتى كان بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أي : بقدرهما إذا مُدّا. قاله (5) مجاهد ، وقتادة.
وقد قيل : إن المراد بذلك بُعدُ ما بين وتر القوس إلى كبدها.
وقوله : { أَوْ أَدْنَى } قد تقدم أن هذه الصيغة تستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه ونفي ما زاد عليه ، كقوله : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [ البقرة : 74 ] ، أي : ما هي بألين من الحجارة ، بل هي مثلها أو تزيد عليها في الشدة والقسوة. وكذا قوله : { يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [ النساء : 77 ] ، وقوله : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [الصافات : 147] ،
__________
(1) في أ : "أعلم".
(2) المسند (1/395).
(3) المسند (1/322).
(4) لم أجد ترجمة عتبة بن أبي لهب في تاريخ دمشق المخطوط ولا في مختصره لابن منظور.
(5) في م : "قال".

(7/446)


أي : ليسوا أقل منها بل هم مائة ألف حقيقة ، أو يزيدون عليها. فهذا تحقيق للمخبر به لا شك ولا تردد (1) ، فإن هذا ممتنع هاهنا ، وهكذا هذه الآية : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى }.
وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني الذي صار بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم ، إنما هو جبريل ، عليه السلام ، هو قول أم المؤمنين عائشة ، وابن مسعود ، وأبي ذر ، وأبي هريرة ، كما سنورد أحاديثهم قريبا إن شاء الله. وروى مسلم في صحيحه ، عن ابن عباس أنه قال : "رأى محمد ربه بفؤاده مرتين" (2). فجعل هذه إحداهما. وجاء في حديث شريك بن أبي نمر ، عن أنس في حديث الإسراء : "ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى" ولهذا تكلم (3) كثير من الناس في متن هذه الرواية ، وذكروا أشياء فيها من الغرابة ، فإن صح فهو محمول على وقت آخر وقصة أخرى ، لا أنها تفسير لهذه الآية ؛ فإن هذه كانت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض لا ليلة الإسراء ؛ ولهذا قال بعده : { وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى } ، فهذه هي ليلة الإسراء والأولى كانت في الأرض.
وقد قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا سليمان الشيباني ، حدثنا زر بن حبيش قال : قال عبد الله بن مسعود في هذه الآية : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "رأيت جبريل له ستمائة جناح" (4).
وقال ابن وهب : حدثنا ابن لَهِيعة ، عن أبي الأسود ، عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : كان أولَ شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى في منامه جبريل بأجياد ، ثم إنه خرج ليقضي حاجته فصرخ به جبريل : يا محمد ، يا محمد. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينا وشمالا فلم ير شيئًا (5) - ثلاثا - ثم رفع بصره فإذا هو ثان إحدى رجليه مع (6) الأخرى على أفق السماء فقال : يا محمد ، جبريل ، جبريلُ - يُسكّنه - فهرب النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخل في الناس ، فنظر فلم ير شيئًا ، ثم خرج من الناس ، ثم نظر فرآه ، فدخل في الناس فلم ير شيئًا ، ثم خرج فنظر فرآه ، فذلك قول الله عز وجل : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. [مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (7) ] } إلى قوله : { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } يعني جبريل إلى محمد ، { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } : ويقولون : القاب نصف الأصبع. وقال بعضهم : ذراعين كان بينهما.
رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، من حديث ابن وهب (8). وفي حديث الزهري عن أبي سلمة ، عن جابر شاهد لهذا.
وروى البخاري عن طَلْق بن غنام ، عن زائدة ، عن الشيباني قال : سألت زرًّا عن قوله :
__________
(1) في م ، أ : "ولا ترديد".
(2) صحيح مسلم برقم (176).
(3) في م : "ولهذا قد تكلم".
(4) تفسير الطبري (27/27).
(5) في م : "أحدا".
(6) في م ، أ : "على".
(7) زيادة من م.
(8) تفسير الطبري (27/27).

(7/447)


{ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } قال : حدثنا عبد الله أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح (1).
وقال ابن جرير : حدثني ابن بَزِيع البغدادي ، حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله : { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه حلتا (2) رفرف ، قد ملأ ما بين السماء والأرض (3).
فعلى ما ذكرناه يكون قوله : { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } معناه : فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى. أو : فأوحى الله إلى عبده محمد ما أوحى بواسطة جبريل وكلا المعنيين صحيح ، وقد ذُكر عن سعيد بن جبير في قوله : { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } ، قال : أوحى إليه : "ألم أجدك يتيما" { ، وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [ الشرح : 4 ].
وقال غيره : أوحى [الله] (4) إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها ، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك.
وقوله : { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى. أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى } قال مسلم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وَكيع ، حدثنا الأعمش ، عن زياد بن حُصَين ، عن أبي العالية ، عن ابن عباس : { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } ، { وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى } قال : رآه بفؤاده مرتين (5).
وكذا رواه سِمَاك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله. وكذا قال أبو صالح والسّدي وغيرهما : إنه رآه بفؤاده مرتين [أو مرة] (6) ، وقد خالفه ابن مسعود وغيره (7) ، وفي رواية عنه أنه أطلق الرؤية ، وهي محمولة على المقيدة بالفؤاد. ومن روى عنه بالبصر فقد أغرب ، فإنه لا يصح في ذلك شيء عن الصحابة ، رضي الله عنهم ، وقولُ البغوي في تفسيره : وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه ، وهو قول أنس والحسنُ وعكرمة. فيه نظر ، والله أعلم (8).
وقال الترمذي : حدثنا محمد بن عمرو بن نَبْهان (9) بن صفوان ، حدثنا يحيى بن كثير العنبري ، عن سَلْم بن جعفر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : رأى محمد ربه. قلت : أليس الله يقول : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ } [الأنعام : 103] قال : ويحك! ذاك إذا تَجَلى بنوره الذي هو نُورُه ، وقد رأى ربه مرتين.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4857).
(2) في م ، أ : "ليا".
(3) تفسير الطبري (27/29).
(4) زيادة من أ.
(5) صحيح مسلم برقم (176).
(6) زيادة من م.
(7) في م : "ابن عمرو عنه".
(8) انظر تفسير البغوي (7/403).
(9) في م : "منهال".

(7/448)


ثم قال : حسن غريب (1).
وقال أيضا : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن مجالد ، عن الشعبي قال : لقي ابن عباس كعبًا بعرفة ، فسأله عن شيء فكَبَّر حتى جاوبته الجبال ، فقال ابن عباس : إنا بنو هاشم فقال كعب : إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى ، فكلم موسى مرتين ورآه محمد مرتين. وقال مسروق : دخلتُ على عائشة فقلت : هل رأى محمد ربه ؟ فقالت : لقد تكلمت بشيء قَفَّ له شعري. فقلت : رُوَيدًا ، ثم قرأتُ : { لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى }
فقالت : أين يُذهَبُ بك ؟ إنما هو جبريل من أخبرك أن محمدا رأى ربه أو كتم شيئا مما أمرَ به ، أو يعلم الخمس التي قال الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ } [لقمان : 34] ، فقد أعظم الفرية (2) ، ولكنه رأى جبريل ، لم يره في صورته إلا مرتين ، مرة عند سدرة المنتهى ومرة في جياد (3) ، وله ستمائة جناح قد سد الأفق (4).
وقال النسائي : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : أتعجبون أن تكون الحُلَّة لإبراهيم ، والكلام لموسى ، والرؤية لمحمد ، عليهم السلام ؟! (5).
وفي صحيح مسلم ، عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هل رأيتَ ربك ؟ فقال : "نورٌ أنّى أراه". وفي رواية : "رأيت نورا" (6).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد ، عن موسى بن عُبيدةَ ، عن محمد بن كعب قال : قالوا : يا رسول الله ، رأيت (7) ربك ؟ قال : "رأيته بفؤادي مرتين" ثم قرأ : { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى }.
ورواه ابنُ جرير ، عن ابن حُمَيد ، عن مِهْرَان ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب ، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : قلنا : يا رسول الله ، هل رأيت ربك ؟ قال : "لم أره بعيني ، ورأيته بفؤادي مرتين" ثم تلا { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } (8).
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3279).
(2) في م : "أعظم على الله الفرية".
(3) في م : "أجنادين".
(4) سنن الترمذي برقم (3278).
(5) النسائي في السنن الكبرى برقم (11539).
(6) صحيح مسلم برقم (178).
(7) في أ : "هل رأيت".
(8) تفسير الطبري (27/27).

(7/449)


ثم قال ابن أبي حاتم : وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، أخبرني عَبَّاد بن منصور قال : سألت عكرمة : { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } ، فقال عكرمة : تريد أن أخبرك أنه قد رآه ؟ قلت : نعم. قال : قد رآه ، ثم قد رآه. قال : فسألت عنه الحسن فقال : رأى جلاله وعَظَمته ورِداءَه.
وحدثنا أبي ، حدثنا محمد بن مجاهد ، حدثنا أبو عامر العقدي ، أخبرنا أبو خلدة ، عن أبي العالية قال : سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل رأيت ربك ؟ قال : "رأيت نهرا ، ورأيت وراء النهر حجابا ، ورأيت وراء الحجاب نورا لم أر غير" (1).
وذلك غريب جدا ، فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد :
حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "رأيت ربي عز وجل" (2).
فإنه حديث إسناده على شرط الصحيح ، لكنه مختصر من حديث المنام كما رواه الإمام أحمد أيضا :
حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن أيوب ، عن أبي قِلابة عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أتاني ربي الليلة في أحسن صورة - أحسبه يعني في النوم - فقال : يا محمد ، أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟" قال : "قلت : لا. فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بَرْدَها بين ثدييّ - أو قال : نَحْرِي - فعلمت ما في السموات وما في الأرض ، ثم قال : يا محمد ، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟" قال : "قلت : نعم ، يختصمون في الكفارات والدرجات". قال : "وما الكفارات والدرجات ؟" قال : "قلت : المكث في المساجد بعد الصلوات ، والمشي على الأقدام إلى الجُمُعات (3) ، وإبلاغ الوضوء في المكاره ، من فعل ذلك عاش بخير ومات بخير ، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه. وقال : قل يا محمد إذا صليت : اللهم ، إني أسألك الخيرات (4) وترك المنكرات ، وحبّ المساكين ، وإذا أردت بعبادك فتنة أن تقبضني إليك غير مفتون". قال : "والدرجات بَذْلُ الطعام ، وإفشاء السلام ، والصلاة بالليل والناس نيام" (5).
وقد تقدم في آخر سورة "ص" ، عن معاذ نحوه (6). وقد رواه ابن جرير من وجه آخر عن ابن عباس ، وفيه سياق آخر وزيادة غريبة فقال :
حدثني أحمد بن عيسى التميمي ، حدثني سليمان بن عُمَر بن سَيَّار ، حدثني أبي ، عن سعيد بن زَرْبِي ، عن عمر بن سليمان (7) ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "رأيت ربي في
__________
(1) ورواه ابن المنذر كما في الدر المنثور (7/648) وهو مرسل.
(2) المسند (1/285).
(3) في هـ ، أ : "الجماعات".
(4) في م : "إني أسألك فعل الخيرات".
(5) المسند (1/368).
(6) انظر تفسير الآية : 69 من سورة "ص".
(7) في أ : "سليم".

(7/450)


أحسن صورة فقال لي : يا محمد ، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ فقلت : لا يا رب. فوضع يده بين كتفي فوجدت بَرْدَها بين ثدييّ ، فعلمت ما في السموات والأرض ، فقلت : يا رب ، في الدرجات والكفارات ، ونقل الأقدام إلى الجُمُعات (1) ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة. فقلت : يا رب إنك اتخذت إبراهيم خليلا وكلمتَ موسى تكليما ، وفعلت وفعلت ، فقال : ألم أشرح لك صدرك ؟ ألم أضع عنك وِزْرَك ؟ ألم أفعل بك ؟ ألم أفعل ؟ قال : "فأفضى إلي بأشياء لم يؤذن لي أن أحدثكموها" قال : "فذاك قوله في كتابه : { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى. مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } ، فجعل نور بصري في فؤادي ، فنظرت إليه بفؤادي". إسناده ضعيف (2).
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر بسنده إلى هَبَّار بن الأسود ، رضي الله عنه ؛ أن عتبة بن أبي لهب لما خرج في تجارة إلى الشام قال لأهل مكة : اعلموا أني كافر بالذي دنا فتدلى. فبلغ قوله رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : "سَلَّطَ الله عليه كلبا من كلابه". قال هبار : فكنت معهم ، فنزلنا بأرض كثيرة الأسد ، قال : فلقد رأيت الأسد جاء فجعل يشم رؤوس القوم واحدا واحدا ، حتى تخطى إلى عتبة فاقتطع رأسه من بينهم (3).
وذكر ابن إسحاق وغيره في السيرة : أن ذلك كان بأرض الزرقاء ، وقيل : بالسراة ، وأنه خاف ليلتئذ ، وأنهم جعلوه بينهم وناموا من حوله ، فجاء الأسد فجعل يزأر ، ثم تخطاهم إليه فضغم رأسه ، لعنه الله.
وقوله : { وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى } ، هذه هي المرة الثانية التي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها جبريل على صورته التي خلقه الله عليها ، وكانت ليلة الإسراء. وقد قدمنا الأحاديث الواردة في الإسراء بطرقها وألفاظها في أول سورة "سبحان" بما أغنى عن إعادته هاهنا ، وتقدم أن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، كان يثبت الرؤية ليلة الإسراء ، ويستشهد بهذه الآية. وتابعه جماعة من السلف والخلف ، وقد خالفه جماعات من الصحابة ، رضي الله عنهم ، والتابعين وغيرهم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن عاصم بن بَهْدَلَة ، عن زر بن حُبَيْش ، عن ابن مسعود في هذه الآية : { وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى } ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "رأيت جبريل وله ستمائة جناح ، ينتثر من ريشه التهاويل : الدرّ والياقوت" (4). وهذا إسناد جيد قوي.
وقال أحمد أيضا : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا شريك ، عن جامع بن أبي راشد ، عن أبي وائل ،
__________
(1) في أ : "الجماعات".
(2) تفسير الطبري (27/28).
(3) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (27/63) ولم يقع لي في ترجمته فيما بين يدي من مخطوطات تاريخ دمشق.
(4) المسند (1/460).

(7/451)


عن عبد الله قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح ، كل جناح منها قد سد الأفق : يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم" (1). إسناده حسن أيضا.
وقال أحمد أيضا : حدثنا زيد بن الحُبَاب ، حدثني حسين ، حدثني عاصم بن بَهْدَلَة قال : سمعت شَقِيق بن سلمة يقول : سمعت ابن مسعود يقول قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : "رأيت جبريل على سدرة (2) المنتهى وله ستمائة جناح" سألت عاصما عن الأجنحة فأبى أن يخبرني. قال : فأخبرني بعض أصحابه أن الجناح ما بين المشرق والمغرب (3). وهذا أيضا إسناد جيد.
وقال أحمد : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا حسين ، حدثني عاصم بن بَهْدَلَة (4) ، حدثني (5) شقيق (6) قال : (7) سمعت ابن مسعود يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتاني جبريل ، عليه السلام ، في خُضر معلق به الدر (8) " (9). إسناده جيد أيضا.
وقال الإمام أحمد : حدثني يحيى عن إسماعيل ، حدثنا عامر قال : أتى مسروقُ عائشة فقال : يا أم المؤمنين ، هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل ؟ قالت : سبحان الله لقد قَفّ شعري لما قلت ، أين أنت من ثلاث من حَدّثكهن فقد كذب : من حدثك أن محمدًا رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأت : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ } [ الأنعام : 103 ] ، { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } [ الشورى : 51 ] ، ومن أخبرك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ، ثم قرأت : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ } الآية [ لقمان : 34 ] ، ومن أخبرك أن محمدا قد كتم (10) ، فقد كذب ، ثم قرأت : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } [ المائدة : 67 ] ، ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين (11).
وقال أحمد أيضا : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن داود ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : كنت عند عائشة فقلت : أليس الله يقول : { وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ } [ التكوير : 23 ] ، { وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى } فقالت : أنا أول هذه الأمة سأل (12) رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها ، فقال : "إنما ذاك جبريل". لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين ، رآه منهبطا من السماء إلى الأرض ، سادًّا عُظْمُ خلقه ما بين السماء والأرض.
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث الشعبي ، به (13).
رواية أبي ذر ، قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، عن عبد الله بن شقيق
__________
(1) لم أجده في المسند وذكره الحافظ ابن حجر في أطرف المسند (4/158).
(2) في م : "السدرة".
(3) المسند (1/407).
(4) في أ : "حصين".
(5) في م : "قال سمعت".
(6) في م : "شقيق بن سلمة".
(7) في م ، أ : "يقول".
(8) في م : "الدر به".
(9) المسند (1/407).
(10) في أ : "كتم شيئا من الوحي".
(11) المسند (6/49).
(12) في أ : "سألت".
(13) المسند (6/241) وصحيح البخاري برقم (4855) وصحيح مسلم برقم (177) بنحوه.

(7/452)


قال : قلت لأبي ذر : لو رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته. قال : وما كنت تسأله ؟ قال : كنت أسأله : هل رأى ربه ، عز وجل ؟ فقال : إني قد سألته فقال : "قد رأيته ، نورا أنى أراه" (1).
هكذا وقع في رواية الإمام أحمد ، وقد أخرجه مسلم من طريقين بلفظين فقال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وَكِيع ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن قتادة ، عن عبد الله بن شقيق ، عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل رأيت ربك ؟ فقال : "نور أنى أراه".
وقال : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن عبد الله بن شقيق قال : قلت لأبي ذر : لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته. فقال : عن أي شيء كنت تسأله ؟ قال : قلت : كنت أسأله : هل رأيت ربك ؟ قال أبو ذر : قد سألت فقال : "رأيت نورا" (2).
وقد حكى الخلال في "علله" أن الإمام أحمد سُئل عن هذا الحديث فقال : ما زلتُ منكرا له ، وما أدري ما وجهه (3).
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن عون الواسطي ، أخبرنا هُشَيْم ، عن منصور ، عن الحكم ، عن إبراهيم ، عن أبيه ، عن أبي ذر قال : رآه بقلبه ، ولم يره بعينه.
وحاول ابن خُزَيمة أن يدعي انقطاعه بين عبد الله بن شَقِيق وبين أبي ذر ، وأما ابن الجوزي فتأوله على أن أبا ذر لعله سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسراء ، فأجابه بما أجابه به ، ولو سأله بعد الإسراء لأجابه بالإثبات. وهذا ضعيف جدا ، فإن عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، قد سألت عن ذلك بعد الإسراء ، ولم يثبت لها الرؤية. ومن قال : إنه خاطبها على قدر عقلها ، أو حاول تخطئتها فيما ذهبت إليه - كابن خُزيمة في كتاب التوحيد (4) - ، فإنه هو المخطئ ، والله أعلم.
وقال النسائي : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هشام (5) ، عن منصور ، عن الحكم ، عن يزيد بن شريك ، عن أبي ذر قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه ، ولم يره ببصره (6).
وقد ثبت في صحيح مسلم ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن علي بن مُسْهِر ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أنه قال في قوله : { وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى } ، قال : رأى جبريل (7) ، عليه السلام (8).
وقال مجاهد في قوله : { وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى } قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته مرتين ، وكذا قال قتادة والربيع بن أنس ، وغيرهم.
__________
(1) المسند (5/147).
(2) صحيح مسلم برقم (178).
(3) ووجه الإنكار لا محل له في المتن ، فإن له شواهد وهو دليل على نفي الرؤية في الدنيا.
(4) التوحيد لابن خزيمة (ص205 ، 206) (ص225).
(5) في م ، أ : "هشيم".
(6) النسائي في السنن الكبرى برقم (11536).
(7) في أ : "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل".
(8) صحيح مسلم برقم (175).

(7/453)


وقوله تعالى : { إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى } : قد تقدم في أحاديث الإسراء أنه غشيتها الملائكة مثل الغِربان ، وغشيها نور الرب ، وغشيها ألوان ما أدري ما هي.
وقال الإمام أحمد : حدثنا مالك بن مِغْوَل ، حدثنا الزبير بن عدي ، عن (1) طلحة ، عن مرة ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى ، وهي في السماء السابعة (2) ، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها ، { إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى } قال : فراش من ذهب ، قال : وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا : أعطي الصلوات الخمس ، وأعطي خواتيم سورة البقرة ، وغُفر لمن لا يشرك بالله شيئًا من أمته المُقحمات. انفرد به مسلم (3).
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أبي هريرة أو غيره - شك أبو جعفر - قال : لما أسري برسول الله انتهى إلى السدرة ، فقيل له : هذه السدرة [قال] : (4) فغشيها نور الخلاق ، وغشيتها الملائكة مثل الغربان حين يقعن على الشجر ، قال : فكلمه عند ذلك ، فقال له : سل.
وقال (5) ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى } قال : كان أغصان السدرة لؤلؤا وياقوتا وزبرجدا ، فرآها محمد ، ورأى ربه بقلبه.
وقال ابن زيد : قيل : يا رسول الله ، أيّ شيء رأيت يغشى تلك السدرة ؟ قال : "رأيتُ يغشاها فَرَاشٌ من ذهب ، ورأيت على كل ورقة من ورقها مَلَكا قائما يسبح الله ، عز وجل" (6).
وقوله : { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى } قال ابن عباس : ما ذهب يمينا ولا شمالا { وَمَا طَغَى } ما جاوز ما أمر به.
وهذه صفة عظيمة في الثبات والطاعة ، فإنه ما فعل إلا ما أمر به ، ولا سأل فوق ما أعطي. وما أحسن ما قال الناظم :
رأَى جَنَّةَ المَأوَى وَمَا فَوْقَها ، وَلَو... رَأى غَيرُهُ ما قَد رَآه لتَاهَا...
وقوله : { لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } ، كقوله : { لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا } [ طه : 23 ] (7) أي : الدالة على قدرتنا وعظمتنا. وبهاتين الآيتين استدل من ذهب من أهل السنة أن الرؤية تلك الليلة لم تقع ؛ لأنه قال : { لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } ، ولو كان رأى ربه لأخبر بذلك ولقال ذلك للناس ، وقد تقدم تقرير ذلك في سورة "سبحان" وقد قال الإمام أحمد :
حدثنا أبو النضر ، حدثنا محمد بن طلحة ، عن الوليد بن قيس ، عن إسحاق بن أبي الكَهْتَلة (8)
__________
(1) في أ : "بن".
(2) في م : "السادسة".
(3) المسند (1/422) وصحيح مسلم برقم (173).
(4) زيادة من أ.
(5) في م : "فقال".
(6) وهذا من مراسيل عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف.
(7) في م : "لنريه".
(8) في م ، أ : "الكهبلة".

(7/454)


أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)

قال محمد : أظنه عن ابن مسعود - أنه قال : إن محمدا لم ير جبريل في صورته إلا مرتين ، أما مرة فإنه سأله أن يُريه نفسه في صورته ، فأراه صورته فسد الأفق. وأما الأخرى فإنه صَعد معه حين صعد به. وقوله : { وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى. ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } قال : فلما أحسَّ (1) جبريل ربه ، عز وجل ، عاد في صورته وسجد. فقوله : { وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى. لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } قال : خَلْقَ جبريل عليه السلام.
هكذا رواه الإمام أحمد ، وهو غريب (2).
{ أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلإنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) }
يقول تعالى مُقَرِّعا للمشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد والأوثان ، واتخاذهم لها البيوت مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن ، عليه [الصلاة و] (3) السلام : { أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ } ؟ وكانت "اللات" (4) صخرةً بيضاء منقوشة ، وعليها بيت بالطائف له أستار وسَدَنة ، وحوله فناء معظّم عند أهل الطائف ، وهم ثقيف ومن تابعها ، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش.
قال ابن جرير : وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله [تعالى] (5) ، فقالوا : اللات ، يعنون مؤنثة منه ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. وحكي عن ابن عباس ، ومجاهد ، والربيع بن أنس : أنهم قرؤوا "اللاتّ" بتشديد التاء ، وفسروه بأنه كان رجلا يَلُتُّ للحجيج في الجاهلية السويق ، فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه.
وقال البخاري : حدثنا مسلم - هو ابن إبراهيم - حدثنا أبو الأشهب ، حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عباس (6) : { اللاتَ وَالْعُزَّى } قال : كان اللات رجلا يلت السَّويق ، سويق الحاج (7).
قال ابن جرير : وكذا العُزَّى من العزيز.
وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة ، وهي بين مكة والطائف ، كانت قريش يعظمونها ، كما
__________
(1) في أ : "أخبر".
(2) المسند (1/407).
(3) زيادة من م.
(4) في م : "العزى".
(5) زيادة من م.
(6) في م : "عن ابن عباس عن".
(7) صحيح البخاري برقم (4859).

(7/455)


قال أبو سفيان يوم أحد : لنا العزى ولا عزَّى لكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قولوا : الله مولانا ، ولا مولى لكم" (1).
وروى البخاري من حديث الزهري ، عن حُمَيد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من حلف فقال في حلفه : واللات والعزى ، فليقل : لا إله إلا الله. ومن قال لصاحبه : تعال أقَامرْك ، فليتصدق" (2).
وهذا محمول على من سبق لسانه في (3) ذلك ، كما كانت ألسنتهم قد اعتادته في زمن الجاهلية ، كما قال النسائي : أخبرنا أحمد بن بَكَّار وعبد الحميد بن محمد قالا حدثنا مَخْلَد ، حدثنا يونس ، عن أبيه ، حدثني مصعب بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه قال : حلفت باللات والعزى ، فقال لي أصحابي : بئس ما قلت! قلت هجرا! فأتيت رسول صلى الله عليه سلم ، فذكرت ذلك له ، فقال : "قل : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير. وانفث عن شمالك ثلاثا ، وتعوَّذ بالله من الشيطان الرجيم ، ثم لا تعد" (4).
وأما "مناة" فكانت بالمُشَلَّل (5) - عند قُدَيد ، بين مكة والمدينة - وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها ، ويُهلّون منها للحج إلى الكعبة. وروى البخاري عن عائشة نحوه (6). وقد كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة غير هذه الثلاثة التي نص عليها في كتابه العزيز ، وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها.
قال ابن إسحاق في السيرة : وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت ، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة ، بها (7) سدنة وحجاب ، وتهدي لها كما يهدى (8) للكعبة ، وتطوف بها كطَوْفَاتِها بها ، وتنحر عندها ، وهي تعرف فضل الكعبة عليها ؛ لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم ، عليه السلام ، ومسجده. فكانت لقريش وبني كنانة العُزَّى بنخلة ، وكانت سدنتها وحجابها (9) بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم (10).
قلت : بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فهدمها ، وجعل يقول :
يا عُزَّ ، كُفْرَانَك لا سُبْحَانَك... إني رأيت الله قَدْ أهَانَك...
وقال النسائي : أخبرنا علي بن المنذر ، أخبرنا ابن فُضَيْل ، حدثنا الوليد بن جُمَيْع ، عن أبي الطُّفَيْلِ قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة ، وكانت بها العزى ، فأتاها خالد وكانت على ثلاث سَمُرات ، فقطع السَّمُرات ، وهدم البيت الذي كان عليها. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) تقدم تخريج الحديث عند تفسير سورة "محمد" الآية : 11.
(2) صحيح البخاري برقم (4860).
(3) في م : "إلى".
(4) سنن النسائي (7/8).
(5) في أ : "بالمنال".
(6) صحيح البخاري برقم (4861).
(7) في م : "لها".
(8) في م : "تهدي".
(9) في م : "وحجبتها".
(10) السيرة النبوية لابن هشام (1/83).

(7/456)


فأخبره فقال : "ارجع فإنك لم تصنع شيئًا". فرجع خالد ، فلما أبصرته السَّدَنة - وهم حَجَبتها - أمعنوا في الحِيَل وهم يقولون : "يا عزى ، يا عزى". فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن (1) التراب على رأسها ، فغمسها بالسيف حتى قتلها ، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : "تلك العزى" (2).
قال ابن إسحاق : وكانت اللات لثقيف بالطائف ، وكان سَدَنتها وحجابها بنى مُعَتّب (3).
قلت : وقد بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان صخر بن حرب ، فهدماها وجعلا مكانها مسجد الطائف.
قال ابن إسحاق : وكانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر من ناحية المُشَلّل بقديد ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم [إليها] (4) أبا سفيان صخر بن حرب ، فهدمها. ويقال : علي بن أبي طالب.
قال : وكانت ذو الخَلَصة (5) لدَوس وخَثعم وبَجِيلة ، ومن كان ببلادهم من العرب بِتَبَالة.
قلت : وكان يقال لها : الكعبة اليمانية ، وللكعبة التي بمكة الكعبة الشامية.
فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله البجلي فهدمه.
قال : وكانت فَلْس (6) لطيئ ولمن يليها بجبلي طيئ من (7) سَلمى وأجا.
قال ابن هشام : فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه علي بن أبي طالب فهدمه ، واصطفى منه سيفين : الرّسُوب والمخْذَم ، فَنفَّله أياهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهما سيفا علي (8).
قال ابن إسحاق : وكان لحمير وأهل اليمن بيت بصنعاء يقال له : ريام. وذكر أنه كان به كلب أسود ، وأن الحبرين اللذين ذهبا مع تبع استخرجاه وقتلاه ، وهدما البيت.
قال ابن إسحاق : وكانت "رُضَاء" بيتا لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم ، ولها يقول المستوغر بن ربيعة بن كعب بن سعد حين هدمها في الإسلام :
ولقد شَدَدْتُ عَلَى رُضَاء شَدّةً... فَتَرَكْتُها قَفْرًا بِقَاع أسحَمَا...
قال ابن هشام : إنه عاش ثلاثمائة وثلاثين (9) سنة ، وهو القائل :
وَلَقَد سَئِمْتُ مِنَ الحيَاةِ وَطُولِهَا... وَعُمّرْتُ منْ عَدَد السّنِينَ مِئِينَا...
مائَةً حَدّتها بَعْدَها مائَتَان لي... وازددت (10) مِنْ عَدَد الشّهور سِنِينَا...
هَلْ مَا بَقِي إلا كَمَا قَدْ فَاتَنَا... يَومٌ يَمُرُّ وَلَيلةٌ تَحْدُونَا...
__________
(1) في م : "تحثو".
(2) النسائي في السنن الكبرى رقم (11567).
(3) في م : "مغيت".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ : "الحليفة".
(6) في م : "فيس".
(7) في م ، أ : "بين".
(8) السيرة النبوية لابن هشام (1/87).
(9) في أ : "وستون".
(10) في م ، أ : "وعمرت".

(7/457)


قال ابن إسحاق : وكان ذو الكَعَبَات لبكر وتغلب ابني وائل ، وإياد بِسَنْداد وله يقول أعشى بن قيس بن ثعلبة :
بَيْنَ الخَوَرْنَق والسَّدير وَبَارقٍ... والبيت ذو الكَعَبَات من سَنْدَاد (1)
ولهذا قال [تعالى] (2) : { أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى } ؟.
ثم قال : { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى } ؟ أي : أتجعلون له ولدا ، وتجعلون ولده أنثى ، وتختارون لأنفسكم الذكور ، فلو اقتسمتم أنتم ومخلوق مثلكم هذه القسمة لكانت { قِسْمَةٌ ضِيزَى } أي : جورا باطلة ، فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جورا وسفها.
ثم قال منكرا عليهم فيما ابتدعوه وأحدثوه من الكذب والافتراء والكفر ، من عبادة الأصنام وتسميتها آلهة : { إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ } أي : من تلقاء أنفسكم { مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } أي : من حجة ، { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ } أي : ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم ، وإلا حظ نفوسهم في رياستهم وتعظيم آبائهم الأقدمين ، { وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } أي : ولقد أرسل الله إليهم الرسل بالحق المنير والحجة القاطعة ، ومع هذا ما اتبعوا ما جاؤوهم به ، ولا انقادوا له.
ثم قال : { أَمْ لِلإنْسَانِ مَا تَمَنَّى } أي : ليس كل من تمنى خيرا حصل له ، { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ } [ النساء : 123 ] ، ما كل من زعم أنه مهتد يكون كما قال ، ولا كل من ود (3) شيئا يحصل له.
قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن عمر (4) بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى ، فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته". تفرد به أحمد (5).
وقوله : { فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأولَى } أي : إنما الأمر كله لله ، مالك الدنيا والآخرة ، والمتصرف في الدنيا والآخرة ، فهو الذي ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن.
وقوله : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } ، كقوله : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } [البقرة : 255] ، { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [سبأ : 23] ، فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين ، فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأصنام والأنداد عند الله ، وهو لم يشرع عبادتها ولا أذن فيها ، بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله ، وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه ؟.
__________
(1) انظر السيرة النبوية لابن هشام (1/87 ، 88).
(2) زيادة من م.
(3) في م : "رد".
(4) في أ : "عمرو".
(5) المسند (1/357) وقال الهيثمي في المجمع (10/151) : "رجاله رجال الصحيح".

(7/458)


إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)

{ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) }
يقول تعالى منكرا على المشركين في تسميتهم الملائكة تسمية الأنثى ، وجعلهم لها أنها بنات الله ، كما قال : { وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } [الزخرف : 19] ؛ ولهذا قال : { وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْم } أي : ليس لهم علم صحيح يصدق ما قالوه ، بل هو كذب وزور وافتراء ، وكفر شنيع. { ٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } أي : لا يجدي شيئا ، ولا يقوم أبدا مقام الحق. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث" (1).
وقوله : { فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا } أي : أعرِضْ عن الذي أعرَضَ عن الحق واهجره.
وقوله : { وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي : وإنما (2) أكثر (3) همه ومبلغ علمه الدنيا ، فذاك هو غاية ما لا خير فيه. ولذلك (4) قال : { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ } أي : طلب الدنيا والسعي لها هو غاية ما وصلوا إليه.
وقد روى الإمام أحمد عن أم المؤمنين عائشة [رضي الله عنها] (5) قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له" (6) وفي الدعاء المأثور : "اللهم لا تجعل الدنيا أكبر هَمِّنَا ، ولا مَبْلَغَ علمنا".
وقوله : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى } أي : هو الخالق لجميع المخلوقات ، والعالم بمصالح عباده ، وهو الذي يهدي من يشاء ، ويضل من يشاء ، وذلك كله عن قدرته وعلمه وحكمته ، وهو العادل الذي لا يجور أبدًا ، لا في شرعه ولا في قَدَره.
{ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) }
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5143) وصحيح مسلم برقم (2563) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) في م : "وإنا".
(3) في أ : "أكبر".
(4) في م ، أ : "ولهذا".
(5) زيادة من م.
(6) المسند (6/71).

(7/459)


يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض ، وأنه الغني عما سواه ، الحاكم في خلقه بالعدل ، وخلق الخلق بالحق ، { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } أي : يجازي كلا بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.
ثم فسر المحسنين بأنهم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ، أي : لا يتعاطون المحرمات والكبائر ، وإن وقع منهم بعض الصغائر فإنه يغفر لهم ويستر عليهم ، كما قال في الآية الأخرى : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا } [النساء : 31]. وقال هاهنا : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ }. وهذا استثناء منقطع ؛ لأن اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال.
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر (1) عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئًا أشبه باللمَم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : "إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا ، أدرك ذلك لا محالة ، فَزِنَا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تَمنَّى وتَشْتَهِي ، والفرج يُصدِّق ذلك أو يُكَذِّبه".
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث عبد الرزاق ، به (2).
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن (3) ثور حدثنا مَعْمَر ، عن الأعمش ، عن أبي الضُّحَى ؛ أن ابن مسعود قال : "زنا العينين النظر ، وزنا الشفتين التقبيل ، وزنا اليدين البطش ، وزنا الرجلين المشي ، ويُصدّق ذلك الفرج أو يُكَذِّبه ، فإن تقدم بفرجه كان زانيا ، وإلا فهو اللَّمَم" (4). وكذا قال مسروق ، والشعبي.
وقال عبد الرحمن بن نافع - الذي يقال له : ابن لبابة الطائفي - قال : سألت أبا هريرة عن قول الله : { إِلا اللَّمَمَ } قال : القُبلة ، والغمزة ، والنظرة ، والمباشرة ، فإذا مس الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل ، وهو الزنا.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { إِلا اللَّمَمَ } إلا ما سلف. وكذا قال زيد بن أسلم.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن مجاهد أنه قال : في هذه الآية : { إِلا اللَّمَمَ } قال : الذي يلم بالذنب ثم يَدَعه ، قال الشاعر :
إنْ تَغْفِر اللهُمّ تغفر جَمّا... وَأيّ عَبْد لَكَ مَا أَلَمَّا?!...
__________
(1) في م : "معمر بن أرطأة" وزيادة "ابن أرطأة" خطأ. انظر : تعليق أحمد شاكر على المسند على المسند حديث رقم (7705).
(2) المسند (2/276) وصحيح البخاري برقم (6612) وصحيح مسلم برقم (2657).
(3) في أ : "أبو".
(4) تفسير الطبري (27/39).

(7/460)


وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قول الله : { إِلا اللَّمَمَ } قال : الرجل يلم بالذنب ثم ينزع عنه ، قال : وكان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت وهم يقولون :
إن تغفر اللهم تغفر جما... وأي عبد لك ما ألما?!...
وقد رواه ابن جرير وغيره مرفوعا (1).
قال ابن جرير : حدثني سليمان بن عبد الجبار ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا زكريا بن إسحاق ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ } قال : هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إن تغفر اللهم تغفر جما... وأي عبد لك ما ألما?!...
وهكذا رواه الترمذي ، عن أحمد بن عثمان أبي (2) عثمان البصري ، عن أبي عاصم النبيل. ثم قال : هذا حديث حسن صحيح غريب ، لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق. وكذا قال البزار : لا نعلمه يُروى متصلا إلا من هذا الوجه. وساقه ابن أبي حاتم والبغوي من حديث أبي عاصم النبيل ، وإنما ذكره البغوي في تفسير سورة "تنزيل" وفي صحته مرفوعا نظر (3).
ثم قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله بن بَزِيع ، حدثنا يزيد بن زُرَيْع ، حدثنا يونس ، عن الحسن ، عن أبي هريرة - أراه رفعه - : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ } قال : "اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود ، واللمة من السرقة ثم يتوب ولا يعود ، واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود" ، قال : "ذلك (4) الإلمام" (5).
وحدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عَديّ ، عن عوف ، عن الحسن في قول الله : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ } قال : اللمم من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ، ثم لا يعود.
وحدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّةَ ، عن أبي رَجاء ، عن الحسن في قول الله : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ } قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : هو الرجل يصيب اللمة من الزنا ، واللمة من شرب الخمر ، فيجتنبها ويتوب منها.
وقال ابن جرير (6) ، عن عطاء ، عن ابن عباس : { إِلا اللَّمَمَ } يلم بها في الحين. قلت : الزنا ؟ قال : الزنا ثم يتوب.
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا ابن عُيَيْنَة ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن
__________
(1) تفسير الطبري (27/39).
(2) في م : "أي".
(3) سنن الترمذي برقم (3284) وتفسير البغوي (7/128).
(4) في م : "فتلك" وفي أ : "فعلك".
(5) تفسير الطبري (27/39).
(6) في أ : "جريج".

(7/461)


عباس قال : { اللَّمَمَ } الذي يلم المرَّةَ.
وقال السدي : قال أبو صالح : سئلت عن { اللَّمَمَ } فقلت : هو الرجل يصيب الذنب ثم يتوب. وأخبرت بذلك ابن عباس فقال : لقد أعانك عليها مَلَك كريم. حكاه البغوي.
وروى ابن جرير من طريق المثنى بن الصباح - وهو ضعيف - عن عمرو بن شعيب ؛ أن عبد الله بن عمرو قال : { اللَّمَمَ } : ما دون الشرك.
وقال سفيان الثوري ، عن جابر الجُعفي ، عن عطاء ، عن ابن الزبير : { إِلا اللَّمَمَ } قال : ما بين الحدين : حد الدنيا (1) وعذاب الآخرة. وكذا رواه شعبة ، عن الحكم ، عن ابن عباس ، مثله سواء.
وقال العَوْفِيّ ، عن ابن عباس في قوله : { إِلا اللَّمَمَ } كل شيء بين (2) الحدين : حد الدنيا (3) وحد الآخرة ، تكفره الصلوات ، وهو (4) اللمم ، وهو دون كل موجب ، فأما حد الدنيا فكل حد فرض الله عقوبته في الدنيا ، وأما حد الآخرة فكل شيء ختمه الله بالنار ، وأخَّر عقوبته إلى الآخرة. وكذا قال عكرمة ، وقتادة ، والضحاك.
وقوله : { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } أي : رحمته وَسِعَت كل شيء ، ومغفرته تَسَع الذنوب كلها لمن تاب منها ، كقوله : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزمر : 53].
وقوله : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْض } أي : هو بصير بكم ، عليم بأحوالكم وأفعالكم وأقوالكم التي تصدر (5) عنكم وتقع منكم ، حين أنشأ أباكم آدم من الأرض ، واستخرج ذريته من صلبه أمثال الذَّر ، ثم قسمهم فريقين : فريقا للجنة وفريقا للسعير (6). وكذا قوله : { وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } قد كتب الملك الذي يُوَكَّل به رزقَه وأجَلَه وعمله ، وشقي أم سعيد.
قال مكحول : كنا أجنة في بطون أمهاتنا ، فسقط منا من سقط ، وكنا فيمن بقي ، ثم كنا مراضع فهلك منا من هلك. وكنا فيمن بقي ثم صرنا يَفَعَةً ، فهلك منا من هلك. وكنا فيمن بقي ثم صرنا شبابًا فهلك منا من هلك. وكنا فيمن بقي ثم صرنا شيوخا - لا أبا لك - فماذا بعد هذا ننتظر ؟ (7) رواه ابن أبي حاتم عنه.
وقوله : { فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ } أي : تمدحوها وتشكروها وتمنوا بأعمالكم ، { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } ، كما قال : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا } [النساء : 49].
وقال مسلم في صحيحه : حدثنا عَمْرو الناقد ، حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا الليث ، عن يزيد
__________
(1) في م ، أ : "الزنا".
(2) في م : "من".
(3) في أ : "الزنا".
(4) في م : "فهو".
(5) في م ، أ : "ستصدر".
(6) في أ : "فريقا في الجنة وفريقا في السعير".
(7) في م ، أ : "ينتظر".

(7/462)


أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)

بن أبي حبيب ، عن محمد بن عمرو بن عطاء قال : سميت ابنتي بَرّةَ ، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم ، وسميت بَرَّة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تزكوا أنفسكم ، إن الله أعلم بأهل البر منكم". فقالوا : بم نسميها ؟ قال : "سموها زينب" (1).
وقد ثبت أيضا في الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا عفان ، حدثنا وهيب ، حدثنا خالد الحَذَّاء ، عن عبد الرحمن بن أبي بكْرَة ، عن أبيه قال : مدح رَجُلٌ رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ويلك! قطعت عُنُقَ صاحبك - مرارًا - إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل : أحسب فلانا - والله حسيبه ، ولا أزكي على الله أحدا - أحسبه كذا وكذا ، إن كان يعلم ذلك" (2).
ثم رواه عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن خالد الحذاء ، به. وكذا رواه البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وابن ماجه ، من طرق ، عن خالد الحذاء ، به (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن همام بن الحارث قال : جاء رجل إلى عثمان فأثنى عليه في وجهه ، قال : فجعل المقداد بن الأسود يحثو في وجهه التراب ويقول : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقينا المداحين أن نحثو في وجوههم التراب.
ورواه مسلم وأبو داود من حديث الثوري ، عن منصور ، به (4).
{ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى (41) }.
يقول تعالى ذَامًّا لمن تولى عن طاعة الله : { فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى. وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [القيامة : 31 ، 32] ، { وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى } قال ابن عباس : أطاع قليلا ثم قطعه. وكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وقتادة ، وغير واحد. قال عكرمة وسعيد : كمثل القوم إذا كانوا يحفرون بئرًا ، فيجدون في أثناء الحفر صخرة تمنعهم من تمام العمل ، فيقولون : "أكدينا" ، ويتركون العمل.
وقوله : { أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى } أي : أعند هذا الذي قد أمسك يده خشية الإنفاق ، وقطع
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2142).
(2) المسند (5/45).
(3) المسند (5/41) وصحيح البخاري برقم (2662) وصحيح مسلم برقم (3000) وسنن أبي داود برقم (4805) وسنن ابن ماجه برقم (3744).
(4) صحيح مسلم برقم (3002) وسنن أبي داود برقم (4804).

(7/463)


معروفه ، أعنده علم الغيب أنه سينفد ما في يده ، حتى قد أمسك عن معروفه ، فهو يرى ذلك عيانا ؟! أي : ليس الأمر كذلك ، وإنما أمسك عن الصدقة والمعروف والبر والصلة بخلا وشحا وهلعا ؛ ولهذا جاء في الحديث : "أنفق بلالا ولا تَخْشَ من ذي العرش إقلالا" (1) ، وقد قال الله تعالى : { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [سبأ : 39].
وقوله : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى. وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } قال سعيد بن جبير ، والثوري أي بلّغ جميع ما أمر به.
وقال ابن عباس : { وَفَّى } لله بالبلاغ. وقال سعيد بن جُبَير : { وَفَّى } ما أمر به. وقال قتادة : { وَفَّى } طاعة الله ، وأدى رسالته الى خلقه. وهذا القول هو اختيار ابن جرير ، وهو يشمل الذي قبله ، ويشهد له قوله تعالى : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } [البقرة : 124] فقام بجميع الأوامر ، وترك جميع النواهي ، وبلغ الرسالة على التمام والكمال ، فاستحق بهذا أن يكون للناس إماما يُقتَدى به في جميع أحواله وأفعاله وأقواله ، قال الله تعالى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [النحل : 123].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف الحِمْصي ، حدثنا آدم بن أبي أياس العسقلاني ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا جعفر بن الزبير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } قال : "أتدري ما وفى ؟" قلت : الله ورسوله أعلم. قال : "وفى عمل يومه بأربع ركعات من أول النهار".
ورواه ابن جرير من حديث جعفر بن الزبير ، وهو ضعيف (2).
وقال الترمذي في جامعه : حدثنا أبو جعفر السّمْناني ، حدثنا أبو مُسْهِر ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن بحير بن سعد (3) ، عن خالد بن مَعْدان ، عن جبير بن نُفَير ، عن أبي الدرداء وأبي ذر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله ، عز وجل ، أنه قال : "ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار ، أكفك آخره" (4).
قال ابن أبي حاتم رحمه الله : حدثنا أبي ، حدثنا الربيع بن سليمان ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، حدثنا زَبَّان بن قائد ، عن سهل بن معاذ بن أنس ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفى ؟ إنه كان يقول كلما أصبح وأمسى :
__________
(1) جاء من حديث ابي هريرة وبلال وابن مسعود. أما حديث أبي هريرة : فرواه أبو نعيم في الحلية (2/280) والطبراني في المعجم الكبير (1/341) من طريقين عن محمد بن سيرين عنه به.
وأما حديث بلال : فرواه الطبراني في المعجم الكبير (1/359) من طريق أبي إسحاق عن مسروق عنه به.
وأما حديث ابن مسعود : فرواه الطبراني في المعجم الكبير (10/191) من طريق يحيى بن وثاب عن مسروق عنه به.
(2) تفسير الطبري (27/43).
(3) في م ، أ : "يحيى بن سعيد".
(4) سنن الترمذي برقم (475) وقال : "هذا حديث حسن غريب".

(7/463)


{ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُون } [الروم : 17] حتى ختم الآية. ورواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب ، عن رِشْدِين بن سعد ، عن (1) زَبَّان ، به (2).
ثم شرع تعالى يبين ما كان أوحاه في صحف إبراهيم وموسى فقال : { أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } أي : كل نفس ظلمت نفسها بكفر أو شيء من الذنوب فإنما عليها وزرها ، لا يحمله عنها أحد ، كما قال : { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } [فاطر : 18] ، { وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى } أي : كما لا يحمل عليه وزر غيره ، كذلك لا يحصل من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه. ومن وهذه الآية الكريمة استنبط الشافعي ، رحمه الله ، ومن اتبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى ؛ لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم ؛ ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ولا حثهم عليه ، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء ، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة ، رضي الله عنهم ، ولو كان خيرا لسبقونا إليه ، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء ، فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ، ومنصوص من الشارع عليهما.
وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : من ولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية من بعده ، أو علم ينتفع به" (3) ، فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وكده وعمله ، كما جاء في الحديث : "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وإن ولده من كسبه" (4). والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من آثار عمله ووقفه ، وقد قال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُم } (5) الآية [يس : 12]. والعلم الذي نشره في الناس فاقتدى به الناس بعده هو أيضا من سعيه وعمله ، وثبت في الصحيح : "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه ، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا".
وقوله : { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى } أي : يوم القيامة ، كما قال تعالى : { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون } [التوبة : 105] أي : فيخبركم به ، ويجزيكم عليه أتم الجزاء ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. وهكذا قال هاهنا : { ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى } أي : الأوفر.
__________
(1) في م : "بن".
(2) تفسير الطبري (27/43) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (20/192) من كلا الطريقين وقال الهيثمي في المجمع (10/117) : "فيه ضعفاء وثقوا".
قلت في الأولى : ابن لهيعة وهو ضعيف.
وفي الثانية : رشدين بن سعد وهو ضعيف.
وفيهما : زيان بن فائد وهو ضعيف.
(3) صحيح مسلم برقم (1631).
(4) رواه أحمد في المسند (6/31) وأبو داود في السنن برقم (3528) والترمذي في السنن برقم (1358) والنسائي في السنن (7/240) من حديث عائشة رضي الله عنها/ وقال الترمذي : "هذا حديث حسن صحيح".
(5) في م : (وآثارهم وكل شيء أحصيناه).

(7/465)


وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44)

{ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) }

(7/466)


وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)

{ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) }
يقول تعالى [مخبرا] (1) { وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى } أي : المعاد يوم القيامة.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سُوَيد بن سَعيد ، حدثنا مسلم بن خالد ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن عمرو بن ميمون الأوْديّ قال : قام فينا معاذ بن جبل فقال : يا بني أود ، إني رسول الله إليكم ، تعلمون أن المعاد إلى الله ، إلى الجنة أو إلى النار.
وذكر البغوي من رواية أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى } ، قال : لا فكرةَ في الرب (2).
قال البغوي : وهذا مثل ما رُوي عن أبي هريرة مرفوعا : "تفكَّروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق ، فإنه لا تحيط (3) به الفِكْرة".
كذا أورده ، وليس بمحفوظ بهذا اللفظ (4) ، وإنما الذي في الصحيح : "يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول : من خلق ربك ؟ فإذا بلغ أحدكم ذلك فليستعذ بالله وَلْيَنْتَه" (5).
وفي الحديث الآخر الذي في السنن : "تفكروا في مخلوقات الله ، ولا تفكروا (6) في ذات الله ، فإن الله خلق ملكا ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مَسِيرة ثلاثمائة سنة" أو كما قال (7).
وقوله : { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى } أي : خلق في عباده الضحك ، والبكاء وسببهما وهما مختلفان.
{ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } ، كقوله : { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاة } [الملك : 2] ، { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ
__________
(1) زيادة من أ.
(2) معالم التنزيل للبغوي (7/417).
(3) في م : "يحيط".
(4) معالم التنزيل للبغوي (7/417) ورواه ابن عساكر في المجلس التاسع والثلاثون ومائة من الأمالي (50/1) كما في السلسلة الصحيحة (4/395) من طريق محمد بن سلمة البلخي عن بشر بن الوليد عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة به ، وفيه بشر بن الوليد وهو ضعيف.
(5) صحيح البخاري برقم (3276) وصحيح مسلم برقم (134).
(6) في أ : "ولا تتفكروا".
(7) لم أجده بهذا اللفظ ، وقد روى أبو داود القطعة الثانية في سننه برقم (4727) من حديث جابر رضي الله عنه ، مرفوعا بلفظ : "أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ، وإن ما بين شحمه أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام".
والقطعة الأولى : رويت من حديث أبي ذر مرفوعا : "تفكروا في خلق الله ، ولا تتفكروا في الله فتهلكوا".
أخرجه أبو الشيخ في العظمة برقم (4).

(7/466)


الذَّكَرَ وَالأنْثَى. مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى } ، كقوله : { أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى. أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى. ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى. أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } [القيامة : 36 - 40]. (1).
وقوله : { وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأخْرَى } أي : كما خلق البداءة هو قادر على الإعادة ، وهي النشأة الآخرة يوم القيامة. { وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى } أي : مَلَّك عباده المال ، وجعله لهم قُنْيَة مقيما عندهم ، لا يحتاجون إلى بيعه ، فهذا تمام النعمة عليهم. وعلى هذا يدور كلام كثير من المفسرين ، منهم أبو صالح ، وابن جرير ، وغيرهما. وعن مجاهد : { أَغْنَى } : مَوَّل ، { وَأَقْنَى } : أخدم. وكذا قال قتادة.
وقال ابن عباس ومجاهد أيضا : { أَغْنَى } : أعطى ، { وَأَقْنَى } : رَضّى.
وقيل : معناه : أغنى نفسه وأفقر الخلائق إليه ، قاله الحضرمي بن لاحق.
وقيل : { أَغْنَى } من شاء من خلقه و { وَأَقْنَى } : أفقر من شاء منهم ، قاله ابن زيد. حكاهما ابن جرير (2) وهما بعيدان من حيث اللفظ.
وقوله : { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن زيد ، وغيرهم : هو هذا النجم الوقاد الذي يقال له : "مِرْزَم الجوزاء" كانت طائفة من العرب يعبدونه.
{ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولَى } وهم : قوم هود. ويقال لهم : عاد بن إرم بن سام بن نوح ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ. إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ } [الفجر : 6 - 8] ، فكانوا من أشد الناس وأقواهم وأعتاهم على الله وعلى رسوله ، فأهلكهم الله { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ. سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا } [الحاقة : 6 ، 7].
وقوله : { وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى } ، أي : دمرهم فلم يبق منهم أحدا ، { وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْل } أي : من قبل هؤلاء ، { إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى } أي : أشد تمردا من الذين من بعدهم ، { وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى } يعني : مدائن لوط ، قَلَبها عليهم فجعل عاليها سافلها ، وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود ؛ ولهذا قال : { فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى } يعني : من الحجارة التي أرسلها عليهم { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِين } [الشعراء : 173].
قال قتادة : كان في مدائن لوط أربعة آلاف ألف إنسان ، فانضرم عليهم الوادي شيئا من نار ونفط وقَطِران كفم الأتون (3). رواه (4) ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن محمد بن وهب بن عطية ، عن الوليد بن مسلم ، عن خليد ، عنه به. وهو غريب جدا.
__________
(1) في م : "تمنى".
(2) تفسير الطبري (27/44).
(3) في أ : "كتم الأنوف".
(4) في م : "ورواه".

(7/467)


هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآَزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)

{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى } أي : ففي أي نعم الله عليك أيها الإنسان تمتري ؟ قاله قتادة.
وقال ابن جُرَيج : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى } يا محمد. والأول أولى ، وهو اختيار ابن جرير.
{ هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى (56) أَزِفَتِ الآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) }
{ هَذَا نَذِيرٌ } يعني : محمدا صلى الله عليه وسلم { مِنَ النُّذُرِ الأولَى } أي : من جنسهم ، أرسل كما أرسلوا ، كما قال تعالى : { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُل } [الأحقاف : 9].
{ أَزِفَتِ الآزِفَة } أي : اقتربت القريبة ، وهي القيامة ، { لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ } أي : لا يدفعها إذًا من دون الله أحد ، ولا يطلع على علمها سواه.
ثم قال تعالى منكرا على المشركين في استماعهم القرآن وإعراضهم عنه وتلهيهم : { تَعْجَبُونَ (1) } من أن يكون صحيحا ، { وَتَضْحَكُونَ (2) } منه استهزاء وسخرية ، { وَلا تَبْكُونَ } أي : كما يفعل الموقنون به ، كما أخبر عنهم : { وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [الإسراء : 109].
وقوله : { وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ } قال سفيان الثوري ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : الغناء ، هي يمانية ، اسْمِد لنا : غَنّ (3) لنا. وكذا قال عكرمة.
وفي رواية عن ابن عباس : { سَامِدُونَ } : معرضون. وكذا قال مجاهد ، وعكرمة. وقال الحسن : غافلون. وهو رواية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. وفي رواية عن ابن عباس : تستكبرون. وبه يقول السدي.
ثم قال آمرا لعباده بالسجود له والعبادة المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم والتوحيد والإخلاص : { فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } (4) أي : فاخضعوا له وأخلصوا ووحدوا.
قال البخاري : حدثنا أبو مَعْمَر ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم ، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. انفرد به دون مسلم (5).
وقال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن خالد ، حدثنا رباح ، عن مَعْمَر ، عن ابن طاوس ، عن عكرمة بن خالد ، عن جعفر بن المطلب بن أبي وَدَاعة ، عن أبيه قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورة النجم ، فسجد وسَجَد من عنده ، فرفعتُ رأسي وأبيتُ أن أسجد ، ولم يكن أسلم يومئذ المطلب ،
__________
(1) في م : "يعجبون".
(2) في م : "يضحكون".
(3) في م ، أ : "تغني".
(4) في م : "فليسجدوا" وهو خطأ.
(5) صحيح البخاري برقم (4862).

(7/468)


فكان بعد ذلك لا يسمع أحدًا يقرؤها (1) إلا سجد معه.
وقد رواه النسائي في الصلاة ، عن عبد الملك بن عبد الحميد ، عن أحمد بن حنبل ، به (2).
ذكر حديث له مناسبة بما تقدم من قوله تعالى : { هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى. أَزِفَتِ الآزِفَة } ، فإن النذير هو : الحذر لما يعاين من الشر ، الذي يخشى وقوعه فيمن أنذرهم ، كما قال : { إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيد } [سبأ : 46]. وفي الحديث : "أنا النذير العُريان" أي : الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلبس عليه شيئًا ، بل بادر إلى إنذار قومه قبل ذلك ، فجاءهم عُريانا مسرعا مناسب لقوله : { أَزِفَتِ الآزِفَة } أي : اقتربت القريبة ، يعني : يوم القيامة كما قال في أول السورة التي بعدها : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ } [القمر : 1 ] ، قال الإمام أحمد :
حدثنا أنس بن عياض ، حدثني أبو حازم - لا أعلم إلا عن سهل بن سعد - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إياكم ومحقرات الذنوب ، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد ، فجاء ذا بعود ، وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خُبْزَتهم ، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه". وقال أبو حازم : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال أبو ضَمْرَة : لا أعلم إلا عن سهل بن سعد - قال : "مثلي مثل الساعة كهاتين" وفرق بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام ، ثم قال : "مثلي ومثل الساعة كمثل فَرسَي رِهَان" ، ثم قال : "مثلي ومثل الساعة كمثل رجل بعثه قومه طليعة ، فلما خشي أن يسبق ألاح بثوبه : أتيتم أتيتم". ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنا ذلك" (3). وله شواهد من وجوه أخر من صحاح وحِسان. ولله الحمد والمنة ، وبه الثقة والعصمة.
آخر [تفسير] (4) سورة النجم ولله الحمد والمنة
__________
(1) في م ، أ : "يقرأ بها".
(2) المسند (6/399) وسنن النسائي (2/160).
(3) المسند (5/331).
(4) زيادة من م ، أ.

(7/469)


اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)

تفسير سورة القمر (1)
وهي مكية.
قد تقدم في حديث أبي واقد (2) : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بقاف ، واقتربت الساعة ، في الأضحى والفِطْر ، وكان يقرأ بهما في المحافل الكبار ، لاشتمالهما على ذكر الوعد والوعيد وبدء الخلق وإعادته ، والتوحيد وإثبات النبوات ، وغير ذلك من المقاصد العظيمة.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) }
يخبر تعالى عن اقتراب الساعة وفراغ الدنيا وانقضائها. كما قال تعالى : { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [سُبْحَانَهُ ] } [ النحل : 1 ] ، (3) وقال : { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 1 ] وقد وردت الأحاديث بذلك ، قال الحافظ أبو بكر البزار :
حدثنا محمد بن المثنى وعمرو بن علي قالا حدثنا خلف بن موسى ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَطَبَ أصحابه ذات يوم ، وقد كادت الشمس أن تغرب فلم يبق منها إلا شِفٌّ (4) يسير ، فقال : "والذي نفسي بيده ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه ، وما نرى من الشمس إلا يسيرا" (5).
قلت : هذا حديث مداره على خلف بن موسى بن خلف العَمِّيّ ، عن أبيه. وقد ذكره ابن حِبَّان في الثقات ، وقال : ربما أخطأ.
حديث آخر يعضد الذي قبله ويفسره ، قال الإمام أحمد : حدثنا الفضل بن دُكَيْن ، حدثنا شريك ، حدثنا سلمة بن كُهَيْل ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم والشمس على قُعَيْقِعان بعد العصر ، فقال : "ما أعماركم في أعمار من مضى إلا كما بقي من النهار فيما مضى" (6).
__________
(1) في أ : "اقتربت".
(2) انظر أول تفسير سورة : "ق".
(3) زيادة من أ.
(4) في أ : "شيء".
(5) رواه الطبري في تاريخه (1/11) حدثنا ابن بشار ومحمد بن المثنى عن خلف بن موسى به.
قال الهيثمي في المجمع (10/311) : "رواه البزار من طريق خلف بن موسى عن أبيه وقد وثقا".
(6) المسند (2/115).

(7/470)


وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين ، حدثنا محمد بن مُطَرِّف ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "بُعِثتُ والساعة (1) هكذا". وأشار بإصبعيه : السبابة والوسطى.
أخرجاه من حديث أبي حازم سلمة بن دينار (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عُبَيد ، حدثنا الأعمش ، عن أبي خالد ، عن وهب السَّوَائي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بعثت أنا والساعة كهذه من هذه إن كادت لتسبقها (3) " وجمع الأعمش بين السبابة والوسطى (4).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا الأوزاعي ، حدثنا إسماعيل بن عبيد (5) الله ، قال : قدم أنس بن مالك على الوليد بن عبد الملك فسأله : ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر به الساعة ؟ فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "أنتم والساعة كهاتين".
تفرد به أحمد ، رحمه الله (6). وشاهد ذلك أيضا في الصحيح في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه الحاشر الذي يُحْشَرُ الناس على قدميه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا بَهْزُ بن أسد ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، حدثنا حميد بن هلال ، عن خالد بن عمير قال : خطب عتبة بن غَزْوَان - قال بهز : وقال قبل هذه المرة - خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : "أما بعد ، فإن الدنيا قد آذنت بصَرْمٍ وولت حذاء ، ولم يبق منها إلا صُبَابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها ، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها ، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم ، فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يُلقَى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاما (7) ما يدرك لها قعرًا ، والله لتملؤنه ، أفعجبتم! والله لقد ذكر لنا أن ما بين مِصْرَاعَي الجنة مسيرة أربعين عاما ، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ الزحام" وذكر تمام الحديث ، انفرد به مسلم (8).
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني يعقوب ، حدثني ابن عُلَيَّةَ ، أخبرنا عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السُّلَمي قال : نزلنا المدائن فكنا منها على فَرْسَخ ، فجاءت (9) الجمعة ، فحضر أبي وحضرت معه فخطبنا حذيفة فقال : ألا إن الله يقول : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } ، ألا وإن الساعة قد اقتربت ، ألا وإن القمر قد انشق ، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق ، ألا وإن اليوم المضمار ، وغدا السباق ، فقلت لأبي : أيستبق الناس غدا ؟ فقال : يا بني إنك لجاهل ، إنما هو السباق بالأعمال.
__________
(1) في م : "بعثت أنا والساعة".
(2) المسند (5/388) وصحيح البخاري برقم (6503) وصحيح مسلم برقم (2950).
(3) في م ، أ : "لتسبقني".
(4) المسند (4/309).
(5) في أ : "عبد".
(6) المسند (3/223).
(7) في م : "خريفا".
(8) المسند (4/174) وصحيح مسلم برقم (2967).
(9) في أ : "حانت".

(7/471)


ثم جاءت الجمعة الأخرى فحضرنا فخطب حذيفة ، فقال : ألا إن الله ، عز وجل يقول : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } ، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق ، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق ، ألا وإن الغاية النار ، والسابق من سبق إلى الجنة (1).
وقوله : { وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } : قد كان هذا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما ثبت ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة. وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود أنه قال : "خمس قد مضين : الروم ، والدخان ، واللزام ، والبطشة ، والقمر" (2). وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أي انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات.
ذكر الأحاديث الواردة في ذلك :
رواية أنس بن مالك :
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك قال : سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية ، فانشق القمر بمكة مرتين ، فقال : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ }.
ورواه مسلم ، عن محمد بن رافع ، عن عبد الرزاق (3).
وقال البخاري : حدثني عبد الله بن عبد الوهاب ، حدثنا بشر بن المفضل ، حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ؛ أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية ، فأراهم القمر شِقَّين ، حتى رأوا حِرَاء بينهما (4).
وأخرجاه أيضا من حديث يونس بن محمد المؤدّب ، عن شيبان ، عن قتادة (5). ورواه مسلم أيضا من حديث أبي داود الطيالسي ، ويحيى القطان ، وغيرهما ، عن شعبة ، عن قتادة ، به (6).
رواية جبير بن مطعم رضي الله عنه :
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن كثير ، حدثنا سليمان بن كثير ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين : فرقة على هذا الجبل ، وفرقة على هذا الجبل ، فقالوا : سحرنا محمد. فقالوا : إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم.
تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه ، وأسنده البيهقي في "الدلائل" من طريق محمد بن كثير ،
__________
(1) تفسير الطبري (27/51).
(2) صحيح البخاري برقم (4767).
(3) المسند (3/165) وصحيح مسلم برقم (2802).
(4) صحيح البخاري برقم (3868).
(5) صحيح البخاري برقم (4867) وصحيح مسلم برقم (2802).
(6) صحيح مسلم برقم (2802) ورواه البخاري في صحيحه برقم (4868) من طريق يحيى عن شعبة به.

(7/472)


عن أخيه سليمان بن كثير ، عن حصين بن عبد الرحمن ، [به] (1) (2). وهكذا رواه ابن جرير (3) من حديث محمد بن فضيل وغيره ، عن حصين ، به (4). ورواه البيهقي أيضا من طريق إبراهيم بن طَهْمَان وهُشَيْم ، كلاهما عن حُصَين عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، عن جده فذكره (5).
رواية عبد الله بن عباس [رضي الله عنهما] (6)
قال البخاري : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا بكر ، عن جعفر ، عن عِرَاك بن مالك ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس قال : انشق القمر في زمان رسول (7) الله صلى الله عليه وسلم (8).
ورواه البخاري أيضا ومسلم ، من حديث بكر بن مضر ، عن جعفر بن ربيعة ، عن عِرَاك [بن مالك] (9) ، به مثله (10).
وقال ابن جرير : حدثنا ابن مثنى ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود بن أبي هند ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } قال : قد مضى ذلك ، كان قبل الهجرة ، انشق القمر حتى رأوا شقيه.
وروى العَوْفي ، عن ابن عباس نحو هذا.
وقال الطبراني : حدثنا أحمد بن عمرو البزار ، حدثنا محمد بن يحيى القُطَعِي ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كُسِفَ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : سُحِر القمر. فنزلت : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } إلى قوله : { مستمر }.
رواية عبد الله بن عمر :
قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي قالا حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا العباس بن محمد الدّوري ، حدثنا وهب بن جرير ، عن شعبة ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمر في قوله تعالى : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } قال : وقد كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق فِلْقَتَين : فِلْقَة من دون الجبل ، وفلقة من خلف الجبل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم اشهد".
__________
(1) زيادة من م.
(2) المسند (4/81) ودلائل النبوة للبيهقي (2/268).
(3) في أ : "جبير".
(4) تفسير الطبري (27/51).
(5) دلائل النبوة (2/268).
(6) زيادة من م.
(7) في م ، أ : "النبي".
(8) صحيح البخاري برقم (4866).
(9) زيادة من أ.
(10) صحيح البخاري برقم (3638) وصحيح مسلم برقم (2803).

(7/473)


وهكذا رواه مسلم ، والترمذي ، من طرق عن شعبة ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، به (1). قال مسلم كرواية مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود. وقال الترمذي : حسن صحيح.
رواية عبد الله ابن مسعود :
قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن أبي مَعْمَر ، عن ابن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقين حتى نظروا إليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اشهدوا".
وهكذا رواه البخاري ومسلم ، من حديث سفيان بن عيينة ، به (2). وأخرجاه من حديث الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي معمر عبد الله بن سَخْبَرَة ، عن ابن مسعود ، به (3).
وقال ابن جرير : حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي ، حدثنا عمي يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن رجل ، عن عبد الله ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى فانشق القمر ، فأخذت فرقة خلف الجبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اشهدوا ، اشهدوا" (4).
قال البخاري : وقال أبو الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله : بمكة (5).
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا أبو عوانة ، عن المغيرة ، عن أبي الضُّحَى ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت قريش : هذا سحر ابن أبي كبشة. قال : فقالوا : انظروا ما يأتيكم به السّفَّار ، فإن محمدًا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم. قال : فجاء السّفَّار فقالوا : ذلك (6).
وقال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا العباس بن محمد الدَّوْري ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا هُشَيْم ، حدثنا مغيرة ، عن أبى الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله ، قال : انشق القمر بمكة حتى صار فرقتين ، فقال كفار قريش أهل مكة : هذا سحر سحركم به ابن أبي كَبْشَة ، انظروا السفار ، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق ، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سِحْرٌ سحركم به. قال : فسئل السفار ، قال : وقدموا من كل وجهة ، فقالوا : رأيناه.
رواه ابن جرير من حديث المغيرة ، به (7). وزاد : فأنزل الله عز وجل : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ }. ثم قال ابن جرير :
__________
(1) دلائل النبوة للبيهقي (2/267) وصحيح مسلم برقم (2801) وسنن الترمذي برقم (3288).
(2) المسند (1/377) وصحيح البخاري برقم (4865) وصحيح مسلم برقم (2800).
(3) صحيح البخاري برقم (4864) وصحيح مسلم برقم (2800).
(4) تفسير الطبري (27/50).
(5) صحيح البخاري برقم (295).
(6) مسند الطيالسي برقم (295).
(7) دلائل النبوة للبيهقي (2/266) وتفسير الطبري (27/50).

(7/474)


حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، أخبرنا أيوب ، عن محمد - هو ابن سيرين - قال : نبئت أن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، كان يقول : لقد انشق القمر (1).
وقال ابن جرير أيضا : حدثني محمد بن عمارة ، حدثنا عمرو بن حماد ، حدثنا أسباط ، عن سماك ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عبد الله قال : لقد رأيت الجبل من فَرْج القمر حين انشق.
ورواه الإمام أحمد عن مُؤَمَّل ، عن إسرائيل ، عن سِمَاك ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عبد الله ، قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى رأيت الجبل من بين فرجتي القمر (2).
وقال ليث عن مجاهد : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : "اشهد يا أبا بكر". فقال المشركون : سُحِر القمر حتى انشق (3).
وقوله : { وَإِنْ يَرَوْا آيَةً } أي : دليلا وحجة وبرهانا { يعرضوا } أي : لا ينقادون له ، بل يعرضون عنه ويتركونه وراء ظهورهم ، { وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } أي : ويقولون : هذا الذي شاهدناه من الحجج ، سحرٌ سحرنا به.
ومعنى { مُسْتَمِرٌّ } أي : ذاهب. قاله مجاهد ، وقتادة ، وغيرهما ، أي : باطل مضمحل ، لا دوام له.
{ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } أي : كذبوا بالحق إذ جاءهم ، واتبعوا ما أمرتهم به آراؤهم وأهواؤهم من جهلهم وسخافة عقلهم.
وقوله : { وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ } قال (4) قتادة : معناه : أن الخير واقع بأهل الخير ، والشر واقع بأهل الشر.
وقال ابن جريج : مستقر بأهله. وقال مجاهد : { وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ } أي : يوم القيامة.
وقال السدي : { مُسْتَقِرٌّ } أي : واقع.
وقوله : { وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأنْبَاءِ } أي : من الأخبار عن قصص الأمم المكذبين بالرسل ، وما حل بهم من العقاب والنكال والعذاب ، مما يتلى عليهم في هذا القرآن ، { مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } أي : ما فيه واعظ لهم عن الشرك والتمادي على التكذيب.
وقوله : { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } أي : في هدايته تعالى لمن هداه وإضلاله لمن أضله ، { فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } يعني (5) : أي شيء تغني النذر عمن كتب الله عليه الشقاوة ، وختم على قلبه ؟ فمن الذي يهديه من بعد الله ؟ وهذه الآية كقوله تعالى : { قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [ الأنعام : 149 ] ، وكذا قوله تعالى : { وَمَا تُغْنِي (6) الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 101 ].
__________
(1) تفسير الطبري (27/51).
(2) المسند (1/413).
(3) تفسير الطبري (27/51).
(4) في م : "قاله".
(5) في م ، أ : "بمعنى".
(6) في م ، أ : "فما تغني".

(7/475)


فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6)

{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) }

(7/476)


خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)

{ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) }.
يقول تعالى : فتول يا محمد عن هؤلاء الذين إذا رأوا آية يعرضون ويقولون : هذا سحر مستمر ، أعرض عنهم وانتظرهم ، { يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ } أي : إلى شيء منكر فظيع ، وهو موقف الحساب وما فيه من البلاء ، بل والزلازل والأهوال ، { خشَّعًا أَبْصَارُهُمْ } أي : ذليلة أبصارهم { يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ } وهي : القبور ، { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ } أي : كأنهم في انتشارهم وسرعة سيرهم إلى موقف الحساب إجابة للداعي { جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ } في الآفاق ؛ ولهذا قال : { مُهْطِعِينَ } أي : مسرعين { إِلَى الدَّاعِي } ، لا يخالفون ولا يتأخرون ، { يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } أي : يوم شديد الهول عَبُوس قَمْطَرِير { فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } [ المدثر : 9 ، 10 ].
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) }.
يقول تعالى : { كَذَّبَتْ } قبل قومك يا محمد { قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا } أي : صرحوا له بالتكذيب واتهموه بالجنون ، { وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ } قال مجاهد : { وَازْدُجِرَ } أي : استطير جنونا. وقيل : { وَازْدُجِرَ } أي : انتهروه وزجروه وأوعدوه : { لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ } [ الشعراء : 116 ]. قاله ابن زيد ، وهذا متوجه حسن.
{ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ } أي : إني ضعيف عن هؤلاء وعن مقاومتهم { فَانْتَصِرْ } أنت لدينك. قال الله تعالى : { فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ }. قال السدي : هو الكثير { وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا } أي : نبعت جميعُ أرجاء الأرض ، حتى التنانير التي هي محال النيران نبعت عيونا ، { فَالْتَقَى الْمَاءُ } أي : من السماء ومن الأرض { عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } أي : أمر مقدر.
قال ابن جُرَيْج ، عن ابن عباس : { فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ } كثير ، لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده ، ولا من السحاب ؛ فتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم ، فالتقى الماءان على أمر قد قدر.
وروى ابن أبي حاتم أن ابن الكُوَّاء سأل عليا عن المجرة فقال : هي شرج السماء ، ومنها فتحت

(7/476)


السماء بماء منهمر.
{ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } : قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والقرظي ، وقتادة ، وابن زيد : هي المسامير ، واختاره ابن جرير ، قال : وواحدها دسار ، ويقال : دَسير ، كما يقال : حبيك وحباك ، والجمع حُبُك.
وقال مجاهد : الدسر : أضلاع السفينة. وقال عكرمة والحسن : هو صدرها الذي يضرب به الموج.
وقال الضحاك : الدسر : طرفها وأصلها.
وقال العَوْفي عن ابن عباس : هو كلكلها.
وقوله : { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } أي : بأمرنا بمرأى منا وتحت حفظنا وكلاءتنا { جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ } أي جزاء لهم على كفرهم بالله وانتصارًا لنوح ، عليه السلام.
وقوله : { وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً } قال قتادة : أبقى الله سفينة نوح حتى أدركها أول هذه الأمة. والظاهر أن المراد من ذلك جنس السفن ، كقوله تعالى : { وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } [ يس : 41 ، 42 ]. وقال { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ. لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [ الحاقة : 11 ، 12] ؛ ولهذا قال ها هنا : { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } أي : فهل من يتذكر ويتعظ ؟
قال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الأسود ، عن ابن مسعود ، قال : أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } فقال رجل : يا أبا عبد الرحمن ، مُدَّكر أو مُذَّكر ؟ قال : أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم : { مُدَّكِرٍ } (1)
وهكذا رواه البخاري : حدثنا يحيى ، حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الأسود (2) بن يزيد ، عن عبد الله قال : قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم : { فَهَلْ مِنْ مُذَّكِرٍ } فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } (3)
وروى البخاري أيضا من حديث شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن الأسود ، عن عبد الله ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } (4).
وقال : حدثنا أبو نُعَيم ، حدثنا زُهَيْر ، عن أبي إسحاق ؛ أنه سمع رجلا يسأل الأسود : { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } أو { مُذَّكِر } ؟ قال : سمعت عبد الله يقرأ : { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }. وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها : { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } دالا.
__________
(1) المسند (1/395).
(2) في م : "عن أبي الأسود".
(3) صحيح البخاري برقم (4874).
(4) صحيح البخاري برقم (4869).

(7/477)


كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)

وقد أخرج مسلم هذا الحديث وأهل السنن إلا ابن ماجه ، من حديث أبي إسحاق (1).
وقوله : { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } أي : كيف كان عذابي لمن كفر بي وكذب رسلي ولم يتعظ بما جاءت به نُذُري ، وكيف انتصرت لهم ، وأخذت لهم بالثأر.
{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ } أي : سهلنا لفظه ، ويسرنا معناه لمن أراده ، ليتذكر الناس. كما قال : { كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ (2) أُولُو الألْبَابِ } [ ص : 29 ] ، وقال تعالى : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا } [ مريم : 97 ].
قال مجاهد : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ } يعني : هَوّنّا قراءته.
وقال السدي : يسرنا تلاوته على الألسن.
وقال الضحاك عن ابن عباس : لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ، ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله ، عز وجل.
قلت : ومن تيسيره ، تعالى ، على الناس تلاوة القرآن ما تَقدّم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف". وأوردنا الحديث بطرقه وألفاظه بما أغنى عن إعادته هاهنا ، ولله الحمد والمنة.
وقوله : { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } أي : فهل من متذكر بهذا القرآن الذي قد يَسَّر الله حفظه ومعناه ؟
وقال محمد بن كعب القرظي : فهل من منزجر عن المعاصي ؟
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الحسن بن رافع ، حدثنا ضَمْرَة (3) ، عن ابن شَوْذَب ، عن مَطَر - هو الوراق - في قوله تعالى : { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } هل من طالب علم فَيُعَان عليه ؟
وكذا علقه البخاري بصيغة الجزم ، عن (4) مطر الوراق و[كذا] (5) رواه ابن جرير (6) ، وروي عن قتادة مثله.
{ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنزعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) }.
يقول تعالى مخبرا عن عاد قوم هود : إنهم كذبوا رسولهم أيضا ، كما صنع قوم نوح ، وأنه تعالى
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4871) وصحيح مسلم برقم (823) وسنن أبي داود برقم (3994) وسنن الترمذي برقم (2937) وسنن النسائي (2/150).
(2) في م : "ليذكر".
(3) في أ : "حمزة".
(4) في أ : "على".
(5) زيادة من م.
(6) تفسير الطبري (27/57).

(7/478)


كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)

أرسل { عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا } ، وهي الباردة الشديدة البرد ، { فِي يَوْمِ نَحْسٍ } أي : عليهم. قاله الضحاك ، وقتادة ، والسّدّي. { مُسْتَمِرٍّ } عليهم نحسه ودماره ؛ لأنه يوم اتصل فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي.
وقوله : { تَنزعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ } وذلك أن الريح كانت تأتي أحدهم فترفعه حتى تغيبه عن الأبصار ، ثم تنكسه على أم رأسه ، فيسقط إلى الأرض ، فتثلغ رأسه فيبقى جثة بلا رأس ؛ ولهذا قال : { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ. فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }.
{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) }.

(7/479)


وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)

{ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) }.
وهذا إخبار عن ثمود أنهم كذبوا رسولهم صالحا ، { فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ } ، يقولون : لقد خبنا وخسرنا إن سلمنا كُلّنا قيادنا لواحد منا!
ثم تعجبوا من إلقاء الوحي عليه خاصة من دونهم ، ثم رموه بالكذب فقالوا : { بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } أي : متجاوز في حد الكذب. قال الله تعالى : { سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ } وهذا تهديد لهم شديد ووعيد أكيد.
ثم قال تعالى : { إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ } أي : اختبارا لهم ؛ أخرج الله لهم ناقة عظيمة عُشراء من صخرة صمَّاء طبق ما سألوا ، لتكون حجة الله عليهم في تصديق صالح ، عليه السلام ، فيما جاءهم به.
ثم قال آمرا لعبده ورسوله صالح : { فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ } أي : انتظر ما يؤول إليه أمرهم ، واصبر عليهم ، فإن العاقبة لك والنصر لك في الدنيا والآخرة ، { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ } أي : يوم لهم ويوم للناقة ؛ كقوله : { قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } [الشعراء : 155].
وقوله : { كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ } قال مجاهد : إذا غابت حضروا الماء ، وإذا جاءت حضروا اللبن.
ثم قال تعالى : { فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ } قال المفسرون : هو عاقر الناقة ، واسمه قُدّار بن سالف ، وكان أشقى قومه. كقوله : { إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا } [ الشمس : 12 ]. { فَتَعَاطَى } أي : فَجَسر (1)
{ فَعَقَرَ. فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } أي : فعاقبتهم ، فكيف كان عقابي (2) [لهم] (3) على كفرهم بي
__________
(1) في م : "حسر".
(2) في م : "عذابي".
(3) زيادة من م ، أ.

(7/479)


كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)

وتكذيبهم رسولي ؟ { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ } أي : فبادوا عن آخرهم لم تبق (1) منهم باقية ، وخَمَدوا وهَمَدوا كما يهمد يَبِيس الزرع والنبات. قاله غير واحد من المفسرين. والمحتظر - قال السدي - : هو المرعى بالصحراء حين يبيس وتحرق ونسفته الريح.
وقال ابن زيد : كانت العرب يجعلون حِظَارًا على الإبل والمواشي من يَبِيس الشوك ، فهو المراد من قوله : { كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ }.
وقال سعيد بن جُبَير : { كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ } : هو التراب المتناثر من الحائط. وهذا قول غريب ، والأول أقوى ، والله أعلم.
{ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) }.
يقول تعالى مخبرا عن قوم لوط كيف كذبوا رسولهم وخالفوه ، وارتكبوا المكروه من إتيان الذكور ، وهي الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين ؛ ولهذا أهلكهم الله هلاكا لم يُهلكه أمةً من الأمم ، فإنه تعالى أمر جبريل ، عليه السلام ، فحمل مدائنهم حتى وصل بها إلى عَنَان السماء ، ثم قلبها عليهم وأرسلها ، وأتبعت بحجارة من سجيل منضود ؛ ولهذا قال هاهنا. { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا } وهي : الحجارة ، { إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ } أي : خرجوا من آخر الليل فنجوا مما أصاب قومهم ، ولم يؤمن بلوط من قومه أحد ولا رجل واحد حتى ولا امرأته ، أصابها ما أصاب قومها ، وخرج نبي الله لوط وبنات له من بين أظهرهم سالما لم يمسَسْه سوء ؛ ولهذا قال تعالى : { كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ. وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا } أي : ولقد كان قبل حلول العذاب بهم قد أنذرهم بأس الله وعذابه ، فما التفتوا إلى ذلك ، ولا أصغوا إليه ، بل شكوا فيه وتماروا به ، { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ } وذلك ليلة ورَدَ عليه الملائكة : جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل في صورة شباب مُرد حِسان محنَةً من الله بهم ، فأضافهم لوط [عليه السلام] (2) وبعثت امرأته العجوز السوءُ إلى قومها ، فأعلمتهم بأضياف لوط ، فأقبلوا يُهْرَعُونَ إليه من كل مكان ، فأغلق لوط دونهم الباب ، فجعلوا يحاولون كسر الباب ، وذلك عشية ، ولوط ، عليه السلام ، يدافعهم ويمانعهم دون أضيافه ، ويقول لهم : { هَؤُلاءِ بَنَاتِي } يعني : نساءهم ، { إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } [ الحجر : 71 ]{ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ } أي : ليس لنا فيهن أرَبٌ ، { وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } [ هود : 79 ] فلما اشتد الحال وأبوا إلا الدخول ، خرج عليهم جبريل ، عليه السلام ، فضرب أعينهم بطرف جناحه ، فانطمست أعينهم. يقال : إنها غارت من وجوههم.
__________
(1) في م ، أ : "يبق".
(2) زيادة من أ.

(7/480)


وَلَقَدْ جَاءَ آَلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)

وقيل : إنه لم تبق لهم عيون بالكلية ، فرجعوا على أدبارهم يتحسسون بالحيطان ، ويتوعدون لوطا ، عليه السلام ، إلى الصباح.
قال الله تعالى : { وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ } أي : لا محيد لهم عنه ، ولا انفكاك لهم منه ، { فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }.
{ وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) }.
يقول تعالى مخبرا عن فرعون وقومه إنهم جاءهم رسول الله موسى وأخوه هارون بالبشارة إن آمنوا ، والنذارة إن كفروا ، وأيدهما بمعجزات عظيمة وآيات متعددة ، فكذبوا بها كلها ، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ، أي : فأبادهم الله ولم (1) يُبق منهم مخبرًا ولا عينًا ولا أثرًا.
ثم قال : { أَكُفَّارُكُمْ } أي : أيها المشركون من كفار قريش { خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ } يعني : من الذين تقدم ذكرهم ممن أهلكوا بسبب تكذيبهم الرسل ، وكفرهم بالكتب : أأنتم خير أم أولئك ؟ { أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ } أي : أم معكم (2) من الله براءة ألا ينالكم عذاب ولا نكال ؟.
ثم قال مخبرا عنهم : { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ } أي : يعتقدون أنهم مناصرون (3) بعضهم بعضا ، وأن جمعهم يغني عنهم من أرادهم بسوء ، قال الله تعالى : { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } أي : سيتفرق شملهم ويغلبون.
قال البخاري : حدثنا إسحاق ، حدثنا خالد ، عن خالد - وقال أيضا : حدثنا محمد ، حدثنا (4) عفان بن مسلم ، عن وُهيب ، عن خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - وهو في قبة له يوم بدر - : "أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تُعبد بعد اليوم (5) أبدا". فأخذ أبو بكر ، رضي الله عنه ، بيده وقال : حسبك يا رسول الله! ألححت على ربك. فخرج وهو يثب في الدرع وهو يقول : { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ. بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ }.
وكذا رواه البخاري والنسائي في غير موضع ، من حديث خالد - وهو مِهْران (6) الحذاء - به (7).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الربيع الزّهرَاني ، حدثنا حماد عن أيوب ، عن عكرمة ، قال : لما نزلت { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } [قال] (8) قال عمر : أيّ جمَع يهزم ؟ أيّ جَمْع
__________
(1) في م : "فلم".
(2) في م : "معهم".
(3) في م ، أ : "يتناصرون".
(4) في م : "بن".
(5) في م : "بعد اليوم في الأرض".
(6) في م ، أ : "وهو ابن مهران".
(7) صحيح البخاري برقم (2915 ، 3953 ، 4875 ، 4877) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11557).
(8) زيادة من أ.

(7/481)


إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)

يغلب ؟ قال عمر : فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع ، وهو يقول : { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } فعرفت تأويلها يومئذ (1).
وقال البخاري : حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام بن يوسف ؛ أن ابن جُرَيج أخبرهم : أخبرني يوسف بن ماهَكَ قال : إني عند عائشة أم المؤمنين ، قالت : نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمكة - وإني لجارية ألعب - { بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } هكذا رواه ها هنا مختصرا (2). ورواه في فضائل القرآن مطولا (3) ، ولم يخرجه مسلم.
{ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) }.
__________
(1) رواه عبد الرزاق في تفسيره (2/209) من طريق معمر عن أيوب به.
(2) صحيح البخاري برقم (4876).
(3) صحيح البخاري برقم (4993).

(7/482)


وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

{ وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) }
يخبرنا (1) تعالى عن المجرمين أنهم في ضلال عن الحق ، وسُعُر مما هم فيه من الشكوك والاضطراب في الآراء ، وهذا يشمل كل من اتصف بذلك من كافر ومبتدع من سائر الفرق.
ثم قال : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ } أي : كما كانوا في سُعُر وشك وتردد أورثهم ذلك النار ، وكما كانوا ضلالا سُحبوا فيها على وجوههم ، لا يدرون أين يذهبون ، ويقال لهم تقريعا وتوبيخا : { ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ }.
وقوله : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } ، كقوله : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } [ الفرقان : 2 ] وكقوله : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [ الأعلى : 1 - 3 ] أي : قدر قدرا ، وهدى الخلائق إليه ؛ ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمةُ السنة على إثبات قَدَر الله السابق لخلقه ، وهو علمه الأشياء قبل كونها وكتابته لها قبل برئها ، وردّوا بهذه الآية وبما (2) شاكلها من الآيات ، وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتات على الفرْقة القَدرية الذين نبغوا (3) في أواخر عصر الصحابة. وقد تكلمنا على هذا المقام مفصلا وما ورد فيه من الأحاديث في شرح "كتاب الإيمان" من "صحيح البخاري" رحمه الله ، ولنذكر هاهنا الأحاديث المتعلقة بهذه الآية الكريمة :
قال أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان الثوري ، عن زياد بن إسماعيل السهمي ، عن محمد بن عباد بن جعفر ، عن أبي هُرَيرَة قال : جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر ، فنزلت : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ. إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }.
__________
(1) في م : "يخبر".
(2) في م : "وما".
(3) في أ : "سعوا".

(7/482)


وهكذا رواه مسلم والترمذي وابن ماجه ، من حديث وكيع ، عن سفيان الثوري ، به (1).
وقال البزار : حدثنا عمرو بن على ، حدثنا الضحاك بن مَخْلَد ، حدثنا يونس بن الحارث ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : ما نزلت هذه الآيات : { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ. يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ. إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } ، إلا في أهل القدر (2).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سهل (3) بن صالح الأنطاكي ، حدثني قُرَّة بن حبيب ، عن كنانة حدثنا جرير بن حازم ، عن سعيد بن عمرو بن جَعْدَةَ ، عن ابن زُرَارة ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية : { ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ. إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } ، قال : "نزلت في أناس من أمتي يكونون في آخر الزمان يكذبون بقدر الله" (4).
وحدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا مَرْوان بن شجاع الجزَري ، عن عبد الملك بن جُرَيْج ، عن عطاء بن أبي رَبَاح ، قال : أتيت ابن عباس وهو يَنزع من زمزم ، وقد ابتلّت أسافل ثيابه ، فقلت له : قد تُكُلّم في القدر. فقال : أو [قد] (5) فعلوها ؟ قلت : نعم. قال : فوالله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم : { ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ. إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } ، أولئك شرار هذه الأمة ، فلا تعودوا مرضاهم ولا تُصَلّوا على موتاهم ، إن رأيت أحدا منهم فقأت عينيه بأصبعيّ هاتين.
وقد رواه الإمام أحمد من وجه آخر ، وفيه مرفوع ، فقال :
حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا الأوزاعي ، عن بعض إخوته ، عن محمد بن عُبَيد المكي ، عن عبد الله بن عباس ، قال : قيل له : إن رجلا قدم علينا يُكَذّب بالقدر فقال : دلوني عليه - وهو أعمى - قالوا : وما تصنع به يا أبا عباس قال : والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لأعضَّنّ أنفه حتى أقطعه ، ولئن وقعت رقبته في يدي لأدقنها ؛ فإني (6) سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "كأني بنساء بني فِهْر يَطُفْنَ بالخزرج ، تصطفق ألياتهن مشركات ، هذا أول شرك هذه الأمة ، والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قَدّر خيرا ، كما أخرجوه من أن يكون قدر شرا" (7).
ثم رواه أحمد عن أبي المغيرة ، عن الأوزاعي ، عن العلاء بن الحجاج ، عن محمد بن عبيد ، فذكر مثله (8). لم يخرجوه.
__________
(1) المسند (2/444) وصحيح مسلم برقم (2656) وسنن الترمذي برقم (3290) وسنن ابن ماجة برقم (83).
(2) مسند البزار برقم (2265) "كشف الأستار" ، وقال الهيثمي في المجمع (7/117) : "فيه يونس بن الحارث ، وثقه ابن معين وابن حيان وفيه ضعف ، وبقية رجاله ثقات".
(3) في أ : "سهيل".
(4) رواه الطبراني في المعجم الكبير (5/276) من طريق قرة بن حبيب عن جرير بن حازم - وأظن أن كنانة ساقط منه - عن سعيد بن عمرو به.
(5) زيادة من م.
(6) في أ : "قال".
(7) المسند (1/330).
(8) المسند (1/330).

(7/483)


وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثني أبو صخر ، عن نافع قال : كان لابن عمر صديق من أهل الشام يكاتبه (1) ، فكتب إليه عبد الله بن عمر : إنه بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر ، فإياك أن تكتب إليّ ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر".
رواه أبو داود ، عن أحمد بن حنبل ، به (2).
وقال أحمد : حدثنا أنس بن عياض ، حدثنا عمر بن عبد الله مولى غُفْرَة ، عن عبد الله بن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لكل أمة مجوس ، ومجوس أمتي الذين يقولون : لا قدر. إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم" (3).
لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه.
وقال أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا رِشْدِين ، عن أبي صخر حُمَيد بن زياد ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "سيكون في هذه الأمة مسخ ، ألا وذاك في المكذبين بالقدر والزنديقية".
ورواه الترمذي وابن ماجه ، من حديث أبي صخر حميد بن زياد ، به (4). وقال الترمذي : حسن صحيح غريب.
وقال أحمد : حدثنا إسحاق بن الطباع ، أخبرني مالك ، عن زياد بن سعد ، عن عمرو بن مسلم ، عن طاوس اليماني قال : سمعت ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كل شيء بقدرن حتى العجز والكيس".
ورواه مسلم منفردا به ، من حديث مالك (5) (6).
وفي الحديث الصحيح : "استعن بالله ولا تعجز ، فإن أصابك أمر فقل : قَدَّرُ الله وما شاء فعل ، ولا تقل : لو أني فعلت لكان كذا ، فإن لو تفتح عمل الشيطان" (7).
وفي حديث ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء ، لم يكتبه الله لك ، لم ينفعوك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يكتبه الله عليك ، لم يضروك. جفّت الأقلام وطويت الصحف" (8).
__________
(1) في م : "فكاتبه".
(2) المسند (2/90) وسنن أبي داود برقم (4613).
(3) المسند (2/86).
(4) المسند (2/108) وسنن الترمذي برقم (2152) وسنن ابن ماجه برقم (4061).
(5) في م : "ورواه مسلم من حديث مالك منفردا به".
(6) المسند (2/110) وصحيح مسلم برقم (2655).
(7) رواه مسلم في صحيحه برقم (2664) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(8) رواه الإمام أحمد في مسنده (1/293).

(7/484)


وقال الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن سَوَّار ، حدثنا الليث (1) ، عن معاوية ، عن أيوب بن زياد ، حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة ، حدثني أبي قال : دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت ، فقلت : يا أبتاه ، أوصني واجتهد لي. فقال : أجلسوني. فلما أجلسوه قال : يا بني ، إنك لما تطعم طعم الإيمان ، ولم تبلغ حق حقيقة العلم بالله ، حتى تؤمن بالقدر خيره وشره. قلت : يا أبتاه ، وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره ؟ قال : تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك. يا بني ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن أول ما خلق الله القلم. ثم قال له : اكتب. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة" يا بني ، إن متَّ ولستَ على ذلك دخلت النار (2).
ورواه الترمذي عن يحيى بن موسى البَلْخِي ، عن أبي داود الطيالسي ، عن عبد الواحد بن سليم ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن الوليد بن عبادة ، عن أبيه ، به. وقال : حسن صحيح غريب (3).
وقال سفيان الثوري ، عن منصور ، عن رِبْعِي بن خِرَاش ، عن رجل ، عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، بعثني بالحق ، ويؤمن بالموت ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر خيره وشره".
وكذا رواه الترمذي من حديث النضر بن شُمَيْل ، عن شعبة ، عن منصور ، به (4). ورواه من حديث أبي داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن (5) منصور ، عن ربعي ، عن علي ، فذكره وقال : "هذا عندي أصح". وكذا رواه ابن ماجه من حديث شريك ، عن منصور ، عن ربعي ، عن علي ، به (6).
وقد ثبت في صحيح مسلم من رواية عبد الله بن وهب وغيره ، عن أبي (7) هانئ الخولاني ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة" زاد ابن وهب : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } [هود : 7]. ورواه الترمذي وقال : حسن صحيح غريب (8).
وقوله : { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ }. وهو إخبار عن نفوذ مشيئته في خلقه كما أخبر
__________
(1) في م : "ليث".
(2) المسند (5/317).
(3) سنن الترمذي برقم (3319).
(4) سنن الترمذي برقم (2145) ورواه أحمد في مسنده (1/133) عن وكيع والحاكم في مستدركه (1/33) عن أبي حذيفة ، كلاهما عن سفيان الثوري به.
وقد رجح هذه الرواية الدارقطني في العلل (3/196) فقال : "حديث شريك وورقاء وجرير وعمرو بن أبي قيس عن منصور عن ربعي عن علي. وخالفهم سفيان الثوري وزائدة أبو الأحوص وسليمان التيمي فرووه : عن منصور عن ربعي عن رجل من بني راشد عن علي وهو الصواب".
(5) في م : "بن".
(6) سنن الترمذي برقم (2145) وسنن ابن ماجه برقم (81).
(7) في أ : "أم".
(8) صحيح مسلم برقم (2653) وسنن الترمذي برقم (2156).

(7/485)


بنفوذ قدره فيهم ، فقال : { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ } أي : إنما نأمر بالشيء مرة واحدة ، لا نحتاج إلى تأكيد بثانية ، فيكون ذلك الذي نأمر به حاصلا موجودا كلمح البصر (1) ، لا يتأخر طرفة عين ، وما أحسن ما قال بعض الشعراء :
إذَا ما أرَادَ الله أمْرًا فَإِنَّما... يقُولُ لهُ : كُنْ ، قَوَلةً (2) فَيَكُونُ...
وقوله : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ } يعني : أمثالكم وسلفكم من الأمم السابقة المكذبين بالرسل ، { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } أي : فهل من متعظ بما أخزى الله أولئك ، وقدر لهم من العذاب ، كما قال : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ } [ سبأ : 54 ].
وقوله : { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ } أي : مكتوب عليهم في الكتب التي بأيدي الملائكة عليهم السلام ، { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ } أي : من أعمالهم { مُسْتَطَرٌ } أي : مجموع عليهم ، ومسطر في صحائفهم ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر ، حدثنا سعيد بن مسلم بن بانك : سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير ، حدثني عوف بن الحارث - وهو ابن أخي عائشة لأمها - عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : "يا عائشة ، إياك ومُحَقِّرات الذنوب ، فإن لها من الله طالبا".
ورواه النسائي وابن ماجه ، من طريق سعيد بن مسلم بن بانك المدني (3). وثقه (4) أحمد ، وابن معين ، وأبو حاتم ، وغيرهم.
وقد رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة سعيد بن مسلم هذا من وجه آخر (5) ، ثم قال سعيد : فحدثت بهذا الحديث عامر بن هشام فقال لي : ويحك يا سعيد بن مسلم! لقد حدثني سليمان بن المغيرة أنه عمل ذنبا فاستصغره ، فأتاه آت في منامه فقال له : يا سليمان :
لا تَحْقِرنَّ مِنَ الذنوبِ صَغِيرا... إن الصَّغير غدًا يعود (6) كبيرا...
إن الصغير ولو تقادم عهده... عند الإله مُسَطَّرٌ تسطيرا...
فازجر هواك عن البطالة لا تكن... صعب القياد وشمرن (7) تشميرا...
إن المُحِبَّ إذا أحب إلههُ... طار الفؤاد وأُلْهِم التفكيرا...
فاسأل هدايتك الإله بِنِيَّة... فَكَفَى بِرَبّكَ هاديا ونصيرا (8)
__________
(1) في م : "كلمح البصر".
(2) في أ : "في الوجود".
(3) المسند (6/151) وسنن ابن ماجه برقم (4243).
(4) في أ : "الذي وثقه".
(5) تاريخ دمشق (7/353 "المخطوط") من طريق أبي عامر العقدي والقعنبي ، كلاهما عن سعيد بن مسلم به.
(6) في أ : "يكون".
(7) في م : "وشمر".
(8) تاريخ دمشق (7/353 "القسم المخطوط").

(7/486)


وقوله : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } أي : بعكس ما الأشقياء فيه من الضلال والسُّعر والسحب في النار على وجوههم ، مع التوبيخ والتقريع والتهديد.
وقوله : { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ } أي : في دار كرامة الله ورضوانه وفضله ، وامتنانه وجوده وإحسانه ، { عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } أي : عند الملك العظيم الخالق للأشياء كلها ومقدرها ، وهو مقتدر على ما يشاء مما يطلبون ويريدون ؛ وقد قال الإمام أحمد :
حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن عمرو بن أوس ، عن عبد الله بن عمرو (1) - يَبلُغُ به النبي صلى الله عليه وسلم - قال : "المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور ، عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين : الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا".
انفرد بإخراجه مسلم والنسائي ، من حديث سفيان بن عيينة ، بإسناده مثله (2).
آخر تفسير سورة "اقتربت" ، ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة
__________
(1) في م : "عبد الله بن أبي عمرو" وهو خطأ.
(2) صحيح مسلم برقم (1827) وسنن النسائي (8/221).

(7/487)


تفسير سورة الرحمن
وهي مكية.
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، عن عاصم ، عن زِرٍّ ، أن رجلا قال لابن مسعود : كيف تعرف هذا الحرف : "ماء غير ياسن أو آسن" ؟ فقال : كل القرآن قد قرأت. قال : إني لأقرأ المفصل ؛ أجمع في ركعة واحدة. فقال : أهذًّا كهذِّ الشعر ، لا أبا لك ؟ قد علمت قرائن النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يقرن قرينتين قرينتين من أول المفصل ، وكان أول مفصل ابن مسعود : { الرحمن } (1).
وقال أبو عيسى الترمذي : حدثنا عبد الرحمن بن واقد أبو مسلم ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن زهير بن محمد ، عن محمد بن المُنْكَدِر ، عن جابر قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة "الرحمن" من أولها إلى آخرها ، فسكتوا فقال : "لقد قرأتها على الجن ليلة الجن ، فكانوا أحسن مردودا منكم ، كنت كلما أتيت على قوله : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ، قالوا : لا بشيء من نعمك - ربنا - نكذب ، فلك الحمد" (2).
ثم قال : هذا حديث غريب ، لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم ، عن زهير بن محمد. ثم حكي عن الإمام أحمد أنه كان لا يعرفه ، ينكر (3) رواية أهل الشام عن زهير بن محمد هذا.
ورواه الحافظ أبو بكر البزار ، عن عمرو بن مالك ، عن الوليد بن مسلم. وعن عبد الله بن أحمد بن شبوية ، عن هشام بن عمار ، كلاهما عن الوليد بن مسلم ، به. ثم قال : لا نعرفه يروى إلا من هذا الوجه (4).
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا محمد بن عباد بن موسى ، وعمرو بن مالك البصري قالا حدثنا يحيى بن سليم ، عن إسماعيل بن أمية ، عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة "الرحمن" - أو : قُرِئَت عنده - فقال : "ما لي أسمع الجن أحسن جوابا لربها منكم ؟" قالوا : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : "ما أتيت على قول الله : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } إلا قالت الجن : لا بشيء من نعمة (5) ربنا نكذب".
ورواه الحافظ البزار عن عمرو بن مالك ، به (6). ثم قال : لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد.
__________
(1) المسند (1/412).
(2) سنن الترمذي برقم (3291).
(3) في م ، أ : "يستنكر".
(4) ورواه الحاكم في المستدرك (2/473) من طريق هشام بن عمار وعبد الرحمن بن واقد ، كلاهما عن الوليد بن مسلم به.
(5) في م ، أ : "نعم".
(6) مسند البزار (2269) "كشف الأستار" وشيخه عمرو بن مالك الراسبي ضعفه الجمهور ، وبقية رجاله ثقات.

(7/488)


الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)

بسم الله الرحمن الرحيم
{ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الإنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) }
يخبر تعالى عن فضله ورحمته بخلقه : أنه أنزل على عباده القرآن ويسر حفظه وفهمه على من رحمه ، فقال : { الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الإنْسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } قال الحسن : يعني : النطق (1). وقال الضحاك ، وقتادة ، وغيرهما : يعني الخير والشر. وقول الحسن ها هنا أحسن وأقوى ؛ لأن السياق في تعليمه تعالى القرآن ، وهو أداء تلاوته ، وإنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق وتسهيل خروج الحروف من مواضعها من الحلق واللسان والشفتين ، على اختلاف مخارجها وأنواعها.
وقوله : { الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } أي : يجريان متعاقبين بحساب مُقَنَّن لا يختلف ولا يضطرب ، { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] ، وقال تعالى : { فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ الأنعام : 96 ].
وعن عكرمة أنه قال : لو جعل الله نور جميع أبصار الإنس والجن والدواب والطير في عيني عبد ، ثم كشف حجابا واحدا من سبعين حجابا دون الشمس ، لما استطاع أن ينظر إليها. ونور الشمس جزء من سبعين جزءًا من نور الكرسي ، ونور الكرسي جزء من سبعين جزءًا من نور العرش ، ونور العرش جزء من سبعين جزءًا من نور الستر. فانظر ماذا أعطى الله عبده من النور في عينيه وقت النظر إلى وجه ربه الكريم عيانا. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله : { وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } قال ابن جرير : اختلف المفسرون في معنى قوله : { والنجم } بعد إجماعهم على أن الشجر ما قام على ساق ، فروى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : النجم ما انبسط على وجه الأرض - يعني من النبات. وكذا قال سعيد بن جبير ، والسدي ، وسفيان الثوري. وقد اختاره ابن جرير رحمه الله.
وقال مجاهد : النجم الذي في السماء. وكذا قال الحسن وقتادة. وهذا القول هو الأظهر والله أعلم ؛ لقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ } الآية [ الحج : 18 ].
__________
(1) في أ : "المنطق".

(7/489)


وقوله : { وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ } يعني : العدل ، كما قال : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } [ الحديد : 25 ] ، وهكذا قال هاهنا : { أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ } أي : خلق السموات والأرض بالحق والعدل ، لتكون (1) الأشياء كلها بالحق والعدل ؛ ولهذا قال : { وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ } أي : لا تبخسوا الوزن ، بل زِنوا بالحق والقسط ، كما قال [تعالى] (2) { وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ } [ الشعراء : 182 ].
وقوله : { وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ } أي : كما رفع السماء وضع الأرض ومهدها ، وأرساها بالجبال الراسيات الشامخات ، لتستقر لما على وجهها من الأنام ، وهم : الخلائق المختلفة أنواعهم وأشكالهم وألوانهم وألسنتهم ، في سائر أقطارها وأرجائها. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد : الأنام : الخلق.
{ فِيهَا فَاكِهَةٌ } أي : مختلفة الألوان والطعوم والروائح ، { وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ } أفرده بالذكر لشرفه ونفعه ، رطبا ويابسا. والأكمام - قال ابن جُرَيْج عن ابن عباس : هي أوعية الطلع. وهكذا قال غير واحد من المفسرين ، وهو الذي يطلع فيه القنو ثم ينشق عن العنقود ، فيكون بسرا ثم رطبا ، ثم ينضج ويتناهى يَنْعُه واستواؤه.
قال ابن أبي حاتم (3) ذُكِرَ عن عمرو بن علي الصيرفي : حدثنا أبو قتيبة ، حدثنا يونس بن الحارث الطائفي ، عن الشعبي قال : كتب قيصر إلى عمر بن الخطاب : أخبرك أن رسلي أتتني من قبلك ، فزعمت أن قبلكم شجرة ليست بخليقة لشيء من الخير ، تخرج مثل آذان الحمير ، ثم تشقق مثل اللؤلؤ ، ثم تخضر فتكون مثل الزمرد (4) الأخضر ، ثم تحمر فتكون كالياقوت الأحمر ، ثم تَيْنَع وتنضج فتكون كأطيب فالوذج أُكِل ، ثم تيبس فتكون عصمة للمقيم وزادًا للمسافر ، فإن تكن رسلي صدقتني فلا أرى هذه الشجرة إلا من شجر الجنة. فكتب إليه عمر بن الخطاب (5) من عمر أمير المؤمنين إلى قيصر ملك الروم ، إن رسلك قد صدقوك (6) ، هذه الشجرة عندنا ، وهي الشجرة التي أنبتها الله على مريم حين نفست بعيسى ابنها ، فاتق الله ولا تتخذ عيسى إلها من دون الله ، فإن { مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [ آل عمران : 59 ، 60 ] (7).
وقيل : الأكمام رفاتها ، وهو : الليف الذي على عنق النخلة. وهو قول الحسن وقتادة.
{ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ } يعني : التبن.
__________
(1) في م : "ليكون".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : "ابن جرير".
(4) في م : "كالرمد".
(5) في م : "عمر بن عبد الله".
(6) في م ، أ : "صدقتك".
(7) في م : "تكونن".

(7/490)


وقال العَوْفي ، عن ابن عباس : { الْعَصْفِ } ورق الزرع الأخضر الذي قطع رؤوسه ، فهو يسمى العصف إذا يبس. وكذا قال قتادة ، والضحاك ، وأبو مالك : عصفه : تبنه.
وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وغير واحد : { والريحان } يعني : الورق.
وقال الحسن : هو ريحانكم هذا.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { والريحان } خضر (1) الزرع.
ومعنى هذا - والله أعلم - أن الحب كالقمح والشعير ونحوهما له في حال نباته عصف ، وهو : ما على السنبلة ، وريحان ، وهو : الورق الملتف على ساقها.
وقيل : العصف : الورق أول ما ينبت الزرع بقلا. والريحان : الورق ، يعني : إذا أدجن وانعقد فيه الحب. كما قال زيد بن عمرو بن نفيل في قصيدته المشهورة.
وَقُولا له : من يُنْبِتُ الحَبَّ في الثَّرى... فَيُصْبِحَ منه البقلُ يَهْتَزُّ رابيا?...
وَيُخْرجَ منْه حَبَّه في رُؤوسه?... فَفي ذاك آياتٌ لِمَنْ كَانَ واعيا (2)
وقوله : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : فبأي الآلاء (3) - يا معشر الثقلين ، من الإنس والجن - تكذبان ؟ قاله مجاهد ، وغير واحد. ويدل عليه السياق بعده ، أي : النِّعَمُ ظاهرة عليكم وأنتم مغمورون بها ، لا تستطيعون إنكارها ولا جحودها (4) ، فنحن نقول كما قالت الجن المؤمنون : "اللهم ، ولا بشيء من آلائك ربنا نكذِّب ، فلك الحمد". وكان ابن عباس يقول : "لا بأيِّها يا رب". أي : لا نكذب بشيء منها.
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عُرْوَة ، عن أسماء بنت أبي بكر قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ ، وهو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر ، والمشركون يستمعون (5) { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } (6).
__________
(1) في أ : "خضرة".
(2) انظر الأبيات في السيرة النبوية لابن هشام (1/228).
(3) في م : "آلاء".
(4) في م : "جحدها".
(5) في م : "يسمعون".
(6) المسند (6/349).

(7/491)


خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16)

{ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) }

(7/492)


رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)

{ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) }.
يذكر تعالى خلقه الإنسان من صلصال كالفخار ، وخلقه (1) الجان من مارج من نار ، وهو : طرف لهبها. قاله الضحاك ، عن ابن عباس. وبه يقول عكرمة ، ومجاهد ، والحسن ، وابن زيد.
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس : { مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ } من لهب النار ، من أحسنها.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ } من خالص النار. وكذا قال عكرمة ، ومجاهد ، والضحاك وغيرهم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم".
ورواه مسلم ، عن محمد بن رافع ، وعبد بن حميد ، كلاهما عن عبد الرزاق ، به (2).
وقوله : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } تقدم تفسيره.
{ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ } يعني : مشرقي الصيف والشتاء ، ومغربي الصيف والشتاء. وقال في الآية الأخرى : { فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ } [ المعارج : 40 ] ، وذلك باختلاف مطالع الشمس وتنقلها في كل يوم ، وبروزها منه إلى الناس. وقال في الآية الأخرى : { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا } [ المزمل : 9 ]. وهذا المراد منه جنس المشارق والمغارب ، ولما كان في اختلاف هذه المشارق والمغارب ، مصالح للخلق من الجن والإنس قال : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ؟.
وقوله : { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ } قال ابن عباس : أي أرسلهما.
وقوله : { يلتقيان } قال ابن زيد : أي : منعهما أن يلتقيا ، بما جعل بينهما من البرزخ الحاجز الفاصل بينهما.
والمراد بقوله : { البحرين } الملح والحلو ، فالحلو هذه الأنهار السارحة بين الناس. وقد قدمنا الكلام على ذلك في سورة "الفرقان" عند قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا } [ الفرقان : 53 ]. وقد اختار ابن جرير هاهنا أن المراد بالبحرين : بحر السماء وبحر الأرض ، وهو مروي عن مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعطية وابن أبْزَى.
قال ابن جرير : لأن اللؤلؤ يتولد من ماء السماء ، وأصداف (3) بحر الأرض (4). وهذا وإن كان هكذا ليس المراد [بذلك] (5) ما ذهب إليه ، فإنه لا يساعده اللفظ ؛ فإنه تعالى قد قال : { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ } أي : وجعل بينهما برزخا ، وهو : الحاجز من الأرض ، لئلا يبغي هذا على هذا ، وهذا على
__________
(1) في أ : "خلق".
(2) المسند (6/168) وصحيح مسلم برقم (2996).
(3) في م : "واختلاف".
(4) تفسير الطبري (27/75).
(5) زيادة من م ، أ.

(7/492)


هذا ، فيفسد كل واحد منهما الآخر ، ويزيله عن صفته التي هي مقصودة منه. وما بين السماء والأرض لا يسمى برزخا وحجرا محجورا.
وقوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } أي : من مجموعهما ، فإذا وجد ذلك لأحدهما (1) كفى ، كما قال تعالى : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } [ الأنعام : 130 ] والرسل إنما كانوا في الإنس خاصة دون الجن ، وقد صح هذا الإطلاق. واللؤلؤ معروف ، وأما المرجان فقيل : هو صغار اللؤلؤ. قاله مجاهد ، وقتادة ، وأبو رزين ، والضحاك. وروي عن علي.
وقيل : كباره وجيده. حكاه ابن جرير عن بعض السلف. ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن (2) أنس ، وحكاه عن السدي ، عمن حدثه ، عن ابن عباس. وروي مثله عن علي ، ومجاهد أيضا ، ومرة الهمداني.
وقيل : هو نوع من الجواهر أحمر اللون. قال السدي ، عن أبي مالك ، عن مسروق ، عن عبد الله قال : المرجان : الخرز الأحمر. قال السدي وهو البُسَّذ (3) بالفارسية.
وأما قوله : { وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } [ فاطر : 12 ] ، فاللحم من كل من الأجاج والعذب ، والحلية ، إنما هي من الملح دون العذب.
قال ابن عباس : ما سقطت قط قطرة من السماء في البحر ، فوقعت في صدفة إلا صار منها لؤلؤة. وكذا قال عكرمة ، وزاد : فإذا لم تقع في صدفة نبتت بها عنبرة. وروي من غير وجه عن ابن عباس نحوه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِيّ ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن عبد الله ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إذا أمطرت السماء ، فتحت الأصداف في البحر أفواهها ، فما وقع فيها - يعني : من قطر - فهو اللؤلؤ.
إسناده (4) صحيح ، ولما كان اتخاذ هذه الحلية نعمة على أهل الأرض ، امتن بها عليهم فقال (5) : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
وقوله : { وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ } يعني : السفن التي تجري في البحر ، قال مجاهد : ما رفع قلعه من السفن فهي منشأة ، وما لم يرفع قلعه فليس بمنشأة ، وقال قتادة : { المنشآت } يعني المخلوقات. وقال غيره : المنشآت - بكسر الشين - يعني : البادئات.
{ كالأعلام } أي : كالجبال في كبرها ، وما فيها من المتاجر والمكاسب المنقولة من قطر إلى قطر ، وإقليم إلى إقليم ، مما فيه من صلاح للناس في (6) جلب ما يحتاجون إليه من سائر أنواع البضائع ؛ ولهذا قال [تعالى] (7) { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
__________
(1) في أ : "أحدهما".
(2) في أ : "عن".
(3) في م ، أ : "الكسد".
(4) في م : "إسناد".
(5) في م : "وقال".
(6) في م : "من".
(7) زيادة من أ.

(7/493)


كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا العرار بن سويد ، عن عميرة بن سعد قال : كنت مع علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، على شاطئ الفرات إذ أقبلت سفينة مرفوع شراعها ، فبسط على يديه ثم قال : يقول الله عز وجل : { وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ }. والذي أنشأها تجري في [بحر من] (1) بحوره ما قتلتُ عثمان ، ولا مالأت على قتله.
{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) }
يخبر تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون أجمعون ، وكذلك أهل السموات ، إلا من شاء الله ، ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم ؛ فإن الرب - تعالى وتقدس - لا يموت ، بل هو الحي الذي لا يموت أبدا.
قال قتادة : أنبأ بما خلق ، ثم أنبأ أن ذلك كله كان (2).
وفي الدعاء المأثور : يا حي ، يا قيوم ، يا بديع السموات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، لا إله إلا أنت ، برحمتك نستغيث (3) ، أصلح لنا شأننا كله ، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، ولا إلى أحد من خلقك.
وقال الشعبي : إذا قرأت { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } ، فلا تسكت حتى تقرأ : { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ }.
وهذه الآية كقوله تعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] ، وقد نعت تعالى وجهه الكريم في هذه الآية الكريمة بأنه { ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ } أي : هو أهل أن يجل فلا يعصى ، وأن يطاع فلا يخالف ، كقوله : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [ الكهف : 28 ] ، وكقوله إخبارا عن المتصدقين : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ } [ الإنسان : 9 ]
قال ابن عباس : { ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ } ذو العظمة والكبرياء.
ولما أخبر عن تساوي أهل الأرض كلهم في الوفاة ، وأنهم سيصيرون إلى الدار الآخرة ، فيحكم فيهم ذو الجلال والإكرام بحكمه العدل قال : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
وقوله : { يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } وهذا إخبار عن غناه عما سواه وافتقار الخلائق إليه في جميع الآنات ، وأنهم يسألونه بلسان حالهم وقالهم ، وأنه كل يوم هو في شأن.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في م : "فان".
(3) في م : "استغيث".

(7/494)


قال الأعمش ، عن مجاهد ، عن عبيد بن عمير : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } ، قال : من شأنه أن يجيب داعيا ، أو يعطي سائلا أو يفك عانيا ، أو يشفي سقيما.
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : كل يوم هو يجيب داعيا ، ويكشف كربا ، ويجيب مضطرا ويغفر ذنبا.
وقال قتادة : لا يستغني عنه أهل السموات والأرض ، يحيي حيا ، ويميت ميتا ، ويربي صغيرا ، ويفك أسيرا ، وهو منتهى حاجات الصالحين وصريخهم ، ومنتهى شكواهم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان الحِمْصيّ ، حدثنا حرير بن عثمان ، عن سُوَيْد بن جبلة - هو الفزاري - قال : إن ربكم كل يوم هو في شأن ، فيعتق رقابا ، ويعطي رغابا ، ويقحم عقابا.
وقال ابن جرير : حدثني عبد الله بن محمد بن عمرو الغُزّي ، حدثني إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي ، حدثني عمرو بن بكر السَّكْسكي (1) ، حدثنا الحارث بن عبدة بن رباح الغساني ، عن أبيه ، عن منيب بن عبد الله بن منيب الأزدي ، عن أبيه قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } ، فقلنا : يا رسول الله ، وما ذاك الشأن ؟ قال : "أن يغفر ذنبا ، ويفرج كربا ، ويرفع قوما ، ويضع آخرين (2) " (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، وسليمان بن أحمد الواسطي قالا حدثنا الوزير (4) بن صَبِيح الثقفي أبو روح الدمشقي - والسياق لهشام - قال : سمعت يونس بن ميسرة بن حَلْبَس ، يحدث عن أم الدرداء عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "قال الله عز وجل : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } قال : "من شأنه أن يغفر ذنبا ، ويفرج كربا ، ويرفع قوما ، ويضع آخرين (5) " (6).
وقد رواه ابن عساكر من طرق متعددة ، عن هشام بن عمار ، به. ثم ساقه من حديث أبي همام الوليد بن شجاع ، عن الوزير بن صَبِيح قال : ودلنا عليه الوليد بن مسلم ، عن مُطرِّف ، عن الشعبي ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. قال : والصحيح الأول. يعني إسناده الأول (7).
قلت : وقد روي موقوفا ، كما (8) علقه البخاري بصيغة الجزم ، فجعله من كلام أبي الدرداء (9) ، فالله أعلم.
__________
(1) في م : "الشكسي".
(2) في أ : "قوما".
(3) تفسير الطبري (27/79) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3401) "مجمع البحرين" والبزار في مسنده برقم (2266) "كشف الأستار" من طريق عمرو بن بكر السكسكي - وهو متروك - عن الحارث بن عبدة به.
(4) في م : "أبو رزين".
(5) في أ : قوما".
(6) رواه ابن ماجه برقم (202) من طريق هشام بن عمار به.
قال البوصيري في الزوائد (1/88) : "هذا إسناد حسن لتقاصر الوزير عن درجة الحفظ والإتقان".
(7) تاريخ دمشق (17/771) "القسم المخطوط").
(8) في م ، أ : "وقد".
(9) صحيح البخاري (8/620) "فتح" ، ورواه البيهقي في شعب الإيمان موصولا برقم (1102) من طريق إسماعيل بن عبد الله عن أم الدرداء عن أبي الدرداء موقوفا.

(7/495)


سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)

وقال البزار : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن الحارث ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني ، عن أبيه عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } ، قال : "يغفر ذنبا ، ويكشف كربا" (1).
ثم قال ابن جرير : وحدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن أبي حمزة الثُّمَالي ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس ، أن الله خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء ، دفّتاه ياقوتة حمراء ، قلمه نور ، وكتابه نور ، عرضه ما بين السماء والأرض ، ينظر فيه كل يوم ثلثمائة وستين نظرة ، يخلق في كل نظرة ، ويحيي ويميت ، ويعز ويذل ، ويفعل ما يشاء (2).
{ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) }.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ } ، قال : وعيد من الله للعباد ، وليس بالله شغل وهو فارغ. وكذا قال الضحاك : هذا وعيد. وقال قتادة : قد دنا من الله فراغ لخلقه. وقال ابن جريج : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ } أي : سنقضي لكم.
وقال البخاري : سنحاسبكم (3) ، لا يشغله شيء عن شيء ، وهو معروف في كلام العرب ، يقال (4) لأتفرغن لك" وما به شغل ، يقول : "لآخذنك على غِرَّتك (5) ".
وقوله : { أَيُّهَا الثَّقَلانِ } الثقلان : الإنس والجن ، كما جاء في الصحيح : "يسمعها كل شيء إلا الثقلين" وفي رواية : "إلا الجن والإنس". وفي حديث الصور : "الثقلان الإنس والجن" { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
ثم قال : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ } أي : لا تستطيعون هربا من أمر الله وقدره ، بل هو محيط بكم ، لا تقدرون على التخلص من حكمه ، ولا النفوذ عن حكمه فيكم ، أينما ذهبتم أحيط بكم ، وهذا في مقام المحشر ، الملائكة محدقة بالخلائق ، سبع صفوف من كل جانب ، فلا يقدر أحد على الذهاب { إِلا بِسُلْطَانٍ } أي : إلا بأمر الله ، { يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ. كَلا لا وَزَرَ. إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ } [ القيامة : 10 - 12 ]. وقال تعالى : { وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ يونس : 27 ]
__________
(1) مسند البزار برقم (2268) "كشف الأستار". قال ابن حجر : "البيلماني ضعيف".
(2) تفسير الطبري (27/79).
(3) في م : "سيحاسبكم".
(4) في أ : "يقول".
(5) في م : "غرة".

(7/496)


؛ ولهذا قال : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ }.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الشواظ : هو لهب النار.
وقال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : الشواظ : الدخان.
وقال مجاهد : هو : اللهيب (1) الأخضر المنقطع. وقال أبو صالح الشواظ هو اللهيب (2) الذي فوق النار ودون الدخان. وقال الضحاك : { شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ } سيل من نار.
وقوله : { وَنُحَاسٌ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَنُحَاسٌ } دخان النار. وروي مثله عن أبي صالح ، وسعيد بن جبير ، وأبي سنان.
قال ابن جرير : والعرب تسمي الدخان نحاسا - بضم النون وكسرها - والقراء (3) مجمعة على الضم ، ومن النحاس بمعنى الدخان قول نابغة جعدة (4) يُضِيءُ كَضَوءِ سراج السَّلِيـ... ـط لم يَجْعَل اللهُ فيه نُحَاسا
يعني : دخانا ، هكذا قال (5).
وقد روى الطبراني من طريق جُويَبْر ، عن الضحاك ؛ أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن الشواظ فقال : هو اللهب الذي لا دخان معه. فسأله شاهدا على ذلك من اللغة ، فأنشده قول أمية بن أبي الصلت في حسان :
ألا من مُبلغٌ حَسًّان عَنِّي... مُغَلْغلةً تدبّ (6) إلى عُكَاظِ...
أليس أبُوكَ فِينَا كان قَينًا... لَدَى (7) القينَات فَسْلا في الحَفَاظ...
يَمَانِيًّا يظل يَشدُ (8) كِيرًا... وينفخ دائبًا لَهَبَ الشُّواظ...
قال : صدقت ، فما النحاس ؟ قال : هو الدخان الذي لا لهب له. قال : فهل تعرفه العرب ؟ قال : نعم ، أما سمعت نابغة بني ذبيان يقول (9)
يُضِيءُ كَضَوء سَراج السَّليط... لَمْ يَجْعَل اللهُ فيه نُحَاسا (10)
وقال مجاهد : النحاس : الصُّفّر ، يذاب (11) فيصب على رؤوسهم. وكذا قال قتادة. وقال
__________
(1) في م ، أ : "اللهب".
(2) في م ، أ : "اللهب".
(3) في م : "القراءة".
(4) في م ، أ "نابغة بني جعدة" وفي تفسير الطبري : "نابغة بني ذبيان" ولم أجده في ديوانه ، والبيت في مجاز القرآن لأبي عبيدة منسوبا للنابغة الجهدي 2/244 ، 245 ، والبيت أيضا في ديوان الجعدي واللسان ، مادة "نحس" مستفادا من هامش ط. الشعب.
(5) تفسير الطبري (27/81).
(6) في م : "يدب".
(7) في م : "إلى".
(8) في م : "يشب".
(9) كذا ، وقد سبق تخريج البيت ونسبته إلى الجعدي.
(10) المعجم الكبير (10/305) وفيه جويبر وهو متروك لم يلق ابن عباس.
(11) في م : "المذاب".

(7/497)


فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40)

الضحاك : { ونحاس } سيل من نحاس.
والمعنى على كل قول : لو ذهبتم هاربين يوم القيامة لردتكم الملائكة والزبانية بإرسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا (1) ؛ ولهذا قال : { فَلا تَنْتَصِرَانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }
{ فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) }
__________
(1) في م : "لرجعوا".

(7/498)


يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ (44) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)

{ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) }.
يقول [تعالى] (1) : { فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ } يوم القيامة ، كما دلت عليه هذه الآية مع ما شاكلها من الآيات الواردة في معناها ، كقوله : { وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } [ الحاقة : 16 ] ، وقوله : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنزلَ الْمَلائِكَةُ تَنزيلا } [ الفرقان : 25 ] ، وقوله : { إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } [ الانشقاق : 1 ، 2 ].
وقوله : { فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ } أي : تذوب كما يذوب الدّرْدي والفضة في السبك ، وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها ، فتارة حمراء وصفراء وزرقاء وخضراء ، وذلك من شدة الأمر وهول يوم القيامة العظيم. وقد قال الإمام أحمد :
حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الصهباء ، حدثنا نافع أبو غالب الباهلي ، حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يبعث الناس يوم القيامة والسماء تَطِش عليهم" (2).
قال الجوهري : الطش : المطر الضعيف.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { وَرْدَةً كَالدِّهَانِ } ، قال : هو الأديم الأحمر. وقال أبو كُدَيْنة ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ } : كالفرس الورد. وقال العوفي ، عن ابن عباس : تغير لونها. وقال أبو صالح : كالبِرْذَون الورد ، ثم كانت بعد كالدهان.
وحكى البَغَوي وغيره : أن الفرس الورد تكون في الربيع صفراء ، وفي الشتاء حمراء ، فإذا اشتد البرد اغْبَرَّ لونها.
وقال الحسن البصري : تكون ألوانا. وقال السدي. تكون كلون البغلة الوردة ، وتكون كالمهل كدردي الزيت. وقال مجاهد : { كَالدِّهَان } : كألوان الدهان. وقال عطاء الخراساني : كلون دُهْن الوَرْد في الصفرة. وقال قتادة : هي اليوم خضراء ، ويومئذ لونها إلى الحمرة يوم ذي ألوان. وقال أبو الجوزاء :
__________
(1) زيادة من م.
(2) المسند (3/226).

(7/498)


في صفاء الدهن. وقال [أبو صالح] (1) بن جريج : تصير السماء كالدهن الذائب ، وذلك حين يُصيبها حر جهنم.
وقوله : { فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ } ، وهذه كقوله : { هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ. وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 35 ، 36 ] ، فهذا في حال ، وثَمّ حال يسأل الخلائق فيها عن جميع أعمالهم ، قال الله تعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الحجر : 92 ، 93 ] ؛ ولهذه قال قتادة : { فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ } ، قال : قد كانت مسألة ، ثم ختم على أفواه القوم ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : لا يسألهم : هل عملتم كذا وكذا ؟ لأنه أعلم بذلك منهم ، ولكن يقول : لم عملتم كذا وكذا ؟ فهو قول ثان.
وقال مجاهد في هذه الآية : لا يسأل الملائكة عن المجرم ، يُعْرَفُون بسيماهم.
وهذا قول (2) ثالث. وكأن هذا بعد ما يؤمر بهم إلى النار ، فذلك الوقت لا يسألون عن ذنوبهم ، بل يقادون إليها (3) ويلقون فيها ، كما قال تعالى : { يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ } أي : بعلامات تظهر عليهم.
وقال الحسن وقتادة : يعرفونهم باسوداد الوجوه وزرقة العيون.
قلت : وهذا كما يعرف المؤمنون بالغرة والتحجيل من آثار الوضوء.
وقوله : { فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأقْدَامِ } أي : تجمع الزبانية ناصيته مع قدميه ، ويلقونه في النار كذلك.
وقال الأعمش عن ابن عباس : يؤخذ بناصيته وقدمه (4) ، فيكسر كما يكسر الحطب في التنور.
وقال الضحاك : يجمع بين ناصيته وقدميه (5) في سلسلة من وراء ظهره.
وقال السدي : يجمع بين ناصية الكافر وقدميه ، فتربط ناصيته بقدمه ، ويُفتل ظهره.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع ، حدثنا معاوية بن سلام ، عن أخيه زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام - يعني جده - أخبرني عبد الرحمن ، حدثني رجل من كندة قال : أتيت عائشة فدخلت عليها ، وبيني وبينها حجاب ، فقلت : حدثك رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يأتي عليه ساعة لا يملك لأحد فيها شفاعة ؟ قالت : نعم ، لقد سألته عن هذا وأنا وهو في شِعَار واحد ، قال : "نعم حين يوضع الصراط ، ولا أملك لأحد فيها شفاعة ، حتى أعلم أين يسلك بي ؟ ويوم تبيض وجوه وتسود وجوه ، حتى أنظر ماذا يفعل بي - أو قال : يوحى - وعند الجسر حين يستحد ويستحر" فقالت : وما يستحد وما يستحر ؟ قال : "يستحد حتى يكون مثل شفرة السيف ، ويستحر حتى يكون
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في م : "جواب".
(3) في م : "إلى النار".
(4) في أ : "قدميه".
(5) في أ : "قدمه".

(7/499)


وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53)

مثل الجمرة ، فأما المؤمن فيجيزه لا يضره ، وأما المنافق فيتعلق حتى إذا بلغ أوسطه خر من قدمه فيهوي بيده إلى قدميه ، فتضربه الزبانية بخطاف في ناصيته وقدمه ، فتقذفه في جهنم ، فيهوي (1) فيها مقدار خمسين عاما". قلت : ما ثقل الرجل ؟ قالت : ثقل عشر خلفات سمان ، فيومئذ يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام.
هذا حديث غريب [جدا] (2) ، وفيه ألفاظ منكر رفعها ، وفي الإسناد من لم يُسَمّ ، ومثله لا يحتج به (3) ، والله أعلم.
وقوله : { هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ } أي : هذه النار التي كنتم تكذبون بوجودها ها هي حاضرة تشاهدونها عيانًا ، يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا وتصغيرا وتحقيرا.
وقوله : { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } أي : تارة يعذبون في الجحيم ، وتارة يسقون من الحميم ، وهو الشراب الذي هو كالنحاس المذاب ، يقطع الأمعاء والأحشاء ، وهذه كقوله تعالى : { إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } [ غافر : 71 ، 72 ].
وقوله : { آن } أي : حار وقد بلغ الغاية في الحرارة ، لا يستطاع من شدة ذلك.
قال ابن عباس في قوله : { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } قد انتهى غلْيه ، واشتد حرّه. وكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، والحسن ، والثوري ، والسدي.
وقال قتادة : قد أنَى طبخه منذ خلق الله السموات والأرض. وقال محمد بن كعب القرظي : يؤخذ العبد فيحرّكُ بناصيته في ذلك الحميم ، حتى يذوب (4) اللحم ويبقى العظم والعينان في الرأس. وهي كالتي يقول الله تعالى : { فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ }. والحميم الآن : يعني الحار. وعن القرظي رواية أخرى : { حَمِيمٍ آنٍ } أي : حاضر. وهو قول ابن زيد أيضا ، والحاضر ، لا ينافي ما روي عن القرظي أولا أنه الحار ، كقوله تعالى : { تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } [ الغاشية : 5 ] أي حارة شديدة الحر لا تستطاع. وكقوله : { غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } [ الأحزاب : 53 ] يعني : استواءه ونضجه. فقوله : { حَمِيمٍ آنٍ } أي : حميم حار جدا. ولما كان معاقبة العصاة (5) المجرمين وتنعيم المتقين من فضله ورحمته وعدله ولطفه بخلقه ، وكان إنذاره لهم عذابه وبأسه مما يزجرهم عما هم فيه من الشرك والمعاصي وغير ذلك ، قال ممتنا بذلك على بريته : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) }.
__________
(1) في م : "فهوى".
(2) زيادة من م.
(3) رواه عبد الرزاق في المصنف كما في الدر المنثور (7/704) عن رجل من كنده بنحوه.
(4) في م : "حتى تذوب".
(5) في أ : "العاصين".

(7/500)


قال ابن شَوْذب ، وعطاء الخراساني : نزلت هذه الآية : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } في أبي بكر الصديق.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن مصفى ، حدثنا بَقيَّة ، عن أبي بكر بن أبي مريم ، عن عطية بن قيس في قوله : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } : نزلت في الذي قال : أحرقوني بالنار ، لعلي أضل الله ، قال : تاب يوما وليلة بعد أن تكلم بهذا ، فقبل الله منه وأدخله الجنة.
والصحيح أن هذه الآية عامة كما قاله ابن عباس وغيره ، يقول تعالى : ولمن خاف مقامه بين يدي الله ، عز وجل ، يوم القيامة ، { وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } [ النازعات : 40 ] ، ولم يطغ ، ولا آثر الدنيا ، وعلم أن الآخرة خير وأبقى ، فأدى فرائض الله ، واجتنب محارمه ، فله يوم القيامة عند ربه جنتان ، كما قال البخاري ، رحمه الله.
حدثنا عبد الله بن أبي الأسود ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العَمّي ، حدثنا أبو عِمْران الجَوْني ، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس ، عن أبيه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "جنتان من فضة ، آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداءُ الكبرياء على وجهه في جنة عدن".
وأخرجه بقية الجماعة إلا أبا داود ، من حديث عبد العزيز ، به (1).
وقال حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أبي بكر بن أبي موسى ، عن أبيه - قال حماد : ولا أعلمه إلا قد رفعه - في قوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } ، وفي قوله : { وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } [قال ] : (2) جنتان من ذهب للمقربين ، وجنتان من ورِق لأصحاب اليمين.
وقال ابن جرير : حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري (3) ، حدثنا ابن أبي مريم ، أخبرنا محمد بن جعفر ، عن محمد بن أبي حَرْمَلَة ، عن عطاء بن يَسَار ، أخبرني أبو الدرداء ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ يوما هذه الآية : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } ، فقلت : وإن زنى أو سرق ؟ فقال : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } ، فقلت : وإن زنى وإن سرق ؟ فقال : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ }. فقلت : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ فقال : "وإن رغم أنف أبي الدرداء".
ورواه النسائي من حديث محمد بن أبي حَرْمَلَة ، به (4) ورواه النسائي أيضا عن مؤمِّل (5) بن هشام ، عن إسماعيل ، عن الجُرَيري ، عن موسى ، عن محمد بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبي الدرداء ، به (6). وقد روي موقوفًا على أبي الدرداء. وروي عنه أنه قال : إن من خاف مقام ربه لم يزْنِ
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4878) وصحيح مسلم برقم (180) وسنن الترمذي برقم (2528) والنسائي في السنن الكبرى برقم (7765) وسنن ابن ماجه برقم (186).
(2) زيادة من أ.
(3) في م : "المقري".
(4) تفسير الطبري (5/490) "ط. المعارف" ، والنسائي في السنن الكبرى برقم (11560).
(5) في أ : "موسى".
(6) النسائي في السنن الكبرى برقم (11561).

(7/501)


ولم يسرق.
وهذه الآية عامة في الإنس والجن ، فهي من أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا ؛ ولهذا امتن الله تعالى على الثقلين بهذا الجزاء فقال : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
ثم نعت هاتين الجنتين فقال : { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } أي : أغصان نَضِرَة حسنة ، تحمل من كل ثمرة نضيجة فائقة ، { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }. هكذا (1) قال عطاء الخراساني وجماعة : إن الأفنان أغصان الشجَر يمس بعضُها بعضا.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا مسلم بن قتيبة ، حدثنا عبد الله بن النعمان ، سمعت عكرمة يقول : { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } ، يقول : ظِل الأغصان على الحيطان ، ألم تسمع قول الشاعر حيث يقول :
ما هاجَ شَوقَكَ من هَديل حَمَامَةٍ... تَدْعُو على فَنَن الغُصُون حَمَاما...
تَدْعُو أبا فَرْخَين صادف طاويا... ذا مخلبين من الصقور قَطاما (2)
وحكى البغوي ، عن مجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، والكلبي : أنه الغصن المستقيم (3) [طوالا] (4).
قال : وحدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عبد السلام بن حرب ، حدثنا عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } : ذواتا ألوان.
قال : و [قد] (5) روي عن سعيد بن جبير ، والحسن ، والسدي ، وخُصَيف ، والنضر بن عربي (6) ، وأبي سِنَان مثل ذلك. ومعنى هذا القول أن فيهما فنونا من الملاذ ، واختاره ابن جرير.
وقال عطاء : كل غصن يجمع فنونا من الفاكهة ، وقال الربيع بن أنس : { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } : واسعتا الفناء.
وكل هذه الأقوال صحيحة ، ولا منافاة بينها ، والله أعلم. وقال قتادة : { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } ينبئ بسعتها وفضلها (7) ومزيتها على ما سواها.
وقال محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن أسماء (8) قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - وذكر سدرة المنتهى - فقال : "يسير في ظل الفَنَن منها الراكب مائة سنة - أو قال : يستظل في ظل الفَنَن منها مائة راكب - فيها فراش الذهب ، كأن ثمرها القِلال".
__________
(1) في أ : "وكذا".
(2) رواه عبد بن حميد وابن المنذر وأبو بكر بن حيان في الفنون وابن الأنباري في الوقف والابتداء كما في الدر المنثور (7/709).
(3) في م : "الغصن المنيف طولا".
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من م.
(6) في أ : "عدي".
(7) في م : "بفضلها وسعتها".
(8) في م : "أسماء بنت يزيد" ، وفي ا : "أسماء بنت أبي بكر".

(7/502)


مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)

رواه الترمذي من حديث يونس بن (1) بكير ، به (2).
{ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } أي : تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان فتثمر من جميع الألوان ، { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } قال الحسن البصري : إحداهما يقال لها : "تسنيم" ، والأخرى "السلسبيل".
وقال عطية : إحداهما من ماء غير آسن ، والأخرى من خمر لذة للشاربين.
ولهذا قال بعد هذا : { فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } أي : من جميع أنواع الثمار مما يعلمون وخير مما يعلمون ، ومما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
قال إبراهيم بن الحكم بن أبان ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظلة (3).
وقال ابن عباس : ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء ، يعني : أن بين ذلك بَونًا عظيما ، وفرقًا بينا في التفاضل.
{ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) }.
يقول تعالى : { مُتَّكِئِينَ } يعني : أهل الجنة. والمراد بالاتكاء هاهنا : الاضطجاع. ويقال : الجلوس على صفة التّربّع. { عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } وهو : ما غلظ من الديباج. قاله عكرمة ، والضحاك وقتادة.
وقال أبو عِمْران الجَوْني : هو الديباج المغَرّي (4) بالذهب. فنبه على شرف الظهارة بشرف البطانة. وهذا من التنبيه بالأدنى على الأعلى.
قال أبو إسحاق ، عن هُبَيْرة بن يَرِيم (5) ، عن عبد الله بن مسعود قال : هذه البطائن فكيف لو رأيتم الظواهر ؟
وقال مالك بن دينار : بطائنها من إستبرق ، وظواهرها من نور.
__________
(1) في م ، أ : "عن".
(2) سنن الترمذي برقم (2541) وقال الترمذي : "هذا حديث حسن غريب".
(3) في م : "الحنظل".
(4) في م ، أ : "المعمول".
(5) في أ : "سرية".

(7/503)


وقال سفيان الثوري - أو شريك - : بطائنها من إستبرق وظواهرها من نور جامد.
وقال القاسم بن محمد (1) : بطائنها من إستبرق ، وظواهرها من الرحمة.
وقال ابن شَوْذَب ، عن أبي عبد الله الشامي : ذكر الله البطائن ولم يذكر الظواهر ، وعلى الظواهر المحابس ، ولا يعلم ما تحت المحابس إلا الله. ذكر ذلك كله الإمام ابن أبي حاتم.
{ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ } أي : ثمرها قريب إليهم ، متى شاءوا تناولوه على أي صفة كانوا ، كما قال : { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } [ الحاقة : 23 ] ، وقال : { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا } [ الإنسان : 14 ] أي : لا تمنع ممن تناولها ، بل تنحط إليه من أغصانها ، { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
ولما ذكر الفرش وعظمتها قال بعد ذلك : { فِيهِنَّ } أي : في الفرش { قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ } أي غضيضات عن غير أزواجهن ، فلا يرين شيئا أحسن في الجنة من أزواجهن. قاله ابن عباس ، وقتادة ، وعطاء الخراساني ، وابن زيد.
وقد ورد أن الواحدة منهن تقول لبعلها : والله ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك ، ولا في الجنة شيئ أحب إلي منك ، فالحمد لله الذي جعلك لي وجعلني لك.
{ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ } أي : بل هن أبكار عرب أتراب ، لم يطأهن أحد قبل أزواجهن من الإنس والجن. وهذه أيضا من الأدلة على دخول مؤمني الجن الجنة.
قال أرطاة بن المنذر : سئل ضَمْرَةُ بن حبيب : هل يدخل الجن الجنة ؟ قال : نعم ، وينكحون ، للجن جنيات ، وللإنس إنسيات. وذلك قوله : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
ثم قال ينعتهن للخطاب : { كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ } ، قال مجاهد ، والحسن ، [والسدي] (2) ، وابن زيد ، وغيرهم : في صفاء الياقوت وبياض المرجان ، فجعلوا المرجان هاهنا اللؤلؤ.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن حاتم ، حدثنا عُبِيدة بن حُمَيْد ، عن عطاء بن السائب ، عن عمرو بن ميمون الأودي (3) ، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن المرأة من نساء أهل الجنة ليُرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة من الحرير (4) ، حتى يرى مخها ، وذلك أن الله تعالى يقول : { كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ } ، فأما الياقوت فإنه حَجَرٌ لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته من ورائه".
وهكذا رواه الترمذي من حديث عُبَيْدَة بن حميد وأبي الأحوص ، عن عطاء بن السائب ، به (5). ورواه موقوفا ، ثم قال : وهو أصح (6).
__________
(1) في م : "مخيمر".
(2) زيادة من م.
(3) في أ : "الأزدي".
(4) في م : "حرير".
(5) سنن الترمذي برقم (2533).
(6) سنن الترمذي برقم (2534).

(7/504)


وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا يونس ، عن محمد بن سِيرِين ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين ، على كل واحدة سبعون حلة ، يُرى مخ ساقها من وراء الثياب".
تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه (1). وقد رواه مسلم من حديث إسماعيل بن عُلَيَّة ، عن أيوب ، عن محمد بن سيرين قال : إما تفاخروا وإما تذكروا ، الرجال أكثر في الجنة أم النساء ؟ فقال أبو هريرة : أو لم يقل أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : "إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، والتي تليها على أضْوَأ كوكب دُرّي في السماء ، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان ، يُرَى مخ سوقهما من وراء اللحم ، وما في الجنة أعزب" (2).
وهذا الحديث مُخَرّجٌ في الصحيحين ، من حديث هَمّام بن مُنَبّه وأبي زُرْعَة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا محمد بن طلحة ، عن حميد عن أنس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لَغَدْوَةٌ في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ، وَلَقَابُ قوس أحدكم - أو موضع قيده (4) - يعني : سوطه - من الجنة خير من الدنيا وما فيها ، ولو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحا ، ولطاب ما بينهما ، ولنَصِيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها".
ورواه البخاري من حديث أبي إسحاق ، عن حميد ، عن أنس بنحوه (5).
وقوله : { هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ } أي : ما لمن أحسن في الدنيا العمل (6) إلا الإحسان إليه في الدار الآخرة. كما قال تعالى : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ].
وقال البغوي : أخبرنا أبو سعيد الشَّريحِي ، حدثنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني ابن فَنجُوَيه ، حدثنا ابن شيبة ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن بَهْرَام ، حدثنا الحجاج بن يوسف المُكْتَب ، حدثنا بِشْر بن الحسين ، عن الزبير بن عَدِيّ ، عن أنس بن مالك قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ } ، قال : "هل تدرون ما قال ربكم ؟" قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : "يقول هل جزاء ما أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة" (7).
ولما كان في الذي ذُكِرَ نعم عظيمة لا يقاومها عمل ، بل مجرد تفضل وامتنان ، قال بعد ذلك كله : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
__________
(1) المسند (2/345).
(2) صحيح مسلم برقم (2834).
(3) صحيح البخاري برقم (3245) وصحيح مسلم برقم (2834).
(4) في م : "قده" وفي أ : "قدمه".
(5) المسند (3/141) وصحيح البخاري برقم (2796).
(6) في م : "العمل في الدنيا".
(7) معالم التنزيل للبغوي (7/456) وفيه بشر الأصبهاني يروي عن الزبير بن عدي عن أنس بنسخة موضوعة.

(7/505)


وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67)

ومما يتعلق بقوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } ، ما رواه الترمذي والبغوي ، من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم ، عن أبي عقيل الثقفي ، عن أبي فروة يزيد بن سِنان الرّهاوي ، عن بُكَيْر ابن فيروز (1) ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل ، ألا إن سلعة الله غالية ، ألا إن سلعة الله الجنة".
ثم قال الترمذي : غريب ، لا نعرفه إلا من حديث أبي النضر (2).
وروى البغوي من حديث علي بن حُجْر ، عن إسماعيل بن جعفر ، عن محمد بن أبي حَرْمَلَة - مولى حويطب بن عبد العزى - عن عطاء بن يَسَار ، عن أبي الدرداء ؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص على المنبر وهو يقول : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } ، قلت : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ }. فقلت الثانية : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ فقال [رسول الله صلى الله عليه وسلم] (3) { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ }. فقلت الثالثة : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ فقال : "وإن ، رغم أنف أبي الدرداء" (4).
{ وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) }.
__________
(1) في أ : "فيروز الديلمي".
(2) سنن الترمذي برقم (2450) وتفسير البغوي (7/451).
(3) زيادة من م ، أ.
(4) معالم التنزيل للبغوي (7/452).

(7/506)


فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)

{ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ (78) }.
هاتان الجنتان دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة والمنزلة بنص القرآن ، قال الله تعالى : { وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ }.
وقد تقدم في الحديث : "جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، فالأوليان (1) للمقربين ، والأخريان (2) لأصحاب اليمين".
__________
(1) في م : "فالأولتان".
(2) في م : "والأخيرتان".

(7/506)


وقال أبو موسى : جنتان من ذهب للمقربين ، وجنتان من فضة لأصحاب اليمين.
وقال ابن عباس : { وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } من دونهما في الدرج. وقال ابن زيد : من دونهما في الفضل.
والدليل على شرف الأوليين على الأخريين وجوه : أحدها : أنه نعت الأولين قبل هاتين ، والتقديم يدل على الاعتناء ثم قال : { وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ }. وهذا ظاهر في شرف التقدم (1) وعلوه على الثاني.
وقال هناك : { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } : وهي الأغصان أو الفنون في الملاذ ، وقال هاهنا : { مُدْهَامَّتَان } أي سوداوان من شدة الري.
قال ابن عباس في قوله : { مُدْهَامَّتَان } قد اسودتا من الخضرة ، من شدة الري من الماء.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن فُضَيْل ، حدثنا عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { مُدْهَامَّتَان } : قال : خضراوان. ورُوي عن أبي أيوب الأنصاري ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن أبي أَوْفَى ، وعكرمة ، وسعيد بن جُبَير ، ومجاهد - في إحدى الروايات - وعطاء ، وعطية العَوْفي ، والحسن البصري ، ويحيى بن رافع ، وسفيان الثوري ، نحو ذلك.
وقال محمد بن كعب : { مُدْهَامَّتَان } : ممتلئتان من الخضرة. وقال قتادة : خضراوان من الري ناعمتان. ولا شك في نضارة الأغصان على الأشجار المشبكة بعضها في بعض. وقال هناك : { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } ، وقال هاهنا : { نَضَّاخَتَان } ، وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أي فياضتان. والجري أقوى من النضخ.
وقال الضحاك : { نَضَّاخَتَان } أي ممتلئتان لا تنقطعان.
وقال هناك : { فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } ، وقال هاهنا : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } ، ولا شك أن الأولى أعم وأكثر في الأفراد والتنويع على فاكهة ، وهي نكرة في سياق الإثبات لا تعم ؛ ولهذا فسر قوله : { وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } من باب عطف الخاص على العام ، كما قرره البخاري وغيره ، وإنما أفرد النخل والرمان بالذكر لشرفهما على غيرهما.
قال عبد بن حميد : حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثنا حصين بن عمر ، حدثنا مخارق ، عن طارق بن شهاب ، عن عمر بن الخطاب قال : جاء أناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ، أفي (2) الجنة فاكهة ؟ قال : "نعم ، فيها فاكهة ونخل ورمان". قالوا : أفيأكلون كما يأكلون في الدنيا ؟ قال : "نعم وأضعاف". قالوا : فيقضون الحوائج ؟ قال : "لا ولكنهم يعرقون ويرشحون ، فيذهب الله ما في بطونهم من أذى" (3).
__________
(1) في أ : "التقديم".
(2) في م : "في".
(3) المنتخب برقم (35) وفيه حصين بن عمر وهو متروك.

(7/507)


وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا الفَضْل بن دُكَيْن ، حدثنا سفيان ، عن حماد ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : نخل الجنة سعفها كسوة لأهل الجنة ، منها مُقَطَّعَاتهم ، ومنها حُلَلهم ، وكَرَبُها ذهب أحمر ، وجذوعها زمرد أخضر ، وثمرها أحلى من العسل ، وألين من الزبد ، وليس له عجم.
وحدثنا أبي : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد - هو ابن سلمة - عن أبي هارون ، عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "نظرت إلى الجنة فإذا الرّمانة من رمانها كمثل البعير المُقْتَب" (1).
ثم قال : { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } قيل : المراد خيرات كثيرة حسنة في الجنة ، قاله قتادة. وقيل : خيرات جمع خيرة ، وهي المرأة الصالحة الحسنة الخُلُق الحسنة الوجه ، قاله الجمهور. وروي مرفوعا عن أم سلمة (2). وفي الحديث الآخر الذي سنورده في سورة "الواقعة" (3) : أن الحور العين يغنين : نحن الخيرات الحسان ، خلقنا لأزواج كرام. ولهذا قرأ بعضهم : "فيهن خَيّرات" ، بالتشديد { حِسَانٌ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
ثم قال : { حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ } ، وهناك قال : { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ } ، ولا شك أن التي قد قَصَرَت طرفها بنفسها أفضل ممن قُصرت ، وإن كان الجميع مخدرات.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن جابر ، عن القاسم بن أبي بزَّة ، عن أبي عبيدة ، عن مسروق ، عن عبد الله قال : إن لكل مسلم خَيرة ، ولكل خَيرة خيمة ، ولكل خيمة أربعة أبواب ، يدخل عليها (4) كل يوم تحفة وكرامة وهدية لم تكن قبل ذلك ، لا مَرّاحات ولا طَمّاحات ، ولا بخرات ولا ذفرات ، حور عين ، كأنهن بيض مكنون.
وقوله : { فِي الْخِيَامِ } ، قال البخاري :
حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد ، حدثنا أبو عمران الجوني ، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس ، عن أبيه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة ، عرضها ستون (5) ميلا في كل زاوية منها أهلٌ ما يَرون الآخرين ، يطوف عليهم المؤمنون".
ورواه أيضا من حديث أبي عمران ، به (6). وقال : "ثلاثون ميلا". وأخرجه مسلم من حديث أبي عمران ، به. ولفظه : "إن للمؤمن في الجنة لخيمةً من لؤلؤة واحدة مجوفة ، طولها ستون ميلا
__________
(1) رواه الثعلبي في تفسيره كما في تخريج الإحياء (6/2787) وابن عساكر في تاريخ دمشق كما في تهذيبه (5/462) من طريق أبي هارون العبدي به.
وأبو هارون العبدي اسمه عمارة بن جوين كذبه بعض الأئمة.
(2) رواه الطبراني في المعجم الكبير (23/367) مطولا وفيه سليمان بن أبي كريمة وهو ضعيف.
(3) عند تفسير الآيات 35 - 38 من نفس السورة.
(4) في م : "عليهم".
(5) في أ : "سبعون".
(6) صحيح البخاري برقم (4879) ، (3243).

(7/508)


للمؤمن فيها أهل (1) يطوف عليهم المؤمن ، فلا يرى بعضهم بعضا" (2).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن أبي الربيع ، حدثنا عبد الرزَّاق ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، أخبرني خُلَيْد العَصَري ، عن أبي الدرداء قال : الخيمة لؤلؤة واحدة ، فيها سبعون بابا من در.
وحدثنا أبي حدثنا عيسى بن أبي فاطمة ، حدثنا جرير ، عن هشام ، عن محمد بن المثنى ، عن ابن عباس في قوله : { حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ } ، وقال : [في] (3) خيام اللؤلؤ ، وفي الجنة خيمة واحدة من لؤلؤة ، أربع فراسخ في أربعة فراسخ ، عليها أربعة آلاف مصراع من الذهب.
وقال عبد الله بن وهب : أخبرنا عمرو أن دَرَّاجا أبا السَّمح حدثه ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : "أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم ، واثنتان وسبعون زوجة ، وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت ، كما بين الجابية وصنعاء".
ورواه الترمذي من حديث عمرو بن الحارث ، به (4).
وقوله : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ } : [قد] (5) تقدم مثله سواء ، إلا أنه زاد في وصف الأوائل بقوله : { كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
وقوله : { مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } : قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الرفرف : المحابس. وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وغيرهما : هي المحابس. وقال العلاء بن بدر (6) الرفرف على السرير ، كهيئة المحابس المتدلي.
وقال عاصم الجحدري : { مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ } يعني : الوسائد. وهو قول الحسن البصري في رواية عنه.
وقال أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في قوله : { مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ } قال : الرفرف : رياض الجنة.
وقوله : { وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } : قال ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي : العبقري : الزرابي. وقال سعيد بن جبير : هي عتاق الزرابي ، يعني : جيادها.
وقال مجاهد : العبقري : الديباج.
وسئل الحسن البصري عن قوله : { وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } فقال : هي بسط أهل الجنة - لا أبا لكم -
__________
(1) في م : "أهلون".
(2) صحيح مسلم برقم (2838).
(3) زيادة من م.
(4) سنن الترمذي برقم (2562) وقال : "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين". ولم يتفرد به رشدين بل تابعه ابن وهب كما هنا ، وفي إسناده دراج يروي عن أبي الهيثم مناكير.
(5) زيادة من م ، أ.
(6) في م : "زيد".

(7/509)


فاطلبوها. وعن الحسن [البصري] (1) رواية : أنها المرافق. وقال زيد بن أسلم : العبقري : أحمر وأصفر وأخضر. وسئل العلاء بن زيد عن العبقري ، فقال : البسط أسفل من ذلك. وقال أبو حَزْرَة (2) يعقوب بن مجاهد : العبقري : من ثياب أهل الجنة ، لا يعرفه أحد. وقال أبو العالية : العبقري : الطنافس المخْمَلة ، إلى الرقة ما هي. وقال القتيبي : كل ثوب مُوَشى عند العرب عبقري. وقال أبو عبيدة : هو منسوب إلى أرض يعمل بها الوشي. وقال الخليل بن أحمد : كل شيء يسر (3) من الرجال وغير ذلك يسمى عند العرب عبقريا. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر : "فلم أر عبقريا يفري فريه" (4).
وعلى كل تقدير فصفة مرافق أهل الجنتين الأوليين أرفع وأعلى من هذه الصفة ؛ فإنه قد قال هناك : { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } ، فنعت بطائن فرشهم وسكت عن ظهائرها (5) ، اكتفاءً بما مدح به البطائن بطريق الأولى والأحرى. وتمام الخاتمة أنه قال بعد الصفات المتقدمة : { هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ } فوصف أهلها بالإحسان وهو أعلى المراتب والنهايات ، كما في حديث جبريل لما سأل عن الإسلام ، ثم الإيمان. فهذه وجوه عديدة في تفضيل الجنتين الأوليين على هاتين الأخيريين (6) ، ونسأل الله الكريم الوهاب أن يجعلنا من أهل الأوليين.
ثم قال : { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ } أي : هو أهل أن يجل فلا يعصى ، وأن يكرم فيعبد ، ويشكر فلا يكفر ، وأن يذكر فلا ينسى.
وقال ابن عباس : { ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ } ذي العظمة والكبرياء.
وقال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ، عن عمير (7) بن هانئ ، عن أبي العذراء ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أجِدّوا الله يغفر لكم" (8).
وفي الحديث الآخر : "إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم ، وذي السلطان ، وحامل القرآن (9) غير الغالي فيه ولا الجافي عنه" (10).
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو يوسف الجيزي (11) ، حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، حدثنا حميد الطويل ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ألظّوا بيا ذا الجلال والإكرام".
وكذا رواه الترمذي ، عن محمود بن غيلان ، عن مؤمل بن إسماعيل ، عن حماد بن سلمة ، به (12).
__________
(1) زيادة من م ، أ.
(2) في أ : "حزيرة".
(3) في م ، أ : "نفيس".
(4) صحيح البخاري برقم (3682) وصحيح مسلم برقم (2393) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(5) في م : "ظهارتها".
(6) في م : "الأخيرتين".
(7) في أ : "عمر".
(8) المسند (5/199) وقال الهيثمي في المجمع (1/31) : "وفي إسناده أبو العذراء وهو مجهول".
(9) في م : "الذكر".
(10) رواه أبو داود في السنن برقم (4843) والبيهقي في السنن الكبرى (8/163) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(11) في الأصل وبقية النسخ : "الحربي" والتصويب من أبي يعلى.
(12) مسند أبي يعلى (6/445) وسنن الترمذي برقم (3522).
وقال ابن طاهر : "وقد تابع المؤمل فيه روح بن عبادة وروح حافظ ثقة".
أخرجه ابن مردويه في تفسيره كما في تخريج الكشاف للزيلعي (3/396) من طريق روح بن عبادة عن حماد بن سلمة عن+

(7/510)


ثم قال : غلط المؤمل فيه ، وهو غريب وليس بمحفوظ ، وإنما يروى هذا عن حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن إسحاق ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن يحيى بن حسان المقدسي ، عن ربيعة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ألظوا بذي الجلال والإكرام".
ورواه النسائي من حديث عبد الله بن المبارك ، به (1).
وقال الجوهري : ألظ فلان بفلان : إذا لزمه (2).
وقول ابن مسعود : "ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام" أي : الزموا. ويقال : الإلظاظ هو الإلحاح.
قلت : وكلاهما قريب من الآخر - والله أعلم - وهو المداومة واللزوم والإلحاح. وفي صحيح مسلم والسنن الأربعة من حديث عبد الله بن الحارث ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم لا يقعد - يعني : بعد الصلاة - إلا قدر ما يقول : "اللهم أنت السلام ومنك السلام ، تباركت ذا الجلال والإكرام" (3).
آخر تفسير سورة الرحمن ، ولله الحمد [والمنة] (4)
__________
(1) المسند (4/177) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11563).
(2) لسان العرب (7/459).
(3) صحيح مسلم برقم (592) وسنن أبي داود برقم (1512) وسنن الترمذي برقم (298) وسنن النسائي (3/69) وسنن ابن ماجه برقم (924).
(4) زيادة من م ، أ.

(7/511)


تفسير سورة الواقعة
وهي مكية.
قال أبو إسحاق عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس قال : قال أبو بكر : يا رسول الله ، قد شبتَ ؟ قال : "شيَّبتني هود ، والواقعة ، والمرسلات ، وعَمَّ يتساءلون ، وإذا الشمس كورت".
رواه الترمذي وقال : حسن غريب (1)
وقال الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن مسعود بسنده إلى عمرو بن الربيع بن طارق المصري : حدثنا السُّرِّي بن يحيى الشيباني ، عن أبي شجاع ، عن أبي ظبية قال : مرض عبد الله مرضه الذي توفي فيه ، فعاده عثمان بن عفان فقال : ما تشتكي ؟ قال : ذنوبي. قال : فما تشتهي ؟ قال : رحمة ربي. قال ألا آمر لك بطبيب ؟ قال : الطبيب أمرضني. قال : ألا آمر لك بعطاء ؟ قال : لا حاجة لي فيه. قال : يكون لبناتك من بعدك ؟ قال : أتخشى على بناتي الفقر ؟ إني أمرت بناتي يقرأن كل ليلة سورة الواقعة ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من قرأ سورة الواقعة كل ليلة ، لم تصبه فاقة أبدا". (2).
ثم قال ابن عساكر : كذا قال والصواب : عن "شجاع" ، كما رواه عبد الله بن وهب عن السُّرِّي. وقال عبد الله بن وهب : أخبرني السُّرِّي بن يحيى أن شجاعا حَدَّثه ، عن أبي ظَبْيَة ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا". فكان أبو ظبية لا يدعها (3).
وكذا رواه أبو يعلى ، عن إسحاق بن إبراهيم ، عن محمد بن مُنِيب ، عن السُّرِّي بن يحيى ، عن شجاع ، عن أبي ظَبْيَة ، عن ابن مسعود ، به. ثم رواه عن إسحاق بن أبي إسرائيل ، عن محمد بن مُنِيب العدني ، عن السُّرِّي بن يحيى ، عن أبي ظبية ، عن ابن مسعود ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة ، لم تصبه فاقة أبدا". لم يذكر في سنده "شجاعا" (4). قال : وقد أمرت بناتي أن يقرأنها كل ليلة.
وقد رواه ابن عساكر أيضا من حديث حجاج بن نصير وعثمان بن اليمان ، عن السري بن يحيى ، عن شجاع ، عن أبي فاطمة قال : مرض عبد الله ، فأتاه عثمان بن عفان يعوده ، فذكر الحديث
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3297).
(2) تاريخ دمشق (ق 294) "مصورة معهد المخطوطات" ورواه ابن عبد البر في التمهيد (5/269) من طريق حبشي بن عمرو بن الربيع ، عن أبيه عمرو بن الربيع المصري به.
(3) ورواه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/112) من طريق خالد عن عبد الله بن وهب به.
(4) ورواه عن أبي يعلى أبو بكر بن السني في عمل اليوم والليلة برقم (674).

(7/512)


إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)

بطوله. قال عثمان بن اليمان : كان أبو فاطمة هذا مولى لعلي بن أبي طالب (1).
وقال [الإمام] (2) أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا إسرائيل ، ويحيى بن آدم ، حدثنا إسرائيل ، عن سِمَاك بن حرب ؛ أنه سمع جابر بن سَمُرَة يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصلوات كنحو من صلاتكم التي تصلون اليوم ، ولكنه كان يخفف. كانت صلاته أخف من صلاتكم ، وكان يقرأ في الفجر "الواقعة" ونحوها من السور (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) }.
الواقعة : من أسماء يوم القيامة ، سميت بذلك لتحقق كونها ووجودها ، كما قال : { فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ } [الحاقة : 15]
وقوله : { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } أي : ليس لوقوعها إذا أراد الله كونها صارف يصرفها ، ولا دافع يدفعها ، كما قال : { اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ } [الشورى : 47] ، وقال : { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ. لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } [المعارج : 1 ، 2] ، وقال تعالى : { وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } [الأنعام : 73].
ومعنى { كَاذِبَة } - كما قال محمد بن كعب - : لا بد أن تكون. وقال قتادة : ليس فيها مثنوية ولا
__________
(1) تاريخ دمشق (ق 294) "مصورة معهد المخطوطات" وكذا رواه حجاج بن المنهال عن السري بن يحيى فقال : عن أبي فاطمة : أخرجه البيهقي في شعب الإيمان برقم (2498) وقد أعمل الزيلعي رحمه الله هذا الحديث بأربع علل تلاجح بعدها ضعفه : الأولى : الانقطاع كما ذكره الدارقطني وابن أبي حاتم في علله نقلا عن أبيه. الثانية : نكارة متنه قاله الإمام أحمد. الثالثة : ضعف رواته : السري بن يحيى وشجاع كما ذكره ابن الجوزي. الرابعة : الاضطراب فمنهم من يقول : أبو طيبة بالطاء المهملة ومنهم من يقول : أبو ظبية بالظاء المعجمة. ومنهم من يقول : أبو فاطمة ومنهم من يقول : شجاع ومنهم من يقول : أبو شجاع وقد اجتمع على ضعفه : الإمام أحمد وأبو حاتم وابنه والدار قطني والبيهقي وابن الجوزي تلويحا وتصريحا والله أعلم.
(2) زيادة من م.
(3) المسند (5/104).

(7/513)


ارتداد ولا رجعة.
قال ابن جرير : والكاذبة : مصدر كالعاقبة والعافية.
وقوله : { خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ } أي : تحفض (1) أقواما إلى أسفل سافلين إلى الجحيم ، وإن كانوا في الدنيا أعزّاء. وترفع آخرين إلى أعلى عليّين ، إلى النعيم المقيم ، وإن كانوا في الدنيا وضعاء. وهكذا قال الحسن وقتادة ، وغيرهما.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يزيد بن عبد الرحمن بن مصعب المعنى ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي ، عن أبيه ، عن سِمَاك ، عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس : { خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ } تخفض أناسًا وترفع آخرين.
وقال عبيد الله (2) العتكي ، عن عثمان بن سراقة ، ابن خالة عمر بن الخطاب : { خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ } [قال (3) ] : الساعة خفضت أعداء الله إلى النار ، ورفعت أولياء الله إلى الجنة.
وقال محمد بن كعب : تخفض رجالا كانوا في الدنيا مرتفعين ، وترفع رجالا كانوا في الدنيا مخفوضين.
وقال السُّدِّيّ : خفضت المتكبرين ، ورفعت المتواضعين.
وقال العَوْفِيّ ، عن ابن عباس : { خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ } أسمعت القريب والبعيد. وقال عكرمة : خفضت فأسمعت الأدنى ، ورفعت فأسمعت الأقصى. وكذا قال الضحاك ، وقتادة.
وقوله : { إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا } أي : حركت تحريكا فاهتزت واضطربت بطولها وعرضها. ولهذا قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وغير واحد في قوله : { إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا } أي : زلزلت زلزالا [شديدا] (4).
وقال الربيع بن أنس : ترج بما فيها كرج الغربال بما فيه.
وهذه كقوله تعالى : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا } [الزلزلة : 1] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } [الحج : 1].
وقوله : { وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا } أي : فُتِّتَتْ فَتًّا (5). قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعِكْرِمَة ، وقتادة ، وغيرهم.
وقال ابن زيد : صارت الجبال كما قال [الله] (6) تعالى : { كَثِيبًا مَهِيلا } [المزمل : 14].
وقوله : { فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا } ، قال أبو إسحاق ، عن الحارث ، عن علي ، رضي الله عنه : { هَبَاءً مُنْبَثًّا }
__________
(1) في م : "تخفض".
(2) في أ : "عبد الله".
(3) زيادة من م.
(4) زيادة من م.
(5) في م : "تفتيتا".
(6) زيادة من أ.

(7/514)


كرهَج الغبار يسطع ثم يذهب ، فلا يبقى منه شيء.
وقال العَوْفِيّ عن ابن عباس في قوله : { فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا } : الهباء الذي يطير من النار ، إذا اضطرمت (1) يطير منه الشرر ، فإذا وقع لم يكن شيئا.
وقال عكرمة : المنبث : الذي ذرته الريح وبثته. وقال قتادة : { هَبَاءً مُنْبَثًّا } كيبيس الشجر الذي تذروه (2) الرياح.
وهذه الآية كأخواتها الدالة على زوال الجبال عن أماكنها يوم القيامة ، وذهابها وتسييرها ونسفها - أي قلعها - وصيرورتها كالعهن المنفوش.
وقوله : { وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً } أي : ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف : قوم عن يمين العرش ، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيمن ، ويؤتون كتبهم بأيمانهم ، ويؤخذ بهم ذات اليمين. قال السُّدِّيّ : وهم جمهور أهل الجنة. وآخرون عن يسار العرش ، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيسر ، ويؤتون كتبهم بشمائلهم ، ويؤخذ بهم ذات الشمال ، وهم عامة أهل النار - عياذًا بالله من صنيعهم - وطائفة سابقون بين يديه وهم أخص وأحظى وأقرب من أصحاب اليمين الذين هم سادتهم ، فيهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء ، وهم أقل عددا من أصحاب اليمين ؛ ولهذا قال : { فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ. وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ. وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } وهكذا قسمهم إلى هذه الأنواع الثلاثة في آخر السورة وقت احتضارهم ، وهكذا ذكرهم في قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ } الآية [فاطر : 32] ، وذلك على أحد القولين في الظالم لنفسه كما تقدم بيانه.
قال سفيان الثوري ، عن جابر الجعفي ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : { وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً } قال : هي التي في سورة الملائكة : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ }.
وقال ابن جُرَيْج عن ابن عباس : هذه الأزواج الثلاثة هم المذكورون في آخر السورة وفي سورة الملائكة.
وقال يزيد الرقاشي : سألت ابن عباس عن قوله : { وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً } قال : أصنافا ثلاثة.
وقال (3) مجاهد : { وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً } [قال] (4) : يعني : فرقا ثلاثة. وقال ميمون بن مِهْران : أفواجا ثلاثة. وقال عُبَيد الله (5) العتكي ، عن عثمان بن سراقة ابن خالة عمر بن الخطاب : { وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً } اثنان في الجنة ، وواحد في النار.
__________
(1) في م : "اضطربت".
(2) في م : "تذراه".
(3) في أ : "عن".
(4) زيادة من م.
(5) في أ : "عبد الله".

(7/515)


وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن الصباح ، حدثنا الوليد بن أبي ثور ، عن سِمَاك ، عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } [التكوير : 7] قال : الضرباء ، كل رجل من قوم كانوا يعملون عمله ، وذلك بأن الله يقول : { وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً. فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ. وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ. وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } قال : هم الضرباء (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبد الله المثنى ، حدثنا البراء الغنوي ، حدثنا الحسن ، عن معاذ بن جبل ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا (2) هذه الآية : { وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ } (3) ، { وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ } (4) فقبض بيده قبضتين فقال : "هذه للجنة (5) ولا أبالي ، وهذه للنار (6) ولا أبالي" (7).
وقال أحمد أيضا : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، حدثنا خالد بن أبي عمران ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : "أتدرون من السابقون إلى ظل يوم القيامة ؟" قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : "الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه ، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم" (8).
وقال محمد بن كعب وأبو حَرْزَةَ يعقوب بن مجاهد : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } : هم الأنبياء ، عليهم السلام. وقال السُّدِّيّ : هم أهل عليين. وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } ، قال : يوشع بن نون ، سبق إلى موسى ، ومؤمن آل "يس" ، سبق إلى عيسى ، وعلي بن أبي طالب ، سبق إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه ابن أبي حاتم ، عن محمد بن هارون الفلاس ، عن عبد الله بن إسماعيل المدائني البزاز ، عن شُعَيْب بن الضحاك المدائني ، عن سفيان بن عُيَيْنَة ، عن ابن أبي نَجِيح به.
وقال ابن أبي حاتم : وذكر محمد (9) بن أبي حماد ، حدثنا مِهْرَان ، عن خارجة ، عن قُرَّة ، َ عن ابن سِيرين : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } الذين صلوا للقبلتين.
ورواه ابن جرير (10) من حديث خارجة ، به.
وقال الحسن وقتادة : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } أي : من كل أمة.
وقال الأوزاعي ، عن عثمان بن أبي سودة أنه قرأ هذه الآية : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } ثم قال : أولهم رواحًا إلى المسجد ، وأولهم خروجًا في سبيل الله.
__________
(1) سيأتي تخريج الحديث عند الآية : 7 من سورة التكوير.
(2) في أ : "قرأ".
(3) في م ، أ : "وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين".
(4) في م ، أ : "وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال".
(5) في م ، أ : "هذه في الجنة".
(6) في م ، أ : "وهذه في النار".
(7) المسند (5/239) والحسن لم يسمع من معاذ.
(8) المسند (6/67).
(9) في أ : "وذكر عن محمد".
(10) في أ : "ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير".

(7/516)


ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)

وهذه الأقوال كلها صحيحة ، فإن المراد بالسابقين هم المبادرون إلى فعل الخيرات كما أمروا ، كما قال تعالى : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ } [آل عمران : 133] ، وقال : { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } [الحديد : 22] ، فمن سابق إلى هذه الدنيا وسبق إلى الخير ، كان في الآخرة من السابقين إلى الكرامة ، فإن الجزاء من جنس العمل ، وكما تدين تدان ؛ ولهذا قال تعالى : { أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ }.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن زكريا القزاز (1) الرازي ، حدثنا خارجة بن مُصعَب ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن عمرو قال : قالت الملائكة : يا رب ، جعلت لبني آدم الدنيا فهم يأكلون ويشربون ويتزوجون ، فاجعل لنا الآخرة. فقال : لا أفعل. فراجعوا ثلاثا ، فقال : لا أجعل من خلقت بيدي كمن قلت له : كن ، فكان. ثم قرأ عبد الله : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ }.
وقد روى هذا الأثر الإمام عثمان (2) بن سعيد الدارمي في كتابه : "الرد على الجهمية" ، ولفظه : فقال الله عز وجل : "لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي ، كمن قلت له : كن فكان" (3).
{ ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) }.
__________
(1) في أ : "الفزاري".
(2) في أ : "عمر".
(3) وقد رواه عثمان بن سعيد الدارمي فرفعه كما في البداية والنهاية (1/55) للمؤلف وقال : "وهو أصح" وله شاهد من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رواه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/48) وقال : "هذا حديث لا يصح".

(7/517)


يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)

{ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا (25) إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا (26) }.
يقول تعالى مخبرًا عن هؤلاء السابقين أنهم { ثُلَّةٌ } أي : جماعة { مِنَ الأوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ }. وقد اختلفوا في المراد بقوله : { الأوَّلِينَ } ، و { الآخِرِينَ }. فقيل : المراد بالأولين : الأمم الماضية ، والآخرين : هذه الأمة. هذا رواية عن مجاهد ، والحسن البصري ، رواها عنهما ابن أبي حاتم. وهو اختيار ابن جرير ، واستأنس بقوله صلى الله عليه وسلم : "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة" (1). ولم يحك غيره ولا عزاه إلى أحد.
__________
(1) لم أجد الحديث في تفسير الطبري والحديث أخرجه البخاري في صحيحه برقم (896) ومسلم في صحيحه برقم (885) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(7/517)


ومما يستأنس به لهذا القول ، ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع ، حدثنا شريك ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : لما نزلت : { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ } شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ. وثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ } فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ، ثلث أهل الجنة ، بل أنتم نصف أهل الجنة - أو : شطر أهل الجنة - وتقاسمونهم النصف الثاني".
ورواه الإمام أحمد ، عن أسود بن عامر ، عن شريك ، عن محمد ، بياع الملاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، فذكره (1). وقد روي من حديث جابر نحو هذا ، ورواه الحافظ ابن عساكر من طريق هشام بن عمار : حدثنا عبد ربه بن صالح ، عن عروة بن رويم ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : لما نزلت : { فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ } ، ذكر فيها { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ } ، قال عمر : يا رسول الله ، ثلة من الأولين وقليل منا ؟ قال : فأمسك آخر السورة سنة ، ثم نزل : { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ } ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا عمر ، تعال فاسمع ما قد أنزل الله : { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ } ، ألا وإن من آدم إليَّ ثلة ، وأمتي ثلة ، ولن نستكمل ثلتنا حتى نستعين بالسودان من رعاة الإبل ، ممن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له".
هكذا أورده في ترجمة "عروة بن رويم" (2) ، إسنادا ومتنا ، ولكن في إسناده نظر. وقد وردت طرق كثيرة متعددة بقوله صلى الله عليه وسلم : "إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة" الحديث بتمامه (3) ، وهو مفرد في "صفة الجنة" ولله الحمد والمنة. وهذا الذي اختاره ابن جرير هاهنا ، فيه نظر ، بل هو قول ضعيف ؛ لأن هذه الأمة هي خير الأمم بنص القرآن ، فيبعد أن يكون المقربون في غيرها أكثر منها ، اللهم إلا أن يقابل مجموع الأمم بهذه الأمة. والظاهر أن المقربين من هؤلاء أكثر من سائر الأمم ، والله أعلم. فالقول الثاني في هذا المقام ، هو الراجح ، وهو أن يكون المراد بقوله : { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ } أي : من صدر هذه الأمة ، { وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ } أي : من هذه الأمة.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا عفان ، حدثنا عبد الله بن بكر (4) المزني ، سمعت الحسن : أتى على هذه الآية : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } فقال : أما السابقون ، فقد مضوا ، ولكن اللهم اجعلنا من أهل اليمين.
ثم قال : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا السُّرِّيّ بن يحيى قال : قرأ الحسن : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ } ثلة ممن مضى من هذه الأمة.
__________
(1) المسند (2/391).
(2) تاريخ دمشق لابن عساكر (11/ق279) "مصورة معهد المخطوطات".
(3) منها حديث عمران بن حصين ، أخرجه الترمذي في السنن برقم (3168) وحديث عبد الله بن مسعود ، أخرجه أحمد في المسند (1/420).
(4) في أ : "بكير" وفي م : "أبي بكر".

(7/518)


وحدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة المَنْقَري ، حدثنا أبو هلال ، عن محمد بن سيرين ، أنه قال في هذه الآية : { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ } قال : كانوا يقولون ، أو يرجون ، أن يكونوا كلهم من هذه الأمة. فهذا قول الحسن وابن سيرين أن الجميع من هذه الأمة. ولا شك أن أول كل أمة خير من آخرها ، فيحتمل أن يعم الأمر (1) جميع الأمم كل أمة بحسبها ؛ ولهذا ثبت في الصحاح وغيرها ، من غير وجه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم" (2) الحديث بتمامه.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا زياد أبو عمر ، عن الحسن ، عن عمار بن ياسر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مثل أمتي مثل المطر ، لا يدرى أوله خير أم آخره" (3) ، فهذا الحديث ، بعد الحكم بصحة إسناده ، محمول على أن الدين كما هو محتاج إلى أول الأمة في إبلاغه إلى من بعدهم ، كذلك هو محتاج إلى القائمين به في أواخرها ، وتثبيت الناس على السنة وروايتها وإظهارها ، والفضل للمتقدم. وكذلك الزرع الذي يحتاج (4) إلى المطر الأول وإلى المطر الثاني ، ولكن العمدة الكبرى على الأول ، واحتياج الزرع إليه آكد ، فإنه لولاه ما نبت في الأرض ، ولا تعلق أساسه فيها ؛ ولهذا قال ، عليه السلام : "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ، ولا من خالفهم ، إلى قيام الساعة". وفي لفظ : "حتى يأتي أمر الله وهم كذلك". والغرض أن هذه الأمة أشرف من سائر الأمم ، والمقربون فيها أكثر من غيرها وأعلى منزلة ؛ لشرف دينها وعظم نبيها. ولهذا ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن في هذه الأمة سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب. وفي لفظ : "مع كل ألف سبعون ألفا". وفي آخر (5) مع كل واحد سبعون ألفا".
وقد قال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا هشام (6) بن مرثد (7) الطبراني ، حدثنا محمد - هو ابن إسماعيل بن عياش - حدثني أبي ، حدثني ضَمْضَم - يعني ابن زُرْعَة - عن شريح - هو ابن عبيد - عن أبي مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما والذي نفسي بيده ، ليبعثن منكم يوم القيامة مثل الليل الأسود زمرة جميعها يحيطون الأرض ، تقول الملائكة لما جاء مع محمد صلى الله عليه وسلم أكثر مما جاء مع الأنبياء ، عليهم السلام" (8).
وحسن أن يذكر هاهنا [عند قوله : { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ } ] (9) الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في "دلائل النبوة" حيث قال : أخبرنا أبو نصر بن قتادة ، أخبرنا أبو عمرو بن مطر ، حدثنا جعفر - [هو] (10) بن محمد بن المستفاض الفريابي - حدثني أبو وهب الوليد بن عبد
__________
(1) في م : "الأمة".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (3651) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(3) المسند (4/319).
(4) في م : "هو محتاج".
(5) في أ : "آخره".
(6) في أ : "هاشم".
(7) في هـ وبقية النسخ : "يزيد" والتصويب من المعجم الكبير.
(8) المعجم الكبير (3/297) وفي إسناده محمد بن إسماعيل بن عياش وهو ضعيف لم يسمع من أبيه.
(9) زيادة من أ.
(10) زيادة من أ.

(7/519)


الملك بن عبيد الله (1) بن مُسَرِّح الحرَّاني ، حدثنا سليمان بن عطاء القرشي الحراني ، عن مسلمة (2) بن عبد الله الجهني ، عن عمه أبي مَشْجَعة بن رِبْعِي ، عن ابن زَمْل الجهني ، رضي الله عنه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح قال ، وهو ثان رجله : "سبحان الله وبحمده. أستغفر الله ، إن الله كان توابا" سبعين مرة ، ثم يقول : "سبعين بسبعمائة ، لا خير لمن كانت ذنوبه في يوم واحد أكثر من سبعمائة". ثم يقول ذلك مرتين ، ثم يستقبل الناس بوجهه ، وكان يعجبه الرؤيا ، ثم يقول : "هل رأى أحد منكم شيئا ؟" قال ابن زمل : فقلت : أنا يا رسول الله. فقال : "خير تلقاه ، وشر توقاه ، وخير لنا ، وشر على أعدائنا ، والحمد لله رب العالمين. اقصص رؤياك". فقلت : رأيت جميع الناس على طريق رحب سهل لا حب ، والناس على الجادة منطلقين ، فبينما هم كذلك ، إذ أشفى ذلك الطريق على مرج لم تر عيني مثله ، يرف رفيفا يقطر ماؤه ، فيه من أنواع الكلأ قال : وكأني بالرعلة (3) الأولى حين أشفوا على المرج كبّروا ، ثم أكبوا رواحلهم في الطريق ، فلم يظلموه يمينا ولا شمالا. قال : فكأني أنظر إليهم منطلقين. ثم جاءت الرعلة الثانية وهم أكثر منهم أضعافا ، فلما أشفوا على المرج كبّروا ، ثم أكبوا رواحلهم في الطريق ، فمنهم المرتع ، ومنهم الآخذ الضغث. ومضوا على ذلك. قال : ثم قدم عظم الناس ، فلما أشفوا على المرج كبروا وقالوا : (هذا خير المنزل). كأني أنظر إليهم يميلون يمينا وشمالا فلما رأيت ذلك ، لزمت الطريق حتى آتي أقصى المرج ، فإذا أنا بك يا رسول الله على منبر فيه سبع درجات وأنت في أعلاها درجة ، وإذا عن يمينك رجل آدم شثل أقنى ، إذا هو تكلم يسمو فيفرع الرجال طولا وإذا عن يسارك رجل ربعة باذ (4) كثير خيلان الوجه ، كأنما حمم شعره بالماء ، إذا هو تكلم أصغيتم إكراما له. وإذا أمام ذلك رجل شيخ أشبه الناس بك خلقا ووجها ، كلكم تؤمونه تريدونه ، وإذا أمام ذلك ناقة عجفاء شارف ، وإذا أنت يا رسول الله كأنك تبعثها. قال : فامتقع لون رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم سري عنه ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أمّا ما رأيت من الطريق السهل الرحب اللا حب ، فذاك ما حملتم (5) عليه من الهدى وأنتم عليه. وأما المرج الذي رأيت ، فالدنيا (6) مضيت أنا وأصحابي لم نتعلق منها بشيء ، ولم تتعلق منا ، ولم نردها ولم تردنا. ثم جاءت (7) الرعلة الثانية من بعدنا وهم أكثر منا أضعافا ، فمنهم المرتع ، ومنهم الآخذ الضغث ، ونجوا (8) على ذلك. ثم جاء عظم الناس ، فمالوا في المرج يمينا وشمالا فإنا لله وإنا إليه راجعون. وأما أنت ، فمضيت على طريقة صالحة ، فلن تزال عليها حتى تلقاني. وأما المنبر الذي رأيت فيه سبع درجات وأنا في أعلاها درجة ، فالدنيا سبعة آلاف سنة ، أنا في آخرها ألفا. وأما الرجل الذي رأيت على يميني الآدم الشثل ، فذلك موسى ، عليه السلام ، إذا تكلم ، يعلو الرجال بفضل كلام الله إياه. والذي رأيت عن يساري الباز الربعة الكثير خيلان الوجه ، كأنما حمم شعره بالماء ، فذلك عيسى ابن مريم ، نكرمه لإكرام الله إياه. وأما الشيخ الذي رأيت أشبه الناس بي خلقا ووجها فذاك أبونا إبراهيم ، كلنا نؤمه ونقتدي به. وأما الناقة التي رأيت ورأيتني أبعثها ، فهي الساعة ، علينا تقوم ، لا نبي بعدي ، ولا أمة بعد أمتي". قال : فما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رؤيا بعد هذا إلا أن يجيء الرجل ، فيحدثه بها متبرعا (9).
وقوله : { عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ } قال ابن عباس : أي مرمولة بالذهب ، يعني : منسوجة به. وكذا قال مجاهد ، وعِكْرِمَة ، وسعيد بن جُبَيْر ، وزيد بن أسلم ، وقتادة ، والضحاك ، وغيره.
وقال السُّدِّيّ : مرمولة بالذهب واللؤلؤ. وقال عكرمة : مشبكة بالدر والياقوت. وقال ابن جرير : ومنه سمي وضين الناقة الذي تحت بطنها ، وهو فعيل بمعنى مفعول ؛ لأنه مضفور ، وكذلك السرر في الجنة مضفورة بالذهب واللآلئ.
وقال : { مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ } أي : وجوه بعضهم إلى بعض ، ليس أحد وراء أحد. { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ } أي : مخلدون على صفة واحدة ، لا يكبرون عنها ولا يشيبون ولا يتغيرون ، { بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ } ، أما الأكواب فهي : الكيزان التي لا خراطيم لها ولا آذان. والأباريق : التي جمعت الوصفين. والكؤوس : الهنابات ، والجميع من خمر من عين جارية مَعِين ، ليس من أوعية تنقطع وتفرغ ، بل من عيون سارحة.
وقوله : { لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزفُونَ } أي : لا تصدع رؤوسهم ولا تنزف عقولهم ، بل هي ثابتة مع الشدة المطربة واللذة الحاصلة.
وروى الضحاك ، عن ابن عباس ، أنه قال : في الخمر أربع خصال : السكر ، والصداع ، والقيء ، والبول. فذكر الله خمر الجنة ونزهها عن هذه الخصال.
وقال مجاهد ، وعِكْرِمَة ، وسعيد بن جُبَيْر ، وعطية ، وقتادة ، والسُّدِّيّ : { لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا } يقول : ليس لهم فيها صداع رأس.
وقالوا في قوله : { وَلا يُنزفُونَ } أي : لا تذهب بعقولهم.
وقوله : { وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ } أي : ويطوفون عليهم بما يتخيرون من الثمار.
وهذه الآية دليل على جواز أكل الفاكهة على صفة التخير لها ، ويدل على ذلك حديث "عِكْراش بن ذؤيب" الذي رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي ، رحمه الله ، في مسنده : حدثنا العباس بن الوليد النَّرْسِي ، حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي سوية ، حدثنا عبيد الله بن عِكْراش ، عن أبيه عِكْراش بن ذؤيب ، قال : بعثني بنو مرة في صدقات أموالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقدمت المدينة فإذا هو جالس بين المهاجرين والأنصار ، وقدمت عليه بإبل كأنها عروق الأرطى ، قال : "من الرجل ؟"
__________
(1) في م ، أ : "عبد الله".
(2) في م ، أ : "مسلم".
(3) في أ : "وكانوا بالرعلة".
(4) في م : "بار".
(5) في أ : "حملتكم".
(6) في م ، أ : "فالدنيا ونضارة عيشها".
(7) في م : "ثم كانت".
(8) في م : "ثم نجوا".
(9) دلائل النبوة (7/36) وفي إسناده سليمان بن عطاء بن قيس ، قال ابن حبان في المجروحين (1/329) : "شيخ يروي عن مسلمة ابن عبد الله الجهني عن عمه أبي مشجعة بن ربعي بأشياء موضوعة لا تشبه حديث الثقات فلست أدري التخليط فيها منه أو من مسلمة بن عبد الله".

(7/520)


قلت : عِكْراش بن ذؤيب. قال : "ارفع في النسب" ، فانتسبت له إلى "مرة بن عبيد" ، وهذه صدقة "مرة بن عبيد". فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال : هذه إبل قومي ، هذه صدقات قومي. ثم أمر بها أن توسم بميسم إبل الصدقة وتضم إليها. ثم أخذ بيدي فانطلقنا إلى منزل أم سلمة ، فقال : "هل من طعام ؟" فأتينا بحفنة كثيرة الثريد والوذر ، فجعل يأكل منها ، فأقبلت أخبط بيدي في جوانبها ، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليسرى على يدي اليمنى ، فقال : "يا عِكْراش ، كل من موضع واحد ، فإنه طعام واحد". ثم أتينا بطبق فيه تمر ، أو رطب - شك عبيد الله رطبا كان أو تمرا - فجعلت آكل من بين يدي ، وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق ، وقال : "يا عِكْراش ، كل من حيث شئت فإنه غير لون واحد". ثم أتينا بماء ، فغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ومسح بِبَلَلِ كفيه وجهه وذراعيه ورأسه ثلاثا ، ثم قال : "يا عِكْراش ، هذا الوضوء مما غيرت النار".
وهكذا رواه الترمذي مطولا وابن ماجه جميعًا ، عن محمد بن بشار ، عن أبي الهزيل العلاء بن الفضل ، به (1). وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من حديثه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا بهز بن أسد وعفان - وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا شيبان - قالوا : حدثنا سليمان بن المغيرة ، حدثنا ثابت ، قال : قال أنس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الرؤيا ، فربما رأى الرجل الرؤيا فسأل عنه إذا لم يكن يعرفه ، فإذا أثني عليه معروف ، كان أعجب لرؤياه إليه. فأتته امرأة فقالت : يا رسول الله ، رأيت كأني أتيت فأخرجت من المدينة ، فأدخلت الجنة فسمعت وَجبَة انتحبت لها الجنة ، فنظرت فإذا فلان ابن فلان ، وفلان ابن فلان ، فسَمَّتْ اثني عشر رجلا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث سرية قبل ذلك ، فجيء بهم عليهم ثياب طلس تشخب أوداجهم ، فقيل : اذهبوا بهم إلى نهر البيدخ - أو : البيذخ - قال : فغمسوا فيه ، فخرجوا ووجوههم كالقمر ليلة البدر ، فأتوا بصحفة من ذهب فيها بُسر ، فأكلوا من بُسره ما شاؤوا ، فما يقلبونها من وجه إلا أكلوا من الفاكهة ما أرادوا ، وأكلت معهم. فجاء البشير من تلك السرية ، فقال : كان (2) من أمرنا (3) كذا وكذا ، وأصيب (4) فلان وفلان. حتى عد اثني عشر رجلا فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة فقال : "قصي رؤياك" فقصتها ، وجعلت تقول : فجيء بفلان وفلان كما قال.
هذا لفظ أبي يعلى ، قال الحافظ الضياء : وهذا على شرط مسلم (5).
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا معاذ بن المثنى ، حدثنا علي بن المديني ، حدثنا ريحان بن سعيد ، عن عباد بن منصور ، عن أيوب ، عن أبي قِلابة ، عن أبي أسماء ، عن ثوبان ، قال : قال
__________
(1) سنن الترمذي برقم (1848) وسنن ابن ماجة برقم (3274) وعبيد الله بن عكراش تكلم فيه ، وتكلم في حديثه هذا.
قال البخاري : "لا يثبت حديثه" ونقل العقيلي عنه أنه قال : "في إسناده نظر".
(2) في م ، أ : "فقال : ما كان".
(3) في م ، أ : "رؤيا".
(4) في م ، أ : "فأصيب".
(5) المسند للإمام أحمد (3/135) ومسند أبي يعلى برقم (3289) (6/44) وقال الهيثمي في المجمع (7/175) : "رجاله رجال الصحيح".

(7/522)


رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الرجل إذا نزع ثمرة في الجنة ، عادت مكانها أخرى" (1).
وقوله : { وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ } ، قال الإمام أحمد :
حدثنا سيار بن حاتم ، حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي ، حدثنا ثابت ، عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن طير الجنة كأمثال البخت ، يرعى (2) في شجر الجنة". فقال أبو بكر : يا رسول الله ، إن هذه لطير ناعمة فقال : "أكلتها (3) أنعم منها - قالها ثلاثا - وإني لأرجو أن تكون ممن يأكل منها". تفرد به أحمد من هذا الوجه (4).
وروى الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه "صفة الجنة" من حديث إسماعيل بن علي الخُطَبِيّ ، عن أحمد بن علي الخُيُوطي ، عن عبد الجبار بن عاصم ، عن عبد الله بن زياد ، عن زُرْعَة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : ذكرت عند النبي صلى الله عليه وسلم طوبى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أبا بكر ، هل بلغك ما طوبى ؟" قال : الله ورسوله أعلم. قال : "طوبى شجرة في الجنة ، ما يعلم طولها إلا الله ، يسير الراكب تحت غصن من أغصانها سبعين خريفا ، ورقها الحلل ، يقع عليها الطير كأمثال البخت". فقال أبو بكر : يا رسول الله ، إن هناك لطيرا ناعما ؟ قال : "أنعم منه من يأكله ، وأنت منهم إن شاء الله" (5).
وقال قتادة في قوله : { وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ } : ذكر لنا أن أبا بكر قال : يا رسول الله ، إني أرى طيرها ناعمة كما أهلها ناعمون. قال : "من يأكلها - والله يا أبا بكر (6) - أنعم منها ، وإنها لأمثال البخت ، وإني لأحتسب على الله أن تأكل منها (7) يا أبا بكر" (8).
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثني مجاهد بن موسى ، حدثنا مَعْنُ بن عيسى ، حدثني ابن أخي ابن شهاب ، عن أبيه ، عن أنس بن مالك ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكوثر فقال : "نهر أعطانيه ربي ، عز وجل ، في الجنة ، أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل ، فيه طيور أعناقها يعني كأعناق الجزر". فقال عمر : إنها لناعمة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "آكلها أنعم منها".
وكذا رواه الترمذي عن عبد (9) بن حميد ، عن القَعْنَبِي ، عن محمد بن عبد الله بن مسلم بن شهاب ، عن أبيه ، عن أنس ، وقال : حسن (10).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسي ، حدثنا أبو معاوية ، عن عبيد الله (11) بن الوليد الوَصَّافي ، عن عطية العَوْفِيّ ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
__________
(1) المعجم الكبير (2/102) وفي إسناده عباد متكلم فيه.
(2) في م : "ترعى".
(3) في م ، أ : "أكلها".
(4) المسند (3/221).
(5) ورواه ابن مردويه في تفسيره كما في الدر المنثور (4/649).
(6) في م : "يا أبا بكر والله".
(7) في م : "أن آكل منها".
(8) وهذا مرسل وقد روى من طريق الحسن مرسلا أيضا أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (12/13).
(9) في م : "عبيد" وهو خطأ.
(10) سنن الترمذي برقم (2542) وقال فيه : "حسن غريب".
(11) في أ : "عبد الله".

(7/523)


"إن في الجنة لطيرا فيه سبعون ألف ريشة ، فيقع على صحفة الرجل من أهل الجنة فينتفض ، فيخرج من كل ريشة - يعني : لونا - أبيض من اللبن ، وألين من الزبد ، وأعذب من الشهد ، ليس منها لون يشبه صاحبه (1) ثم يطير" (2).
هذا حديث غريب جدا ، والوَصَّافي وشيخه ضعيفان. ثم قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن صالح - كاتب الليث - حدثني الليث ، حدثنا خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن أبي حازم عن عطاء ، عن كعب ، قال : إن طائر الجنة أمثال البخت ، يأكل (3) مما خلق من ثمرات الجنة ، ويشرب (4) من أنهار الجنة ، فيصطففن له ، فإذا اشتهى منها شيئا أتاه حتى يقع بين يديه ، فيأكل من خارجه وداخله ثم يطير لم ينقص منه شيء. صحيح إلى كعب.
وقال الحسن بن عرفة : حدثنا خلف بن خليفة ، عن حميد الأعرج ، عن عبد الله بن الحارث ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشويا" (5).
وقوله : { وَحُورٌ عِينٌ. كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ } قرأ بعضهم بالرفع ، وتقديره : ولهم فيها حور عين. وقراءة الجر تحتمل معنيين ، أحدهما : أن يكون الإعراب على الاتباع بما قبله ؛ لقوله : { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ. بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزفُونَ. وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ. وَحُورٌ عِينٌ } ، كَمَا قَالَ { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } [المائدة : 6] ، وكما قال : { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ } [الإنسان : 21]. والاحتمال الثاني : أن يكون مما يطوف به الولدان المخلدون عليهم الحور العين ، ولكن يكون ذلك في القصور ، لا بين بعضهم بعضا ، بل في الخيام يطوف عليهم الخدام بالحور العين ، والله أعلم.
وقوله : { كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ } أي : كأنهن اللؤلؤ الرطب في بياضه وصفائه ، كما تقدم في "سورة الصافات" { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ } [الصافات : 49] وقد تقدم في سورة "الرحمن" وصفهن أيضا ؛ ولهذا قال : { جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : هذا الذي اتحفناهم به مجازاة لهم على ما أحسنوا من العمل.
ثم قال : { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا. إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا } أي : لا يسمعون في الجنة كلامًا لاغيا ، أي : غثا (6) خاليا عن المعنى ، أو مشتملا على معنى حقير أو ضعيف ، كما قال : { لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً } [الغاشية : 11]
__________
(1) في أ : "الآخر".
(2) ورواه هناد في الزهد برقم (119) حدثنا أبو معاوية به.
(3) في م : "يأكلن".
(4) في م : "يشربن".
(5) جزء الحسن بن عرفة برقم (22) وحميد الأعرج منكر الحديث.
(6) في م : "عبثا".

(7/524)


وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآَخِرِينَ (40)

أي : كلمة لاغية { وَلا تَأْثِيمًا } أي : ولا كلامًا فيه قبح (1) ، { إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا } أي : إلا التسليم منهم بعضهم على بعض ، كما قال : { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ } [إبراهيم : 23] وكلامهم أيضًا سالم من اللغو والإثم.
{ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لأصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ (40) }.
لما ذكر تعالى مآل السابقين - وهم المقربون - عطف عليهم بذكر أصحاب اليمين - وهم الأبرار - كما قال ميمون بن مِهْرَان : أصحاب اليمين منزلة دون المقربين ، فقال : { وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ } أي : أي شيء أصحاب اليمين ؟ وما حالهم ؟ وكيف مآلهم (2) ؟ ثم فسر ذلك فقال : { فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ }. قال ابن عباس ، وعِكْرِمَة ، ومجاهد ، وأبو الأحوص ، وقسَامة بن زُهَير ، والسَّفر بن نُسَير ، والحسن ، وقتادة ، وعبد الله بن كثير ، والسُّدِّيّ ، وأبو حَرْزَة ، وغيرهم : هو الذي لا شوك فيه. وعن ابن عباس : هو المُوَقَر بالثمر. وهو رواية عن عِكْرِمَة ، ومجاهد ، وكذا قال قتادة أيضا : كنا نُحَدِّث أنه المُوقَر الذي لا شوك فيه.
والظاهر أن المراد هذا وهذا فإن سدر الدنيا كثير الشوك قليل الثمر ، وفي الآخرة على عكس من هذا لا شوك فيه ، وفيه الثمر الكثير الذي قد أثقل أصله ، كما قال الحافظ أبو بكر بن سلمان النجّاد.
حدثنا محمد (3) بن محمد هو البغوي ، حدثني حمزة بن عباس (4) ، حدثنا عبد الله بن عثمان ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، أخبرنا صفوان بن عمرو ، عن سليم بن عامر ، قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : إن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم ؛ قال : أقبل أعرابي يومًا فقال : يا رسول الله ، ذكر الله في الجنة شجرة تؤذي صاحبها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وما هي ؟". قال : السِّدر ، فإن له شوكًا موذيًا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أليس الله يقول : { فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ } ، خَضَد الله شوكه ، فجعل مكان كل شوكة ثمرة ، فإنها لتنبت ثمرًا تَفَتَّق الثمرةُ منها عن اثنين (5) وسبعين لونًا من طعام ، ما فيها لون يشبه الآخر" (6).
طريق أخرى : قال أبو بكر بن أبي داود : حدثنا محمد بن المصفى ، حدثنا محمد بن المبارك ، حدثنا يحيى بن حمزة ، حدثني ثور بن يزيد ، حدثني حبيب بن عبيد ، عن عُتْبة بن عبد السلمي
__________
(1) في م : "قبيحا".
(2) في أ : "وكيف حالهم".
(3) في أ : "وحدثنا عبد الله".
(4) في م ، أ : "بن العباس".
(5) في أ : "عن مائتي".
(6) ورواه الحاكم في المستدرك (2/476) من طريق الربيع ، عن بشر بن بكر عن صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر عن أبي أمامة قال : كان أصحاب رسول الله فذكر مثله ، وقال الحاكم : "صحيح الإسناد ولم يخرجاه".

(7/525)


قال : كنت جالسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء أعرابي فقال : يا رسول الله ، أسمعك تذكر في الجنة شجرة لا أعلم شجرة أكثر شوكًا منها ؟ يعني : الطلح ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله يجعل مكان كل شوكة منها ثمرة مثل خُصْوَة التيس الملبود ، فيها سبعون لونًا من الطعام ، لا يشبه لون آخر" (1).
وقوله : { وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ } : الطلح : شجر عظام يكون بأرض الحجاز ، من شجر العضَاه ، واحدته طلحة ، وهو شجر كثير الشوك ، وأنشد ابن جرير لبعض الحداة (2) :
بَشَّرَهَا دَليلها وقالا... غدًا تَرينَ الطَّلحَ والجبَالا...
وقال مجاهد : { مَنْضُودٍ } أي : متراكم الثمر ، يذكر بذلك قريشًا ؛ لأنهم كانوا يعجبون من وَجّ ، وظلاله من طلح وسدر.
وقال السُّدّي : { مَنْضُودٍ } : مصفوف. قال ابن عباس : يشبه طلح الدنيا ، ولكن له ثمر أحلى من العسل.
قال الجوهري : والطلح لغة في الطلع.
قلت : وقد روى ابن أبي حاتم من حديث الحسن بن سعد ، عن شيخ من همدان قال : سمعت عليًّا يقول : هذا الحرف في { وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ } قال : طلع منضود ، فعلى هذا يكون هذا من صفة السدر ، فكأنه وصفه بأنه مخضود وهو الذي لا شوك له ، وأن طلعه منضود ، وهو كثرة ثمره ، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو معاوية ، عن إدريس ، عن جعفر بن إياس ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد : { وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ } قال : الموز. قال : وروي عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، والحسن ، وعِكْرِمَة ، وقسامة بن زهير ، وقتادة ، وأبي حَزْرَة ، مثل ذلك ، وبه قال مجاهد وابن زيد - وزاد فقال : أهل اليمن يسمون الموز الطلح. ولم يحك ابن جرير غير هذا القول (3).
وقوله : { وَظِلٍّ مَمْدُودٍ } : قال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة - يبلُغُ به النبي صلى الله عليه وسلم - قال : "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ، اقرؤوا إن شئتم : { وَظِلٍّ مَمْدُودٍ }.
ورواه مسلم من حديث الأعرج ، به (4).
وقال الإمام أحمد : حدثنا سُرَيج ، حدثنا فُلَيح ، عن هلال بن علي ، عن عبد الرحمن بن أبي عَمْرة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة ، اقرؤوا إن شئتم : { وَظِلٍّ مَمْدُودٍ }.
__________
(1) البعث لابن أبي داود برقم (69) ورواه الطبراني في مسند الشاميين برقم (492) وعنه أبو نعيم في الحلية (6/103) عن أبي زرعة عن أبي مسهر عن يحيى بن حمزة به ، وقال الهيثمي في المجمع (10/414) : "رجاله رجال الصحيح".
(2) تفسير الطبري (27/104).
(3) تفسير الطبري (27/104).
(4) صحيح البخاري برقم (4881) وصحيح مسلم برقم (2826).

(7/526)


وكذا رواه البخاري ، عن محمد بن سِنَان (1) ، عن فُلَيح به (2) ، وكذا رواه عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن هَمَّام ، عن أبي هريرة (3). وكذا رواه حماد بن سلمة ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة (4) ، والليث بن سعد ، عن سعيد المَقْبُرِيّ ، عن أبيه ، عن أبي هريرة (5) ، وعوف ، عن ابن سيرين ، عن أبي هُرَيرة [به] (6).
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا حدثنا شعبة ، سمعت أبا الضحاك يحدث عن أبي هُرَيرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين ، أو مائة سنة ، هي شجرة الخلد" (7).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله قال : "في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها ، واقرؤوا إن شئتم : { وَظِلٍّ مَمْدُودٍ }.
إسناده جيد ، ولم يخرجوه (8). وهكذا رواه ابن جرير ، عن أبي كُرَيْب ، عن عبدة وعبد الرحيم ، عن محمد بن عمرو ، به. وقد رواه الترمذي ، من حديث عبد الرحيم بن سليمان ، به (9).
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مِهْرَان ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن زياد - مولى بني مخزوم - عن أبي هريرة قال : إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة ، اقرؤوا إن شئتم : { وَظِلٍّ مَمْدُودٍ }. فبلغ ذلك كعبًا فقال : صدق ، والذي أنزل التوراة على موسى والفرقان على محمد ، لو أن رجلا ركب حِقَّة أو جَذَعة ، ثم دار حول (10) تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هَرَمًا ، إن الله غرسها بيده ونفخ فيها من روحه ، وإن أفنانها لمن وراء سور الجنة ، وما في الجنة نهر إلا وهو يخرج من أصل تلك الشجرة (11).
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا محمد بن مِنْهَال الضرير ، حدثنا يزيد بن زُرَيع ، عن سعد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل : { وَظِلٍّ مَمْدُودٍ } ، قال : "في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها".
وكذا رواه البخاري ، عن روح بن عبد المؤمن ، عن يزيد بن زُرَيع (12) ، وهكذا رواه أبو داود
__________
(1) في هـ : "محمد بن شيبان" والمثبت من م ، أ ، وصحيح البخاري.
(2) المسند (2/482) وصحيح البخاري برقم (3252).
(3) المصنف لعبد الرزاق برقم (20877).
(4) رواه أحمد في المسند (2/469).
(5) رواه مسلم في صحيحه برقم (2826).
(6) زيادة من م.
(7) المسند (2/445).
(8) رواه ابن ماجة في السنن برقم (4335) من طريق عبد الرحمن بن عثمان عن محمد بن عمرو به مثله.
(9) تفسير الطبري (27/105) وسنن الترمذي برقم (3292).
(10) في م : "بأعلى" وفي أ : "بأصل".
(11) تفسير الطبري (27/105).
(12) صحيح البخاري برقم (3251).

(7/527)


الطيالسي ، عن عمران بن دَاوَر القطان ، عن قتادة به. وكذا رواه مَعْمَر ، وأبو هلال ، عن قتادة ، به. وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد وسهل بن سعد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المُضَمَّر السريع مائة عام ما يقطعها" (1).
فهذا حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل متواتر مقطوع بصحته عند أئمة الحديث النقاد ، لتعدد طرقه ، وقوة أسانيده ، وثقة رجاله.
وقد قال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا أبو كُرَيْبَ ، حدثنا أبو بكر ، حدثنا أبو حُصَين قال : كنا على باب في موضع ، ومعنا أبو صالح وشقيق - يعني : الضبي - فحدث أبو صالح قال : حدثني أبو هُرَيْرَة قال : إن في الجنة شجرةً يسير الراكب في ظلها سبعين عامًا. قال أبو صالح : أتكَذّب أبا هريرة ؟ قال : ما أكذّب أبا هريرة ، ولكني أكذِّبك أنت. فشق ذلك على القراء يومئذ (2).
قلت : فقد أبطل من يكذب بهذا الحديث ، مع ثبوته وصحته ورفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الترمذي : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا زياد بن الحسن بن الفُرَات القَزَّاز ، عن أبيه ، عن جده ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما في الجنة شجرة إلا ساقها من ذهب". ثم قال : حسن غريب (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن أبي الربيع ، حدثنا أبو عامر العَقَدي ، عن زمعة بن صالح ، عن سلمة بن وهرام ، عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس قال : الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق ظلها ، قدر ما يسير الراكب في نواحيها مائة عام. قال : فيخرج إليها أهل الجنة ؛ أهل الغرف وغيرهم ، فيتحدثون في ظلها. قال : فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا ، فيرسل الله ريحًا من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا.
هذا أثر غريب وإسناده جيد قَويّ حسن.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن (4) يمان ، حدثنا سفيان ، حدثنا أبو إسحاق ، عن عمرو بن ميمون في قوله : { وَظِلٍّ مَمْدُودٍ } قال : سبعون ألف سنة. وكذا رواه ابن جرير ، عن بُنْدَار ، عن ابن مهدي ، عن سفيان ، مثله. ثم قال ابن جرير :
حدثنا ابن حميد ، حدثنا مِهْرَان ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون : { وَظِلٍّ مَمْدُودٍ } قال : خمسمائة ألف سنة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، حدثنا حصين بن نافع ، عن الحسن في قوله الله تعالى : { وَظِلٍّ مَمْدُودٍ } قال : في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6552 ، 6553) وصحيح مسلم برقم (2827 ، 2828).
(2) تفسير الطبري (27/106).
(3) سنن الترمذي برقم (2525).
(4) في أ : "حدثنا أبو".

(7/528)


وقال عوف عن الحسن : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها". رواه ابن جرير (1).
وقال شبيب عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس : في الجنة شَجَر لا يحمل ، يُستظَلُّ به. رواه ابن أبي حاتم.
وقال الضحاك ، والسُّدِّيّ ، وأبو حَرْزَةَ في قوله : { وَظِلٍّ مَمْدُودٍ } لا ينقطع ، ليس فيها شمس ولا حر ، مثل قبل طلوع الفجر.
وقال ابن مسعود : الجنة سَجْسَج ، كما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
وقد تقدمت الآيات كقوله : { وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا } [النساء : 57] ، وقوله : { أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا } [الرعد : 35] ، وقوله : { فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ } [المرسلات : 41] إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله : { وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ } قال الثوري : [يعني] (2) يجري في غير أخدود.
وقد تقدم الكلام عند (3) تفسير قوله تعالى : { فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ } الآية [محمد : 15] ، بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقوله : { وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ. لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ } أي : وعندهم من الفواكه الكثيرة المتنوعة في الألوان ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، { كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } [البقرة : 25] أي : يشبه الشكلُ الشكلَ ، ولكن الطعم غيرُ الطعم. وفي الصحيحين في ذكر سدرة المنتهى قال : "فإذا ورقها كآذان الفيلة ونبقها مثل قلالَ هجر" (4).
وفيهما أيضًا من حديث مالك ، عن زيد ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس قال : خُسِفَت الشمس ، فصلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والناس معه ، فذكر الصلاة. وفيه : قالوا : يا رسول الله ، رأيناك تناولت شيئًا في مقامك هذا ، ثم رأيناك تكعكعت (5). قال : "إني رأيت الجنة ، فتناولت منها عنقودًا ، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا" (6).
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو خَيْثَمة ، حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا عبيد الله ، حدثنا ابن (7) عقيل ، عن جابر قال : بينا نحن في صلاة الظهر ، إذ تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدمنا معه ، ثم تناول شيئًا ليأخذه ثم تأخر ، فلما قضى الصلاة قال له أبيّ بن كعب : يا رسول الله ، صنعتَ اليومَ
__________
(1) تفسير الطبري (27/105).
(2) زيادة من م ، أ.
(3) في م ، أ : "على".
(4) صحيح البخاري برقم (3207) وصحيح مسلم برقم (162) من حديث أنس رضي الله عنه.
(5) في أ : "تكفكفت".
(6) صحيح البخاري برقم (1052) وصحيح مسلم برقم (907).
(7) في م ، أ : "حدثنا أبو".

(7/529)


في الصلاة شيئًا ما كنت تصنعه ؟ قال : "إنه عُرِضَتْ علَيَّ الجنة ، وما فيها من الزَّهْرَة والنُّضْرَة ، فتناولت منها قِطْفًا من عنب لآتيكم به ، فحِيلَ بيني وبينه ، ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقصونه" (1).
وروى مسلم ، من حديث أبي الزبير ، عن جابر ، نحوه (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن بحر ، حدثنا هشام بن يوسف ، أخبرنا مَعْمَر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عامر بن زيد البَكَالي : أنه سمع عتبة بن عبد السلمي يقول : جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأله عن الحوض وذكر الجنة ، ثم قال (3) الأعرابي : فيها فاكهة ؟ قال : "نعم ، وفيها شجرة تدعى طوبى" فذكر شيئًا لا أدري ما هو ، قال : أي شجر أرضنا تشبه ؟ قال : "ليست تشبه شيئا من شجر أرضك". فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أتيتَ الشام ؟" قال : لا. قال : "تشبه شجرة بالشام تدعى الجَوزة ، تنبت على ساق واحد ، وينفرش أعلاها". قال : ما عظم أصلها ؟ قال : "لو ارتحلت جَذعَة من إبل أهلك ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرمًا". قال : فيها عنب ؟ قال : "نعم". قال : فما عظم العنقود ؟ قال : "مسيرة شهر للغراب الأبقع ، ولا يفتر". قال : فما عظَم الحَبَّة ؟ قال : "هل ذبح أبوك تيسًا من غنمه قط عظيمًا ؟" قال : نعم. قال : "فسلخ إهابه فأعطاه أمك ، فقال : اتخذي لنا منه دلوًا ؟" قال : نعم. قال الأعرابي : فإن تلك الحبة لتشبعني وأهل بيتي ؟ قال : "نعم وعامَّة عشيرتك" (4).
وقوله : { لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ } أي : لا تنقطع شتاء ولا صيفًا ، بل أكلها دائم مستمر أبدًا ، مهما طلبوا وجدوا ، لا يمتنع عليهم بقدرة الله شيء.
قال قتادة : لا يمنعهم من تناولها عودٌ ولا شوكٌ ولا بُعدٌ. وقد تقدم في الحديث : "إذا تناول الرجل الثمرة عادت مكانها أخرى".
وقوله : { وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ } أي : عالية وطيئة ناعمة.
قال النسائي وأبو عيسى الترمذي : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا رِشْدِِين بن سعد ، عن عمرو بن الحارث ، عن دَرَّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ } قال : "ارتفاعها كما بين السماء والأرض ، ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام" (5).
ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه ، إلا من حديث رشدين بن سعد. قال : وقال بعض أهل العلم : معنى هذا الحديث : ارتفاع الفرش في الدرجات ، وبعد ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض.
__________
(1) تقدم تخريج الحديث عند تفسير الآية : 35 من سورة الرعد.
(2) تقدم الحديث في الموضع السابق.
(3) في م : "فقال".
(4) المسند (4/184).
(5) سنن الترمذي برقم (2540) ووقع فيه : "هذا حديث غريب لا نعرفه" ليس فيه : "حسن" وكذا وقع في تحفة الأشراف.

(7/530)


هكذا قال : إنه لا يعرف هذا إلا من رواية رشدين بن سعد ، وهو المصري ، وهو ضعيف. وهكذا رواه أبو جعفر بن جرير ، عن أبي كُرَيْب ، عن رشدين (1). ثم رواه هو وابن أبي حاتم ، كلاهما عن يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، فذكره. وكذا رواه ابن أبي حاتم أيضًا عن نُعَيم بن حماد ، عن ابن وهب. وأخرجه الضياء في صفة الجنة من حديث حرملة عن ابن وهب ، به مثله. ورواه الإمام أحمد عن حسن بن موسى ، عن ابن لَهِيعَة ، حدثنا دراج ، فذكره (2).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو معاوية ، عن جُوَيْبر ، عن أبي سهل - يعني : كثير بن زياد - عن الحسن : : { وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ } قال : ارتفاع فراش الرجل من أهل الجنة مسيرة ثمانين سنة.
وقوله : { إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً. فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا. عُرُبًا أَتْرَابًا. لأصْحَابِ الْيَمِينِ } جرى الضمير على غير مذكور. لكن لما دل السياق ، وهو ذكر الفرش على النساء اللاتي يضاجَعن فيها ، اكتفى بذلك عن ذكرهن ، وعاد الضمير عليهن ، كما في قوله : { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ. فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } [ص : 31 ، 32] يعني : الشمس ، على المشهور من قول المفسرين.
قال الأخفش في قوله : { إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً } أضمرهن ولم يذكرهن قبل ذلك. وقال أبو عبيدة : ذكرن في قوله : { وَحُورٌ عِينٌ. كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ } [الواقعة : 22 ، 23].
فقوله : { إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ } أي : أعدناهن في النشأة الآخرة بعدما كُنَّ عجائز (3) رُمْصًا ، صرن أبكارًا عربًا ، أي : بعد الثّيوبة عُدْن أبكارًا عُرُبًا ، أي : متحببات إلى أزواجهن بالحلاوة والظرافة والملاحة.
وقال بعضهم : { عُرُبًا } أي : غَنِجات.
قال موسى بن عُبَيدة الرَّبَذِي ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً } قال : "نساء عجائز كُنّ في الدنيا عُمْشًا رُمْصًا". رواه الترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم. ثم قال الترمذي : غريب ، وموسى ويزيد ضعيفا (4) (5).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف الحمصي ، حدثنا آدم - يعني : ابن أبي إياس - حدثنا شيبان ، عن جابر ، عن يزيد بن مُرَّة ، عن سلمة بن يزيد قال : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله : { إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً } يعني : "الثيب والأبكار اللاتي كُنَّ في الدنيا" (6).
__________
(1) تفسير الطبري (27/106).
(2) المسند (3/75).
(3) في أ : "ماكن عجاف".
(4) في أ : "ضعيفان".
(5) سنن الترمذي برقم (3296) وتفسير الطبري (27/107).
(6) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (7/40) وأبو نعيم في صفة الجنة برقم (389) من طريق شيبان به ، وجابر بن يزيد ضعيف.

(7/531)


وقال عبد بن حُمَيد : حدثنا مصعب بن المقدام ، حدثنا المبارك بن فضالة ، عن الحسن قال : أتت عجوز فقالت : يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة. فقال : "يا أم فلان ، إن الجنة لا تدخلها عجوز". قال : فَوَلَّت تبكي ، قال : "أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز ، إن الله تعالى يقول : { إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً. فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا }
وهكذا رواه الترمذي في الشمائل عن عبد بن حميد (1).
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا بكر بن سهل الدمياطي ، حدثنا عمرو بن هاشم البيروتي ، حدثنا سليمان بن أبي كريمة ، عن هشام بن حسان ، عن الحسن ، عن أمه ، عن أم سلمة قالت : قلت : يا رسول الله ، أخبرني عن قول الله : { وَحُورٌ عِينٌ } [الواقعة : 22] ، قال : "حور : بيض ، عين : ضخام العيون ، شُفْر الحوراء بمنزلة جناح النسر". قلت : أخبرني عن قوله : { كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ } [الواقعة : 23] ، (2) قال : "صفاؤهن صفاءُ الدر الذي في الأصداف ، الذي لم تَمَسّه الأيدي". قلت : أخبرني عن قوله : { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } [الرحمن : 70]. قال : "خَيّراتُ الأخلاق ، حِسان الوجوه". قلت : أخبرني عن قوله : { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ } [الصافات : 49] ، قال : "رقتهن كرقة الجلد الذي رأيت في داخل البيضة مما يلي القشر ، وهو : الغِرْقئُ". قلت : يا رسول الله ، أخبرني عن قوله : { عُرُبًا أَتْرَابًا }. قال : "هن اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز رُمْصًا شُمطًا ، خلقهن الله بعد الكبر ، فجعلهن عذارى عُرُبًا متعشقات محببات ، أترابًا على ميلاد واحد". قلت : يا رسول الله ، نساء الدنيا أفضل أم الحور العين ؟ قال : "بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين ، كفضل الظّهارة على البطانة". قلت : يا رسول الله ، وبم ذاك ؟ قال : "بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن الله ، عز وجل ، ألبس الله وجوههن النور ، وأجسادهن الحرير ، بيض الألوان ، خضر الثياب ، صفر الحلي ، مَجَامِرُهُنَّ الدُّرّ ، وأمشاطهن الذهب ، يقلن : نحن الخالدات فلا نموت أبدًا ، ونحن الناعمات فلا نبأس أبدًا ، ونحن المقيمات فلا نظعن أبدًا ، ألا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدًا ، طوبى لمن كُنَّا له وكان لنا". قلت : يا رسول الله ، المرأة منا تتزوج زوجين والثلاثة والأربعة ، ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها ، من يكون زوجها ؟ قال : "يا أم سلمة ، إنها تُخَيَّر فتختار أحسنهم خلقًا ، فتقول : يا رب ، إن هذا كان أحسن خلقًا معي فزوجنيه ، يا أم سلمة (3) ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة" (4).
وفي حديث الصور الطويل المشهور (5) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشفع للمؤمنين كلهم في دخول الجنة فيقول الله : قد شفعتك وأذنت لهم في دخولها. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "والذي بعثني بالحق ، ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم ،
__________
(1) الشمائل المحمدية للترمذي برقم (230).
(2) في أ : "كأنهن" وهو خطأ.
(3) في أ : "يا أم سليم".
(4) المعجم الكبير (23/368) وقال الهيثمي في المجمع (7/119) : "فيه إسماعيل بن أبي كريمة ضعفه أبو حاتم وابن عدي".
(5) حديث الصور مضى عند تفسير الآية : 73 من سورة الأنعام.

(7/532)


فيدخل الرجل منهم على ثنتين وسبعين زوجة ، سبعين مما ينشئ الله ، وثنتين من ولد (1) آدم لهما فضل على من أنشأ الله ، بعبادتهما الله في الدنيا ، يدخل على الأولى منهما في غرفة من ياقوتة ، على سرير من ذهب مُكَلَّل باللؤلؤ ، عليه سبعون زوجًا من سُنْدُس وإستبرق وإنه ليضع يده بين كتفيها ، ثم ينظر إلى يده من صدرها من وراء ثيابها وجلدها ولحمها ، وإنه لينظر إلى مخ ساقها كما ينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت ، كبده لها مرآة - يعني : وكبدها له مرآة - فبينما هو عندها لا يملها ولا تمله ، ولا يأتيها من مرة إلا وجدها عذراء ، ما يفتر ذَكَرُه ، ولا تشتكي قُبُلها إلا أنه لا مني ولا مَنيَّة ، فبينما هو كذلك إذ نودي : إنا قد عرفنا أنك لا تمل ولا تمل ، إلا أن لك أزواجًا غيرها ، فيخرج ، فيأتيهن واحدة واحدة (2) ، كلما جاء واحدة قالت : والله ما في الجنة شيء أحسن منك ، وما في الجنة شيء أحب إليّ منك".
وقال عبد الله بن وهب : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن دَرَّاج ، عن ابن حُجَيرة (3) ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال له : أَنَطأ في الجنة ؟ قال : "نعم ، والذي نفسي بيده دَحْمًا دحمًا ، فإذا قام عنها رَجَعتْ مُطهَّرة بكرًا" (4).
وقال الطبراني : حدثنا إبراهيم بن جابر الفقيه البغدادي ، حدثنا محمد بن عبد الملك الدقيق الواسطي ، حدثنا معلى بن عبد الرحمن الواسطي ، حدثنا شريك ، عن عاصم الأحول ، عن أبي المتوكل ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عُدن أبكارًا" (5). وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا عِمْران ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا في النساء". قلت : يا رسول الله ، ويطيق ذلك ؟ قال : "يعطى قوة مائة".
ورواه الترمذي من حديث أبي داود وقال : صحيح غريب (6).
وروى أبو القاسم الطبراني من حديث حسين بن علي الجعفي ، عن زائدة ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة قال : قيل : يا رسول الله ، هل نصل إلى نسائنا في الجنة ؟ قال : "إن الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء" (7).
قال الحافظ أبو عبد الله المقدسي : هذا الحديث عندي على شرط الصحيح ، والله أعلم.
وقوله : { عُرُبًا } قال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : يعني متحببات إلى أزواجهن ، ألم تر إلى الناقة الضبعة ، هي كذلك.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : العُرُب : العواشق لأزواجهن ، وأزواجهن لهن عاشقون. وكذا قال عبد الله بن سَرْجس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وأبو العالية ، ويحيى بن أبي كثير ، وعطية ،
__________
(1) في م : "من ابن".
(2) في م : "واحدة بعد واحدة".
(3) في أ : "عن ابن حجرة".
(4) رواه ابن حبان في صحيحه برقم (2633) "موارد" وأبو نعيم في صفة الجنة برقم (393) من طريق ابن وهب به ، ودراج متكلم فيه.
(5) المعجم الصغير (1/91) وفيه معلى بن عبد الرحمن وهو كذاب.
(6) مسند الطيالسي برقم (2012) وسنن الترمذي برقم (2536).
(7) المعجم الصغير (2/12 ، 13).

(7/533)


والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وغيرهم.
وقال ثور بن زيد ، عن عِكْرِمَة قال : سئل ابن عباس عن قوله : { عُرُبًا } قال : هي الملِقَةُ لزوجها.
وقال شعبة ، عن سِمَاك ، عن عكرمة : هي الغَنِجة.
وقال الأجلح بن عبد الله ، عن عكرمة : هي الشَّكلة.
وقال صالح (1) بن حَيَّان ، عن عبد الله بن بُرَيْدَة في قوله : { عُرُبًا } قال : الشكلة بلغة أهل مكة ، والغنجة (2) بلغة أهل المدينة.
وقال تميم بن حذلم : هي حسن التَّبَعل.
وقال زيد بن أسلم ، وابنه عبد الرحمن : العُرُب : حسنات الكلام.
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن سهل بن عثمان العسكري : حدثنا أبو علي ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { عُرُبًا } قال : "كلامهن عربي".
وقوله : { أَتْرَابًا } قال الضحاك ، عن ابن عباس يعني : في سن واحدة ، ثلاث وثلاثين سنة.
وقال مجاهد : الأتراب : المستويات. وفي رواية عنه : الأمثال. وقال عطية : الأقران. وقال السدي : { أَتْرَابًا } أي : في الأخلاق المتواخيات بينهن ، ليس بينهن تباغض ولا تحاسد ، يعني : لا كما كن ضرائر [في الدنيا] (3) ضرائر متعاديات.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، عن عبد الله بن الكهف ، عن الحسن ومحمد : { عُرُبًا أَتْرَابًا } قالا المستويات الأسنان ، يأتلفن جميعًا ، ويلعبن جميعًا.
وقد روى أبو عيسى الترمذي ، عن أحمد بن منيع ، عن أبي معاوية ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن النعمان بن سعد ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن في الجنة لمجتمعًا للحور العين ، يرفعن أصواتًا لم تسمع الخلائق بمثلها ، يقلن (4) نحن الخالدات فلا نبِيد ، ونحن الناعمات فلا نبأس ، ونحن الراضيات فلا نسخط ، طوبى لمن كان لنا وكُنَّا له". ثم قال : هذا حديث غريب (5).
وقال الحافظ أبو (6) يعلى : حدثنا أبو خَيْثَمة ، حدثنا إسماعيل بن عمر ، حدثنا ابن أبي ذئب ، عن فلان بن عبد الله بن رافع ، عن بعض ولد أنس بن مالك ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الحور العين ليغنين (7) في الجنة ، يقلن نحن خَيِّرات حِسان ، خُبِّئنا لأزواج كرام" (8).
__________
(1) في أ : "أبو صالح".
(2) في م : "والمفتوجة".
(3) زيادة من م.
(4) في م ، أ : "قال : قلن".
(5) سنن لبترمذي برقم (2564).
(6) في هـ : "ابن" والصواب ما أثبتناه من م ، أ.
(7) في م : "ليتغنين".
(8) ذكره الحافظ بن حجر في المطالب العالية (4/402) وعزاه لأبي يعلى ، ونقل المحقق قول البصيري : "ورواه أبو يعلى وفيه راو لم يسم". ورواه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة برقم (254) : حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا إسماعيل بن عمر ، حدثنا ابن أبي ذئب عن ابن عبد الله بن رافع عن بعض ولد أنس بن مالك ، عن أنس بن مالك به.

(7/534)


قلت : إسماعيل بن عُمَر هذا هو أبو المنذر الواسطي أحد الثقات الأثبات. وقد روى هذا الحديث الإمام عبد الرحيم بن إبراهيم الملقب بدُحَيْم ، عن ابن أبي فُدَيْك ، عن ابن أبي ذئب ، عن عون بن الخطاب بن عبد الله بن رافع ، عن ابنٍ لأنس ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الحور العين يغنين في الجنة : نحن الجوار الحسان ، خلقنا لأزواج كرام" (1).
وقوله : { لأصْحَابِ الْيَمِينِ } أي : خلقنا لأصحاب اليمين ، أو : ادخرن لأصحاب اليمين ، أو : زوجن لأصحاب اليمين. والأظهر أنه متعلق بقوله : { إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً. فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا. عُرُبًا أَتْرَابًا. لأصْحَابِ الْيَمِينِ } فتقديره : أنشأناهن لأصحاب اليمين. وهذا توجيه ابن جرير (2).
رُوِي عن أبي سليمان الدَّاراني - رحمه الله - قال : صليتُ ليلة ، ثم جلست أدعو ، وكان البردُ شديدًا ، فجعلت أدعو بيد واحدة ، فأخذتني عيني فنمت ، فرأيت حوراء لم ير مثلها وهي تقول : يا أبا سليمان ، أتدعو بيد واحدة وأنا أُغذَّى لك في النعيم من خمسمائة سنة!
قلت : ويحتمل أن يكون قوله : { لأصْحَابِ الْيَمِينِ } متعلقًا بما قبله ، وهو قوله : { أَتْرَابًا لأصْحَابِ الْيَمِينِ } أي : في أسنانهم. كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم ، من حديث جرير ، عن عُمَارة بن القعقاع ، عن أبي زُرْعَة ، عن أبي هُرَيرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دُرّيّ في السماء إضاءة ، لا يبولون ولا يتغوطون ، ولا يتفلون ولا يتمخطون ، أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألُوّة ، وأزواجهم الحور العين ، أخلاقهم على خَلْق رجل واحد ، على صورة أبيهم آدم ، ستون ذراعًا في السماء" (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون وعفان قالا حدثنا حماد بن سلمة - وروى الطبراني ، واللفظ له ، من حديث حماد بن سلمة - عن علي بن زيد بن جُدْعَان ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يدخل أهلُ الجنةِ الجنةَ جُردا مُردًا بيضًا جِعادًا مُكَحَّلين ، أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين ، وهم على خَلْق آدم ستون ذراعًا في عرض سبعة أذرع" (4).
وروى الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي ، عن عمران القطان ، عن قتادة ، عن شَهْر بن حَوْشب ، عن عبد الرحمن بن غَنْم ، عن مُعَاذ بن جَبَل ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يدخل أهلُ الجنةِ الجنةَ جُردًا مُردًا مكحلين أبناء ثلاثين ، أو ثلاث وثلاثين سنة". ثم قال : حسن غريب (5)
__________
(1) ورواه أبو نعيم في صفة الجنة برقم (432) من طريق دحيم به ، ورواه البيهقي في البعث برقم (420) من طريق ابن عبد الحكم ، وابن أبي داود في البعث برقم (75) عن كثير بن عبيد كلاهما عن ابن أبي فديك به نحوه ، ورواه الطبراني في الأوسط برقم (4887) "مجمع البحرين" من طريق الحسن بن داود عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب ، عن عون بن الخطاب عن أنس به نحوه. قال المنذري في الترغيب والترهيب (4/226) : "رواه ابن أبي الدنيا والطبراني وإسناده مقارب ، ورواه البيهقي عن ابن لأنس لم يسمه عن أنس" وأشار البخاري إلى اختلاف فيه في التاريخ الكبير (7/16).
(2) تفسير الطبري (27/109).
(3) صحيح البخاري برقم (3327) وصحيح مسلم برقم (2834).
(4) المسند (2/295) والمعجم الأوسط برقم (4894) "مجمع البحرين".
(5) سنن الترمذي برقم (2545).

(7/535)


وقال ابن وهب : أخبرنا عمرو بن الحارث أنّ دَرَّاجًا أبا السمح حَدَّثه عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من مات من أهل الجنة من صغير أو كبير ، يُرَدون بني ثلاث وثلاثين في الجنة ، لا يزيدون عليها أبدًا ، وكذلك أهل النار".
ورواه الترمذي عن سُوَيْد بن نصر ، عن ابن المبارك ، عن رشدين بن سعد ، عن عمرو بن الحارث ، به (1)
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا القاسم بن هاشم ، حدثنا صفوان بن صالح ، حدثنا روَّاد بن الجراح العسقلاني ، حدثنا الأوزاعي ، عن هارون بن رئاب ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يدخل أهلُ الجنةِ الجنةَ على طول آدم ستين ذراعًا بذراع الملك! على حُسْن يوسف ، وعلى ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين سنة ، وعلى لسان محمد ، جُرْدٌ مُرْدٌ مُكَحَّلُون" (2).
وقال أبو بكر بن أبي داود : حدثنا محمود بن خالد وعباس بن الوليد قالا حدثنا عمر عن الأوزاعي ، عن هارون بن رئاب ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يُبعث (3) أهل الجنة على صورة آدم في ميلاد ثلاثٍ وثلاثين ، جُردًا مُردًا مكحلين ، ثم يذهب بهم إلى شجرة في الجنة فيكسون منها ، لا تبلى ثيابهم ، ولا يفنى شبابهم" (4).
وقوله : { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ } أي : جماعة من الأولين وجماعة من الآخرين.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا محمد بن بكار ، حدثنا سعيد بن بَشير ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن عمران بن حُصَين ، عن عبد الله بن مسعود - قال : وكان بعضهم يأخذ عن بعض - قال : أكرينا ذات ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم غدونا عليه ، فقال : "عُرضت عليَّ الأنبياء وأتباعها بأممها ، فيمر علي النبي ، والنبي في العصابة ، والنبي في الثلاثة ، والنبي ليس معه أحد - وتلا قتادة هذه الآية : { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ } [هود : 78] - قال : حتى مرَّ عليَّ موسى بن عمران في كبكبة من بني إسرائيل". قال : "قلتُ : ربي من هذا ؟ قال : هذا أخوك موسى بن عمران ومن معه (5) من بني إسرائيل". قال : "قلت : رب فأين أمتي ؟ قال : انظر عن يمينك في الظراب (6). قال : "فإذا وجوه الرجال". قال : "قال : أرضيت ؟" قال : قلت : "قد رضيت ، رب". قال : انظر إلى الأفق عن يسارك فإذا وجوه الرجال. قال : أرضيت ؟ قلت : "رضيت ، رب". قال : فإن مع هؤلاء سبعين ألفا ، يدخلون الجنة بغير حساب". قال : وأنشأ عُكَّاشة بن مُحْصَن من بني أسد - قال سعيد : وكان بَدْريًّا - قال : يا نبي الله ، ادع الله أن يجعلني منهم. قال : فقال : "اللهم اجعله منهم". قال : أنشأ (7) رجل آخر ، قال : يا نبي الله ، ادع الله
__________
(1) سنن الترمذي برقم (2562) ورواه من طريق ابن وهب وأبو نعيم في صفة الجنة برقم (259).
(2) صفة الجنة لابن أبي الدنيا برقم (215).
(3) في أ : "يدخل".
(4) البعث لابن أبي داود برقم (64) وانظر كلام المحقق الفاضل في سماع هارون بن رئاب عن أنس.
(5) في م : "ومن تبعه".
(6) في م ، أ : "الضراب".
(7) في م : "ثم أنشأ".

(7/536)


وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)

أن يجعلني منهم. فقال : "سبقك بها عكاشة" قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فإن استطعتم - فداكم أبي وأمي - أن تكونوا من أصحاب السبعين فافعلوا وإلا فكونوا (1) من أصحاب الظراب (2) ، وإلا فكونوا من أصحاب الأفق ، فإني قد رأيت ناسًا كثيرًا قد تأشَّبوا حوله" (3). ثم قال : "إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة". فكبرنا ، ثم قال : "إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة". قال : فكبرنا ، قال : "إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة". قال : فكبرنا. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ } قال : فقلنا بيننا : من هؤلاء السبعون ألفا ؟ فقلنا : هم الذين ولدوا في الإسلام ، ولم يشركوا. قال : فبلغه ذلك فقال : "بل هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون".
وكذا رواه ابن جرير من طريقين آخرين عن قتادة ، به نحوه (4). وهذا الحديث له طرق كثيرة من غير هذا الوجه في الصحاح وغيرها.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مِهْرَان ، حدثنا سفيان ، عن أبان بن أبي عياش ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس : { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ } قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هُمَا جميعًا من أمتي" (5).
{ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) }.
__________
(1) في م : "ولا تكونوا".
(2) في أ : "الضراب".
(3) في م : "حوالهم".
(4) تفسير الطبري (27/109).
(5) تفسير الطبري (27/110) ورواه ابن عدي في الكامل (1/387) من طريق محمد بن كثير ، عن سفيان الثوري عن أبان بن أبي عياش به ، وقال ابن عدي : "أبان بن أبي عياش له روايات غير ما ذكرت وعامة ما يرويه لا يتابع عليه".

(7/537)


ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)

{ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نزلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) }.
لما (1) ذكر تعالى حال أصحاب اليمين ، عطف عليهم بذكر أصحاب الشمال ، فقال : { وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ } أي : أي شيء هم فيه أصحاب الشمال ؟ ثم فَسَّر ذلك فقال : { فِي سَمُومٍ } وهو : الهواء الحار { وَحَمِيمٍ } وهو : الماء الحار.
{ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ } قال ابن عباس : ظل الدخان. وكذا قال مجاهد ، وعِكْرِمَة ، وأبو صالح ، وقتادة ، والسُّدِّيّ ، وغيرهم. وهذه كقوله تعالى : { انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ. لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ. إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ. كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } [المرسلات : 29 ، 34] ،
__________
(1) في م : "ولما".

(7/537)


ولهذا قال هاهنا : { وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ } وهو الدخان الأسود { لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ } أي : ليس طيب الهبوب ولا حَسَن المنظر ، كما قال الحسن وقتادة : { وَلا كَرِيمٍ } أي : ولا كريم المنظر. وقال الضحاك : كل شراب ليس بعذب فليس بكريم.
وقال ابن جرير : العرب تتبع هذه اللفظة في النفي ، فيقولون : "هذا الطعام ليس بطيب ولا كريم ، هذا اللحم ليس بسمين ولا كريم ، وهذه الدار ليست بنظيفة ولا كريمة".
ثم ذكر تعالى استحقاقهم لذلك ، فقال تعالى : { إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } أي : كانوا في الدار الدنيا منعمين مقبلين على لذات أنفسهم ، لا يلوون على ما جاءتهم به الرسل.
{ وَكَانُوا يُصِرُّونَ } أي : يُصَمِّمون ولا ينوون توبة { عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ } وهو الكفر بالله ، وجعل الأوثان والأنداد أربابًا من دون الله.
قال ابن عباس : { الْحِنْثِ الْعَظِيمِ } الشرك. وكذا قال مجاهد ، وعِكْرِمَة ، والضحاك ، وقتادة ، والسُّدِّيّ ، وغيرهم.
وقال الشعبي : هو اليمين الغموس.
{ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ } ؟ يعني : أنهم يقولون ذلك مكذبين به مستبعدين لوقوعه ، قال الله تعالى : { قُلْ إِنَّ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ. لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } أي : أخبرهم يا محمد أن الأولين والآخرين من بني آدم سيجمعون إلى عَرَصات القيامة ، لا نغادر منهم أحدًا ، كما قال : { ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ. وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [هود : 103 - 105]. ولهذا قال هاهنا : { لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } أي : هو موقت بوقت مُحَدَّد ، لا يتقدم ولا يتأخر ، ولا يزيد ولا ينقص.
{ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ. لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ. فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ } : وذلك أنهم يقبضون ويُسَجَرون حتى يأكلوا من شجر الزقوم ، حتى يملؤوا منها بطونهم ، { فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ. فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ } وهي الإبل العطاش ، واحدها أهيم ، والأنثى هيماء ، ويقال : هائم وهائمة.
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جُبَيْر ، وعكرمة : الهِيم : الإبل العطاش الظماء.
وعن عِكْرِمَة أنه قال : الهيم : الإبل المراض ، تَمص الماء مَصًّا ولا تَرْوَى.
وقال السدي : الهيم : داء يأخذ الإبل فلا تَرْوَى أبدًا حتى تموت ، فكذلك أهل جهنم لا يروون من الحميم أبدًا.

(7/538)


نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)

وعن خالد بن معدان : أنه كان يكره أن يشرب شُرْبَ الهيم عَبَّة واحدة من غير أن يتنفس ثلاثًا.
ثم قال تعالى : { هَذَا نزلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ } أي : هذا الذي وصفنا هو ضيافتهم عند ربهم يوم حسابهم ، كما قال في حق المؤمنين : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نزلا } [الكهف : 107] أي : ضيافة وكرامة.
{ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) }.
يقول تعالى مُقررًا للمعاد (1) ، وردًّا على المكذبين به من أهل الزيغ والإلحاد ، من الذين قالوا : { أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } [الصافات : 16] ، وقولهم ذلك صدر منهم على وجه التكذيب والاستبعاد ، فقال : { نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ } أي : نحن ابتدأنا خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا ، أفليس الذي قدر على البداءة بقادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى ؛ فلهذا قال : { فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ } أي : فهلا تصدقون بالبعث! ثم قال مستدلا عليهم بقوله : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ. أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ } أي : أنتم تقرونه في الأرحام وتخلقونه فيها ، أم الله الخالق لذلك ؟
ثم قال : { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ } أي : صرفناه بينكم.
وقال الضحاك : ساوى فيه بين أهل السماء والأرض.
{ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } أي : وما نحن بعاجزين.
{ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ } أي : نغير خلقكم يوم القيامة ، { وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ } أي : من الصفات والأحوال.
ثم قال : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ } أي : قد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا ، فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ، فهلا تتذكرون وتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة - وهي البَداءة - قادر على النشأة الأخرى ، وهي الإعادة بطريق الأولى والأحرى ، وكما قال : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم : 27] ، وقال : { أَوَلا يَذْكُرُ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا } [مريم : 67] ، وقال : { أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس : 77 - 79] ، وقال تعالى : { أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى. أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى. ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى. أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } ؟ [القيامة : 36 - 40].
__________
(1) في أ : "للعباد".

(7/539)


أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)

{ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنزلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) }
يقول : {. أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ } ؟ وهو شق الأرض وإثارتها والبذر فيها ، { أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ } أي : تنبتونه في الأرض { أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ } أي : بل نحن الذين نُقِرُّه قراره وننبته في الأرض.
قال ابن جرير : وقد حدثني أحمد بن الوليد القرشي ، حدثنا مسلم بن أبي مسلم الجَرْمي ، حدثنا مخلد بن الحسين ، عن هشام ، عن محمد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تقولن : زرعتُ ، ولكن قل : حرثتُ" قال أبو هريرة : ألم تسمع إلى قوله : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ. أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ }.
ورواه البزار ، عن محمد بن عبد الرحيم ، عن مسلم ، الجميع به (1).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن عطاء ، عن أبي عبد الرحمن : لا تقولوا : زرعنا ولكن قولوا : حرثنا.
وروي عن حُجْر المدَرِيّ أنه كان إذا قرأ : { أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ } وأمثالها يقول : بل أنت يا رب.
وقوله : { لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا } أي : نحن أنبتناه بلطفنا ورحمتنا ، وأبقيناه لكم رحمة بكم ، ولو نشاء لجعلناه حطامًا ، أي : لأيبسناه قبل استوائه واستحصاده ، { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ }. ثم فسر ذلك بقوله : { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ. بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي : لو جعلناه حطاما لظَلْتُم تفكهون في المقالة ، تنوعون كلامكم ، فتقولون تارة : { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ } أي : لَمُلْقَون.
وقال مجاهد ، وعكرمة : إنا لمولع بنا ، وقال قتادة : معذبون. وتاره تقولون : بل نحن محرومون.
وقال مجاهد أيضا : { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ } ملقون للشر ، أي : بل نحن مُحَارَفون ، قاله قتادة ، أي : لا يثبت لنا مال ، ولا ينتج لنا ربح.
__________
(1) تفسير الطبري (27/114) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (1135) والبيهقي في السنن الكبرى (6/138) من طريق مسلم بن أبي مسلم الجرمي عن مخلد بن الحسين به نحوه وضعفه السيوطي في الدر المنثور (8/23) وأشار البيهقي إلى ضعفه فقال بعد أن ذكره من قول مجاهد : "وقد روى فيه حديث مرفوع غير قوي".

(7/540)


وقال مجاهد : { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي : مجدودون ، يعني : لا حظ لنا.
قال ابن عباس ، ومجاهد : { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } : تعجبون. وقال مجاهد أيضًا : { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } تفجعون وتحزنون على ما فاتكم من زرعكم.
وهذا يرجع إلى الأول ، وهو التعجب من السبب الذي من أجله أصيبوا في مالهم. وهذا اختيار ابن جرير (1).
وقال عكرمة : { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } تلاومون. وقال الحسن ، وقتادة ، والسدي : { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } تندمون. ومعناه إما على ما أنفقتم ، أو على ما أسلفتم من الذنوب.
قال الكسائي (2) : تفكه من الأضداد ، تقول العرب : تفكهت بمعنى تنعمت ، وتفكهت بمعنى حزنت.
ثم قال تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنزلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ } يعني : السحاب. قاله ابن عباس ، ومجاهد وغير واحد. {. أَمْ نَحْنُ الْمُنزلُونَ } يقول : بل نحن المنزلون.
{ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا } أي : زُعاقًا مُرًّا لا يصلح لشرب ولا زرع ، { فَلَوْلا تَشْكُرُونَ } أي : فهلا تشكرون نعمة الله عليكم في إنزاله المطر عليكم عذبًا زلالا! { لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ. يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل : 10 ، 11].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عثمان بن سعيد بن مرة ، حدثنا فُضَيل بن مرزوق ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه إذا شرب الماء قال : "الحمد لله الذي سقانا عذبًا فراتًا برحمته ، ولم يجعله ملحًا أجاجًا بذنوبنا" (3).
ثم قال : { أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ } أي : تقدحون من الزناد وتستخرجونها (4) من أصلها.
{ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ } أي : بل نحن الذين جعلناها مودعة في موضعها ، وللعرب شجرتان : إحداهما : المرخ ، والأخرى : العَفَار ، إذا أخذ منهما غصنان أخضران فحُك أحدهما بالآخر ، تناثر من بينهما شرر النار.
وقوله : { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً } قال مجاهد ، وقتادة : أي تُذَكّر النارَ الكبرى.
قال قتادة : ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يا قوم ، ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم". قالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية! قال : "قد ضُربت بالماء ضربتين - أو : مرتين - حتى يستنفع بها بنو آدم ويدنوا منها" (5).
__________
(1) تفسير الطبري (27/115).
(2) في أ : "قال السدي".
(3) وهذا مرسل وعزاه الهندي في كنز العمال (7/111) إلى أبي نعيم في الحلية.
(4) في م : "وتستخرجون".
(5) رواه الطبري في تفسيره (27/117).

(7/541)


وهذا الذي أرسله قتادة رواه الإمام أحمد في مسنده ، فقال :
حدثنا سفيان ، عن أبي الزِّناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم ، وضربت بالبحر مرتين ، ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد" (1).
وقال الإمام مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم". فقالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية فقال : "إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا".
رواه البخاري من حديث مالك ، ومسلم ، من حديث أبي الزناد (2) ، ورواه مسلم ، من حديث عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن همام ، عن أبي هريرة ، به (3). وفي لفظ : "والذي نفسي بيده ، لقد فُضِّلَت عليها بتسعة وستين جزءًا كلهن مثل حرها".
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن عمرو الخلال ، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ، حدثنا مَعْن بن عيسى القزاز ، عن مالك ، عن عمه أبي السهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتدرون ما مثل ناركم هذه من نار جهنم ؟ لهي أشد سوادًا من [دخان] (4) ناركم هذه بسبعين ضعفًا" (5).
قال الضياء المقدسي : وقد رواه ابن (6) مصعب عن مالك ، ولم يرفعه ، وهو عندي على شرط الصحيح.
وقوله : { وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والنضر بن عربي : معنى { لِلْمُقْوِينَ } المسافرين ، واختاره ابن جرير ، وقال : ومنه قولهم : "أقوت الدار إذا رحل أهلها".
وقال غيره : القيّ والقَوَاء : القفر الخالي البعيد من العمران.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : المقوي هنا الجائع.
وقال ليث ابن أبي سليم ، عن مجاهد : { وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ } للحاضر والمسافر ، لكل طعام لا يصلحه إلا النار. وكذا روى سفيان ، عن جابر الجعفي ، عن مجاهد.
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد قوله : { لِلْمُقْوِينَ } المستمتعين ، الناس أجمعين. وكذا ذكر عن عكرمة.
__________
(1) المسند (2/244).
(2) صحيح البخاري برقم (3265) وصحيح مسلم برقم (2843).
(3) صحيح مسلم برقم (2843).
(4) زيادة من المعجم الأوسط للطبراني.
(5) المعجم الأوسط برقم (4843) "مجمع البحرين".
(6) في م ، أ : "وقد رواه أبو".

(7/542)


فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)

وهذا التفسير أعم من غيره ، فإن الحاضر والبادي من غني وفقير الكل (1) محتاجون للطبخ والاصطلاء والإضاءة وغير ذلك من المنافع. ثم من لطف الله تعالى أن أودعها في الأحجار ، وخالص الحديد بحيث يتمكن المسافر من حمل ذلك في متاعه وبين ثيابه ، فإذا احتاج إلى ذلك في منزله أخرج زنده وأورى ، وأوقد ناره فأطبخ بها واصطلى ، واشتوى واستأنس بها ، وانتفع بها سائر الانتفاعات. فلهذا أفرد المسافرون وإن كان ذلك عامًّا في حق الناس كلهم. وقد يستدل له بما رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي خِدَاش حَبَّان بن زَيد الشَّرعَبي الشَّامي ، عن رجل من المهاجرين من قَرَن ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "المسلمون شركاء في ثلاثة : النار والكلأ والماء" (2).
وروى ابن ماجه بإسناد جيد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثلاثٌ لا يُمْنَعْنَ : الماء والكلأ والنار" (3).
وله من حديث ابن عباس مرفوعًا مثل هذا وزيادة : "وثمنه حرام" (4). ولكن في إسناده "عبد الله بن خِرَاش بن حَوْشب" وهو ضعيف ، والله أعلم.
وقوله : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } أي : الذي بقدرته خلق هذه الأشياء المختلفة المتضادة الماء العذب الزلال البارد ، ولو شاء لجعله ملحًا أجاجًا كالبحار المغرقة. وخلق النار المحرقة ، وجعل ذلك مصلحة للعباد ، وجعل هذه منفعة لهم في معاش دنياهم ، وزاجرًا لهم في المعاد.
{ فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) }.
__________
(1) في م ، أ : "الجميع".
(2) المسند (5/364) وسنن أبي داود برقم (3477).
(3) سنن ابن ماجه برقم (2472).
(4) سنن ابن ماجه برقم (2472).

(7/543)


إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)

{ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) }.
قال جُوَيبر ، عن الضحاك : إن الله لا يقسم بشيء من خلقه ، ولكنه استفتاح يستفتح به كلامه.
وهذا القول ضعيف. والذي عليه الجمهور أنه قسم من الله عز وجل ، يقسم بما شاء من خلقه ، وهو دليل على عظمته. ثم قال بعض المفسرين : "لا" هاهنا زائدة ، وتقديره : أقسم بمواقع النجوم. ورواه ابن جرير ، عن سعيد بن جُبَيْر. ويكون جوابه : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ }.
وقال آخرون : ليست "لا" زائدة لا معنى لها ، بل يؤتى بها في أول القسم إذا كان مقسمًا به على منفي ، كقول عائشة رضي الله عنها : "لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط" وهكذا هاهنا تقدير الكلام : "لا أقسم بمواقع النجوم ليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر أو كهانة ، بل هو قرآن كريم".

(7/543)


وقال ابن جرير : وقال بعض أهل العربية : معنى قوله : { فَلا أُقْسِمُ } فليس الأمر كما تقولون ، ثم استأنف القسم بعد فقيل : أقسم.
واختلفوا في معنى قوله : { بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } ، فقال حكيم بن جُبَيْر ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس يعني : نجوم القرآن ؛ فإنه نزل جملة ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا ، ثم نزل مُفَرَّقًا (1) في السنين بعد. ثم قرأ ابن عباس هذه الآية.
وقال الضحاك عن ابن عباس : نزل القرآن جملة من عند الله من اللوح المحفوظ إلى السَّفَرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا ، فنجَّمَته السَّفرة على جبريل عشرين ليلة ، ونجمه جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم عشرين سنة ، فهو قوله : { فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } نجوم القرآن.
وكذا قال عِكْرِمَة ، ومجاهد ، والسُّدِّيّ ، وأبو حَزْرَة.
وقال مجاهد أيضًا : { بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } في السماء ، ويقال : مطالعها ومشارقها. وكذا قال الحسن ، وقتادة ، وهو اختيار ابن جرير. وعن قتادة : مواقعها : منازلها. وعن الحسن أيضًا : أن المراد بذلك انتثارها يوم القيامة. وقال الضحاك : { فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } يعني بذلك : الأنواء التي كان أهل الجاهلية إذا مُطِروا ، قالوا : مطرنا بنوء كذا وكذا.
وقوله : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } أي : وإن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم ، لو تعلمون (2) عظمته لعظمتم المقسم به عليه ، { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } أي : إن هذا القرآن الذي نزل على محمد لكتاب عظيم. { فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } أي : معظّم في كتاب معظم محفوظ موقر.
قال ابن جرير : حدثني إسماعيل بن موسى (3) ، أخبرنا شريك ، عن حكيم - هو ابن جبير - عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس : { لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ } قال : الكتاب الذي في السماء.
وقال العَوْفِيّ ، عن ابن عباس : { [ لا يَمَسُّهُ ] إِلا الْمُطَهَّرُونَ } (4) يعني : الملائكة. وكذا قال أنس ، ومجاهد ، وعِكْرِمَة ، وسعيد بن جُبَيْر ، والضحاك ، وأبو الشعثاء جابر بن زيد ، وأبو نَهِيك ، والسُّدِّيّ ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور ، حدثنا معمر ، عن قتادة : { لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ } قال : لا يمسه عند الله إلا المطهرون ، فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس ، والمنافق الرجس. وقال : وهي في قراءة ابن مسعود : { مَا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ }.
وقال أبو العالية : { لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ } ليس أنتم أصحاب الذنوب.
وقال ابن زيد : زَعَمت كفار قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين ، فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون كما قال : { وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ. وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ. إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } [الشعراء : 210 - 212].
__________
(1) في أ : "متفرقا".
(2) في أ : "لو علمتم".
(3) في م ، أ : "موسى ابن إسماعيل".
(4) زيادة من م.

(7/544)


وهذا القول قول جيد ، وهو لا يخرج عن الأقوال التي قبله.
وقال الفراء : لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به.
وقال آخرون : { لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ } أي : من الجنابة والحدث. قالوا : ولفظ الآية خبر ومعناها الطلب ، قالوا : والمراد بالقرآن هاهنا المصحف ، كما روى مسلم ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو ، مخافة أن يناله العدو (1). واحتجوا في ذلك بما رواه الإمام مالك في موطئه ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزم : أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم : ألا يمس القرآن إلا طاهر (2). وروى أبو داود في المراسيل ، من حديث الزهري قال : قرأت في صحيفة عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ولا يمس القرآن إلا طاهر" (3).
وهذه وِجَادةٌ جيدة. قد قرأها الزهري وغيره ، ومثل هذا ينبغي (4) الأخذ به. وقد أسنده الدارقطني عن عمرو بن حزم ، وعبد الله بن عمر ، وعثمان بن أبي العاص ، وفي إسناد كل منها نظر (5) ، والله أعلم.
وقوله : { تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : هذا القرآن منزل من [الله] (6) رب العالمين ، وليس هو كما يقولون : إنه سحر ، أو كهانة ، أو شِعر ، بل هو الحق الذي لا مِرْية فيه ، وليس وراءه حق نافع.
وقوله : { أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ } قال العَوْفِيّ ، عن ابن عباس : أي مكذبون غير مصدقين. وكذا قال الضحاك ، وأبو حَزْرَة ، والسُّدِّيّ.
وقال مجاهد : { مُدْهِنُونَ } أي : تريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا إليهم.
{ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } قال بعضهم : يعني : وتجعلون رزقكم بمعنى شكركم أنكم تكذبون ، أي : تكذبون بدل الشكر.
وقد روي عن علي ، وابن عباس أنهما قرآها : "وتجعلون شكركم (7) أنكم تكذبون" كما سيأتي.
وقال ابن جرير : وقد ذكر عن الهيثم بن عدي : أن من لغة أزد شَنوءةَ : ما رزق فلان بمعنى : ما شكر فلان.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا إسرائيل ، عن عبد الأعلى ، عن أبي
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1869) وهو أيضا في صحيح البخاري برقم (2990).
(2) الموطأ (1/199).
(3) المراسيل برقم (257).
(4) في أ : "لا ينبغي".
(5) سنن الدار قطني (1/12 ، 122).
(6) زيادة من أ.
(7) في أ : "بشكركم".

(7/545)


عبد الرحمن ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } ، يقول : "شكركم { أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } ، تقولون : مطرنا بِنَوء كذا وكذا ، بنجم كذا وكذا" (1).
وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن مُخَوَّل (2) بن إبراهيم النهدي - وابن جرير ، عن محمد بن المثنى ، عن عبيد الله بن موسى ، وعن يعقوب بن إبراهيم ، عن يحيى بن أبي بُكَيْر ، ثلاثتهم عن إسرائيل ، به مرفوعًا (3). وكذا رواه الترمذي ، عن أحمد بن مَنِيع ، عن حسين بن محمد - وهو المروزي - به. وقال : "حسن غريب". وقد رواه سفيان ، عن عبد الأعلى ، ولم يرفعه (4).
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : ما مُطِرَ قوم قط إلا أصبح بعضهم كافرًا يقولون : مُطِرْنَا بنوء كذا وكذا. وقرأ ابن عباس : "وتجعلون شكركم أنكم تكذبون".
وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس.
وقال مالك في الموطأ ، عن صالح بن كيْسَان ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن زيد بن خالد الجُهَنّي أنه قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : "هل تدرون ماذا قال ربكم ؟" قالوا : الله ورسوله أعلم. "قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب. وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا. فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب".
أخرجاه في الصحيحين ، وأبو داود ، والنسائي ، كلهم من حديث مالك ، به (5).
وقال مسلم : حدثنا محمد بن سلمة المرادي ، وعَمْرو بن سَوّاد ، حدثنا عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث ؛ أن أبا يونس حَدَّثه ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين ، ينزل الغيث ، فيقولون : بكوكب كذا وكذا".
تَفَرَّد به مسلم من هذا الوجه (6).
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا سفيان ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله لَيُصْبِحُ القومَ بالنعمة أو يُمسيهم بها فيصبح بها قوم كافرين يقولون : مُطِرنا بنوء كذا وكذا".
__________
(1) المسند (1/108).
(2) في أ : "عن محمد".
(3) تفسير الطبري (27/119).
(4) سنن الترمذي برقم (3295).
(5) الموطأ (1/192) وصحيح البخاري برقم (846) وصحيح مسلم برقم (71) وسنن أبي داود برقم (3906) وسنن النسائي (3/164).
(6) صحيح مسلم برقم (72).

(7/546)


فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)

قال محمد - هو ابن إبراهيم - : فذكرت هذا الحديث لسعيد بن المسيب ، فقال : ونحن قد سمعنا من أبي هُرَيرة ، وقد أخبرني من شهد عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، وهو يستسقي ، فلما استسقى التفت إلى العباس فقال : يا عباس ، يا عم رسول الله ، كم بقى من نوء الثريا ؟ فقال : العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق بعد سقوطها سبعًا. قال : فما مضت سابعة حتى مُطِروا (1).
وهذا مَحمول على السؤال عن الوقت الذي أجرى الله فيه العادة بإنزال المطر ، لا أن ذلك النوء يؤثر بنفسه في نزول المطر ؛ فإن هذا هو المنهي عن اعتقاده. وقد تقدم شيء من هذه الأحاديث عند قوله : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا } [فاطر : 2].
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا سفيان ، عن إسماعيل بن أمية - أحسبه أو غيره - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا - ومطروا - يقول : مُطِرنا ببعض عَشَانين الأسد. فقال : "كذبت! بل هو رزق الله" (2).
ثم قال ابن جرير : حدثني أبو صالح الصراري ، حدثنا أبو جابر محمد بن عبد الملك الأزدي (3) ، حدثنا جعفر بن الزبير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما مُطِر قوم من ليلة إلا أصبح قوم بها كافرين" (4). ثم قال : " { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } ، يقول قائل : مُطِرنا بنجم كذا وكذا" (5).
وفي حديث عن أبي سعيد مرفوعًا : "لو قُحِطَ الناس سبع سنين ثم مطروا لقالوا : مطرنا بنوء المِجْدَح" (6).
وقال مجاهد : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } قال : قولهم في الأنواء : مُطِرنا بنوء كذا ، وبنوء كذا ، يقول : قولوا : هو من عند الله ، وهو رزقه. وهكذا قال الضحاك وغير واحد.
وقال قتادة : أما الحسن فكان يقول : بئس ما أخذ قوم لأنفسهم ، لم يرزقوا من كتاب الله إلا التكذيب. فمعنى قول الحسن هذا : وتجعلون حظكم من كتاب الله أنكم تكذبون به ؛ ولهذا قال قبله : { أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ. وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ }
{ فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) }.
يقول تعالى : { فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ } أي : الروح { الْحُلْقُومَ } أي : الحلق ، وذلك حين الاحتضار
__________
(1) تفسير الطبري (27/120).
(2) تفسير الطبري (27/120).
(3) في أ : "الأودي".
(4) في أ : "كافرون" وهو خطأ.
(5) تفسير الطبري (27/120).
(6) رواه الإمام أحمد في مسنده (3/7) وابن حبان في صحيحه برقم (606) "موارد" من طريق عمرو بن دينار عن عتاب بن حنين عن أبي سعيد بلفظ : "لو أمسك الله القطر عن الناس سبع سنين ثم أرسله لأصبحت طائفة بها كافرين يقولون : مطرنا بنوء المجدح".

(7/547)


فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

كما قال : { كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ. وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ. وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ. وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ. إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ } [القيامة : 26 ، 30] ؛ ولهذا قال هاهنا : { وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ } أي : إلى المحتضر وما يُكابده من سكرات الموت.
{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ } أي : بملائكتنا { وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ } أي : ولكن لا ترونهم. كما قال في الآية الأخرى : { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ. ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } [الأنعام : 61 ، 62].
وقوله : { فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا } : معناه : فهلا تَرجعُون هذه النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مكانها الأول (1) ، ومقرها في الجسد إن كنتم غير مدينين.
قال ابن عباس : يعني محاسبين. ورُوي عن مجاهد ، وعِكْرِمَة ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، والسُّدِّيّ ، وأبي حَزْرَة ، مثله.
وقال سعيد بن جُبَيْر ، والحسن البَصْرِي : { فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } غير مصدقين أنكم تُدانون وتبعثون وتجزون ، فردوا هذه النفس.
وعن مجاهد : { غَيْرَ مَدِينِينَ } غير موقنين.
وقال ميمون بن مِهْران : غير معذبين مقهورين.
{ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنزلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) }.
هذه الأحوال الثلاثة هي أحوال الناس عند احتضارهم : إما أن يكون من المقربين (2) ، أو يكون ممن دونهم من أصحاب اليمين. وإما أن يكون من المكذبين الضالين عن الهدى ، الجاهلين بأمر الله ؛ ولهذا قال تعالى : { فَأَمَّا إِنْ كَانَ } أي : المحتضر ، { مِنَ الْمُقَرَّبِينَ } ، وهم الذين فعلوا الواجبات والمستحبات ، وتركوا المحرمات والمكروهات وبعض المباحات ، { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ } أي : فلهم روح وريحان ، وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت ، كما تقدم في حديث البراء : أن ملائكة الرحمة تقول : "أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه ، اخرجي إلى روح وريحان ، ورب غير غضبان".
قال علي بن طلحة (3) ، عن ابن عباس : { فَرَوْحٌ } يقول : راحة وريحان ، يقول : مستراحة.
__________
(1) في م : "الأولى".
(2) في أ : "المقربين العلية".
(3) في م ، أ : "علي بن أبي طلحة".

(7/548)


وكذا قال مجاهد : إن الروح : الاستراحة.
وقال أبو حَزْرَة : الراحة من الدنيا. وقال سعيد بن جُبَيْر ، والسدي : الروح : الفرح. وعن مجاهد : { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ } : جنة ورخاء. وقال قتادة : فروح ورحمة (1). وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير : { وَرَيْحَانٌ } : ورزق.
وكل هذه الأقوال متقاربة صحيحة ، فإن من مات مقربًا حصل له جميعُ ذلك من الرحمة والراحة والاستراحة ، والفرح والسرور والرزق الحسن ، { وَجَنَّةُ نَعِيمٍ }.
وقال أبو العالية : لا يفارق أحد من المقربين حتى يُؤْتَى بغصن من ريحان الجنة ، فيقبض روحه فيه.
وقال محمد بن كعب : لا يموت أحدٌ من الناس حتى يعلم : أمن أهل الجنة هو أم [من] (2) أهل النار ؟
وقد قدمنا أحاديث الاحتضار عند قوله تعالى في سورة إبراهيم : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ [فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ] } [إبراهيم : 27] ، (3) ، ولو كتبت هاهنا لكان حسنًا! ومن جملتها حديث تميم الداري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "يقول الله لملك الموت : انطلق إلى فلان (4) فأتني به ، فإنه قد جربته بالسراء والضراء فوجدته حيث أحب ، ائتني به فلأريحنه. قال : فينطلق إليه ملك الموت ومعه خمسمائة من الملائكة ، معهم أكفان وحَنُوط من الجنة ، ومعهم ضَبَائر الريحان ، أصل الريحانة واحد وفي رأسها عشرون لونًا ، لكل لون منها ريح سوى ريح صاحبه ، ومعهم الحرير الأبيض فيه المسك".
وذكر تمام الحديث بطوله كما تقدم (5) ، وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الآية : قال (6) الإمام أحمد :
حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا هارون ، عن بُدَيل بن ميسرة (7) ، عن عبد الله بن شَقِيق ، عن عائشة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : { فَرُوْحٌ وَرَيْحَانٌ } برفع الراء.
وكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، من حديث هارون - وهو ابن موسى الأعور - به (8) ، وقال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديثه.
وهذه القراءة هي قراءة يعقوب وحده ، وخالفه الباقون فقرؤوا : { فَرَوْحٌ } بفتح الراء.
__________
(1) في أ : "فروح وريحان".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من م.
(4) في م ، أ : "إلى وليي".
(5) انظر : تفسير سورة إبراهيم الآية : 27.
(6) في م : "فقال".
(7) في أ : "بن قيس".
(8) المسند (6/64) وسنن أبي داود برقم (3991) وسنن الترمذي برقم (2938) وسنن النسائي الكبرى برقم (11566).

(7/549)


وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، حدثنا أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل : أنه سمع درّة بنت معاذ تحدث عن أم هانئ : أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتزاور إذا متنا ويرى بعضنا بعضًا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تكون النَسمُ (1) طيرًا يعلق بالشجر ، حتى إذا كان يوم القيامة دخلت كل نفس في جسدها" (2).
هذا الحديث فيه بشارة لكل مؤمن ، ومعنى "يعلق" : يأكل ، ويشهد له بالصحة أيضًا ما رواه الإمام أحمد ، عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي ، عن الإمام مالك بن أنس ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إنما نَسَمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه" (3). وهذا إسناد عظيم ، ومتن قويم.
وفي الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة (4) حيث شاءت ، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش" (5) الحديث.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا همام ، حدثنا عطاء بن السائب قال : كان أول يوم عرفت فيه عبد الرحمن بن أبي ليلى : رأيت شيخًا (6) أبيض الرأس واللحية على حمار ، وهو يتبع جنازة ، فسمعته يقول : حدثني فلان بن فلان ، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه". قال : فأكب القوم يبكون فقال : "ما يُبكيكم ؟" فقالوا : إنا نكره الموت. قال : "ليس ذاك ، ولكنه إذا حُضِر { فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ } ، فإذا بُشِّر بذلك أحب لقاء الله عز وجل ، والله ، عز وجل ، للقائه أحب { وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ. فَنزلٌ مِنْ حَمِيمٍ [ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ] } (7) فإذا بُشِّر بذلك كره لقاء الله ، والله للقاءه أكره.
هكذا رواه الإمام أحمد (8) ، وفي الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - شاهد لمعناه (9).
وقوله : { وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ } أي : وأما إن كان المحتضر من أصحاب اليمين ، { فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ } أي : تبشرهم الملائكة بذلك ، تقول لأحدهم : سلام لك ، أي : لا بأس عليك ، أنت إلى سلامة ، أنت من أصحاب اليمين.
وقال قتادة وابن زيد : سَلِمَ من عذاب الله ، وسَلَّمت عليه ملائكة الله. كما قال عِكْرِمَة تسلم عليه الملائكة ، وتخبره أنه من أصحاب اليمين.
__________
(1) في م ، أ : "النسمة".
(2) المسند (6/424).
(3) المسند (3/455).
(4) في م : "في رياض الجنة".
(5) تقدم الحديث عند تفسير الآية : 169 من سورة آل عمران ، وانظر تخريجه هناك.
(6) في أ : "شخصا".
(7) زيادة من م.
(8) المسند (4/259).
(9) صحيح مسلم برقم (2684).

(7/550)


وهذا معنى حسن ويكون ذلك كقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ. نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ } [فصلت : 30 - 32].
وقال البخاري : { فَسَلامٌ لَكَ } أي : مُسلم لك ، أنك من أصحاب اليمين. وألغيت "إن" (1) وهو : معناها ، كما تقول : أنت مُصَدق مسافر عن قليل. إذا كان قد قال : إني مسافر عن قليل. وقد يكون كالدعاء له ، كقولك : سقيًا لك من الرجال ، إن رفعت "السلام" فهو من الدعاء (2).
وقد حكاه ابن جرير هكذا عن بعض أهل العربية ، ومال إليه ، والله أعلم (3).
وقوله : { وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ. فَنزلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } أي : وأما إن كان المحتضر من المكذبين بالحق ، الضالين عن الهدى ، { فَنزلٌ } أي : فضيافة { مِنْ حَمِيمٍ } وهو المذاب الذي يصهر به ما في بطونهم والجلود ، { وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } أي : وتقرير له في النار التي تغمره من جميع جهاته.
ثم قال تعالى : { إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ } أي : إن هذا الخبر لهو حق اليقين الذي لا مرية فيه ، ولا محيد لأحد عنه.
{ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } قال أحمد :
حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا موسى بن أيوب الغافقي ، حدثني عمِّي إياس بن عامر ، عن عقبة بن عامر الجهني قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } قال : "اجعلوها في ركوعكم" ولما نزلت : { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى } [الأعلى : 1] ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اجعلوها في سجودكم".
وكذا رواه أبو داود ، وابن ماجة من حديث عبد الله بن المبارك ، عن موسى بن أيوب ، به (4).
وقال روح بن عبادة : حدثنا حَجَّاجُ الصَّوافُ ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قال : سبحان الله العظيم وبحمده ، غُرِسَتْ له نخلة في الجنة".
هكذا رواه الترمذي من حديث روح (5) ، ورواه هو والنسائي أيضًا من حديث حماد بن سلمة ، من حديث أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم (6) ، وقال الترمذي : حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث أبي الزبير.
__________
(1) في م : "من".
(2) صحيح البخاري (8/625) "فتح".
(3) تفسير الطبري (27/123).
(4) المسند (4/155) وسنن أبي داود برقم (2869) وسنن ابن ماجه برقم (887).
(5) سنن الترمذي برقم (3464).
(6) سنن الترمذي برقم (3465) وسنن النسائي الكبرى برقم (10663) لكن النسائي رواه من طريق حماد بن سلمة عن حجاج الصواف ، عن أبي الزبير خلافا للترمذي ، فإنه لم يذكر في هذه الرواية حجاج الصواف فليتنبه.

(7/551)


وقال البخاري في آخر كتابه : حدثنا أحمد بن إشكاب ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا عُمارة بن القعقاع ، عن أبي زُرْعَة ، عن أبي هُريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كلمتان خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان ، حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم".
ورواه بقية الجماعة إلا أبا داود ، من حديث محمد بن فضيل ، بإسناده ، مثله (1).
__________
(1) صحيح البخاري برقم (7563) وصحيح مسلم برقم (2694) وسنن الترمذي برقم (3467) وسنن النسائي الكبرى برقم (10666) وسنن ابن ماجه برقم (3806).

(7/552)


سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)

تفسير سورة الحديد
وهي مدنية.
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد ، حدثني بحير بن سعد ، عن خالد بن مَعْدَان ، عن بن أبي بلال ، عن عِرْبَاض بن سارية ، أنه حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد ، وقال : "إن فيهن آية أفضل من ألف آية".
وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، من طرق عن بقية ، به (1) وقال الترمذي : حسن غريب.
ورواه النسائي عن ابن أبي السرح ، عن ابن وهب ، عن معاوية بن صالح ، عن بحير بن سعد ، عن خالد بن معدان قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم... فذكره مُرْسَلا لم يذكر عبد الله بن أبي بلال ، ولا العرباض بن سارية (2)
والآية المشار إليها في الحديث هي - والله أعلم - قوله : { هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } كما سيأتي بيانه إن شاء الله وبه الثقة (3)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)
يخبر تعالى أنه يسبح له ما في السموات والأرض أي : من الحيوانات والنباتات ، كما قال في الآية الأخرى : { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } [الإسراء : 44].
وقوله : { وَهُوَ الْعَزِيزُ } أي : الذي قد خضع له كل شيء { الحكيم } في خلقه وأمره وشرعه
{ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي : هو المالك المتصرف في خلقه فيحيي ويميت ، ويعطي من يشاء ما يشاء ، { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وقوله : { هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } وهذه الآية هي المشار إليها في حديث العرباض بن سارية : أنها أفضل من ألف آية.
__________
(1) المسند (4/128) وسنن أبي داود برقم (5057) وسنن الترمذي برقم (3406) وسنن النسائي الكبرى برقم (8026)
(2) سنن النسائي الكبرى برقم (10551).
(3) في م ، أ : "سيأتي بيانه قريبًا إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان وهو حسبنا ونعم الوكيل".

(7/5)


وقال أبو داود حدثنا عباس بن عبد العظيم حدثنا النضر بن محمد ، حدثنا عكرمة - يعنى بن عمار - حدثنا أبو زُمَيْل قال : سألت بن عباس فقلت : ما شيء أجده في صدري ؟ قال ما هو ؟ قلت والله لا أتكلم به قال : فقال لي أشيء من شك ؟ قال - وضحك - قال : ما نجا من ذلك أحد قال حتى أنزل الله { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ [ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ] } (1) الآية [يونس : 94] قال : وقال لي : إذا وجدت في نفسك شيئاً فقل : { هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (2)
وقد اختلفت عبارات المفسرين في هذه الآية وأقوالهم على نحو من بضعة عشر قولا.
وقال البخاري : قال يحيى : الظاهر على كل شيء علمًا والباطن على كل شيء علمًا (3)
قال شيخنا الحافظ المزيّ : يحيى هذا هو بن زياد الفراء ، له كتاب سماه : "معاني القرآن".
وقد ورد في ذلك أحاديث ، فمن ذلك ما قال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا ابن عياش ، عن سُهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو (4) عند النوم : "اللهم ، رب السموات السبع ، ورب العرش العظيم ، ربنا ورب كل شيء ، منزل التوراة والإنجيل والفرقان ، فالق الحب والنوى ، لا إله إلا أنت ، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته ، أنت الأول ليس (5) قبلك شيء وأنت الآخر ليس (6) بعدك شيء ، وأنت الظاهر ليس فوقك شيء وأنت الباطن ليس دونك شيء. اقض عنا الدين ، وأغننا من الفقر" (7)
ورواه مسلم في صحيحه : حدثني زهير بن حرب ، حدثنا جرير عن سُهَيل قال : كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام : أن يضطجع على شقه الأيمن ، ثم يقول : اللهم ، ربّ السموات وربّ الأرض وربّ العرش العظيم ، رَبَّنَا وربّ كل شيء ، فالق الحب والنوى ، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان ، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته ، اللهم ، أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عنا الدين ، وأغننا من الفقر.
وكان يروي ذلك ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (8)
وقد روى الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده عن عائشة أم المؤمنين نحو هذا ، فقال حدثنا عقبة ، حدثنا يونس ، حدثنا السري بن إسماعيل ، عن الشعبى ، عن مسروق ، عن عائشة أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بفراشه فيفرش له مستقبل القبلة ، فإذا أوى إليه توسد كفه اليمنى ، ثم همس - ما يدرى ما يقول - فإذا كان في آخر الليل رفع صوته فقال : "اللهم ، رب السموات السبع ورب العرش العظيم ، إله كل شيء ، ورب كل شيء ، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان ،
__________
(1) زيادة من م.
(2) سنن أبي داود برقم (5110).
(3) صحيح البخاري (13/361) "فتح".
(4) في م : "يقول".
(5) في م : "فليس".
(6) في م : "فليس"
(7) المسند (2/404).
(8) صحيح مسلم برقم (2713).

(7/6)


فالق الحب والنوى ، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته اللهم ، أنت الأول الذي ليس (1) قبلك شيء ، وأنت الآخر الذي ليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عنا الدين ، وأغننا من الفقر" (2)
السري بن إسماعيل هذا ابن عم الشعبي ، وهو ضعيف جداً والله أعلم.
وقال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية : حدثنا عبدُ بن حميد وغير واحد - المعنى واحد - قالوا : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة قال : حدث الحسن ، عن أبي هريرة قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه ، إذ أتى عليهم سَحَاب فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : "هل تدرون ما هذا ؟". قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : "هذا العَنَان ، هذه رَوَايا الأرض تسوقه إلى قوم لا يشكرونه ولا يَدْعُونه". ثم قال : "هل تدرون ما فوقكم ؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال " فإنها الرقيع ، سقف محفوظ ، وموج مكفوف". ثم قال : "هل تدرون كم بينكم وبينها" قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : "بينكم وبينها خمسمائة سنة". ثم قال : "هل تدرون ما فوق ذلك ؟" قالوا : الله ورسوله أعلم قال : " فإن فوق ذلك سماء (3) بُعدُ ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة - حتى عدَّ سبع سموات - ما بين كل سماءين كما بين السماء والأرض". ثم قال : "هل تدرون ما فوق ذلك ؟" قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : " فإن فوق ذلك العرش ، وبينه وبين السماء بُعدُ (4) ما بين السماءين". ثم قال : "هل تدرون ما الذي تحتكم ؟". قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : "فإنها الأرض". ثم قال : "هل تدرون ما الذي تحت ذلك ؟". قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : "فإن تحتها أرضاً أخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة - حتى عدَّ (5) سبع أرضين - بين كل أَرْضَيْن مسيرة خمسمائة سنة". ثم قال : "والذي نفس محمد بيده ، لو أنكم دَليتم بحبل إلى الأرض السفلي لهبط على الله" ، ثم قرأ : { هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب من هذا الوجه ، ويُروى عن أيوب ويونس - يعني بن عبيد - وعلي بن زيد قالوا : لم يسمع الحسن من أبي هريرة. وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقالوا : إنما هَبَط على علْم الله وقدرته وسلطانه ، وعلم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان ، وهو على العرش ، كما وصف في كتابه. انتهى كلامه (6)
وقد روى الإمام أحمد هذا الحديث عن سريج ، عن الحكم بن عبد الملك ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره ، وعنده بُعدُ ما بين الأرْضين مسيرة سبعمائة عام ، وقال : "لو دليتم أحدكم بحبل إلى الأرض السفلي السابعة لهبط على الله" ، ثم قرأ : { هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
__________
(1) في م : "فليس".
(2) مسند أبي يعلى (8/210).
(3) في م : "سماء بعد سماء".
(4) في م ، أ : "مثل بعد".
(5) في م : "عدد".
(6) سنن الترمذي برقم (3298).

(7/7)


ورواه بن أبي حاتم والبزار من حديث أبي جعفر الرازي ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي هريرة... فذكر الحديث ، ولم يذكر بن أبي حاتم آخره وهو قوله : "لو دليتم بحبل" ، وإنما قال : "حتى عَدّ سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة عام" ، ثم تلا { هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
وقال البزار : لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو هريرة.
ورواه بن جرير ، عن بشر ، عن يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : { هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في أصحابه إذ ثار عليهم سحاب ، فقال : "هل تدرون ما هذا ؟" (1) وذكر الحديث مثل سياق الترمذي سواء ، إلا أنه مرسل من هذا الوجه ، ولعل هذا هو المحفوظ ، والله أعلم. وقد روي من حديث أبي ذر الغفاري ، رضي الله عنه وأرضاه ، رواه البزار في مسنده ، والبيهقي في كتاب الأسماء والصفات (2) ولكن في إسناده نظر ، وفي متنه غرابة ونكارة ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقال ابن جرير عند قوله تعالى { وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ } [الطلاق "12"] حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور ، عن مَعْمَر ، عن قتادة قال : التقى أربعة من الملائكة بين السماء والأرض ، فقال بعضهم لبعض : من أين جئت ؟ قال أحدهم : أرسلني ربي ، عز وجل ، من السماء السابعة وتركته ثَمّ ، قال الآخر : أرسلني ربي ، عز وجل من الأرض السابعة وتركته ثَمّ ، قال الآخر : أرسلني ربي من المشرق وتركته ثَمّ ، قال الآخر : أرسلني ربي من المغرب وتركته ثَمّ (3)
وهذا [حديث] (4) غريب جداً ، وقد يكون الحديث الأول موقوفًا على قتادة كما روي هاهنا من قوله ، والله أعلم.
__________
(1) تفسير الطبري (27/124).
(2) الأسماء والصفات للبيهقي (ص 506) من طريق أحمد بن عبد الجبار ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي نصر ، عن أبي ذر ، ومن طريق البيهقي رواه الجوزقاني في الأباطيل (1/68) وقال : "هذا حديث منكر"
(3) تفسير الطبري (28/99).
(4) زيادة من م.

(7/8)


هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)

{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) }
يخبر تعالى عن خلقه السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، ثم أخبر باستوائه على العرش بعد خلقهن ، وقد تقدم الكلام على هذه الآية وأشباهها في سورة "الأعراف (1) بما أغنى عن إعادته هاهنا.
__________
(1) عند تفسير الآية : 54.

(8/8)


{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ } أي : يعلم عدد ما يدخل فيها من حب وقطر { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من زرع ونَبات وثمار ، كما قال : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [الأنعام : 59].
وقوله : { وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ } أي : من الأمطار ، والثلوج والبرَد ، والأقدار والأحكام مع الملائكة الكرام ، وقد تقدم في سورة "البقرة" أنه ما ينزل من قطرة من السماء إلا ومعها ملك يُقرّرها في المكان الذي يأمر الله به حيث يشاء تعالى.
وقوله : { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } أي : من الملائكة والأعمال ، كما جاء في الصحيح : "يُرْفَعُ إليه عَمَلُ الليل قبل النهار ، وعمل النهار قبل الليل" (1)
وقوله : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : رقيب عليكم ، شهيد على أعمالكم حيث أنتم ، وأين كنتم ، من بر أو بحر ، في ليل أو نهار ، في البيوت أو القفار ، الجميع في علمه على السواء ، وتحت بصره وسمعه ، فيسمع كلامكم ويرى مكانكم ، ويعلم سركم ونجواكم ، كما قال : { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [هود : 5]. وقال { سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } [الرعد : 10] ، فلا إله غيره ولا رب سواه. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال لجبريل ، لما سأله عن الإحسان : "أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
وروى الحافظ أبو بكر الإسماعيلي من حديث نصر بن خزيمة بن جنادة بن محفوظ بن علقمة ، حدثني أبي ، عن نصر بن علقمة ، عن أخيه ، عن عبد الرحمن بن عائذ قال : قال عمر : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : زودني كلمة أعيش بها فقال : "اسْتَحِ الله كما تستحي رجلا من صَالِح عشيرتك لا يفارقك" (2)
هذا حديث غريب ، وروى أبو نعيم من حديث عبد الله بن معاوية الغاضري مرفوعًا : "ثلاث من فَعَلَهُنَّ فقد طَعِمَ الإيمان : من عبد الله وحده ، وأعطى زكاة ماله طيبةً بها نفسه في كل عام ، ولم يعط الهَرَمة ولا الدَرنة ، ولا الشَّرط اللئيمة ولا المريضة ولكن من أوسط أموالكم. وزكى نَفْسَه" وقال رجل : يا رسول الله ، ما تزكية المرء نفسه ؟ فقال : "يعلم أن الله معه حيث كان" (3)
وقال نُعَيْم بن حَمّاد ، رحمه الله : حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار الحمصي ، عن محمد بن مهاجر ، عن عُرْوَةَ بن رُوَيم ، عن عبد الرحمن بن غَنم ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت". غريب. (4)
__________
(1) صحيح مسلم برقم (179) من حديث أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه.
(2) وذكره المؤلف في مسند عمر بن الخطاب (2/609) من طريق الإسماعيلي وقال : "إسناده غريب ، وفي حديث القدر : "فإن لم تكن تراه فإنه يراك" وله شاهد من حديث سعيد بن يزيد عن بن عم له قال : قلت يا رسول الله أوصني ، قال : "استح من الله كما تستحي من الرجل الصالح من قومك". أخرجه مجشل في تاريخ واسط (ص209).
(3) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (4/96) من طريق الزبيدي عن يحيى بن جابر ، أن عبد الرحمن بن جبير حدثه أن أباه حدثه أن عبد الله بن معاوية الغاضري به ، ورواه أبو داود من طريق الزبيدي عن يحيى بن جابر ، عن جبير بن نفير به نحوه ، والأول أصح.
(4) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (47) "مجمع البحرين" عن مطلب ، عن نعيم بن حماد به وقال : "تفرد به عثمان". ورواه أبو نعيم في الحلية (6/124) عن الطبراني ، عن يحيى بن عثمان ، عن نعيم بن حماد به ، وقال : "غريب من حديث عروة لم نكتبه إلا من حديث محمد بن مهاجر". وعثمان بن سعيد لم يعرفه الهيثمي في المجمع (1/60) ، وذكره بن أبي حاتم في الجرح والتعديل (6/152) ونقل عن يحيى بن معين أنه ثقة.

(8/9)


آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)

وكان الإمام أحمد ينشد هذين البيتين :
إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلا تَقُلْ... خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ : عَلَيَّ رَقِيبُ...
وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفَلُ سَاعَةً... وَلا أَنَّ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ يَغِيبُ...
وقوله : { لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } أي : هو المالك للدنيا والآخرة كما قال : { وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأولَى } [الليل : 13] ، وهو المحمود على ذلك ، كما قال : { وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ } [القصص : 70] ، وقال { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } [سبأ : 1]. فجميع ما في السماوات والأرض ملك له ، وأهلهما عبيد أرقاء أذلاء بين يديه كما قال : { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [مريم : 93 - 95]. ولهذا قال : { وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } أي : إليه المرجع يوم القيامة ، فيحكم في خلقه بما يشاء ، وهو العادل الذي لا يجور ولا يظلم مثقال ذرة ، بل إن يكن أحدهم عمل حسنة واحدة يضاعفها إلى عشر أمثالها ، { وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء : 40] وكما قال تعالى : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [الأنبياء : 47].
وقوله : { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } أي : هو المتصرف في الخلق ، يقلب الليل والنهار ويقدرهما بحكمته كما يشاء ، فتارة يطول الليل ويقصر النهار ، وتارة بالعكس ، وتارة يتركهما معتدلين. وتارة يكون الفصل شتاء ثم ربيعًا ثم قيظًا ثم خريفًا ، وكل ذلك بحكمته وتقديره لما يريده بخلقه ، { وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : يعلم السرائر وإن دقت ، وإن خفيت.
{ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنزلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) }

(8/10)


أمر تعالى بالإيمان به وبرسوله على الوجه الأكمل ، والدوام والثبات على ذلك والاستمرار ، وحث على الإنفاق مما جعلكم مستخلفين فيه أي مما هو معكم على سبيل العارية ، فإنه قد كان في أيدي من قبلكم ثم صار إليكم ، فأرشد تعالى إلى استعمال ما استخلفهم فيه من المال في طاعته ، فإن (1) يفعلوا وإلا حاسبهم عليه وعاقبهم لتركهم الواجبات فيه.
وقوله : { مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } فيه إشارة إلى أنه سيكون مخلفًا عنك ، فلعل وارثك أن يطيع الله فيه ، فيكون أسعد بما أنعم الله به عليك منك ، أو يعصي الله فيه فتكون قد سعيت في معاونته على الإثم والعدوان.
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت قتادة يحدث ، عن مُطَرَّف - يعني بن عبد الله بن الشّخّير - عن أبيه قال : انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : " { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } [التكاثر : 1] ، يقول ابن آدم : مالي مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت ؟".
ورواه مسلم من حديث شعبة ، به (2) وزاد : "وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس"
وقوله : { فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } ترغيب في الإيمان والإنفاق في الطاعة ،
ثم قال : { وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ } ؟ أي : وأي شيء يمنعكم من الإيمان والرسول بين أظهركم ، يدعوكم إلى ذلك ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به ؟ وقد روينا في الحديث من طُرُق في أوائل شرح "كتاب الإيمان" من صحيح البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لأصحابه : "أيُّ المؤمنين أعجب إليكم إيمانًا ؟" قالوا : الملائكة. قال : "وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم ؟" قالوا : فالأنبياء. قال : "وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم ؟". قالوا : فنحن ؟ قال : "وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم ؟ ولكن أعجب المؤمنين إيمانا قوم يجيؤون بعدكم يجدون صُحُفًا يؤمنون بما فيها" (3)
وقد ذكرنا طرفًا من هذا في أول سورة "البقرة" عند قوله : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } [البقرة : 3].
وقوله : { وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ } كما قال : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [المائدة : 7]. ويعني بذلك : بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وزعم ابن جرير أن المراد بذلك الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم ، وهو مذهب مجاهد ، فالله أعلم.
وقوله : { هُوَ الَّذِي يُنزلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أي : حججًا واضحات ، ودلائل باهرات ، وبراهين قاطعات ، { لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } أي : من ظلمات الجهل والكفر والآراء
__________
(1) في م : "وإن لم".
(2) المسند (4/24) وصحيح مسلم برقم (2958).
(3) سبق تخريج الحديث عند تفسير الآية : 3 من سورة البقرة.

(8/11)


المتضادة إلى نور الهدى واليقين والإيمان ، { وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } أي : في إنزاله الكتب وإرساله الرسل لهداية الناس ، وإزاحة العلل وإزالة الشبه.
ولما أمرهم أولا بالإيمان والإنفاق ، ثم حثهم على الإيمان ، وبين أنه قد أزال عنهم موانعه ، حثهم (1) أيضًا على الإنفاق. فقال : { وَمَا لَكُمْ أَلا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : أنفقوا ولا تخشَوا فقرًا (2) وإقلالا فإن الذي أنفقتم في سبيله هو مالك السموات والأرض ، وبيده مقاليدهما ، وعنده خزائنهما ، وهو مالك العرش بما حوى ، وهو القائل : { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [سبأ : 39] ، وقال { مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ } [النحل : 96] فمن توكل على الله أنفق ، ولم يخش من ذي العرش إقلالا وعلم أن الله سيخلفه عليه.
وقوله : { لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ } أي : لا يستوي هذا ومن لم يفعل كفعله ، وذلك أن قبل فتح مكة كان الحال شديدًا ، فلم يكن يؤمن حينئذ إلا الصديقون ، وأما بعد الفتح فإنه ظهر الإسلام ظهورًا عظيمًا ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ؛ ولهذا قال : { أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى }
والجمهور على أن المراد بالفتح هاهنا فتح مكة. وعن الشعبي وغيره أن المراد بالفتح هاهنا : صلح الحديبية ، وقد يستدل لهذا القول بما قال الإمام أحمد :
حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا زُهَير ، حدثنا حُمَيد الطويل ، عن أنس قال : كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام ، فقال خالد لعبد الرحمن : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها ؟ فبلغنا أن ذلك ذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده ، لو أنفقتم مثل أحد - أو مثل الجبال - ذهبًا ، ما بلغتم أعمالهم" (3)
ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد المواجه بهذا الخطاب كان بين صلح الحديبية وفتح مكة ، وكانت هذه المشاجرة بينهما في بني جَذيمة الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد بعد الفتح ، فجعلوا يقولون : "صبأنا ، صبأنا" ، فلم يحسنوا أن يقولوا : "أسلمنا" ، فأمر خالد بقتلهم وقتل من أسر منهم ، فخالفه عبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن عمر وغيرهما. فاختصم خالد وعبد الرحمن بسبب ذلك (4)
والذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده ، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ، ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نَصيفه" (5)
وروى ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من حديث ابن وهب : أخبرنا هشام بن سعد ، عن زيد بن
__________
(1) في م : "ثم حثهم".
(2) في أ : "قترًا".
(3) المسند (3/266).
(4) رواه البخاري في صحيحه برقم (7189) من حديث بن عمر ، رضي الله عنه.
(5) صحيح البخاري برقم (3673) وصحيح مسلم برقم (2541) من حديث أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه.

(8/12)


أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري أنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، حتى إذا كنا بعسفان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم" فقلنا : من هم يا رسول الله أقريش ؟ قال : لا ولكن أهل اليمن ، هم أرق أفئدةً وألين قلوبًا". فقلنا : أهم خير منا يا رسول الله ؟ قال : "لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ، ما أدرك مُدّ أحدكم ولا نَصيفه ، ألا إن هذا فضل ما بيننا وبين الناس ، { لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } (1)
]وهذا الحديث غريب بهذا السياق ، والذي في الصحيحين من رواية جماعة ، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد - ذَكَر الخوارج - : "تحقرون صلاتكم مع صلاتهم ، وصيامكم مع صيامهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" (2) الحديث. ولكن روى ابن جرير هذا الحديث من وجه آخر ، فقال :
حدثني بن البرقي ، حدثنا بن أبي مريم ، أخبرنا محمد بن جعفر ، أخبرني زيد بن أسلم ، عن أبي سعيد التمار ، عن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم". قلنا : من هم يا رسول الله ؟ قريش ؟ قال : "لا ولكن أهل اليمن ، لأنهم أرق أفئدة ، وألين قلوبًا". وأشار بيده إلى اليمن ، فقال : "هم أهل اليمن ، ألا إن الإيمان يمان ، والحكمة يمانية". فقلنا : يا رسول الله ، هم خير منا ؟ قال : "والذي نفسي بيده ، لو كان لأحدهم جبل من ذهب ينفقه ما أدى مُدّ أحدكم ولا نصيفه". ثم جمع أصابعه ومد خنصره ، وقال : "ألا إن هذا فضلُ ما بيننا وبين الناس ، { لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } ]" (3) (4)
فهذا السياق ليس فيه ذكر الحديبية فإن كان ذلك محفوظا كما تقدم ، فيحتمل أنه أنزل قبل الفتح إخبارا عما بعده ، كما في قوله تعالى في سورة "المزمل" - وهي مكية ، من أوائل ما نزل - : { وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } الآية [المزمل : 20] فهي بشارة بما يستقبل ، وهكذا هذه والله أعلم.
وقوله : { وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } يعني المنفقين قبل الفتح وبعده ، كلهم لهم ثواب على ما عملوا ، وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء كما قال : { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء : 95]. وهكذا (5) الحديث الذي في الصحيح : "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ،
__________
(1) تفسير الطبري (27/127).
(2) صحيح البخاري برقم (6931) وصحيح مسلم برقم (4601).
(3) زيادة من م ، أ.
(4) تفسير الطبري (17/127).
(5) في م ، أ : "وهذا".

(8/13)


وفي كل خير" (1) وإنما نَبَّه بهذا لئلا يُهدرَ جانب الآخر بمدح الأول دون الآخر ، فيتوهم متوهم ذمه ؛ فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه ، مع تفضيل الأول عليه ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : فلخبرته فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل ، ومن فعل ذلك بعد ذلك ، وما ذلك إلا لعلمه بقصد الأول وإخلاصه التام ، وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق. وفي الحديث : "سبق درهم مائة ألف" (2) ولا شك عند أهل الإيمان أن الصديق أبا بكر ، رضي الله عنه ، له الحظ الأوفر من هذه الآية ، فإنه سيّد من عمل بها من سائر أمم الأنبياء ، فإنه أنفق ماله كله ابتغاء وجه الله ، عز وجل ، ولم يكن لأحد عنده نعمة يجزيه بها.
وقد قال أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي عند تفسير هذه الآية أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي (3) أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد ، أخبرنا أحمد بن إسحاق بن أيوب ، أخبرنا محمد بن يونس ، حدثنا العلاء بن عمرو الشيباني ، حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، حدثنا سفيان بن سعيد ، عن آدم بن علي ، عن ابن عمر قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر الصديق ، وعليه عباءة قد خَلَّها في صدره بخلال ، فنزل جبريل فقال : مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خَلَّها في صدره بِخلال ؟ فقال : "أنفق ماله عليَّ قبل الفتح" قال : فإن الله يقول : اقرأ عليه السلام ، وقل له : أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط ؟ فقال رسول الله : "يا أبا بكر ، إن الله يقرأ عليك السلام ، ويقول لك : أراض أنت عَني في فقرك هذا أم ساخط ؟" فقال : أبو بكر ، رضي الله عنه : أسخط على ربي عز وجل ؟ إني عن ربي راض (4)
هذا الحديث ضعيف الإسناد من هذا الوجه.
وقوله : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } قال عمر بن الخطاب : هو الإنفاق في سبيل الله ، وقيل : هو النفقة على العيال والصحيح أنه أعم من ذلك ، فكل من أنفق في سبيل الله بنية خالصة وعزيمة صادقة ، دخل في عموم هذه الآية ؛ ولهذا قال : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } كما قال في الآية الأخرى : { أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة : 245] (5) أي : جزاء جميل ورزق باهر - وهو الجنة - يوم القيامة.
قال بن أبي حاتم حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا خلف بن خليفة ، عن حميد الأعرج ، عن عبد الله بن الحارث ، عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله ، وإن الله ليريد منا القرض ؟ " قال : "نعم ، يا أبا الدحداح". قال أرني يدك يا رسول الله قال : فناوله يده قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي - وله حائط (6) فيه ستمائة نخلة ، وأم الدحداح فيه وعيالها - قال : فجاء
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2664) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) رواه النسائي في السنن (5/59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) في أ : "الشرعي".
(4) معالم التنزيل للبغوي (8/34) وفيه : "إني عن ربي راض" مرتين ، ووجه ضعفه أنه فيه العلاء بن عمرو. قال بن حبان : "يروى أبي إسحاق الفزاري العجائب ، لا يجوز الاحتجاج به بحال" وساق الحديث.
(5) في أ ، م ، هـ : "أضعافًا كثيرة وله أجر كريم" وهوخطأ ، والصواب ما أثبتناه.
(6) في أ : "وحائط له".

(8/14)


أبو الدحداح فنادها : يا أم الدحداح. قالت : لبيك. فقال : اخرجي ، فقد أقرضته ربي ، عز وجل - وفي رواية : أنها قالت له : رَبح بيعك يا أبا الدحداح. ونقلت منه متاعها وصبيانها ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "كم من عَذْق رَدَاح في الجنة لأبي الدحداح". وفي لفظ : "رب نخلة مدلاة عروقها درّ وياقوت لأبي الدحداح في الجنة". (1)
__________
(1) ورواه أبو يعلى في مسنده (8/404) عن محرز بن عون ، عن خلف بن خليفة به ، وضعفه الحافظ بن حجر في المطالب العالية برقم (4080) كما ذكره المحقق الفاضل حسين أسد.

(8/15)


يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)

{ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) }
يقول تعالى مخبرًا عن المؤمنين المتصدقين : أنهم (1) يوم القيامة يسعَى نورهم بين أيديهم في عَرصات القيامة ، بحسب أعمالهم ، كما قال عبد الله بن مسعود في قوله : { يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } قال : على قدر أعمالهم يمرون على الصراط ، منهم مَن نوره مثل الجبل ، ومنهم مَن نوره مثل النخلة ، ومنهم مَن نوره مثل الرجل القائم ، وأدناهم نورًا مَن نوره في إبهامه يتَّقد مرة ويطفأ مرة (2) ورواه بن أبي حاتم وبن جرير.
وقال قتادة : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : "من المؤمنين من يضيء نُوره من المدينة إلى عَدن أبين وصنعاء فدون ذلك ، حتى إن من المؤمنين من يضيء نوره موضع قدميه" (3)
وقال سفيان الثوري ، عن حُصَين ، عن مجاهد عن جُنَادة بن أمية قال : إنكم مكتوبون عند الله بأسمائكم ، وسيماكم وحُلاكم ، ونجواكم ومجالسكم ، فإذا كان يوم القيامة قيل : يا فلان ، هذا نورك. يا فلان ، لا نور لك. وقرأ : { يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ }
وقال الضحاك : ليس لأحد إلا يعطى نورًا يوم القيامة ، فإذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور المنافقين ، فلما رأي ذلك المؤمنون أشفقوا أن يطفأ نورهم كما طُفئ نور المنافقين ، فقالوا : ربنا ، أتمم لنا نورنا.
وقال الحسن [في قوله] (4) { يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } يعني : على الصراط.
__________
(1) في م : "أنه".
(2) في م : "ويطفأ أخرى".
(3) تفسير الطبري (27/128).
(4) زيادة من أ.

(8/15)


وقد قال ابن أبي حاتم ، رحمه الله : حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب ، أخبرنا عمي (1) عن يزيد بن أبي حبيب ، عن سعيد (2) بن مسعود : أنه سمع عبد الرحمن بن جُبَيْر يحدث : أنه سَمِع أبا الدرداء وأبا ذر يخبران عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسجود ، وأول من يؤذن له برفع رأسه ، فأنظر من بين يدي ومن خلفي ، وعن يميني وعن شمالي ، فأعرف أمتي من بين الأمم". فقال له رجل : يا نبي الله ، كيف تعرف أمتك من بين الأمم ، ما بين نوح إلى أمتك ؟ قال : "أعرفهم ، مُحَجَّلون من أثر الوضوء ، ولا يكون لأحد من الأمم غيرهم ، وأعرفهم يُؤْتَون كتبهم بأيمانهم ، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم ، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم وذريتهم (3) (4)
وقوله { وَبِأَيْمَانِهِمْ } قال الضحاك : أي وبأيمانهم كتبهم ، كما قال : { فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } [الإسراء : 71].
وقوله : { بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي : يقال لهم : بشراكم اليوم جنات ، أي : لكم البشارة بجنات تجري من تحتها الأنهار ، { خَالِدِينَ فِيهَا } أي : ماكثين فيها أبدًا { ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }.
وقوله : { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } وهذا إخبار منه تعالى عما يقع يوم القيامة في العرصات من الأهوال المزعجة ، والزلازل العظيمة ، والأمور الفظيعة (5) وإنه لا ينجو يومئذ إلا من آمن بالله ورسوله ، وعمل بما أمر الله ، به وترك ما عنه زجر.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبدة بن سليمان ، حدثنا ابن المبارك ، حدثنا صفوان بن عمرو ، حدثني سليم بن عامر قال : خرجنا على جنازة في باب دمشق ، ومعنا أبو أمامة الباهلي ، فلما صلى على الجنازة وأخذوا في دفنها ، قال أبو أمامة : أيها الناس ، إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزل تقتسمون فيه الحسنات والسيئات ، وتوشكون أن تظعنوا منه إلى منزل آخر ، وهو هذا - يشير إلى القبر - بيت الوحدة ، وبيت الظلمة ، وبيت الدود ، وبيت الضيق ، إلا ما وسع الله ، تنتقلون منه إلى مواطن يوم القيامة ، فإنكم في بعض تلك المواطن [حتى] (6) يغشى الناس أمر من الله ، فتبيض وجوه وتسود وجوه ، ثم تنتقلون منه إلى منزل آخر فتغشى الناس ظلمة شديدة ، ثم يقسم النور فيعطى المؤمن نورًا ويترك الكافر والمنافق فلا يعطيان شيئًا ، وهو المثل الذي ضربه الله في كتابه ، قال { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ } إلى قوله : { فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } [النور : 40] ، فلا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن كما لا يستضيء الأعمى بنور (7) البصير ، ويقول المنافقون للذين آمنوا : { انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا } وهي خدعة الله التي خدع
__________
(1) في أ : "أخي"
(2) في م : "سعيد".
(3) في م : "وبأيمانهم".
(4) ورواه الحاكم في المستدرك (2/478) من طريق عبد الله بن صالح ، عن الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبي حبيب به نحوه ، وله طريق آخر سيأتي عند تفسير سورة التحريم.
(5) في أ : "العظيمة".
(6) في هـ : "يوم" ، والمثبت من م ، أ.
(7) في م : "ببصر".

(8/16)


بها المنافقين (1) حيث قال : { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [النساء : 142]. فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور ، فلا يجدون شيئًا فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم بسور له باب ، { بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } الآية. يقول سليم بن عامر : فما يزال المنافق مغترًا حتى يقسم النور ، ويميز الله بين والمؤمن المنافق.
ثم قال : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عثمان ، حدثنا ابن حيوة ، حدثنا أرطأة بن المنذر ، حدثنا يوسف بن الحجاج ، عن أبي أمامة قال : تُبْعَثُ ظلمة يوم القيامة ، فما من مؤمن ولا كافر يرى كفه ، حتى يبعث الله بالنور إلى المؤمنين بقدر أعمالهم ، فيتبعهم المنافقون فيقولون : { انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ }.
وقال العَوْفي ، والضحاك ، وغيرهما ، عن ابن عباس : بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نورًا فلما رأي المؤمنون النور توجهوا نحوه ، وكان النور (2) دليلا من الله إلى الجنة ، فلما رأي المنافقون المؤمنين قد انطلقوا اتبعوهم ، فأظلم الله على المنافقين ، فقالوا حينئذ : { انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } فإنا كنا معكم في الدنيا. قال المؤمنون : { ارْجِعُوا } من حيث جئتم من الظلمة ، فالتمسوا هنالك النور.
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا الحسن بن علوية القطان ، حدثنا إسماعيل بن عيسى العطار ، حدثنا إسحاق بن بشر أبو (3) حذيفة ، حدثنا ابن جريج ، عن ابن أبي مُلَيْكة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأسمائهم سترًا منه على عباده ، وأما عند الصراط فإن الله يعطي كل مؤمن نورًا ، وكل منافق نورًا ، فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات فقال المنافقون : { انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } وقال المؤمنون : { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } [التحريم : 8]. فلا يذكر عند ذلك أحد أحدًا" (4) وقوله : { فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } قال الحسن ، وقتادة : هو حائط بين الجنة النار.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو الذي قال الله تعالى : { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ } [الأعراف : 46]. وهكذا روي عن مجاهد ، رحمه الله ، وغير واحد ، وهو الصحيح.
{ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ } أي : الجنة وما فيها { وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } أي : النار. قاله قتادة ، وبن زيد ، وغيرهما.
قال بن جرير : وقد قيل : إن ذلك السور سورُ بيت المقدس عند وادي جهنم. ثم قال : حدثنا ابن البرقي ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن سعيد بن عطية بن قيس ، عن أبي العوام -
__________
(1) في م : "المنافقون" وهو خطأ.
(2) في م ، أ : "النور لهم".
(3) في م ، أ ، هـ : "ابن" ، والصواب ما أثبتناه من المعجم الكبير.
(4) المعجم الكبير (11/122) وقال الهيثمي في المجمع (10/395) : "فيه إسحاق بن بشر وهو متروك".

(8/17)


مؤذن بيت المقدس - قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : إن السور الذي ذكر (1) الله في القرآن : { فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } هو السور الشرقي باطنه المسجد وما يليه ، وظاهره وادي جهنم.
ثم روي عن عبادة بن الصامت ، وكعب الأحبار ، وعلي بن الحسين زين العابدين ، نحو ذلك. وهذا محمول منهم على أنهم أرادوا بهذا تقريب المعنى ومثالا لذلك ، لا أن هذا هو الذي أريد من القرآن هذا الجدار المعين ونفس المسجد وما وراءه من الوادي المعروف بوادي جهنم ؛ فإن الجنة في السموات في أعلى عليين ، والنار في الدركات أسفل سافلين. وقول كعب الأحبار : إن الباب المذكور في القرآن هو باب الرحمة الذي هو أحد أبواب المسجد ، فهذا من إسرائيلياته وتُرّهاته. وإنما المراد بذلك : سورٌ يُضْرَب يوم القيامة ليحجز بين المؤمنين والمنافقين ، فإذا انتهى إليه المؤمنون دخلوه من بابه ، فإذا استكملوا دُخولهم أغلق الباب وبقي المنافقون من ورائه في الحيرة والظلمة والعذاب ، كما كانوا في الدار الدنيا في كفر وجهل وشك وحيرة { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ } أي : ينادي المنافقون المؤمنين : أما (2) كنا معكم في الدار الدنيا ، نشهد معكم الجمعات ، ونصلي معكم الجماعات ، ونقف معكم بعرفات ، ونحضر معكم الغزوات ، ونؤدي معكم سائر الواجبات ؟ { قَالُوا بَلَى } أي : فأجاب المؤمنون المنافقين قائلين : بلى ، قد كنتم معنا ، { وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ } قال بعض السلف : أي فتنتم أنفسكم باللذات والمعاصي والشهوات { وَتَرَبَّصْتُمْ } أي : أخرتم التوبة من وقت إلى وقت.
وقال قتادة : { وَتَرَبَّصْتُمْ } بالحق وأهله { وَارْتَبْتُمْ } أي : بالبعث بعد الموت { وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ } أي : قلتم : سيغفر لنا. وقيل : غرتكم الدنيا { حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ } أي : ما زلتم في هذا حتى جاء الموت { وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } أي : الشيطان.
قال قتادة : كانوا على خدعة من الشيطان ، والله ما زالوا عليها حتى قذفهم الله في النار.
ومعنى هذا الكلام من المؤمنين للمنافقين : إنكم كنتم معنا [أي] (3) بأبدان لا نية لها ولا قلوب معها ، وإنما كنتم في حيرة وشك فكنتم تُراؤون الناس ولا تذكرون الله إلا قليلا.
قال مجاهد : كان المنافقون مع المؤمنين أحياء يناكحونهم ويغشونهم ويعاشرونهم ، وكانوا معهم أمواتا ، ويعطون النور جميعًا يوم القيامة ، ويطفأ النور من المنافقين إذا بلغوا السور ، ويُماز بينهم حينئذ.
وهذا القول من المؤمنين لا ينافي قولهم الذي أخبر الله به عنهم ، حيث يقول - وهو أصدق القائلين - : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } [المدثر : 38 - 47] ،
__________
(1) في م : "ذكره".
(2) في م : "إنا".
(3) زيادة من م.

(8/18)


أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)

فهذا إنما خرج منهم على وجه التقريع لهم والتوبيخ. ثم قال تعالى : { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } [المدثر : 48] ، كما قال تعالى هاهنا : { فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : لو جاء أحدكم اليوم بملء الأرض ذهبًا ومثله معه ليفتدى به من عذاب الله ، ما قبل منه.
وقوله : { مَأْوَاكُمُ النَّارُ } أي : هي مصيركم وإليها منقلبكم.
وقوله : { هِيَ مَوْلاكُمْ } أي : هي أولى بكم من كل منزل على كفركم وارتيابكم ، وبئس المصير.
{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نزلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) }
يقول الله تعالى : أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله ، أي : تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن ، فتفهمه وتنقادُ له وتسمع له وتطيعه.
قال عبد الله بن المبارك : حدثنا صالح المُرِّي ، عن قتادة ، عن ابن عباس أنه قال : إن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن ، فقال : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ } الآية ، رواه ابن أبي حاتم ، عن الحسن بن محمد بن الصباح ، عن حسين المروزي ، عن ابن المبارك ، به.
ثم قال هو ومسلم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال - يعني الليث - عن عون بن عبد الله ، عن أبيه ، عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ } [الآية] (1) إلا أربع سنين (2)
كذا رواه مسلم في آخر الكتاب. وأخرجه النسائي عند تفسير هذه الآية ، عن هارون بن سعيد الأيلي ، عن ابن وهب ، به (3) وقد رواه ابن ماجة من حديث موسى بن يعقوب الزمعي (4) عن أبي حزم ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، مثله (5) فجعله من مسند بن الزبير. لكن رواه البزار في مسنده من طريق موسى بن يعقوب ، عن أبي حازم ، عن عامر ، عن بن الزبير ،
__________
(1) زيادة من م.
(2) صحيح مسلم برقم (3027).
(3) سنن النسائي الكبري برقم (11568)
(4) في أ : "الربعي".
(5) سنن ابن ماجة برقم (4192).

(8/19)


عن ابن مسعود ، فذكره (1)
وقال سفيان الثوري ، عن المسعودي ، عن القاسم قال : مَلَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملة ، فقالوا : حدثنا يا رسول الله. فأنزل الله تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } [يوسف : 3] قال : ثم ملوا ملة فقالوا : حدثنا يا رسول الله ، فأنزل الله تعالى : { اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } [الزمر : 23]. ثم ملوا ملة فقالوا : حدثنا يا رسول الله. فأنزل الله : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ } (2)
وقال قتادة : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ } ذُكِرَ لنا أن شداد بن أوس كان يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن أول ما يرفع (3) من الناس الخشوع" (4)
وقوله : { وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب قبلهم من اليهود والنصارى ، لما تطاول عليهم الأمد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم واشتروا به ثمنًا قليلا ونبذوه وراء ظهورهم ، وأقبلوا على الآراء المختلفة والأقوال المؤتفكة ، وقلدوا الرجال في دين الله ، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله ، فعند ذلك قست قلوبهم ، فلا يقبلون موعظة ، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد.
{ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي : في الأعمال ، فقلوبهم فاسدة ، وأعمالهم باطلة. كما قال : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } [المائدة : 13] ، أي : فسدت قلوبهم فقست وصار من سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه ، وتركوا الأعمال التي أمروا بها ، وارتكبوا ما نهو عنه ؛ ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية.
وقد قال بن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا شهاب بن خِراش ، حدثنا حجاج بن دينار ، عن منصور بن المعتمر ، عن الربيع بن أبي عَمِيلة الفزاري قال : حدثنا عبد الله بن مسعود حديثًا ما سمعت أعجب إليَّ منه ، إلا شيئًا من كتاب الله - أو : شيئًا قاله النبي صلى الله عليه وسلم - قال : "إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد فقست قلوبهم اخترعوا كتابًا من عند أنفسهم ، استهوته قلوبهم واستحلته ألسنتهم (5) واستلذته ، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم فقالوا : تعالوا ندع
__________
(1) مسند البزار برقم (1443) وقال : "لا نعلم روى ابن الزبير عن ابن مسعود إلا هذا الحديث".
(2) روى ابن جرير في تفسير (15/552) ط - المعارف ، من طريق المسعودى عن عون بن عبد الله نحوه مرسلاً دون ذكر الشاهد هنا.
(3) في أ : "يرفع الله.
(4) رواه الطبري في تفسيره (27/131) ووصله الطبراني في المعجم الكبير (7/295) فرواه من طريق عمران القطان ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن شداد بن أوس مرفوعًا به ، وعمران القطان متكلم فيه.
(5) في أ : "أنفسهم".

(8/20)


بني إسرائيل إلى كتابنا هذا ، فمن تابعنا عليه تركناه ، ومن كره أن يتابعنا (1) قتلناه. ففعلوا ذلك ، وكان فيهم رجل فقيه ، فلما رأي ما يصنعون عَمَدَ إلى ما يعرف من كتاب الله فكتبه في شيء لطيف ، ثم أدرجه ، فجعله في قرن ثم علق ذلك القرن في عنقه ، فلما أكثروا القتل قال بعضهم لبعض : يا هؤلاء ، إنكم قد أفشيتم القتل في بني إسرائيل ، فادعوا فلانا فاعرضوا عليه كتابكم ، فإنه إن تابعكم فسيتابعكم بقية الناس ، وإن أبى فاقتلوه. فدعوا فلانًا ذلك الفقيه فقالوا : تؤمن بما في كتابنا ؟ قال : وما فيه ؟ اعرضوه عليَّ. فعرضوه عليه إلى آخره ، ثم قالوا : أتؤمن بهذا ؟ قال : نعم ، آمنت بما في هذا وأشار بيده إلى القرن - فتركوه ، فلما مات نبشوه فوجدوه مُتَعَلِّقًا (2) ذلك القرن ، فوجدوا فيه ما يعرف من كتاب الله ، فقال بعضهم لبعض : يا هؤلاء ، ما كنا نسمع هذا أصابه فتنة. فافترقت بنو إسرائيل على ثنتين وسبعين ملة ، وخير ملَلهم ملة أصحاب ذي القرن".
قال ابن مسعود : [وإنكم] (3) أوشك بكم إن بقيتم - أو : بقي من بقي منكم (4) - أن تروا أمورا تنكرونها ، لا تستطيعون لها غِيَرًا ، فبحسب المرء منكم أن يعلم الله من قلبه أنه لها كاره.
وقال أبو جعفر الطبري : حدثنا ابن (5) حميد ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم قال : جاء عتريس بن عُرقوب (6) إلى بن مسعود فقال : يا أبا عبد الله (7) هلك من لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. فقال عبد الله : هلك من لم يعرف قلبُه معروفًا ولم ينكر قلبُه منكرًا ؛ إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد وقست قلوبهم ، اخترعوا كتابًا من بين أيديهم وأرجلهم ، استهوته قلوبهم واستحلته ألسنتهم ، وقالوا : نعرض على بني إسرائيل هذا الكتاب فمن آمن به تركناه ، ومن كفر به قتلناه. قال : فجعل رجل منهم كتاب الله في قَرْن ، ثم جعل القرن بين ثندوتيه فلما قيل له : أتؤمن بهذا ؟ قال آمنت به - ويومئ إلى القرن بين ثَنْدُوتيه - ومالي لا أؤمن بهذا الكتاب ؟ فمن خير مِلَلِهم اليوم مِلَّة صاحب القَرن (8)
وقوله : { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } فيه إشارة إلى أنه ، تعالى ، يلين القلوب بعد قسوتها ، ويَهدي الحَيَارى بعد ضَلتها ، ويفرِّج الكروب بعد شدتها ، فكما يحيي الأرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث الهتَّان [الوابل] (9) كذلك يهدي القلوب القاسية ببراهين القرآن والدلائل ، ويولج إليها النور بعد ما كانت مقفلة لا يصل إليها الواصل ، فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الإضلال ، والمضل لمن أراد بعد الكمال ، الذي هو لما يشاء فعال ، وهو الحكم العدل في جميع الفعال ، اللطيف الخبير الكبير المتعال.
__________
(1) في أ : "يتابعنا عليه"
(2) في أ : "معلقاً"
(3) زيادة من م.
(4) في م : "معكم".
(5) في أ : "أبو"
(6) في أ : "جابر بن سويد عن قرب"
(7) في أ : "يا أبا عبد الله".
(8) تفسير الطبري (27/132).
(9) زيادة من أ.

(8/21)


إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)

{ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) }

(8/22)


وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)

{ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) }
يخبر تعالى عما يثيب به المُصَّدقين والمُصَّدقات بأموالهم على أهل الحاجة والفقر والمسكنة ، { وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } أي : دفعوه بنية خالصة ابتغاء وجه الله ، لا يريدون جزاء ممن أعطوه ولا شكورًا ؛ ولهذا قال : { يُضَاعَفُ لَهُمُ } أي : يقابل لهم الحسنة بعشر أمثالها ، ويزداد على ذلك إلى سبعمائة ضعف وفوق ذلك { وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } أي : ثواب جزيل حسن ، ومرجع صالح ومآب { كَرِيمٌ }
وقوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } هذا تمام لجملة ، وصف المؤمنين بالله ورسله بأنهم صديقون.
قال العَوْفي ، عن ابن عباس في قوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } هذه مفصولة { وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ }.
وقال أبو الضحى : { أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } ثم استأنف الكلام فقال : { وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ } وهكذا قال مسروق ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم.
وقال الأعمش عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله في قوله : { أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ } قال : هم ثلاثه أصناف : يعني المصدقين ، والصديقين ، والشهداء ، كما قال [الله] (1) تعالى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ } [النساء : 69] ففرق بين الصديقين والشهداء ، فدل على أنهما صنفان. ولا شك أن الصديق أعلى مقامًا من الشهيد ، كما رواه الإمام مالك بن أنس ، رحمه الله ، في كتابه الموطأ ، عن صفوان بن سليم ، عن عطاء بن يَسَار ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم ، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب ، لتفاضل ما بينهم". قالوا : يا رسول الله ، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال : "بلى والذي نفسي بيده ، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين".
اتفق البخاري ومسلم على إخراجه من حديث مالك ، به (2)
وقال آخرون : بل المراد من قوله : { أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ } فأخبر عن المؤمنين بالله ورسله بأنهم صديقون وشهداء. حكاه ابن جرير عن مجاهد ، ثم قال ابن جرير :
__________
(1) زيادة من أ.
(2) صحيح البخاري برقم (3256) وصحيح مسلم برقم (2831)

(8/22)


حدثني صالح ابن حرب أبو مَعْمَر ، حدثنا إسماعيل بن يحيى ، حدثنا ابن عَجْلان عن زيد بن أسلم ، عن البراء بن عازب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "مؤمنو أمتي شهداء". قال : ثم تلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ [لَهُمْ أَجْرُهُمْ] } (1) هذا حديث غريب (2)
وقال أبو إسحاق ، عن عمرو بن ميمون في قوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } قال : يجيؤون يوم القيامة معًا كالإصبعين.
وقوله : { وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ } أي : في جنات النعيم ، كما جاء في الصحيحين : "إن أرواح الشهداء في حواصل طير خُضْر تسرح في الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال : ماذا تريدون ؟ فقالوا : نحب أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل فيك فنقتل كما قُتِلنا أول مرة. فقال إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون" (3)
وقوله : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } أي : لهم عند ربهم أجر جزيل ونور عظيم يسعى بين أيديهم ، وهم في ذلك يتفاوتون بحسب ما كانوا في الدار الدنيا من الأعمال ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا يحيى ابن إسحاق ، حدثنا بن لَهِيعَة ، عن عطاء بن دينار ، عن أبي يزيد الخولاني قال : سمعت فضالة بن عُبَيد يقول : سمعت عمر بن الخطاب يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "الشهداء أربعة : رجل مؤمن جيد الإيمان ، لقي العدو فصدق الله فقتل ، فذلك (4) الذي ينظر الناس إليه هكذا - ورفع رأسه حتى سقطت قَلَنْسُوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قلنسوة عمر - والثاني مؤمن (5) لقي العدو فكأنما يضرب ظهره بشوك الطلح ، جاءه سهم غَرْب فقتله ، فذاك في الدرجة الثانية ، والثالث رجل مؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئًا لقي العدو فصدق الله حتى قتل ، فذاك في الدرجة الثالثة ، والرابع رجل مؤمن أسرف على نفسه إسرافًا كثيرًا ، لقي العدو فصدق الله حتى قتل ، فذاك في الدرجة الرابعة". (6)
وهكذا رواه علي بن المديني ، عن أبي داود الطيالسي ، عن ابن المبارك ، عن ابن لَهِيعَة ، وقال : هذا إسناد مصري صالح. ورواه الترمذي من حديث ابن لهيعة وقال : حسن غريب (7)
وقوله : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } لما ذكر السعداء ومآلهم ، عطف بذكر الأشقياء وبين حالهم.
__________
(1) زيادة من م.
(2) تفسير الطبري (27/133).
(3) صحيح مسلم برقم (1887) من حديث ابن مسعود ، رضي الله عنه ، ولم أقع عليه عند البخاري.
(4) في م : "فذاك".
(5) في أ : "رجل".
(6) المسند (1/23).
(7) سنن الترمذي برقم (1644).

(8/23)


اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)

{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) }
يقول تعالى مُوهنًا أمر الحياة الدنيا ومحقرا لها : { أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ } أي : إنما حاصل أمرها عند أهلها هذا ، كما قال : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } [آل عمران : 14]
ثم ضرب تعالى مثل الحياة الدنيا في أنها زهرة فانية ونعمة زائلة فقال : { كَمَثَلِ غَيْثٍ } وهو : المطر الذي يأتي بعد قنوط الناس ، كما قال : { وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا [وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ] } [الشورى : 28] (1)
وقوله : { أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ } أي : يعجب الزراع نبات ذلك الزرع الذي نبت بالغيث ؛ وكما يعجب الزراع ذلك كذلك تعجب الحياة الدنيا الكفار ، فإنهم أحرص شيء عليها وأميل الناس إليها ، { ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا } أي : يهيج ذلك الزرع فتراه مصفرًّا بعد ما كان خضرًا (2) نضرا ، ثم يكون بعد ذلك كله حطامًا ، أي : يصير يَبَسًا متحطمًا ، هكذا الحياة الدنيا تكون أولا شابة ، ثم تكتهل ، ثم تكون عجوزًا شوهاء ، والإنسان كذلك في أول عمره وعنفوان شبابه غضا طريًّا لين الأعطاف ، بهي المنظر ، ثم إنه يشرع في الكهولة فتتغير طباعه وَيَنْفَد (3) بعض قواه ، ثم يكبر فيصير شيخًا كبيرًا ، ضعيف القوى ، قليل الحركة ، يعجزه الشيء اليسير ، كما قال تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } [الروم : 54]. ولما كان هذا المثل دالا على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة ، وأن الآخرة كائنة لا محالة ، حَذّر من أمرها ورغّب فيما فيها من الخير ، فقال : { وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } أي : وليس في الآخرة الآتية القريبة إلا إما هذا وإما هذا : إما عذاب شديد ، وإما مغفرة من الله ورضوان.
وقوله : { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } أي : هي متاع فانٍ غارٍّ (4) لمن ركن إليه فإنه يغتر
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ : "ما أخضر".
(3) في أ : "ويفقد".
(4) في أ : "عار".

(8/24)


بها وتعجبه حتى يعتقد أنه لا دار سواها ولا معاد وراءها ، وهي حقيرة قليلة بالنسبة إلى الدار الآخرة.
قال ابن جرير : حدثنا علي ابن حرب الموصلي ، حدثنا المحاربي ، حدثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها. اقرؤوا : { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } (1)
وهذا الحديث ثابت في الصحيح بدون هذه الزيادة (2) والله أعلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن نمير ووَكِيع ، كلاهما عن الأعمش ، عن شقيق ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لَلْجنة أقرب إلى أحدكم من شِرَاك نعله ، والنار مثل ذلك".
انفرد بإخراجه البخاري في "الرقاق" ، من حديث الثوري ، عن الأعمش ، به (3)
ففي هذا الحديث دليل على اقتراب الخير والشر من الإنسان ، وإذا كان الأمر كذلك ؛ فلهذا حثه الله (4) على المبادرة إلى الخيرات ، من فعل الطاعات ، وترك المحرمات ، التي تكفر عنه الذنوب والزلات ، وتحصل له الثواب والدرجات ، فقال تعالى : { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } والمراد جنس السماء والأرض ، كما قال في الآية الأخرى : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [آل عمران : 133]. وقال هاهنا : { أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } أي : هذا الذي أهلهم الله له هو من فضله ومنه عليهم وإحسانه إليهم ، كما قدَّمنا في الصحيح : أن فقراء المهاجرين قالوا : يا رسول الله ، ذهب أهل الدُّثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم. قال : "وما ذاك ؟". قالوا : يُصلُّون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق ، ويُعتقون ولا نُعْتِق. قال : "أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم : تسبحون وتكبرون وتحمدون دُبُر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين". قال : فرجعوا فقالوا : سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا ، ففعلوا مثله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" (5)
__________
(1) تفسير الطبري (27/134) وليس في المطبوع هذه الزيادة ، فلعل الحافظ رآها في نسخة أخرى.
(2) صحيح البخاري برقم (6415) من حديث سهل بن سعد ، رضي الله عنه.
(3) المسند (1/387) وصحيح البخاري برقم (6488).
(4) في م : "فلهذا حث تعالى".
(5) صحيح البخاري برقم (843) وصحيح مسلم برقم (595).

(8/25)


مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)

{ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) }
يخبر تعالى عن قدره السابق في خلقه قبل أن يبرأ البرية فقال : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ } أي : في الآفاق وفي نفوسكم { إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } أي : من قبل أن نخلق الخليقة ونبرأ النسمة.
وقال بعضهم : { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } عائد على النفوس. وقيل : عائد على المصيبة. والأحسن عوده على الخليقة والبرية ؛ لدلالة الكلام عليها ، كما قال ابن جرير :
حدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن منصور بن عبد الرحمن قال : كنت جالسًا مع الحسن ، فقال رجل : سله عن قوله : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } فسألته عنها ، فقال : سبحان الله! ومن يشك في هذا ؟ كل مصيبة بين السماء والأرض ، ففي كتاب الله من قبل أن يبرأ النسمة (1)
وقال قتادة : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ } قال : هي السنون. يعني : الجَدْب ، { وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ } يقول : الأوجاع والأمراض. قال : وبلغنا أنه ليس أحد يصيبه خدش عود ولا نكبة قدم ، ولا خلجان عرق إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر.
وهذه الآية الكريمة من أدل دليل على القَدَرية نُفاة العلم السابق - قبحهم الله - وقال الإمام أحمد :
حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا حيوة وابن لَهِيعة قالا حدثنا أبو هانئ الخولاني : أنه سمع أبا عبد الرحمن الحُبُلي يقول : سمعت عبد الله بن عَمرو بن العاص يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "قدَّر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة".
ورواه مسلم في صحيحه ، من حديث عبد الله بن وهب وحيوة بن شريح ونافع بن يزيد ، وثلاثتهم عن أبي هانئ ، به. وزاد بن وَهب : "وكان عرشه على الماء". ورواه الترمذي وقال : حسن صحيح (2)
وقوله : { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } أي : أن علمه تعالى الأشياء قبل كونها وكتابته لها طبق ما يوجد في حينها سهل على الله ، عز وجل (3) ؛ لأنه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون.
__________
(1) تفسير الطبري (27/135).
(2) المسند (2/169) وصحيح مسلم برقم (2653) وسنن الترمذي برقم (2156).
(3) في أ : "تعالى".

(8/26)


وقوله : { لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } أي : أعلمناكم بتقدم علمنا وسبق كتابتنا (1) للأشياء قبل كونها ، وتقديرنا الكائنات قبل وجودها ، لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم ، وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم ، فلا تأسوا على ما فاتكم ، فإنه (2) لو قدر شيء لكان { وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } أي : جاءكم ، ويقرأ : "آتاكُم" أي : أعطاكم. وكلاهما متلازمان ، أي : لا تفخروا على الناس بما أنعم الله به عليكم ، فإن ذلك ليس بسعيكم ولا كدكم ، وإنما هو عن قدر الله ورزقه لكم ، فلا تتخذوا نعم (3) الله أشرًا وبطرًا ، تفخرون بها على الناس ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } أي : مختال في نفسه متكبر فخور ، أي : على غيره.
وقال عكرمة : ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ، ولكن اجعلوا الفَرَح شكرًا والحزن صبرًا.
ثم قال : { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } أي : يفعلون المنكر ويحضون الناس عليه ، { وَمَنْ يَتَوَلَّ } أي : عن أمر الله وطاعته { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } كما قال موسى عليه السلام : { إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } [إبراهيم : 8].
__________
(1) في أ : "كتابنا".
(2) في م : "لأنه".
(3) في أ : "نعمة".

(8/27)


لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)

{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) }
يقول تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ } أي : بالمعجزات ، والحجج الباهرات ، والدلائل القاطعات ، { وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ } وهو : النقل المصدق { وَالْمِيزَانَ } وهو : العدل. قاله مجاهد ، وقتادة ، وغيرهما. وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة ، كما قال : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } [هود : 17] ، وقال : { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } [الروم : 30] ، وقال : { وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ } [الرحمن : 7] ؛ ولهذا قال في هذه الآية : { لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } أي : بالحق والعدل وهو : اتباع الرسل فيما أخبروا به ، وطاعتهم فيما أمروا به ، فإن الذي جاؤوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق ، كما قال : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا } [الأنعام : 115] أي : صدقًا في الإخبار ، وعدلا في الأوامر والنواهي. ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوؤوا غرف الجنات ، والمنازل العاليات ، والسرر المصفوفات : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } [الأعراف : 43].
وقوله : { وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } أي : وجعلنا الحديد رادعًا لمن أبى الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه ؛ ولهذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة توحى إليه السور المكية ، وكلها جدال مع المشركين ، وبيان وإيضاح للتوحيد ، وتبيان ودلائل ، فلما قامت الحجة على من

(8/27)


وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)

خالف (1) شرع الله الهجرة ، وأمرهم بالقتال بالسيوف ، وضرب الرقاب والهام لمن خالف القرآن وكذب به وعانده.
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود ، من حديث عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ، عن حسان بن عطية ، عن أبي المنيب (2) الجرشي الشامي ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بُعِثتُ بالسيف بين يَدَي الساعة حتى يُعبَد الله وحده لا شريك له ، وجُعِل رزقي تحت ظِلّ رُمْحي ، وجعل الذلة والصِّغار على من خالف أمري ، ومن تَشبَّه بقوم فهو منهم" (3)
ولهذا قال تعالى : { فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } يعني : السلاح كالسيوف ، والحراب ، والسنان ، والنصال ، والدروع ، ونحوها. { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } أي : في معايشهم كالسكة والفأس والقدوم ، والمنشار ، والإزميل ، والمجرفة ، والآلات التي يستعان بها في الحراثة والحياكة والطبخ والخبز وما لا قوام للناس بدونه ، وغير ذلك.
قال عِلْباء (4) بن أحمد ، عن عِكْرِمة ، أن ابن عباس قال : ثلاثة أشياء نزلت مع آدم : السندان (5) والكلْبَتان والميقعَة (6) - يعني المطرقة. رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم.
وقوله : { وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ } أي : من نيته في حمل السلاح نصرة الله ورسله ، { إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } أي : هو قوي عزيز ، ينصر من نصره من غير احتياج منه إلى الناس ، وإنما شرع الجهاد ليبلو بعضكم ببعض.
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) }
يخبر تعالى أنه منذ بعث نوحًا ، عليه السلام ، لم يرسل بعده رسولا ولا نبيًّا إلا من ذريته ، وكذلك إبراهيم ، عليه السلام ، خليل الرحمن ، لم ينزل من السماء كتابًا ولا أرسل رسولا ولا أوحى إلى بشر من بعده ، إلا وهو من سلالته كما قال في الآية الأخرى : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } [يعني] (7) حتى كان آخر أنبياء بني إسرائيل عيسى ابن مريم الذي بشر من بعده بمحمد ، صلوات الله وسلامه عليهما ؛ ولهذا قال تعالى : { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ }
__________
(1) في م : "على من تخلف منهم".
(2) في أ : "المسيب"
(3) المسند (2/50) وسنن أبي داود برقم (4031).
(4) في أ : "قال علياء".
(5) في أ : "السنداب"
(6) في م : "المدقة" ، وفي أ : "والمنفعة".
(7) زيادة من أ.

(8/28)


وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ } وهم الحواريون { رَأْفَةً وَرَحْمَةً } أي : رأفة وهي الخشية { وَرَحْمَةً } بالخلق.
وقوله : { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا } أي : ابتدعتها أمة النصارى { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } أي : ما شرعناها لهم ، وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم.
وقوله : { إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ } فيه قولان ، أحدهما : أنهم قصدوا بذلك رضوان الله ، قال سعيد بن جبير ، وقتادة. والآخر : ما كتبنا عليهم ذلك إنما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله.
وقوله : { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أي : فما قاموا بما التزموه حق القيام. وهذا ذم لهم من وجهين ، أحدهما : في الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله. والثاني : في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله ، عز وجل.
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا إسحاق بن أبي حمزة أبو يعقوب الرازي ، حدثنا السندي بن عبدويه (1) حدثنا بُكَيْر بن معروف ، عن مُقاتِل بن حَيَّان ، عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه ، عن جده بن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا ابن مسعود". قلت : لبيك يا رسول الله. قال : "هل علمت أن بني إسرائيل افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة ؟ لم ينج منها إلا ثلاث فرق ، قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، فدعت إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فقاتلت الجبابرة فقُتلت فصبرت ونجت ، ثم قامت طائفة أخرى لم يكن لها قوة بالقتال ، فقامت بين الملوك والجبابرة فدعوا إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فقتلت وقطعت بالمناشير وحرقت بالنيران ، فصبرت ونجت. ثم قامت طائفة أخرى لم يكن لها قوة بالقتال ولم تطق القيام بالقسط ، فلحقت بالجبال فتعبدت وترهبت ، وهم الذين ذكرهم الله ، عز وجل : { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } (2)
وقد رواه ابن جرير بلفظ آخر من طريق أخرى فقال : حدثنا يحيى بن أبي طالب ، حدثنا داود بن المحبر ، حدثنا الصَّعِق بن حَزْن ، حدثنا عقيل الجعدي ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن سُوَيْد بن غفلة ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اختلف من كان قبلنا على ثلاث وسبعين فرقة ، نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم..." وذكر نحو ما تقدم ، وفيه : " { فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ } هم الذين آمنوا بي وصدقوني { وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } وهم الذين كذبوني وخالفوني" (3)
ولا يقدح في هذه المتابعة لحال داود بن المحبر ، فإنه أحد الوضاعين للحديث ، ولكن (4) قد أسنده
__________
(1) في م : "السندي بن عبد ربه" ، وفي أ : "السري بن عبد ربه".
(2) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (10/211) من طريق هشام بن عمار ، عن الوليد بن مسلم ، عن بكير بن معروف به نحوه ، وبكير بن معروف متكلم فيه.
(3) تفسير الطبري (27/138).
(4) في م : "ولكن".

(8/29)


أبو يعلى ، وسنده (1) عن شيبان بن فَرُّوخ ، عن الصَّعِق بن حَزْن ، به مثل ذلك (2) فقوي الحديث من هذا الوجه.
وقال ابن جرير ، وأبو عبد الرحمن النسائي - واللفظ له - : أخبرنا الحسين بن حُرَيْث ، حدثنا الفضل بن موسى ، عن سفيان بن سعيد ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما (3) قال : كان ملوك بعد عيسى ، عليه السلام ، بدلت التوراة والإنجيل ، فكان منهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل ، فقيل لملوكهم : ما نجد شيئًا أشد من شتم يشتمونا هؤلاء ، إنهم يقرؤون : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [المائدة : 44] ، هذه (4) الآيات ، مع ما يعيبوننا به من أعمالنا في قراءتهم ، فادعهم فليقرؤوا كما نقرأ ، وليؤمنوا كما آمنا. فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل ، إلا ما بدلوا منها ، فقالوا : ما تريدون إلى ذلك ؟ دعونا : فقالت طائفة منهم : ابنوا لنا أسطوانة ، ثم ارفعونا إليها ، ثم أعطونا شيئًا نرفع به طعامنا وشرابنا فلا نرد عليكم. وقالت طائفة : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش ، فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا. وقالت طائفة : ابنوا لنا دورًا في الفيافي ، ونحتفر الآبار ونحترث (5) البقول فلا نرد عليكم ولا نمر بكم. وليس أحد من القبائل إلا له حميم فيهم ، ففعلوا ذلك فأنزل الله ، عز وجل : { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } والآخرون قالوا : نتعبد كما تعبد فلان ، ونسيح كما ساح فلان ، ونتخذ دورًا كما اتخذ فلان ، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم (6) فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا القليل ، انحط منهم رجل من صومعته ، وجاء سائح من سياحته ، وصاحب الدير من ديره ، فآمنوا به وصدقوه ، فقال الله ، عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ } أجرين بإيمانهم بعيسى ابن مريم والتوراة والإنجيل ، وبإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقهم قال (7) { وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } [الحديد : 28] : القرآن ، واتباعهم النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ } الذين يتشبهون بكم { أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } (8)
هذا السياق فيه غرابة ، وسيأتي تفسير هاتين الآيتين الأخريين على غير هذا ، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا أحمد بن عيسى ، حدثنا عبد الله بن وهب ، حدثني سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء : أن سهل بن أبي أمامة حدثه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن
__________
(1) في أ : "في مسنده".
(2) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (10/272) من طريق محمد الحضرمي ، عن شيبان به ، ورواه الحاكم في المستدرك (2/480) من طريق عبد الرحمن بن المبارك ، عن الصعق بن حزن به. قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي. قلت : "ليس بصحيح ، فإن فيه الصعق بن حزن ، عن عقيل بن يحيى ، والصعق وإن كان موثقًا ، فإن شيخه قال فيه البخاري : منكر الحديث".
(3) في م ، أ : "عنه".
(4) في م ، أ : "هؤلاء".
(5) في م : "ونحرث".
(6) في م : "به".
(7) في م : "كما قال".
(8) تفسير الطبري (27/138) وسنن النسائي (8/231).

(8/30)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

مالك بالمدينة زمان عمر بن عبد العزيز وهو أمير ، وهو يصلي صلاة خفيفة (1) كأنها صلاة مسافر أو قريبًا منها ، فلما سلم قال : يرحمك الله ، أرأيت هذه الصلاة المكتوبة ، أم شيء تنفلته ؟ قال : إنها المكتوبة ، وإنها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخطأت إلا شيئًا سهوت عنه ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم ، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات ، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم". ثم غدوا من الغد فقالوا : نركب فننظر ونعتبر قال : نعم فركبوا جميعًا ، فإذا هم بديار قفر قد باد أهلها وانقرضوا وفنوا ، خاوية على عروشها فقالوا : تعرف هذه الديار ؟ قال : ما أعرفني بها وبأهلها. هؤلاء أهل الديار ، أهلكهم البغي والحسد ، إن الحسد يطفئ نور الحسنات ، والبغي يصدق ذلك أو يكذبه ، والعين تزني والكف والقدم والجسد واللسان ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه (2)
وقال الإمام أحمد : حدثنا يعمُر ، حدثنا عبد الله ، أخبرنا سفيان ، عن زيد العَمِّي ، عن أبي إياس ، عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لكل نبي رهبانية ، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله عز وجل" (3)
ورواه الحافظ أبو يعلى ، عن عبد الله بن محمد بن أسماء ، عن عبد الله بن المبارك به ولفظه : "لكل أمة رهبانية ، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله" (4)
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين - هو ابن محمد - حدثنا ابن عياش - يعني إسماعيل - عن الحجاج بن مروان (5) الكلاعي ، وعقيل بن مدرك السلمي ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، أن رجلا جاءه فقال : أوصني فقال : سألت عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبلك ، أوصيك بتقوى الله ، فإنه رأس كل شيء ، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام ، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن ، فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض. تفرد به أحمد (6)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) }
قد تقدم في رواية النسائي عن ابن عباس : أنه حمل هذه الآية على مؤمني أهل الكتاب ، وأنهم يؤتون أجرهم مرتين كما في الآية التي في القصص (7) وكما في حديث الشعبي عن أبي بُرْدَة ، عن
__________
(1) في أ ، م "خفيفة وقعة".
(2) مسند أبي يعلى (6/365).
(3) المسند (3/266) وفيه زيد العمى ضعيف.
(4) مسند أبي يعلى (7/210).
(5) في م : "هارون".
(6) المسند (3/82) وقال الهيثمي في المجمع (4/215) : "رجال أحمد ثقاب".
(7) عند تفسير الآية : 54.

(8/31)


أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران ، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مَوَاليه فله أجران ، ورجل أدب أمته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران". أخرجاه في الصحيحين (1)
ووافق ابن عباس على هذا التفسير الضحاك ، وعتبة بن أبي حكيم ، وغيرهما ، وهو اختيار ابن جرير.
وقال سعيد بن جبير : لما افتخر أهلُ الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله هذه الآية في حق هذه الأمة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ } أي : ضعفين ، وزادهم : { وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } يعني : هدى يُتَبَصَّر به من العمى والجهالة ، ويغفر لكم. فضلهم بالنور والمغفرة. ورواه ابن جرير عنه.
وهذه الآية كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [الأنفال : 29].
وقال سعيد بن عبد العزيز : سأل عمر بن الخطاب حَبْرًا من أحبار يهود : كم أفضل ما ضعفت (2) لكم حسنة ؟ قال : كفل ثلاثمائة وخمسون (3) حسنة. قال : فحمد الله عمر على أنه أعطانا كفلين. [ثم] (4) ذكر سعيد قول الله ، عز وجل : { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ } قال سعيد : والكفلان في الجمعة مثل ذلك. رواه ابن جرير (5)
ومما يؤيد هذا القول ما رواه الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل عمالا فقال : من يعمل لي من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراط قيراط ؟ ألا فعملت اليهود. ثم قال : من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ؟ ألا فعملت النصارى. ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين ؟ ألا فأنتم الذي عملتم. فغضبت النصارى واليهود ، وقالوا : نحن أكثر عملا وأقل عطاء. قال : هل ظلمتكم من أجركم شيئا ؟ قالوا : لا. قال : فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء" (6)
قال أحمد : وحدثناه مُؤَمَّل ، عن سفيان ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، نحو حديث نافع ، عنه (7)
انفرد بإخراجه البخاري ، فرواه عن سليمان (8) بن حرب ، عن حماد ، [عن أيوب] (9) عن
__________
(1) صحيح البخاري برقم (97) وصحيح مسلم برقم (154).
(2) في م : "ضعف".
(3) في م : "وخمسين".
(4) زيادة من أ.
(5) تفسير الطبري (27/141).
(6) المسند (2/6).
(7) المسند (2/111).
(8) في أ : "سليم".
(9) زيادة من صحيح البخاري.

(8/32)


نافع ، به (1) وعن قتيبة ، عن الليث ، عن نافع ، بمثله (2)
وقال البخاري : حدثنى محمد بن العلاء ، حدثنا أبو أسامة ، عن بَريد (3) عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قومًا يعملون له عملا يومًا إلى الليل على أجر معلوم ، فعملوا إلى نصف النهار فقالوا : لا حاجة لنا في أجرك الذي شرطت لنا ، وما عملنا باطل. فقال لهم : لا تفعلوا ، أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملا فأبوا وتَرَكُوا ، واستأجر آخرين بعدهم فقال : أكملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت لهم من الأجر ، فعملوا حتى إذا كان حين صلوا العصر قالوا : ما عملنا باطل ، ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه. فقال أكملوا بقية عملكم ؛ فإن ما بقي من النهار شيء يسير. فأبوا ، فاستأجر قومًا أن يعملوا له بقية يومهم ، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس ، فاستكملوا أجر الفريقين كليهما ، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور" انفرد به البخاري (4)
ولهذا قال تعالى : { لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } أي : ليتحققوا أنهم لا يقدرون على رَدّ ما أعطاه الله ، ولا [على] (5) إعطاء ما منع الله ، { وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
قال ابن جرير : { لِئَلا يَعْلَمَ } أي : ليعلم وقد ذكر عن ابن مسعود أنه قرأها : "لكي يعلم". وكذا حطَّان (6) بن عبد الله ، وسعيد بن جبير ، قال ابن جرير : لأن العرب تجعل "لا" صلة في كل كلام دخل في أوله وآخره جحد غير مصرح ، فالسابق كقوله : { مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ } [الأعراف : 12] ، { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ } [الأنعام : 109] ، { وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ } [الأنبياء : 95].
__________
(1) صحيح البخاري برقم (2268).
(2) صحيح البخاري برقم (3459).
(3) في أ : "يزيد".
(4) صحيح البخاري برقم (2271).
(5) زيادة من أ.
(6) في م : "حطاب".

(8/33)


قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)

تفسير سورة المجادلة
وهي مدنية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) }
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن تميم بن سلمة ، عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : الحمد لله الذي وَسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلةُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ، ما أسمع ما تقول ، فأنزل الله ، عز وجل : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } إلى آخر الآية (1)
وهكذا رواه البخاري في كتاب التوحيد تعليقًا فقال : وقال الأعمش ، عن تميم بن سلمة ، عن عروة ، عن عائشة ، فذكره (2) وأخرجه النسائي ، وابن ماجة ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، من غير وجه ، عن الأعمش ، به (3)
وفي رواية لابن أبي حاتم عن الأعمش ، عن تميم بن سلمة ، عن عروة ، عن عائشة ، أنها قالت : تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء ، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ، ويخفى علي بعضه ، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي تقول : يا رسول الله ، أَكَلَ شبابي ، ونَثَرت (4) له بطني ، حتى إذا كَبُرَت سِنِّي ، وانقطع ولدي ، ظَاهَر مِنِّي ، اللهم إني أشكو إليك. قالت : فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } وقال (5) وزوجها أوس بن الصامت.
وقال ابن لَهِيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة : هو أوس بن الصامت - وكان أوس امرأ به لمم ، فكان إذا أخَذه لممه (6) واشتد به يظاهر من امرأته ، وإذا ذهب لم يقل شيئًا. فأتت رسول الله تستفتيه في ذلك ، وتشتكي إلى الله ، فأنزل الله : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ } الآية.
وهكذا روى هشام بن عروة ، عن أبيه : أن رجلا كان به لممٌ ، فذكر مثله.
__________
(1) المسند (6/46).
(2) صحيح البخاري برقم (7385).
(3) سنن النسائي الكبرى برقم (11570) وسنن ابن ماجة برقم (188) وتفسير الطبري (28/5).
(4) في أ : "وبرت".
(5) في م : "وقالت".
(6) في م : "أخذه لمم".

(8/34)


الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل أبو سلمة ، حدثنا جرير - يعني بن حازم - قال : سمعت أبا يزيد يحدث قال : لقيت امرأة عُمَرَ - يقال لها : خولة بنت ثعلبة - وهو يسير مع الناس ، فاستوقفته فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها رأسه ، ووضع يديه على منكبيها حتى قضت حاجتها وانصرفت. فقال له رجل : يا أمير المؤمنين ، حبست رجالات قريش على هذه العجوز ؟! قال : ويحك! وتدري من هذه ؟ قال : لا. قال : هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سموات ، هذه خولة بنت ثعلبة ، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت عنها حتى تقضي حاجتها إلى أن تحضر صلاة فأصليها ، ثم أرجع إليها حتى تقضي حاجتها (1)
هذا منقطع بين أبي يزيد وعمر بن الخطاب. وقد روي من غير هذا الوجه. وقال ابن أبي حاتم أيضًا : حدثنا المنذر بن شاذان (2) حدثنا يعلى ، حدثنا زكريا عن عامر قال : المرأة التي جادلت في زوجها خولة بنت الصامت ، وأمها معاذة التي أنزل الله فيها : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } [ النور : 33 ]
صوابه : خولة امرأة أوس بن الصامت.
{ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) }
قال الإمام أحمد : حدثنا سعد (3) بن إبراهيم ويعقوب قالا حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثني مَعْمَر بن عبد الله بن حنظلة ، عن ابن عبد الله بن سلام ، عن خويلة (4) بنت ثعلبة قالت : فيَّ - والله - وفي أوس بن الصامت أنزل الله صَدْرَ سورة "المجادلة" ، قالت : كنت عنده وكان شيخًا كبيرًا قد ساء خلقه ، قالت : فدخل عليَّ يومًا فراجعته بشيء فغضب فقال : أنت عليَّ كظهر أمي. قالت : ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة ، ثم دخل عليَّ فإذا هو يريدني عن نفسي. قالت : قلت : كلا والذي نفس خويلة (5) بيده ، لا تخلص إليَّ وقد قلت ما قلت ، حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه. قالت : فواثبني وامتنعت منه ، فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف ، فألقيته عني ، قالت : ثم خرجتُ إلى بعض جاراتي ، فاستعرت منها ثيابًا ، ثم خرجتُ حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلست بين يديه ، فذكرت له ما لقيت منه ، وجعلت أشكو إليه ما
__________
(1) ورواه الدرامي في الرد على الجهمية (ص 26) من طريق أبي يزيد ، عن عمر بن الخطاب به. قال الذهبي في العلو (ص 113) : "هذا إسناد صالح فيه انقطاع ، أبو يزيد لم يلحق عمر".
(2) في أ : "حدثنا الوليد بن المنذر به شاذان".
(3) في أ : "سعيد".
(4) في أ : "خولة".
(5) في أ : "خولة".

(8/35)


ألقى من سوء خلقه. قالت : فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "يا خويلة (1) ابنُ عمك شيخ كبير ، فاتقي الله فيه". قالت : فوالله ما برحت حتى نزل فيَّ القرآن ، فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه ، ثم سُرِّيَ عنه ، فقال لي : "يا خويلة (2) قد أنزل الله فيك وفي صاحبك". ثم قرأ عليَّ : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } إلى قوله : { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } قالت : فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مُريه فليعتق رقبة". قالت : فقلت يا رسول الله ، ما عنده ما يعتق. قال : "فليصم شهرين متتابعين". قالت : فقلت : والله إنه شيخ كبير ، ما به من صيام. قال : "فليطعم ستين مسكينًا وسقًا من تَمر". قالت : فقلت : يا رسول الله ، ما ذاك عنده. قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فإنا سنعينه بعَرَقٍ من تمر". قالت : فقلت : يا رسول الله ، وأنا سأعينه بعَرَقٍ آخر ، قال : "فقد أصبت وأحسَنْت ، فاذهبي فتصدقي به عنه ، ثم استوصي بابن عمك خيرًا". قالت : ففعلت.
ورواه أبو داود في كتاب الطلاق من سننه من طريقين ، عن محمد بن إسحاق بن يسار ، به (3) وعنده : خولة بنت ثعلبة ، ويقال فيها : خولة بنت مالك بن ثعلبة. وقد تصغر فيقال : خُوَيلة. ولا منافاة بين هذه الأقوال ، فالأمر فيها قريب. والله أعلم.
هذا هو الصحيح في سبب نزول صدر هذه السورة ، فأما حديث سَلَمة بن صَخْر فليس فيه أنه كان سبب النزول ، ولكن أمر بما أنزل الله في هذه السورة ، من العتق أو الصيام ، أو الإطعام ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن سُلَيمان بن يَسَار ، عن سلمة بن صخر الأنصاري قال : كنتُ امرأ قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري ، فلما دخل رمضان تظهَّرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان ، فَرَقًا من أن أصيب في ليلتي شيئا فأتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار ، وأنا لا أقدر أن أنزع ، فبينا هي تخدمني من الليل إذ تكشف لي منها شيء ، فوثبت عليها ، فلما أصبحتُ غدوتُ على (4) قومي فأخبرتهم خبري وقلت : انطلقوا معي إلى النبي (5) صلى الله عليه وسلم - فأخبره بأمري. فقالوا : لا والله لا نفعل ؛ نتخوف أن ينزل فينا (6) - أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم - مقالة يبقى علينا عارها ، ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك. قال : فخرجتُ حتى أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته خبري. فقال لي : "أنت بذاك". فقلت : أنا بذاك. فقال "أنت بذاك". فقلت : أنا بذاك. قال "أنت بذاك". قلت : نعم ، ها أناذا فأمض فيّ حكم الله تعالى (7) فإني صابر له. قال : "أعتق رقبة". قال : فضربت صفحة رقبتي (8) بيدي وقلت : لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها. قال : "فصم شهرين". قلت : يا رسول الله ، وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام ؟ قال : "فتصدق". فقلت : والذي بعثك بالحق ،
__________
(1) في أ : "يا خولة".
(2) في أ : "يا خولة".
(3) المسند (6/410) وسنن أبي داود برقم (2214 ، 2215).
(4) في م : "إلى"
(5) في م : "رسول الله".
(6) في أ : "فينا شيء".
(7) في م ، أ : "عز وجل".
(8) في م : "عنقي".

(8/36)


لقد بتنا ليلتنا هذه وَحْشَى ما لنا عشاء. قال : "اذهب إلى صاحب صدقة بني زُريق فقل له فليدفعها إليك ، فأطعم عنك منها وسقًا من تمر ستين مسكينًا ، ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك". قال : فرجعت إلى قومي فقلت : وجدت عندكم الضيقَ وسوءَ الرأي ، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السَّعَة والبركة ، قد أمر لي بصدقتكم ، فادفعوها إليَّ. فدفعوها إليَّ.
وهكذا رواه أبو داود ، وابن ماجة ، واختصره الترمذي وحَسَّنه (1)
وظاهر السياق : أن هذه القصة كانت بعد قصة أوس بن الصامت وزوجته خُويَلة بنت ثعلبة ، كما دلّ عليه سياق تلك وهذه بعد التأمل.
قال خَصيف ، عن مجاهد ، عن بن عباس : أول من ظاهر من امرأته أوس بن الصامت ، أخو عبادة بن الصامت ، وامرأته خولة بنت ثعلبة بن مالك ، فلما ظاهر منها خَشِيت أن يكون ذلك طلاقًا ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن أوسًا ظاهر مني ، وإنا إن افترقنا هلكنا ، وقد نَثَرتُ بطني منه ، وقَدمتْ صُحْبَتَهُ. وهي تشكو ذلك وتبكي ، ولم يكن جاء في ذلك شيء. فأنزل الله : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ } إلى قوله : { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "أتقدر على رقبة تعتقها ؟ ". قال : لا والله يا رسول الله ما أقدر عليها ؟ قال : فجمع له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى أعتق عنه ، ثم راجع أهله رواه بن جرير (2)
ولهذا ذهب ابنُ عباس والأكثرون إلى ما قلناه ، والله أعلم.
فقوله تعالى : { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ } أصل الظهار مشتق من الظهر ، وذلك أن الجاهلية كانوا إذا تظاهر أحد من امرأته قال لها : أنت عليَّ كَظَهْرِ أمي ، ثم في الشرع كان الظهار في سائر الأعضاء قياسًا على الظهر ، وكان الظهار عند الجاهلية طلاقًا ، فأرخص الله لهذه الأمة وجعل فيه كفارة ، ولم يجعله طلاقًا كما كانوا يعتمدونه في جاهليتهم. هكذا قال غير واحد من السلف.
قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن أبي حمزة ، عن عِكْرمة ، عن ابن عباس قال : كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية : أنت عليَّ كظهر أمي ، حُرِّمت عليه ، فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس ، وكان تحته ابنة عم له يقال لها : "خويلة بنت ثعلبة (3). فظاهر منها ، فأسقط في يديه ، وقال : ما أراك إلا قد حَرُمت علي. وقالت له مثل ذلك ، قال : فانطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتت رسول الله فوجدت عنده ماشطة تمشط رأسه ، فقال : "ياخويلة ، ما أمرنا في أمرك بشيء (4) فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " يا خويلة ، أبشري" قالت : خيرًا. قال فقرأ عليها : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا } إلى قوله : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا }
__________
(1) المسند (4/37) وسنن أبي داود برقم (2213) وسنن ابن ماجة برقم (2062) وسنن الترمذي برقم (3299).
(2) تفسير الطبري (28/6).
(3) في أ : "بنت خويلد" وهو خطأ.
(4) قي م : "ما أمرنا فيك بشيء".

(8/37)


قالت : وأي رقبة لنا ؟ والله ما يجد رقبة غيري. قال : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } قالت : والله لولا أنه يشرب في اليوم ثلاث مرات لذهب بصره! قال : { فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } قالت : من أين ؟ ما هي إلا أكلة إلي مثلها! قال : فدعا بشطر وَسْق - ثلاثين صاعا ، والوسق : ستون صاعا - فقال : "ليطعم ستين مسكينا وليراجعك" (1) وهذا إسناد جيد قوي ، وسياق غريب ، وقد روي عن أبي العالية نحو هذا ، فقال ابن أبي حاتم :
حدثنا محمد بن عبد الرحمن الهروي ، حدثنا على بن عاصم ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي العالية قال : كانت خولة بنت دُلَيج تحت رجل من الأنصار ، وكان ضرير البصر فقيرًا سيئ الخلق ، وكان طلاق أهل الجاهلية إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته ، قال : "أنت عليَّ كظهر أمي". وكان لها منه عيل أو عيلان ، فنازعته يوما في شيء فقال : "أنت عليَّ كظهر أمي". فاحتملت عليها ثيابها حتى دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم. وهو في بيت عائشة ، وعائشة تغسل شق رأسه ، فقدمت عليه ومعها عَيّلها ، فقالت : يا رسول الله ، إن زوجي ضرير البصر ، فقير لا شيء له سيئ الخُلُق ، وإني نازعته في شيء فغضب ، فقال : "أنت عليَّ كظهر أمي" ، ولم يرد به الطلاق ، ولي منه عيل أو عيلان ، فقال : "ما أعلمك إلا قد حَرُمت عليه" فقالت : أشكو إلى الله ما نزل بي وأبا صبييّ. قال : ودارت عائشة فغسلت شق رأسه الآخر ، فدارت معها ، فقالت : يا رسول الله ، زوجي ضرير البصر ، فقير سيئ الخلق ، وإن لي منه عَيِّلا أو عيلين ، وإني نازعته في شيء فغضب ، وقال : "أنت عليَّ كظهر أمي" ، ولم يرد به الطلاق! قالت : فرفع إلي رأسه وقال : "ما أعلمك إلا قد حرمت عليه". فقالت : أشكو إلى الله ما نزل بي وأبا صبيي ؟ قال : ورأت عائشة وجه النبي صلى الله عليه وسلم تَغَيَّر ، فقالت لها : "وراءك وراءك ؟" فتنحت ، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في غشيانه ذلك ما شاء الله ، فلما انقطع الوحي قال : "يا عائشة ، أين المرأة" فدعتها ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اذهبي فأتني بزوجك". فانطلقت تسعى فجاءت به. فإذا هو - [كما قالت] (2) - ضرير البصر ، فقير سيئ الخلق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أستعيذ بالله السميع العليم ، بسم الله الرحمن الرحيم { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [ وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ ] } (3) إلى قوله : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا [ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ] } (4) قال النبي صلى الله عليه وسلم : "أتجد رقبة تعتقها من قبل أن تمسها ؟". قال : لا. قال : "أتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟". قال : والذي بعثك بالحق ، إني إذا لم آكل المرتين والثلاث يكاد أن يعشو بصري. قال : "أفتستطيع أن تطعم ستين مسكينا ؟". قال : لا إلا [أن] (5) تعينني. قال : فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "أطعم ستين مسكينا". قال :
__________
(1) تفسير الطبري (28/3) ورواه البزار في مسنده برقم (1076) "كشف الأستار" من طريق عبيد الله بن موسى ، عن أبي حمزة به وقال : "لا نعلمه بهذا اللفظ في الظهار عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد ، وأبو حمزة لين الحديث ، وقد خالف في روايته ومتن حديثه الثقاب في أمر الظهار ؛ لأن الزهري رواه عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، وهذا إسناد لا نعلم بين علماء أهل الحديث اختلافًا في صحته ، وأنه صلى الله عليه وسلم دعا بإناء فيه خمسة عشر صاعًا ، وحديث أبي حمزة منكر ، وفيه لفظ يدل على خلاف الكتاب ؛ لأنه قال : "وليراجعك ، وقد كانت امرأته ، فما معنى مراجعته امرأته ولم يطلقها ، وهذا مما لا يجوز على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما أتي هذا من رواية أبي حمزة الثمالي".
(2) زيادة من م.
(3) زيادة من م.
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من م.

(8/38)


وحَوّل الله الطلاق ، فجعله ظهارًا.
ورواه ابن جرير ، عن ابن المثنى ، عن عبد الأعلى ، عن داود ، سمعت أبا العالية ، فذكر نحوه ، بأخصر من هذا السياق (1)
وقال سعيد ابن جبير : كان الإيلاء والظهار من طلاق الجاهلية ، فوقت الله الإيلاء أربعة أشهر ، وجعل في الظهار الكفارة. رواه بن أبي حاتم ، بنحوه.
وقد استدل الإمام مالك على أن الكافر لا يدخل في هذه الآية بقوله : { مِنْكُمْ } فالخطاب للمؤمنين ، وأجاب الجمهور بأن هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له ، واستدل الجمهور عليه بقوله : { مِنْ نِسَائِهِمْ } على أن الأمة لا ظهار منها ، ولا تدخل في هذا الخطاب.
وقوله : { مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ } أي : لا تصير المرأة بقول الرجل : "أنت عليَّ كأمي" أو "مثل أمي" أو "كظهر أمي" (2) وما أشبه ذلك ، لا تصير أمه بذلك ، إنما أمه التي ولدته ؛ ولهذا قال : { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا } أي : كلامًا فاحشًا باطلا { وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } أي : عما كان منكم في حال الجاهلية. وهكذا أيضًا عما خرج من سبق اللسان ، ولم يقصد إليه المتكلم ، كما رواه أبو داود : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول لامرأته : يا أختي. فقال : أختك هي ؟" ، فهذا إنكار (3) ولكن لم يحرمها عليه بمجرد ذلك ؛ لأنه لم يقصده ، ولو قصده لحرمت عليه ؛ لأنه لا فرق على الصحيح بين الأم وبين غيرها من سائر المحارم من أخت وعمة وخالة وما أشبه ذلك.
وقوله : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } اختلف السلف والأئمة في المراد بقوله : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } فقال بعض الناس : العود هو أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرره ، وهذا القول باطل ، وهو اختيار بن حزم (4) وقول داود ، وحكاه أبو عمر بن عبد البر عن بُكَيْر ابن الأشج والفراء ، وفرقة من أهل الكلام.
وقال الشافعي : هو أن يمسكها بعد الظهار زمانًا يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق.
وقال أحمد بن حنبل : هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه فلا تحل له حتى يكفر بهذه الكفارة. وقد حكي عن مالك : أنه العزم على الجماع أو الإمساك (5) وعنه أنه الجماع.
وقال أبو حنيفة : هو أن يعود إلى الظهار بعد تحريمه ، ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية ، فمتى تظاهر (6) الرجل من امرأته فقد حرمها تحريمًا لا يرفعه إلا الكفارة. وإليه ذهب أصحابه ، والليث بن سعد.
__________
(1) تفسير الطبري (28/3).
(2) في م : "كظهر أمي أو كأمي أو مثل أمي".
(3) سنن أبي داود برقم (2210) من حديث أبي تميمة الهجيمي ، رضي الله عنه.
(4) في هـ ، أ : "ابن جرير" والمثبت من م. مستفادًا من هامش ط - الشعب.
(5) في م : "أو الإمساك".
(6) في م : "ظاهر".

(8/39)


وقال ابن لَهِيعة : حدثني عطاء ، عن سعيد بن جبير : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } يعني : يريدون أن يعودوا في الجماع الذي حرموه على أنفسهم.
وقال الحسن البصري : يعني الغشيان في الفرج. وكان لا يرى بأسا أن يغشى فيما دون الفرج قبل أن يكفر.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } والمس : النكاح. وكذا قال عطاء ، والزهري ، وقتادة ، ومقاتل ابن حيان.
وقال الزهري : ليس له أن يقبلها ولا يمسها حتى يكفر.
وقد روي أهل السنن من حديث عكرمة ، عن ابن عباس أن رجلا قال : يا رسول الله ، إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر. فقال : "ما حملك على ذلك يرحمك الله ؟". قال : رأيت خلخالها في ضوء القمر. قال : "فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله ، عز وجل" (1)
وقال الترمذي : حسن غريب صحيح (2) ورواه أبو داود والنسائي من حديث عكرمة مرسلا. قال النسائي : وهو أولى بالصواب (3)
وقوله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أي : فإعتاق رقبة كاملة من قبل أن يتماسا ، فها هنا الرقبة مطلقة غير مقيدة بالإيمان ، وفي كفارة القتل مقيدة بالإيمان ، فحمل الشافعي ، رحمه الله ، ما أطلق ها هنا على ما قيد هناك لاتحاد الموجب ، وهو عتق الرقبة ، واعتضد (4) في ذلك بما رواه عن مالك بسنده ، عن معاوية بن الحكم السلمي ، في قصة الجارية السوداء ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أعتقها فإنها مؤمنة". وقد رواه أحمد في مسنده ، ومسلم في صحيحه (5)
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا يوسف (6) بن موسى ، حدثنا عبد الله بن نمير ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال : إني تظاهرت (7) من امرأتي ثم وقعت عليها قبل أن أكفر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألم يقل الله { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } قال : أعجبتني ؟ قال : "أمسك حتى تكفر" (8)
ثم قال البزار : لا يروي عن ابن عباس بأحسن من هذا ، وإسماعيل بن مسلم تكلم فيه ، وروي عنه جماعة كثيرة من أهل العلم ، وفيه من الفقه أنه لم يأمره إلا بكفارة واحدة.
__________
(1) رواه أبو داود في السنن برقم (2223) والترمذي في السنن برقم (1990) والنسائي في السنن (6/167) وابن ماجة في السنن برقم (2065).
(2) في م : : حسن صحيح غريب".
(3) سنن أبي داود برقم (2221 ، 2222) وسنن النسائي (6/168).
(4) في م : "واعتمد".
(5) الموطأ (2/777) والمسند (5/447) وصحيح مسلم برقم (537).
(6) في أ : "حدثنا يونس".
(7) في م : "إني ظاهرت".
(8) ورواه الحاكم في المستدرك (2/204) والبيهقي في السنن الكبرى (7/386) من طريق إسماعيل بن مسلم ، عن عمرو بن دينار به نحوه ، وقال الذهبي : "فيه إسماعيل بن مسلم وهو واه".

(8/40)


إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)

وقوله : { ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ } أي : تزجرون به { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : خبير بما يصلحكم ، عليم بأحوالكم.
وقوله : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } وقد تقدمت الأحاديث الواردة (1) بهذا على الترتيب ، كما ثبت في الصحيحين في قصة الذي جامع امرأته في رمضان.
{ ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي : شرعنا هذا لهذا.
وقوله : { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } أي : محارمه فلا تنتهكوها.
وقوله : { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : الذين لم يؤمنوا ولا التزموا بأحكام هذه الشريعة ، لا تعتقدوا أنهم ناجون من البلاء ، كلا ليس الأمر كما زعموا ، بل لهم عذاب أليم ، أي : في الدنيا والآخرة.
{ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) }
__________
(1) في م : "الآمرة".

(8/41)


أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)

{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) }
يخبر تعالى عمن شاقوا الله ورسوله وعاندوا شرعه { كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي : أهينوا ولعنوا وأخزوا ، كما فعل بمن أشبههم ممن قبلهم { وَقَدْ أَنزلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أي : واضحات لا يخالفها ولا يعاندها إلا كافر فاجر مكابر ، { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ } أي : في مقابلة ما استكبروا عن اتباع شرع الله ، والانقياد له ، والخضوع لديه.
ثم قال : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا } وذلك يوم القيامة ، يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ، { فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا } أي : يخبرهم (1) بالذي صنعوا من خير وشر { أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ } أي : ضبطه الله وحفظه عليهم ، وهم قد نسوا ما كانوا عليه ، { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي : لا يغيب عنه شيء ، ولا يخفى ولا ينسى شيئًا.
ثم قال تعالى مخبرًا عن إحاطة علمه بخلقه واطلاعه عليهم ، وسماعه كلامهم ، ورؤيته مكانهم حيث كانوا وأين كانوا ، فقال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ }
__________
(1) في أ : "فيجزيهم".

(8/41)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)

أي : من سر ثلاثة { إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } أي : يطلع عليهم يسمع كلامهم وسرهم ونجواهم ، ورسله أيضًا مع ذلك تكتب ما يتناجون به ، مع علم الله وسمعه لهم ، كما قال : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ } [ التوبة : 78 ] وقال { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [ الزخرف : 80 ] ؛ ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علم الله تعالى (1) ولا شك في إرادة ذلك ولكن سمعه أيضا مع علمه محيط بهم ، وبصره نافذ فيهم ، فهو ، سبحانه ، مطلع على خلقه ، لا يغيب عنه من أمورهم شيء.
ثم قال : { ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } قال الإمام أحمد : افتتح الآية بالعلم ، واختتمها بالعلم.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) }
قال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد [في قوله] (2) { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى } قال : اليهود وكذا قال مقاتل بن حيان ، وزاد : كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة ، وكانوا إذا مر بهم رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلسوا يتناجون بينهم ، حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله - أو : بما يكره المؤمن - فإذا رأى المؤمن ذلك خَشيهم ، فترك طريقه عليهم. فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى ، فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى ، فأنزل الله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ }.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ، حدثني سفيان بن حمزة ، عن كثير عن زيد ، عن رُبَيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ، عن أبيه ، عن جده قال : كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نبيت عنده ؛ يطرُقه من الليل أمر (3) وتبدو له حاجة. فلما كانت ذات ليلة كَثُر أهل النّوب والمحتسبون حتى كنا أندية نتحدث ، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "ما هذا النجوى ؟ ألم تُنْهَوا عن النجوى ؟". قلنا : تبنا إلى الله يا رسول الله ، إنا كنا في ذكر المسيح ،
__________
(1) في م : "علمه تعالى".
(2) زيادة من أ.
(3) في م : "أمرًا" وهو خطأ.

(8/42)


فَرقا منه. فقال : "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي منه ؟ ". قلنا : بلى يا رسول الله. قال : "الشرك الخفي ، أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل". هذا إسناد غريب ، وفيه بعض الضعفاء (1)
وقوله : { وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ } أي : يتحدثون فيما بينهم بالإثم ، وهو ما يختص بهم ، والعدوان ، وهو ما يتعلق بغيرهم ، ومنه معصية الرسول ومخالفته ، يُصِرون عليها ويتواصون بها.
وقوله : { وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ } قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا بن نمير ، عن الأعمش ، [عن مسلم] (2) عن مسروق ، عن عائشة قالت : دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود فقالوا : السام عليك يا أبا القاسم. فقالت عائشة : وعليكم السام و[اللعنة] (3) قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا عائشة ، إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش". قلت : ألا تسمعهم يقولون : السام عليك ؟ فقال رسول الله : "أو ما سمعت أقول (4) وعليكم ؟". فأنزل الله : { وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ } (5)
وفي رواية في الصحيح أنها قالت لهم : عليكم السام والذام واللعنة. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إنه يستجاب لنا فيهم ، ولا يستجاب لهم فينا" (6)
وقال ابن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه ، إذ أتى عليهم يهودي فسلَّم عليهم ، فردوا عليه ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : "هل تدرون ما قال ؟". قالوا : سلم يا رسول الله. قال : "بل قال : سام عليكم ، أي : تسامون دينكم". قال رسول الله : "ردوه". فردوه عليه. فقال نبي الله : "أقلت : سام عليكم ؟". قال : نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا : عليك" أي : عليك ما قلت (7)
وأصل حديث أنس مخرج في الصحيح ، وهذا الحديث في الصحيح عن عائشة ، بنحوه (8)
وقوله : { وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } أي : يفعلون هذا ، ويقولون ما يحرفون من الكلام وإيهام السلام ، وإنما هو شتم في الباطن ، ومع هذا يقولون في أنفسهم : لو كان هذا نبيًا لعذبنا الله بما نقول له في الباطن ؛ لأن الله يعلم ما نسره ، فلو كان هذا نبيًا حقًّا لأوشك أن
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند (3/30) وابن ماجة في السنن برقم (4204) من طريق كثير بن زيد به نحوه ، وقال البوصيري في الزوائد (3/296) : "هذا إسناد حسن ، كثير بن زيد وربيع بن عبد الرحمن مختلف فيهما".
(2) زيادة من المسند (6/229).
(3) زيادة من أ.
(4) في أ : "ما أقول".
(5) رواه مسلم في صحيحه برقم (2165) من طريق يعلى بن عبيد ، عن الأعمش به نحوه.
(6) انظر : صحيح البخاري برقم (6030) وصحيح مسلم برقم (2166) من حديث عائشة ، رضي الله عنها.
(7) تفسير الطبري (27/11).
(8) صحيح مسلم برقم (2163).

(8/43)


يعاجلنا الله بالعقوبة في الدنيا ، فقال الله تعالى : { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ } أي : جهنم كفايتهم في الدار الآخرة { يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حماد ، عن عطاء بن السائب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو ؛ أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : سام عليك ، ثم يقولون في أنفسهم : { لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } ؟ ، فنزلت هذه الآية : { وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } إسناد حسن ولم يخرجوه (1)
وقال العوفي ، عن بن عباس : { وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ } قال : كان المنافقون يقولون لرسول الله إذا حيوه : "سام عليك" ، قال الله : { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ }.
ثم قال الله مُؤدّبًا عباده المؤمنين ألا يكونوا مثل الكفرة والمنافقين : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ } أي : كما يتناجى به الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومن مَالأهم على ضلالهم من المنافقين ، { وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي : فيخبركم (2) بجميع أعمالكم وأقوالكم التي أحصاها عليكم ، وسيجزيكم بها.
قال الإمام أحمد : حدثنا بَهْزُ وعفان قالا أخبرنا همام ، حدثنا قتادة ، عن صفوان بن مُحْرِز قال : كنت آخذًا بيد ابن عمر ، إذ عرض له رجل فقال : كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة ؟ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كَنَفه ويستره من الناس ، ويقرره بذنوبه ، ويقول له : أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ حتى إذا قَرّره بذنوبه ورأى في نفسه أن قد هلك ، قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم. ثم يُعْطَى كتابَ حسناته ، وأما الكفار (3) والمنافقون فيقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ، ألا لعنة الله على الظالمين".
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث قتادة (4)
ثم قال تعالى : { إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } أي : إنما النجوى - وهي المُسَارّة - حيث يتوهم مؤمن بها سوءًا { مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا } يعني : إنما يصدر هذا من المتناجين عن تسويل الشيطان وتزيينه ، { لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا } أي : ليسوءهم ، وليس ذلك بضارهم شيئًا إلا بإذن الله ، ومن أحس من ذلك شيئًا فليستعذ بالله وليتوكل على الله ، فإنه لا يضره شيء بإذن الله.
وقد وردت السنة بالنهي عن التناجي حيث يكون في ذلك تأذٍ على مؤمن ، كما قال الإمام أحمد :
__________
(1) المسند (2/170).
(2) في أ : "فيجزيكم".
(3) في م : "الكافرون".
(4) المسند (2/74) وصحيح البخاري برقم (4685) وصحيح مسلم برقم (1768).

(8/44)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)

حدثنا وكيع وأبو معاوية قالا حدثنا الأعمش ، عن أبي وائل ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجَينَّ اثنان دون صاحبهما ، فإن ذلك يحزنه". وأخرجاه من حديث الأعمش (1)
وقال عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه ؛ فإن ذلك يحزنه". انفرد بإخراجه مسلم عن أبي الربيع وأبي كامل ، كلاهما عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، به (2)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) }
يقول تعالى مؤدبًا عباده المؤمنين ، وآمرًا لهم أن يحسن بعضهم إلى بعض في المجالس : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ } وقرئ { في المجلس } { فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ } وذلك أن الجزاء من جنس العمل ، كما جاء في الحديث الصحيح : "من بَنَى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة" (3) وفي الحديث الآخر : "ومن يَسَّر على مُعْسِر يَسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة ، [ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة] (4) والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" (5) ولهذا أشباه كثيرة ؛ ولهذا قال : { فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ }.
قال قتادة : نزلت هذه الآية في مجالس (6) الذكر ، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا ضَنّوا بمجالسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض.
وقال مقاتل ابن حيان : أنزلت هذه الآية يوم جُمُعة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ في الصفة ، وفي المكان ضيق ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس ، فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. فرد النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم سلموا على القوم بعد ذلك ، فردوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام ، فلم يُفْسَح لهم ، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار ، من غير أهل بدر : "قم يا فلان ، وأنت يا فلان". فلم يزل
__________
(1) المسند (1/431) وصحيح مسلم برقم (2184) ولم أقع عليه عند البخاري عن الأعمش ، وإنما هو عنده عن منصور ، عن أبي وائل برقم (6290).
(2) صحيح مسلم برقم (2183).
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (450) ومسلم في صحيحه برقم (533) من حديث عثمان ، رضي الله عنه.
(4) زيادة من صحيح مسلم (2699).
(5) رواه مسلم في صحيحه برقم (2699) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(6) في م : "في مجلس".

(8/45)


يقيمهم بعدة (1) النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والأنصار من أهل بدر ، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه ، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم ، فقال المنافقون : ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس ؟ والله ما رأيناه قبلُ عدل على هؤلاء ، إن قوما أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب لنبيهم ، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه. فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "رحم الله رجلا فَسَح (2) لأخيه". فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعًا ، فَتَفَسَّحَ القومُ لإخوانهم ، ونزلت هذه الآية يوم الجمعة. رواه بن أبي حاتم.
وقد قال الإمام أحمد ، والشافعي : حدثنا سفيان ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا يقيم الرَّجُلُ الرَّجُلَ من مجلسه فيجلس فيه ، ولكن تَفَسَّحُوا وتَوسَّعوا".
وأخرجاه في الصحيحين من حديث نافع ، به (3)
وقال الشافعي : أخبرنا عبد المجيد ، عن ابن جريج قال : قال سليمان بن موسى ، عن جابر بن عبد الله. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا يقيمن أحدُكم أخاه يوم الجمعة ، ولكن ليقل : افسحوا". على شرط السنن ولم يخرجوه (4)
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الملك بن عمرو ، حدثنا فُلَيْح ، عن أيوب عن عبد الرحمن بن [أبي] (5) صَعْصَعة ، عن يعقوب بن أبي يعقوب ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا يقم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه ، ولكن افسحوا يفسح الله لكم" (6)
ورواه أيضًا عن سُرَيج (7) بن يونس ، ويونس بن محمد المؤدب ، عن فُلَيْح ، به. ولفظه : "لا يقوم الرجلُ للرجل من مجلسه ، ولكن افسحوا يفسح الله لكم" تفرد به أحمد (8)
وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال : فمنهم من رخص في ذلك محتجًّا بحديث : "قوموا إلى سيدكم" (9) ومنهم من منع من ذلك محتجًّا بحديث : "من أحَبَّ أن يَتَمثَّلَ له الرجال قيامًا فَلْيَتبوَّأ مَقْعَدَه من النار" (10) ومنهم من فصل فقال : يجوز عند القدوم من سفر ، وللحاكم في محل ولايته ، كما دل عليه قصة سعد بن معاذ ، فإنه لما استقدمه النبي صلى الله عليه وسلم حاكمًا
__________
(1) في أ : "بعدد".
(2) في م ، أ : "يفسح".
(3) لم يقع هذا الحديث لي في مسند أحمد هكذا ، وإنما هو فيه (2/22) : عن ابن نمير ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، (2/45) عن غندر ، عن شعبة ، عن أيوب بن موسى ، عن نافع ، عن ابن عمر. وهو في صحيح البخاري برقم (6269) وصحيح مسلم برقم (2177).
(4) مسند الشافعي برقم (454) "بدائع المنن".
(5) زيادة من المسند (2/523).
(6) المسند (2/523).
(7) في م ، أ : "شريح".
(8) المسند (2/338).
(9) رواه البخاري في صحيحه برقم (3043) ومسلم في صحيحه برقم (1768) من حديث أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه.
(10) رواه أبو داود في السنن برقم (5229) والترمذي في السنن برقم (2755) من حديث معاوية رضي الله عنه ، وقال الترمذي : "إسناد حسن".

(8/46)


في بني قريظه فرآه مقبلا قال للمسلمين : "قوموا إلى سيدكم". وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه ، والله أعلم. فأما اتخاذه ديدنًا فإنه من شعار العجم. وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان إذا جاء لا يقومون له ، لما يعلمون من كراهته (1) لذلك (2) (3)
وفي الحديث المروي في السنن : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس حيث انتهى به المجلس ، ولكن حيث يجلس يكون صدر ذلك المجلس ، وكان الصحابة ، رضي الله عنهم ، يجلسون منه على مراتبهم ، فالصديق يجلسه عن يمينه ، وعمر عن يساره ، وبين يديه غالبًا عثمان وعلي ؛ لأنهما كانا ممن يكتب (4) الوحي ، وكان يأمرهما بذلك ، كما رواه مسلم من حديث الأعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن أبي مَعْمَر ، عن أبي مسعود ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : "لِيَليني منكم أولوا الأحلام والنُّهَى ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم" (5) وما ذاك إلا ليعقلوا عنه ما يقوله ، صلوات الله وسلامه عليه ؛ ولهذا أمر أولئك النفر بالقيام ليجلس الذين وردوا من أهل بدر ، إما لتقصير أولئك في حق البدريين ، أو ليأخذ البدريون من العلم بنصيبهم ، كما أخذ أولئك قبلهم ، أو تعليما بتقديم الأفاضل إلى الأمام.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، عن الأعمش ، عن عُمَارة بن عمير (6) التيمي (7) عن أبي معمر ، عن أبي مسعود قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول : "استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ، ليليني منكم أولو الأحلام والنُّهى ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم". قال أبو مسعود (8) فأنتم اليوم أشد اختلافًا.
وكذا رواه مسلم وأهل السنن ، إلا الترمذي ، من طرق عن الأعمش ، به (9)
وإذا كان هذا أمره لهم في الصلاة أن يليه العقلاء (10) ثم العلماء ، فبطريق الأولى أن يكون ذلك في غير الصلاة.
وروى أبو داود من حديث معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن كثير بن مرة ، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أقيموا الصفوف ، وحَاذُوا بين المناكب ، وسُدّوا الخلل ، ولِينُوا بأيدي إخوانكم ، ولا تَذَروا فرجات للشيطان ، ومن وَصَل صفًّا وصله الله ، ومن قطع صفّا قطعه الله" (11)
__________
(1) في م : "من كراهيته".
(2) رواه الترمذي في السنن برقم (2754) من حديث أنس ، رضي الله عنه.
(3) وللإمام النووي - رحمه الله - رسالة سماها : "الترخيص بالقيام لذوى الفضل والمزية من أهل الإسلام" أطنب في الكلام على هذه المسألة ، وهى مطبوعة بدار الفكر بدمشق.
(4) في م : "يكتبان".
(5) صحيح مسلم برقم (432).
(6) في أ : "بكير".
(7) في م ، أ : "الليثي".
(8) في أ : "سعيد".
(9) المسند (4/122) وصحيح مسلم برقم (432) وسنن أبي داود برقم (674) وسنن النسائي (2/87) وسنن ابن ماجة برقم (976).
(10) في أ : "الفضلاء".
(11) سنن أبي داود برقم (666).

(8/47)


ولهذا كان أبي بن كعب - سيد القراء - إذا انتهى إلى الصف الأول انتزع منه رجلا يكون من أفناء (1) الناس ، ويدخل هو في الصف المقدم ، ويحتج بهذا الحديث : "ليلينى منكم أولو الأحلام والنهى". وأما عبد الله بن عمر فكان لا يجلس في المكان الذي يقوم له صاحبه عنه ، عملا بمقتضى ما تقدم من روايته الحديث الذي أوردناه. ولنقتصر على هذا المقدار (2) من الأنموذج المتعلق بهذه الآية ، وإلا فبسطه يحتاج (3) إلى غير هذا الموضع ، وفي الحديث الصحيح : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ، إذ أقبل ثلاثة نفر ، فأما أحدهم فوجد فرجة في الحلقة فدخل فيها ، وأما الآخر فجلس وراء الناس ، وأدبر الثالث ذاهبًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا أنبئكم بخبر الثلاثة ، أما الأول فآوى إلى الله فآواه الله ، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه ، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه" (4)
وقال الإمام أحمد : حدثنا عَتَّاب بن زياد ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا أسامة بن زيد ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما".
ورواه أبو داود والترمذي ، من حديث أسامة بن زيد الليثي ، به (5) وحسنه الترمذي.
وقد رُوي عن بن عباس ، والحسن البصري وغيرهما أنهم قالوا (6) في قوله تعالى : { إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس فافسحوا } (7) يعني : في مجالس الحرب ، قالوا : ومعنى قوله : { وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا } أي : انهضوا للقتال.
وقال قتادة : { وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا } أي : إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا.
وقال مقاتل [بن حيان] (8) إذا دعيتم إلى الصلاة فارتفعوا إليها.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كانوا إذا كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم في بيته فأرادوا الانصراف أحب كل منهم أن يكون هو آخرهم خروجا من عنده ، فربما يشق (9) ذلك عليه - عليه السلام - وقد تكون له (10) الحاجة ، فأمروا أنهم إذا أمروا بالانصراف أن ينصرفوا ، كقوله : { وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا } [ النور : 28 ] (11)
وقوله : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : لا تعتقدوا أنه إذا فَسَح أحد منكم لأخيه إذا أقبل ، أو إذا أمر بالخروج فخرج ، أن يكون ذلك نقصا في حقه ، بل هو رفعة ومزية (12) عند الله ، والله تعالى لا يضيع ذلك له ، بل يجزيه بها في الدنيا والآخرة ، فإن من تواضع لأمر الله رَفَع الله قدره ، ونَشَر ذكره ؛ ولهذا قال : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
__________
(1) في م ، أ : "أفناد".
(2) في م : "القدر".
(3) في م : "محتاج".
(4) رواه البخاري في صحيحه برقم (66) ومسلم في صحيحه برقم (2176).
(5) المسند (2/213) وسنن أبي داود برقم (4845) وسنن الترمذي برقم (2752).
(6) في م ، أ : "أنهما قالا".
(7) في أ : "المجالس".
(8) زيادة من م.
(9) في م : "شق".
(10) في م : "لهم".
(11) في م : "وإذا قيل ارجعوا" وهو خطأ.
(12) في م : "ورتبة" ، وفي أ : "ومنزلة"

(8/48)


أي : خبير بمن يستحق ذلك وبمن لا يستحقه.
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو كامل ، حدثنا إبراهيم ، حدثنا ابن شهاب ، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة ، أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان ، وكان عمر استعمله على مكة ، فقال له عمر : من استخلفت على أهل الوادي ؟ قال : استخلفت عليهم ابن أبزي. قال : وما ابن أبزي ؟ فقال : رجل من موالينا. فقال عمر [بن الخطاب] (1) استخلفت عليهم مولى ؟. فقال : يا أمير المؤمنين ، إنه قارئ لكتاب الله ، عالم بالفرائض ، قاض. فقال عمر ، رضي الله عنه : أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال : "إن الله يرفع بهذا الكتاب قومًا ويضع به آخرين" (2)
وهكذا رواه مسلم من غير وجه ، عن الزهري ، به (3) وقد ذكرت (4) فضل العلم وأهله وما ورد في ذلك من الأحاديث مستقصاة في شرح "كتاب العلم" من صحيح البخاري ، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) زيادة من م.
(2) المسند (1/35).
(3) جاء من طريق حماد بن سلمة عن حميد ، عن الحسن بن مسلم : أن عمر استعمل ابن عبد الحارث على مكة ، فذكر نحوه ، أخرجه أبو يعلى في مسنده (1/185) وفيه انقطاع. وأيضا من طريق الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت : أن عبد الرحمن بن أبي ليلي قال : خرجت مع عمر ، فاستقبلنا أمير مكة - نافع بن علقمة - فذكر نحو الحديث المتقدم ، أخرجه أبو يعلى في مسنده (1/186).
(4) في م : "ذكرنا".

(8/49)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) }
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين إذا أراد أحدهم أن يناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي : يساره فيما بينه وبينه ، أن يقدم بين يدي ذلك صدقة تطهره وتزكيه وتؤهله لأن يصلح لهذا المقام ؛ ولهذا قال : { ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ } (1)
ثم قال : { فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا } أي : إلا من عجز عن ذلك لفقده { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فما أمر بها إلا من قدر عليها.
ثم قال : { أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ } أي : أخفتم من استمرار هذا الحكم عليكم من وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول ، { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }
__________
(1) في أ : "ذلكم" وهو خطأ

(8/49)


فنسخ وجوب ذلك عنهم.
وقد قيل : إنه لم يعمل بهذه الآية قبل نسخها سوى علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه.
قال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد قال : نهوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتصدقوا ، فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب ، قدم دينارا صدقة تصدق به ، ثم ناجى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن عشر خصال ، ثم أنزلت الرخصة.
وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، قال علي ، رضي الله عنه : آية في كتاب الله ، عز وجل لم يعمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي ، كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم ، فكنت إذا ناجيت (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقت بدرهم ، فنسخت ولم يعمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي ، ثم تلا هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } الآية.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عثمان بن المغيرة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن علي بن علقمة الأنماري ، عن علي [بن أبي طالب] (2) - رضي الله عنه - قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "ما ترى ، دينار ؟". قال : لا يطيقون. قال : "نصف دينار ؟". قال : لا يطيقون. قال : "ما ترى ؟" قال : شَعِيرة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "إنك زهيد (3) قال : قال علي : فبى خَفَّف الله عن هذه الأمة ، وقوله : { [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] (4) إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } فنزلت : { أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ } (5)
ورواه الترمذي عن سفيان بن وَكِيع ، عن يحيى بن آدم ، عن عبيد الله الأشجعي ، عن سفيان الثوري ، عن عثمان بن المغيرة الثقفي ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن علي بن علقمة الأنماري ، عن علي بن أبي طالب قال : لما نزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } [إلى آخرها] (6) قال (7) لي النبي صلى الله عليه وسلم : "ما ترى ، دينار ؟" قلت (8) لا يطيقونه. وذكره بتمامه ، مثله ، ثم قال : "هذا حديث حسن غريب ، إنما نعرفه من هذا الوجه". ثم قال : ومعنى قوله : "شعيرة" : يعني وزن شعيرة من ذهب (9)
ورواه أبو يعلى ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يحيى بن آدم ، به (10)
وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } إلى { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } كان المسلمون يقدمون بين يدي النجوى صدقة ، فلما
__________
(1) في أ : "جئت".
(2) زيادة من أ.
(3) في م ، أ : "إنك لزهيد.
(4) زيادة من م.
(5) تفسير الطبري (28/15) وعلي بن علقمة فيه ضعف. قال البخاري : في حديثه نظر.
(6) زيادة من م.
(7) في م : "فقال".
(8) في م : "قال".
(9) سنن الترمذي برقم (3300).
(10) مسند أبي يعلى (1/322).

(8/50)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)

نزلت الزكاة نسخ هذا.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } وذلك أن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه ، فأراد الله أن يخفف عن نبيه ، عليه السلام. فلما قال ذلك صبر كثير من الناس وكفوا عن المسألة ، فأنزل الله بعد هذا : { أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً (1) فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } فوسع الله عليهم ولم يضيق.
وقال عكرمة والحسن البصري في قوله : { فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } نسختها الآية التي بعدها { أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } (2) إلى آخرها.
وقال سعيد [بن أبي عروبة] (3) عن قتاده ومقاتل ابن حيان : سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى أحفوه بالمسألة ، فقطعهم الله بهذه الآية ، فكان الرجل منهم إذا كانت له الحاجة إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدم بين يديه صدقة ، فاشتد ذلك عليهم ، فأنزل الله الرخصة بعد ذلك : { فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
وقال مَعْمَر ، عن قتادة : { إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } إنها منسوخة : ما كانت إلا ساعة من نهار. وهكذا روى عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن مجاهد قال علي : ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت وأحسبه قال : وما كانت إلا ساعة.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) }
يقول تعالى منكرا على المنافقين في موالاتهم الكفار في الباطن ، وهم في نفس الأمر لا معهم ولا مع المؤمنين ، كما قال تعالى : { مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا } [النساء : 143] وقال ها هنا : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } يعني :
__________
(1) (1 ، 2) في أ : "صدقات".
(2) (1 ، 2) في أ : "صدقات".
(3) زيادة من م ، أ.

(8/51)


اليهود ، الذين كان المنافقون يمالئونهم ويوالونهم في الباطن. ثم قال : { مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ } أي : هؤلاء المنافقون ، ليسوا في الحقيقة لا منكم أيها المؤمنون ، ولا من الذين تولوهم وهم اليهود.
ثم قال : { وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } يعني : المنافقين يحلفون على الكذب وهم عالمون بأنهم كاذبون فيما حلفوا ، وهي اليمين الغموس ، ولا سيما في مثل حالهم اللعين ، عياذًا بالله منه (1) فإنهم كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا ، وإذا جاءوا الرسول حلفوا بالله [له] (2) أنهم مؤمنون ، وهم في ذلك يعلمون أنهم يكذبون فيما حلفوا به ؛ لأنهم لا يعتقدون صدق ما قالوه ، وإن كان في نفس الأمر مطابقًا ؛ ولهذا شهد الله بكذبهم في أيمانهم وشهادتهم لذلك.
ثم قال : { أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : أرصد الله لهم على هذا الصنيع العذاب الأليم على أعمالهم السيئة ، وهي موالاة الكافرين ونصحهم ، ومعاداة المؤمنين وغشهم ؛ ولهذا قال تعالى { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي : أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر ، واتقوا بالأيمان الكاذبة ، فظن كثير ممن لا يعرف حقيقة أمرهم صدقهم فاغتر بهم ، فحصل بهذا صد عن سبيل الله لبعض الناس { فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } أي : في مقابلة ما امتهنوا من الحلف باسم الله العظيم في الأيمان الكاذبة الحانثة.
ثم قال : { لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } أي : لن يدفع ذلك عنهم بأسا (3) إذا جاءهم ، { أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
ثم قال : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا } أي : يحشرهم يوم القيامة عن آخرهم فلا يغادر منهم أحدًا ، { فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ } أي : يحلفون بالله (4) عز وجل ، أنهم كانوا على الهدى والاستقامة ، كما كانوا يحلفون للناس في الدنيا ؛ لأن من عاش على شيء مات عليه وبعث عليه ، ويعتقدون أن ذلك ينفعهم عند الله كما كان ينفعهم عند الناس ، فيجرون عليهم الأحكام الظاهرة ؛ ولهذا قال : { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ } أي : حلفهم ذلك لربهم ، عز وجل.
ثم قال منكرًا عليهم حسبانهم (5) { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ } فأكد الخبر عنهم بالكذب.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نفيل ، حدثنا زهير ، عن (6) سمَاك بن حرب ، حدثني سعيد بن جُبَير ؛ أن ابن عباس حدثه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في ظل حجرة من حُجَره ، وعنده نفر من المسلمين قد كان يَقلصُ عنهم الظل ، قال : "إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيني شيطان ، فإذا أتاكم فلا تكلموه". فجاء رجل أزرق ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه ، فقال ؛ "علام تشتمني أنت وفلان وفلان ؟" - نفر دعاهم بأسمائهم - قال : فانطلق الرجل فدعاهم ، فحلفوا له واعتذروا إليه ، قال فأنزل الله ، عز وجل : { فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ }
__________
(1) في م : "عياذًا بالله من ذلك".
(2) زيادة من م.
(3) في م : "بأس الله".
(4) في م : "الله".
(5) في م ، أ : "حسابهم".
(6) في م : "حدثنا".

(8/52)


إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)

وهكذا رواه الإمام أحمد من طريقين ، عن سماك ، به (1) ورواه ابن جرير ، عن محمد بن المثني ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن سماك ، به نحوه (2) وأخرجه أيضًا من حديث سفيان الثوري ، عن سماك ، بنحوه. إسناد جيد ولم يخرجوه.
وحال هؤلاء كما أخبر الله تعالى عن المشركين حيث يقول : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [الأنعام : 23 ، 24]
ثم قال : { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ } أي : استحوذ على قلوبهم الشيطان حتى أنساهم أن يذكروا الله ، عز وجل ، وكذلك يصنع بمن استحوذ عليه ؛ ولهذا قال أبو داود :
حدثنا أحمد ابن يونس ، حدثنا زائدة ، حدثنا السائب بن حُبَيش ، عن مَعْدان بن أبي طلحة اليَعْمُري ، عن أبي الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ما من ثلاثة في قرية ولا بَدْو ، لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان ، فعليك بالجماعة ، فإنما يأكل الذئب القاصية". قال زائدة : قال السائب : يعني الصلاة في الجماعة (3).
ثم قال تعالى : { أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ } يعني : الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله. ثم قال تعالى : { أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
{ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) }
__________
(1) المسند (1/240).
(2) تفسير الطبري (28/17).
(3) سنن أبي داود برقم (547).

(8/53)


لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)

{ لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) }
يقول تعالى مخبرًا عن الكفار المعاندين المحادين (1) لله ورسوله ، يعني : الذين هم في حَدٍّ والشرع في حَدٍّ ، أي : مجانبون للحق مشاقون له ، هم في ناحية والهدى في ناحية ، { أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ } أي : في الأشقياء المبعدين المطرودين عن الصواب ، الأذلين في الدنيا والآخرة.
{ كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } أي : قد حكم وكتب في كتابه الأول وقَدَره الذي لا يُخالَف ولا يُمانع ، ولا يبدل ، بأن النصرة له ولكتابه ورسله وعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة ، وأن العاقبة
__________
(1) في أ : "المحاربين".

(8/53)


للمتقين ، كما قال تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [غافر : 51 ، 52] وقال ها هنا { كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } أي : كتب القوي العزيز أنه الغالب لأعدائه. وهذا قدر محكم وأمر مبرم ، أن العاقبة والنصرة للمؤمنين في الدنيا والآخرة.
ثم قال تعالى : { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } أي : لا يوادون المحادين ولو كانوا من الأقربين ، كما قال تعالى : { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } [آل عمران : 28] الآية ، وقال تعالى : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [التوبة : 24]
وقد قال سعيد بن عبد العزيز وغيره : أنزلت هذه الآية { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } إلى آخرها في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح ، حين قتل أباه يوم بدر ؛ ولهذا قال عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، حين جعل الأمر شورى بعده في أولئك الستة ، رضي الله عنهم : "ولو كان أبو عبيدة حيًّا لاستخلفته".
وقيل في قوله : { وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ } نزلت في أبي عبيده قتل أباه يوم بدر { أَوْ أَبْنَاءَهُمْ } في (1) الصديق ، هَمَّ يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن ، { أَوْ إِخْوَانَهُمْ } في مصعب بن عمير ، قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ { أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } في عمر ، قتل قريبا له يومئذ أيضًا ، وفي حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث ، قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يومئذ ، والله أعلم.
قلت : ومن هذا القبيل حين استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في أسارى بدر ، فأشار الصديق بأن يفادوا ، فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين ، وهم بنو العم والعشيرة ، ولعل الله أن يهديهم. وقال عمر : لا أرى ما رأى يا رسول الله ، هل (2) تمكني من فلان - قريب لعمر - فأقتله ، وتمكن عليًا من عقيل ، وتمكن فلانًا من فلان ، ليعلم الله أنه ليست (3) في قلوبنا هوادة للمشركين... القصة بكاملها.
وقوله : { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } أي : من اتصف بأنه لا يواد من حاد الله ورسوله ولو كان أباه أو أخاه ، فهذا ممن كتب الله في قلبه الإيمان ، أي : كتب له السعادة وقررها في قلبه وزين الإيمان في بصيرته.
__________
(1) في م : "وفي".
(2) في م : "بل".
(3) في م : "ليس".

(8/54)


وقال السدي : { كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ } جعل في قلوبهم الإيمان.
وقال ابن عباس : { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } أي : قواهم.
وقوله : { وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } كل هذا تقدم تفسيره غير مرة.
وفي قوله : { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } سر بديع ، وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في الله عوضهم الله بالرضا عنهم ، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم ، والفوز العظيم ، والفضل العميم.
وقوله : { أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : هؤلاء حزبُ الله ، أي : عباد الله (1) وأهل كرامته.
وقوله : { أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } تنويه بفلاحهم وسعادتهم ونصرهم (2) في الدنيا والآخرة ، في مقابلة ما أخبر عن أولئك بأنهم حزب الشيطان. ثم قال : { أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
وقد قال بن أبي حاتم : حدثنا هارون بن حميد الواسطي ، حدثنا الفضل بن عَنْبَسة ، عن رجل قد سماه - يقال (3) هو عبد الحميد بن سليمان ، انقطع من كتابي - عن الذَيَّال بن عباد قال : كتب أبو حازم الأعرج إلى الزهري : أعلم أن الجاه جاهان ، جاه يجريه الله على أيدي أوليائه لأوليائه ، وأنهم الخامل ذكرهم ، الخفية شخوصهم ، ولقد جاءت صفتهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. "إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء ، الذين إذا غابوا لم يُفتَقَدوا ، وإذا حضروا لم يُدْعَوا ، قلوبهم مصابيح الهدى ، يخرجون من كل فتنة سوداء مظلمة" (4) فهؤلاء أولياء الله تعالى الذين قال الله : { أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
وقال نُعَيم بن حَمّاد : حدثنا محمد بن ثور ، عن يونس ، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اللهم ، لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يدًا ولا نعمة ، فإني وجدت فيما أوحيته إلي : { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } قال سفيان : يرون أنها نزلت فيمن يخالط السلطان. ورواه أبو أحمد العسكري.
__________
(1) في م : : عباده".
(2) في م : "ونصرتهم".
(3) في م : "فقال".
(4) الحديث أخرجه ابن ماجة في السنن برقم (3989) من طريق ابن لهيعة ، عن عيسى بن عبد الرحمن ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عمر مرفوعًا ، وفيه ابن لهيعة وقد توبع ، تابعه عياش بن عباس ، عن عيسى بن عبد الرحمن به ، رواه الحاكم في المستدرك (4/328) وقال : "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".

(8/55)


سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)

تفسير سورة الحشر
[وكان ابن عباس يقول : سورة بني النضير] (1). وهي مدنية.
قال سعيد بن منصور : حدثنا هُشَيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : سورة الحشر ؟ قال : أنزلت في بني النضير. ورواه البخاري ومسلم من وجه آخر ، عن هُشَيْم ، به (2). ورواه البخاري من حديث أبي عَوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : سورة الحشر ؟ قال : قُل : سورة النَّضير (3)
بسم الله الرحمن الرحيم
{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) }
__________
(1) زيادة من أ.
(2) صحيح البخاري برقم (4882) وصحيح مسلم برقم (331).
(3) صحيح البخاري برقم (4883).

(8/56)


ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)

{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) }
يخبر تعالى أن جميع ما في السموات وما في الأرض من شيء يسبح له ويمجده ويقدسه ، ويصلي له ويوحده (1) كقوله : { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ]وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ] } (2) [الإسراء : 44]. وقوله : { وَهُوَ الْعَزِيزُ } أي : منيع الجناب { الْحَكِيمُ } في قدره وشرعه.
وقوله : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } يعني : يهود بني النضير. قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والزهري ، وغير واحد : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هادنهم وأعطاهم
__________
(1) في م : "وحده".
(2) زيادة من م.

(8/56)


عهدًا وذمة ، على ألا يقاتلهم ولا يقاتلوه ، فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه ، فأحل الله بهم بأسه الذي لا مَرَدَّ (1) له ، وأنزل عليهم قضاءه الذي لا يُصَدّ ، فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخرجهم من حصونهم الحصينة التي ما طمع فيها المسلمون ، وظنوا هم أنها مانعتهم من بأس الله ، فما أغنى عنهم من الله شيئًا ، وجاءهم ما لم يكن ببالهم ، وسيّرهم رسول الله وأجلاهم من المدينة ، فكان منهم طائفة ذهبوا إلى أذرعات من أعالي الشام ، وهي أرض المحشر والمنشر ، ومنهم طائفة ذهبوا إلى خيبر. وكان قد أنزلهم منها على أن لهم ما حملت إبلهم ، فكانوا يخربون ما في بيوتهم من المنقولات التي يمكن أن تحمل معهم ؛ ولهذا قال : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ } أي : تفكروا في عاقبة من خالف أمر الله وخالف رسوله ، وكذب كتابه ، كيف يحل به من بأسه المخزي له في الدنيا ، مع ما يدخره له في الآخرة من العذاب الأليم.
قال أبو داود : حدثنا محمد بن داود وسفيان ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، أن كفار قريش كتبوا إلى ابن أبي ، ومن كان معه يعبد [معه] (2) الأوثان من الأوس والخزرج ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالمدينة قبل وقعة بدر : إنكم آويتم صاحبنا ، وإنا نقسم بالله لنقاتلنه ، أو لتخرجنه ، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا ، حتى نقتل مُقَاتلتكم ونستبيح نساءكم ، فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان ، اجتمعوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم ، فقال : "لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريد أن تكيدوا به أنفسكم ، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم ؟" ، فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا ، فبلغ ذلك كفار قريش ، فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود : إنكم أهل الحلقة والحصون ، وإنكم لتقاتلن مع صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا ، ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء - وهي الخلاخيل - فلما بلغ كتابهم النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعت بنو النضير بالغدر ، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم : اخرج إلينا في ثلاثين رجلا من أصحابك ليخرج منا ثلاثون حبرًا ، حتى نلتقي بمكان المنصف فيسمعوا منك ، فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك ، فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم [بالكتائب] (3) فحصرهم ، قال لهم : "إنكم والله لا تأمنوا عندي إلا بعهد تعاهدوني عليه". فأبوا أن يعطوه عهدًا ، فقاتلهم يومهم ذلك ، ثم غدا الغَد على بني قريظة بالكتائب ، وترك بني النضير ، ودعاهم إلى أن يعاهدوه ، فعاهدوه ، فانصرف عنهم. وغدا إلى بني النضير بالكتائب فقاتلهم ، حتى نزلوا على الجلاء. فجلت بنو النضير ، واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها ، وكان نخل بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ، أعطاه الله أياها وخصه بها ، فقال : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ } يقول : بغير قتال ، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها للمهاجرين ، قسمها بينهم ، وقسم منها لرجلين من الأنصار وكانا ذوي حاجة ، ولم يقسم من الأنصار غيرهما ، وبقي
__________
(1) في م : "لا يرد".
(2) زيادة من سنن أبي داود.
(3) زيادة من سنن أبي داود.

(8/57)


منها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي في أيدي بني فاطمة (1).
ولنذكر ملخص غزوة بني النضير على وجه الاختصار ، وبالله المستعان.
وكان سبب ذلك فيما ذكره أصحاب المغازي والسَير : أنه لما قُتِل أصحابُ بئر معونة ، من أصحاب رسول الله (2) صلى الله عليه وسلم ، وكانوا سبعين ، وأفلت منهم عمرو بن أمية الضمري ، فلما كان في أثناء الطريق راجعًا إلى المدينة قتل رجلين من بني عامر ، وكان معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمان لم يعلم به عمرو ، فلما رجع أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لقد قتلت رجلين ، لأدينَّهما" وكان بين بني النضير وبني عامر حلف وعهد ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك الرجلين ، وكان منازل بني النضير ظاهر المدينة على أميال منها شرقيها.
قال محمد بن إسحاق بن يسار في كتابه السيرة : ثم خرج رسول الله إلى بني النضير ، يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر ، اللذين قتل (3) عمرو بن أمية الضمري ؛ للجوار الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهما ، فيما حدثني يزيد بن رُومان ، وكان بين بني النضير وبني عامر عَقد وحلف. فلما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية ذينك القتيلين قالوا : نعم ، يا أبا القاسم ، نعينك على ما أحببت ، مما استعنت بنا عليه. ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا : إنكم لن (4) تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم - فَمَن (5) رجل يعلو على هذا البيت ، فيلقي عليه صخرة ، فيريحنا منه ؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدُهم ، فقال : أنا لذلك ، فصعَدَ ليلقي عليه صخرة كما قال ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه ، فيهم أبو بكر وعمر وعلي ، رضي الله عنهم. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم ، فقام وخرج راجعًا إلى المدينة ، فلما استلبث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلا مقبلا من المدينة ، فسألوه عنه ، فقال : رأيته داخلا المدينة. فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه ، فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به ، وأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم. ثم سار حتى نزل بهم فتحصنوا منه في الحصون ، فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل والتَّحريق فيها. فنادوه : أن يا محمد ، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه ، فما بال قطع النخل وتحريقها ؟
وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج ، منهم عبد الله ابن أبي [بن] (6) سلول ، ووديعة ، ومالك بن أبي قوقل (7) وسُوَيد وداعس ، قد بعثوا إلى بني النضير : أن اثبتوا وتَمَنَّعوا فإنا لن نسلمكم ، إن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خَرَجنا معكم فتربصوا ذلك من نصرهم ، فلم يفعلوا ، وقذف الله في قلوبهم الرعب ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم ، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة ، ففعل ، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل ، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه ، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به. فخرجوا إلى خيبر ، ومنهم من سار إلى الشام ، وَخَلّوا الأموال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت لرسول الله خاصة
__________
(1) سنن أبي داود برقم (3004).
(2) في م : "أصحاب النبي".
(3) في م : "قتلهما".
(4) في م : "لم".
(5) في أ : "فمر".
(6) زيادة من م ، أ.
(7) في أ : "نوفل".

(8/58)


يضعها حيث شاء ، فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار. إلا أن سهل بن حُنَيف وأبا دُجانة سماك بن خَرشَة ذكرا فَقْرًا ، فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال : ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان : يامين بن عُمَير (1) بن كعب بن عمرو بن جحاش ، وأبو سعد بن وهب أسلما على أموالهما فأحرزاها.
قال : ابن إسحاق : قد حدثني بعض آل يامين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين : "ألم تر ما لقيتُ من ابن عمك ، وما هم به من شأني". فجعل يامين بن عُمَير (2) لرجل جُعِل علي أن يقتل عمرو بن جحاش ، فقتله فيما يزعمون.
قال ابن إسحاق : ونزل في بني النضير سورة الحشر بأسرها (3).
وهكذا روي يونس بن بُكَيْر ، عن ابن إسحاق ، بنحو ما تقدم (4).
فقوله : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } يعني : بني النضير { مِنْ دِيَارِهِمْ لأوَّلِ الْحَشْرِ }.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن أبي سعد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : من شك في أن أرض المحشر هاهنا - يعني الشام فَلْيَتْل (5) هذه الآية : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوَّلِ الْحَشْرِ } قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اخرجوا". قالوا : إلى أين ؟ قال : "إلى أرض المحشر".
وحدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، عن عوف ، عن الحسن قال : لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير ، قال : "هذا أول الحشر ، وأنا على الأثر".
ورواه ابن جرير ، عن بُنْدَار ، عن ابن أبي عدي ، عن عوف ، عن الحسن ، به (6).
وقوله : { مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا } أي : في مدة حصاركم لهم وقصَرها ، وكانت ستة أيام ، مع شدة حصونهم ومنعتها ؛ ولهذا قال : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا } أي : جاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال ، كما قال في الآية الأخرى : { قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ } [النحل : 26].
وقوله : { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } أي : الخوف والهَلَع والجَزَع ، وكيف لا يحصل لهم ذلك وقد حاصرهم الذي نُصر بالرعب مسيرةَ شهر ، صلوات الله وسلامه عليه.
__________
(1) في م : "ابن عمرو".
(2) في م : "بن عمرو".
(3) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (2/190 - 192) وتفسير الطبري (28/21).
(4) في م : "مما تقدم".
(5) في م ، أ : "فليقرأ".
(6) تفسير الطبري (28/20) ورواه ابن سعد في الطبقات (2/42) عن هوذة ابن خليفة ، عن عوف ، عن الحسن به وهو مرسل.

(8/59)


وقوله : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ } قد تقدم تفسير ابن إسحاق لذلك ، وهو نقض (1) ما استحسنوه من سقوفهم وأبوابهم ، وتَحملها على الإبل ، وكذا قال عروة بن الزبير ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغير واحد.
وقال مقاتل ابن حيان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتلهم ، فإذا ظهر على دَرْب أو دار ، هدم حيطانها ليتسع المكان للقتال. وكان (2) اليهود إذا علوا مكانًا أو غلبوا على درب أو دار ، نقبوا من أدبارها ثم حصنوها ودربوها ، يقول الله تعالى : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ }.
وقوله : { وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا } أي : لولا أن كتب الله عليهم هذا الجلاء ، وهو النفي من ديارهم وأموالهم ، لكان لهم عند الله عذاب آخر من القتل والسبي ، ونحو ذلك ، قاله الزهري ، عن عُرْوَة ، والسُّدِّي وابن زيد ؛ لأن الله قد كتب عليهم أنه سيعذبهم في الدار الدنيا مع ما أعد لهم في الآخرة من العذاب في نار جهنم.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن صالح - كاتب الليث - حدثني الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب قال : أخبرني عروة بن الزبير قال : ثم كانت وقعة بني النضير ، وهم طائفة من اليهود ، على رأس ستة أشهر من وقعة بدر. وكان منزلهم بناحية من المدينة ، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا من الجلاء ، وأن لهم ما أقَلَّت الإبل من الأموال والأمتعة إلا الحلقة ، وهي السلاح ، فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الشام. قال : والجلاء أنه كُتب عليهم في آي من التوراة ، وكانوا من سبط لم يصبهم الجلاء قبل ما سلط عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنزل الله فيهم : { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } إلى قوله { وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ }.
وقال عكرمة : الجلاء : القتل. وفي رواية عنه : الفناء.
وقال قتادة : الجلاء : خروج الناس من البلد إلى البلد.
وقال الضحاك : أجلاهم إلى الشام ، وأعطى كل ثلاثة بعيرًا وسقاء ، فهذا الجلاء.
وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أحمد بن كامل القاضي ، حدثنا محمد بن سعيد (3) العوفي ، حدثني أبي ، عن عمي ، حدثني أبي عن جدي ، عن ابن عباس قال : كان النبي (4) صلى الله عليه وسلم قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مَبْلَغ ، فأعطوه ما أراد منهم ، فصالحهم على أن يحقن لهم دمائهم ، وأن يخرجهم من أرضهم ومن ديارهم وأوطانهم ، وأن يسيرهم إلى أذرعات الشام ، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيرًا وسقاء ، والجلاء إخراجهم من أرضهم (5) إلى أرض أخرى (6)
وروي أيضًا من حديث يعقوب بن محمد الزهري ، عن إبراهيم بن جعفر بن محمود بن محمد
__________
(1) في أ : "بعض".
(2) في م : "وكانت".
(3) في أ : "سعد".
(4) في م : "كان رسول الله".
(5) في م : "أرض".
(6) دلائل النبوة للبيهقي (3/359) وإسناده مسلسل بالضعفاء.

(8/60)


بن مسلمة ، عن أبيه ، عن جده ، عن محمد بن مسلمة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني النضير ، وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاث ليال (1) (2).
وقوله : { وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ } أي : حتم لازم لا بد لهم منه.
وقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : إنما فَعلَ الله بهم ذلك وسَلَّط عليهم رسوله وعباده المؤمنين ؛ لأنهم خالفوا الله ورسوله ، وكذبوا بما أنزل الله على رسله المتقدمين في (3) البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهم يعرفون ذلك كما يعرفون أبناءهم ، ثم قال : { وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }.
وقوله تعالى : { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } اللين : نوع من التمر ، وهو جيد.
قال : أبو عبيدة : وهو ما خالف العجوة والبَرْنِيّ من التمر.
وقال كثيرون (4) من المفسرين : اللينة : ألوان التمر سوى العجوة.
قال : ابن جرير : هو جميع النخل. ونقله عن مجاهد : وهو البُوَيرة أيضًا ؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حاصرهم أمر بقطع نخيلهم (5) إهانة لهم ، وإرهابًا وإرعابًا لقلوبهم. فروى محمد ابن إسحاق عن يزيد بن رومان ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان أنهم قالوا : [فبعث بنو النضير] (6) يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك تنهى عن الفساد ، فما بالك تأمر بقطع الأشجار ؟ فأنزل الله هذه الآية الكريمة ، أي : ما قطعتم وما تركتم من الأشجار ، فالجميع بإذن الله ومشيئته وقدرته (7) ورضاه ، وفيه نكاية بالعدو (8) وخزي لهم ، وإرغام لأنوفهم.
وقال مجاهد : نهى بعض المهاجرين بعضًا عن قطع النخل ، وقالوا : إنما هي مغانم المسلمين. فنزل (9) القرآن بتصديق من نهى عن قطعه ، وتحليل من قطعه من الإثم ، وإنما قطعه وتركه بإذنه. وقد روي نحو هذا مرفوعًا ، فقال النسائي : أخبرنا الحسن بن محمد ، عن (10) عفان ، حدثنا حفص بن غياث ، حدثنا حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } قال : يستنزلونهم من حصونهم وأمروا بقطع النخل ، فحاك في صدورهم ، فقال المسلمون : قطعنا بعضًا وتركنا بعضًا ، فلنسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل لنا فيما قطعنا من أجر ؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر ؟ فأنزل الله : { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ } (11)
__________
(1) في م : "أيام".
(2) دلائل النبوة (3/360).
(3) في م : "من".
(4) في م : "كثير".
(5) في م : "نخلهم".
(6) في هـ بياض ، وفي م : "بنو قريظة" وهو خطأ ، والمثبت من تفسير الطبري. ومستفادا من هامش ط. الشعب.
(7) في م : "وقدره".
(8) في م : "للعدو".
(9) في م : "فأنزل".
(10) في م : "بن".
(11) سنن النسائي الكبرى برقم (11574).

(8/61)


وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثنا سفيان بن وَكِيع ، حدثنا حفص ، عن ابن جريج ، عن سليمان بن موسى ، عن جابر - وعن أبي الزبير ، عن جابر - قال : رخص لهم في قطع النخل ، ثم شدد عليهم فأتوا (1) النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، علينا إثم فيما قطعنا ؟ أو علينا وزر فيما تركنا ؟ فأنزل الله ، عز وجل : { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ } (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحَرّق.
وأخرجه صاحبا الصحيح من رواية موسى بن عقبة ، بنحوه (3) ولفظ البخاري من طريق عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : حاربت (4) النضيرُ وقريظة ، فأجلى بني النضير وأقر قريظة ومَنّ عليهم حتى حاربت قريظة فقتل من رجالهم وقسم (5) نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين ، إلا بعضهم لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فأمَّنهم وأسلموا ، وأجلى يهود المدينة كلهم بني قينقاع ، وهم رهط عبد الله بن سلام ، ويهود بني حارثة ، وكلّ يهود بالمدينة.
ولهما أيضًا عن قتيبة ، عن الليث بن سعد ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حَرّق نخل بني النضير وقطع - وهي البُوَيرةُ - فأنزل الله ، عز وجل فيه : { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } (6).
وللبخاري ، رحمه الله ، من رواية جُوَيْرية بن أسماء عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حَرّق نخل بني النضير (7). ولها يقول حسان بن ثابت ، رضي الله عنه :
وَهَان عَلى سَراة بني لُؤيّ... حَريق بالبُوَيَرة مُسْتَطيرُّ...
فأجابه أبو سفيان بن الحارث يقول :
أدَام اللهُ ذلكَ من صَنيع... وَحَرّق في نَوَاحيها السَّعير...
سَتَعلم أيُّنا منْها بِنزهٍ... وَتَعْلُمُ أيّ أرْضينَا نَضِيرُ...
__________
(1) في م : "فسألوا".
(2) مسند أبي يعلى (4/135) وفيه سفيان بن وكيع ، وهو ضعيف. تنبيه : رواية سليمان بن موسى عن جابر لم أجدها في مسند أبي يعلى المطبوع فلعلها سقطت.
(3) المسند (2/7) وصحيح البخاري برقم (2021) وصحيح مسلم برقم (1746).
(4) في م : "حارب".
(5) في م : "فقتل من رجالهم وسبى وقسم".
(6) صحيح البخاري برقم (4884) وصحيح مسلم برقم (1746).
(7) في هـ ، أ : "نخل بنى النضير ، وقطع البويرة" ، وقوله : "قطع البويرة" غير ثابت في البخاري ، ويبدو أنه سهو من الناسخ.

(8/62)


كذا رواه البخاري (1) ولم يذكره ابن إسحاق.
وقال محمد ابن إسحاق : وقال كعب بن مالك يذكر إجلاء بني النضير وقتل ابن الأشرف :
لَقَد خَزيت (2) بغَدْرَتِها الحُبُور... كَذَاكَ الدهرُ ذو صَرْف يَدُورُ...
وَذَلك أنَّهم كفَرُوا بِرَبّ... عَظيم أمرُهُ أمرٌ كَبِيرُ...
وقَد أوتوا معًا فَهمًا وعلما... وَجَاءهُمُ من الله النَّذيرُ...
نَذير صَادق أدّى (3) كتابا... وآيات مُبَيَّنَةً تُنيرُ...
فقال (4) ما أتيت بأمر صدق... وأنت بمنكر منا جَديرُ...
فقال : بَلى لقد أديتُ حقًا... يُصَدّقني به الفَهم الخَبيرُ...
فَمن يَتْبعه يُهدَ لِكُل رُشُد... وَمَن يَكفُر به يُجزَ الكَفُورُ...
فَلَمَّا أْشربُوا غَدْرًا وكُفْرًا... وَجَدّ بهم عن الحَقّ النَفورُ...
أرَى الله النبيّ بِرَأي صدْق... وكانَ الله يَحكُم لا يَجُورُ...
فَأيَّدَهُ وَسَلَّطَه عَلَيهم... وكانَ نَصيرهُ نعْم النَّصيرُ...
فَغُودرَ منْهمُو كَعب صريعًا... فَذَلَّتْ بعدَ مَصْرَعة النَّضيرُ...
عَلى الكَفَّين ثمَّ وقَدْ عَلَتْهُ... بأيدينا مُشَهَّرة ذكُورُ...
بأمْر مُحَمَّد إذ دَس لَيلا... إلى كَعب أخَا كَعب يَسيرُ...
فَمَا كَرَه فَأنزلَه بِمَكْر... وَمحمودُ أخُو ثقَة جَسُورُ...
فَتلْك بَنُو النَّضير بدار سَوء... أبَارَهُمُ بما اجترموا المُبيرُ...
غَداة أتاهُمُ في الزّحْف رَهوًا... رَسُولُ الله وَهّوَ بهم بَصيرُ...
وَغَسَّانُ الحماةُ مُوازرُوه... عَلَى الأعداء وهو لهم وَزيرُ...
فَقَالَ : السْلم ويحكمُ فَصَدّوا... وَحَالفَ أمْرَهَم كَذبٌ وَزُورُ...
فَذَاقُوا غبّ أمْرهُمُ دَبَالا... لكُلّ ثَلاثَة منهُم بَعيرُ...
وَأجلوا عَامدين لقَينُقَاع... وَغُودرَ مِنْهُم نَخْل ودُورُ (5)
قال : وكان مما (6) قيل من الأشعار في بني النضير قولُ ابن لُقَيم العَبْسيّ - ويقال : قالها قيس
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4032).
(2) في أ : "خربت".
(3) في م : "أوتي".
(4) في م : "فقالوا".
(5) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (2/199).
(6) في م : "ومما كان".

(8/63)


وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)

بن بحر بن طريف ، قال ابن هشام الأشجعي :
أهلي فدَاءٌ لامرئ غَير هَالك... أحَلّ (1) اليهودَ بالحَسِى (2) المُزَنَّم...
يَقيلُونَ في جَمْر الغَضاة وبُدّلُوا... أهَيضبَ عودا بالوَدي المُكَمَّم...
فإن يَكُ ظَني صَادقًا بمُحَمد... يَرَوا خَيلَه بينَ الصّلا وَيَرمْرَم (3)
يَؤمّ بها عَمرو بنُ بُهثَةَ إنَّهُمْ... عَدُو ما حَيّ صَديق كمُجْرم...
عَلَيهنّ أبطالُ مَساعيرُ في الوَغَى... يَهُزّونَ أطرافَ الوَشيج المُقَوّم...
وكُلّ رَقيق الشَّفرتَين مُهَنَّدٍ... تُورثْنَ من أزْمان عاد وَجُرْهُمِ...
فَمَن مُبلغٌ عَني قُرَيشًا رسَالة... فَهَلْ بَعدَهُم في المجْد من مُتَكرّم...
بأنّ أخاكمُ فاعلَمنّ مُحَمَّدًا... تَليدُ النَّدى بينَ الحَجُون وزَمْزَم...
فَدينُوا له بالحقّ تَجْسُمْ أمُورُكم... وتَسْمُوا منَ الدنْيا إلى كُل مُعْظَم...
نبي تلافَته منَ الله رَحَمةٌ... ولا تَسْألُوهُ أمْرَ غَيب مُرَجَّم...
فَقَدْ كانَ في بَدْر لَعَمْري عِبرَةٌ... لَكُم يا قُرَيش والقَليب المُلَمَّم...
غَدَاة أتَى في الخَزْرَجيَّةِ عامِدًا... إليكُم مُطيعًا للعَظيمِ المُكَرّم...
مُعَانًا برُوح القُدْس يَنْكي عَدوه... رَسُولا مِنَ الرّحمن حَقّا بِمَعْلم...
رَسُولا مِنَ الرّحمن يَتْلُو كِتابَهُ... فَلَمّا أنارَ الحَقّ لم يَتَلعْثَم...
أرَى أمْرَهُ يَزْدَادُ في كُلّ مَوْطن... عُلُوّا لأمرْ حَمَّه اللهُ مُحْكَم (4)
وقد أورد ابن إسحاق ، رحمه الله ، هاهنا أشعارًا كثيرة ، فيها آداب ومواعظ وحكم ، وتفاصيل للقصة ، تركنا باقيها اختصارًا واكتفاء بما ذكرناه ، ولله الحمد والمنة.
قال ابن إسحاق : كانت وقعة بني النضير بعد وقعة أحد وبعد بئر معونة. وحكى البخاري ، عن الزهري ، عن عروة أنه قال : كانت وقعة بني النضير بعد بدر بستة أشهر (5).
{ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ
__________
(1) في أ : "أجلي".
(2) في م ، أ : "بالحس".
(3) في أ : "بين الصفا وبزمزم".
(4) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (2/195).
(5) صحيح البخاري (7/329) "فتح".

(8/64)


مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)

الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) }
يقول تعالى مبينًا لما الفيء وما صفته ؟ وما حكمه ؟ فالفيء : فكلّ مال أخذ من الكفار بغير (1) قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب ، كأموال بني النضير هذه ، فإنها مما لم يُوجف المسلمون عليه (2) بخيل ولا ركاب ، أي : لم يقاتلوا الأعداء فيها بالمبارزة والمصاولة ، بل نزل أولئك من الرعب الذي ألقى الله في قلوبهم من هيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأفاءه الله على رسوله ؛ ولهذا تصرف فيه كما شاء ، فردّه على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله ، عز وجل ، في هذه الآيات ، فقال : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ } أي : من بني النضير { فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ } يعني : الإبل ، { وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : هو قدير لا يغالب ولا يمانع ، بل هو القاهر لكل شيء.
ثم قال : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } أي : جميع البلدان التي تُفتَح هكذا ، فحكمها حكم أموال بني النضير ؛ ولهذا قال : { فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } إلى آخرها والتي بعدها. فهذه مصارفُ أموال الفيء ووجوهه.
قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن عمرو ومَعْمَر ، عن الزهري ، عن مالك بن أوس بن الحَدَثان ، عن عمر ، رضي الله عنه ، قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله إلى رسوله مما لم يُوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة (3) فكان ينفق على أهله منها نفقة سنته (4) - وقال مَرّة : قوت (5) سنته - وما بقي جعله في الكُرَاع والسلاح في سبيل الله ، عز وجل.
هكذا أخرجه أحمد هاهنا مختصرًا ، وقد أخرجه الجماعة في كتبهم - إلا ابن ماجة - من حديث سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن الزهري ، به (6) وقد رويناه مطولا فقال أبو داود ، رحمه الله :
حدثنا الحسن بن علي ومحمد بن يحيى بن فارس - المعنى واحد - قالا حدثنا بشرِ بن عُمَر الزهراني ، حدثني مالك بن أنس ، عن ابن شهاب ، عن مالك بن أوس قال : أرسل إلىَّ عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، حين تعالى النهار ، فجئته فوجدته جالسًا على سرير مُفضيًا إلى رُماله ، فقال حين دخلت عليه : يا مال ، إنه قد دَفّ أهل أبيات (7) من قومك ، وقد أمرت فيهم بشيء ، فاقسم فيهم. قلت : لو أمرتَ غيري بذلك ؟ فقال : خذه. فجاءه (8) يرفا ، فقال : يا أمير
__________
(1) في م : "من غير".
(2) في م : "عليه المسلمون".
(3) في م : "خاصة".
(4) في م : "سنة".
(5) في أ : "مسيرة".
(6) المسند (1/25) وصحيح البخاري برقم (4885) وصحيح مسلم برقم (1757) وسنن أبي داود برقم (2965) وسنن الترمذي برقم (1719) وسنن النسائي الكبرى برقم (11575).
(7) في أ : "أهل بنات".
(8) في م : "فجاء".

(8/65)


المؤمنين ، هل لك في عثمان بن عفان ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير بن العوام ، وسعد بن أبي وقاص ؟ فقال : نعم. فأذن لهم فدخلوا ، ثم جاءه يرفا فقال : يا أمير المؤمنين ، هل لك في العباس وعلي ؟ قال : نعم. فأذن لهم فدخلوا ، فقال العباس : يا أمير المؤمنين ، اقض بيني وبين هذا - يعني : عليًا - فقال بعضهم : أجل يا أمير المؤمنين ، اقض بينهما وأرحهما. قال مالك بن أوس : خُيّل إليَّ أنهما قَدّما أولئك النفر لذلك. فقال عمر ، رضي الله عنه : اتئدا. ثم أقبل على أولئك الرهط فقال : أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا نُورَث ، ما تركنا صدقة". قالوا : نعم. ثم أقبل على عليّ والعباس فقال : أنشدُكُما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا نورث ، ما تركنا صدقة". فقالا نعم. فقال : فإن الله خص رسوله بخاصة لم يخص بها أحدًا من الناس ، فقال : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فكان الله أفاء إلى رسوله أموال بني النضير ، فوالله ما استأثر بها عليكم ولا أحرزها دونكم ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منها نفقة سنة - أو : نفقته ونفقة أهله سنة - ويجعل ما بقي أسوة المال. ثم أقبل عليَّ أولئك الرهط فقال : أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض : هل تعلمون ذلك ؟ قالوا : نعم. ثم أقبل على عليٍّ والعباس فقال : أنشدُكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض : هل تعلمان ذلك ؟ قالا نعم. فلما تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر : "أنا وليّ رسول الله" ، فجئت أنتَ وهذا إلى أبي بكر ، تطلب أنت ميراثك عن ابن أخيك ، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها ، فقال أبو بكر ، رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا نورث ، ما تركنا صدقة". والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق. فوليها أبو بكر ، فلما توفي قلتُ : أنا وَلِيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ووليّ أبي بكر ، فَوليتها ما شاء الله أن أليها ، فجئت أنت وهذا ، وأنتما جَميع وأمركما واحد ، فسألتمانيها ، فقلت : إن شئتما فأنا أدفعها إليكما على أنّ عليكما عهد الله أن تلياها بالذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يليها ، فأخذتماها مني على ذلك ، ثم جئتماني لأقضي بينكما بغير ذلك. والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عَجَزتُما عنها فَرُدّاها إلي.
أخرجوه من حديث الزهري ، به (1). وقال الإمام أحمد :
حدثنا عارم وعفان قالا حدثنا معتمر ، سمعت أبي يقول : حدثنا أنس بن مالك ، عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن الرجل كان يجعل له من ماله النخلات ، أو كما شاء الله ، حتى فُتحَت عليه قريظة والنضير. قال : فجعل يَرُدّ بعد ذلك ، قال : وإن أهلي أمروني أن آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله الذي كان أهله أعطوه أو بعضه ، وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاه أمّ أيمن ، أو كما شاء الله ، قال : فسألتُ النبي صلى الله عليه وسلم فأعطانيهن ، فجاءت أم أيمن فجعلت الثوبَ في عنقي وجعلت تقول : كلا والله الذي لا إله إلا هو لا يُعطيكَهُنّ وقد أعطانيهن ، أو كما قالت ، فقال نبي الله : "لك كذا وكذا". قال : وتقول :
__________
(1) سنن أبي داود برقم (2963) وصحيح البخاري برقم (3094) وصحيح مسلم برقم (1757) وسنن النسائي (7/136) وسنن الترمذي برقم (1610).

(8/66)


كلا والله. قال ويقول : "لك كذا وكذا". قال : وتقول : كلا والله. قال : "ويقول : لك كذا وكذا". قال : حتى أعطاها ، حسبت أنه قال : عشرة أمثال أو قال قريبًا من عشرة أمثاله ، أو كما قال.
رواه البخاري ومسلم من طُرُق عن معتمر ، به (1).
وهذه المصارف المذكورة في هذه الآية هي المصارف المذكورة في خُمس الغَنيمة. وقد قدمنا الكلام عليها في سورة "الأنفال" بما أغنى عن إعادته هاهنا ، ولله الحمد (2).
وقوله : { كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } أي : جعلنا هذه المصارف لمال الفيء لئلا يبقى مأكلة يتغلب عليها الأغنياء ويتصرفون فيها ، بمحض الشهوات والآراء ، ولا يصرفون منه شيئًا إلى الفقراء.
وقوله : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } أي : مهما أمركم به فافعلوه ، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه ، فإنه إنما يأمر بخير وإنما ينهى عن شر.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا يحيى بن أبي طالب ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن العوفي ، عن يحيى بن الجزار ، عن مسروق قال : جاءت امرأة إلى ابن مسعود فقالت : بلغني أنك تنهى عن الواشمة والواصلة ، أشيء وجدته في كتاب الله أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : بلى ، شيء وجدته في كتاب الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت : والله لقد تصفحت ما بين دفتي المصحف فما وجدت فيه الذي تقول!. قال : فما وجدت فيه : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } ؟ قالت : بلى. قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الواصلة والواشمة والنامصة. قالت : فلعله في بعض أهلك. قال : فادخلي فانظري. فدخلت فَنَظرت ثم خرجَت ، قالت : ما رأيتُ بأسا. فقال لها : أما حفظت وصية العبد الصالح : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ }
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، [عن إبراهيم] (3) عن علقمة ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : لعن الله الواشمات والمستوشمات ، والمتنمصات ، والمُتفَلجات للحُسْن ، المغيرات خلق الله ، عز وجل. قال : فبلغ امرأة في البيت يقال لها : "أم يعقوب" ، فجاءت إليه فقالت : بلغني أنك قلت كيتَ وكيتَ. قال : ما لي لا ألعن من لعن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وفي كتاب الله. فقالت : إني لأقرأ ما بين لوحيه فما وجدته. فقال : إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه. أما قرأت : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } ؟ قالت : بلى. قال : فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه. قالت : [إني] (4) لأظن أهلك يفعلونه. قال : اذهبي فانظري.
__________
(1) المسند (3/219) وصحيح البخاري برقم (3128 ، 4030 ، 4120) وصحيح مسلم برقم (1771).
(2) في أ : "ولله الحمد والمنة".
(3) زيادة من مسند الإمام أحمد والبخاري ومسلم.
(4) زيادة من م ، أ ، والمسند.

(8/67)


لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)

فذهَبت فلم تر من حاجتها شيئا ، فجاءت فقالت : ما رأيتُ شيئًا. قال : لو كانت كذلك لم تُجَامعنا.
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث سفيان الثوري (1).
وقد ثبت في الصحيحين أيضًا عن أبي هُرَيرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه". (2).
وقال النسائي : أخبرنا أحمد بن سعيد ، حدثنا يزيد ، حدثنا منصور بن حيان ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عُمَر وابن عباس : أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه نهى عن الدُّباء والحَنْتَم والنَّقير والمزَفَّت ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (3).
وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي : اتقوه في امتثال أوامره وترك زواجره ؛ فإنه شديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره وأباه ، وارتكب ما عنه زجره ونهاه.
{ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) }
__________
(1) المسند (1/433) وصحيح البخاري برقم (4887) وصحيح مسلم برقم (2125).
(2) صحيح البخاري برقم (7288) وصحيح مسلم برقم (1337).
(3) سنن النسائي الكبرى برقم (11578).

(8/68)


وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)

{ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) }
يقول تعالى مبينًا حال الفقراء المستحقين لمال الفيء أنهم { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } أي : خرجوا من ديارهم وخالفوا قومهم ابتغاء مرضاة الله ورضوانه { وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } أي : هؤلاء الذين صَدَقوا قولهم بفعلهم ، وهؤلاء هم سادات المهاجرين.
ثم قال تعالى مادحًا للأنصار ، ومبينًا فضلهم وشرفهم وكرمهم وعدم حَسَدهم ، وإيثارهم مع الحاجة ، فقال : { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي : سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم.
قال عمر : وأوصي الخليفة [من] (1) بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ، ويحفظ لهم كرامتهم. وأوصيه بالأنصار خيرًا الذين تَبوّءوا الدار والإيمان من قبل ، أن يقبل من محسنهم ،
__________
(1) زيادة من أ.

(8/68)


وأن يعفو (1) عن مسيئهم. رواه البخاري هاهنا أيضًا (2).
وقوله : { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } أي : مِنْ كَرَمهم وشرف أنفسهم ، يُحبّون المهاجرين (3) ويواسونهم بأموالهم.
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا حميد ، عن أنس قال : قال المهاجرون : يا رسول الله ، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساةً في قليل ولا أحسن بذلا في كثير ، لقد كَفَونا المَؤنة ، وأشركونا في المهنأ ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله! قال : "لا ما أثنيتم عليهم ودَعَوتُمُ الله لهم" (4).
لم أره في الكتب من هذا الوجه.
وقال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا سفيان ، عن يحيى بن سعيد ، سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال : دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يُقطع لهم البحرين ، قالوا : لا إلا أن تُقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها. قال : "إما لا فاصبروا حتى تلقوني ، فإنه سيصيبكم [بعدي] (5) أثرة".
تفرد به البخاري من هذا الوجه (6)
قال البخاري : حدثنا الحكم بن نافع ، أخبرنا شعيب ، حدثنا أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قالت الأنصار : اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال : لا. فقالوا : تكفونا المؤنَةَ ونَشرككُم في الثمرة ؟ قالوا : سمعنا وأطعنا. تفرد به دون مسلم (7).
{ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } أي : ولا يجدون في أنفسهم حسدًا للمهاجرين فيما فضلهم الله به من المنزلة والشرف ، والتقديم في الذكر والرتبة.
قال : الحسن البصري : { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً } يعني : الحسد.
{ مِمَّا أُوتُوا } قال قتادة : يعني فيما أعطى إخوانهم. وكذا قال ابن زيد. ومما يستدل به على هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن أنس قال : كنا جُلوسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة". فطلع رجل من الأنصار تَنظُف (8) لحيته من وضوئه ، قد تَعَلَّق (9) نعليه بيده الشمال ، فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى. فلما كان اليوم الثالث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقالته (10) أيضًا ، فطلع
__________
(1) في م : "وأن يعفى".
(2) صحيح البخاري برقم (4888).
(3) في أ : "يحبون من هاجر إليهم".
(4) المسند (3/200).
(5) زيادة من صحيح البخاري.
(6) صحيح البخاري برقم (3794).
(7) صحيح البخاري برقم (2325).
(8) في م : "ينفض".
(9) في م : "قد علق".
(10) في م : : مثل حاله".

(8/69)


ذلك الرجل على مثل حالته الأولى (1) فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال : إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثًا ، فإن رأيت أن تؤويني (2) إليك حتى تمضي فعلتُ. قال : نعم. قال أنس : فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي (3) فلم يره يقوم من الليل شيئًا ، غير أنه إذا تَعارّ تقلب على فراشه ، ذكر الله وكبر ، حتى يقوم لصلاة الفجر. قال عبد الله : غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا ، فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله ، قلت : يا عبد الله ، لم يكن بيني وبين أبي غَضَب ولا هَجْر (4) ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرَار (5) يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة". فطلعت أنت الثلاث المرار (6) فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملكَ فأقتدي به ، فلم أرك تعمل كثير (7) عمل ، فما الذي بلغ بك ما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : ما هو إلا ما رأيت. فلما وليت دعاني فقال : ما هو إلا ما رأيت ، غير أني لا أجدُ في نفسي لأحد من المسلمين غِشّا ، ولا أحسدُ أحدًا على خير أعطاه الله إياه. قال عبد الله : هذه التي بلغت بك ، وهي التي لا تطاق (8).
ورواه النسائي في اليوم والليلة ، عن سُوَيد بن نصر ، عن ابن المبارك ، عن معمر به (9) وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين ، لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري ، عن رجل ، عن أنس (10). فالله أعلم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } يعني { مِمَّا أُوتُوا } المهاجرون. قال : وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم من الأنصار ، فعاتبهم الله في ذلك ، فقال : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قال : وقال رسول الله : "إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم". فقالوا : أموالنا بيننا قطائع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أو غير ذلك ؟". قالوا : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : "هم قوم لا يعرفون العمل ، فتكفونهم وتقاسمونهم (11) الثمر". فقالوا : نعم يا رسول الله (12)
وقوله : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } (13) يعني : حاجة ، أي : يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم ، ويبدءون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك.
وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أفضلُ الصدقة جَهدُ المقلّ". وهذا المقام
__________
(1) في م : "الأول".
(2) في أ : "أن توريني".
(3) في م : "الليالي الثلاث".
(4) في م ، أ : "ولا هجرة".
(5) في م : "مرات".
(6) في م : "المرات".
(7) في م : "كبير".
(8) في م : "لا نطيق" ، وفي أ : "لا تطيق".
(9) المسند (3/166) وسنن النسائي الكبرى برقم (10699).
(10) انظر : تحفة الأشراف للمزى (1/395) وكلام الحافظ بن حجر في النكت الظراف بهامشه.
(11) في م : "ويقاسمونكم".
(12) رواه الطبري في تفسيره (28/28).
(13) ذكر في "م" بقية الآية.

(8/70)


أعلى من حال الذين وَصَف اللهُ بقوله : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ } (1) [الإنسان : 8]. وقوله : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } [البقرة : 177].
فإن هؤلاء يتصدقون وهم يحبون ما تصدقوا به ، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به ، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه. ومن هذا المقام تصدق الصديق ، رضي الله عنه ، بجميع ماله ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما أبقيت لأهلك ؟". فقال : أبقيت لهم الله ورسوله. وهذا (2) الماء الذي عُرض (3) على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك ، فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه ، وهو جريح مثقل أحوجَ ما يكون إلى الماء ، فرده الآخر إلى الثلث ، فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم ولم يشربه أحد منهم ، رضي الله عنهم وأرضاهم.
وقال البخاري : حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا فُضيل بن غَزوان ، حدثنا أبو حازم الأشجعي ، عن أبي هُرَيرة قال : أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أصابني الجهدُ ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "ألا رجل يُضَيّفُ هذا الليلة ، رحمه الله ؟". فقام رجل من الأنصار فقال : أنا يا رسول الله. فذهب إلى أهله فقال لامرأته : ضَيفُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تَدّخريه شيئًا. فقالت : والله ما عندي إلا قوتُ الصبية. قال : فإذا أراد الصبيةُ العَشَاء فنوّميهم وتعالى فأطفئي السراج ونَطوي بطوننا الليلة. ففعلَت ، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : "لقد عجب الله ، عز وجل - أو : ضحك - من فلان وفلانة". وأنزل الله عز وجل : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } (4).
وكذا رواه البخاري في موضع آخر ، ومسلم والترمذي والنسائي من طرق ، عن فضيل بن غزوان ، به نحوه (5). وفي رواية لمسلم تسمية هذا الأنصاري بأبي طلحة ، رضي الله عنه.
وقوله : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح.
قال أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا داود بن قيس الفراء ، عن عُبَيد الله بن مِقْسَم ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إياكم والظلّم ، فإن الظُّلم ظلماتٌ يوم القيامة ، واتقوا الشُحَّ ، فإن الشّحَّ أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سَفَكُوا دماءهم واستَحلُّوا محارمهم".
انفرد بإخراجه مسلم ، فرواه عن القَعْنَبِيّ ، عن داود بن قيس ، به (6).
وقال الأعمش وشعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن الحارث ، عن زهير بن الأقمر ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اتقوا الظُّلْم ؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الفُحْش ، فإن الله لا يحب الفحش ولا التَّفَحُّشَ ، وإياكم والشُّحَّ ؛ فإنه أهلكَ من كان قبلكم ، أمرهم بالظلم فظلموا ، وأمرهم بالفجور ففجروا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا".
__________
(1) في أ : "حبه مسكينًا".
(2) في م : "وهكذا".
(3) في م : "اعرضوه".
(4) صحيح البخاري برقم (4889).
(5) صحيح البخاري برقم (3798) وصحيح مسلم برقم (2054) وسنن الترمذي برقم (3304) وسنن النسائي الكبرى برقم (11582).
(6) المسند (3/323) وصحيح مسلم برقم (2578).

(8/71)


ورواه أحمد وأبو داود من طريق شعبة ، والنسائي من طريق الأعمش ، كلاهما عن عمرو بن مُرّة ، به (1).
وقال الليث ، عن يزيد [بن الهاد] (2) عن سُهَيل بن أبي صالح ، عن صفوان بن أبي يزيد ، عن القعقاع بن اللجلاج (3) عن أبي هريرة ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخانُ جهنم في جوف عبد أبدًا ، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا" (4).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبدة بن سليمان ، أخبرنا ابن المبارك ، حدثنا المسعودي ، عن جامع بن شداد ، عن الأسود بن هلال قال : جاء رجل إلى عبد الله فقال : يا أبا عبد الرحمن ، إني أخاف أن أكون قد هلكت فقال له عبد الله : وما ذاك ؟ قال : سمعت الله يقول : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } وأنا رجل شحيح ، لا أكاد أن أخرج من يدي شيئًا! فقال عبد الله : ليس ذلك (5) بالشح الذي ذكر الله في القرآن ، إنما الشح الذي ذكر الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلمًا ، ولكن ذلك (6) البخل ، وبئس الشيء البخل" (7)
وقال سفيان الثوري ، عن طارق بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن جبير ، عن أبي الهياج الأسدي قال : كنت أطوف بالبيت ، فرأيت رجلا يقول : اللهم قني شح نفسي". لا يزيد على ذلك ، فقلت له ، فقال : إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل" ، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف ، رضي الله عنه ، رواه ابن جرير (8)
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن إسحاق ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ، حدثنا إسماعيل ابن عَيّاش ، حدثنا مُجَمع بن جارية الأنصاري ، عن عمه يزيد بن جارية ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "بَريء من الشح مَن أدى الزكاة ، وقَرَى الضيف ، وأعطى في النائبة" (9).
وقوله : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء ، وهم المهاجرون ثم الأنصار ، ثم التابعون بإحسان ، كما قال في آية براءة : { وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ } [التوبة : 100] فالتابعون لهم بإحسان
__________
(1) المسند (2/159) وسنن أبي داود برقم (1698) وسنن النسائي الكبرى برقم (11583).
(2) زيادة من م ، أ.
(3) في م : "الجلاح".
(4) رواه النسائي في السنن (6/13).
(5) في م : "ليس ذاك".
(6) في م : "ذاك".
(7) رواه الطبري في تفسيره (28/29) من طريق جامع به.
(8) تفسير الطبري (28/29).
(9) تفسير الطبري (28/29) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (10842) من طريق محمد بن إسحاق به ، وروي مرسلاً ، رواه الطبراني في المعجم الكبير (4/188) من طريق عمرو بن يحيى وإبراهيم بن إسماعيل ، وابن حبان في الثقات (4/202) من طريق ابن المبارك ، كلهم عن مجمع ابن يحيى ، عن عمه مرسلاً.

(8/72)


هم : المتبعون لآثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة ، الداعون لهم في السر والعلانية ؛ ولهذا قال في هذه الآية الكريم : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ } أي : قائلين : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا } أي : بغضًا وحسدًا { لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } وما أحسن ما استنبط الإمام مالك من هذه الآية الكريمة : أن الرافضي الذي يسبّ الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، حدثنا محمد بن بشر ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر ، عن أبيه ، عن عائشة أنها قالت : أمروا أن يستغفروا لهم ، فسبوهم! ثم قرأت هذه الآية : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ } الآية.
وقال إسماعيل بن عُلَية ، عن عبد الملك بن عمير ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فسببتموهم. سمعتُ نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : "لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها". رواه البغوي (1)..
وقال أبو داود : حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا أيوب ، عن الزهري قال : قال عمر ، رضي الله عنه : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ } قال الزهري : قال عمر : هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ، قُرى [عربية : فَدَك وكذا] (2) وكذا ، فما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربي واليتامي والمساكين وابن السبيل وللفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ، { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ } { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } فاستوعبت هذه الآية الناس ، فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق - قال أيوب : أو قال : حظ - إلا بعض من تملكون من أرقائكم. كذا رواه أبو داود ، وفيه انقطاع (3).
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور ، عن مَعْمَر ، عن أيوب ، عن عكرمة ابن خالد ، عن مالك بن أوس بن الحَدَثان قال : قرأ عمر بن الخطاب : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } حتى بلغ { عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [التوبة : 60] ، ثم قال هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى [وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ] } (4) [الأنفال : 41] ، ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } حتى بلغ للفقراء { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ } { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } ثم قال : استوعبت هذه الآية المسلمين عامة ،
__________
(1) معالم التنزيل للبغوي (8/08) وله شاهد في صحيح مسلم برقم (3022) عن عروة قال : قالت لي عائشة : "يا ابن أختي ، أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم".
(2) زيادة من م ، أ ، وسنن أبي داود.
(3) سنن أبي داود برقم (2966)
(4) زيادة من م.

(8/73)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)

وليس أحد إلا له فيها حق (1) ، ثم قال : لئن عشت ليأتين الراعي - وهو بَسرو حِمير - نصيبه فيها ، لم يعرق فيها جبينه.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لأنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) }
__________
(1) في أ : "فيها جزء".

(8/74)


فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)

{ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) }
يخبر تعالى عن المنافقين كعبد الله بن أبي وأضرابه ، حين بعثوا إلى يهود بني النضير يَعدُونهم النصر من أنفسهم ، فقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ } قال الله تعالى : { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي : لكاذبون فيما وعدوهم به إما أنهم (1) قالوا لهم قولا من نيتهم ألا يفوا لهم به ، وإما أنهم (2) لا يقع منهم الذي قالوه ؛ ولهذا قال : { وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ } أي : لا يقاتلون معهم ، { وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ } أي : قاتلوا معهم { لَيُوَلُّنَّ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ } وهذه بشارة مستقلة بنفسها.
ثم قال تعالى : { لأنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ } أي : يخافون منكم أكثر من خوفهم من الله ، كقوله : { إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [النساء : 77] ؛ ولهذا قال : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ }
ثم قال { لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ } (3) يعني : أنهم من جُبنهم وهَلَعهم لا يقدرون على مواجهة جيش الإسلام بالمبارزة والمقابلة (4) بل إما في حصون أو من وراء جدر (5) محاصرين ، فيقاتلون للدفع عنهم ضرورة.
__________
(1) في م : "إما لأنهم".
(2) في م : "إما لأنهم".
(3) في م ، أ : "أو من وراء جدار".
(4) في م : "والمقاتلة".
(5) في م ، أ : "أو من وراء جدار".

(8/74)


ثم قال { بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } أي : عداوتهم [فيما] (1) بينهم شديدة ، كما قال : { وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } [الانعام : 65] ؛ ولهذا قال : { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى } أي : تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين ، وهم مختلفون غاية الاختلاف.
قال : إبراهيم النخعي : يعني : أهل الكتاب والمنافقين { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ }
ثم قال : { كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } قال مجاهد ، والسدى ، ومقاتل بن حيان : [يعني] (2) كمثل ما أصاب كفار قريش يوم بدر.
وقال ابن عباس : { كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } يعني : يهود بني قينقاع. وكذا قال قتادة ، ومحمد ابن إسحاق.
وهذا القول أشبه بالصواب ، فإن يهود بني قينقاع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجلاهم قبل هذا.
وقوله : { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ } يعني : مثل هؤلاء اليهود في اغترارهم بالذين وعدوهم النصر من المنافقين ، وقول المنافقين لهم : { وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ } ثم لما حقت الحقائق وجَدَّ بهم الحصار والقتال ، تخلوا عنهم وأسلموهم للهلكة ، مثالهم في هذا كمثل الشيطان إذ (3) سول للإنسان - والعياذ بالله - الكفر ، فإذا دخل فيما سوله (4) تبرأ منه وتنصل ، وقال : { إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ }
وقد ذكر بعضهم هاهنا قصة لبعض عباد بني إسرائيل هي كالمثال لهذا المثل ، لا أنها المرادة وحدها بالمثل ، بل هي منه مع غيرها من الوقائع المشاكله لها ، فقال ابن جرير :
حدثنا خلاد بن أسلم ، أخبرنا النضر بن شُمَيْل ، أخبرنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، سمعت عبد الله بن نَهِيك قال : سمعت عليًا ، رضي الله عنه ، يقول : إن راهبًا تعبد ستين سنة ، وإن الشيطان أراده فأعياه ، فعمد إلى امرأة فأجنَّها ولها إخوة ، فقال لإخوتها : عليكم بهذا القس فيداويها. قال : فجاءوا بها إليه فداواها ، وكانت عنده ، فبينما هو يوما عندها إذ أعجبته ، فأتاها فحملت ، فعمد إليها فقتلها ، فجاء إخوتها ، فقال الشيطان للراهب : أنا صاحبك ، إنك أعييتني ، أنا صنعت هذا بك فأطعني أنجك مما صنعت بك ، فاسجد لي سجدة. فسجد له ، فلما سجد له قال : إني بريء منك ، إني أخاف الله رب العالمين ، فذلك قوله : { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } (5).
وقال ابن جرير : حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن عمارة ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية : { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } قال : كانت
__________
(1) زيادة من م ، أ.
(2) زيادة من أ.
(3) في م : "إذا".
(4) في م ، أ : "سوله له".
(5) تفسير الطبري (28/33).

(8/75)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)

امرأة ترعى الغنم ، وكان لها أربعة أخوة ، وكانت تأوي بالليل إلى صومعة راهب. قال : فنزل الراهب ففجَر بها ، فحملت ، فأتاه الشيطان فقال له : اقتلها ثم ادفنها ، فإنك رجل مُصدَّق يسمع قولك. فقتلها ثم دفتها. قال : فأتى الشيطانُ إخوتها في المنام فقال لهم : إن الراهب صاحب الصومعة فجَر بأختكم ، فلما أحبلها قتلها ثم دفنها في مكان كذا وكذا. فلما أصبحوا قال رجل منهم : والله لقد رأيت البارحة رؤيا ما أدري أقصها عليكم أم أترك ؟ قالوا : لا بل قصها علينا. قال : فقصها ، فقال الآخر : وأنا والله لقد رأيت ذلك ، فقال الآخر : وأنا والله لقد رأيت ذلك. فقالوا : فوالله ما هذا إلا لشيء. قال : فانطلقوا فاستعدوا ملكهم على ذلك الراهب ، فأتوه فأنزلوه ثم انطلقوا به فلقيه الشيطان فقال : إني أنا الذي أوقعتك في هذا ، ولن ينجيك منه غيري ، فاسجد لي سجدة واحدةً وأنجيك مما أوقعتك فيه. قال : فسجد له ، فلما أتوا به مَلكهم تَبَرأ منه ، وأُخِذَ فقتل (1).
وكذا روي عن ابن عباس ، وطاوس ، ومقاتل بن حيان ، نحو ذلك. واشتهر عند كثير من الناس أن هذا العابد هو برصيصا ، والله أعلم. وهذه القصة مخالفة لقصة جُرَيج العابد ، فإن جريجًا اتهمته امرأة بَغي بنفسها ، وادعت أن حَملها منه ، ورفعت أمره إلى ولي الأمر ، فأمر به فأنزل من صومعته وخُربت صومعته وهو يقول : ما لكم ؟ ما لكم ؟ فقالوا : يا عدو الله ، فعلت بهذه المرأة كذا وكذا. فقال : جريج : اصبروا. ثم أخذ ابنها وهو صغير جدًا ثم قال : يا غلام ، من أبوك ؟ قال (2) أبي الراعي - وكانت قد أمكنته من نفسها فحملت منه - فلما رأى بنو إسرائيل ذلك عظموه كلهم تعظيمًا بليغًا وقالوا : نعيد صومعتك من ذهب. قال : لا بل أعيدوها من طين ، كما كانت.
وقوله : { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا } أي : فكانت عاقبة الآمر بالكفر والفاعل له ، وتصيرهما (3) إلى نار جهنم خالدين فيها ، { وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ } أي : جزاء كل ظالم.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) }
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عون بن أبي جُحَيْفة ، عن المنذر ابن جرير ، عن أبيه قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار ، قال : فجاءه قوم حُفَاة عُراة مُجْتَابي النمار - أو : العَبَاء - مُتَقَلِّدي السيوف عامتهم من مُضَر ، بل كلهم من مضر ، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة ، قال : فدخل ثم خرج ، فأمر بلالا فأذن وأقام الصلاة ، فصلى ثم خطب ، فقال : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } إلى آخر الآية : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [النساء : 1]. وقرأ الآية التي في الحشر : { وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ }
__________
(1) تفسير الطبري (28/33).
(2) في م : "فقال".
(3) في م : "ومصيرهما".

(8/76)


تَصَدَّق رجل من ديناره ، من درهمه ، من ثوبه ، من صاع بُرِّه ، من صاع تمره - حتى قال - : ولو بشق تمرة". قال : فجاء رجل من الأنصار بصُرة كادت كفه تَعجز عنها ، بل قد عجزت ، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب ، حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه كأنه مُذْهبة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَن سَنَّ في الإسلام سنة حسنة ، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده ، من غير أن يَنقُص من أجورهم شيء ، ومن سَنَّ في الإسلام سنة سيئة ، كان عليه وِزْرُها ووزر من عمل بها ، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".
انفرد بإخراجه مسلم من حديث شعبه ، بإسناد مثله (1).
فقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ } أمر بتقواه ، وهي تشمل فعل ما به أمر ، وترك ما عنه زجر.
وقوله : { وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } أي : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم ، { وَاتَّقُوا اللَّهَ } تأكيد ثان ، { إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي : اعلموا أنه عالم بجميع أعمالكم وأحوالكم (2) لا تخفى عليه منكم خافية ، ولا يغيب عنه من أموركم جليل ولا حقير.
وقال (3) { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ } أي : لا تنسوا ذكر الله فينسيكم العمل لمصالح أنفسكم التي تنفعكم في معادكم ، فإن الجزاء من جنس العمل ؛ ولهذا قال : { أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } أي : الخارجون عن طاعة الله ، الهالكون يوم القيامة ، الخاسرون يوم معادهم ، كما قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [المنافقون : 9].
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي ، حدثنا [أبو] (4) المغيرة ، حدثنا حَريز بن عثمان ، عن نعيم بن نَمحة قال : كان في خطبة أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه : أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم ؟ فمن استطاع أن يقضي الأجل وهو في عمل الله ، عز وجل ، فليفعل ، ولن تنالوا ذلك إلا بالله ، عز وجل. إن قومًا جعلوا آجالهم لغيرهم ، فنهاكم الله تكونوا أمثالهم : { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ } أين من تعرفون من إخوانكم ؟ قدموا على ما قدموا في أيام سلفهم ، وخلوا بالشقوة والسعادة ، أين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط ؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار ، هذا كتاب الله لا تفنى عجائبه فاستضيئوا منه ليوم ظلمة ، [وائتضحوا بسنائه وبيانه] (5) إن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ }
__________
(1) المسند (4/358) وصحيح مسلم برقم (1017).
(2) في م : " وخفيها".
(3) في م : "وقوله".
(4) زيادة من المعجم الكبير للطبري.
(5) زيادة من م ، والمعجم الكبير.

(8/77)


لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)

[الانبياء : 90] ، لا خير في قول لا يراد به وجه الله ، ولا خير في مال لا ينفق في سبيل الله ، ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه ، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم (1).
هذا إسناد جيد ، ورجاله كلهم ثقات ، وشيخ حَريز بن عثمان ، وهو نعيم بن نمحة ، لا أعرفه بنفي ولا إثبات ، غير أن أبا داود السجستاني قد حكم بأن شيوخ حَريز كلهم ثقات. وقد روي لهذه الخطبة شواهد من وجوه أخر ، والله أعلم.
وقوله : { لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ } أي (2) لا يستوي هؤلاء وهؤلاء في حكم الله يوم القيامة ، كما قال : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } [الجاثية : 21] ، وقال { وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ } الآية[غافر : 58]. قال : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ص : 28] ؟ في آيات أخر دالات على أن الله ، سبحانه ، يكرم الأبرار ، ويهين الفجار ؛ ولهذا قال هاهنا : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } أي : الناجون المسلمون من عذاب الله ، عز وجل.
{ لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) }
يقول تعالى معظمًا لأمر القرآن ، ومبينا علو قدره ، وأنه ينبغي وأن تخشع له القلوب ، وتتصدع عند سماعه لما فيه من الوعد والوعيد الأكيد : { لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } أي : فإن كان الجبل في غلظته وقساوته ، لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه ، لخشع وتصدع من خوف الله ، عز وجل ، فكيف يليق بكم أيها البشر ألا تلين قلوبكم وتخشع ، وتتصدع من خشية الله ، وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه ؟ ولهذا قال تعالى : { وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }.
قال العوفي : عن ابن عباس في قوله : { لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ [لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا] } (3) إلى آخرها ، يقول : لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل حَمّلته إياه ، لتصدع (4) وخشع من ثقله ، ومن خشية الله. فأمر الله الناس إذا نزل عليهم القرآنُ أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع. ثم
__________
(1) المعجم الكبير (1/60).
(2) بياض في م.
(3) زيادة من م.
(4) في م : "لصدع".

(8/78)


قال : كذلك يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون. وكذا قال قتادة ، وابن جرير.
وقد ثبت في الحديث المتواتر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عمل له المنبر ، وقد كان يوم الخطبة يقف إلى جانب جذع من جذوع المسجد ، فلما وضع المنبر أول ما وضع ، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليخطب فجاوز الجذع إلى نحو المنبر ، فعند ذلك حَنّ الجذع وجعل (1) يئن كما يئن الصبي الذي يُسَكَّن (2) ، لما كان يُسمَع من الذكر والوحي عنده. ففي بعض روايات هذا الحديث قال الحسن البصري بعد إيراده : "فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجذع" (3). وهكذا هذه الآية الكريمة ، إذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته ، لخشعت وتصدعت من خشيته (4) فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم ؟ وقد قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى } الآية [الرعد : 31]. وقد تقدم أن معنى ذلك : أي لكان هذا القرآن. وقال تعالى : { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } [البقرة : 74].
ثم قال تعالى : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } أخبر تعالى أنه الذي لا إله إلا هو فلا رب غيره ، ولا إله للوجود سواه ، وكل ما يعبد من دونه فباطل ، وأنه عالم الغيب (5) والشهادة ، أي : يعلم جميع الكائنات المشاهدات لنا والغائبات عنا فلا يخفى عليه شيء في الأرض ، ولا في السماء من جليل وحقير وصغير وكبير ، حتى الذر في الظلمات.
وقوله : { هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } قد تقدم الكلام على ذلك في أول التفسير ، بما أغنى عن إعادته هاهنا. والمراد أنه ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات ، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ، وقد قال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [الأعراف : 156] ، وقال { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [الأنعام : 54] ، وقال { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [يونس : 58].
وقوله (6) { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ } أي : المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة.
وقوله : { الْقُدُّوسُ } قال وهب بن منبه : أي الطاهر. وقال مجاهد ، وقتادة : أي المبارك : وقال ابن جريج : تقدسه الملائكة الكرام.
__________
(1) حديث حنين الجذع رواه البخاري في صحيحه برقم (3583) من حديث ابن عمر ، وبرقم (3584 ، 3585) من حديث جابر ، رضي الله عنه.
(2) في م : "يسكت".
(3) رواه أبو القاسم البغوي كما في البداية والنهاية للمؤلف (6/132) من طريق شيبان بن فروخ ، عن مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، عن أنس في قصة الجذع ، ثم زاد : فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكي ثم قال : "يا عباد الله الخشبة تحن إلي رسول الله شوقًا إليه لمكانه من الله ، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلي لقائه".
(4) في م : "من خشية الله".
(5) في م : "بالغيب".
(6) في م : "ثم قال".

(8/79)


{ السَّلامُ } أي : من جميع العيوب والنقائص ؛ بكماله (1) في ذاته وصفاته وأفعاله.
وقوله : { الْمُؤْمِنُ } قال الضحاك ، عن ابن عباس : [أي] (2) أمن خلقه من أن يظلمهم. وقال قتادة : أمَّن بقوله : إنه حق. وقال ابن زيد : صَدّق عبادَه المؤمنين في أيمانهم به.
وقوله : { الْمُهَيْمِنُ } قال ابن عباس وغير واحد : أي (3) الشاهد على خلقه بأعمالهم ، بمعنى : هو رقيب عليهم ، كقوله : { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [البروج : 9] ، وقوله { ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ } [يونس : 46].
وقوله : { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } الآية [الرعد : 33].
وقوله : { الْعَزِيزُ } أي : الذي قد عزّ كل شيء فقهره ، وغلب الأشياء فلا ينال جنابه ؛ لعزته وعظمته وجبروته وكبريائه ؛ ولهذا قال : { الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ } أي : الذي لا تليق الجَبْرّية إلا له ، ولا التكبر إلا لعظمته ، كما تقدم في الصحيح : "العَظَمة إزاري ، والكبرياء ردائي ، فمن نازعني واحدًا منهما عَذَّبته".
وقال قتادة : الجبار : الذي جَبَر خلقه على ما يشاء.
وقال ابن جرير : الجبار : المصلحُ أمورَ خلقه ، المتصرف فيهم بما فيه صلاحهم.
وقال قتادة : المتكبر : يعني عن كل سوء.
ثم قال : { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } (4).
وقوله : { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ } الخلق : التقدير ، والبَراء : هو الفري ، وهو التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود ، وليس كل من قدر شيئًا ورتبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله ، عز وجل. قال الشاعر يمدح آخر (5)
ولأنت تَفري ما خَلَقت... وبعضُ القوم يَخلُق ثم لا يَفْري...
أي : أنت تنفذ ما خلقت ، أي : قدرت ، بخلاف غيرك فإنه لا يستطيع ما يريد. فالخلق : التقدير. والفري : التنفيذ. ومنه يقال : قدر الجلاد ثم فَرَى ، أي : قطع على ما قدره بحسب ما يريده.
وقوله تعالى : { الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ } أي : الذي إذا أراد شيئًا قال له : كن ، فيكون على الصفة التي يريد ، والصورة التي يختار. كقوله : { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } [الإنفطار : 8] ولهذا قال : { الْمُصَوِّرُ } أي : الذي ينفذ ما يريد إيجاده على الصفة التي يريدها.
__________
(1) في م : "لكماله".
(2) زيادة من م.
(3) في م : "إنه".
(4) في م : "يصفون" وهو خطأ.
(5) هو زهير بن أبي سلمي يمدح به هرم بن سنان ، والبيت في ديوانه (ص 94) أ. هـ مستفادًا من حاشية ط الشعب.

(8/80)


وقوله : { لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى } قد تقدم الكلام على ذلك في "سورة الأعراف" ، وذكر الحديث المروي في الصحيحين عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن لله تعالى تسعة وتسعين اسمًا ، مائة إلا واحدًا ، من أحصاها دخل الجنة ، وهو وتر يحب الوتر". وتقدم سياق الترمذي وابن ماجة له ، عن أبي هريرة أيضا ، وزاد بعد قوله : "وهو وتر يحب الوتر" - واللفظ للترمذي - : "هو الله الذي لا إله إلا هو ، الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارئ ، المصور ، الغفار ، القهار ، الوهاب ، الرزاق ، الفتاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعز ، المذل ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العلي ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوي ، المتين ، الولي ، الحميد ، المحصي ، المبدئ ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحي ، القيوم ، الواجد ، الماجد ، الواحد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدم ، المؤخر ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الولي ، المتعالي ، البر ، التواب ، المنتقم ، العفو ، الرءوف ، مالك الملك ، ذو الجلال والإكرام ، المقسط ، الجامع ، الغني ، المغني ، المانع ، الضار ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور".
وسياق ابن ماجة بزيادة ونقصان ، وتقديم وتأخير ، وقد قدمنا ذلك مبسوطًا مطولا بطرقه وألفاظه بما أغنى عن إعادته هنا (1) (2).
وقوله : { يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } كقوله { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } [الإسراء : 44].
وقوله : { وَهُوَ الْعَزِيزُ } أي : فلا يرام جَنَابه { الحَكِيمُ } في شرعه وقدره. وقد قال الإمام أحمد :
حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا خالد - يعني : ابن طَهْمَان ، أبو العلاء الخَفَّاف - حدثنا نافع ابن أبي نافع ، عن مَعقِل بن يسار ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من قال حين يصبح ثلاث مرات : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، ثم قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر ، وَكَّل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي ، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدًا ، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة".
ورواه الترمذي عن محمود بن غَيْلان ، عن أبي أحمد الزبيري ، به (3) ، وقال : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
__________
(1) في م : "هاهنا".
(2) تقدم تخريج هذا الحديث عند تفسير الآية : 180 من سورة الأعراف.
(3) المسند (5/26) وسنن الترمذي برقم (2922).

(8/81)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)

تفسير سورة الممتحنة
وهي مدنية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) }
كان سبب نزول صدر هذه السورة (1) الكريمة قصة حاطب بن أبي بلتعة ، وذلك أن حاطبًا هذا كان رجلا من المهاجرين ، وكان من أهل بدر أيضًا ، وكان له بمكة أولاد ومال (2) ، ولم يكن من قريش أنفسهم ، بل كان حليفًا (3) لعثمان. فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة لما نقض أهلها العهد ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهيز لغزوهم ، وقال : "اللهم ، عَمِّ عليهم خبرنا". فعمد حاطب هذا فكتب كتابًا ، وبعثه مع امرأة من قريش إلى أهل مكة ، يعلمهم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم [من غزوهم] (4) ، ليتخذ بذلك عندهم يدًا ، فأطلع الله رسوله على ذلك (5) استجابة لدعائه. فبعث في أثر المرأة فأخذ الكتاب منها ، وهذا بين في هذا الحديث المتفق على صحته. قال الإمام أحمد :
حدثنا سفيان ، عن عَمْرو ، أخبرني حَسَن بن محمد بن علي ، أخبرني عُبَيد الله (6) بن أبي رافع - وقال مرة : إن عبيد الله بن أبي رافع أخبره : أنه سمع عليًا ، رضي الله عنه ، يقول : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد ، فقال : "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها ظَعِينة معها كتاب ، فخذوه منها". فانطلقنا تَعَادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة ، فإذا نحن بالظعينة ، قلنا : أخرجي الكتاب. قالت : ما معي كتاب. قلنا : لتخرجن الكتاب أو لنُلقين الثياب. قال : فأخرجت الكتاب من عِقَاصها ، فأخذنا الكتاب فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة
__________
(1) في هـ : "الآية" ، والمثبت من م ، أ.
(2) في م : "وأموال".
(3) في أ : "ضيفًا".
(4) زيادة من م.
(5) في م : "فأصلح الله على ذلك رسوله".
(6) في م : "عبد الله"

(8/82)


إلى ناس من المشركين بمكة ، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا حاطب ، ما هذا ؟". قال : لا تعجل علي ، إني كنت امرأ مُلصَقًا في قريش ، ولم أكن من أنفسهم ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدًا يحمون بها قرابتي ، وما فعلت ذلك كفرًا ولا ارتدادًا عن ديني ولا رضى بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنه صَدَقكم". فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال : "إنه قد شهد بدرًا ، ما يدريك لَعَلّ الله اطلع إلى أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
وهكذا أخرجه الجماعة إلا ابن ماجة ، من غير وجه ، عن سفيان بن عُيَينة ، به (1). وزاد البخاري في كتاب "المغازي" : فأنزل الله السورة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } (2). وقال في كتاب التفسير : قال عمرو : ونزلت فيه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } قال (3) : " لا أدري الآية في الحديث أو قال عمرو". قال البخاري : قال علي - يعني : ابن المديني - : قيل لسفيان في هذا : نزلت { لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } ؟ فقال سفيان : هذا في حديث الناس ، حفظته من عمرو ، ما تركت منه حرفًا ، وما أرى (4) أحدًا حفظه غيري (5).
وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث حُصَين بن عبد الرحمن ، عن سعد (6) بن عُبَيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مَرْثَد ، والزبير بن العوام ، وكلنا فارس ، وقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب إلى المشركين : فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : الكتابُ ؟ فقالت : ما معي كتاب. فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابًا ، فقلنا : ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم! لتخرجن الكتاب أو لنُجردنك. فلما رأت الجد أهوت إلى حُجْزتها وهي مُحتَجِزة بكساء فأخرجته. فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر : يا رسول الله ، قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فَدعني فلأضْرِب عنقه. فقال : "ما حملك على ما صنعت ؟". قال : والله ما بي إلا أن أكون مؤمنًا بالله ورسوله ، أردت أن تكون لي عند القوم يَدٌ يدفع الله بها عن أهلي ومالي ، وليس أحد من أصحابك إلا له هنالك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله. فقال : "صدق ، لا تقولوا له إلا خيرًا". فقال عمر : إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعني فلأضرب عنقه. فقال : "أليس من أهل بدر ؟" فقال : "لعل الله قد اطلع إلى أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة - أو :
__________
(1) المسند (1/79 ، 80) وصحيح البخاري برقم (3007 ، 4890) وصحيح مسلم برقم (2494) وسنن أبي داود برقم (2650) وسنن الترمذي برقم (3305) وسنن النسائي الكبرى برقم (11585).
(2) صحيح البخاري برقم (4274).
(3) في م : "وقال".
(4) في م : "ولا أرى".
(5) صحيح البخاري برقم (4890).
(6) في م : "عن سعيد".

(8/83)


قد غفرت لكم". فدَمِعت عينا عُمر ، وقال : الله ورسوله أعلم (1).
هذا لفظ البخاري في "المغازي" في غزوة بدر ، وقد روي من وجه آخر عن علي قال ابن أبي حاتم :
حدثنا علي بن الحسن الهِسْنجَاني ، حدثنا عبيد بن يعيش ، حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي ، عن أبي سِنان - هو سعيد بن سنان - عن عمرو بن مُرة الجَمَلي ، عن أبي البختري الطائي (2) ، عن الحارث ، عن علي قال : لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي مكة ، أسرّ إلى أناس من أصحابه أنه يريد مكة ، فيهم حاطب بن أبي بلتعة وأفشى في الناس أنه يريد خيبر. قال : فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم. فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مَرْثد ، وليس منا رجل إلا وعند (3) فرس ، فقال : "ائِتوا روضة خاخ ، فإنكم ستلقون بها امرأة معها كتاب ، فخذوه منها". فانطلقنا حتى رأيناها بالمكان الذي ذَكَر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلنا لها : هات الكتاب. فقالت : ما معي كتاب. فوضعنا متاعها وفتشناها (4) فلم نجده في متاعها ، فقال أبو مرثد : لعله ألا يكون معها. فقلت : ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا (5). فقلنا لها : لتخرجِنَّه أو لنُعرينَّك. فقالت : أما تتقون الله ؟! ألستم مسلمين ؟ فقلنا : لتخرجنه أو لنعرينَّك. قال عمرو بن مرة : فأخرجته من حُجُزَتها. وقال حبيب بن أبي ثابت : أخرجته (6) من قُبُلها. فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا الكتاب من حاطب بن أبي بلتعة. فقام عمر فقال : يا رسول الله ، خان الله ورسوله ، فائذن لي فلأضرب عنقه. فقال رسول الله : "أليس قد شهد بدرًا ؟". قالوا : بلى. وقال عمر : بلى ، ولكنه قد نكث وظاهر أعداءك عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فلعل الله اطلع إلى على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم ، إني بما تعملون بصير". ففاضت عينا عمر وقال : الله ورسوله أعلم. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حاطب فقال : "يا حاطب ، ما حملك على ما صنعت ؟". فقال : يا رسول الله ، إني كنت امرأ مُلصَقًا في قريش ، وكان لي بها مال وأهل ، ولم يكن من أصحابك أحد إلا وله بمكة من يمنع أهله وماله ، فكتبت إليهم بذلك ووالله - يا رسول الله - إني لمؤمن بالله ورسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "صدق حاطب ، فلا تقولوا لحاطب إلا خيرًا". قال (7) حبيب بن أبي ثابت : فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } الآية.
وهكذا رواه ابن جرير عن ابن حميد عن مِهْران ، عن أبي سنان - سعيد بن سنان - بإسناده مثله (8). وقد ذكر ذلك أصحاب المغازي والسير ، فقال محمد بن إسحَاق بن يَسَار في السيرة.
حدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عُرْوَة بن الزبير وغيره من علمائنا قال : لما أجمع رسول
__________
(1) صحيح البخاري برقم (3983) وصحيح مسلم برقم (2494).
(2) في هـ" "عن أبي إسحاق البختري الطائي ولالمثبت من الطبري.
(3) في م ، أ : "وعنده".
(4) في م : "وفتشناه".
(5) في م : "ولا كاذب".
(6) في م : "فأخرجته".
(7) في م : "فقال".
(8) تفسير الطبري (23/38).

(8/84)


الله صلى الله عليه وسلم المسير (1) إلى مكة ، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابًا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم ، ثم أعطاه امرأة - زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة ، وزعم غيره أنها : سارة ، مولاة لبني عبد المطلب - وجعل لها جُعلا على أن تبلغه قُريشًا فجعلته في رأسها ، ثم فتلت عليه قرونها ، ثم خرجت به. وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ من السماء بما صنع حاطب ، فبعث عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوام فقال : "أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش ، يحذرهم ما قد أجمعنا (2) له من أمرهم".
فخرجا حتى أدركاها بالخُلَيفْة - خليفة (3) بني أبي أحمد - فاستنزلاها بالخليفة ، فالتمسا في رحلها فلم يجدا شيئًا ، فقال لها علي بن أبي طالب : إني أحلف بالله ما كذب رسول الله وما كذبنا (4) ولتُخرجِنَّ لنا هذا الكتاب أو لنكشفنَّك. فلما رأت الجِدّ منه قالت : أعرض. فأعرض ، فحلت قُرون رأسها ، فاستخرجت الكتاب منها ، فدفعته إليه. فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله حاطبًا فقال : "يا حاطب ما حملك على هذا ؟". فقال : يا رسول الله ، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله (5) ما غَيَّرت ولا بَدّلت ، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم من أهل ولا عشيرة ، وكان لي بين أظهرهم وَلَد وأهل فصانعتهم عليهم فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ، دعني فَلأضربْ عنقه ، فإن الرجل قد نافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وما يدريك يا عمر! لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم". فأنزل الله ، عز وجل ، في حاطب : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } إلى قوله : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [الممتحنة : 4] إلى آخر القصة (6).
وروى مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُرْوَة نحو ذلك. وهكذا ذكر مقاتل بن حيان : أن هذه الآيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة : أنه بعث سارة مولاة بني هاشم ، وأنه أعطاها عشرة دراهم ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث في أثرها عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ، رضي الله عنهما ، فأدركاها بالجحفة... وذكر تمام القصة كنحو ما تقدم. وعن السدي قريبا منه. وهكذا قال العوفي ، عن ابن عباس ، ومجاهد وقتادة ، وغير واحد : أن هذه الآيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة.
فقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ } يعني : المشركين والكفار الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين ، الذين شرع الله (7) عداوتهم ومصارمتهم ، ونهى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء وأخلاء ، كما قال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [المائدة : 51].
__________
(1) في م : "السير".
(2) في م ، أ : "اجتمعنا".
(3) في أ : "بالحليفة حليفة".
(4) في م : "ولا كذبنا".
(5) في م : "وبرسوله".
(6) ورواه الطبري في تفسيره (23/39) من طريق أبي إسحاق.
(7) في م : "شرع لهم".

(8/85)


وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [المائدة : 57] وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } [النساء : 144]. وقال تعالى : { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } [آل عمران : 28] ؛ ولهذا قَبِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عُذْرَ حاطب لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش ، لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد.
ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد :
حدثنا مصعب بن سلام ، حدثنا الأجلح ، عن قيس بن أبي مسلم ، عن ربعي بن حرّاش ، سمعت حُذيفة يقول : ضَرَب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمثالا واحدًا وثلاثة وخمسة وسبعة ، وتسعة ، وأحد عشر - قال : فضرب لنا منها مثلا وترك سائرها ، قال : "إن قومًا كانوا أهل ضعف ومسكنة ، قاتلهم أهل تجبر وعداء ، فأظهر الله أهل الضعف عليهم ، فَعَمَدوا إلى عَدُوهم فاستعملوهم وسلّطوهم ، فأسخطوا الله عليهم إلى يوم يلقونه" (1).
وقوله : { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ } هذا مع ما قبله من التهييج على عداوتهم وعدم موالاتهم ؛ لأنهم أخرجوا الرسول وأصحابه من بين أظهرهم ، كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده ؛ ولهذا قال : { أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ } أي : لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم بالله رب العالمين ، كقوله : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ.الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [البروج : 8] ، وكقوله { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } [الحج : 40].
وقوله : { إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي } أي : إن كنتم كذلك فلا تتخذوهم أولياء ، إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي باغين لمرضاتي عنكم فلا توالوا أعدائي وأعداءكم ، وقد أخرجوكم من دياركم وأموالكم حنقًا عليكم وسخطًا لدينكم.
وقوله : { تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ } أي : تفعلون ذلك وأنا العالم بالسرائر والضمائر والظواهر { وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ } أي : لو قدروا عليكم لما اتقوا (2) فيكم من أذى ينالونكم به بالمقال والفعال. { وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ } أي : ويحرصون على ألا تنالوا خيرًا ، فهم عداوتهم لكم كامنة وظاهرة ، فكيف توالون مثل هؤلاء ؟ وهذا تهييج على عداوتهم أيضًا.
وقوله : { لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : قراباتكم لا تنفعكم عند الله (3) إذا أراد الله بكم سوءًا ، ونفعهم لا يصل إليكم إذا أرضيتموهم بما
__________
(1) المسند (5/407) وقال الهيثمي في المجمع (5/232) : "وفيه الأجلح الكندي وهو ثقة وقد ضعف ، وبقية رجاله ثقات".
(2) في أ : "لما أبقوا".
(3) في م : "عند الله ولا أولادكم".

(8/86)


قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)

يسخط الله ، ومن وافق أهله على الكفر ليرضيهم فقد خاب وخَسِر وضَلّ عمله ، ولا ينفعه عند الله قرابته من أحد ، ولو كان قريبًا إلى نبي من الأنبياء. قال الإمام أحمد :
حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن أنس ، أن رجلا قال : يا رسول الله : أين أبي ؟ قال : "في النار" فلما (1) قَفَّى دعاه فقال : "إن أبي وأباك في النار".
ورواه مسلم وأبو داود ، من حديث حماد بن سلمة ، به (2).
{ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) }
__________
(1) في م : "قال : فلما".
(2) المسند (3/268) وصحيح مسلم برقم (203) وسنن أبي داود برقم (8174).

(8/87)


لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)

{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) }
يقول تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين وعداوتهم ومجانبتهم والتبري منهم : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ } أي : وأتباعه الذين آمنوا معه { إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ } أي : تبرأنا منكم { وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ } أي : بدينكم وطريقكم ، { وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا } يعني : وقد شُرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا وبينكم ، ما دمتم على كفركم فنحن أبدًا نتبرأ منكم ونبغضكم { حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } أي : إلى أن تُوحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له ، وتخلعوا ما تعبدون معه من الأنداد والأوثان.
وقوله : { إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } أي : لكم في إبراهيم وقومه أسوة حسنة تتأسون بها ، إلا في استغفار إبراهيم لأبيه ، فإنه إنما كان عن مَوعِدة وعدها إياه ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه. وذلك أن بعض المؤمنين كانوا يَدعون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك ويستغفرون لهم ، ويقولون : إن إبراهيم كان يستغفر لأبيه ، فأنزل الله ، عز وجل : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } [التوبة : 113 ، 114]. وقال تعالى في هذه الآية الكريمة : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ } إلى قوله : { إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } أي :

(8/87)


ليس لكم في ذلك أسوة ، أي : في الاستغفار للمشركين ، هكذا قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، ومقاتل ، والضحاك وغير واحد.
ثم قال تعالى مخبرًا عن قول إبراهيم والذين معه ، حين فارقوا قومهم وتبرءوا منهم ، فلجئوا إلى الله وتضرّعوا (1) إليه فقالوا : { رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } أي : توكلنا عليك في جميع الأمور ، وسَلَّمنا أمورَنا إليك ، وفوضناها إليك { وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } أي : المعاد في الدار الآخرة.
{ رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا } قال مجاهد : معناه : لا تعذبنا بأيديهم ، ولا بعذاب من عندك ، فيقولوا : لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا. وكذا قال الضحاك.
وقال قتادة لا تُظْهِرهم علينا فيفتتنوا بذلك ، يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه. واختاره ابن جرير (2).
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : لا تسلطهم علينا فيفتنونا.
وقوله : { وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي : واستر ذنوبنا عن غيرك ، واعف عنها فيما بيننا وبينك ، { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي : الذي لا يُضَام من لاذ بجناحك (3) { الْحَكِيم } في أقوالك وأفعالك وشرعك وقدرك.
ثم قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ } وهذا تأكيد لما تقدم ومستثنى منه ما تقدم أيضًا لأن هذه الأسوة المثبتة (4) هاهنا هي الأولى بعينها.
وقوله : { لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ } تهييج إلى ذلك كل مقر (5) بالله والمعاد.
وقوله : { وَمَنْ يَتَوَلَّ } أي : عما أمر الله به ، { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } كقوله { إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } [إبراهيم : 8].
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { الْغَنِيُّ } الذي [قد] (6) كمل في غناه ، وهو الله ، هذه صفته لا تنبغي إلا له ، ليس له كفء ، وليس كمثله شيء ، سبحان الله الواحد القهار. { الْحَمِيدُ } المستحمد إلى خلقه ، أي : هو المحمود في جميع أفعاله وأقواله ، لا إله غيره ، ولا رب سواه.
__________
(1) في م : "وضرعوا".
(2) تفسير الطبري (28/42).
(3) في أ : "بجنابك".
(4) في أ : "المبيتة".
(5) في م : "لكل موقن".
(6) زيادة من م.

(8/88)


عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)

{ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) }
يقول تعالى لعباده المؤمنين بعد أن أمرهم بعداوة الكافرين : { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً } أي : محبة بعد البِغْضَة ، ومودة بعد النَّفرة ، وألفة بعد الفرقة. { وَاللَّهُ قَدِيرٌ } أي : على ما يشاء من الجمع بين الأشياء المتنافرة والمتباينة والمختلفة ، فيؤلف بين القلوب بعد العداوة والقساوة ، فتصبح مجتمعة متفقة ، كما قال تعالى ممتنًا على الأنصار : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا } الآية [آل عمران : 103]. وكذا قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : "ألم أجِدْكُم ضُلالا فهداكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألَّفَكُم الله بي ؟" (1). وقال الله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [الأنفال : 62 ، 63]. وفي الحديث "أحبِبْ حَبيبَكَ هونًا مّا ، فعسى أن يكونَ بَغيضَكَ يومًا ما. وأبغِض بغيضَك هونًا ما ، فعسى أن يكون حبيبك يومًا ما" (2). وقال الشاعر (3)
وَقَد يجمعُ اللهُ الشتيتين بعد ما... يَظُنان كُل الظنّ ألا تَلاقَيا...
وقوله تعالى : { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : يغفر للكافرين كفرهم إذا تابوا منه وأنابوا إلى ربهم وأسلموا له ، وهو الغفور الرحيم بكل من تاب إليه ، من أيّ ذنب كان.
وقد قال مقاتل بن حيان : إن هذه الآية نزلت في أبي سفيان ، صخر بن حرب ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ابنته فكانت هذه مودة ما بينه وبينه.
وفي هذا الذي قاله مقاتل نظر ؛ فإن رسول تزوج بأم حبيبة بنت أبي سفيان قبل الفتح ، وأبو سفيان إنما أسلم (4) ليلة الفتح بلا خلاف. وأحسن من هذا ما رواه بن أبي حاتم حيث قال :
قُرئ على محمد بن عَزيز : حدثني سلامة ، حدثني عقيل ، حدثني ابن شهاب ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل أبا سفيان بن حرب على بعض اليمن ، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل فلقي ذا الخمار مرتدًا ، فقاتله ، فكان أول من قاتل في الردة وجاهد عن الدين. قال ابن شهاب : وهو ممن أنزل
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (4330) من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم ، رضي الله عنه.
(2) رواه الترمذي في السنن برقم (1997) من طريق سويد بن عمرو ، عن حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة مرفوعًا به ، وقال الترمذي : "هذا حديث غريب لا نعرفه بهذا الإسناد إلا من هذا الوجه ، وقد روي هذا الحديث عن أيوب بإسناد غير هذا رواه الحسن بن أبي جعفر ، وهو حديث ضعيف أيضًا بإسناد له عن علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والصحيح عن على موقوف قوله".
(3) هو قيس بن الملوح كما في ديوانه (ص 315) واللسان ، مادة "شتت" أ. هـ. مستفادًا من حاشية ط - الشعب.
(4) في م : "وإنما أسلم أبو سفيان".

(8/89)


الله فيه : { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (1).
وفي صحيح مسلم ، عن ابن عباس : أن أبا سفيان قال : يا رسول الله ، ثلاث أعطنيهنّ. قال : "نعم". قال : وتؤمّرني أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين. قال : "نعم". قال : ومعاوية تجعله كاتبًا بين يديك. قال : "نعم". قال : وعندي أحسن العرب وأجمله ، أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها... الحديث. وقد تقدم الكلام عليه (2).
وقوله تعالى : { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } أي لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين ، كالنساء والضعفة منهم ، { أَنْ تَبَرُّوهُمْ } أي : تحسنوا إليهم { وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ } أي : تعدلوا { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }.
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا هشام بن عروة ، عن فاطمة بنت المنذر ، عن أسماء - هي بنت أبي بكر ، رضي الله عنهما - قالت : قَدَمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا ، فأتيتُ النبي (3) صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، إن أمي قدمت وهي راغبة ، أفأصلها ؟ قال : "نعم ، صلي أمك" أخرجاه (4).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عارم ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا مصعب بن ثابت ، حدثنا عامر بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه قال : قدمت قُتَيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا : صِنَاب وأقط (5) وسمن ، وهي مشركة ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها تدخلها بيتها ، فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله ، عز وجل : { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ } إلى آخر الآية ، فأمرها أن تقبل هديتها ، وأن تدخلها بيتها.
وهكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، من حديث مصعب بن ثابت ، به (6). وفي رواية لأحمد وابن (7) جرير : "قُتَيلة بنت عبد العزي بن [عبد] (8) أسعد ، من بني مالك بن حسل (9). وزاد ابن أبي حاتم : "في المدة التي كانت بين قريش ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم".
__________
(1) ذكره السيوطي في الدر المنثور (8/130) وعزاه لابن أبي حاتم ، وهو مرسل.
(2) صحيح مسلم برقم (2501) من حديث ابن عباس ، رضي الله عنه ، وقول الحافظ : "تقدم الكلام عليه" لا أدري ما مقصوده ، فإنه ذكر الحديث عند تفسير الآية : 227 من سورة الشعراء ، ولم يتكلم عليه بشيء ، وقد يكون تكلم عليه في مكان آخر لم أقع عليه ، والله أعلم. والحديث استشكل ، فقول أبي سفيان في الحديث : وعندى أم حبيبة أزوجكها ، منقوض بأن أبا سفيان إنما أسلم يوم فتح مكة ، والنبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة قبل ذلك بزمان طوبل. انظر كلام الإمام النووي في : المنهاج (16/63) وإجابته على ذلك.
(3) في م : "رسول الله".
(4) الحديث وقع لي من غير هذا الطريق ، انظر : المسند (6/344 ، 347) وصحيح البخاري برقم (2620 ، 3183 ، 5978) وصحيح مسلم برقم (1003).
(5) في م : " وصناب وقرظ" ، وفي أ : "وضباب وقرط" ، والمثبت من اللطبري.
(6) المسند (4/4) وتفسير الطبري (28/43).
(7) في م : "ولابن".
(8) زيادة من مسند الإمام أحمد.
(9) في أ : "قبيلة بنت العزي بن سعد من بني مالك بن حنبل".

(8/90)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)

وقال أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار : حدثنا عبد الله بن شبيب ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو قتادة العدوي ، عن ابن أخي الزهري ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة وأسماء أنهما قالتا : قدمت علينا أمنا المدينة ، وهي مشركة ، في الهدنة التي كانت بين قريش وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلنا : يا رسول الله ، إن أمنا قدمت علينا المدينة راغبةً ، أفنصلها ؟ قال : "نعم ، فَصِلاها" (1).
ثم قال : وهذا الحديث لا نعلمه يروي عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة إلا من هذا الوجه.
قلت : وهو منكر بهذا السياق ؛ لأن أم عائشة هي أم رومان ، وكانت مسلمة مهاجرة وأم أسماء غيرها ، كما هو مصرح باسمها في هذه الأحاديث المتقدمة والله أعلم.
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } تقدم تفسير ذلك في سورة "الحجرات" ، وأورد الحديث الصحيح : "المقسطون على منابر من نور عن يمين العرش ، الذين يعدلون في حكمهم ، وأهاليهم ، وما وَلُوا" (2).
وقوله : { إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ } أي : إنما ينهاكم عن موالاة هؤلاء الذين ناصبوكم العداوة ، فقاتلوكم وأخرجوكم ، وعاونوا على إخراجكم ، ينهاكم الله عن موالاتهم ويأمركم بمعاداتهم. ثم أكد الوعيد على موالاتهم فقال : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } كقوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [المائدة : 51].
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) }
__________
(1) مسند البزار برقم (1873) "كشف الأستار" وقال الهيثمي : "حديث أسماء في الصحيح ، وأم عائشة غير أم أسماء" ؛ ولهذا أنكره الحافظ هنا ، وفيه عبد الله بن شبيب شيخ البزار ضعيف.
(2) صحيح مسلم برقم (1827) من حديث عبد الله بن عمرو ، رضي الله عنهما.

(8/91)


تقدم في سورة "الفتح" ذكر صلح الحديبية الذي وقع بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش ، فكان فيه : "على ألا يأتيك منا رجل - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا". وفي رواية : "على أنه لا يأتيك منا أحد - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا". وهذا قول عروة ، والضحاك ، وعبد الرحمن بن زيد ، والزهري ، ومقاتل ، والسدي. فعلى هذه الرواية تكون هذه الآية مخصصة للسنة ، وهذا من أحسن أمثلة ذلك ، وعلى طريقة بعض السلف ناسخة ، فإن الله ، عز وجل ، أمر عباده المؤمنين إذا جاءهم النساء مهاجرات أن يمتحنوهن ، فإن عَلِموهن مؤمنات فلا يرجعوهن إلى الكفار ، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن.
وقد ذكرنا في ترجمة عبد الله بن أبي أحمد بن جحش ، من المسند الكبير ، من طريق أبي بكر بن أبي عاصم ، عن محمد بن يحيى الذهلي ، عن يعقوب بن محمد ، عن عبد العزيز بن عمران ، عن مُجَمِّع بن يعقوب ، عن حسين بن أبي لُبانة ، عن عبد الله بن أبي أحمد قال : هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيط في الهجرة ، فخرج أخواها عمارة والوليد حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلماه فيها أن يردها إليهما ، فنقض الله العهد بينه وبين المشركين في النساء خاصة ، ومنعهن أن يُرْدَدْنَ إلى المشركين ، وأنزل الله آية الامتحان (1).
قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا يونس بن بُكَيْر ، عن قيس بن الربيع ، عن الأغر بن الصباح ، عن خليفة عن حُصَين ، عن أبي نصر الأسدي قال : سُئِل ابنُ عباس : كيف كان امتحانُ رسول الله صلى الله عليه وسلم النساءَ ؟ قال : كان يمتحنهن : بالله ما خَرجت من بُغض زوج ؟ وبالله ما خَرجت رَغبةً عن أرض إلى أرض ؟ وبالله ما خرجت التماس دنيا ؟ وبالله ما خرجت إلا حبًا لله ولرسوله ؟ (2).
ثم رواه من وجه آخر ، عن الأغر بن الصباح ، به. وكذا رواه البزار من طريقه ، وذكر فيه أن الذي كان يحلفهن عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم له عمر بن الخطاب (3).
وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } كان امتحانهن أن يَشهدْن أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا عبد الله (4) ورسوله.
وقال مجاهد : { فَامْتَحِنُوهُنّ } فاسألوهن : عما جاء بهن ؟ فإن كان بهن غضبٌ على أزواجهن أو سَخْطة أو غيره ، ولم يؤمنّ فارجعوهن إلى أزواجهن.
وقال عكرمة : يقال لها : ما جاء بك إلا حب الله ورسوله ؟ وما جاء بك عشق رجل منا ، ولا
__________
(1) جامع المسانيد والسنن لابن كثير (7/243) ورواه ابن الأثير في أسد الغابة (3/67) من طريق أبي بكر بن أبي عاصم ، وعبد العزيز ابن عمران ضعيف.
(2) تفسير الطبري (28/44).
(3) مسند البزار برقم (2272) "كشف الأستار" وقال : "لا نعلمه يروى عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد ، ولا روي عن أبي نصر إلا خليفة". قال الهيثمي في المجمع (7/123) : "وفيه قيس بن الربيع ، وثقه شعبة والثوري ، وضعفه غيرهما ، وبقية رجاله ثقاب". وتعقبه ابن حجر في مختصر الزوائد (1/112). قلت : "أعله الشيخ بقيس ، وقد ذكر البخاري أن أبا نصر لم يسمع من ابن عباس فهي العلة".
(4) في م : "وإن محمدًا عبده".

(8/92)


فرار من زوجك ؟ فذلك قوله : { فَامْتَحِنُوهُنّ }
وقال قتادة : كانت محنتهن أن يستحلفن بالله : ما أخرجكن النشوز ؟ وما أخرجكن إلا حب الإسلام وأهله وحِرص عليه ؟ فإذا قلن ذلك قُبِل ذلك منهن.
وقوله : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ } فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطلاع عليه يقينًا.
وقوله : { لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } هذه الآية هي التي حَرّمَت المسلمات على المشركين ، وقد كان جائزًا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة ؛ ولهذا كان أبو العاص بن الربيع زوج ابنة النبي صلى الله عليه وسلم زينب ، رضي الله عنها ، وقد كانت مسلمة وهو على دين قومه ، فلما وقع في الأسارى يوم بدر بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رَقّ لها رقَّةً شَديدَةً ، وقال للمسلمين : "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا". ففعلوا ، فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبعث ابنته إليه ، فوفى له بذلك وصدقه فيما وعده ، وبعثها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زيد بن حارثة ، رضي الله عنه ، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر ، وكانت سنة اثنتين إلى أن أسلم زوجها العاص بن الربيع سنة ثمان فردها عليه بالنكاح الأول ، ولم يحدث لها صداقًا ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، حدثنا بن إسحاق ، حدثنا داود بن الحصين ، عن عكرمة عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص [ابن الربيع] (1) وكانت هجرتها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول ، ولم يحدث شهادة ولا صَدَاقًا.
ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجة (2). ومنهم من يقول : "بعد سنتين" ، وهو صحيح ؛ لأن إسلامه كان بعد تحريم المسلمات على المشركين بسنتين. وقال الترمذي : "ليس بإسناده بأس ، ولا نعرف (3) وجه هذا الحديث ، ولعله جاء من حفظ داود بن الحصين. وسمعت عبد بن حميد يقول : سمعت يزيد بن هارون يذكر عن بن إسحاق هذا الحديث ، وحديث ابن الحجاج - يعني ابن أرطاة - عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد. فقال يزيد : حديث ابن عباس أجودُ إسنادًا والعمل على حديث عمرو بن شعيب".
قلت : وقد رَوَي حديث الحجاج بن أرطاة ، عن عمرو بن شعيب الإمامُ أحمد والترمذي وابن ماجة (4) ، وضعفه الإمام أحمد وغير واحد ، والله أعلم.
__________
(1) زيادة من مسند الإمام أحمد.
(2) المسند (1/261) وسنن أبي داود برقم (2240) وسنن الترمذي برقم (1143) وسنن ابن ماجة برقم (2009).
(3) في م : "ولا يعرف".
(4) المسند (2/207) وسنن الترمذي برقم (1142) وسنن ابن ماجة برقم (2010).

(8/93)


وأجاب الجمهور عن حديث ابن عباس بأن ذلك كان قضية عين يحتمل أنه لم تنقض عِدّتها منه ؛ لأن الذي عليه الأكثرون أنها متى انقضت العدة ولم يسلم (1) انفسخَ نِكاحُها منه.
وقال آخرون : بل إذا انقضت العدة هي بالخيار ، إن شاءت أقامت على النكاح واستمرت ، وإن شاءت فسخته وذهبت فتزوجت ، وحملوا عليه حديث ابن عباس ، والله أعلم.
وقوله : { وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا } يعني : أزواج المهاجرات من المشركين ، ادفعوا إليهم الذي غرموه عليهن من الأصدقة. قاله ابن عباس ، ومجاهد وقتادة ، والزهري ، وغير واحد.
وقوله : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } يعني : إذا أعطيتموهن أصدقتهن فانكحوهن ، أي : تزوجوهن بشرطه من انقضاء العدة والولي وغير ذلك.
وقوله : { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } تحريم من الله ، عز وجل ، على عباده المؤمنين نكاح المشركات ، والاستمرار معهن.
وفي الصحيح ، عن الزهري ، عن عروة ، عن المسور ومَرْوان بن الحكم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاء نساءٌ من المؤمنات ، فأنزل الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ [فَامْتَحِنُوهُنَّ] } (2) إلى قوله : { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } فطلق عمر بن الخطاب يومئذ امرأتين ، تزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان ، والأخرى صفوان بن أمية (3).
وقال ابن ثور ، عن مَعْمَر ، عن الزهري : أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو بأسفل الحديبية ، حين صالحهم على أنه من أتاه منهم رده إليهم ، فلما جاءه النساء نزلت هذه الآية ، وأمره أن يرد الصداق إلى أزواجهن ، وحكم على المشركين مثل ذلك إذا جاءتهم امرأة من المسلمين أن يردوا الصداق إلى زوجها ، وقال : { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وقال : وإنما حكم الله بينهم بذلك ، لأجل ما كان بينهم وبينهم من العهد.
وقال محمد بن إسحاق ، عن الزهري : طلق عمر يومئذ قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة ، فتزوجها معاوية ، وأم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية ، وهي أم عُبَيد الله ، فتزوجها أبو جهم ابن حذيفة بن غانم ، رجل من قومه ، وهما على شركهما ، وطلق طلحةُ بن عبيد الله أروي بنتَ ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، فتزوجها بعده خالد بن سعيد بن العاص (4).
وقوله : { وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا } أي : وطالبوا بما أنفقتم على أزواجكم اللاتي
__________
(1) في م : "ولم تسلم".
(2) زيادة من م.
(3) صحيح البخاري برقم (2731 ، 2732).
(4) تفسير الطبري (28/47) مع اختلاف يسير.

(8/94)


يذهبن إلى الكفار ، إن ذهبن ، وليطالبوا بما أنفقوا على أزواجهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين.
وقوله : { ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } أي : في الصلح واستثناء النساء منه ، والأمر بهذا كله هو حكم الله يحكم به بين خلقه : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي عليم بما يصلح عباده حكيم في ذلك.
ثم قال : { وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا } قال مجاهد ، وقتادة : هذا في الكفار الذين ليس لهم عهد ، إذا فرت إليهم امرأة ولم يدفعوا إلى زوجها شيئًا ، فإذا جاءت منهم امرأة لا يدفع إلى زوجها شيء ، حتى يدفع إلى زوج الذاهبة إليهم مثل نفقته عليها.
وقال ابن جرير : حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني يونس ، عن الزهري قال : أقر المؤمنون بحكم الله ، فأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين التي أنفقوا على نسائهم ، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما فرض عليهم من أداء نفقات المسلمين ، فقال الله للمؤمنين به : { وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } فلو أنها ذهبت بعد هذه الآية امرأةٌ من أزواج المؤمنين إلى المشركين ، رَدّ المؤمنون إلى زوجها النفقة التي أنفق عليها من العَقب الذي بأيديهم ، الذي أمروا أن يردوه على المشركين من نفقاتهم التي أنفقوا على أزواجهم اللاتي آمن وهاجرنَ ، ثم ردوا إلى المشركين فضلا إن كان بقي لهم. والعقب : ما كان [بأيدي المؤمنين] (1) من صداق نساء الكفار حين آمنّ وهاجرن (2).
وقال العوفي ، عن ابن عباس في هذه الآية : يعني إن لحقت امرأة رجل من المهاجرين بالكفار ، أمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يعطى من الغنيمة مثل ما أنفق.
وهكذا قال مجاهد : { فَعَاقَبْتُم } أصبتم غنيمة من قريش أو غيرهم { فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا } يعني : مهر مثلها. وهكذا قال مسروق ، وإبراهيم ، وقتادة ، ومقاتل ، والضحاك ، وسفيان بن حسين ، والزهري أيضًا.
وهذا لا ينافي الأول ؛ لأنه إن أمكن الأول (3) فهو أولى ، وإلا فمن الغنائم اللاتي تؤخذ من أيدي الكفار. وهذا أوسع ، وهو اختيار ابن جرير ، ولله الحمد والمنة (4)
__________
(1) زيادة من تفسير الطبري.
(2) تفسير الطبري (28/48).
(3) في م : "أمكن بالأول".
(4) في م : "والله أعلم".

(8/95)


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)

{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) }

(8/95)


قال البخاري : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن أخي ابن شهاب ، عن عمه قال : أخبرني عروة أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، أخبرته : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ } إلى قوله : { غَفُورٌ رَحِيمٌ } قال عروة : قالت عائشة : فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات ، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قد بايعتك" ، كلامًا ، ولا والله ما مست يده يد امرأة قَطّ في المبايعة ، ما يبايعهن إلا بقوله : "قد بايعتك على ذلك" هذا لفظ البخاري (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان ، عن محمد بن المُنْكَدِر ، عن أميمة بنت رُقَيقة قالت : أتيت رسول الله (2) صلى الله عليه وسلم في نساء لنبايعه ، فأخذ علينا ما في القرآن : { أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا } الآية ، وقال : "فيما استطعتن وأطقتن" ، قلنا : الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا ، قلنا : يا رسول الله ، ألا تصافحنا ؟ قال "إني لا أصافح النساء ، إنما قولي لامرأة واحدة (3) كقولي لمائة امرأة".
هذا إسناد صحيح ، وقد رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة ، من حديث سفيان بن عيينة - والنسائي أيضًا من حديث الثوري - ومالك بن أنس كلهم ، عن محمد بن المنكدر ، به (4). وقال الترمذي : حسن صحيح ، لا نعرفه إلا من حديث محمد بن المنكدر.
وقد رواه أحمد أيضا من حديث محمد ابن إسحاق ، عن محمد بن المنكدر ، عن أميمة ، به. وزاد : "ولم يصافح منا امرأة" (5). وكذا رواه ابن جرير من طريق موسى بن عقبة ، عن محمد بن المنكدر ، به (6). ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر الرازي ، عن محمد بن المنكدر : حدثتني أميمة بنت رقيقة - وكانت أخت خديجة خالة فاطمة ، من فيها إلى في ، فذكره.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، حدثني سليط بن أيوب بن الحكم بن سُلَيم ، عن أمه سلمى بنت قيس - وكانت إحدى خالات رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلت معه القبلتين ، وكانت إحدى نساء بني عدي بن النجار - قالت : جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم نبايعه في نسوة من الأنصار ، فلما شرط علينا : ألا نشرك بالله شيئًا ، ولا نسرق ، ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ، ولا نعصيه في معروف - قال : "ولا تغشُشْن أزواجكن". قالت : فبايعناه ، ثم انصرفنا ، فقلت لامرأة منهن : ارجعي فسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما غش أزواجنا ؟ قال : فسألته فقال : "تأخذ ماله ، فتحابي به غيره" (7).
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4891) ووقع في رواية أبي ذر : "حدثنا إسحاق ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم".
(2) في م : "أتيت النبي".
(3) في م : "واحدة منكن".
(4) المسند (6/357) وسنن الترمذي برقم (1597) وسنن النسائي (7/149) وسنن ابن ماجة برقم (2874).
(5) المسند (6/357).
(6) تفسير الطبري (28/53).
(7) المسند (6/379).

(8/96)


وقال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن أبي العباس ، حدثنا عبد الرحمن بن عثمان بن إبراهيم بن محمد بن حاطب ، حدثني أبي ، عن أمه عائشة بنت قُدَامة - يعني : ابن مظعون - قالت : أنا مع أمي رائطة بنت سفيان الخزاعية ، والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع النسوة ويقول : "أبايعكنّ على أن لا تشركن بالله شيئًا ، ولا تسرقن ، ولا تزنين ، ولا تقتلن أولادكن ، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن ، ولا تعصينني في معروف". [قالت : فأطرقن. فقال لهن النبي صلى الله عليه وسلم] (1) قُلن : نعم فيما استطعتن". فَكُنّ يقلن وأقول معهن ، وأمي تُلقّني : قولي (2) أي بنية ، نعم [فيما استطعتُ] (3). فكنت أقول كما يقلن (4)
وقال البخاري : حدثنا أبو مَعْمَر ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا أيوب ، عن حفصة بنت سيرين ، عن أم عطية قالت : بَايَعْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ (5) علينا : { أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا } ونهانا عن النياحة ، فقبضت امرأة يدها ، قالت : أسعدتني فلانة أريد أن أجزيها. فما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، فانطلقت ورجعت فبايعها.
ورواه مسلم (6). وفي رواية : "فما وفى منهن امرأة غيرها ، وغير أم سليم ابنة ملحان".
وللبخاري عن أم عطية قالت : أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البيعة ألا ننوح ، فما وَفّت منا امرأة غير خمس نسوة : أم سليم ، وأم العلاء ، وابنة أبي سبرة امرأة معاذ ، وامرأتان - أو : ابنة أبي سَبرة ، وامرأة معاذ ، وامرأة أخرى (7).
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاهدُ النساءَ بهذه البيعة يوم العيد ، كما قال البخاري :
حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا هارون بن (8) معروف ، حدثنا عبد الله بن وهب ، أخبرني ابن جُرَيج : أن الحسن بن مسلم أخبره ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب بَعدُ ، فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فكأني أنظر إليه حين (9) يُجَلَّس الرجالَ بيده ، ثم أقبل يَشقّهم حتى أتى النساء مع بلال فقال : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } حتى فرغ من الآية كلها. ثم قال حين فرغ : "أنتن على ذلك ؟". فقالت امرأة واحدة ، ولم يجبه غيرها : نعم يا رسول الله - لا يدري الحسن (10) من هي - قال : "فتصدقن" ، قال : وبسط بلال ثوبه فجعلن (11) يلقين الفَتَخَ
__________
(1) زيادة من مسند الإمام أحمد.
(2) زيادة من مسند الإمام أحمد ، وفي هـ ، م ، أ : "تقول لي".
(3) زيادة من مسند الإمام أحمد.
(4) المسند (6/365).
(5) في م : "فشرط".
(6) صحيح البخاري برقم (4892) وصحيح مسلم برقم (936).
(7) صحيح البخاري برقم (1306).
(8) في م : "حدثنا".
(9) في م : "إليه حتى".
(10) في م ، أ : "لا يدري حسن".
(11) في م : "فجعل".

(8/97)


والخواتيم في ثوب بلال (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا ابن عياش ، عن سليمان بن سُليم ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : جاءت أميمة بنت رقيقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإسلام ، فقال : "أبايعك على ألا تشركي بالله شيئًا ، ولا تسرقي ، ولا تزني ، ولا تقتلي ولدك ، ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يَديك ورجليك ، ولا تنوحي ، ولا تبرجي تبرج الجاهلية الأولى" (2)
وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن عبادة بن الصامت قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال : "تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا أولادكم - قرأ الآية التي أخذت على النساء { إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ } فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به ، فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله عليه ، فهو إلى الله ، إن شاء غفر له ، وإن شاء عذبه". أخرجاه في الصحيحين (3).
وقال محمد ابن إسحاق ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن مرثد (4) بن عبد الله اليَزني (5) عن أبي عبد الله عبد الرحمن بن عُسَيلة الصُّنَابجي (6) ، عن عبادة بن الصامت قال : كنت فيمن حضر العقبة الأولى ، وكنا اثني عشر رجلا فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء ، وذلك قبل أن يفرض الحرب ، على ألا نشرك بالله شيئًا ، ولا نسرق ، ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ، ولا نعصيه في معروف ، وقال : "فإن وَفَيتم فلكم الجنة" رواه ابن أبي حاتم.
وقد روي ابن جرير من طريق العوفي ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب فقال : " قل لهن : إن رسول الله يبايعكن على ألا تشركن بالله شيئًا" - وكانت هند بنت عتبة بن ربيعة التي شقت بطن حمزة مُنَكرة في النساء - فقالت : "إني إن أتكلم يعرفني ، وإن عرفني قتلني". وإنما تنكرت فرقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسكت النسوة اللاتي مع هند ، وأبين أن يتكلمن. فقالت هند وهي مُنَكَّرة : كيف تقبل من النساء شيئًا لم تقبله من الرجال ؟ ففطن (7) إليها رسول الله وقال لعمر : "قل لهن : ولا تسرقن". قالت هند : والله إني لأصيب من أبي سفيان الهَنَات ، ما أدري أيحلهن لي أم لا ؟ قال أبو سفيان : ما أصبت من شيء مضى أو قد بقي ، فهو لك حلال. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها ، فدعاها فأخذت بيده ، فعاذت (8) به ، فقال : "أنت هند ؟". قالت : عفا الله عما سلف. فصرف عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "ولا يزنين" ، فقالت : يا رسول الله ، وهل تزني الحرة ؟ قال : "لا والله ما تزني الحرة". فقال : "ولا
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4895).
(2) المسند (2/196).
(3) المسند (5/314) وصحيح البخاري برقم (4894) وصحيح مسلم برقم (1709).
(4) في م : "يزيد".
(5) في أ : "المزني".
(6) في أ : "الصالحي".
(7) في أ : "فنظر".
(8) في أ : "فعادتنا".

(8/98)


يقتلن أولادهن". قالت هند : أنت قتلتهم يوم بدر ، فأنت وهم أبصر. قال : { وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } قال { وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } قال : منعهن أن ينحن ، وكان أهل الجاهلية يمزقن الثياب ويخدشن الوجوه ، ويقطعن الشعور ، ويدعون بالثبور. والثبور : الويل (1).
وهذا أثر غريب ، وفي بعضه نكارة ، والله أعلم ؛ فإن أبا سفيان وامرأته لما أسلما لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيفهما ، بل أظهر الصفاء والود له ، وكذلك كان الأمر من جانبه ، عليه السلام ، لهما.
وقال مقاتل بن حيان : أنزلت هذه الآية يوم الفتح ، فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال على الصفا ، وعمر يبايع النساء تحتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر بقيته كما تقدم وزاد : فلما قال : { وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ } قالت هند : ربيناهم صغارًا فقتلتموهم كبارا. فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى. رواه بن أبي حاتم.
وقال بن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نصر بن علي ، حدثتني عطية بنت سليمان ، حدثني عمتي ، عن جدتها (2) عن عائشة قالت : جاءت هند بنت عتبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتبايعه ، فنظر إلى يدها فقال : "اذهبي فغيري يدك". فذهبت فغيرتها بحناء ، ثم جاءت فقال : "أبايعك على ألا تشركي بالله شيئا" ، فبايعها وفي يدها سواران من ذهب ، فقالت : ما تقول في هذين السوارين ؟ فقال : "جمرتان من جمر جهنم" (3).
فقوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ } أي : من جاءك منهن يبايع على هذه الشروط فبايعها ، { عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ } أي : أموال الناس الأجانب ، فأما إذا كان الزوج مقصرًا في نفقتها ، فلها أن تأكل من ماله بالمعروف ، ما جرت به عادة أمثالها ، وإن كان بغير علمه ، عملا بحديث هند بنت عتبة أنها قالت : يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل شَحِيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني ، فهل عليَّ جناح إن أخذت من ماله بغير علمه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك". أخرجاه في الصحيحين (4).
وقوله : { وَلا يَزْنِينَ } كقوله { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا } [الإسراء : 32]. وفي حديث سَمُرة ذكرُ عقوبة الزناة بالعذاب الأليم في نار الجحيم (5).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُرْوة ، عن عائشة قالت : جاءت فاطمة بنت عتبة تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ عليها : { أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ } الآية ، قالت : فوضعت يدها على رأسها حياء ، فأعجبه ما رأى منها ، فقالت عائشة :
__________
(1) تفسير الطبري (28/52).
(2) في أ : "حدثني عمي عن جدي".
(3) ورواه أبو يعلى في المسند (8/195) عن نصر بن على به نحو ، وقال الهيثمي في المجمع (6/37) : "فيه من لم أعرفهن".
(4) صحيح البخاري برقم (7180) وصحيح مسلم برقم (1714).
(5) رواه الإمام أحمد في المسند (5/15).

(8/99)


أقري أيتها المرأة ، فوالله ما بايعنا إلا على هذا. قالت : فنعم إذًا. فبايعها بالآية (1).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن فضيل ، عن حصين ، عن عامر - هو الشعبي - قال : بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء ، وعلى يده ثوب قد وضعه على كفه ، ثم قال : "ولا تقتلن أولادكن". فقالت امرأة : تقتل آباءهم وتوصينا بأولادهم ؟ قال : وكان بعد ذلك إذا جاءت النساء يبايعنه ، جمعهن فعرض عليهن ، فإذا أقررن رجعن.
وقوله { وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ } وهذا يشمل قتله بعد وجوده ، كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق ، ويعم قتله وهو جنين ، كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء ، تطرح نفسها لئلا تحبل إما لغرض فاسد أو ما أشبهه.
وقوله : { وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } قال ابن عباس : يعني لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم. وكذا قال مقاتل. ويؤيد هذا الحديث الذي رواه أبو داود :
حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا بن وهب ، حدثنا عمرو - يعني : ابن الحارث - عن ابن الهاد ، عن عبد الله بن يونس ، عن سعيد المَقْبُري ، عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول حين نزلت آية الملاعنة : "أيما امرأة أدخَلت على قوم من ليس منهم ، فليست من الله في شيء ، ولن يدخلها الله جَنّته ، وأيما رجل جَحَد ولده وهو ينظر إليه ، احتجب الله منه ، وفضحه على رءوس الأولين والآخرين" (2).
وقوله : { وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } يعني : فيما أمرتهن به من معروف ، ونهيتهن عنه من منكر.
قال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا أبي قال : سمعت الزبير ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله : { وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } قال : إنما هو شرط شَرَطه الله للنساء (3).
وقال ميمون بن مِهْرَان : لم يجعل الله لنبيه طاعة إلا لمعروف (4) والمعروف : طاعة.
وقال ابن زيد : أمر الله بطاعة رسوله ، وهو خِيَرة الله من خلقه في المعروف. وقد قال غيره ابن عباس ، وأنس بن مالك ، وسالم بن أبي الجَعْد ، وأبي صالح ، وغير واحد : نهاهن يومئذ عن النوح. وقد تقدم حديث أم عطية في ذلك أيضًا.
وقال ابن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في هذه الآية : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ عليهن النياحة ، ولا تحدثن الرجال إلا رجلا منكن محرمًا. فقال عبد الرحمن بن عوف : يا نبي الله ، إن لنا أضيافًا ، وإنا نغيب عن نسائنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليس أولئك
__________
(1) المسند (6/151).
(2) سنن أبي داود برقم (2263).
(3) صحيح البخاري برقم (4893).
(4) في م : "في معروف".

(8/100)


عَنَيتُ ، ليس أولئك عَنَيتُ" (1).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا إبراهيم بن موسى الفراء ، أخبرنا ابن أبي زائدة ، حدثني مبارك ، عن الحسن قال : كان فيما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم : "ألا تحدثن الرجال إلا أن تكون ذات محرم ، فإن الرجل لا يزال يحدث المرأة حتى يَمذي بين فخذيه".
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا هارون ، عن عمرو ، عن عاصم (2) عن ابن سيرين ، عن أم عطية الأنصارية قالت : كان فيما اشتُرط علينا (3) من المعروف حين بايعنا (4) ألا ننوح ، فقالت امرأة من بني فلان : إن بني فلان أسعدوني ، فلا حتى أجزيهم (5) فانطلقت فأسعَدتَهم ثم جاءت فبايعت ، قالت : فما وفى منهن غيرها ، وغير أم سليم ابنة مِلْحان أم أنس بن مالك (6).
وقد روى البخاري هذا الحديث من طريق حفصة بنت سيرين ، عن أم عطية نسيبة الأنصارية رضي الله عنها (7) وقد روي نحوه من وجه آخر أيضًا.
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا أبو نُعَيم ، حدثنا عُمَر بن فروخ القَتَّات ، حدثني مصعب بن نوح الأنصاري قال : أدركت عجوزًا لنا كانت فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت : فأتيته لأبايعه ، فأخذ علينا فيما أخذ ألا تنحن. فقالت عجوز : يا رسول الله (8) إن ناسًا قد كانوا (9) أسعدوني على مصائب أصابتني ، وأنهم قد أصابتهم مصيبة ، فأنا أريد أسعدهم. قال : "فانطلقي فكافئيهم". فانطلقت فكافأتهم ، ثم إنها أتته فبايعته ، وقال : هو (10) المعروف الذي قال الله عز وجل : { وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } (11).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا القَعْنَبِي (12) ، حدثنا الحجاج بن صفوان ، عن أسيد (13) بن أبي أسيد البراد ، عن امرأة من المبايعات قالت : كان فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن لا نعصيه في معروف : أن لا نخمش وجوهًا (14) ولا ننشر شعرًا ، ولا نشق جيبا ، ولا ندعو ويلا.
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وَكِيع ، عن يزيد مولي الصهباء ، عن شهر بن حَوشب ، عن أم سلمة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } قال : "النوح".
__________
(1) تفسير الطبري (28/51).
(2) في م : "عن عمرو بن عاصم".
(3) في م : "علينا رسول الله".
(4) في م ، أ : "حين بايعناه".
(5) في أ : "حتى أحدثهم".
(6) تفسير الطبري (28/52).
(7) صحيح البخاري برقم (4892).
(8) في م : "يانبي الله".
(9) في م : "كانوا قد".
(10) في م : "هذا".
(11) تفسير الطبري (28/52).
(12) في م : "الضبي".
(13) في أ : "عن أسد".
(14) في م ، أ : "وجهًا".

(8/101)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)

ورواه الترمذي في التفسير ، عن عبد بن حُمَيد ، عن أبي نُعَيم - وابن ماجة ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن وكيع - كلاهما عن يزيد بن عبد الله الشيباني مولي (1) الصهباء ، به (2) وقال الترمذي : حسن غريب.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد (3) بن سنان القزاز ، حدثنا إسحاق بن إدريس ، حدثنا إسحاق بن عثمان أبو يعقوب ، حدثني إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية ، عن جدته أم عطية قالت : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع نساء الأنصار في بيت ، ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فقام على الباب وسلم علينا ، فرددن - أو : فرددنا - عليه السلام ، ثم قال : "أنا رُسولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن". قالت : فقلنا : مرحبًا برسول الله وبرسول رسول الله. فقال : "تبايعن على ألا تشركن بالله شيئا ، ولا تسرقن ولا تزنين ؟" قالت : فقلنا : نعم. قالت : فمد يده من خارج الباب - أو : البيت - ومددنا أيدينا من داخل البيت ، ثم قال : "اللهم اشهد". قالت : وأمرنا في العيدين أن نخرج فيه الحُيَّض والعواتق ، ولا جمعة علينا ، ونهانا عن اتباع الجنائز. قال إسماعيل : فسألت جدتي عن قوله : { وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } قالت : النياحة (4).
وفي الصحيحين من طريق الأعمش ، عن عبد الله بن مُرة ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليس منا من ضَرَب الخدود ، وشَقَّ الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية" (5).
وفي الصحيحين أيضًا عن أبي موسى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة (6).
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا هُدْبَة بن خالد ، حدثنا أبان بن يزيد ، حدثنا يحيى بن أبي كثير : أن زيدًا حدثه : أن أبا سلام حدثه : أن أبا مالك الأشعري حدثه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر في الأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة. وقال : النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قَطران ودرع من جَرَب".
ورواه مسلم في صحيحه منفردًا به ، من حديث أبان بن يزيد العطار ، به (7).
وعن أبي سعيد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن النائحة والمستمعة. رواه أبو داود (8)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13) }
__________
(1) في أ : "عن أبي".
(2) سنن الترمذي برقم (3307) وسنن ابن ماجة برقم (1579).
(3) في م : "حدثنا أحمد".
(4) تفسير الطبري (28/53).
(5) صحيح البخاري برقم (1297) وصحيح مسلم برقم (103).
(6) صحيح البخاري برقم (1296) وصحيح مسلم برقم (104).
(7) مسند أبي يعلى (3/148) وصحيح مسلم برقم (934).
(8) سنن أبي داود برقم (3128).

(8/102)


ينهى تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر "هذه السورة" كما نهى عنها في أولها فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } يعني : اليهود والنصارى وسائر الكفار ، ممن غضب الله عليه ولعنه واستحق من الله الطرد والإبعاد ، فكيف توالونهم وتتخذونهم أصدقاء وأخلاء وقد يئسوا من الآخرة ، أي : من ثواب الآخرة ونعيمها في حكم الله عز وجل. وقوله : { كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ } فيه قولان ، أحدهما : كما يئس الكفار الأحياء من قراباتهم الذين في القبور أن يجتمعوا بهم بعد ذلك ؛ لأنهم لا يعتقدون بعثا ولا نشورا ، فقد انقطع رجاؤهم منهم فيما يعتقدونه.
قال العوفي ، عن ابن عباس : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } إلى آخر السورة ، يعني من مات من الذين كفروا فقد يئس الأحياء من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم أو يبعثهم الله عز وجل.
وقال الحسن البصري : { كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ } قال : الكفار الأحياء قد يئسوا من الأموات.
وقال قتادة : كما يئس الكفار أن يرجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا. وكذا قال الضحاك. رواهن ابن جرير.
والقول الثاني : معناه : كما يئس الكفار الذين هم في القبور من كل خير.
قال الأعمش ، عن أبي الضُّحَى ، عن مسروق ، عن ابن مسعود : { كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ } قال : كما يئس هذا الكافر إذا مات وعاين ثوابه واطلع عليه. وهذا قول مجاهد ، وعكرمة ، ومقاتل ، وابن زيد ، والكلبي ، ومنصور. وهو اختيار ابن جرير.

(8/103)


تفسير سورة الصف
وهي مدنية.
قال الإمام أحمد رحمه الله : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا ابن المبارك ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة - وعن عطاء بن يسار ، عن أبي سلمة ، عن عبد الله بن سلام قال : تذاكرنا : أيكم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأله : أي الأعمال أحب إلى الله ؟ فلم يقم أحد منا ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا رجلا فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة ، يعني سورة الصف كلها. هكذا رواه الإمام أحمد (1)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا العباس بن الوليد بن مَزْيد البيروتي (2) قراءة قال : أخبرني أبي ، سمعت الأوزاعي ، حدثني يحيى بن أبي كثير ، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، حدثني عبد الله بن سلام. أن أناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : لو أرسلنا إلى رسول الله نسأله عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل ؟ فلم يذهب إليه أحد منا ، وهبنا أن نسأله عن ذلك ، قال : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر رجلا رجلا حتى جمعهم ، ونزلت فيهم هذه السورة : (سبح) الصف قال عبد الله بن سلام : فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها. قال أبو سلمة : وقرأها علينا عبد الله بن سلام كلها ، قال يحيى بن أبي كثير وقرأها علينا أبو سلمة كلها. قال الأوزاعي : وقرأها علينا يحيى بن أبي كثير كلها. قال أبي : وقرأها علينا الأوزاعي كلها.
وقد رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي : حدثنا محمد بن كثير ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن عبد الله بن سلام قال : قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا ، فقلنا : لو نعلم : أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملناه. فأنزل الله : " سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ [كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا] " (3) قال عبد الله بن سلام : فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو سلمة : فقرأها علينا ابن سلام. قال يحيى : فقرأها علينا أبو سلمة. قال ابن كثير : فقرأها علينا الأوزاعي. قال عبد الله : فقرأها علينا ابن كثير.
ثم قال الترمذي : وقد خولف محمد بن كثير في إسناد هذا الحديث عن الأوزاعي ، فروى ابن المبارك ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن هلال بن أبي ميمونة ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن سلام - أو : عن أبي سلمة ، عن عبد الله بن سلام (4)
قلت : وهكذا رواه الإمام أحمد ، عن يعمر ، عن ابن المبارك ، به (5)
__________
(1) المسند (5/452).
(2) في أ : "السروري".
(3) زيادة من أ.
(4) سنن الترمذي برقم (3309).
(5) المسند (5/452).

(8/104)


سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)

قال الترمذي : وروى الوليد بن مسلم هذا الحديث عن الأوزاعي ، نحو رواية محمد بن كثير.
قلت : وكذا رواه الوليد بن يزيد ، عن الأوزاعي ، كما رواه ابن كثير.
قلت : وقد أخبرني بهذا الحديث الشيخ المسند أبو العباس أحمد بن أبي طالب الحجار قراءة عليه وأنا أسمع ، أخبرنا أبو المُنَجَّا عبد الله بن عُمَر بن اللَّتي (1) أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شُعَيب السَّجْزيّ قال : أخبرنا أبو الحسن بن عبد الرحمن بن المظفر بن محمد بن داود الداودي ، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حَمَّوَية السرَخسِيّ ، أخبرنا عيسى بن عُمَر بن عمران السمرقندي ، أخبرنا الإمام الحافظ أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بجميع مسنده (2) أخبرنا محمد بن كثير ، عن الأوزاعي... فذكر بإسناده مثله ، وتسلسل لنا قراءتها إلى شيخنا أبي العباس الحجار ، ولم يقرأها ، لأنه كان أميا ، وضاق الوقت عن تلقينها إياه. ولكن أخبرني الحافظ الكبير أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ، رحمه الله : أخبرنا القاضي تقي الدين سليمان بن الشيخ أبي عمر ، أخبرنا أبو المنجا بن اللَّتي (3) فذكره بإسناده ، وتَسلل (4) لي من طريقة ، وقرأها علي بكمالها ، ولله الحمد والمنة.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) }
تقدم الكلام على قوله : { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } غير مرة ، بما أغنى عن إعادته.
وقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ } ؟ إنكار على من يَعد عدَةً ، أو يقول قولا لا يفي به ، ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقا ، سواء ترتب عليه غُرم للموعود أم لا. واحتجوا أيضا من السنة بما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "آية المنافق ثلاث : إذا حَدَّث كذب ، إذا وَعَد أخلف ، وإذا اؤتمن خان" (5) وفي الحديث الآخر في الصحيح : "أربع من كن فيه كان منافقا خالصًا ، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خَصْلَة من نفاق حتى يَدَعها" (6) - فذكر منهن إخلاف الوعد. وقد استقصينا الكلام على هذين الحديثين في أول "شرح البخاري" ، ولله الحمد والمنة. ولهذا أكد الله تعالى هذا الإنكار عليهم بقوله : { كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ }
__________
(1) في أ : "الليثي".
(2) في أ : "سنده".
(3) في أ : "الليثي".
(4) في أ : "وتسلسل".
(5) صحيح البخاري برقم (33) وصحيح مسلم برقم (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) صحيح البخاري برقم (34) وصحيح مسلم برقم (58) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

(8/105)


وقد روى الإمام أحمدُ وأبو داود ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم [في بيتنا] (1) وأنا صبي قال : فذهبت لأخرج لألعب ، فقالت أمي : يا عبد الله : تعال أعطك. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وما أردت أن تُعطِيه ؟". قالت : تمرا. فقال : "أما إنك لو لم تفعلي كُتِبت عليك كِذْبة" (2)
وذهب الإمام مالك ، رحمه الله ، إلى أنه إذا تعلق بالوعد غُرم على الموعود وجب الوفاء به ، كما لو قال لغيره : "تزوج ولك علي كل يوم كذا". فتزوجَ ، وجب عليه أن يعطيه ما دام كذلك ، لأنه تعلق به حق آدمي ، وهو مبني على المضايقة. وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب مطلقا ، وحملوا الآية على أنها نزلت حين تمنوا فَرضِيَّة الجهاد عليهم ، فلما فرض نكل عنه بعضهم ، كقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } [النساء : 77 ، 78]. وقال تعالى : { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } الآية [محمد : 20] وهكذا هذه الآية معناها ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ } قال : كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون : لَوَدِدْنَا أن الله - عز وجل - دلنا على أحب الأعمال إليه ، فنعملَ به. فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمانٌ به (3) لا شك فيه ، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به. فلما نزل الجهاد كره ذلك أناس من المؤمنين ، وشق عليهم أمره ، فقال الله سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ } ؟. وهذا اختيار ابن جرير (4).
وقال مقاتل بن حَيّان : قال المؤمنون : لو نعلم أحبّ الأعمال إلى الله لعملنا به. فدلهم الله على أحب الأعمال إليه ، فقال : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا } فبين لهم ، فابتلوا يوم أحد بذلك ، فولوا عن النبي صلى الله عليه وسلم مدبرين ، فأنزل الله في ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ } ؟ وقال : أحبكم إلي من قاتل في سبيلي.
ومنهم من يقول : أنزلت في شأن القتال ، يقول الرجل : "قاتلت" ، ولم يقاتل (5) وطعنت" ولم يطعن و "ضربت" ، ولم يضرب و "صبرت" ، ولم يصبر.
وقال قتادة ، والضحاك : نزلت (6) توبيخًا لقوم كانوا يقولون : "قتلنا ، ضربنا ، طعنا ، وفعلنا". ولم يكونوا فعلوا ذلك.
__________
(1) زيادة من المسند.
(2) المسند (3/447) وسنن أبي داود برقم (4991).
(3) في م : "إيمان بالله".
(4) تفسير الطبري (28/56).
(5) في م : "ولم أقاتل".
(6) في م : "أنزلت".

(8/106)


وقال ابن يزيد : نزلت في قوم من المنافقين ، كانوا يَعدون المسلمين النصرَ ، ولا يَفُون لهم بذلك.
وقال مالك ، عن زيد بن أسلم : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ } ؟ ، قال : في الجهاد.
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ } إلى قوله : { كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } فما بين ذلك : في نفر من الأنصار ، فيهم عبد الله بن رواحة ، قالوا في مجلس : لو نعلم أيّ الأعمال أحبّ إلى الله ، لعملنا بها حتى نموت. فأنزل الله هذا فيهم. فقال عبد الله بن رواحة : لا أبرح (1) حبيسا في سبيل الله حتى أموت. فقتل شهيدًا.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا فروة بن أبي المغراء ، حدثنا علي بن مُسْهِر (2) عن داود بن أبي هند ، عن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي (3) عن أبيه قال : بعث أبو موسى إلى قراء أهل البصرة ، فدخل عليه منهم ثلاثمائة رجل ، كلهم قد قرأ القرآن ، فقال. أنتم قراء أهل البصرة وخيارهم. وقال : كنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات ، فأنسيناها ، غير أني قد حفظت منها : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ } فتكتب شهادة في أعناقكم ، فتسألون عنها يوم القيامة.
ولهذا قال الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } فهذا إخبار منه تعالى بمحبة عباده المؤمنين إذا اصطفوا مواجهين لأعداء الله في حومة الوغى ، يقاتلون في سبيل الله مَن كفر بالله ، لتكون كلمة الله هي العليا ، ودينه هو الظاهر العالي على سائر الأديان.
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا هُشَيْم ، قال مُجالد أخبرنا عن أبي الودَّاك ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثلاث يضحك الله إليهم : الرجل يقوم من الليل ، والقوم إذا صفوا للصلاة ، والقوم إذا صفوا للقتال".
ورواه ابن ماجة من حديث مجالد ، عن أبي الوَدَّاك جبر بن نوف ، به (4).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو نُعَيم الفضل بن دُكَيْن ، حدثنا الأسود - يعني ابن شيبان - حدثني يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير قال : قال مُطرَف : كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه ، فلقيته فقلت : يا أبا ذر ، كان يبلغني عنك حديث ، فكنت أشتهي لقاءك ، فقال : لله أبوك ! فقد لقيت ، فهات. فقلت : كان يبلغني عنك أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثكم أن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة ؟ قال : أجل ، فلا إخالني أكذب على خليلي صلى الله عليه وسلم. قلت : فمن هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم الله ؟ قال : رجل غزا في سبيل الله ، خرج محتسبا مجاهدا فلقي العدو فقتل ، وأنتم تجدونه في كتاب الله المنزل ، ثم قرأ { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } وذكر الحديث.
__________
(1) في أ : "فما أبرح".
(2) في أ : "شهر".
(3) في أ : "الديلمي".
(4) المسند (3/80) وسنن ابن ماجة برقم (200) وقال البوصيري في الزوائد (1/87) : "هذا إسناد فيه مقال ، مجالد بن سعيد وإن أخرج له مسلم في صحيحه فإنما روى له مقرونًا بغيره قال ابن عدى : عامة ما يرويه غير محفوظ".

(8/107)


هكذا أورد هذا الحديث من هذا الوجه بهذا السياق ، وبهذا اللفظ ، واختصره. وقد أخرجه الترمذي والنسائي من حديث شعبة ، عن منصور بن المعتمر ، عن رِبْعَي بن حِرَاش ، عن زيد بن ظَبْيان ، عن أبي ذَرّ بأبسط من هذا السياق وأتم (1) وقد أوردناه في موضع آخر ، ولله الحمد.
وعن كعب الأحبار أنه قال : يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : "عبدي المتوكل المختار ليس بفَظّ ولا غَليظ ولا صَخَّاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويغفر مولده بمكة ، وهجرته بطابة ، وملكه بالشام ، وأمته الحمادون يحمَدُون الله على كلّ حال ، وفي كل منزلة ، لهم دَوِيٌّ كدوي النحل في جو السماء بالسحَر ، يُوَضّون أطرافهم ، ويأتزرون على أنصافهم ، صفهم في القتال مثل صفهم في الصلاة". ثم قرأ : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } رعاة الشمس ، يصلون الصلاة حيث أدركتهم ، ولو على ظهر دابة" رواه بن أبي حاتم.
وقال سعيد بن جبير في قوله { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا } قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل العدو إلا أن يصافهم ، وهذا تعليم من الله للمؤمنين. قال : وقوله : { كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } ملتصق بعضه في بعض ، من الصف في القتال.
وقال مقاتل بن حيان : ملتصق بعضه إلى بعض.
وقال ابن عباس : { كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } مُثَبّت ، لا يزول ، ملصق بعضه ببعض.
وقال قتادة : { كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } ألم تر إلى صاحب البنيان ، كيف لا يحب أن يختلف بنيانه ؟ فكذلك الله عز وجل [يحب أن] (2) لا يختلف أمره ، وإن الله صف المؤمنين في قتالهم وصفهم في صلاتهم ، فعليكم بأمر الله ، فإنه عصمة لمن أخذ به. أورد ذلك كله ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير : حدثني سعيد بن عَمرو السكوني ، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد ، عن أبي بكر بن أبي مريم ، عن يحيى بن جابر الطائي ، عن أبي بحرية (3) قال : كانوا يكرهون القتال على الخيل ، ويستحبون القتال على الأرض ، لقول الله عز وجل : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } قال : وكان أبو بحرية (4) يقول : إذا رأيتموني التفتُّ في الصف فَجَثُوا في لَحيي (5)
__________
(1) سنن الترمذي برقم (2568) وسنن النسائي (5/84 ، 3/207) وقال الترمذي : "هذا حديث صحيح".
(2) زيادة من م ، أ.
(3) في أ : "عن أبي يحيى به".
(4) في أ : "أبو بحيرة".
(5) تفسير الطبري (28/57).

(8/108)


وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)

{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) }

(8/109)


وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)

{ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) }
يقول تعالى مخبرًّا عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام أنه قال لقومه : { لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ } أي : لم توصلون الأذى إليّ وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة ؟. وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أصاب (1) من الكفار من قومه وغيرهم ، وأمر له بالصبر ؛ ولهذا قال : "رحمة الله على موسى : لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر" (2) وفيه نهي للمؤمنين أن ينالوا من النبي صلى الله عليه وسلم أو يُوَصّلوا إليه أذى ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا } [الأحزاب : 69]
وقوله : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } أي : فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به ، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى ، وأسكنها الشك والحيرة والخذلان ، كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الأنعام : 110] وقال { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } [النساء : 115] ولهذا قال الله تعالى في هذه الآية : { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }
وقوله : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } يعني : التوراة قد بَشَّرَت بي ، وأنا مصداقُ ما أخبرت عنه ، وأنا مُبَشّر بمن بعدي ، وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي أحمد. فعيسى ، عليه السلام ، وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل ، وقد أقام (3) في ملأ بني إسرائيل مبشرًا بمحمد ، وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، الذي لا رسالة بعده ولا نبوة. وما أحسن ما أورد البخاري الحديثَ الذي قال فيه :
حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب ، عن الزهري قال : أخبرني محمد بن جُبَير بن مُطعم ، عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن لي أسماء : أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يَمحُو الله به الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب".
ورواه مسلم ، من حديث الزهري ، به نحوه (4)
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا المسعودي ، عن عمرو بن مُرّة ، عن أبي عُبَيدة ، عن أبي موسى قال : سَمَّى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نَفسه أسماءً ، منها ما حفظنا فقال : "أنا محمد ، وأنا أحمد ، والحاشر ، والمقفي ، ونبي الرحمة ، والتوبة ، والملحمة".
ورواه مسلم من حديث الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، به (5)
__________
(1) في م : "فيما أصابه".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (3405) ومسلم في صحيحه برقم (10622) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(3) في م : "وقد قام".
(4) صحيح البخاري برقم (4896) وصحيح مسلم برقم (2354).
(5) مسند الطيالسي برقم (492) وصحيح مسلم برقم (2355).

(8/109)


وقد قال الله تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ } [الأعراف : 157] وقال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } [آل عمران : 81]
قال ابن عباس : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد : لئن بعث محمد وهو حي ليتبعنه ، وأخذ عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليتبعنه وينصرنه.
وقال محمد بن إسحاق : حدثني ثور بن يَزيد ، عن خالد بن مَعْدَانَ ، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا : يا رسول الله ، أخبرنا عن نفسك. قال : "دعوة أبي إبراهيم ، وبُشْرَى عيسى ، ورأت أمي حين حملت بي (1) كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام" (2).
وهذا إسناد جيد. ورُوي له شواهد من وجوه أخر ، فقال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن سعيد بن سُوَيد الكلبي ، عن عبد الأعلى بن هلال (3) السلمي ، عن العِرْباض بن سارية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني عند الله لخاتم النبيين ، وإن آدم لمنجَدلٌ في طينته ، وسأنبئكم بأول ذلك دَعْوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات النبيين يَرَين" (4).
وقال أحمد أيضا : حدثنا أبو النضر ، حدثنا الفرج بن فضالة ، حدثنا لقمان بن عامر قال : سمعت أبا أمامة قال : قلت يا نبي الله ، ما كان بدء أمرك ؟ قال : "دعوة أبي إبراهيم ، وبُشْرَى عيسى ، ورأت أمي أنه يخرجُ منها نور أضاءت له قصورُ الشام" (5)
وقال أحمد أيضا : حدثنا حسن بن موسى : سمعت خُدَيجًا أخا زهير بن معاوية ، عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عتبة ، عن عبد الله بن مسعود قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحوٌ من ثمانين رجلا منهم : عبد الله بن مسعود ، وجعفر ، وعبد الله بن [عُرْفُطَة] (6) وعثمان بن مظعون ، وأبو موسى. فأتوا النجاشي ، وبعثَت قريش عمرو بن العاص ، وعمارة بن الوليد بهدية ، فلما دخلا على النجاشي سَجَدا له ، ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله ، ثم قالا له : إن نفرًا من بني عمنا نزلوا أرضك ، ورغبوا عنا وعن ملتنا. قال : فأين هم ؟ قالا هم في أرضك ، فابعث إليهم. فبعث إليهم. فقال جعفر : أنا خطيبكم اليوم. فاتبعوه فسلَّم ولم يسجد ،
__________
(1) في م : "حملتني".
(2) رواه الحاكم في المستدرك (2/600) من طريق يوني بن بكير عن ابن إسحاق به ، وقال : "خالد بن معدان من خيار التابعين ، صحب معاذ بن جبل فمن بعده من الصحابة ، فإذا أسند حديث إلى الصحابة فإنه صحيح الإسناد وإن لم يخرجاه". قلت : وقد ورد موصولاً كما سيأتي في رواية أحمد.
(3) في أ : "بلال".
(4) المسند (4/127) وسعيد بن سويد لم يوثقه غير ابن حبان.
(5) المسند (5/262).
(6) زيادة من المسند ، ومكانه بياض في هـ ، م ، أ.

(8/110)


وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)

فقالوا له : ما لك لا تسجد للملك ؟ قال : إنا لا نسجد إلا لله عز وجل. قال وما ذاك ؟ قال : إن الله بعث إلينا رسوله ، فأمرنا ألا نسجد لأحد إلا لله عز وجل ، وأمرنا بالصلاة والزكاة.
قال عمرو بن العاص : فإنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم. قال : ما تقولون في عيسى ابن مريم وأمه ؟ قالوا : نقول كما قال الله عز وجل : هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البَتُول ، التي لم يمسها بَشَر ولم يَفْرضْها (1) ولد. قال : فرفع عودًا من الأرض ثم قال : يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان ، والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ، ما يساوي هذا. مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده ، أشهد أنه رسول الله ، وأنه الذي نجد في الإنجيل ، وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم. انزلوا حيث شئتم ، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه. وأمَرَ بهدية الآخرَين فردت إليهما ، ثم تعجل عبد الله بن مسعود حتى أدرك بدرًا ، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له حين بلَغه موته (2)
وقد رُويت هذه القصةُ عن جعفر وأم سلمة رضي الله عنهما ، وموضع ذلك كتاب السيرة. والمقصد أن الأنبياء عليهم السلام لم تزل تنعته وتحكيه في كتبها على أممها ، وتأمرهم باتباعه ونصره وموازرته إذا بعث. وكان ما اشتهر الأمر في أهل الأرض على لسان إبراهيم الخليل والد الأنبياء بعده ، حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم ، وكذا على لسان عيسى ابن مريم ؛ ولهذا قالوا : "أخبرنا عن بَدْء أمرك" يعني : في الأرض ، قال : "دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى ابن مريم ، ورؤيا أمي التي رأت" أي : ظهر في أهل مكة أثر ذلك والإرهاص بذكره صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله : { فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } قال ابن جريج وابن جرير : { فَلَمَّا جَاءَهُمْ } أحمد ، أي : المبشر به في الأعصار المتقادمة ، المنَّوه بذكره في القرون السالفة ، لما ظهر أمره وجاء بالبينات قال الكفرة والمخالفون : { هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ }
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) }
يقول تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإسْلامِ } أي : لا أحد أظلم ممن يفتري الكذب على الله (3) ويجعل له أندادا وشركاء ، وهو يدعى إلى التوحيد والإخلاص ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
__________
(1) في أ : "ولم يعترضها".
(2) المسند (1/461).
(3) في م : "يفتري على الله الكذب".

(8/111)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)

ثم قال : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ } أي : يحاولون (1) أن يَرُدّوا الحق بالباطل ، ومثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس بفيه ، وكما أن هذا مستحيل كذلك ذاك مستحيل (2) ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } وقد تقدم الكلام على هاتين الآيتين في سورة "براءة" ، بما فيه كفاية ، ولله الحمد والمنة (3)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) }
تقدم في حديث عبد الله بن سلام أن الصحابة ، رضي الله عنهم ، أرادوا أن يسألوا عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل ليفعلوه ، فأنزل الله هذه السورة ، ومن جملتها هذا الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } ثم فسر هذه التجارة العظيمة التي لا تبور ، والتي هي محصلة للمقصود ومزيلة للمحذور فقال : { تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : من تجارة الدنيا ، والكد لها والتصدي لها وحدها.
ثم قال : { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } أي : إن فعلتم ما أمرتكم (4) به ودللتكم عليه ، غفرت لكم الزلات ، وأدخلتكم الجنات ، والمساكن الطيبات ، والدرجات العاليات ؛ ولهذا قال : { وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
ثم قال : { وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا } أي : وأزيدكم على ذلك زيادة تحبونها ، وهي : { نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } أي : إذا قاتلتم في سبيله ونصرتم دينه ، تكفل الله بنصركم. قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [محمد : 7] وقال تعالى : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج : 40] وقوله { وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } أي : عاجل فهذه الزيادة هي خير الدنيا موصول بنعيم الآخرة ، لمن أطاع الله ورسوله ، ونصر الله ودينه ؛ ولهذا قال : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }
__________
(1) في أ : "أي يجادلون".
(2) في م ، أ : "كذاك ذلك".
(3) في أ : "والله أعلم".
(4) في أ : "ما آمركم".

(8/112)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14) }
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين أن يكونوا أنصار الله في جميع أحوالهم ، بأقوالهم وأفعالهم وأنفسهم وأموالهم ، وأن يستجيبوا لله ولرسوله ، كما استجاب الحواريون لعيسى حين قال : { مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ } ؟ أي : معيني في الدعوة إلى الله عز وجل ؟ { قَالَ الْحَوَارِيُّونَ } - وهم أتباع عيسى عليه السلام - : { نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ } أي : نحن أنصارك على ما أرسلت به ومُوَازروك على ذلك ؛ ولهذا بعثهم دعاةً إلى الناس في بلاد الشام في الإسرائيليين واليونانيين. وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في أيام الحج : "من رجل يُؤويني حتى أبلغ رسالة ربي ، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي" (1) حتى قيَّض الله عز وجل له الأوس والخزرج من أهل المدينة ، فبايعوه ووازروه ، وشارطوه أن يمنعوه من الأسود والأحمر إن هو هاجر إليهم ، فلما هاجر إليهم بمن معه من أصحابه وَفَوا له بما عاهدوا الله عليه ؛ ولهذا سماهم الله ورسوله : الأنصار ، وصار ذلك علما عليهم ، رضي الله عنهم ، وأرضاهم. وقوله : { فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ } أي : لما بلغ عيسى ابن مريم عليه السلام رسالة ربه إلى قومه ، ووازره من وازره من الحواريين ، اهتدت طائفة من بني إسرائيل بما جاءهم به ، وضلت طائفة فخرجت عما جاءهم به ، وجحدوا نبوته ، ورموه وأمه بالعظائم ، وهم اليهود - عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة - وغلت فيه طائفة ممن اتبعه ، حتى رفعوه فوق ما أعطاه الله من النبوة ، وافترقوا فِرَقا وشِيَعا ، فمن قائل منهم : إنه ابن الله. وقائل : إنه ثالث ثلاثة : الأب ، والابن ، وروح القدس. ومن قائل : إنه الله. وكل هذه الأقوال مفصلة في سورة النساء.
وقوله : { فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ } أي : نصرناهم على من عاداهم من فِرَق النصارى ، { فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } أي : عليهم ، وذلك ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله.
حدثني أبو السائب ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المِنْهال - يعني ابن عمرو - عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما أراد الله عز وجل أن يرفع عيسى إلى السماء ، خرج إلى أصحابه وهم في بيت اثنا عشر رجلا من عين في البيت ، ورأسه يقطر ماء ، فقال : إن منكم من يكفر بي اثنتي عشر (2) مرة بعد أن آمن بي. قال : ثم قال : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ، ويكون معي في درجتي ؟ قال : فقام شاب من أحدثهم سنا فقال : أنا. قال : فقال له : اجلس. ثم أعاد عليهم ، فقام الشاب فقال : أنا. فقال له : اجلس. ثم عاد عليهم
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند (3/322) من حديث جابر رضي الله عنه.
(2) في م ، أ : "اثنتى عشرة".

(8/113)


فقام الشاب ، فقال : أنا. فقال : نعم ، أنت ذاك. قال : فألقي عليه شبه عيسى ، ورُفع عيسى عليه السلام من روزَنة في البيت إلى السماء ، قال : وجاء الطلَبُ من اليهود ، فأخذوا شِبهَه فقتلوه وصلبوه ، وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به ، فتفرقوا فيه ثلاث فرق. فقالت فرقة : كان الله فينا ما شاء ، ثم صعد إلى السماء. وهؤلاء اليعقوبية. وقالت فرقة : كان فينا ابن الله ما شاء ، ثم رفعه إليه وهؤلاء النسطورية ، وقالت فرقة كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه اليه ، وهؤلاء المسلمون فتظاهرت الكافرتان على المسلمة ، فقتلوها ، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، { فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ } يعني : الطائفة التي كفرت من بني إسرائيل في زمن عيسى ، والطائفة التي آمنت في زمن عيسى ، { فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } بإظهار محمد صلى الله عليه وسلم دينهم على دين الكفار { فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ }
هذا لفظه في كتابه عند تفسير هذه الآية الكريمة. وهكذا رواه النسائي عند تفسير هذه الآية من سننه ، عن أبي كُرَيْب عن محمد بن العلاء ، عن أبي معاوية ، بمثله سواء (1).
فأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يزالون ظاهرين على الحق ، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ، وحتى يقاتل آخرهم الدجال مع المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام ، كما وردت [بذلك] (2) الأحاديث الصحاح ، والله أعلم.
__________
(1) تفسير الطبري (28/60) وسنن النسائي الكبري برقم (11591).
(2) زيادة من م ، أ.

(8/114)


يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)

تفسير سورة الجمعة
وهي مدنية.
عن ابن عباس ، وأبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين. رواه مسلم في صحيحه (1).
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) }
يخبر تعالى أنه يُسبّح له ما في السموات وما في الأرض ، أي : من جميع المخلوقات ناطقها وجامدها ، كما قال : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [الإسراء : 44]
ثم قال : { الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ } أي : هو مالك السموات والأرض المتصرف فيهما بحكمه ، وهو { الْقُدُّوسِ } أي : المنزه عن النقائص ، الموصوف بصفات الكمال { الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } تقدم تفسيره غير مرة.
وقوله تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ } الأميون هم : العرب كما قال تعالى : { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [آل عمران : 314] وتخصيص الأميين بالذكر لا ينفي من عداهم ، ولكن المنة عليهم أبلغ وآكد ، كما في قوله : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ } [الزخرف : 44] وهو ذكر لغيرهم يتذكرون به. وكذا قوله : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } [الشعراء : 214] وهذا وأمثاله لا ينافي قوله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [الأعراف : 158] وقوله : { لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [الأنعام : 19] وقوله إخبارا عن القرآن : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [هود : 17] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق (2) أحمرهم وأسودهم ، وقد قدمنا تفسير ذلك في سورة الأنعام ، بالآيات والأحاديث الصحيحة ، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) صحيح مسلم برقم (877) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وبرقم (879) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) في أ : "الثقلين".

(8/115)


وهذه الآية هي مصداق إجابة الله لخليله إبراهيم ، حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. فبعثه الله سبحانه وتعالى وله الحمد والمنة ، على حين فترة من الرسل ، وطُمُوس من السبل ، وقد اشتدت الحاجة إليه ، وقد مقت الله أهلَ الأرض عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب - أي : نزرا يسيرا - ممن تمسك بما بعث الله به عيسى ابن مريم عليه السلام ؛ ولهذا قال تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } وذلك أن العرب كانوا [قديما] (1) متمسكين بدين إبراهيم [الخليل] (2) عليه السلام فبدلوه وغيروه ، وقلبوه وخالفوه ، واستبدلوا بالتوحيد شركا (3) وباليقين شكا ، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله (4) وكذلك أهل الكتابين قد بدلوا كتبهم وحرفوها وغيروها وأولوها ، فبعث الله محمدًا صلوات الله وسلامه عليه بشرع عظيم كامل شامل لجميع الخلق ، فيه هدايتهم ، والبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم ، والدعوة لهم إلى ما يقربهم إلى الجنة ، ورضا الله عنهم ، والنهي عما يقربهم إلى النار وسخط الله. حاكم ، فاصل لجميع الشبهات والشكوك والريب في الأصول والفروع. وجمَعَ له تعالى ، وله الحمد والمنة ، جميع المحاسن ممن كان قبله ، وأعطاه ما لم يُعطِ أحدًا من الأولين ، ولا يعطيه أحدًا من الآخرين ، فصلوات الله وسلامه عليه [دائمًا] (5) إلى يوم الدين.
وقوله : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } قال الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله.
حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثنا سليمان بن بلال ، عن ثور ، عن أبي الغَيث ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ } قالوا : من هم يا رسول الله ؟ فلم يراجعهم حتى سئل ثلاثا ، وفينا سلمان الفارسي ، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال : "لو كان الإيمان عند الثُّرَيَّا لناله رجال - أو : رجل - من هؤلاء".
ورواه مسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، من طرق عن ثور بن زيد الدِّيلي (6) عن سالم أبي الغيث ، عن أبي هريرة ، به (7)
ففي هذا الحديث دليل على أن هذه السورة مدنية ، وعلى عموم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ؛ لأنه فسر قوله : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ } بفارس ؛ ولهذا كتب كتبه إلى فارس والروم وغيرهم من الأمم ، يدعوهم إلى الله عز وجل ، وإلى اتباع ما جاء به ؛ ولهذا قال مجاهد وغير واحد في قوله : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ } قال : هم الأعاجم ، وكل من صدق النبي صلى الله عليه وسلم من غير العرب.
__________
(1) زيادة من م ، أ.
(2) زيادة من م.
(3) في أ : "شركا فيه".
(4) في م : "لم يأذن الله بها".
(5) زيادة من م ، أ.
(6) في أ : "الديلمي".
(7) صحيح البخاري برقم (4897) وصحيح مسلم برقم (2546) وسنن الترمذي برقم (3310) وسنن النسائي الكبرى برقم (11592) وتفسير الطبري (28/62).

(8/116)


مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي (1) حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا أبو محمد عيسى بن موسى ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال [من أصحابي رجالا] (2) ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب" ثم قرأ : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ } (3) يعني : بقية من بقي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله : { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي : ذو العزة والحكمة في شرعه وقدره.
وقوله : { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } يعني : ما أعطاه الله محمدا صلى الله عليه وسلم من النبوة العظيمة ، وما خص به أمته من بعثته صلى الله عليه وسلم إليهم.
{ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) }
يقول تعالى ذامًّا لليهود الذين أعطوا التوراة وحملوها للعمل بها ، فلم يعملوا بها ، مثلهم في ذلك كمثل الحمار يحمل أسفارا ، أي : كمثل الحمار إذا حمل كتبا لا يدري ما فيها ، فهو يحملها حملا حسيا (4) ولا يدري ما عليه. وكذلك هؤلاء في حملهم الكتاب الذي أوتوه ، حفظوه لفظا ولم يفهموه (5) ولا عملوا بمقتضاه ، بل أولوه وحرفوه وبدلوه ، فهم أسوأ حالا من الحمير ؛ لأن الحمار لا فهمَ له ، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها ؛ ولهذا قال في الآية الأخرى : { أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [الأعراف : 179] وقال هاهنا : { بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
وقال الإمام أحمد رحمه الله : حدثنا ابن نُمَير ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب ، فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا ، والذي يقول له "أنصت" ، ليس له جمعة" (6)
__________
(1) في أ : "الترمذي".
(2) زيادة من الدر المنثور. مستفادًا من هامش ط. الشعب.
(3) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (6/201) وابن أبي عاصم في السنة برقم (309) من طريق الوليد بن مسلم ، عن أبي محمد - عيسى بن موسى - به ، وقال الهيثمي في المجمع (10/408) : "إسناده جيد".
(4) في أ : "حسنًا".
(5) في م : "ولم يتفهموه".
(6) المسند (1/230) وقال الهيثمي في المجمع (2/184) : "فيه مجالد بن سعيد وقد ضعفه الناس ووثقه النسائي في رواية".

(8/117)


ثم قال تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : إن كنتم تزعمون أنكم على هدى ، وأن محمدا وأصحابه على ضلالة ، فادعوا بالموت على الضال من الفئتين { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فيما تزعمونه.
قال الله تعالى : { وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي : بما يعلمون لهم (1) من الكفر والظلم والفجور ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } وقد قدمنا في سورة "البقرة" الكلام على هذه المباهلة لليهود ، حيث قال تعالى : { قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [البقرة : 94 - 96] وقد أسلفنا الكلام هناك وبينا أن المراد أن يدعوا على الضال (2) من أنفسهم أو خصومهم ، كما تقدمت مباهلة النصارى في آل عمران : { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } [آل عمران : 61] ومباهلة المشركين في سورة مريم : { قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا } [مريم : 75]
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن يزيد الرقي أبو يزيد ، حدثنا فرات ، عن (3) عبد الكريم بن مالك الجزري ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال أبو جهل لعنه الله : إن رأيتُ محمدا عند الكعبة لآتينَّه حتى أطأ على عُنُقه. قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو فعل لأخذَته الملائكة عيانًا ، ولو أن اليهود تَمَنَّوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من (4) النار. ولو خرج الذين يُباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا.
رواه البخاري والترمذي ، والنسائي ، من حديث عبد الرزاق عن معمر ، عن عبد الكريم ، [به] (5) (6) قال البخاري : "وتبعه (7) عمرو بن خالد ، عن عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الكريم". ورواه النسائي ، أيضا عن عبد الرحمن بن عبد الله الحلَبِي ، عن عبيد الله بن عمرو الرقي ، به أتم (8)
وقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } كقوله تعالى في سورة النساء : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } [النساء : 78]
وفي معجم الطبراني من حديث معاذ محمد بن محمد الهذلي ، عن يونس ، عن الحسن ، عن سَمُرَة مرفوعا : "مثل الذي يفر من الموت كمثل الثعلب تطلبه الأرض بدين ، فجاء يسعى حتى إذا أعيا وانبهر دخل جحره ، فقالت له الأرض : يا ثعلب ديني. فخرج له حُصَاص ، فلم يزل كذلك حتى
__________
(1) في أ : "هم".
(2) في م : "الضلال".
(3) في م : "بن".
(4) في أ : "في".
(5) زيادة من أ.
(6) المسند (1/248) وصحيح البخاري برقم (4958) وسنن الترمذي برقم (3348) وسنن النسائي الكبرى برقم (11685).
(7) في م ، أ : "وتابعه".
(8) سنن النسائي الكبرى برقم (11061).

(8/118)


تقطعت عنقه ، فمات". (1)
__________
(1) المعجم الكبير (7/222) ورواه العقيلي في الضعفاء (4/200) ومن طريقه ابن الجوزى في العلل المتناهية (2/405) وقال ابن الجوزي : "هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعاذ في حديثه وهم ، ولا يتابع على رفعه ، وإنما هو موقوف على سمرة".

(8/119)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) }
إنما سميت الجمعة جمعة ؛ لأنها مشتقة من الجمع ، فإن أهل الإسلام يجتمعون فيه في كل أسبوع مَرَّةً بالمعابد الكبار وفيه كَمُل جميع الخلائق ، فإنه اليوم السادس من الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض. وفيه خلق (1) آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها. وفيه تقوم الساعة. وفيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه (2) إياه كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحاح (3)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا عَبِيدة بن حُمَيد ، عن منصور ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن قَرْثَع الضبي ، حدثنا سلمان قال : قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : "يا سلمان ، ما يوم الجمعة ؟". قلت : الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يوم جُمع فيه أبواك - أو أبوكم" (4)
وقد رُوي عن أبي هُريرة ، من كلامه ، نحو هذا ، فالله أعلم.
وقد كان يقال له في اللغة القديمة يوم العروبة. وثبت أن الأمم قبلنا أمروا به فَضَلّوا عنه ، واختار اليهود يوم السبت الذي لم يقع فيه خلق (5) واختار النصارى يومَ الأحد الذي ابتدئ فيه الخلق ، واختار الله لهذه الأمة [يوم] (6) الجمعة الذي أكمل الله فيه الخَليقَةَ ، كما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن همام بن مُنَبِّه قال : هذا ما حدثنا أبو هُرَيرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا. ثم هذا يَومُهم الذي فَرض الله عليهم ، فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له ، فالناس لنا فيه تَبَعٌ ، اليهود غدًا ، والنصارى بعد غد" (7) لفظ البخاري.
__________
(1) في أ : "خلق الله".
(2) في أ : "أعطاه الله".
(3) منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه رواه مسلم في صحيحه برقم (854) وبرقم (852) وحديث أوس بن أوس رضي الله عنه رواه أحمد في المسند (4/8).
(4) رواه الطبراني في المعجم الكبير (6/237) والحاكم في المستدرك (1/277) من طريق جرير بن عبد الحميد ، عن منصور ، عن أبي معشر به ، وقال الحاكم : "صحيح الإسنلد واحتج الشيخان بجميع رواية غير قرثع سمعت أبا علي القاري يقول : أردت أن أجمع مسانيد قرثع الضبي فإنه من زهاد التابعين فلم يسند تمام العشرة".
(5) في م : "خلق آدم".
(6) زيادة من م ، أ.
(7) هذا اللفظ لم أقع عليه من هذا الطريق في صحيح البخاري وهو في صحيح مسلم برقم (855) وهذا لفظه.

(8/119)


وفي لفظ لمسلم : "أضل الله من كان قبلنا (1) فكان لليهود يوم السبت ، وكان للنصارى يوم الأحد. فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة ، فجعل الجمعة والسبت والأحد ، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة ، نحن الآخرون من أهل الدنيا ، والأولون يوم القيامة ، المقضي بينهم (2) قبل الخلائق".
وقد أمر الله المؤمنين بالاجتماع لعبادته يوم الجمعة ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } أي : اقصدوا واعمدوا (3) واهتموا في مَسيركم إليها ، وليس المراد بالسعي هاهنا المشي السريع ، وإنما هو الاهتمام بها ، كقوله تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } [الإسراء : 19] وكان عمر بن الخطاب وابن مسعود رضي الله عنهما يقرآنها : "فامضوا إلى ذكر الله". فأما المشي السريع إلى الصلاة فقد نهي عنه ، لما أخرجاه في الصحيحين ، عن أبي هُرَيرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة ، وعليكم السكينة والوقار ، ولا تُسرِعوا ، فما أدركتم فصَلُّوا ، وما فاتكم فأتموا". لفظ البخاري (4)
وعن أبي قتادة قال : بينما نحن نُصَلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع جَلَبة رجال ، فلما صلى قال : "ما شأنكم ؟". قالوا : استعجلنا إلى الصلاة. قال : "فلا تفعلوا ، إذا أتيتم الصلاة فامشوا وعليكم بالسكينة (5) فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا". أخرجاه (6)
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ، رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ، ولكن ائتوها تمشون ، وعليكم السكينة والوقار ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا".
رواه الترمذي ، من حديث عبد الرزاق كذلك (7) وأخرجه من طريق يزيد بن زُرَيع ، عن معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، بمثله (8)
قال الحسن أما والله ما هو بالسعي على الأقدام ، ولقد نُهُوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ، ولكن بالقلوب والنية والخشوع.
وقال قتادة في قوله : { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } يعني : أن تسعى بقلبك وعملك ، وهو المشي إليها ، وكان يتأولُ قوله تعالى : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } [الصافات : 102] أي : المشي معه. روي عن محمد بن كعب ، وزيد بن أسلم ، وغيرهما نحو ذلك.
ويستحَب لمن جاء الجمعة أن يغتسل قبل مجيئه إليها ، لما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عُمَر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا جاء أحدُكم الجمعةَ فَلْيغتسل" (9)
__________
(1) بعدها في أ : "ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم".
(2) في م ، أ : "لهم".
(3) في أ : "واعبدوا".
(4) صحيح مسلم برقم (856).
(5) في م : "فعليكم السكينة والوقار".
(6) صحيح البخاري برقم (636) وصحيح مسلم برقم (602).
(7) سنن الترمذي برقم (328).
(8) سنن الترمذي برقم (327).
(9) صحيح البخاري برقم (877) وصحيح مسلم برقم (844).

(8/120)


ولهما عن أبي سعيد ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "غُسلُ يوم الجمعة واجب على كل مُحتَلِم" (1)
وعن أبي هُرَيرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام ، يغسل رأسه وجسده". رواه مسلم (2)
وعن جابر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسل يوم ، وهو يوم الجمعة". رواه أحمد ، والنسائي ، وابن حبان (3)
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا ابن المبارك ، عن الأوزاعي ، عن حسان بن عطية ، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن أوس بن أوس الثقفي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من غَسَّل واغتسل يوم الجمعة ، وبكر وابتكر ، ومشى ولم يركب ، ودنا من الإمام واستمع ولم يَلْغُ كان له بكل خطوة أجر سنة ، صيامها وقيامها".
وهذا الحديث له طرق وألفاظ ، وقد أخرجه أهل السنن الأربعة وحَسَّنَهُ الترمذي (4)
وعن أبي هُرَيرة ، رضي الله عنه ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من اغتسل يوم الجمعة غُسلَ الجنابة ، ثم راح فكأنما قرب بدنه ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر" أخرجاه (5)
ويستحب له أن يلبس أحسن ثيابه ، ويتطيب ويتسوك ، ويتنظف ويتطهر. وفي حديث أبي سعيد المتقدم : "غسلُ يوم الجمعة واجب على كل محتلم ، والسواكُ ، وأن يَمَس من طيب أهله".
وقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن محمد بن إسحاق ، حدثني محمد بن إبراهيم التيمي ، عن عمران بن أبي يحيى ، عن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أبي أيوب الأنصاري : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من اغتسل يوم الجمعة ومَس من طيب أهله - إن كان عنده - ولبس من أحسن ثيابه ، ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع (6) - إن بدا له - ولم يُؤذ أحدا ، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي ، كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى" (7)
وفي سنن أبي داود وابن ماجة ، عن عبد الله بن سلام ، رضي الله عنه ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : "ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مِهْنَته" (8)
__________
(1) صحيح البخاري برقم (879) وصحيح مسلم برقم (846).
(2) صحيح البخاري برقم (897) وصحيح مسلم برقم (849).
(3) المسند (3/304) وسنن النسائي (3/92) وصحيح ابن حبان برقم (558) "موارد".
(4) المسند (4/104) وسنن أبي داود برقم (345) وسنن الترمذي برقم (496) وسنن النسائي (3/95) وسنن ابن ماجة برقم (1087).
(5) صحيح البخاري برقم (881) وصحيح مسلم برقم (850).
(6) في م ، أ : "فركع".
(7) المسند (5/420).
(8) سنن أبي داود برقم (1078) وسنن ابن ماجة برقم (1095).

(8/121)


وعن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم الجمعة ، فرأى عليهم ثياب النّمار ، فقال : "ما على أحدكم إن وجد سَعَة أن يتخذ ثوبين لجمعته ، سوى ثوبي مهنته". رواه ابن ماجة (1)
وقوله تعالى : { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ } المراد بهذا النداء هو النداء الثاني الذي كان يفعل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج فجلس على المنبر ، فإنه كان حينئذ يؤذن بين يديه ، فهذا هو المراد ، فأما النداء الأول الذي زاده أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، فإنما كان هذا لكثرة الناس ، كما رواه البخاري رحمه الله حيث قال : حدثنا آدم - هو ابن أبي إياس - حدثنا ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن السائب بن يزيد قال : كان النداء يوم الجمعة أولهُ إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ، فلما كان عثمان [بعد زمن] (2) وكثر الناس ، زاد النداء الثاني (3) على الزوراء (4) يعني : يؤذن به على الدار التي تسمى بالزوراء ، وكانت أرفع دار بالمدينة ، بقرب المسجد.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا محمد بن راشد المكحولى ، عن مكحول : أن النداء كان في يوم الجمعة مؤذن واحد حين يخرج الإمام ، ثم تقام الصلاة ، وذلك النداء الذي يحرم عنده البيع الشراء (5) إذا نودي به ، فأمر عثمان ، رضي الله عنه ، أن ينادى قبل خروج الإمام حتى يجتمع الناس.
وإنما يؤمر بحضور الجمعة [الرجال] (6) الأحرار دون النساء والعبيد والصبيان ، ويعذر المسافر والمريض ، وقَيّم المريض ، وما أشبه ذلك من الأعذار ، كما هو مقرر في كتب الفروع.
وقوله : { وَذَرُوا الْبَيْعَ } أي : اسعوا إلى ذكر الله واتركوا البيع إذا نودي للصلاة : ولهذا اتفق العلماء رضي الله عنهم على تحريم البيع بعد النداء الثاني. واختلفوا : هل يصح إذا تعاطاه متعاط أم لا ؟ على قولين ، وظاهر الآية عدم الصحة كما هو مقرر في موضعه ، والله أعلم.
وقوله : { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : ترككم البيع وإقبالكم إلى ذكر الله وإلى الصلاة خيرٌ لكم ، أي : في الدنيا والآخرة إن كنتم تعلمون.
وقوله : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ } أي : فُرغ منها ، { فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } لَمَّا حَجَر عليهم في التصرف بعد النداء وأمرهم بالاجتماع ، أذن لهم بعد الفراغ في الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله. كما كان عرَاك بن مالك رضي الله عنه إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد ، فقال : اللهم إني أجبتُ دعوتَك ، وصليتُ فريضتك ، وانتشرت كما أمرتني ،
__________
(1) سنن ابن ماجة برقم (1096) وقال البوصيري في الزوائد (1/365) : "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".
(2) ما بين المعقوفين غير ثابت في الصحيح. مستفادًا من هامش ط. الشعب.
(3) في الصحيح : "النداء الثالث" ومثله في سنن ابن ماجة ، كتاب الإقامة ، باب ما جاء في الأذان يوم الجمعة ، حديث رقم (1135) 1/359 مستفادًا من هامش ط. الشعب.
(4) صحيح البخاري برقم (912).
(5) في م : "الشراء والبيع".
(6) زيادة من أ.

(8/122)


فارزقني من فضلك ، وأنت خير الرازقين. رواه ابن أبي حاتم.
وروي (1) عن بعض السلف أنه قال : من باع واشترى في يوم الجمعة بعد الصلاة ، بارك الله له سبعين مرة ، لقول الله تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ }
وقوله : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : حال بيعكم وشرائكم ، وأخذكم وعَطَائكم ، اذكروا الله ذكرا كثيرا ، ولا تشغلكم الدنيا عن الذي ينفعكم في الدار الآخرة ؛ ولهذا جاء في الحديث : "من دخل سوقا من الأسواق فقال : لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير كُتبت (2) له ألفُ ألف حَسنة ، ومُحي عنه ألفُ ألف سَيئة" (3)
وقال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا ، حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا.
{ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ واللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(11) }
يعاتب تبارك وتعالى على ما كان وقع من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة يومئذ ، فقال تعالى : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } أي : على المنبر تخطب. هكذا ذكره غير واحد من التابعين ، منهم : أبو العالية ، والحسن ، وزيد بن أسلم ، وقتادة.
وزعم مقاتل بن حيان : أن التجارة كانت لدحية بن خليفة قبل أن يسلم ، وكان معها طبل ، فانصرفوا إليها وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا على المنبر إلا القليل منهم. وقد صَحّ بذلك الخبر ، فقال الإمام أحمد :
حدثنا ابن إدريس ، عن حُصَين ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن جابر قال : قَدمَت عيرٌ المدينة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ، فخرج الناس وبقي اثنا عشر رجلا فنزلت : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا }
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث سالم ، به (4)
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا زكريا بن يحيى ، حدثنا هُشَيم ، عن حُصَين ، عن سالم بن أبي الجعد وأبي سفيان ، عن جابر بن عبد الله قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة ، فقدمت عيرٌ إلى المدينة ، فابتدرها أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده ، لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد ، لسال بكم الوادي
__________
(1) في م : "وروى أيضا".
(2) في أ : "كتب الله".
(3) جاء من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، رواه الإمام أحمد في المسند (1/47) والترمذي في السنن برقم (8243) وابن ماجة في السنن برقم (2235) وقال الترمذي : "هذا حديث غريب".
(4) المسند (3/313) وصحيح البخاري برقم (4899) وصحيح مسلم برقم (863).

(8/123)


نارًا" ونزلت هذه الآية : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } وقال : كان في الاثني عشر الذين ثَبَتُوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبو بكر ، وعمر ، رضي الله عنهما (1).
وفي قوله : { وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } دليل على أن الإمام يخطب يوم الجمعة قائما. وقد رَوَى مسلم في صحيحه عن جابر بن سَمُرَة قال : كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما ، يقرأ القرآن ويذكر الناس.
ولكن هاهنا شيء ينبغي أن يُعلَم وهو : أن هذه القصة قد قيل : إنها كانت لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدّم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة ، كما رواه أبو داود في كتاب المراسيل : حدثنا محمود بن خالد ، عن الوليد ، أخبرني أبو معاذ بُكَير بن مَعروف ، أنه سمع مُقَاتل بن حَيَّان يقول : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي يوم الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين ، حتى إذا كان يوم والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب ، وقد صلى الجمعة ، فدخل رجل فقال : إن دحيةَ بن خليفة قد قدمَ بتجارة (2) يعني : فانفضوا ، ولم يبق معه إلا نفر يسير.
وقوله : { قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ } أي : الذي عند الله من الثواب في الدار الآخرة { خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } أي : لمن توكل عليه ، وطلب الرزق في وقته.
__________
(1) مسند أبي يعلى (3/468).
(2) المراسيل برقم (62).

(8/124)


إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)

تفسير سورة المنافقون
وهي مدنية (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) }
يقول تعالى مخبرًا عن المنافقين : إنهم إنما يتفوهون بالإسلام إذا جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فأما في باطن الأمر فليسوا كذلك ، بل على الضدّ من ذلك ؛ ولهذا قال تعالى : { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ } أي : إذا حَضَروا عندك (2) واجهوك بذلك ، وأظهروا لك ذلك ، وليسوا كما يقولون : ولهذا اعترض بجملة مخبرة أنه رسول الله ، فقال : { اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ }
ثم قال : { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } أي : فيما أخبروا به ، وإن كان مطابقًا للخارج ؛ لأنهم لم يكونوا يعتقدون صحة ما يقولون ولا صدقه ؛ ولهذا كذبهم بالنسبة إلى اعتقادهم.
وقوله : { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي : اتقوا الناس بالأيمان الكاذبة والحَلْفات الآثمة ، ليصدقوا فيما يقولون ، فاغتر بهم من لا يعرف جلية أمرهم ، فاعتقدوا أنهم مسلمون (3) فربما اقتدى بهم فيما يفعلون وصدقهم فيما يقولون ، وهم من (4) شأنهم أنهم كانوا (5) في الباطن لا يألون الإسلام وأهله خَبَلا فحصل بهذا القدر ضرر كبير (6) على كثير من الناس ولهذا قال تعالى : { فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ولهذا كان الضحاك بن مُزَاحم يقرؤها : "اتَّخَذُوا إيمَانَهُمْ جُنَّةً" أي : تصديقهم الظاهر جُنَّة ، أي : تقية يتقون به القتل. والجمهور يقرؤها : (7) { أيمانهم } جمع يمين.
[وقوله] (8) { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ } أي : إنما قُدّر عليهم
__________
(1) فضائل هذه السورة ذكرت في أول سورة الجمعة.
(2) في أ : "إليك".
(3) في أ : "فاعتقدهم مسلمين".
(4) في م : "في".
(5) في أ : "كانوا يقولون".
(6) في أ : "كثير".
(7) في م ، أ : "قرؤوها".
(8) زيادة من م ، أ.

(8/125)


النفاق لرجوعهم عن الإيمان إلى الكفران ، واستبدالهم الضلالة بالهدى { فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ } أي : فلا يصل إلى قلوبهم هدى ، ولا يخلص إليها خير ، فلا تعي ولا تهتدي.
{ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } أي : كانوا أشكالا حسنة وذوي فصاحة وألسنة ، إذا سمعهم السامع يصغي إلى قولهم (1) لبلاغتهم ، وهم مع ذلك في غاية الضعف والخَور والهلع والجزع والجبن ؛ ولهذا قال : { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } أي : كلما وقع أمر أو كائنة أو خوف ، يعتقدون ، لجبنهم ، أنه نازل بهم ، كما قال تعالى : { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } [الأحزاب : 19] فهم جَهَامات وصور بلا معاني. ولهذا قال : { هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي : كيف يُصرَفون عن الهدى إلى الضلال.
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا عبد الملك بن قُدَامة الجُمَحي ، عن إسحاق بن بكر (2) بن أبي الفرات ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري. عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن للمنافقين علامات يعرفون بها : تحيتهم لعنة ، وطعامهم نُهبَة ، وغنيمتهم غلول ، ولا يقربون المساجد إلا هُجْرا ولا يأتون الصلاة إلا دُبْرا ، مستكبرين لا يألَفون ولا يُؤلَفون ، خُشُبٌ بالليل ، صُخُب بالنهار". وقال يزيد مَرةً : سُخُبٌ بالنهار (3)
__________
(1) في م : "إلى قلوبهم".
(2) في أ : "بكير".
(3) المسند (2/293).

(8/126)


وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) }
يقول تعالى مخبرا عن المنافقين - عليهم لعائن الله - أنهم { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ } أي : صَدوا وأعرضوا عما قيل لهم ، استكبارًا عن ذلك ، واحتقارا لما قيل لهم ولهذا قال : { وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ } ثم جازاهم على ذلك فقال : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } كما قال في سورة "براءة" وقد تقدم الكلام على ذلك ، وإيراد الأحاديث المروية هنالك.

(8/126)


وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابنُ أبي عُمَر العَدَني (1) قال : قال سفيان { لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ } قال ابن أبي عمر : حوَّلَ سفيان وجهه على يمينه ، ونظر بعينه شَزْرا ، ثم قال : هم (2) هذا.
وقد ذكر غير واحد من السلف أن هذا السياق كله نزل في عبد الله بن أبي بن سلول كما سنورده قريبًا إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة وعليه التكلان.
وقد قال محمد بن إسحاق في السيرة : ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة - يعني مَرْجعَه من أحد - وكان عبد الله بن أبي بن سلول - كما حدثني ابن شهاب الزهري - له مقام يَقُومه كل جُمُعة لا ينُكر ، شرفًا له من نفسه ومن قومه ، وكان فيهم شريفا ، إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يخطب الناس قام ، فقال : أيها الناس ، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم ، أكرمكم الله به ، وأعزكم به ، فانصروه وعَزّروه ، واسمعوا له وأطيعوا. ثم جلس ، حتى إذا صنع يوم أُحد ما صَنَع - يعني مرجعه بثلث الجيش - ورجع الناس قام يفعل ذلك كما كان يفعله ، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه وقالوا : اجلس ، أي عدو الله ، لست لذلك بأهل ، وقد صنعتَ ما صنعتَ. فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول : والله لكأنما قلت بَجْرًا ؛ أن قُمت أشدد أمره. فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد فقالوا : ويلك. ما لك ؟ قال : قمتُ أشدد أمره ، فوثب علي رجال من أصحابه يجذبونني ويعنفونني ، لكأنما قلت بَجْرًا ، أن قمت أشدد أمره. قالوا : ويلك. ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال : والله ما أبتغي أن يستغفر لي (3)
وقال قتادة والسدي : أنزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي ، وذلك أن غلاما من قرابته انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه بحديث عنه وأمر شديد ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو يحلف بالله ويتبرأ من ذلك ، وأقبلت الأنصار على ذلك الغلام فلاموه وعَذَموه (4) وأنزل الله فيه ما تسمعون ، وقيل لعدو (5) الله : لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فجعل يلوي رأسه ، أي : لست فاعلا (6)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الربيع الزهراني ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا أيوب ، عن سعيد بن جبير : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل منزلا لم يرتحل حتى يصلي فيه ، فلما كانت غزوة تبوك بلغه أنَّ عبدَ الله ابن أبي بن سلول قال : { لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ } فارتحل قبل أن ينزل آخر النهار ، وقيل لعبد الله بن أبي : ائت النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستغفر لك. فأنزل الله : { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ } إلى قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ }
وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن جبير. وقوله : إن ذلك كان في غزوة تبوك ، فيه نظر ، بل ليس بجيد ؛ فإن عبد الله بن أبي بن سلول لم يكن ممن خرج في غزوة تبوك ، بل رجع بطائفة من الجيش. وإنما المشهور عند أصحاب المغازي والسير أن ذلك كان في غزوة المُرَيسيع ، وهي غزوة بني المصطلق.
__________
(1) في أ : "العدوى".
(2) في م ، أ : "هو".
(3) السيرة النبوية لابن هشام (2/105).
(4) في م : "وعزلوه" ، وفي أ : "عرموه".
(5) في م ، أ : "وقيل لعبد".
(6) رواه الطبري في تفسيره (28/71).

(8/127)


قال يونس بن بُكَيْر ، عن ابن إسحاق : حدثني محمد بن يحيى بن حبان ، وعبد الله بن أبي بكر ، وعاصم بن عُمَر بن قتادة ، في قصة بني المصطلق : فبينا رسول الله مقيم هناك ، اقتتل على الماء جَهجاه بن سعيد الغفاري - وكان أجيرا - لعمر بن الخطاب ، وسنان بن وَبْر (1) قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن يحيى بن حبان قال : ازدحما على الماء فاقتتلا فقال سنان : يا معشر الأنصار. وقال الجهجاه : يا معشر المهاجرين - وزيد بن أرقم ونفر من الأنصار عند عبد الله بن أبي - فلما سمعها قال : قد ثاورُونا في بلادنا. والله ما مثلُنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل : "سَمن كلبك يأكلك". والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم أقبل على من عنده من قومه وقال : هذا ما صنعتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو كففتم عنهم لتحولوا عنكم في بلادكم إلى غيرها. فسمعها زيد ابن أرقم ، فذهب بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غُلَيّمٌ - وعنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه - فأخبره الخبر ، فقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله مر عَبّاد بن بشرْ (2) فليضرب عنقه. فقال صلى الله عليه وسلم : "فكيف إذا تحدث الناس - يا عمر - أن محمدا يقتل أصحابه ؟ لا ولكن ناد يا عمر في الرحيل".
فلما بلغ عبد الله بن أبي أن ذلك قد بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، أتاه فاعتذر إليه ، وحلف بالله ما قال ما قال عليه زيد بن أرقم - وكان عند قومه بمكان - فقالوا : يا رسول الله ، عسى أن يكون هذا الغلام أوهم ولم يثبت ما قال الرجل.
وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم مُهجرًا في ساعة كان لا يروح فيها ، فلقيه أسيد بن الحضير فسلم عليه بتحية النبوة ، ثم قال : والله لقد رُحتَ في ساعة مُنكَرَة ما كنت تروح فيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما بلغك (3) ما قال صاحبك ابن أبي ؟. زعم أنه إذا قدم المدينة سيخرج الأعز منها الأذل". قال : فأنت - يا رسول الله - العزيزُ وهو الذليل. ثم قال : يا رسول الله ارفق به فوالله لقد جاء الله بك وإنا لننظم له الخَرزَ لِنُتَوّجه ، فإنه ليرى (4) أن قد استلبتَه ملكا.
فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس حتى أمسوا ، ليلته حتى أصبحوا ، وصَدرَ يومه حتى اشتد الضحى. ثم نزل بالناس ليشغلهم عما كان من الحديث ، فلم يأمن الناس أن وجدوا مَس الأرض فناموا ، ونزلت سورة المنافقين (5)
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو بكر بن إسحاق ، أخبرنا بشر بن موسى ، حدثنا الحُميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا (6) عمرو بن دينار ، سمعت جابر بن عبد الله يقول : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غَزَاة فكَسَعَ رجلٌ من المهاجرين رجلا من الأنصار ، فقال الأنصاري : ياللأنصار. وقال المهاجري : يا للمهاجرين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما بال دعوى الجاهلية ؟ دعوها فإنها منتنة". وقال عبد الله بن أبي بن سلول - وقد فعلوها - : والله لئن رجعنا
__________
(1) في م : "سنان بن يزيد".
(2) في أ : "بشير".
(3) في م : "ما بلغك".
(4) في م : "يرى".
(5) السيرة النبوية لابن هشام (2/290 - 292).
(6) في م : "عن".

(8/128)


إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال جابر : وكان الأنصار بالمدينة أكثر من المهاجرين حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كثر المهاجرون بعد ذلك ، فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "دعه ؛ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه" (1)
ورواه الإمام أحمد عن حسين بن محمد المروزي ، عن سفيان بن عيينة (2) ورواه البخاري عن الحميدي ، ومسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره ، عن سفيان ، به نحوه (3)
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن زيد بن أرقم قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، فقال عبد الله بن أبي : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال : فأتيت النبي (4) صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، قال : فحلف عبد الله بن أبي أنه لم يكن شيء من ذلك. قال : فلامني قومي وقالوا : ما أردتَ إلى هذا ؟ قال : فانطلقت فنمتُ كئيبا حَزينا ، قال : فأرسل إلي نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال : "إن الله قد أنزل عُذركَ وصَدَّقك". قال : فنزلت هذه الآية { هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا } حتى بلغ : { لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ }
ورواه البخاري عند هذه الآية ، عن آدم بن أبي إياس ، عن شعبة (5) ثم قال : "وقال ابن أبي زائدة ، عن الأعمش ، عن عمرو ، عن ابن أبي ليلى ، عن زيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الترمذي والنسائي عندها أيضا من حديث شعبة ، به (6)
طريق أخرى عن زيد : قال الإمام أحمد ، رحمه الله ، حدثنا يحيى بن آدم ، ويحيى بن أبي بُكَير (7) قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق قال : سمعت زيد بن أرقم - وقال ابن أبي بُكَير (8) عن زيد بن أرقم - قال : خرجت مع عمي في غزاة ، فسمعت عبد الله بن أبي بن سلول يقول لأصحابه : لا تنفقوا على من عند رسول الله ، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فذكرت ذلك لعمي فذكره عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثته فأرسل إلى عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه فحلفوا ما قالوا : فكَذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصَدَّقه ، فأصابني هَمٌ لم يصبني مثله قط ، وجلست في البيت ، فقال عمي : ما أردت إلا أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك. قال : حتى أنزل الله : { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ } قال : فبعث إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها رسول الله على ، ثم قال : "إن الله قد صدقك" (9)
ثم قال أحمد أيضا : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا زهير ، حدثنا أبو إسحاق : أنه سمع زيد
__________
(1) دلائل النبوة للبيهقي (4/53).
(2) المسند (3/392).
(3) صحيح البخاري برقم (4907) وصحيح مسلم برقم (2584).
(4) في م : "رسول الله".
(5) المسند (4/368) وصحيح البخاري برقم (4902).
(6) سنن الترمذي برقم (3314) وسنن النسائي الكبرى برقم (11594).
(7) في أ : "بكر".
(8) في م : "وقال أبو بكر".
(9) المسند (4/373).

(8/129)


ابن أرقم يقول : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فأصاب الناس شدةٌ ، فقال عبد الله بن أبي لأصحابه : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله. وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك ، فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله ، فاجتهد يمينَه ما فعل. فقالوا : كذب زيد يا رسول الله. فوقع في نفسي ما قالوا ، حتى أنزل الله تصديقي : { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ } قال : ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم ، فلووا رؤوسهم. وقوله تعالى : { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ } قال : كانوا رجالا أجمل شيء.
وقد رواه البخاري ومسلم والنسائي ، من حديث زهير (1) ورواه البخاري أيضا والترمذي من حديث إسرائيل ، كلاهما عن أبي إسحاق عمرو (2) بن عبد الله السَّبيعيّ الهمداني الكوفي ، عن زيد ، به (3).
طريق أخرى عن زيد : قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا عبد بن حُمَيد ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي سعد (4) الأزدي قال : حدثنا زيد بن أرقم قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معنا أناس من الأعراب ، فكنا نَبتَدرُ الماء ، وكان الأعراب يسبقوننا يسبق الأعرابي أصحابه يملأ الحوض ، ويجعل حوله حجارة ، ويجعل النّطع عليه حتى يجيء أصحابه. قال : فأتى رجل من الأنصار الأعرابي ، فأرخى زمام ناقته لتشرب ، فأبى أن يدعه ، فانتزع حجرًا ففاض الماء ، فرفع الأعرابي خشبة ، فضرب بها رأس الأنصاري فشجّه ، فأتى عبدَ الله بن أبيّ رأسَ المنافقين فأخبره - وكان من أصحابه - فغضب عبد الله بن أبي ، ثم قال : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله - يعني الأعراب - وكانوا يحضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام. فقال عبد الله لأصحابه : إذا انفضوا من عند محمد فائتوا محمدًا بالطعام ، فليأكل هو ومن عنده ، ثم قال لأصحابه : إذا رجعتم إلى المدينة فليخرج الأعز منها الأذل. قال زيد : وأنا ردف عمي ، فسمعت عبد الله فأخبرت عمي ، فانطلق فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليه رسول الله ، فحلف وجحد ، قال : فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني ، فجاء إلي عمي فقال : ما أردت إلا أن مقتك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبكَ المسلمون. فوقع علي من الغم ما لم يقع على أحد قط ، فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وقد خَفَقْتُ برأسي من الهم ، إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فَعَرَك أذني ، وضحك في وجهي ، فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا ، ثم إن أبا بكر لحقني وقال : ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : ما قال لى رسول الله شيئًا ، غير أن عرك أذني وضحك في وجهي. فقال : أبشر. ثم لحقني عمر فقلت له مثل قولي لأبي بكر. فلما أن أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين.
انفرد بإخراجه الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح. وهكذا رواه الحافظ البيهقي عن
__________
(1) المسند (4/373) وصحيح البخاري برقم (4903) وصحيح مسلم برقم (2772) وسنن النسائي الكبرى برقم (11598).
(2) في أ : "عن أبي إسحاق عن عمرو".
(3) صحيح البخاري برقم (4900) وسنن الترمذي برقم (3312).
(4) في م : "عن أبي سعيد".

(8/130)


الحاكم عن أبي العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، عن سعيد بن مسعود ، عن عبيد الله بن موسى ، به (1) وزاد بعد قوله "سورة المنافقين" { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ } حتى بلغ : { هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا } حتى بلغ : { لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ }
وقد روى عبد الله بن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عُروَةَ بن الزبير في المغازي - وكذا ذكر موسى بن عقبة في مغازيه أيضا هذه القصة بهذا السياق ، ولكن جعلا الذي بَلّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام عبد الله بن أبي بن سلول إنما هو أوس بن أرقم ، من بني الحارث بن الخزرج. فلعله مبلغ آخر ، أو تصحيف من جهة السمع ، والله أعلم.
وقد قال ابن أبي حاتم ، رحمه الله : حدثنا محمد بن عزيز الأيلي ، حدثنا سلامة ، حدثني عقيل ، أخبرنى محمد بن مسلم ، أن عروة بن الزبير وعمرو بن ثابت الأنصاري أخبراه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة المريسيع ، وهي التي هدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها مناة الطاغية التي كانت بين قفا المُشَلّل وبين البحر ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فكسر مناة ، فاقتتل رجلان في غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك ، أحدهما من المهاجرين ، والآخر من بَهْز ، وهم حلفاء الأنصار ، فاستعلى الرجل الذي من المهاجرين على البهزي ، فقال البهزي : يا معشر الأنصار ، فنصره رجال من الأنصار ، وقال المهاجري : يا معشر المهاجرين. فنصره رجال من المهاجرين ، حتى كان بين أولئك الرجال من المهاجرين والرجال من الأنصار شيء من القتال ، ثم حُجز بينهم فانكفأ كل منافق - أو : رجل في قلبه مرض - إلى عبد الله بن أبيّ بن سلول ، فقال : قد كنت تُرْجَى وتَدفع فأصبحت لا تضر ولا تنفع ، قد تناصرت علينا الجلابيب - وكانوا يَدْعُون كُلّ حديث هجرة (2) الجلابيب - فقال عبد الله بن أبي عدو الله : [والله] (3) لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال مالك بن الدخْشُم - وكان من المنافقين - : أولم أقل لكم لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا. فسمع بذلك عمرُ بن الخطاب ، فأقبل يمشي حتى جاء (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ائذن لي في هذا الرجل الذي قد أفتن الناس ، أضربُ عنقه - يريد عمرُ عبدَ الله بن أبي - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر : "أو قاتله أنتَ إن أمرتُك بقتله ؟". قال : عمر [نعم] (5) والله لئن أمرتني بقتله لأضربَنّ عنقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اجلس". فأقبل أسيدُ بن الحضير (6) - وهو أحد الأنصار ، ثم أحد بني عبد الأشهل - حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ائذن لي في هذا الرجل الذي قد أفتن الناس [حتى] (7) أضرب عنقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أوقاتله أنتَ إن أمرتُك بقتله ؟". قال : نعم ، والله لئن أمرتني بقتله لأضربن بالسيف تحت قُرط أذنيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اجلس". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "آذنوا بالرحيل". فَهَجَّرَ بالناس ، فسار
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3313) ودلائل النبوة للبيهقي (4/54).
(2) في م : "أهجرة".
(3) زيادة من م.
(4) في أ : "حتى أتى".
(5) زيادة من م ، أ.
(6) في م : "حضير".
(7) زيادة من م.

(8/131)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)

يومه وليلته والغد حتى مَتَعَ النهار ، ثم نزل. ثم هَجَّر بالناس مثلها ، فَصبح (1) بالمدينة في ثلاث سارها من قفا المُشلَّل فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أرسل إلى عمر فدعاه ، فقال له رسول الله : "أي ْعمر ، أكنت قاتله لو أمرتك بقتله ؟" قال (2) عمر : نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والله لو قتلته يومئذ لأرغمتَ أنوف رجال لو أمرتهم اليوم بقتله امتثلوه (3) فيتحدث الناسُ أني قد وقعت على أصحابي فأقتلهم صبرًا". وأنزل الله عز وجل : { هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا } إلى قوله : { لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ [لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَل] } (4) الآية.
وهذا سياق غريب ، وفيه أشياء نفيسة لا توجد إلا فيه.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة : أن عَبدَ الله بن أبي - يعنى لما بلغه ما كان من أمر أبيه - أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبَيّ فيما بلغك عنه ، فإن كنت فاعلا فمرني به ، فأنا أحمل إليك رأسه ، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني ، إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله ، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس ، فأقتله ، فأقتل مؤمنًا بكافر ، فأدخل النار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بل نترفق به ونحسن صحبته ، ما بقي معنا" (5)
وذكر عكرمةُ وابن زيد وغيرهما : أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة ، وقف عبدُ الله بن عبد الله هذا على باب المدينة ، واستل سيفه ، فجعل الناس يمرون عليه ، فلما جاء أبوه عبد الله بن أبي قال له ابنه : وراءك. فقال : ما لك ؟ ويلك. فقال : والله لا تجوز من هاهنا حتى يأذنَ لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه العزيز وأنت الذليل. فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان إنما يسير ساقة فشكا إليه عبد الله بن أبيّ ابنه ، فقال ابنه عبد الله : والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أما إذ أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فَجُز الآن.
وقال أبو بكر عبد الله بن الزبير في مسنده : حدثنا سفيان بن عُيَينة ، حدثنا أبو هارون المدني قال : قال عبد الله بن عبد الله ابن أبي بن سلول لأبيه : والله لا تدخل المدينة أبدًا حتى تقول : رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الأعز وأنا الأذل. قال وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إنه بلغني أنك تريد أن تقتل أبي ، فوالذي بعثك بالحق ما تأملت وجهه قط هيبة له ، لئن شئت أن آتيك برأسه لأتينك ، فإني أكره أن أرى قاتل أبي (6) \
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) }
__________
(1) في م : "حتى صبح".
(2) في م : "فقال".
(3) في م : "لقتلوه".
(4) زيادة من م ، أ.
(5) السيرة النبوية لابن هشام (2/292).
(6) مسند الحميدي (2/520).

(8/132)


يقول تعالى آمرًا لعباده المؤمنين بكثرة ذكره وناهيا لهم عن أن تشغلهم الأموال والأولاد عن ذلك ومخبرًا لهم بأنه من التَهَى بمتاع الحياة الدنيا وزينتها عما خُلِقَ له من طاعة ربه وذكره ، فإنه من الخاسرين الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، ثم حثهم على الإنفاق في طاعته فقال : { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ } فكل مُفَرِّط يندم عند الاحتضار ، ويسأل طول المدة ولو شيئا يسيرًا ، يستعتب ويستدرك ما فاته ، وهيهات! كان ما كان ، وأتى ما هو آت ، وكل بحسب تفريطه ، أما الكفار فكما قال [الله] (1) تعالى : { وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ } [إبراهيم : 44] وقال تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [المؤمنون : 99 ، 100]
ثم قال تعالى : { وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي : لا ينظر أحدًا بعد حلول أجله ، وهو أعلم وأخبر بمن يكون صادقًا في قوله وسؤاله ممن لو رُدّ لعاد إلى شر مما كان عليه ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } وقال أبو عيسى الترمذي : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا جعفر بن عون ، حدثنا أبو جَنَاب الكلبي ، عن الضحاك بن مُزاحم ، عن ابن عباس قال : من كان له مال يبلغه حج بيت ربه ، أو تجب عليه فيه زكاةٌ ، فلم يفعل ، سأل الرجعة عند الموت. فقال رجل : يا ابن عباس ، اتق الله ، فإنما يسأل الرجعة الكفار. فقال سأتلوا عليك بذلك قرآنا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ [وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا] وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (2) قال : فما يوجب الزكاة ؟ قال : إذا بلغ المال مائتين فصاعدا. قال : فما يوجب الحج ؟ قال : الزاد والبعير.
ثم قال : حدثنا عبد بن حُميَد ، حدثنا عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن يحيى بن أبي حَيَّة - وهو أبو جناب الكلبي - عن الضحاك ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه (3)
ثم قال : وقد رواه سفيان بن عيينة وغيره ، عن أبي جَنَاب ، عن ابن الضحاك ، عن ابن عباس ، من قوله. وهو أصح ، وضعَّف أبا جناب الكلبي.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من م ، وفي هـ :
(3) سنن الترمذي برقم (3316).

(8/133)


قلت : رواية الضحاك عن ابن عباس فيها انقطاع ، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نُفَيل ، حدثنا سليمان بن عطاء ، عن مسلمة الجهني ، عن عمه - يعني أبا مشجعة بن رِبْعِي - عن أبي الدرداء ، رضي الله عنه ، قال : ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الزيادة في العمر فقال : " إن الله لا يؤخر نفسًا إذا جاء أجلها ، وإنما الزيادة في العمر أن يرزق الله العبدَ ذُرية صالحة يدعون له ، فيلحقه دعاؤهم في قبره" (1)
آخر تفسير سورة "المنافقون" (2) ولله الحمد والمنة
__________
(1) ورواه ابن عدى في الكامل (3/285) من طريق الوليد بن عبد الملك عن سليمان بن عطاء به - مجمع على ضعفه.
(2) في أ : "المنافقين".

(8/134)


يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)

تفسير سورة التغابن
وهي مدنية ، وقيل : مكية.
قال الطبراني : حدثنا محمد بن هارون بن محمد بن بكار الدمشقي ، حدثنا العباس بن الوليد الخلال ، حدثنا الوليد بن الوليد ، حدثنا ابن ثوبان ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن عبد الله بن عَمرو ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من مولود يولد إلا مكتوب في تشبيك رأسه خمس آيات من سورة التغابن" (1)
أورده ابن عساكر في ترجمة "الوليد بن صالح" (2) وهو غريب جدًّا ، بل منكر.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) }
هذه السورة هي آخر المُسَبِّحات ، وقد تقدم الكلام على تسبيح المخلوقات لبارئها ومالكها ؛ ولهذا قال : { لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ } أي : هو المتصرف في جميع الكائنات ، المحمود على جميع ما يخلقه ويقدره.
وقوله : { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : مهما أراد كان بلا ممانع ولا مدافع ، وما لم يشأ لم يكن.
وقوله : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ } أي : هو الخالق لكم على هذه الصفة ، وأراد منكم ذلك ، فلا بد من وجود مؤمن وكافر ، وهو البصير بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلال ، وهو شهيد على أعمال عباده ، وسيجزيهم بها أتم الجزاء ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
ثم قال : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ } أي : بالعدل والحكمة ، { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } أي : أحسن أشكالكم ، كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } [الانفطار : 6 - 8]
__________
(1) ورواه الطبرني في المعجم الأوسط برقم (3290) عن أحمد ، عن أيوب بن محمد الوزان ، عن الوليد بن الوليد به ، وقال : "لم يروه عن ابن ثوبان إلا الوليد القلانسي" والوليد ضعيف.
(2) تاريخ دمشق (17/831" المخطوط").

(8/135)


أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)

وكقوله : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } الآية [غافر : 64] وقوله : { وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } أي : المرجع والمآب.
ثم أخبر تعالى عن علمه بجميع الكائنات السمائية والأرضية والنفسية ، فقال : { يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }
{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) }
يقول تعالى مخبرًا عن الأمم الماضين ، وما حل بهم من العذاب والنكال ؛ في مخالفة الرسل والتكذيب بالحق ، فقال : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ } أي : خبرهم وما كان من أمرهم ، { فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ } أي : وخيم تكذيبهم ورديء أفعالهم ، وهو ما حل بهم في الدنيا من العقوبة والخزي { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : في الدار الآخرة مضاف إلى هذا الدنيوي. ثم علل ذلك فقال : { ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } أي : بالحجج والدلائل والبراهين { فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } ؟ أي : استبعدوا أن تكون الرسالة في البشر ، وأن يكون هداهم على يدي بشر مثلهم ، { فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا } أي : كذبوا بالحق ونكلوا عن العمل ، { وَاسْتَغْنَى اللَّهُ } أي : عنهم { وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }
{ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) }

(8/136)


وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)

{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) }
يقول تعالى مخبرًا عن المشركين والكفار والملحدين أنهم يزعمون أنهم لا يبعثون : { قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ } أي : لتُخْبَرُنَّ بجميع أعمالكم ، جليلها وحقيرها ، صغيرها وكبيرها ، { وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } أي : بعثكم ومجازاتكم.
وهذه هي الآية الثالثة التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه ، عز وجل ، على وقوع المعاد ووجوده فالأولى في سورة يونس : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } [يونس : 53] والثانية في سورة سبأ : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } الآية [سبأ : 3]

(8/136)


مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)

والثالثة هي هذه [ { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } ] (1)
ثم قال تعالى : { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزلْنَا } يعني : القرآن ، { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : فلا تخفى عليه من أعمالكم خافية.
وقوله : { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ } وهو يوم القيامة ، سمي بذلك لأنه يجمع فيه الأولون والآخرون في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي وينَفُذَهم البصر ، كما قال تعالى : { ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ } [هود : 103] وقال تعالى : { قُلْ إِنَّ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } [الواقعة : 49 ، 50]
وقوله : { ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ } قال ابن عباس : هو اسم من أسماء يوم القيامة. وذلك أن أهل الجنة يغبنون أهل النار. وكذا قال قتادة ومجاهد.
وقال مقاتل بن حيان : لا غبن أعظمُ من أن يدخل هؤلاء إلى الجنة ، ويُذْهَب بأولئك إلى النار.
قلت : وقد فسر ذلك بقوله تعالى : { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } وقد تقدم تفسير مثلُ هذه (2) غير مرة.
{ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) }
يقول تعالى مخبرًا بما أخبر به في سورة الحديد : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } [الحديد : 22] وهكذا قال هاهنا : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } قال ابن عباس : بأمر الله ، يعني : عن قدره (3) ومشيئته.
{ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره ، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله ، هدى الله قلبه ، وعَوَّضه عما فاته من الدنيا هُدى في قلبه ، ويقينا صادقًا ، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه ، أو خيرًا منه.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } يعني : يهد قلبه لليقين ، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
__________
(1) زيادة من م فصل 1.
(2) في م : "هذا" ، وفي أ : "ذلك".
(3) في أ : "عن قدرته".

(8/137)


وقال الأعمش ، عن أبي ظِبْيان قال : كنا عند علقمة فقرئ عنده هذه الآية : { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } فسئل عن ذلك فقال : هو الرجل تصيبه المصيبة ، فيعلم أنها من عند الله ، فيرضى ويسلم. رواه ابن جرير (1) وابن أبي حاتم (2)
وقال سعيد بن جبير ، ومقاتل بن حيان : { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } يعني : يسترجع ، يقول : { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [البقرة : 156]
وفي الحديث المتفق عليه : "عجبًا للمؤمن ، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له ، إن أصابته ضَرَّاء صبر فكان خيرًا له ، وإن أصابته سَرَّاء شكر فكان خيرًا له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن" (3)
وقال أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا الحارث بن يزيد ، عن علي بن رَبَاح ؛ أنه سمع جنادة بن أبي أمية يقول : سمعت عبادة بن الصامت يقول : إن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أي العمل أفضل ؟ قال : "إيمان بالله ، وتصديق به ، وجهاد في سبيله". قال : أريد أهونَ من هذا يا رسول الله. قال : "لا تتهم الله في شيء ، قضى لك به". لم يخرجوه (4)
وقوله : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } أمرٌ بطاعة الله ورسوله فيما شرع ، وفعل ما به أمر وترك ما عنه نهى (5) وزجر ، ثم قال : { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } أي : إن نكلتم عن العمل فإنما عليه ما حُمِّل من البلاغ ، وعليكم ما حُمِّلْتم من السمع والطاعة.
قال الزهري : من الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم (6)
ثم قال تعالى مخبرًا أنه الأحد الصمد ، الذي لا إله غيره ، فقال : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } فالأول خَبَرٌ عن التوحيد ، ومعناه معنى الطلب ، أي : وحدوا الإلهية له ، وأخلصوها لديه ، وتوكلوا عليه ، كما قال تعالى : { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا } [المزمل : 9].
__________
(1) تفسير الطبري (28/79).
(2) في م : "وابن أبي حاتم في تفسيرهما".
(3) الحديث رواه مسلم في صحيحه برقم (2999) من حديث صهيب الرومي ، رضي الله عنه.
(4) المسند (5/318).
(5) في م : "ما ينهي عنه".
(6) رواه البخاري في صحيحه معلقًا (13/503) "فتح".

(8/138)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) }
يقول تعالى مخبرًا عن الأزواج والأولاد : إن منهم من هو عدو الزوج والوالد ، بمعنى : أنه يلتهى به عن العمل الصالح ، كقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [المنافقون : 9] ؛ ولهذا قال هاهنا : { فاحذروهم } قال ابن زيد : يعني على دينكم.
وقال مجاهد : { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ } قال : يحملُ الرجل على قطيعة الرحم أو معصية ربه ، فلا يستطيع الرجل مع حبه إلا أن يطيعه. وقال ابن أبي حاتم ، حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن خلف العسقلاني (1) حدثنا الفريابي ، حدثنا إسرائيل ، حدثنا سمَاك بن حرب ، عن عِكْرمة ، عن ابن عباس - وسأله رجل عن هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ } - قال : فهؤلاء رجال أسلموا من مكة ، فأرادوا أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يَدَعوهم ، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا الناسَ قد فقهوا في الدين ، فَهَمُّوا أن يعاقبوهم ، فأنزل الله هذه الآية : { وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
وكذا رواه الترمذي عن محمد بن يحيى ، عن الفريابي - وهو محمد بن يوسف - به (2) وقال حسن صحيح. ورواه ابن جرير والطبراني ، من حديث إسرائيل ، به (3) ورُوي من طريق العوفي ، عن ابن عباس ، نحوه ، وهكذا قال عكرمة مولاه سواء.
وقوله : { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } يقول تعالى : إنما الأموال والأولاد فتنة ، أي : اختبار وابتلاء من الله لخلقه. ليعلم من يطيعه ممن يعصيه.
وقوله : { وَاللَّهُ عِنْدَهُ } أي : يوم القيامة { أَجْرٌ عَظِيمٌ } كما قال : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ+ [ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } والتي بعدها] [آل عمران : 14 ، 15] (4)
وقال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني حُسَين بن واقد ، حدثني عبد الله بن بُرَيدة ، سمعت أبي (5) بريدة يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ، فجاء الحسن والحسين ، رضي الله عنهما ، عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ، ثم قال : "صدق الله ورسوله ، إنما أموالكم وأولادكم فتنة ، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما".
__________
(1) في م : "الصيدلاني".
(2) سنن الترمذي برقم (7133).
(3) تفسير الطبري (28/80) والمعجم الكبير للطبراني (11/275).
(4) زيادة من م ، وفي هـ : "الآية".
(5) في هـ ، م ، أ : "أبا" ، والمثبت من المسند.

(8/139)


ورواه أهل السنن من حديث حُسَين بن واقد ، به (1) وقال الترمذي : حسن غريب ، إنما نعرفه من حديثه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا سُرَيج بن النعمان ، حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا مجالد ، عن الشعبي ، حدثنا الأشعث بن قيس قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد كندة ، فقال لي : "هل لك من ولد ؟" قلت : غلام ولد لي في مَخرجَي إليك من ابنة جمد ، وَلَوَددْتُ أن بمكانه : شبَعَ القوم. قال : "لا تقولن ذلك ، فإن فيهم قرة عين ، وأجرًا إذا قبضوا" ، ثم قال : "ولئن قلت ذاك : إنهم لمجبنة مَحْزنة" تفرد به أحمد (2) رحمه الله تعالى.
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمود بن بكر ، حدثنا أبي ، عن عيسى [بن أبي وائل] (3) عن ابن أبي ليلى ، عن عطية ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الولد ثمرة القلوب ، وإنهم مَجبنة مَبخلة محزنة" ثم قال : لا يعرف إلا بهذا الإسناد (4)
وقال الطبراني : حدثنا هاشم بن مرثد (5) حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ، حدثني أبي ، حدثني ضَمْضَمُ بنُ زُرْعَةَ ، عن شريح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعري ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ليس عدوك الذي إن قتلته كان فوزًا لك ، وإن قتلك دخلت الجنة ، ولكن الذي لعله عدو لك ولدك الذي خرج من صلبك ، ثم أعدى عدو لك مالُك الذي ملكت يمينك" (6)
وقوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (7) } أي : جهدكم وطاقتكم. كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه" (8)
وقد قال بعض المفسرين - كما رواه مالك ، عن زيد بن أسلم - إن هذه الآية العظيمة ناسخة للتي في "آل عمران" وهي قوله : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران : 102]
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثني يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر ، حدثني ابن لَهِيعة ، حدثني عطاء - هو ابن دينار - عن سعيد بن جبير في قوله : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } قال : لما نزلت الآية اشتد على القوم العمل ، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم ، فأنزل الله تخفيفًا على المسلمين : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } فنسخت الآية الأولى.
__________
(1) المسند (5/354) وسنن أبي داود برقم (1109) وسنن الترمذي برقم (3774) وسنن النسائي (3/108) وسنن ابن ماجة برقم (3600).
(2) المسند (5/211).
(3) زيادة من أ.
(4) مسند البزار برقم (1892) "كشف الأستار" قال الهيثمي في المجمع (8/155) : "وفيه عطية الوفي وهو ضعيف" المجبنة : مظنة للجبن ، والمبخلة : سبب للبخل ، والمخزنة : سبب للحزن.
(5) في هـ ، م ، أ : "مزيد" ، والمثبت من المعجم الكبير.
(6) المعجم الكبير (3/294) وفيه ضعف وانقطاع وقد تقدم بيانه مرارًا.
(7) فاتقوا الله ما استطعتم
(8) صحيح البخاري برقم (7288) وصحيح مسلم برقم (1337).

(8/140)


وروي عن أبي العالية ، وزيد بن أسلم ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، والسُّدِّيّ ، ومُقاتل بن حَيَّان ، نحو ذلك.
وقوله : { وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا } أي : كونوا منقادين لما يأمركم الله به ورسوله ، ولا تحيدوا عنه يمنة ولا يسرة ، ولا تقدموا بين يدي الله ورسوله ، ولا تتخلفوا عما به أمرتم ، ولا تركبوا ما عنه زُجرتم.
وقوله تعالى : { وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأنْفُسِكُمْ } أي : وابذلوا مما رزقكم الله على الأقارب والفقراء والمساكين وذوي الحَاجات ، وأحسنوا إلى خلق الله كما أحسن إليكم ، يكن خيرًا لكم في الدنيا والآخرة ، وإن لا تفعلوا يكن شرًّا لكم في الدنيا والآخرة.
وقوله : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } تقدم تفسيره في سورة "الحشر" وذكر الأحاديث الواردة في معنى هذه الآية ، بما أغنى عن إعادته ها هنا ، ولله الحمد والمنة ،
وقوله : { إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } أي : مهما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ، ومهما تصدقتم من شيء فعليه جزاؤه ، ونزل ذلك منزلة القرض له ، كما ثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول : "من يقرض غير ظلوم ولا عديم " (1) ولهذا قال : { يُضَاعِفْهُ لَكُمْ } كما تقدم في سورة البقرة : { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } [البقرة : 245]
{ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } أي : ويكفر عنكم السيئات. ولهذا قال : { وَاللَّهُ شَكُورٌ } أي : يجزي على القليل بالكثير { حليم } أي : [يعفو و] (2) يصفح ويغفر ويستر ، ويتجاوز عن الذنوب والزلات والخطايا والسيئات.
{ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } تقدم تفسيره غير مرة.
__________
(1) صحيح مسلم برقم (758) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(2) زيادة من م.

(8/141)


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)

تفسير سورة الطلاق
وهي مدنية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) }
خُوطب النبي صلى الله عليه وسلم أولا تشريفًا وتكريما ، ثم خاطب الأمة تبعًا فقال : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن ثواب بن سعيد الهباري ، حدثنا أسباط بن محمد ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس قال : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة ، فأتت أهلها ، فأنزل الله ، عز وجل : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } فقيل له : راجعها فإنها صوامة قوامة ، وهي من أزواجك ونسائك في الجنة.
ورواه ابن جرير ، عن ابن بشار ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة... فذكره مرسلا (1) وقد ورد من غير وجه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها.
وقال البخاري : حدثنا يحيى بن بُكَيْر ، حدثنا الليث وعقيل ، عن ابن شهاب ، أخبرني سالم : أن عبد الله بن عمر أخبره : أنه طلق امرأة له وهي حائض ، فذكر عمرُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : "ليراجعها ، ثم يمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض فتطهر ، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا قبل أن يمسها ، فتلك العدة التي أمر الله ، عز وجل" (2)
هكذا رواه البخاري هاهنا وقد رواه في مواضع من كتابه ، ومسلم ، ولفظه : "فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء" (3)
ورواه أصحاب الكتب والمسانيد من طرق متعددة وألفاظ كثيرة (4) ومواضع استقصائها كتب الأحكام.
__________
(1) تفسير الطبري (28/85)
(2) صحيح البخاري برقم (4908).
(3) صحيح البخاري برقم (5251) وصحيح مسلم برقم (1471).
(4) المسند (2/26 ، 43 ، 51 ، 54 ، 58) وسنن أبي داود برقم (2179) وسنن النسائي (6/138) وسنن ابن ماجة برقم (2023).

(8/142)


وأمَسُّ لفظ يورَد ها هنا ما رواه مسلم في صحيحه ، من طريق ابن جُرَيْج : أخبرني أبو الزبير : أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن - مولى عَزة يسأل ابن عمر - وأبو الزبير يسمع ذلك : كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضًا ؟ فقال : طَلَّق ابن عمر امرأته حائضا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليراجعها" فَردَّها ، وقال : "إذا طهرت فليطلق أو يمسك". قال ابن عمر : وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } (1).
وقال الأعمش ، عن مالك بن الحارث ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله في قوله : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } قال : الطهر من غير جماع (2) وروي عن ابن عمر وعطاء ، ومجاهد ، والحسن ، وابن سيرين ، وقتادة ، وميمون بن مِهْران ، ومقاتل بن حيان مثل ذلك ، وهو رواية عن عكرمة ، والضحاك.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } قال : لا يطلقها وهي حائض ولا في طهر قد جامعها فيه ، ولكن : تتركها حتى إذا حاضت وطهرت طلقها تطليقة.
وقال عكرمة : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } العدة : الطهر ، والقرء الحيضة ، أن يطلقها حبلى مستبينا حملها ، ولا يطلقها وقد طاف عليها ، ولا يدري حبلى هي أم لا.
ومن ها هنا أخذ الفقهاء أحكام الطلاق وقسموه إلى طلاق سنة وطلاق بدعة ، فطلاق السنة : أن يطلقها طاهرًا من غير جماع ، أو حاملا قد استبان حملها. والبدعى : هو أن يطلقها في حال الحيض ، أو في طهر قد جامعها فيه ، ولا يدري أحملت أم لا ؟ وطلاق ثالث لا سنة فيه ولا بدعة ، وهو طلاق الصغيرة والآيسة ، وغير المدخول بها ، وتحرير الكلام في ذلك وما يتعلق به مستقصى في كتب الفروع ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقوله { وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ } أي : احفظوها واعرفوا ابتداءها وانتهاءها ؛ لئلا تطول العدة على المرأة فتمتنع من الأزواج. { وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ } أي : في ذلك.
وقوله : { لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ } أي : في مدة العدة لها حق السكنى على الزوج ما دامت معتدة منه ، فليس للرجل أن يخرجها ، ولا يجوز لها أيضا الخروج لأنها معتقلة (3) لحق الزوج أيضًا.
وقوله : { إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } أي : لا يخرجن من بيوتهن إلا أن ترتكب المرأة فاحشة مبينة ، فتخرج من المنزل ، والفاحشة المبينة تشمل الزنا ، كما قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد بن المُسَيَّب ، والشعبي ، والحسن ، وابن سيرين ، ومجاهد ، وعِكْرمة ، وسعيد بن جبير ، وأبو قِلابة ، وأبو صالح ، والضحاك ، وزيد بن أسلم ، وعطاء الخراساني ، والسُّدِّي ، وسعيد بن
__________
(1) صحيح مسلم برقم (14719).
(2) رواه الطبري في تفسيره (28/83).
(3) في أ : "لأنها متعلقة".

(8/143)


أبي هلال ، وغيرهم وتشمل ما ذا (1) نشزَت المرأة أو بَذَت على أهل الرجل وآذتهم في الكلام والفعال ، كما قاله أبي بن كعب ، وابن عباس ، وعكرمة ، وغيرهم.
وقوله : { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } أي : شرائعه ومحارمه { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ } أي : يخرج عنها ويتجاوزها إلى غيرها ولا يأتمر بها { فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } أي : بفعل ذلك.
وقوله : { لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } أي : إنما أبقينا المطلقة في منزل الزوج في مدة العدة ، لعل الزوج يندم على طلاقها ويخلق الله في قلبه رَجْعَتَها ، فيكون ذلك أيسر وأسهل.
قال الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن فاطمة بنت قيس في قوله : { لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } قال : هي الرجعة. وكذا قال الشعبي ، وعطاء ، وقتادة ، والضحاك ، ومقاتل ابن حيان ، والثوري. ومن هاهنا ذهب من ذهب من السلف ومن تابعهم ، كالإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله تعالى إلى أنه لا تجب السكنى للمبتوتة ، وكذا المتوفى عنها زوجها ، واعتمدوا أيضًا على حديث فاطمة بنت قيس الفهرية ، حين طلقها زوجها أبو عمرو بن حفص آخر ثلاث تطليقات ، وكان غائبًا عنها باليمن ، فأرسل إليها بذلك ، فأرسل إليها وكيله بشعير - [يعني] (2) نفقة - فَتَسَخَّطته فقال : والله ليس لك علينا نفقة. فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : "ليس لك عليه نفقة". ولمسلم : ولا سكنى ، وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ، ثم قال : "تلك امرأة يغشاها أصحابي ، اعتدي عند ابن أم مكتوم ، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك" الحديث (3)
وقد رواه الإمام أحمد من طريق أخرى بلفظ آخر ، فقال :
حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا مجالد ، حدثنا عامر قال : قدمت المدينة فأتيت فاطمة بنت قيس ، فحدثتني أن زوجها طلقها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَرية. قالت : فقال لي أخوه : اخرجي من الدار. فقلت : إن لي نفقة وسكنى حتى يحل الأجل. قال : لا. قالت : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إن فلانا طلقني ، وأن أخاه أخرجني ومنعني السكنى والنفقة ، [فأرسل إليه] (4) فقال : "ما لك ولابنة آل قيس" ، قال : يا رسول الله ، إن أخي طلقها ثلاثا جميعًا. قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "انظري يا بنت آل قيس ، إنما النفقة والسكنى للمرأة على زوجها ما كان له عليها رجعة ، فإذا لم يكن له عليها رجعة فلا نفقة ولا سكنى. اخرجي فانزلي على فلانة". ثم قال : "إنه يُتحَدّث إليها ، انزلي على ابن أم مكتوم ، فإنه أعمى لا يراك" وذكر تمام الحديث (5)
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن عبد الله البزار التُّسْتَريّ ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الصواف ، حدثنا بكر بن بكار ، حدثنا سعيد بن يزيد البجلي ، حدثنا عامر الشعبي : أنه دخل على فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس القرشي ، وزوجها أبو عمرو بن حفص بن المغيرة
__________
(1) في م ، أ : "وتشمل ما إذا".
(2) زيادة من م.
(3) صحيح مسلم برقم (1480).
(4) زيادة من المسند.
(5) المسند (6/373).

(8/144)


فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)

المخزومي فقالت : إن أبا عمرو بن حفص أرسل إلي وهو منطلق في جيش إلى اليمن بطلاقي ، فسألت أولياءه النفقة علي والسكنى ، فقالوا : ما أرسل إلينا في ذلك شيئًا ، ولا أوصانا به. فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، إن أبا عمرو بن حفص أرسل إلي بطلاقي ، فطلبت السكنى والنفقة علي ، فقال : أولياؤه : لم يرسل إلينا في ذلك بشيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة ، فإذا كانت لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره فلا نفقة لها ولا سكنى".
وكذا رواه النسائي (1) عن أحمد بن يحيى الصوفي ، عن أبي نعيم الفضل بن دُكَيْن ، عن سعيد بن يزيد وهو الأحمسي البَجَلي الكوفي. قال أبو حاتم الرازي : وهو شيخ ، يروى عنه (2)
{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) }
يقول تعالى : فإذا بلغت المعتدات أجلهن ، أي : شارفن على انقضاء العدة وقاربن ذلك ، ولكن لم تفرغ العدة بالكلية ، فحينئذ إما أن يعزم الزوج على إمساكها ، وهو رجعتها إلى عصمة نكاحه والاستمرار بها على ما كانت عليه عنده. { بِمَعْرُوفٍ } أي : محسنًا إليها في صحبتها ، وإما أن يعزم على مفارقتها { بِمَعْرُوفٍ } أي : من غير مقابحة ولا مشاتمة ولا تعنيف ، بل يطلقها على وجه جميل وسبيل حسن.
وقوله : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } أي : على الرجعة إذا عَزَمتم عليها ، كما رواه أبو داود وابن ماجة ، عن عمران (3) بن حُصَين : أنه سُئِل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال : طَلَّقتَ لغير سنة ، ورجعت لغير سنة ، وأشهِدْ على طلاقها وعلى رجعتها ، ولا تَعُدْ (4) (5)
وقال ابن جريج : كان عطاء يقول : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } قال : لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا رجاع إلا شاهدا عدل ، كما قال الله ، عز وجل ، إلا أن يكون من عذر.
وقوله : { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : هذا الذي أمرناكم به من الإشهاد وإقامة الشهادة ، إنما يأتمر به من يؤمن بالله وأنه شرع هذا ، ومن يخاف عقاب (6) الله في الدار الآخرة.
__________
(1) المعجم الكبير (24/382) وسنن النسائي (6/144).
(2) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (4/74).
(3) في م : "عن عمرو"
(4) في أ : "ولا تعتد".
(5) سنن أبي داود برقم (2186) وسنن ابن ماجة برقم (2025).
(6) في م : "ويخاف عذاب".

(8/145)


ومن ها هنا ذهب الشافعي - في أحد قوليه - إلى وجوب الإشهاد في الرجعة ، كما يجب عنده في ابتداء النكاح. وقد قال بهذا طائفة من العلماء ، ومن قال بهذا يقول : إن الرجعة لا تصح إلا بالقول ليقع الإشهاد عليها.
وقوله : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } أي : ومن يتق الله فيما أمره به ، وتَرَك ما نهاه عنه ، يجعل له من أمره مخرجًا ، ويرزقه من حيث لا يحتسب ، أي : من جهة لا تخطر بباله.
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا كَهمس بن الحسن ، حدثنا أبو السليل ، عن أبي ذر قال : جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو عَلَيَّ هذه الآية : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } حتى فرغ من الآية ، ثم قال : "يا أبا ذر ، لو أن الناس كلهم أخذوا بها كفتهم". وقال : فجعل يتلوها ويُرددها علي حتى نَعَست ، ثم قال : "يا أبا ذر ، كيف تصنع إن (1) أخرجت من المدينة ؟. "قلت : إلى السعة والدّعة (2) أنطلق ، فأكون حمامة من حمام مكة. قال : "كيف تصنع إن أخرجت من مكة ؟". قال : قلت : إلى السعة والدّعة ، وإلى الشام والأرض المقدسة. قال : "وكيف تصنع إن أخرجتَ من الشام ؟". قلت : إذا - والذي بعثك بالحق (3) - أضع سيفي على عاتقي. قال : "أوخير من ذلك ؟". قلت : أوخير من ذلك ؟ قال : "تسمع وتطيع ، وإن كان عبدًا حبشيًّا" (4)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا زكريا ، عن عامر ، عن شُتَير (5) بن شكَل قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول : إن أجمع آية في القرآن : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ } [النحل : 90] وإن أكثر آية في القرآن فرجًا : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا }
وفي المسند : حدثني مهدي بن جعفر ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الحكم بن مصعب ، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن جده عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هَمٍّ فرجًا ، ومن كل ضيق مخرجًا ، ورزقه من حيث لا يحتسب" (6)
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } يقول : ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة ، { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ }
وقال الربيع بن خثيم : { يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } أي : من كل شيء ضاق على الناس.
وقال عكرمة : من طلق كما أمره الله يجعل له مخرجًا. وكذا روي عن ابن عباس ، والضحاك.
__________
(1) في م : "إذا".
(2) في م : "إلى الدعة والسعة".
(3) في أ : "بالحق نبيا".
(4) المسند (5/178).
(5) في أ : "عن بسر".
(6) المسند (1/248).

(8/146)


وقال ابن مسعود ، ومسروق : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } يعلم أن الله إن شاء منع ، وإن شاء أعطى { مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } أي (1) من حيث لا يدري.
وقال قتادة : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } أي : من شبهات الأمور والكرب (2) عند الموت ، { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } ومن حيث لا يرجو أو لا يأمل.
وقال السدي : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ } يطلق للسنة ، ويراجع للسنة ، وزعم أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له : "عوف بن مالك الأشجعي" كان له ابن ، وأن المشركين أسروه ، فكان فيهم ، وكان أبوه يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشكو إليه مكان ابنه وحاله التي هو بها وحاجته ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بالصبر ، ويقول له : "إن الله سيجعل لك فرجًا" (3) فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيرًا أن انفلت ابنه من أيدي العدو فمر بغنم من أغنام العدو ، فاستاقها فجاء بها إلى أبيه ، وجاء معه بغنى (4) قد أصابه من الغنم ، فنزلت فيه هذه الآية : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ }
رواه ابن جرير ، (5) وروي أيضًا من طريق سالم بن أبي الجعد مرسلا نحوه (6)
وقال الإمام أحمد ، حدثنا وكَيع ، حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن عيسى ، عن عبد الله بن أبي الجعد ، عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن العبد لَيُحْرَمُ الرزق بالذنب يُصيبُه ، ولا يرد القدر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر".
ورواه النسائي وابن ماجة ، من حديث سفيان - وهو الثوري - به (7)
وقال محمد بن إسحاق : جاء مالك الأشجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : له أسر ابني عوف. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أرسل إليه أن رسول الله يأمرك أن تكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله". وكانوا قد شدوه بالقد فسقط القِد عنه ، فخرج ، فإذا هو بناقة لهم فركبها ، وأقبل فإذا بسَرْح القوم الذين كانوا قد شدوه فصاح بهم ، فاتبع أولها آخرها ، فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب ، فقال أبوه : عوف ورب الكعبة. فقالت أمه : واسوأتاه. وعوف كيف يقدم لما هو فيه من القد - فاستبقا الباب والخادم ، فإذا عوف قد ملأ الفناء إبلا فقص على أبيه أمره وأمر الإبل ، فقال أبوه : قفا حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله عنها. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبر عوف وخبر الإبل ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اصنع بها ما أحببت ، وما كنت صانعًا بمالك". ونزل : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ }
__________
(1) في م : "أو".
(2) في أ : "والكروب".
(3) في م ، أ : "مخرجًا".
(4) في م : "يغنم".
(5) تفسير الطبري (28/89).
(6) تفسير الطبري (28/90) وقد جاء موصلاً ، أخرجه الحاكم في المستدرك (2/492) من طريق عبيد بن كثير العامري ، عن عباد بن يعقوب ، عن يحيى بن آدم ، عن إسرائيل ، عن عمار بن أبي معاوية ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن جابر ، رضي الله عنه ، قال : نزلت هذه الآية... فذكر نحو رواية السدي ، وقال الحاكم : "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وتعقبه الذهبي بقوله : "بل منكر ، فيه عباد بن يعقوب رافضي جبل ، وعبيد بن كثير العامري متروك ، قاله الأزدي".
(7) المسند (5/277) وسنن ابن ماجة برقم (4022).

(8/147)


رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق ، حدثنا إبراهيم بن الأشعث ، حدثنا الفضيل بن عياض ، عن هشام بن حسان (1) عن عمران بن حُصَين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من انقطع إلى الله كفاه الله كل مَئُونة ، ورزقه من حيث لا يحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكَلَه إليها" (2)
وقوله : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } قال الإمام أحمد :
حدثنا يونس ، حدثنا ليث ، حدثنا قيس بن الحجاج ، عن حَنَش الصنعاني ، عن عبد الله بن عباس : أنه حدثه أنه ركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا غلام ، إني معلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك ، لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف".
وقد رواه الترمذي من حديث الليث بن سعد ، وابن لَهِيعة ، به (3) وقال : حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا بشير بن سلمان ، عن سيار أبي الحكم ، عن طارق بن شهاب ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من نزل به حاجة فأنزلها بالناس كان قمنًا أن لا تُسَهَّل حاجته ، ومن أنزلها بالله أتاه الله برزق عاجل ، أو بموت آجل".
ثم رواه عن عبد الرزاق ، عن سفيان ، عن بشير ، عن سيار أبي حمزة ، ثم قال : وهو الصواب ، وسيار أبو الحكم لم يحدث عن طارق (4)
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } أي : منفذ قضاياه وأحكامه في خلقه بما يريده ويشاؤه { قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } كقوله : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ } [الرعد : 8]
__________
(1) في م ، أ ، هـ : "الحسن" مستفادًا من هامش ط. الشعب.
(2) ورواه الطبراني في المعجم الصغير (1/116) ومن طريقه الخطيب في تاريخه (7/197) من طريق جعفر بن محمد البغدادي ، عن محمد بن علي بن الحسن بن شقيق به ، وقال الطبراني : "لم يروه عن هشام إلا الفضيل ، تفرد به إبراهيم بن الأشعث" وقال الهيثمي في المجمع (10/304) : "وفيهإبراهيم بن الأشعث صاحب الفضيل وهو ضعيف ، وقد ذكره ابن حبان في الثقات وقال : يغرب ويخطئ ويخالف ، وبقية رجاله ثقات".
(3) المسند (1/293) وسنن الترمذي برقم (2326).
(4) المسند (1/442).

(8/148)


وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)

{ وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) }
يقول تعالى مبينًا لعدة الآيسة - وهي التي قد انقطع عنها الحيض لكبرها - : أنها ثلاثة أشهر ، عوضًا عن الثلاثة قروء في حق من تحيض ، كما دلت على ذلك آية "البقرة" (1) وكذا الصغار اللائي لم يبلغن سن الحيض أن عدتهن كعدة الآيسة ثلاثة أشهر ؛ ولهذا قال : { وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ }
وقوله : { إِنِ ارْتَبْتُمْ } فيه قولان :
أحدهما - وهو قول طائفة من السلف ، كمجاهد ، والزهري ، وابن زيد - : أي إن رأين دما وشككتم في كونه حيضًا أو استحاضة ، وارتبتم فيه.
والقول الثاني : إن ارتبتم في حكم عدتهن ، ولم تعرفوه فهو ثلاث أشهر. وهذا مروي ، عن سعيد بن جبير. وهو اختيار ابن جرير ، وهو أظهر في المعنى ، وَاحتَجَّ عليه بما رواه عن أبي كُرَيْب وأبي السائب قالا حدثنا ابن إدريس ، أخبرنا مطرف ، عن عمرو بن سالم قال : قال أبي بن كعب : يا رسول الله ، إن عِددًا من عِدد النساء لم تذكر في الكتاب : الصغار والكبار وأولات الأحمال (2) قال : فأنزل الله عز وجل : { وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ }
ورواه ابن أبي حاتم بأبسط من هذا السياق فقال : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، أخبرنا جرير ، عن مُطرِّف ، عن عمر (3) بن سالم ، عن أبي بن كعب قال : قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن ناسا من أهل المدينة لما أنزلت هذه الآية التي في "البقرة" في عدة النساء قالوا : لقد بقي من عدة النساء عِدَدٌ لم يُذكَرْن في القرآن : الصغار والكبار اللائي قد انقطع عنهن الحيض ، وذوات الحمل. قال : فأنزلت التي في النساء القصرى : { وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ }
وقوله : { وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } يقول تعالى : ومن كانت حاملا فعدتها بوضعه ، ولو كان بعد الطلاق أو الموت بفُوَاق ناقة (4) في قول جمهور العلماء من السلف والخلف ، كما هو نص هذه الآية الكريمة ، وكما وردت به السنة النبوية. وقد رُوي عن علي ، وابن عباس ، رضي الله عنهم (5) أنهما ذهبا في المتوفى عنها زوجها أنها تعتد بأبعد الأجلين من الوضع أو الأشهر ، عملا بهذه الآية الكريمة ، والتي في سورة "البقرة". وقد قال البخاري :
حدثنا سعد (6) بن حفص ، حدثنا شيبان ، عن يحيى قال : أخبرني أبو سلمة قال : جاء رجل إلى ابن عباس - وأبو هريرة جالس - فقال : أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة. فقال : ابن عباس آخر الأجلين. قلت أنا : { وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } قال أبو هريرة :
__________
(1) هي الآية 228.
(2) في أ : "الأحمال أجلهن".
(3) في أ : "عن عمرو".
(4) في أ : : بفراق تامة".
(5) في أ : "عنهما".
(6) فيأ : "سعيد".

(8/149)


أنا مع ابن أخي - يعني أبا سلمة - فأرسل ابن عباس غلامه كريبا إلى أم سلمة يسألها ، فقالت : قُتِل زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى ، فوضعت بعد موته بأربعين ليلة ، فخطبت ، فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أبو السنابل فيمن خطبها (1)
هكذا أورد البخاري هذا الحديث هاهنا مختصرًا. وقد رواه هو ومسلم وأصحاب الكتب مطولا من وجوه أخر (2) وقال الإمام أحمد :
حدثنا حماد بن أسامة ، أخبرنا هشام ، عن أبيه ، عن المسور بن مَخْرَمَة ؛ أن سُبَيعَة الأسلمية تُوفي عنها زوجُها وهي حامل ، فلم تمكث إلا ليالي حتى وضعت ، فلما تَعَلَّت من نفاسها خُطِبت ، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النكاح ، فأذن لها أن تُنكَح فنُكحت.
ورواه البخاري في صحيحه ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة من طرق عنها (3) كما قال مسلم ابن الحجاج :
حدثني أبو الطاهر ، أخبرنا ابن وهب ، حدثني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة : أن أباه كتب إلى عمر بن عبد الله بن الأرقم الزهري يأمره أن يدخل على سُبَيعة بنت الحارث الأسلمية فيسألها عن حديثها وعما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استفتته. فكتب عُمر بن عبد الله يخبره أن سبيعة أخبرته أنها كانت تحت سَعد (4) بن خَولة - وكان ممن شهد بدرًا - فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل ، فلم تَنشَب أن وضعت حملها بعد وفاته ، فلما تَعَلَّت من نفاسها تجملت للخطاب ، فدخل عليها أبو السنابل بن بَعكك فقال لها : مالي أراك متجملة ؟ لعلك تَرجين النكاح ، إنك والله ما أنت بناكح حتى تَمرَ عليك أربعة أشهر وعشرٌ. قالت سُبيَعة : فلما قال لي ذلك جَمعتُ عليّ ثيابي حين أمسيتُ فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك ، فأفتاني بأني قد حَلَلت حين وضعتُ حملي ، وأمرني بالتزويج (5) إن بدا لي.
هذا لفظ مسلم. ورواه البخاري مختصرًا (6) ثم قال البخاري بعد [ذلك ، أي : بعد] (7) رواية الحديث الأول عند هذه الآية :
وقال (8) سليمان بن حرب وأبو النعمان : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن محمد - هو ابن سيرين - قال : كنت في حلقة فيها عبد الرحمن بن أبي ليلى ، رحمه الله ، وكان أصحابه يعظمونه ، فذكر آخر الأجلين ، فحدّثتُ بحديث سُبَيعة بنت الحارث عن عبد الله بن عتبة ، قال :
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4909).
(2) صحيح البخاري برقم (5318) وصحيح مسلم برقم (1485) وسنن النسائي (6/191).
(3) المسند (4/327) وصحيح البخاري برقم (5320) وسنن النسائي (6/190) وسنن ابن ماجة برقم (2092) كلهم من هذا الطريق الذي ساقه الإمام أحمد ، وأما مسلم وأبو داود فهو هذا الطريق الآتي بعده ، صحيح مسلم برقم (1484) وسنن أبي داود برقم (2306).
(4) في أ : "سعيد".
(5) في م ، أ : "بالتزويج"
(6) صحيح مسلم برقم (1484) وصحيح البخاري برقم (5319 ، 3991).
(7) زيادة من أ.
(8) في م : "وقال أبو سليمان".

(8/150)


فَضَمَّزَلي (1) بعض أصحابه ، وقال محمد : ففطنت له فقلت : له إني لجريءٌ أن أكذبَ على عبد الله وهو في ناحية الكوفة. قال : فاستحيا وقال : لكن عَمّه لم يقل ذلك. فلقيت أبا عطية مالك بن عامر فسألته ، فذهب يحدثني بحديث سُبَيعة ، فقلت : هل سمعت عن عبد الله شيئا ؟ فقال : كنا عند عبد الله فقال : أتجعلون عليها التغليظ ، ولا تجعلون عليها الرخصة ؟ نزلت (2) سورة النساء القصرى بعد الطولى : { وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ }
ورواه ابن جرير ، من طريق سفيان بن عيينة وإسماعيل بن عُلَيَّة ، عن أيوب به مختصرا (3) ورواه النسائي في التفسير عن محمد بن عبد الأعلى ، عن خالد بن الحارث ، عن ابن عون ، عن محمد بن سيرين ، فذكره (4)
وقال ابن جرير : حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثني ابن شَبْرَمة الكوفي ، عن إبراهيم ، عن علقمة بن قيس ؛ أن عبد الله بن مسعود قال : من شاء لاعنته ، ما نزلت : { وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها. قال : وإذا وضعت المتوفى عنها زوجها فقد حلت. يريد بآية المتوفى عنها زوجها { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } [البقرة : 234]
وقد رواه النسائي من حديث سعيد بن أبي مريم ، به (5) ثم قال ابن جرير :
حدثنا أحمد بن مَنِيع ، حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي قال : ذُكِرَ عند ابن مسعود آخر الأجلين ، فقال : من شاء قاسمته بالله إن هذه الآية التي في النساء القصرى نزلت بعد الأربعة الأشهر والعشر ثم قال أجل الحامل أن تضع ما في بطنها (6).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضُّحى ، عن مسروق قال : بلغ ابن مسعود أن عليا ، رضي الله عنه ، يقول : آخر الأجلين. فقال : من شاء لاعنته ، إن التي في النساء القُصرَى نزلت بعد البقرة : { وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ }
ورواه أبو داود وابن ماجة ، من حديث أبي معاوية ، عن الأعمش (7)
وقال عبد الله ابن الإمام أحمد : حدثني محمد بن أبي بكر المقدّمي ، أخبرنا عبد الوهاب الثقفي ، حدثنا المثنى ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو ، عن أبي بن كعب قال : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : { وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } المطلقة ثلاثا أو المتوفى
__________
(1) في أ : "فضم لي".
(2) في م : "أنزلت".
(3) تفسير الطبري (28/92).
(4) هو في سنن النسائي (6/196) ولم أقع عليه في الكبرى.
(5) تفسير الطبري (28/92) وسنن النسائي (6/197).
(6) تفسير الطبري (28/92).
(7) سنن أبي داود برقم (2307) وسنن ابن ماجة برقم (2030).

(8/151)


عنها (1) ؟ فقال : "هي المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها" (2)
هذا حديث غريب جدا ، بل منكر ؛ لأن في إسناده المثنى بن الصباح ، وهو متروك الحديث بمِرّة ولكن رواه ابن أبي حاتم بسند آخر ، فقال :
حدثنا محمد بن داود السِّمْناني ، حدثنا عمرو بن خالد - يعني : الحراني - حدثنا ابن لَهِيعة ، عن عمرو بن شعيب ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي بن كعب ، أنه لما نزلت هذه الآية قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أدري أمشتركة أم مبهمة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أية آية ؟". قال : { أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } المتوفى عنها والمطلقة ؟ قال : "نعم".
وكذا رواه ابن جرير ، عن أبي كُرَيْب ، عن موسى بن داود ، عن ابن لهيعة ، به. ثم رواه عن أبي كريب أيضا ، عن مالك بن إسماعيل ، عن ابن عيينة ، عن عبد الكريم بن أبي المخارق أنه حدث عن أبيّ بن كعب قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن : { وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } قال : "أجل ، كل حامل أن تضع ما في بطنها" (3)
عبد الكريم هذا ضعيف ، ولم يدرك أُبَيّا.
وقوله : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } أي : يسهل له أمره ، وييسره عليه ، ويجعل له فرجا قريبًا ومخرجًا عاجلا.
ثم قال : { ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزلَهُ إِلَيْكُمْ } أي : حكمه وشرعه أنزله إليكم بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا } أي : يذهب عنه المحذور ، ويجزل له الثواب على العمل اليسير.
__________
(1) في م : "عنها زوجها".
(2) زوائد المسند (5/116).
(3) تفسير الطبري (28/93) وقال الحافظ بن حجر في الفتح (8/654) بعد ما ساق هذه الرواية : "وهذا المرفوع وإن كان لا يخلو شيء من أسانيده عن مقال ، لكن كثرة طرقه تشعر بأن له أصلا ، ويعضده قصة سبيعة المذكورة".

(8/152)


أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)

{ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) }
يقول تعالى آمرًا عباده إذا طلّق أحدُهم المرأة أن يُسكنَها في منزل حتى تنقضي عدتها ، فقال : { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ } أي : عندكم ، { مِنْ وُجْدِكُمْ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وغير واحد : يعني سَعَتكم. حتى قال قتادة : إن لم تجد إلا جنب بيتك فأسكنها فيه.

(8/152)


وقوله : { وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ } قال مقاتل بن حيان : يعني يضاجرها لتفتدي منه بمالها أو تخرج من مسكنه.
وقال الثوري ، عن منصور ، عن أبي الضُّحَى : { وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ } قال : يطلقها ، فإذا بقي يومان راجعها.
وقوله : { وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } قال كثير من العلماء منهم ابن عباس ، وطائفة من السلف ، وجماعات من الخلف : هذه في البائن ، إن كانت حاملا أنفق عليها حتى تضع حملها ، قالوا : بدليل أن الرجعية تجب نفقتها ، سواء كانت حاملا أو حائلا.
وقال آخرون : بل السياق كله في الرجعيات ، وإنما نص على الإنفاق على الحامل وإن كانت رجعية ؛ لأن الحمل تطول مدته غالبا ، فاحتيج إلى النص على وجوب الإنفاق إلى الوضع ؛ لئلا يتوهم أنه إنما تجب النفقة بمقدار مدة العدة.
واختلف العلماء : هل النفقة لها بواسطة الحمل ، أم للحمل وحده ؟ على قولين منصوصين عن الشافعي وغيره ، ويتفرع عليها مسائل مذكورة في علم الفروع.
وقوله : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } أي : إذا وضعن حملهن وهن طوالق ، فقد بنَّ بانقضاء عدتهن ، ولها حينئذ أن ترضع الولد ، ولها أن تمتنع منه ، ولكن بعد أن تغذيه باللبَّأ - وهو باكورة اللبن الذي لا قوام للولد غالبًا إلا به - فإن أرضعت استحقت أجر مثلها ، ولها أن تعاقد أباه أو وليه على ما يتفقان عليه من أجرة ؛ ولهذا قال تعالى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وقوله : { وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ } أي : ولتكن أموركم فيما بينكم بالمعروف ، من غير إضرار ولا مضارة ، كما قال تعالى في سورة "البقرة" : { لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ } [البقرة : 233]
وقوله : { وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى } أي : وإن اختلف الرجل والمرأة ، فطلبت المرأة أجرة الرضاع كثيرًا ولم يجبها الرجل إلى ذلك ، أو بذل الرجل قليلا ولم توافقه عليه ، فليسترضع له غيرها. فلو رضيت الأم بما استؤجرت عليه الأجنبية فهي أحق بولدها.
وقوله : { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ } أي : لينفق على المولود والده ، أو وليه ، بحسب قدرته ، { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا } كقوله : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } [البقرة : 286].
روى ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا حَكَّام ، عن أبي سنان قال : سأل عمر بن الخطاب عن أبي عبيدة ، فقيل : إنه يلبس الغليظ من الثياب ، ويأكل أخشن الطعام ، فبعث إليه بألف دينار ، وقال للرسول : انظر ما يصنع بها إذا هو أخذها : فما لبث أن لبس اللين من الثياب ، وأكل أطيب الطعام ، فجاءه الرسول فأخبره ، فقال : رحمه الله ، تأول هذه الآية : { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ } (1)
__________
(1) تفسير الطبري (28/96).

(8/153)


وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير : حدثنا هاشم بن مرثد الطبراني ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ، أخبرني أبي ، أخبرني ضَمْضَم بن زُرْعَة ، عن شُرَيح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعري - واسمه الحارث - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثلاثة نفر ، كان لأحدهم عشرة دنانير ، فتصدق منها بدينار. وكان لآخر عشر أواق ، فتصدق منها بأوقية. وكان لآخر مائة أوقية ، فتصدق منها بعشر أواق". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هم في الأجر سواء ، كل قد تصدق بعشر ماله ، قال الله تعالى : { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ } (1)
هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقوله : { سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } وعد منه تعالى ، ووعده حق ، لا يخلفه ، وهذه كقوله تعالى : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } [الشرح : 5 ، 6]
وقد روى الإمام أحمد حديثا يحسن أن نذكره ها هنا ، فقال : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا عبد الحميد بن بَهْرَام ، حدثنا شَهْر بن حَوْشَب قال : قال أبو هريرة : بينما رجل وامرأة له في السلف الخالي لا يقدران على شيء ، فجاء الرجل من سفره ، فدخل على امرأته جائعا قد أصاب (2) مَسْغَبَةً شديدة ، فقال لامرأته : عندك شيء ؟ قالت : نعم ، أبشر ، أتاك رزق الله ، فاستحثها ، فقال : ويحك! ابتغي إن كان عندك شيء. قالت نعم ، هُنَيهة - ترجو رحمة الله - حتى إذا طال عليه الطوى (3) قال : ويحك! قومي فابتغي إن كان عندك شيء فائتيني به ، فإني قد بُلغتُ وجَهِدتُ. فقال : نعم ، الآن يُنضح التنور فلا تعجل. فلما أن سكت عنها ساعة وتحيّنت أن يقول لها ، قالت من عند نفسها : لو قمتُ فنظرتُ إلى تنوري ؟ فقامَتْ فنظرَت إلى تَنورها ملآن من جنُوبَ الغنم ، ورَحييها تطحنَان. فقامت إلى الرحى فنَفضتها ، واستخرجت ما في تنورها من جنوب الغنم.
قال أبو هريرة : فوالذي نفس أبي القاسم بيده ، هو (4) قول محمد صلى الله عليه وسلم : "لو أخذت ما في رَحييها ولم تنفضها لطحنتا إلى يوم القيامة" (5)
وقال في موضع آخر : حدثنا أبو عامر ، حدثنا أبو بكر ، عن هشام ، عن محمد - وهو ابن سيرين - عن أبي هريرة قال : دخل رجل على أهله ، فلما رأى ما بهم من الحاجة خرج إلى البَرِيَّة ، فلما رأت امرأته قامت إلى الرحى فوضعتها ، وإلى التنور فسَجَرته ، ثم قالت : اللهم ارزقنا. فنظرت ، فإذا الجفنة قد امتلأت ، قال : وذهبت إلى التنور فوجدته ممتلئًا ، قال : فرجع الزوج قال : أصبتم بعدي شيئا ؟ قالت امرأته : نعم ، من ربنا. قام إلى الرحى ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أما إنه لو لم ترفعها ، لم تزل تدور إلى يوم القيامة" (6)
__________
(1) المعجم الكبير (3/292) وفس إسناده ضعف وانقطاع كما تقدم مرارًا.
(2) في م ، أ : "أصابته".
(3) في م : "الطول".
(4) في م : "عن".
(5) المسند (2/421).
(6) المسند (2/513).

(8/154)


وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)

{ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) }
يقول تعالى متوعدًا لمن خالف أمره ، وكذب رسله ، وسلك غير ما شرعه ، ومخبرًا عما حل بالأمم السالفة بسبب ذلك ، فقال : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ } أي : تمردت وطغت واستكبرت عن اتباع أمر الله ومتابعة رسله ، { فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا } أي : منكرا فظيعًا.
{ فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا } أي : غبّ مخالفتها ، وندموا حيث لا ينفعهم الندم ، { وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا } أي : في الدار الآخرة ، مع ما عَجَّل لهم في الدنيا.
ثم قال بعد ما قص من خبر هؤلاء : { فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ } أي : الأفهام المستقيمة ، لا تكونوا مثلهم فيصيبكم ما أصابهم يا أولي الألباب ، { الَّذِينَ آمَنُوا } أي : صدقوا بالله ورسله ، { قَدْ أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا } يعني : القرآن. كقوله { إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر : 9]
وقوله : { رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ } قال بعضهم : { رَسُولا } منصوب على أنه بدل اشتمال وملابسة ؛ لأن الرسول هو الذي بلغ الذكر.
وقال ابن جرير : الصواب أن الرسول ترجمة عن الذكر ، يعني تفسيرًا له ولهذا قال تعالى : { رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ } أي في حال كونها بينة واضحة جلية { لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } كقوله تعالى { كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [إبراهيم : 1] وقال تعالى { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [البقرة : 257] أي من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم وقد سمى الله تعالى الوحي الذي أنزله نورا لما يحصل به من الهدى كما سماه روحا لما يحصل به من حياة القلوب فقال : تعالى { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الشورى : 52] وقوله : { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا }

(8/155)


اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)

قد تقدم تفسير مثل هذا غير مَرّة بما أغنى عن إعادته.
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) }
يقول تعالى مخبرا عن قدرته التامة وسلطانه العظيم ليكون ذلك باعثًا على تعظيم ما شرع من الدين القويم { اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } كقوله تعالى إخبارًا عن نوح أنه قال لقومه { أَلَمْ تَرَوا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا } [نوح : 15] وقال تعالى { تُسَبّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ والأرْضُ وَمَن فِيهنَّ } [الإسراء : 44]. وقوله تعالى { وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ } أي سبعا أيضا ، كما ثبت في الصحيحين "من ظلم قيدَ شِبر من الأرض طُوِّقه من سبع أرضين " (1) وفي صحيح البخاري "خُسِف به إلى سبع أرضين " (2) وقد ذُكِرت طُرقه وألفاظه وعزوه في أول" البداية والنهاية" (3) عند ذكر خلق الأرض ولله الحمد والمنة.
ومن حمل ذلك على سبعة أقاليم فقد أبعد النَّجْعَة ، وأغرق في النزع وخالف القرآن والحديث بلا مستند. وقد تقدم في سورة الحديد عند قوله : { هُوَ الأوَّلُ والآخِرُ والظَّاهِرُ والْبَاطِنُ } [الآية : 3] ذكر الأرضين السبع ، وبعد ما بينهن وكثافة كل واحدة منهن خمسمائة عام وهكذا قال ابن مسعود وغيره ، وكذا في الحديث الآخر "ما السماوات السبع وما فيهن وما بينهن والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة" (4). وقال ابن جرير حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا وَكِيع حدثنا الأعمش عن إبراهيم بن مُهَاجِر عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : { سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ } قال لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم وكفركم تكذيبكم بها.
وحدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب بن عبد الله بن سعد القُميّ الأشعري عن جعفر بن أبي المغيرة الخزاعي عن سعيد بن جبير ، قال : قال رجل لابن عباس { اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ } الآية. فقال : ابن عباس ما يؤمنك إن أخبرتك بها فتكفر. وقال ابن جرير حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عمرو بن مُرَّة عن أبي الضُّحى عن ابن عباس في هذه الآية { اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ } قال عمرو قال في كل أرض مثل إبراهيم ونحو ما على الأرض من
__________
(1) صحيح البخاري برقم (2453) وصحيح مسلم برقم (1612) من حديث عائشة ، رضي الله عنها
(2) صحيح البخاري برقم (5454) من حديث ابن عمر ، رضي الله عنه
(3) البداية والنهاية (1/16) ما جاء من سبع أرضين
(4) سبق تخريج الحديث عند تفسير الآية : 255 من سورة البقرة

(8/156)


الخلق.
وقال ابن المثنى في حديثه في كل سماء إبراهيم (1) وقد وروى البيهقي في كتاب الأسماء والصفات هذا الأثر عن ابن عباس بأبسط من هذا [السياق] (2) فقال : أنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أحمد بن يعقوب حدثنا عبيد بن غنام النخعي أنا علي بن حكيم حدثنا شريك عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس قال { اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ } قال سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى.
ثم رواه البيهقي من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن ابن عباس في قول الله عز وجل { اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ } قال في كل أرض نحو إبراهيم عليه السلام.
ثم قال البيهقي إسناد هذا عن ابن عباس صحيح وهو شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعا والله أعلم
قال الإمام أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا القرشي في كتابه التفكر والاعتبار حدثني إسحاق بن حاتم المدائني حدثنا يحيى بن سليمان عن عثمان بن أبي دهرس قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى أصحابه وهم سكوت لا يتكلمون فقال : "ما لكم لا تتكلمون ؟ "فقال : وا نتفكر في خلق الله عز وجل قال "فكذلك فافعلوا تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا فيه فإن بهذا المغرب أرضا بيضاء نورها ساحتها (3) - أو قال ساحتها (4) نورها - مسيرة الشمس أربعين يومًا بها خلقُ (5) الله تعالى لم يعصُوا الله طَرفة عين قطّ "قالوا فأين الشيطان عنهم ؟ قال "ما يدرون خلق الشيطان أم لم يخلق ؟ "قالوا أمن ولد آدم ؟ قال "لا يدرون خلق آدم أم لم يخلق ؟ " (6)
وهذا حديث مرسل وهو منكر جدًّا وعثمان بن أبي دهرش ذكره ابن أبي حاتم في كتابه فقال : روى عن رجل من آل الحكم بن أبي العاص وعنه سفيان بن عيينة ويحيى بن سليم الطائفي وابن المبارك سمعت أبي يقول ذلك. (7)
__________
(1) تفسير الطبري (28/99)
(2) زيادة من م
(3) في م "نورها بيضاء"
(4) في م "بياضها"
(5) في م "خلق من خلق"
(6) الحديث ذكره السيوطي في الدر المنثور (2/408) وعزاه لابن أبي الدنيا
(7) الجرح والتعديل (6/149)

(8/157)


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)

تفسير سورة التحريم
وهي مدنية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) }
اختلُف في سبب نزول صدر هذه السورة ، فقيل : نزلت في شأن مارية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرمها ، فنزل قوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ } الآية.
قال أبو عبد الرحمن النسائي : أخبرنا إبراهيم بن يونس بن محمد ، حدثنا أبي ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها ، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حَرَّمها ، فأنزل الله ، عز وجل : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ إلى آخر الآية (1).
وقال ابن جرير : حدثني ابن عبد الرحيم البرقي (2) حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا أبو غسان ، حدثني زيد بن أسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب أم إبراهيم في بيت بعض نسائه ، فقالت : أي رسول الله ، في بيتي وعلى فراشي ؟! فجعلها عليه حرامًا فقالت : أيْ رسول الله ، كيف يَحْرُم عليك الحلال ؟ فحلف لها بالله لا يصيبها. فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ قال زيد : بن أسلم فقوله : أنت عليَّ حرام لغو (3).
وهكذا روى عبد الرحمن بن زيد ، عن أبيه.
وقال ابن جرير أيضًا حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، قال : قل لها : "أنت عليَّ حرام ، ووالله لا أطؤك".
__________
(1) سنن النسائي الكبرى برقم (11607).
(2) في أ : "الرقي".
(3) تفسير الطبري (28/100).

(8/158)


وقال سفيان الثوري وابن عُلَيَّة ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرم ، فعُوتِبَ في التحريم ، وأمر بالكفارة في اليمين. رواه ابن جرير. وكذا روي عن قتادة ، وغيره ، عن الشعبي ، نفسه. وكذا قال غير واحد من السلف ، منهم الضحاك ، والحسن ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان ، وروى العوفي ، عن ابن عباس القصة مطولة.
وقال ابن جرير : حدثنا سعيد بن يحيى ، حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عُبَيْد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس قال : قلت لعمر بن الخطاب من المرأتان ؟ قال : عائشة وحفصة. وكان بدء الحديث في شأن أم إبراهيم القبطية ، أصابها النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة في نوبتها (1) فَوَجَدت حفصة ، فقالت : يا نبي الله ، لقد جئت إليَّ شيئا ما جئت إلى أحد من أزواجك ، في يومي ، وفي دوري ، وعلى فراشي. قال : "ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها ؟". قالت : بلى. فحَرَّمها وقال : "لا تذكري ذلك لأحد". فذكرته لعائشة ، فأظهره الله عليه ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ } الآيات (2) فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفَّر [عن] (3) يمينه ، وأصاب جاريته (4).
وقال الهيثم بن كُلَيب في مسنده : حدثنا أبو قِلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا جرير بن حازم ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة : "لا تخبري أحدًا ، وإن أم إبراهيم عليَّ حرام". فقالت : أتحرم ما أحل الله لك ؟ قال : "فوالله لا أقربها". قال : فلم يقربها حتى أخبرت عائشة. قال فأنزل الله : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ }
وهذا إسناد صحيح ، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة ، وقد اختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المستخرج (5).
وقال ابن جرير : أيضا حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، حدثنا هشام الدَّسْتُوَائي قال : كتب إلي يحيى يحدث عن يعلى بن حكيم ، عن سعيد بن جبير : أن ابن عباس كان يقول في الحرام : يمين تكفرها ، وقال ابن عباس : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب : 21] يعني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم جاريته فقال الله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ إلى قوله : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } فكفر يمينه ، فصير الحرام يمينًا (6).
ورواه البخاري عن معاذ بن فضالة ، عن هشام - هو الدستوائي - عن يحيى - هو ابن كثير - عن ابن حكيم - وهو يعلى - عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في الحرام : يمين تُكَفر. وقال
__________
(1) في أ : "في يومها".
(2) في م ، أ : "الآيات كلها".
(3) زيادة من أ.
(4) تفسير الطبري (28/102) وأصله في الصحيح وسيأتي.
(5) المختارة للضياء المقدسي برقم (189).
(6) تفسير الطبري (28/101).

(8/159)


ابن عباس : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب : 21] (1).
ورواه مسلم من حديث هشام الدَّسْتُوَائي به (2).
وقال النسائي : أنا عبد الله بن عبد الصمد بن علي ، حدثنا مَخْلد - هو ابن يزيد - حدثنا سفيان ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أتاه رجل فقال : إني جعلت امرأتي عَلَيَّ حَرَاما ؟ قال : كذبتَ ليس عليك بحرام. ثم تلا هذه الآية : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ عليك أغلظ الكفارات ، عتق رقبة.
تفرد به النسائي من هذا الوجه ، بهذا اللفظ (3).
وقال الطبراني : حدثنا محمد بن زكَريا ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا إسرائيل ، عن مسلم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ قال : حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم سُرَيَّته (4).
ومن هاهنا ذهب من ذهب من الفقهاء ممن قال بوجوب الكفارة على من حرم جاريته أو زوجته أو طعامًا أو شرابًا أو ملبسًا أو شيئًا من المباحات ، وهو مذهب الإمام أحمد وطائفة. وذهب الشافعي إلى أنه لا تجب الكفارة فيما عدا الزوجة والجارية ، إذا حَرَّم عينيهما أو أطلق التحريم فيهما في قوله ، فأما إن نوى بالتحريم طلاق الزوجة أو عتق الأمة ، نفذ فيهما.
وقال ابن أبي حاتم : حدثني أبو عبد الله الظهراني (5) أخبرنا حفص بن عمر العَدَني ، أخبرنا الحكم بن أبان ، حدثنا عكرمة ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ في المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا قول غريب ، والصحيح أن ذلك كان في تحريمه العَسَل ، كما قال البخاري عند هذه الآية :
حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا هشام بن يوسف ، عن ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن عبيد (6) بن عمير ، عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جَحش ، ويمكث عندها ، فتواطأتُ أنا وحفصةُ على : أيتُنا دخلَ عليها ، فلتقل له : أكلتَ مَغَافير ؟ إني أجد منك ريح مغافير. قال : "لا ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جَحش ، فلن أعود له ، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا" ، { تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ } (7).
هكذا أورد هذا الحديث هاهنا بهذا اللفظ ، وقال في كتاب "الأيمان والنذور" : حدثنا الحسن بن محمد ، حدثنا الحجاج ، عن ابن جريج قال : زعم عطاء أنه سمع عُبَيد بن عمير يقول : سمعتُ عائشة تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جَحش ويشرب
__________
(1) صحيح البخاري برقم(4911).
(2) صحيح مسلم برقم (1473).
(3) سنن النسائي الكبرى برقم (11609).
(4) المعجم الكبير (11/86).
(5) في م : "الطبراني".
(6) في أ : "عن عبد".
(7) صحيح البخاري برقم (4912).

(8/160)


عندها عَسَلا فتواصيتُ أنا وحفصة أن أيتُنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فَلْتَقُلْ : إني أجد منك ريح مغافير ؛ أكلت مغافير ؟ فدخل على إحداهما النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ذلك له ، فقال : "لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جَحش ، ولن أعود له". فنزلت : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ إلى : { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } لعائشة وحفصة ، { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا } لقوله : "بل شربت عسلا". وقال إبراهيم بن موسى ، عن هشام : "ولن أعود له ، وقد حلفت ، فلا تخبري بذلك أحدًا" (1).
وهكذا رواه في كتاب "الطلاق" بهذا الإسناد ، ولفظه قريب منه (2). ثم قال : المغافير : شبيه بالصمغ ، يكون في الرّمث فيه حلاوة ، أغفر الرّمث : إذا ظهر فيه. واحدها مغفور ، ويقال : مغافير. وهكذا قال الجوهري ، قال : وقد يكون المغفور أيضًا للعُشر والثُّمام والسَّلَم والطلح. قال : والّرمث ، بالكسر : مرعى من مراعي الإبل ، وهو من الحَمْض. قال : والعرفط : شجر من العضاه ينضَح المغفُور [منه] (3).
وقد روى مسلم هذا الحديث في كتاب "الطلاق" من صحيحه ، عن محمد بن حاتم ، عن حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، أخبرني عطاء ، عن عُبيد بن عمير ، عن عائشة ، (4) به ، ولفظه كما أورده البخاري في "الأيمان والنذور".
ثم قال البخاري في كتاب "الطلاق" : حدثنا فروة بن أبي المغراء ، حدثنا علي بن مُسْهَر ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحَلوى والعَسل ، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه ، فيدنو من إحداهن. فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس أكثر ما كان يحتبس ، فَغِرْتُ فسألت عن ذلك ، فقيل لي : أهدت لها امرأة من قومها عُكَّة عَسَل ، فسقت النبي صلى الله عليه وسلم منه شربة ، فقلت : أما والله لنحتالَن له. فقلت لسودة بنت زَمْعَةَ : إنه سيدنو منك ، فإذا دنا منك فقولي : أكلت مغَافير ؟ فإنه سيقول ذلك (5) لا. فقولي له : ما هذه الريح التي أجد ؟ فإنه سيقول لك : سقتني حفصة شربة عسل. فقولي : جَرَسَتْ نحلُه العُرفُطَ. وسأقول ذلك ، وقولي أنت له يا صفية ذلك ، قالت - تقول سودة - : والله (6) ما هو إلا أن قام على الباب ، فأردت أن أناديه بما أمرتني فرقًا منك ، فلما دنا منها قالت له سودة : يا رسول الله ، أكلت مغافير ؟ قال : "لا ". قالت : فما هذه الريح التي أجد منك ؟ قال : "سقتني حفصة شَربة عسل". قالت : جَرَسَت نَحلُه العرفطَ. فلما دار إليَّ قلت نحو ذلك ، فلما دار إلى صفية قالت له مثل ذلك ، فلما دار إلى حفصة قالت له : يا رسول الله ، ألا أسقيك منه ؟ قال : "لا حاجةَ لي فيه". قالت - تقول سودة - : والله لقد حَرَمْنَاه. قلت لها : اسكتي (7).
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6691).
(2) صحيح البخاري برقم (5267).
(3) زيادة من الصحاح ، مادة "عرفط" 3/1142.
(4) صحيح مسلم برقم (1474).
(5) في م : "سيقول لك".
(6) في م : "فوالله".
(7) صحيح البخاري برقم (5268).

(8/161)


هذا لفظ البخاري. وقد رواه مسلم عن سُوَيد بن سَعيد ، عن علي بن مُسْهِر ، به. وعن أبي كُرَيْب وهارون بن عبد الله والحسن بن بشر ، ثلاثتهم عن أبي أسامة ، حماد بن أسامة ، عن هشام بن عروة ، به (1) وعنده قالت : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح يعني : الريح الخبيثة ؛ ولهذا قلن له : أكلت مغافير لأن ريحها فيه شيء. فلما قال : "بل شربت عسلا ". قلن : جَرَسَت نحلُه العرفطَ ، أي : رَعَت نحلُه شَجَر العرفط الذي صَمغُه المغافير ؛ فلهذا ظهر ريحُه في العسل الذي شربته.
قال الجوهري : جَرَسَت نحلُه العرفط تَجْرِس : إذا أكلته ، ومنه قيل للنحل : جوارس ، قال الشاعر :
تَظَلّ عَلَى الثَّمْرَاء مِنها جَوَارسُ...
وقال : الجَرْس والجِرْس : الصوت الخفي. ويقال : سمعت جرس الطير : إذا سمعتَ صوت مناقيرها على شيء تأكله ، وفي الحديث : "فيسمعون جَرْس طير الجنة". قال الأصمعي : كنت في مجلس شُعبة قال : "فيسمعون جَرْشَ طير الجنة" بالشين [المعجمة] (2) فقلت : "جرس" ؟! فنظر إلي فقال : خذوها عنه ، فإنه أعلم بهذا منا (3).
والغرض أن هذا السياق فيه أن حفصة هي الساقية للعسل ، وهو من طريق هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن خالته عن عائشة. وفي طريق ابن جريج عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، عن عائشة أن زينب بنت جَحش هي التي سقت العسل ، وأن عائشة وحفصة تواطأتا وتظاهرتا عليه ، فالله أعلم. وقد يقال : إنهما واقعتان ، ولا بُعْدَ في ذلك ، إلا أن كونَهما سببًا لنزول هذه الآية فيه نظر ، والله أعلم.
ومما يدل على أن عائشة وحفصة ، رضي الله عنهما ، هما المتظاهرتان الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُبَيد الله بن عبد الله بن أبي ثور ، عن ابن عباس قال : لم أزل حريصًا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى : { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } حتى حج عمر وحججت معه ، فلما كان ببعض الطريق عدَل عمر وعدلت معه بالإداوة. فتبرز ثم أتاني ، فسكبت على يديه فتوضأ ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، اللتان قال الله تعالى : { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } ؟ فقال عمر : واعجبا لك يا ابن عباس - قال الزهري : كره - والله ما سألته عنه ولم يكتمه قال : هي حفصة وعائشة. قال : ثم أخذ يسوق الحديث. قال : كنا مَعشَر قريش قومًا نَغلبُ النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تَغلِبُهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ، قال : وكان منزلي في دار بنى أمية بن زيد بالعَوَالي. قال : فغضَبت يومًا على امرأتي فإذا هي تراجعني ، فأنكرت أن تُرَاجِعني ، فقالت : ما تنكر أن أراجعك ؟ فوالله إن أزواج النبي (4)
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1474).
(2) زيادة من م.
(3) انظر : الصحاح للجوهري 2/908 ولسان العرب لابن منظور ، مادة "جرس".
(4) في م : "إن إزواج رسول الله".

(8/162)


صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. قال : فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت : أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم. قلت : وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل ؟ قالت : نعم. قلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخَسر ، أفتأمنُ إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله ، فإذا هي قد هلكت ؟ لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئًا ، وسليني من مالي ما بدا لك ، ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أوسمُ وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك - يريد عائشة - قال : وكان لي جار من الأنصار ، وكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يومًا وأنزل يومًا ، فيأتيني بخبر الوحي وغيره ، وآتيه بمثل ذلك. قال : وكنا نتحدث أن غَسَّان تُنعِل الخيل لتغزونا ، فنزل صاحبي يومًا ثم أتى عشاء ، فضرب بابي ثم ناداني ، فخرجت إليه فقال : حدث أمر عظيم! فقلت : وما ذاك ؟ أجاءت غسان ؟ قال : لا بل أعظم من ذلك وأطول! طلَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، فقلت : قد خابت حفصةُ وخَسِرت ، قد كنت أظن (1) هذا كائنا. حتى إذا صليتُ الصبح شددتُ عليَّ ثيابي ثم نزلت ، فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت : أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : لا أدري ، هو هذا معتزل في هذه المشرَبة (2) فأتيت غلامًا له أسودَ فقلت : استأذن لعمر. فدخل الغلام ثم خرج إليَ فقال : ذكرتك له فصمت. فانطلقت حتى أتيت المنبر ، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم ، فجلست قليلا ثم غلبني ما أجد ، فأتيت الغلام فقلت : استأذن لعمرَ. فدخل ثم خرج فقال : قد ذكرتك له فصمت. فخرجت فجلست إلى المنبر ، ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت : استأذن لعمر. فدخل ثم خرج إلي فقال : قد ذكرتك له فصمتَ. فوليت مدبرًا فإذا الغلام يدعوني فقال : ادخل ، قد أذن لك. فدخلتُ فسلمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو متكئ على رُمَال (3) حَصِير.
قال الإمام أحمد : وحدثناه يعقوب في حديث صالح : رُمَال حصير قد أثر في جنبه ، فقلت : أطلَّقت يا رسول الله نساءك ؟ فرفع رأسه إلي وقال : "لا". فقلت : الله أكبر ، ولو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قومًا نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ، فغضبت على امرأتي يوما ، فإذا هي تراجعني ، فأنكرت أن تراجعني ، فقالت : ما تنكر أن أراجعك ؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. فقلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر ، أفتأمنُ إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله ، فإذا هي قد هلكت. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، فَدخَلت على حفصة فقلت : لا يغُرنَّك أن كانت جارتُكِ هي أوسمُ - أو : أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك. فتبسم أخرى ، فقلت : أستأنس يا رسول الله. قال : "نعم". فجلست فرفعت رأسي في البيت ، فوالله ما رأيت في البيت شيئًا يرد البصر إلا أهَبَةٌ ثلاثة (4) فقلت : ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك ، فقد وسَّع على فارس والروم ، وهم لا يعبدون الله. فاستوى جالسًا وقال : "أفي شك أنت يا بن الخطاب ؟ أولئك قوم عُجِّلَتْ لهم طيباتهم في الحياة الدنيا". فقلت : استغفر لي يا رسول الله. وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهرًا ؛ من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله ، عز وجل (5).
__________
(1) في م : "أظن".
(2) المشربة : هي الغرفة.
(3) في م : "على رمل".
(4) في م : "معان".
(5) المسند (1/33 ، 34).

(8/163)


وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ، من طرق ، عن الزهري ، به (1) وأخرجه الشيخان من حديث يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن عُبَيد بن حُنَين ، عن ابن عباس ، قال : مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية ، فما أستطيع أن أسأله هيبةً له ، حتى خرج حاجًا فخرجت معه ، فلما رجعنا وكنا ببعض الطريق ، عدل إلى الأرَاك لحاجة له ، قال : فوقفت حتى فرغ ، ثم سرت معه فقلت : يا أمير المؤمنين ، من اللتان (2) تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم ؟ (3).
هذا لفظ البخاري ، ولمسلم : من المرأتان اللتان قال الله تعالى : { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ } ؟ قال : عائشة وحفصة. ثم ساق الحديث بطوله ، ومنهم من اختصره.
وقال مسلم أيضًا : حدثني زهير بن حرب ، حدثنا عمر بن يونس الحنفي ، حدثنا عكرمة بن عمار ، عن سِماك بن الوليد - أبي زميل - حدثني عبد الله بن عباس ، حدثني عمر بن الخطاب قال : لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، دخلت المسجد ، فإذا الناس يَنكُتُون بالحصى ، ويقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه! وذلك قبل أن يُؤمَر بالحجاب. فقلت : لأعلمن ذلك اليوم... فذكر الحديث في دخوله على عائشة وحفصة ، ووعظه إياهما ، إلى أن قال : فدخلت ، فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسكُفَّة المشرَبة ، فناديت فقلت : يا رباح ، استأذن لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم... فذكر نحو ما تقدم ، إلى أن قال : فقلت يا رسول الله ما يَشُقّ عليك من أمر النساء ، فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريلَ وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك ، وقلما تكلمتُ - وأحمد الله - بكلام إلا رجوتُ أن يكون الله يصدق قولي ، ونزلت هذه الآية ، آية التخيير : { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } فقلت : أطلقتهن ؟ قال : "لا". فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي : لم يطلق نساءه ، ونزلت هذه الآية : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء : 83] فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر (4).
وكذا قال سعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومقاتل بن حيان ، والضحاك ، وغيرهم : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } أبو بكر وعمر - زاد الحسن البصري : وعثمان. وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } قال : علي بن أبي طالب.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن أبي عمر ، حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين قال : أخبرني رجل ثقة يرفعه إلى علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [في] (5) قوله : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } قال : هو علي بن أبي طالب. إسناده ضعيف. وهو منكر جدًا.
وقال البخاري : حدثنا عمرو بن عون ، حدثنا هُشَيم ، عن حُميد ، عن أنس ، قال : قال
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5191 ، 2468) وصحيح مسلم برقم (1479) وسنن الترمذي برقم (3318) وسنن النسائي (4/137).
(2) في م : "المرأتان اللتان".
(3) صحيح البخاري برقم (4913) وصحيح مسلم برقم (1479).
(4) صحيح مسلم برقم (1479).
(5) زيادة من م ، أ.

(8/164)


عمر : اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه ، فقلت لهن : { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } فنزلت هذه الآية (1).
وقد تقدّم أنه وافق القرآن في أماكنَ ، منها في نزول الحجاب ، ومنها في أسارى بدر ، ومنها قوله : لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ؟ فأنزل الله : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [البقرة : 125].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا [أبي ، حدثنا] (2) الأنصاري ، حدثنا حُمَيد ، عن أنس قال : قال عمر بن الخطاب : بلغني شيء كان بين أمهات المؤمنين وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، فاستقريتهن (3) أقول : لتكفن عن رسول الله أو ليبدلَنّه الله أزواجًا خيرا منكن. حتى أتيت على آخر أمهات المؤمنين ، فقالت : يا عمر ، أما لي برسول الله ما يعظ نساءه ، حتى تعظهن ؟! فأمسكت ، فأنزل الله ، عز وجل : { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا }
وهذه المرأة التي رَدّته عما كان فيه من وَعظ النساء هي أم سلمة ، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري (4).
وقال الطبراني ، حدثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني ، حدثنا إسماعيل البجلي ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن أبي سنان ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا } قال : دخلَت حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها وهو يَطَأ مارية ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تخبري عائشة حتى أبشرك ببشارة ، فإن أباك يَلي الأمرَ من بعد أبي بكر إذا أنا مت". فذهبت حفصة فأخبَرتْ عائشة ، فقالت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : من أنبأك هذا ؟ قال : { نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ } فقالت عائشة : لا أنظر إليك حتى تحرم مارية فحرمها ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ } (5).
إسناده فيه نظر ، وقد تبين مما أوردناه تفسير هذه الآيات الكريمات. ومعنى قوله : { مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ } ظاهر.
وقوله { سَائِحَاتٍ } أي : صائمات ، قاله أبو هريرة ، وعائشة ، وابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، ومحمد بن كعب القرظي ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو مالك ، وإبراهيم النخعي ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، والسُدّيّ ، وغيرهم. وتقدم فيه حديث مرفوع عند قوله : { السَّائِحُونَ } من سورة "براءة" ، ولفظه : "سياحةُ هذه الأمة الصيامُ".
وقال زيد بن أسلم ، وابنه عبد الرحمن : { سَائِحَاتٍ } أي : مهاجرات ، وتلا عبد الرحمن :
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4916).
(2) زيادة من م ، أ.
(3) في م : "فاستقريته".
(4) صحيح البخاري برقم (4483) ولم أر فيه التصريح بأنها أم سلمة والله أعلم.
(5) المعجم الكبير (12/117) ووجه ضعفه : أن فيه إسماعيل البجلي وهو ضعيف ، والضحاك لم يلق ابن عباس فهو منقطع.

(8/165)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)

{ السَّائِحُونَ } [التوبة : 112] أي : المهاجرون. والقول الأول أولى ، والله أعلم.
وقوله : { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا } أي : منهن ثيبات ، ومنهن أبكارا ، ليكون ذلك أشهى إلى النفوس ، فإن التنوع يبسُط النفسَ ؛ ولهذا قال : { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا }
وقال أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير : حدثنا أبو بكر بن صدقة ، حدثنا محمد بن محمد بن مرزوق ، حدثنا عبد الله بن أمية ، حدثنا عبد القدوس ، عن صالح بن حَيَّان ، عن ابن بُرَيدة ، عن أبيه : { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا } قال : وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يزوجه ، فالثيب : آسية امرأة فرعون ، وبالأبكار : مريم بنت عمران (1).
وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة "مريم عليها السلام" من طريق سُوَيْد بن سعيد (2) حدثنا محمد بن صالح بن عمر ، عن الضحاك ومجاهد ، عن ابن عمر قال : جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بموت خديجة فقال : إن الله يقرئها السلام ، ويبشرها ببيت في الجنة من قَصَب ، بعيد من اللهب (3) لا نَصَب فيه ولا صَخَب ، من لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت عمران وبيت آسية بنت مزاحم (4).
ومن حديث أبي بكر الهذلي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة ، وهي في الموت فقال : "يا خديجة ، إذا لقيت ضرائرك فأقرئيهن مني السلام". فقالت : يا رسول الله ، وهل تزوجت قبلي ؟ قال : "لا" ، ولكن الله زوجني مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وكلثم أخت موسى". ضعيف أيضًا (5).
وقال أبو يعلى : حدثنا إبراهيم بن عرعرة ، حدثنا عبد النور بن عبد الله ، حدثنا يونس (6) بن شعيب ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أُعْلِمتُ أن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران ، وكلثم أخت موسى ، وآسية امرأة فرعون". فقلت : هنيئًا لك يا رسول الله (7).
وهذا أيضًا ضعيف وروي مرسلا عن ابن أبي داود.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) }
__________
(1) لم أقع عليه في المطبوع من المعجم الكبير للطبراني.
(2) في أ : "بن سعد".
(3) في أ : "من اللهو".
(4) تاريخ دمشق (ص383) "تراجم النساء" ط. المجمع العلمي بدمشق.
(5) تاريخ دمشق (ص 384) "تراجم النساء" ط. المجمع العلمي بدمشق.
(6) في م ، أ ، هـ : "يوسف" والمثبت من المعجم الكبير للطبراني.
(7) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/309) والعقيلي في الضعفاء (4/459) من طريق عبد النور بن عبد الله به ، وعبد النور كذاب ، قال العقيلي : "وليس بمحفوظ".

(8/166)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) }

(8/166)


قال سفيان الثوري ، عن منصور ، عن رجل ، عن علي ، رضي الله عنه ، في قوله تعالى : { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } يقول : أدبوهم ، عَلموهم.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } يقول : اعملوا بطاعة الله ، واتقوا معاصي الله ، ومُروا أهليكم بالذكر ، ينجيكم الله من النار.
وقال مجاهد : { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } قال : اتقوا الله ، وأوصوا أهليكم بتقوى الله..
وقال قتادة : يأمرهم بطاعة الله ، وينهاهم عن معصية الله ، وأن يقومَ عليهم بأمر الله ، ويأمرهم به ويساعدهم عليه ، فإذا رأيت لله معصية ، قَدعتهم عنها وزجرتهم عنها.
وهكذا قال الضحاك ومقاتل : حق على المسلم أن يعلم أهله ، من قرابته وإمائه وعبيده ، ما فرض الله عليهم ، وما نهاهم الله عنه.
وفي معنى هذه الآية الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، من حديث عبد الملك بن الربيع بن سَبْرَة ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين ، فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها" (1).
هذا لفظ أبي داود ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن.
وروى أبو داود ، من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك (2).
قال الفقهاء : وهكذا في الصوم ؛ ليكون ذلك تمرينًا له على العبادة ، لكي يبلغ وهو مستمر على العبادة والطاعة ومجانبة المعصية وترك المنكر ، والله الموفق.
وقوله : { وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } { وَقُودُهَا } أي : حطبها الذي يلقى فيها جُثث بني آدم. { وَالْحِجَارَةُ } قيل : المراد بذلك الأصنام التي كانت تعبد لقوله : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [الأنبياء : 98].
وقال ابن مسعود ومجاهد وأبو جعفر الباقر ، والسدي : هي حجارة من كبريت - زاد مجاهد : أنتن من الجيفة.
وروى ذلك ابن أبي حاتم ، رحمه الله ، ثم قال : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الرحمن بن سنان المنقري ، حدثنا عبد العزيز - يعني ابن أبي رَاَّود - قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } وعنده بعض أصحابه ، وفيهم
__________
(1) المسند (3/404) وسنن أبي داود برقم (494) وسنن الترمذي برقم (407).
(2) سنن أبي داود برقم (495).

(8/167)


شيخ ، فقال الشيخ : يا رسول الله ، حجارة جهنم كحجارة الدنيا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده ، لَصَخرة من صخر جهنم أعظمُ من جبَال الدنيا كلها". قال : فوقع الشيخُ مغشيًا عليه ، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على فؤاده فإذا هُوَ حَيّ فناداه قال : "يا شيخ" ، قل : "لا إله إلا الله". فقالها ، فبشره بالجنة ، قال : فقال أصحابه : يا رسول الله ، أمن بيننا ؟ قال : "نعم ، يقول الله تعالى : { ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } [إبراهيم : 14] هذا حديث مرسل غريب.
وقوله : { عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ } أي : طباعهم غليظة ، قد نزعت من قلوبهم الرحمة بالكافرين بالله ، { شِدَادٌ } أي : تركيبهم في غاية الشدة والكثافة والمنظر المزعج.
قال (1) ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان ، حدثنا أبي ، عن عكرمة أنه قال : إذا وصل أول أهل النار إلى النار ، وَجَدوا على الباب أربعمائة ألف من خَزَنة جهنم ، سود وجوههم ، كالحة أنيابهم ، قد نزع الله من قلوبهم الرحمة ، ليس في قلب واحد منهم مثقال ذَرَة من الرحمة ، لو طير الطير من منكب أحدهم لطار شهرين قبل أن يبلغ منكبه الآخر ، ثم يجدون على الباب التسعة عشر ، عرض صدر أحدهم سبعون خريفًا ، ثم يهوون من باب إلى باب خمسمائة سنة ، ثم يجدون على كل باب منها مثلَ ما وجدوا على الباب الأول ، حتى ينتهوا إلى آخرها.
وقوله : { لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } أي : مهما أمرهم به تعالى يبادروا إليه ، لا يتأخرون عنه طرفة عين ، وهم قادرون على فعله ليس بهم عجز عنه. وهؤلاء هم الزبانية عياذًا بالله منهم. وقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : يقال للكفرة يوم القيامة : لا تعتذروا فإنه لا يقبل منكم ، وإنما تجزون اليوم بأعمالكم.
ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا } أي : توبة صادقة جازمة ، تمحو ما قبلها من السيئات وتلم شعث التائب وتجمعه ، وتكفه عما كان يتعاطاه من الدناءات.
قال ابن جرير : حدثنا ابن مثنى ، حدثنا محمد ، حدثنا شعبة ، عن سِمَاك بن حَرب : سمعت النعمان بن بشير يخطب : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا } قال : يذنب الذنب ثم لا يرجع فيه.
وقال الثوري ، عن سِماك ، عن النعمان ، عن عمر قال : التوبة النصوح : أن يتوب من الذنب ثم لا يعود فيه ، أو لا يعود فيه.
وقال أبو الأحوص وغيره ، عن سماك ، عن النعمان ، سُئِل عمر عن التوبة النصوح ، فقال : أن يتوب الرجل من العمل السيئ ، ثم لا يعود إليه أبدًا.
وقال الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله : { تَوْبَةً نَصُوحًا } قال : يتوب ثم لا يعود.
__________
(1) في م : "كما قال".

(8/168)


وقد روي هذا مرفوعًا فقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عاصم ، عن إبراهيم الهَجَري ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "التوبة من الذنب أن يتوب منه ، ثم لا يعود فيه". تفرد به أحمد من طريق إبراهيم بن مسلم الهَجَري ، وهو ضعيف ، والموقوف أصح (1) والله أعلم.
ولهذا قال العلماء : التوبة النصوح هو أن يُقلعَ عن الذنب في الحاضر ، ويندمَ على ما سلف منه في الماضي ، ويعزِم على ألا يفعل في المستقبل. ثم إن كان الحق لآدمي ردّه إليه بطريقه.
قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن عبد الكريم ، أخبرني زياد بن أبي مريم ، عن عبد الله بن مَعقِل قال : دخلت مع أبي عَلى عبد الله بن مسعود فقال : أنت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "الندم توبة ؟". قال : نعم. وقال مَرَة : نعم سمعته يقول : "الندم توبة".
ورواه ابن ماجة ، عن هشام بن عَمَّار ، عن سفيان بن عُيينة ، عن عبد الكريم - وهو ابن مالك الجَزَريّ - به (2).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثني الوليد بن بُكَيْر أبو خباب ، عن عبد الله بن محمد العَدَوي ، عن أبي سِنان البصري ، عن أبي قِلابة ، عن زِرّ بن حُبَيش ، عن أبي بن كعب قال : قيل لنا أشياء تكون في آخر هذه الأمة عند اقتراب الساعة ، منها نكاح الرجل امرأته أو أمته في دبرها ، وذلك مما حرم الله ورسوله ، ويمقت الله عليه ورسوله ، ومنها : نكاح الرجل الرجل ، وذلك مما حرم الله ورسوله ، ويمقت الله عليه ورسوله. ومنها نكاح المرأة المرأة ، وذلك مما حرم الله ورسوله ، ويمقت الله عليه ورسوله. وليس لهؤلاء صلاة ما أقاموا على هذا ، حتى يتوبوا إلى الله توبة نصوحًا. قال زر : فقلت لأبي بن كعب : فما التوبة النصوح ؟ فقال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "هو الندم على الذنب حينَ يَفرطُ منك ، فتستغفرُ الله بندامتك منه عند الحاضر ، ثم لا تعود إليه أبدًا" (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا عباد بن عمرو ، حدثنا أبو عمرو بن العلاء ، سمعت الحسن يقول : التوبة النصوح : أن تُبغِض الذنبَ كما أحببته ، وتستغفر منه إذا ذكرته.
فأما إذا حَزَم بالتوبة وصَمم عليها فإنها تَجُب ما قبلها من الخطيئات ، كما ثبت في الصحيح : "الإسلام يَجُب ما قبله ، والتوبة تجب ما قبلها" (4).
وهل من شرط التوبة النصوح الاستمرارُ على ذلك إلى الممات ، كما تقدم في الحديث وفي الأثر : "لا يعود فيه أبدًا" ، أو يكفي العزم على ألا يعود في تكفير الماضي ، بحيث لو وقع منه
__________
(1) المسند (1/446).
(2) المسند (1/376) وسنن ابن ماجة برقم (4252) وقال البوصيري في الزوائد (3/308) : "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".
(3) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (5457) من طريق إسماعيل الصفار ، عن الحسن بن عرفة به ، وقال : "إسناده ضعيف".
(4) صحيح مسلم برقم (121) من حديث عمرو بن العاص ، رضي الله عنه.

(8/169)


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)

ذلك الذنب بعد ذلك لا يكون ذلك ضارًا في تكفير ما تقدم ، لعموم قوله ، عليه السلام : "التوبة تجب ما قبلها ؟". وللأول أن يحتج بما ثبت في الصحيح أيضًا : "مَن أحسنَ في الإسلام لم يُؤاخَذ بما عمل في الجاهلية ، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر" (1) فإذا كان هذا في الإسلام الذي هو أقوى من التوبة ، فالتوبة بطريق الأولى ، والله أعلم. وقوله : { عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } و { عَسَى } من الله موجبة ، { يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ } أي : ولا يخزيهم معه يعني : يوم القيامة ، { نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ } كما تقدم في سورة الحديد.
{ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قال مجاهد ، والضحاك ، والحسن البصري وغيرهم : هذا يقوله المؤمنون حين يَرَون يوم القيامة نورَ المنافقين قد طفِئ.
وقال محمد بن نصر المروزي : حدثنا محمد بن مقاتل المروزي ، حدثنا ابن المبارك ، أخبرنا ابن لَهِيعة ، حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، أنه سمع أبا ذر وأبا الدرداء قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنا أول من يؤذن له في السجود يوم القيامة ، وأول من يؤذن له برفع رأسه ، فأنظرُ بين يَدَيّ فأعرف أمتي من بين الأمم ، وأنظر عن يميني فأعرف أمتي من بين الأمم ، وأنظر عن شمالي فأعرف أمتي من بين الأمم". فقال رجل : يا رسول الله ، وكيف تعرف أمتك من بين الأمم. قال : "غُرٌّ مُحجلون من آثار الطُّهور (2) ولا يكون أحد من الأمم كذلك غيرهم ، وأعرفهم أنهم يؤتَون كتبهم بأيمانهم ، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود ، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم" (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني ، حدثنا ابن المبارك ، عن يحيى بن حسان ، عن رجل من بني كنانة قال : صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح ، فسمعته يقول : "اللهم ، لا تخزني يوم القيامة" (4).
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) }
يقول تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين ، هؤلاء بالسلاح والقتال ، وهؤلاء بإقامة
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6921) وصحيح مسلم برقم (120) من حديث عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه.
(2) في م : "الوضوء".
(3) تعظيم قدر الصلاة برقم (261) ورواه أحمد في المسند (5/199) من هذا الطريق - طريق ابن المبارك - وعن حسن ، عن ابن لهيعة به نحوه ، قال المنذري في الترغيب والترهيب (1/151) : "رواه أحمد ، وفي إسناده ابن لهيعو ، وهو حديث في المتابعات". وهو هنا من رواية ابن المبارك وهي رواية صحيحه.
(4) المسند (4/234)

(8/170)


وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)

الحدود عليهم ، { وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } أي : في الدنيا ، { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي : في الآخرة (1).
ثم قال : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا } أي : في مخالطتهم المسلمين ومعاشرتهم لهم ، أن ذلك لا يجدي عنهم شيئًا ولا ينفعهم عند الله ، إن لم يكن الإيمان حاصلا في قلوبهم ، ثم ذكر المثل فقال : { اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ } أي : نبيين رسولين عندهما في صحبتها (2) ليلا ونهارًا يؤاكلانهما ويضاجعانهما ويعاشرانهما أشد العشرة والاختلاط { فَخَانَتَاهُمَا } أي : في الإيمان ، لم يوافقاهما على الإيمان ، ولا صدقاهما في الرسالة ، فلم يُجْد ذلك كلَه شيئًا ، ولا دفع عنهما محذورا ؛ ولهذا قال : { فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } أي : لكفرهما ، { وَقِيلَ } أي : للمرأتين : { ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ } وليس المراد : { فَخَانَتَاهُمَا } في فاحشة ، بل في الدين ، فإن نساء الأنبياء معصوماتٌ عن الوقوع في الفاحشة ؛ لحرمة الأنبياء ، كما قدمنا في سورة النور.
قال سفيان الثوري ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن سليمان بن قتة : سمعت ابن عباس يقول في هذه الآية { فَخَانَتَاهُمَا } قال : ما زنتا ، أما أمرأة نوح فكانت تخبر أنه مجنون ، وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل قومها على أضيافه.
وقال العَوفي ، عن ابن عباس قال : كانت خيانتهما أنهما كانتا على عَورتيهما فكانت امرأة نُوح تَطَلع على سر نُوح ، فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به ، وأما امرأة لوط فكانت إذا أضاف لوط أحدًا أخبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء.
وهكذا قال عكرمة ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وغيرهم.
[وقال الضحاك عن ابن عباس : ما بغت امرأة نبي قط ، إنما كانت خيانتهما في الدين] (3).
وقد استدل بهذه الآية الكريمة بعضُ العلماء على ضعف الحديث الذي يأثرُه كثير من الناس : من أكل مع مغفور له غفر له. وهذا الحديث لا أصل له ، وإنما يروى هذا عن بعض الصالحين أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال : يا رسول الله ، أنت قلت : من أكل مع مغفور له غفر ؟ قال : "لا ولكني الآن أقوله" (4).
{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12) }
__________
(1) في م : " في الأخرى".
(2) في م : "في صحبتاهما".
(3) زيادة من م.
(4) قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "هذا ليس له إسناد عند أهل العلم ولا هو في شيء من كتب المسلمين ، وإنما يروونه عن سنان ، وليس معناه صحيحًا على الإطلاق ، فقد يأكل مع المسلمين الكفار والمنافقون" أ. هـ نقله الألباني في الضعيفة (1/326) وذكره الإمام ابن القيم في المنار المنيف (ص 140) وقال : "موضوع ، وغاية ما روي فيه أنه منام رآه بعض الناس".

(8/171)


وهذا مَثَلٌ ضربه الله للمؤمنين أنهم لا تضرهم مخالطة الكافرين إذا كانوا محتاجين إليهم ، كما قال تعالى : { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } [آل عمران : 28].
قال : قتادة كان فرعون أعتى أهل الأرض وأبعده فوالله ما ضر امرأته كُفر زوجها حين أطاعت ربها لتعلموا أن الله حَكَمٌ عدل ، لا يؤاخذ أحدًا إلا بذنبه.
وقال ابن جرير : حدثنا إسماعيل بن حفص الأبُليّ ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان النهدي (1) عن سلمان قال : كانت امرأة فرعون تُعَذَّب في الشمس ، فإذا انصرف عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها ، وكانت ترى بيتها في الجنة.
ثم رواه عن محمد بن عبيد المحاربي عن أسباط بن محمد ، عن سليمان التيمي ، به (2).
ثم قال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن هشام الدَّسْتُوَائي ، حدثنا القاسم بن أبي بَزَّة قال : كانت امرأة فرعون تسأل : من غلب ؟ فيقال : غلب موسى وهارون. فتقول : آمنت برب موسى وهارون ، فأرسل إليها فرعون فقالت : انظروا أعظم صخرة تجدونها ، فإن مضت على قولها فألقوها عليها ، وإن رجعت عن قولها فهي امرأته ، فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء فأبصرت بيتها في الجنة ، فمضت على قولها ، وانتزع روحها ، وألقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح (3).
فقولها : { رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } قال العلماء : اختارت الجار قبل الدار. وقد ورد شيء من ذلك في حديث مرفوع ، { وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ } أي : خلصني منه ، فإني أبرأ [إليك] (4) من عمله ، { وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } وهذه المرأة هي آسية بنت مزاحم ، رضي الله عنها.
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية قال : كان إيمانُ امرأة فرعونَ من قبل إيمان امرأة خازن فرعون ، وذلك أنها جلست تمشط ابنة فرعون ، فوقع المشط من يدها ، فقالت تعس من كفر بالله ؟ فقالت لها ابنة فرعون : ولك رب غير أبي ؟ قالت : ربي ورب أبيك ورب كل شيء اللهُ. فلطمتها بنتُ فرعونَ وضربتها ، وأخبرت أباها ، فأرسل إليها فرعون فقال : تعبدين ربا غيري ؟ قالت : نعم ، ربي وربك ورب كل شيء الله. وإياه أعبد فعذبها فرعون وأوتد لها أوتادًا فشد رجليها ويديها وأرسل عليها الحيات ، وكانت كذلك ، فأتى عليها يومًا فقال لها : ما أنت منتهية ؟ فقالت له : ربي وربك وربُ كل شيء الله. فقال لها : إني ذابح ابنك في فيك إن لم تفعلي. فقالت له : اقض ما أنت قاض. فذبح ابنها في فيها ، وإن روح ابنها بشرها ، فقال لها : أبشري يا أمه ، فإن لك عند الله من الثواب كذا وكذا. فصبرت ثم أتى [عليها] (5) فرعون يومًا آخر فقال لها
__________
(1) في أ : "الترمذي".
(2) تفسير الطبري (28/110).
(3) تفسير الطبري (28/110).
(4) زيادة من م ، أ.
(5) زيادة من م.

(8/172)


مثل ذلك ، فقالت له ، مثل ذلك ، فذبح ابنها الآخر في فيها ، فبشرها روحه أيضًا ، وقال لها. اصبري يا أمه فإن لك عند الله من الثواب كذا وكذا. قال : وسمعت امرأة فرعون كلامَ روح ابنها الأكبر ثم الأصغر ، فآمنت امرأةُ فرعونَ ، وقبض الله روح امرأة خازن فرعون ، وكشف الغطاء عن ثوبها ومنزلتها وكرامتها في الجنة لامرأة فرعون حتى رأت فازدادت إيمانًا ويقينًا وتصديقًا ، فاطَّلع فرعون على إيمانها ، فقال للملأ ما تعلمون من آسية بنت مزاحم ؟ فأثنوا عليها ، فقال لهم : إنها تعبد غيري. فقالوا له : اقتلها. فأوتد لها أوتادًا فشد يديها ورجليها ، فدعت آسية ربها فقالت : { رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } فوافق ذلك أن حضرها ، فرعون فضحكت حين رأت بيتها في الجنة ، فقال فرعون : ألا تعجبون من جنونها ، إنا نعذبها وهي تضحك ، فقبض الله روحها ، رضي الله عنها (1).
وقوله : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } أي حفظته وصانته. والإحصان : هو العفاف والحرية ، { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } أي : بواسطة المَلَك ، وهو جبريل ، فإن الله بعثه إليها فتمثل لها في صورة بشر سَوي ، وأمره الله تعالى أن ينفخ بفيه في جيب درعها ، فنزلت النفخة فولجت في فرجها ، فكان منه الحمل بعيسى ، عليه السلام. ولهذا قال : { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ } أي : بقدره وشرعه { وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ }
قال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا داود بن أبي الفرات ، عن عِلْباء ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : خَطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض أربعة خطوط ، وقال : "أتدرون ما هذا ؟" قالوا : الله ورسوله أعلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أفضل نساء أهل الجنة : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، ومريم ابنة عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون" (2).
وثبت في الصحيحين من حديث شعبة ، عن عمرو بن مُرَة ، عن مرة الهمداني ، عن أبي موسى الأشعري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "كَمُلَ من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ، ومريم ابنة عمران ، وخديجة بنت خُوَيلد ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثَّرِيد على سائر الطعام" (3).
وقد ذكرنا طرق هذه الأحاديث وألفاظها والكلام عليها في قصة عيسى ابن مريم ، عليهما السلام ، في كتابنا "البداية والنهاية" ولله الحمد والمنة (4) وذكرنا ما ورد من الحديث من أنها تكون هي وآسية بنت مزاحم من أزواجه ، عليه السلام ، في الجنة عند قوله : { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا }
__________
(1) رواه الطبرى في تفسيره (28/10).
(2) المسند (1/293) وقال الهيثمي في المجمع (9/223) : "رجاله رجال الصحيح".
(3) صحيح البخاري برقم (5418) وصحيح مسلم برقم (2431).
(4) البداية والنهاية (2/55 - 85).

(8/173)


تفسير سورة الملك
وهي مكية.
قال أحمد : حدثنا حجاج بن محمد وابن جعفر قالا حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن عباس الجُشَمي ، عن أبي هُرَيرة ، عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن سورة في القرآن ثلاثين آية شَفَعت لصاحبها حتى غُفر له : " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ".
ورواه أهل السنن الأربعة ، من حديث شعبة ، به (1) وقال الترمذي : هذا حديث حسن.
وقد روى الطبراني والحافظ الضياء المقدسي ، من طريق سَلام بن مسكين (2) عن ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سورة في القرآن خَاصَمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة : " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ " (3).
وقال الترمذي : حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، حدثنا يحيى بن مالك النُكري ، عن أبيه ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس قال : ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر ، وهو لا يحسب أنه قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها ، فأتى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر ، فإذا إنسان يقرأ سورة الملك " تَبَارَكَ " حتى ختمها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هي المانعة ، هي المنجية ، تنجيه من عذاب القبر" (4) ثم قال : "هذا حديث غريب من هذا الوجه. وفي الباب عن أبي هريرة. ثم روى الترمذي أيضا من طريق ليث بن أبي سليم ، عن أبي الزبير ، عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ " الم تَنزيلُ " [سورة السجدة] ، و " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ". وقال ليث عن طاوس : يفضلان كل سورة في القرآن بسبعين حسنة (5).
وقال الطبراني : حدثنا محمد بن الحسين بن عجلان (6) الأصبهاني ، حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي" يعني : " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ " (7).
__________
(1) المسند (2/321) وسنن أبي داود برقم (1400) وسنن الترمذي برقم (2891) وسنن النسائي الكبرى برقم (11612) وسنن ابن ماجة برقم (3786).
(2) في أ : "سليمان".
(3) المعجم الصغير للطبراني (1/176) والمختارة للضياء المقدس برقم (1738 ، 1739).
(4) سنن الترمذي برقم (2890) وفي إسناده يحيى النكري ضعيف وذكر الذهبي هذا الحديث من مناكيره في الميزان.
(5) سنن الترمذي برقم (2892).
(6) في م ، أ ، هـ : "محمد بن الحسن بن علاف" وهو خطأ والمثبت من المعجم الكبير للطبراني ومن تاريخ أصبهان.
(7) المعجم الكبير(11/242) ورواه الحاكم في المستدرك (1/565) من طريق حفص بن عمر ، عن الحكم بن أبان به ، وقال الحاكم : "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وتعقبه الذهبي بقوله : "فيه حفص العدني وهو واه".

(8/174)


هذا حديث غريب ، وإبراهيم ضعيف ، وقد تقدم مثله في سورة "يس" وقد روى هذا الحديث عبد بن حُمَيد في مسنده بأبسط من هذا ، فقال :
حدثنا إبراهيم بن الحكم ، عن أبيه ، عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال لرجل : ألا أتحفك بحديث تفرح به ؟ قال : بلى. قال اقرأ : " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ " وعلمها أهلك وجميع ولدك وصبيان بيتك وجيرانك ، فإنها المنجية والمجادلة ، تجادل - أو تخاصم - يوم القيامة عند ربها لقارئها ، وتطلب له أن [ينجيه] (1) من عذاب النار ، وينجي بها صاحبها من عذاب القبر ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لوددتُ أنها في قلب كل إنسان من أمتي" (2).
وقد روى الحافظ ابن عساكر في تاريخه ، في ترجمة أحمد بن نصر بن زياد ، أبي عبد الله القرشي النيسابوري المقرئ الزاهد الفقيه ، أحد الثقات الذين روي عنهم البخاري ومسلم ، ولكن في غير الصحيحين ، وروى عنه الترمذي وابن ماجة وابن خزيمة. وعليه تفقه في مذهب أبي عُبَيد بن حَرْبَويه ، وخلق سواهم ، ساق بسنده من حديثه عن فرات بن السائب ، عن الزهري ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن رجلا ممن كان قبلكم مات ، وليس معه شيء من كتاب الله إلا " تَبَارَكَ " ، فلما وضع في حفرته أتاه المَلَك فثارت السورة في وجهه ، فقال لها : إنك من كتاب الله ، وأنا أكره مساءتك ، وإني لا أملك لك ولا له ولا لنفسي ضرا ولا نفعا ، فإن أردت هذا به فانطلقي إلى الرب تبارك وتعالى فاشفعي له. فتنطلق إلى الرب فتقول : يا رب ، إن فلانًا عَمَد إليَّ من بين كتابك فتَعَلَّمني وتلاني أفتحرقه (3) أنت بالنار وتعذبه وأنا في جوفه ؟ فإن كنت فاعلا ذاك به فامحني من كتابك. فيقول : ألا أراك غضبت ؟ فتقول : وحُقّ لي أن أغضب. فيقول : اذهبي فقد وهبته لك ، وشَفّعتك فيه. قال : فتجيء فيخرج الملك ، فيخرج كاسف البال لم يَحْلَ منه بشيء. قال : فتجيء فتضع فاها على فيه ، فتقول مرحبا بهذا الفم ، فربما تلاني ، ومرحبا بهذا الصدر ، فربما وعاني ، ومرحبا بهاتين القدمين ، فربما قامتا بي. وتؤنسه في قبره مخافة الوحشة عليه". قال : فلما حَدّث بهذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لم يبق صغير ولا كبير ولا حُرّ ولا عبد ، إلا تعلمها ، وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم المنجية (4).
قلت : وهذا حديث منكر جدا ، وفرات بن السائب هذا ضعفه الإمام أحمد ، ويحيى بن معين ، والبخاري ، وأبو حاتم ، والدارقطني وغير واحد. وقد ذكره ابن عساكر من وجه آخر ، عن الزهري ، من قوله مختصرا. وروى البيهقي في كتاب "إثبات عذاب القبر" عن ابن مسعود موقوفًا ومرفوعًا ما يشهد لهذا (5) وقد كتبناه في كتاب الجنائز من الأحكام الكبرى ، ولله الحمد (6).
__________
(1) زيادة من م ، أ.
(2) ذكره البوصيري في إتحاف المهرة (ق 214 سليمانية) من مسند عبد بن حميد.
(3) في أ : "أفتجزيه".
(4) تاريخ دمشق (2/256 "المخطوط").
(5) إثبات عذاب القبر للبيهقي برقم (99) وقد فصل الكلام عليه الفاضل محمد طرهوني في موسوعة فضائل القرآن (2/193).
(6) في أ : "ولله الحمد والمنة والثناء الحسن الجميل".

(8/175)


تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)

بسم الله الرحمن الرحيم
{ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) }
يمجد تعالى نفسه الكريمة ، ويخبر أنه بيده الملك ، أي : هو المتصرف في جميع المخلوقات بما يشاء لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل لقهره وحكمته وعدله. ولهذا قال : { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
ثم قال : { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ } واستدل بهذه الآية من قال : إن الموت أمر وجودي لأنه مخلوق. ومعنى الآية : أنه أوجد الخلائق من العدم ، ليبلوهم ويختبرهم أيهم أحسن عملا ؟ كما قال : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ } [البقرة : 28] فسمى الحال الأول - وهو العدم - موتًا ، وسمى هذه النشأة حياة. ولهذا قال : { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [البقرة : 28].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثنا خُلَيْد ، عن قتادة في قوله : { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ } قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله أذل بني آدم بالموت ، وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت ، وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء".
ورواه مَعْمَر ، عن قتادة (1).
وقوله : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا } أي : خير عملا كما قال محمد بن عَجْلان : ولم يقل أكثر عملا.
ثم قال : { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } أي : هو العزيز العظيم المنيع الجناب ، وهو مع ذلك غفور لمن تاب إليه وأناب ، بعدما عصاه وخالف أمره ، وإن كان تعالى عزيزا ، هو مع ذلك يغفر ويرحم ويصفح ويتجاوز.
ثم قال : { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا } أي : طبقة بعد طبقة ، وهل هن متواصلات بمعنى أنهن علويات بعضهم على بعض ، أو متفاصلات بينهن خلاء ؟ فيه قولان ، أصحهما الثاني ، كما دل على ذلك حديث الإسراء وغيره.
__________
(1) ورواه الطبري في تفسيره (29/2) من طريق معمر ، عن قتادة ، ومن طريق سعيد ، عن قتادة به مرسلاً.

(8/176)


وقوله : { مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ } أي : بل هو مصطحب مستو ، ليس فيه اختلاف ولا تنافر ولا مخالفة ، ولا نقص ولا عيب ولا خلل ؛ ولهذا قال : { فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } أي : انظر إلى السماء فتأملها ، هل ترى فيها عيبًا أو نقصًا أو خللا ؛ أو فطورًا ؟.
قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، والثوري ، وغيرهم في قوله : { فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } أي : شقوق.
وقال السدي : { هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } أي : من خُروق. وقال ابن عباس في رواية : { مِنْ فُطُورٍ } أي : من وُهِيّ (1) وقال قتادة : { هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } أي : هل ترى خَلَلا يا ابن آدم ؟.
وقوله : { ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ } قال : مرتين. { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا } قال ابن عباس : ذليلا ؟ وقال مجاهد ، وقتادة : صاغرًا.
{ وَهُوَ حَسِيرٌ } قال ابن عباس : يعني : وهو كليل. وقال مجاهد ، وقتادة ، والسدي : الحسير : المنقطع من الإعياء.
ومعنى الآية : إنك لو كررت البصر ، مهما كررت ، لانقلب إليك ، أي : لرجع إليك البصر ، { خَاسِئًا } عن أن يرى عيبًا أو خللا { وَهُوَ حَسِيرٌ } أي : كليل قد انقطع من الإعياء من كثرة التكرر ، ولا يرى نقصًا.
ولما نفى عنها في خلقها النقص بين كمالها وزينتها فقال : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } وهي الكواكب التي وضعت فيها من السيارات والثوابت.
وقوله : { وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ } عاد الضمير في قوله : { وَجَعَلْنَاهَا } على جنس المصابيح لا على عينها ؛ لأنه لا يرمي بالكواكب التي في السماء ، بل بشهب من دونها ، وقد تكون مستمدة منها ، والله أعلم.
وقوله : { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ } أي : جعلنا (2) للشياطين هذا الخزي في الدنيا ، وأعتدنا لهم عذاب السعير في الأخرى ، كما قال : في أول الصافات : { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [الصافات : 6 - 10].
قال قتادة : إنما خلقت هذه النجوم لثلاث خصال : خلقها الله زينة للسماء ، ورجوما للشياطين ، وعلامات يهتدى بها ، فمن تأول فيها غير ذلك فقد قال برأيه وأخطأ حظه ، وأضاع نصيبه ، وتكلف ما لا علم له به. رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم.
__________
(1) في هـ ، أ : "من وهاء" والمثبت من تفسير الطبري. مستفادا من هوامش ط. الشعب.
(2) في م : "أي : جعلناها".

(8/177)


وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)

{ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ (11) }
يقول تعالى : { وَ } أعتدنا { لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي : بئس المآل والمنقلب. { إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا } قال ابن جرير : يعني الصياح.
{ وَهِيَ تَفُورُ } قال الثوري : تغلي بهم كما يغلي الحَبّ القليل في الماء الكثير.
وقوله : { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ } أي : يكاد ينفصل بعضها من بعض ، من شدة غيظها عليهم وحنقها بهم ، { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ } يذكر تعالى عدله في خلقه ، وأنه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه وإرسال الرسول إليه ، كما قال : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [الإسراء : 15] وقال تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } [الزمر : 71]. وهكذا عادوا على أنفسهم بالملامة ، وندموا حيث لا تنفعهم الندامة ، فقالوا : { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } أي : لو كانت لنا عقول ننتفع بها أو نسمع ما أنزله الله من الحق ، لما كنا على ما كنا عليه من الكفر بالله والاغترار به ، ولكن لم يكن لنا فهم نعي به ما جاءت به الرسل ، ولا كان لنا عقل يرشدنا إلى اتباعهم ، قال الله تعالى : { فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ }
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن أبي البَخْتَريّ الطائي قال : أخبرني من سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لن يهلك الناس حتى يُعذِروا من أنفسهم" (1) وفي حديث آخر : "لا يدخل أحد النار ، إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة" (2).
{ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) }
__________
(1) المسند (4/260).
(2) في المسند (2/541) من حديث أبي هريرة مرفوعا : "لا يدخل أحد النار إلا أرى مقعده من الجنة" وهو في الصحيح.

(8/178)


وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)

{ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) }

(8/178)


يقول تعالى مخبرًا عمن يخاف مقام ربه فيما بينه وبينه إذا كان غائبًا عن الناس ، فينكف عن المعاصي ويقوم بالطاعات ، حيث لا يراه أحد إلا الله ، بأنه له مغفرة وأجر كبير ، أي : يكفر عنه ذنوبه ، ويجازى بالثواب الجزيل ، كما ثبت في الصحيحين : "سبعة يظلهم الله تعالى في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله" ، فذكر منهم : "رجلا دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله ، ورجلا تصدق بصدقة فأخفاها ، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" (1).
وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا طالوت بن عباد ، حدثنا الحارث بن عبيد ، عن ثابت ، عن أنس قال : قالوا : يا رسول الله ، إنا نكون عندك على حال ، فإذا فارقناك كنا على غيره ؟ قال : "كيف أنتم وربكم ؟" قالوا : الله ربنا في السر والعلانية. قال : "ليس ذلكم النفاق" (2).
لم يروه عن ثابت إلا الحارث بن عُبَيد فيما نعلمه.
ثم قال تعالى منبهًا على أنه مطلع على الضمائر والسرائر : { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : بما خطر في القلوب.
{ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } ؟ أي : ألا يعلم الخالق. وقيل : معناه ألا يعلم الله مخلوقه ؟ والأول أولى ، لقوله : { وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }
ثم ذكر نعمته على خلقه في تسخيره لهم الأرض وتذليله إياها لهم ، بأن جعلها قارة ساكنة لا تمتد (3) ولا تضطرب (4) بما جعل فيها من الجبال ، وأنبع فيها من العيون ، وسلك فيها من السبل ، وهيأها فيها من المنافع ومواضع الزروع والثمار ، فقال : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا } أي : فسافروا حيث شئتم من أقطارها ، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات ، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئًا ، إلا أن ييسره الله لكم ؛ ولهذا قال : { وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ } فالسعي في السبب لا ينافي التوكل ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا حَيْوَة ، أخبرني بكر بن عمرو ، أنه سمع عبد الله بن هُبَيْرة يقول : إنه سمع أبا تميم الجَيشاني يقول : إنه سمع عمر بن الخطاب يقول : إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله ، لرزقكم كما يرزق الطير ، تَغْدُو خِمَاصًا وتَرُوح بِطَانًا".
رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث ابن هبيرة (5) وقال الترمذي : حسن صحيح. فأثبت لها رواحا وغدوا لطلب الرزق ، مع توكلها على الله ، عز وجل ، وهو المسَخِّر المسير المسبب. { وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } أي : المرجع يوم القيامة.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (660) وصحيح مسلم برقم (1031) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(2) مسند البزار برقم (52) "كشف الأستار" وقال الحافظ ابن حجر في مختصر الزوائد (1/67) : "الحارث له مناكير وإن أخرج له في الصحيح".
(3) في أ : "لا تميد".
(4) في م : "لا تضطرب ولا تميد".
(5) المسند (1/30) وسنن الترمذي برقم (2344) وسنن ابن ماجة برقم (4164).

(8/179)


أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي : { مَنَاكِبِهَا } أطرافها وفجاجها ونواحيها. وقال ابن عباس وقتادة : { مَنَاكِبِهَا } الجبال.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن حكام الأزدي ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن يونس بن جبير ، عن بشير بن كعب : أنه قرأ هذه الآية : { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا } فقال لأم ولد له : إن علمت { مَنَاكِبِهَا } فأنت عتيقة. فقالت : هي الجبال. فسأل أبا الدرداء فقال : هي الجبال.
{ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) }
وهذا أيضًا من لطفه ورحمته بخلقه أنه قادر على تعذيبهم ، بسبب كفر بعضهم به وعبادتهم معه غيره وهو مع هذا يحلم ويصفح ، ويؤجل ولا يعجل ، كما قال : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا } [فاطر : 45].
وقال هاهنا : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } أي : تذهب وتجيء وتضطرب ، { أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } أي : ريحا فيها حصباء تدمغكم ، كما قال : { أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا } [الإسراء : 68]. وهكذا توعدهم هاهنا بقوله : { فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } أي : كيف يكون إنذاري وعاقبة من تخلف عنه وكذب به.
ثم قال : { وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي : من الأمم السالفة والقرون الخالية ، { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي : فكيف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم ؟ أي : عظيمًا شديدًا أليمًا.
ثم قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } أي : تارة يصففن أجنحتهن في الهواء ، وتارة تجمع جناحًا وتنشر جناحًا { مَا يُمْسِكُهُنَّ } أي : في الجو { إِلا الرَّحْمَنُ } أي : بما سخر لهن من الهواء ، من رحمته ولطفه ، { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } أي : بما يصلح كل شيء من مخلوقاته. وهذه كقوله : { أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [النحل : 79].
{ أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ (20) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) }

(8/180)


فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)

{ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) }

(8/180)


يقول تعالى للمشركين الذين عبدوا غيره ، يبتغون عندهم نصرًا ورزقًا ، مُنكرًا عليهم فيما اعتقدوه ، ومُخبرا لهم أنه لا يحصل لهم ما أملوه ، فقال : { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ } أي : ليس لكم من دونه من ولي ولا واق ، ولا ناصر لكم غيره ؛ ولهذا قال : { إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ }
ثم قال : { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } ؟! أي : من هذا الذي إذا قطع الله رزقه عنكم يرزقكم بعده ؟! أي : لا أحد يعطي ويمنع ويخلق ويرزق ، وينصر إلا الله ، عز وجل ، وحده لا شريك له ، أي : وهم يعلمون ذلك ، ومع هذا يعبدون غيره ؛ ولهذا قال : { بَلْ لَجُّوا } أي : استمروا في طغيانهم وإفكهم وضلالهم { فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } أي : في معاندة واستكبارًا ونفورًا على أدبارهم عن الحق ، [أي] (1) لا يسمعون له ولا يتبعونه.
ثم قال : { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } ؟ : وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ، فالكافر مثله فيما هو فيه كمثل من يمشي مُكبّا على وجهه ، أي : يمشي منحنيا لا مستويا على وجهه ، أي : لا يدري أين يسلك ولا كيف يذهب ؟ بل تائه حائر ضال ، أهذا أهدى { أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا } أي : منتصب القامة { عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي : على طريق واضح بين ، وهو في نفسه مستقيم ، وطريقه مستقيمة. هذا مثلهم في الدنيا ، وكذلك يكونون في الآخرة. فالمؤمن يحشر يمشي سويًا على صراط مستقيم ، مُفض به إلى الجنة الفيحاء ، وأما الكافر فإنه يحشر يمشي على وجهه إلى نار جهنم ، { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ }
قال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا ابن نُمَير ، حدثنا إسماعيل ، عن نُفَيع قال : سمعت أنس بن مالك يقول : قيل : يا رسول الله ، كيف يحشر الناس على وجوههم ؟ فقال : "أليس الذي أمشاهم على أرجلهم قادرًا على أن يمشيهم على وجوههم" (2).
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من طريق [يونس بن محمد ، عن شيبان ، عن قتادة ، عن
__________
(1) زيادة من م.
(2) المسند (3/167).

(8/181)


قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)

أنس ، به نحوه] (1) (2).
وقوله : { قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ } أي : ابتدأ خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا ، { وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ } أي : العقول والإدراك ، { قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ } أي : ما أقل تستعملون هذه القوى التي أنعم الله بها عليكم ، في طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره.
{ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ } أي : بثكم ونشركم في أقطار الأرض وأرجائها ، مع اختلاف ألسنتكم في لغاتكم وألوانكم ، وحلاكم وأشكالكم وصوركم ، { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي : تجمعون بعد هذا التفرق والشتات ، يجمعكم كما فرقكم ويعيدكم كما بدأكم.
ثم قال مخبرًا عن الكفار المنكرين للمعاد المستبعدين وقوعه : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : متى [يقع] (3) هذا الذي تخبرنا بكونه من الاجتماع بعد هذا التفرق ؟ { قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ } أي : لا يعلم وقت ذلك على التعيين إلا الله ، عز وجل ، لكنه أمرني أن أخبركم أن هذا كائن وواقع لا محالة فاحذروه ، { وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ } وإنما علي البلاغ ، وقد أديته إليكم.
قال الله تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : لما قامت القيامة وشاهدها الكفار ، ورأوا أن الأمر كان قريبا ؛ لأن كل ما هو آتٍ آتٍ وإن طال زمنه ، فلما وقع ما كذبوا به ساءهم ذلك ، لما يعلمون ما لهم هناك من الشر ، أي : فأحاط بهم ذلك ، وجاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال ولا حساب ، { وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا (4) وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [الزمر : 47 ، 48] ؛ ولهذا يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ : { هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ } أي : تستعجلون.
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30) }
يقول تعالى : { قُلْ } يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الجاحدين لنعمه : { أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } أي : خَلِّصوا أنفسكم ، فإنه لا منقذ لكم من الله إلا التوبة والإنابة ، والرجوع إلى دينه ، ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب والنَّكَال ، فسواء عذبنا الله أو رحمنا ، فلا مناص لكم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بكم.
ثم قال : { قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } أي : آمنا برب العالمين الرحمن الرحيم ، وعليه
__________
(1) زيادة من م ، أ.
(2) صحيح البخاري برقم (4760) وصحيح مسلم برقم (2806).
(3) زيادة من م.
(4) في م (ما عملوا) وهو خطأ.

(8/182)


توكلنا في جميع أمورنا ، كما قال : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [هود : 123]. ولهذا قال : { فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } ؟ أي : منا ومنكم ، ولمن تكون العاقبة في الدنيا والآخرة ؟.
ثم قال : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا } أي : ذاهبا في الأرض إلى أسفل ، فلا يُنَال بالفئوس الحداد ، ولا السواعد الشداد ، والغائر : عكس النابع ؛ ولهذا قال : { فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ } أي : نابع سائح جار على وجه الأرض ، لا يقدر على ذلك إلا الله ، عز وجل ، فمن فضله وكرمه [أن] (1) أنبع لكم المياه وأجراها في سائر أقطار الأرض ، بحسب ما يحتاج العباد إليه من القلة والكثرة ، فلله الحمد والمنة.
[آخر تفسير سورة "تبارك" ولله الحمد] (2)
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من م ، وفي أ : "آخر تفسير سورة الملك ولله الحمد والثناء الحسن الجميل".

(8/183)


ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)

تفسير سورة "ن"
وهي مدنية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لأجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) }
قد تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول "سورة البقرة" ، وأن قوله : { ن } كقوله : { ص } { ق } ونحو ذلك من الحروف المقطعة في أوائل السور ، وتحرير القول في ذلك بما أغنى عن إعادته.
وقيل : المراد بقوله : { ن } حوت عظيم على تيار الماء العظيم المحيط ، وهو حامل (1) للأرضين السبع ، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير :
حدثنا ابن بشار ، حدثنا يحيى ، حدثنا سفيان - هو الثوري - حدثنا سليمان - هو الأعمش - عن أبي ظَبْيان ، عن ابن عباس قال : أول ما خلق الله القلم قال : اكتب. قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب القَدَر. فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى يوم قيام الساعة. ثم خلق "النون" ورفع بخار الماء ، ففُتِقت منه السماء ، وبسطت الأرض على ظهر النون ، فاضطرب النون فمادت الأرض ، فأثبتت بالجبال ، فإنها لتفخر على الأرض (2).
وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن سِنان ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، به. وهكذا رواه شعبة ، ومحمد بن فُضَيل ، وَوَكِيع ، عن الأعمش ، به. وزاد شعبة في روايته : ثم قرأ : { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } وقد رواه شريك ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان - أو مجاهد - عن ابن عباس ، فذكر نحوه. ورواه مَعْمَر ، عن الأعمش : أن ابن عباس قال... فذكره ، ثم قرأ : { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } ثم قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن أبي الضُّحَى ، عن ابن عباس قال : إن أول شيء خلق ربي ، عز وجل ، القلم ، ثم قال له : اكتب. فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة. ثم خلق "النون" فوق الماء ، ثم كبس الأرض عليه (3).
__________
(1) في أ : "وهو الحامل".
(2) تفسير الطبري (29/9).
(3) تفسير الطبري (29/10).

(8/184)


وقد روى الطبراني ذلك مرفوعًا فقال : حدثنا أبو حبيب (1) زيد بن المهتدي المروذي (2) حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني ، حدثنا مُؤَمَّل بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن زيد ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي الضحى مسلم بن صَبِيح ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أول ما خلق الله القلم والحوت ، قال للقلم : اكتب ، قال : ما أكتب ، قال : كل شيء كائن إلى يوم القيامة". ثم قرأ : { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } فالنون : الحوت. والقلم : القلم (3).
حديث آخر في ذلك : رواه ابن عساكر عن أبي عبد الله مولى بني أمية ، عن أبي صالح ، عن أبي هُرَيرة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن أول شيء خلقه الله القلم ، ثم خلق "النون" وهي : الدواة. ثم قال له : اكتب. قال وما أكتب ؟ قال : اكتب ما يكون - أو : ما هو كائن - من عمل أو رزق أو أثر أو أجل. فكتب ذلك إلى يوم القيامة ، فذلك قوله : { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } ثم ختم على القلم فلم يتكلم إلى يوم القيامة ، ثم خلق العقل وقال : وعزتي لأكملنك فيمن أحببت ، ولأنقصنك ممن أبغضت" (4).
وقال ابن أبي نَجِيح : إن إبراهيم بن أبي بكر أخبره عن مجاهد قال : كان يقال : النون : الحوت [العظيم] (5) الذي تحت الأرض السابعة.
وذكر البغوي وجماعة من المفسرين : إن على ظهر هذا الحوت صخرة سمكها كغلظ السموات والأرض ، وعلى ظهرها ثور له أربعون ألف قرن ، وعلى متنه الأرضون السبع وما فيهن وما بينهن (6) فالله أعلم. ومن العجيب (7) أن بعضهم حمل على هذا المعنى الحديث الذي رواه الإمام أحمد :
حدثنا إسماعيل ، حدثنا حُمَيد ، عن أنس : أن عبد الله بن سلام بَلَغه مَقْدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فأتاه فسأله عن أشياء ، قال : إني سائلك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي ، قال : ما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة ؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه ؟ والولد ينزع إلى أمه ؟ قال : "أخبرني بهن جبريل آنفًا". قال ابن سلام : فذاك عدو اليهود من الملائكة. قال : "أما أول أشراط الساعة فنار تَحشرهم (8) من المشرق إلى المغرب. وأول طعام يأكله أهل الجنة زيادةُ كبد حوت. وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت".
__________
(1) في أ : "أبو صهيب".
(2) في أ : "المهدى".
(3) المعجم الكبير (11/433) وقال : "لم يرفعه عن حماد بن زيد إلا مؤمل بن إسماعيل". ومؤمل كثير الخطأ ، فلعله أخطأ في رفعه.
(4) تاريخ دمشق (17/492 "المخطوط" ) ورواه الحكيم الترمذي كما في إتحاف السادة المتقين (1/454) من طريق يحيى الغساني ، عن أبي عبد الله ، عن أبي صالح ، به. ورواه ابن عدي في الكامل (6/269) من طريق محمد بن وهب ، عن مسلم ، عن مالك ، عن سمي ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة مرفوعًا بنحوه ، قال : "هذا بهذا الإسناد باطل منكر" وآفته محمد بن وهب. قال الذهبي في الميزان : "صدق ابن عدي في أن هذا الحديث باطل".
(5) زيادة من م.
(6) معالم التنزيل (8/186) وهذا من الإسرائيليات كما ذكر ذلك الشيخ محمد أبو شهبة في كتابه : "الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير" (ص305) وقال الإمام ابن القيم في المنار المنيف (ص76) في ذكر علامات الوضع : "أن يكون الحديث مما تشهد الشواهد الصحيحة على بطلانه ، ومن هذا حديث : "إن الأرض على صخرة ، والصخرة على قرن ثور ، فإذا حرك الثور قرنه تحركت الصخرة ، فتحركت الأرض ، وهي الزلزلة" والعجب من مسود كتبه بهذه الهذيانات". أ. هـ.
(7) في أ : "ومن العجب".
(8) في أ : "تحشر الناس".

(8/185)


ورواه البخاري من طرق عن حُمَيد ، ورواه مسلم أيضا (1) وله من حديث ثوبان - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - نحو هذا. وفي صحيح مسلم من حديث أبي أسماء الرحبي ، عن ثوبان : أن حبرًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسائل ، فكان منها أن قال : فما تحفتهم ؟ - يعني أهل الجنة حين يدخلون الجنة - قال : "زيادة كبد الحوت". قال : فما غذاؤهم على أثرها ؟ قال : "ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها". قال : فما شرابهم عليه ؟ قال : "من عين فيها تسمى سلسبيلا " (2).
وقيل : المراد بقوله : { ن } لوح من نور.
قال ابن جرير : حدثنا الحسين بن شبيب المكتب ، حدثنا محمد بن زياد الجزري ، عن فرات بن أبي الفرات ، عن معاوية بن قُرّة ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } لوح من نور ، وقلم من نور ، يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة" (3) وهذا مرسل غريب.
وقال ابن جُرَيج (4) أخبرت أن ذلك القلم من نور طوله مائة عام.
وقيل : المراد بقوله : { ن } دواة ، والقلم : القلم. قال ابن جرير :
حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور ، عن مَعْمَر ، عن الحسن وقتادة في قوله : { ن } قالا هي الدواة.
وقد روي في هذا حديث مرفوع غريب جدًا فقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن خالد ، حدثنا الحسن بن يحيى ، حدثنا أبو عبد الله مولى بني أمية ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "خلق الله النون ، وهي الدواة" (5).
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب ، حدثنا أخي عيسى بن عبد الله ، حدثنا ثابت الثمالي ، عن ابن عباس قال : إن الله خلق النون - وهي الدواة - وخلق القلم ، فقال : اكتب. قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول ، به بر أو فجور ، أو رزق مقسوم حلال أو حرام. ثم ألزم كل شيء من ذلك ، شأنه : دخوله في الدنيا ، ومقامه فيها كم ؟ وخروجه منها كيف ؟ ثم جعل على العباد حفظة ، وللكتاب خزانًا ، فالحفظة ينسخون كل يوم من الخزان عمل ذلك اليوم ، فإذا فني الرزق وانقطع الأثر وانقضى الأجل ، أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم ، فتقول لهم الخزنة : ما نجد لصاحبكم عندنا شيئًا فترجع الحفظة فيجدونهم قد ماتوا. قال : فقال ابن عباس : ألستم قومًا عَرَبا تسمعون الحفظة يقولون : { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجاثية : 29] ؟ وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل (6).
__________
(1) المسند (3/189) وصحيح البخاري برقم (3938) ولم أقع عليه في صحيح مسلم.
(2) صحيح مسلم برقم (315).
(3) تفسير الطبري (29/10).
(4) في أ : "ابن جرير".
(5) ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (17/492 "المخطوط") من طريق الفريابي ، عن هشام عن الحسن بن يحيى به مطولاً ، وقد تقدم قريبًا في هذه السورة.
(6) تفسير الطبري (29/10).

(8/186)


وقوله : { والقلم } الظاهر أنه جنس القلم الذي يكتب به كقوله { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [العاق : 3 - 5]. فهو قسم منه تعالى ، وتنبيه لخلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم ؛ ولهذا قال : { وَمَا يَسْطُرُونَ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : يعني : وما يكتبون.
وقال أبو الضُّحى ، عن ابن عباس : { وَمَا يَسْطُرُونَ } أي : وما يعملون.
وقال السدي : { وَمَا يَسْطُرُونَ } يعني الملائكة وما تكتب من أعمال العباد.
وقال آخرون : بل المراد هاهنا بالقلم الذي أجراه الله بالقدر حين كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرضين بخمسين ألف سنة. وأوردوا في ذلك الأحاديث الواردة في ذكر القلم ، فقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان ويونس بن حبيب قالا حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا عبد الواحد بن سُليم السلمي ، عن عطاء - هو ابن أبي رباح - حدثني الوليد بن عبادة بن الصامت قال : دعاني أبي حين حضره الموت فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب. قال : يا رب وما أكتب ؟ قال : اكتب القدر [ما كان] (1) وما هو كائن إلى الأبد".
وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد من طرق ، عن الوليد بن عبادة ، عن أبيه ، به (2) وأخرجه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي ، به (3) وقال : حسن صحيح غريب. ورواه أبو داود في كتاب "السنة" من سننه ، عن جعفر بن مسافر ، عن يحيى بن حسان ، عن ابن رباح ، عن إبراهيم بن أبي عبلة (4) عن أبي حفصة - واسمه حُبَيش بن شُريح الحَبشي الشامي - عن عبادة ، فذكره (5).
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله الطوسي ، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا رباح بن زيد ، عن عمر بن حبيب ، عن القاسم بن أبي بَزة (6) عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن أول شيء خلقه الله القلم فأمره فكتب كل شيء". غريب من هذا الوجه ، ولم يخرجوه (7)
وقال ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد : { وَالْقَلَمِ } يعني : الذي كتب به الذكر..
وقوله : { وَمَا يَسْطُرُونَ } أي : يكتبون كما تقدم.
__________
(1) زيادة من منحة المعبود. مستفادًا من هامش ط - الشعب.
(2) المسند (5/317).
(3) سنن الترمذي برقم (3319).
(4) في أ : "عن ابن أبي عبلة".
(5) سنن أبي داود برقم (4700).
(6) في أ : "بن أبي مرة".
(7) تفسير الطبري (29/11).

(8/187)


وقوله : { مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } أي : لست ، ولله الحمد ، بمجنون ، كما قد يقوله الجهلة من قومك ، المكذبون بما جئتهم به من الهدى والحق المبين ، فنسبوك فيه إلى الجنون ، { وَإِنَّ لَكَ لأجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ } أي : بل لك الأجر العظيم ، والثواب الجزيل الذي لا ينقطع ولا يبيد ، على إبلاغك رسالة ربك إلى الخلق ، وصبرك على أذاهم. ومعنى { غَيْرُ مَمْنُونٍ } أي : غير مقطوع كقوله : { عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [هود : 108]{ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [التين : 6] أي : غير مقطوع عنهم. وقال مجاهد : { غَيْرُ مَمْنُونٍ } أي : غير محسوب ، وهو يرجع إلى ما قلناه.
وقوله : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } قال العوفي ، عن ابن عباس : أي : وإنك لعلى دين (1) عظيم ، وهو الإسلام. وكذلك قال مجاهد ، وأبو مالك ، والسدي ، والربيع بن أنس ، والضحاك ، وابن زيد.
وقال عطية : لعلى أدب عظيم. وقال مَعْمَر ، عن قتادة : سُئلت عائشةُ عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت : كان خلقه القرآن ، تقول كما هو في القرآن.
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة قوله : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ذكر لنا أن سعد (2) بن هشام سأل عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت : ألست تقرأ القرآن ؟ قال : بلى. قالت : فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن.
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة ، عن زُرارة بن أوفى (3) عن سعد بن هشام قال : سألت عائشة فقلت : أخبريني يا أم المؤمنين - عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت : أتقرأ القرآن ؟ فقلتُ : نعم. فقالت : كان خلقه القرآن (4).
هذا حديث طويل. وقد رواه الإمام مسلم في صحيحه ، من حديث قتادة بطوله (5) وسيأتي في سورة "المزمل" إن شاء الله تعالى.
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا يونس ، عن الحسن قال : سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : كان خلقه القرآن (6).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أسود ، حدثنا شريك ، عن قيس بن وهب ، عن رجل من بني سواد قال : سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت : أما تقرأ القرآن : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ؟ قال : قلت : حدثيني عن ذاك. قالت : صنعت له طعامًا ، وصنعت له حفصة طعامًا ، فقلت لجاريتي : اذهبي فإن جاءت هي بالطعام فوضعته قبلُ فاطرحي الطعام! قالت : فجاءت بالطعام. قالت : فألقت (7) الجارية ، فوقعت القصعة فانكسرت - وكان نِطْعًا (8) - قالت : فجمعه رسول الله
__________
(1) في أ : "لعلى خلق".
(2) في أ : "أ ، سعيد".
(3) في أ : "زرارة بن أبي أوفي".
(4) تفسير عبد الرزاق (2/245).
(5) صحيح مسلم برقم (746).
(6) المسند (6/216).
(7) في أ : "فالتفتت".
(8) في هـ ، م ، أ : "نطع" ، والمثبت من المسند.

(8/188)


وقال : "اقتضوا - أو : اقتضى - شك أسود - ظَرفًا مكان ظَرفِك". قالت : فما قال شيئًا (1).
وقال ابن جرير : حدثنا عبيد بن آدم بن أبي أياس ، حدثنا أبي ، حدثنا المبارك بن فضالة ، عن الحسن ، عن سعد (2) بن هشام : قال : أتيت عائشة أم المؤمنين فقلت لها : أخبريني بخلُق النبي (3) صلى لله عليه وسلم. فقالت : كان خلقه القرآن. أما تقرأ : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }
وقد روى أبو داود والنسائي ، من حديث الحسن ، نحوه (4)
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب ، وأخبرني معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن جُبَير بن نفير قال : حججتُ فدخلتُ على عائشة ، رضي الله عنها ، فسألتها عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت : كان خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن.
وهكذا رواه أحمد ، عن عبد الرحمن بن مهدي. ورواه النسائي في التفسير ، عن إسحاق بن منصور ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن معاوية بن صالح ، به (5)
ومعنى هذا أنه ، عليه السلام ، صار امتثالُ القرآن ، أمرًا ونهيًا ، سجية له ، وخلقًا تَطَبَّعَه ، وترك طبعه الجِبِلِّي ، فمهما أمره القرآن فعله ، ومهما نهاه عنه تركه. هذا مع ما جَبَله الله عليه من الخلق العظيم ، من الحياء والكرم والشجاعة ، والصفح والحلم ، وكل خلق جميل. كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال : خدمتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي : "أف" قط ، ولا قال لشيء فعلته : لم فعلته ؟ ولا لشيء لم أفعله : ألا فعلته ؟ وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا ولا مَسسْتُ خزًا ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا شَمَمْتُ مسكًا ولا عطرًا كان أطيب من عَرَق رسول الله صلى الله عليه وسلم (6)
وقال البخاري : [حدثنا أحمد بن سعيد أبو عبد الله] (7) حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا إبراهيم بن يوسف ، عن أبيه ، عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها ، وأحسن الناس خلقًا ، ليس بالطويل البائن ، ولا بالقصير (8)
والأحاديث في هذا كثيرة ، ولأبي عيسى الترمذي في هذا كتاب "الشمائل".
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادمًا له قط ، ولا امرأة ، ولا ضرب بيده شيئًا قط ، إلا أن
__________
(1) المسند (6/11).
(2) في هـ ، أ : "سعيد" ، والمثبت من م وتفسير الطبري.
(3) في م : "رسول الله".
(4) تفسير الطبري (29/13) وسنن أبي داود برقم (1352) وسنن النسائي (3/220).
(5) تفسير الطبري (29/13) والمسند (6/188) وسنن النسائي الكبرى برقم (11138).
(6) صحيح البخاري برقم (6038) وصحيح مسلم برقم (2309).
(7) زيادة من م ، أ ، وصحيح البخاري.
(8) صحيح البخاري برقم (3549).

(8/189)


فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)

يجاهد في سبيل الله. ولا خُيِّر بين شيئين قط إلا كان أحبهما إليه أيسرهما حتى يكون إثمًا ، فإذا كان إثما كان أبعد الناس من الإثم ، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله ، فيكون هو ينتقم لله ، عز وجل (1)
وقال الإمام أحمد : حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن محمد بن عَجْلان ، عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، عن أبي هُرَيرة قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : "إنما بُعِثتُ لأتمم صالح الأخلاق". تفرد به (2)
وقوله : { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ } أي : فستعلم يا محمد ، وسيعلم مخالفوك ومكذبوك : من المفتون الضال منك ومنهم. وهذا كقوله تعالى : { سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ } [القمر : 26] ، وكقوله : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } [سبأ : 24].
قال ابن جريج : قال ابن عباس في هذه الآية : ستعلم ويعلمون يوم القيامة.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ } أي : الجنون. وكذا قال مجاهد ، وغيره. وقال قتادة وغيره : { بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ } أي : أولى بالشيطان.
ومعنى المفتون ظاهر ، أي : الذي قد افتتن عن الحق وضل عنه ، وإنما دخلت الباء في قوله : { بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ } لتدل على تضمين الفعل في قوله : { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } وتقديره : فستعلم ويعلمون ، أو : فستُخْبَر ويُخْبَرون بأيكم المفتون. والله أعلم.
ثم قال تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } أي : هو يعلم تعالى أي الفريقين منكم ومنهم هو المهتدي ، ويعلم الحزب الضال عن الحق.
{ فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (15) }
__________
(1) المسند (6/232).
(2) المسند (2/381).

(8/190)


سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)

{ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) }
يقول تعالى : كما أنعمنا عليك وأعطيناك الشرع المستقيم والخلق العظيم { فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ } { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } قال ابن عباس : لو تُرَخِّص لهم فَيُرَخِّصون.
وقال مجاهد : ودوا لو تركن إلى آلهتهم وتترك ما أنت عليه من الحق.
ثم قال تعالى : { وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ } وذلك أن الكاذب لضعفه ومهانته إنما يتقي بأيمانه الكاذبة التي يجترئ بها على أسماء الله تعالى ، واستعمالها في كل وقت في غير محلها.

(8/190)


قال ابن عباس : المهين الكاذب. وقال مجاهد : هو الضعيف القلب. قال الحسن : كل حلاف مكابر مهين ضعيف.
وقوله { هَمَّازٍ } قال ابن عباس وقتادة : يعني الاغتياب.
{ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ } يعني : الذي يمشي بين الناس ، ويحرش بينهم وينقل الحديث لفساد ذات البين وهي الحالقة ، وقد ثبت في الصحيحين من حديث مجاهد ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال : "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ، أما أحدهما فكان لا يستتر (1) من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة" الحديث. وأخرجه بقية الجماعة في كتبهم ، من طرق عن مجاهد ، به (2).
وقال أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن هَمّام ؛ أن حُذَيفة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا يدخل الجنة قَتَّات".
رواه الجماعة - إلا ابن ماجة - من طرق ، عن إبراهيم ، به (3).
وحدثنا عبد الرزاق ، حدثنا الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن همام ، عن حذيفة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا يدخل الجنة قتات" يعني : نماما (4).
وحدثنا يحيى بن سعيد القطان أبو سعيد الأحول ، عن الأعمش ، حدثني إبراهيم - منذ نحو ستين سنة - عن همام بن الحارث قال : مر رجل على حذيفة فقيل : إن هذا يرفع الحديث إلى الأمراء. فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - أو : قال - : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يدخل الجنة قتات" (5).
وقال أحمد : حدثنا هاشم ، حدثنا مهدي ، عن واصل الأحدب ، عن أبي وائل قال : بلغ حذيفة عن رجل أنه ينم الحديث ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا يدخل الجنة نمام" (6).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا مَعْمَر ، عن ابن خُثَيم ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن أسماء بنت يزيد بن السكن ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ألا أخبركم بخياركم ؟". قالوا : بلى يا رسول الله. قال : "الذين إذا رُؤوا ذُكر الله ، عز وجل". ثم قال : "ألا أخبركم بشراركم ؟ المشاءون بالنميمة ، المفسدون بين الأحبة ، والباغون للبرآء العَنَت".
ورواه ابن ماجة ، عن سويد بن سعيد ، عن يحيى بن سليم ، عن ابن خُثَيم ، به (7).
__________
(1) في أ : "لا يستبرئ".
(2) صحيح البخاري برقم (218) وصحيح مسلم برقم (292) وسنن أبي داود برقم (20) وسنن الترمذي برقم (70) وسنن النسائي (1/28) وسنن ابن ماجة برقم (347).
(3) المسند (5/382) وصحيح البخاري برقم (6506) وصحيح مسلم برقم (105) وسنن أبي داود برقم (4871) وسنن الترمذي برقم (2026) وسنن النسائي الكبري برقم (1164).
(4) المسند (5/389).
(5) المسند (5/389).
(6) المسند (5/391).
(7) المسند (6/459) وسنن ابن ماجة برقم (4119) وقال البوصيري في الزوائد (3/273) : "هذا إسناد حسن ، شهر وسويد مختلف فيهما ، وباقي رجال الإسناد ثقات".

(8/191)


وقال الإمام أحمد حدثنا سفيان ، عن ابن أبي حُسَين ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غَنْم - يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم : "خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله ، وشرار عباد الله المشاؤون بالنميمة ، المفرقون بين الأحبة ، الباغون للبرآء العنت" (1)
وقوله { مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } أي : يمنع ما عليه وما لديه من الخير { ِ مُعْتَدٍ } في متناول ما أحل الله له ، يتجاوز فيها الحد المشروع { أَثِيمٍ } أي : يتناول المحرمات.
وقوله : { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } أما العتل : فهو الفظ الغليظ الصحيح ، الجموع المَنُوعُ.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع وعبد الرحمن ، عن سفيان ، عن مَعْبَد (2) بن خالد ، عن حارثة بن وهب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا أنبئكم بأهل الجنة ؟ كل ضعيف مُتَضَعَّف لو أقسم على الله لأبره ، ألا أنبئكم بأهل النار ؟ كل عُتل جَوّاظ مستكبر". وقال وَكِيع : "كل جَوَّاظ جعظري مستكبر".
أخرجاه في الصحيحين بقية الجماعة ، إلا أبا داود ، من حديث سفيان الثوري وشعبة ، كلاهما عن معبد بن خالد ، به (3).
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا موسى بن علي قال : سمعت أبي يحدِّث عن عبد الله بن عمرو بن العاص ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند ذكر أهل النار : "كل جعظري جواظ مستكبر جماع مناع". تفرد به أحمد (4).
قال أهل اللغة : الجعظري : الفَظُّ الغَليظ ، والجَوّاظ : الجَمُوع المَنُوع.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا عبد الحميد ، عن شَهْر بن حَوْشب ، عن عبد الرحمن بن غَنْم ، قال : سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العُتلِّ الزنيم ، فقال : "هو الشديد الخَلْق المصحح ، الأكول الشروب ، الواجد للطعام والشراب ، الظلوم للناس ، رحيب الجوف" (5).
وبهذا الإسناد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يدخل الجنة الجَواظ الجعظري ، العتل الزنيم" (6) وقد أرسله أيضًا غير واحد من التابعين.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور ، عن مَعْمر ، عن زيد بن أسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تبكي السماء من عبد أصح الله جسمه ، وأرحب جوفه ، وأعطاه من الدنيا مِقضَمًا فكان للناس ظلومًا. قال : فذلك العُتُل (7) الزنيم" (8).
__________
(1) المسند (4/227).
(2) في أ : "سعيد".
(3) المسند (4/306) وصحيح البخاري برقم (4918) وصحيح مسلم برقم (2853) وسنن الترمذي برقم (2605) وسنن النسائي الكبرى برقم (11615) وسنن ابن ماجة برقم (4116).
(4) المسند (2/169) وقال الهيثمي في المجمع (10/393) : "رجاله رجال الصحيح".
(5) المسند (4/227) وقال الهيثمي في المجمع (10/393) : "إسناده حسن ، إلا أن ابن غنم لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم" وقال في موضع آخر (7/128) : "فيه شهر بن حوشب وثقه جماعة وفيه ضعف ، وعبد الرحمن بن غنم ليس له صحبة على الصحيح".
(6) المسند (4/227).
(7) في م ، أ : "العبد".
(8) تفسير الطبري (19/16) وهو مرسل.

(8/192)


وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريقين مرسلين ، ونص عليه غير واحد من السلف ، منهم مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، وغيرهم : أن العتل هو : المُصحَّح الخَلْق ، الشديد القوي في المأكل والمشرب والمنكح ، وغير ذلك ، وأما الزنيم فقال البخاري :
حدثنا محمود ، حدثنا عُبَيد الله ، عن (1) إسرائيل ، عن أبي حَصِين ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } قال : رجلٌ من قريش له زَنمة مثل زَنَمة الشاة.
ومعنى هذا : أنه كان مشهورًا بالشر (2) كشهرة الشاة ذات الزنمة من بين أخواتها. وإنما الزنيم في لغة العرب : هو الدّعِيُّ في القوم. قاله ابن جرير وغير واحد من الأئمة ، قال : ومنه قول حسان بن ثابت ، يعني يذم بعض كفار قريش :
وأنتَ زَنيم نِيطَ في آل هاشم... كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرّاكِب القَدَحُ الفَرْدُ (3)
وقال آخر :
زَنيمٌ لَيْسَ يُعرَفُ مَن أبوهُ... بَغيُّ الأم ذُو حَسَب لَئيم...
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمار بن خالد الواسطي ، حدثنا أسباط ، عن هشام ، عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس في قوله : { زَنِيمٍ } قال : الدعيُّ الفاحش اللئيم. ثم قال ابن عباس :
زَنيمٌ تَداعاه الرجالُ زيادَةً... كَما زيدَ في عَرضِ الأديم الأكَارعُ (4)
وقال العوفي عن ابن عباس : الزنيم : الدعي. ويقال : الزنيم : رجل كانت به زنمة ، يعرف بها. ويقال : هو الأخنس بن شَريق الثقفي ، حليف بني زهرة. وزعم أناس من بني زهرة أن الزنيم الأسودُ بن عبد يغوث الزهري ، وليس به.
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : أنه زعم أن الزنيم المُلحَق النسب.
وقال ابن أبي حاتم : حدثني يونس حدثنا ابن وهب ، حدثني سليمان بن بلال ، عن عبد الرحمن بن حرملة ، عن سعيد بن المُسيَّب ، أنه سمعه يقول في هذه الآية : { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } قال سعيد : هو الملصق بالقوم ، ليس منهم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عقبة بن خالد ، عن عامر بن قدامة قال : سئل عكرمة عن الزنيم ، قال : هو ولد الزنا.
وقال الحكم بن أبان ، عن عكرمة في قوله تعالى : { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } قال : يعرف المؤمن من الكافر مثل الشاة الزنماء. والزنماء من الشياه : التي في عنقها هَنتان معلقتان في حلقها. وقال الثوري ، عن جابر ، عن الحسن ، عن سعيد بن جبير قال : الزنيم : الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها. والزنيم : الملصق. رواه ابن جرير.
__________
(1) في أ : "بن".
(2) في أ : "بالسوء".
(3) تفسير الطبري(19/17).
(4) البيت في اللسان ، مادة "زنم" منسوبًا إلى الخطيم التميمي.

(8/193)


وروى أيضا من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال في الزنيم : قال : نُعِتَ فلم يعرف حتى قيل : زنيم. قال : وكانت له زَنَمَةٌ في عنقه يُعرَف بها. وقال آخرون : كان دَعيًا.
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن أصحاب التفسير قالوا (1) هو الذي تكون له زَنَمَة مثل زنمة الشاة.
وقال الضحاك : كانت له زَنَمَة في أصل أذنه ، ويقال : هو اللئيم الملصق في النسب.
وقال أبو إسحاق : عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : هو المريب الذي يعرف بالشر.
وقال مجاهد : الزنيم الذي يعرف بهذا الوصف كما تعرف الشاة. وقال أبو رَزِين : الزنيم علامة الكفر. وقال عكرمة : الزنيم الذي يعرف باللؤم كما تعرف الشاة بزنمتها.
والأقوال في هذا كثيرة ، وترجع إلى ما قلناه ، وهو أن الزنيم هو : المشهور بالشر ، الذي يعرف به من بين الناس ، وغالبًا يكون دعيًا وله زنا ، فإنه في الغالب يتسلط الشيطان عليه ما لا يتسلط على غيره ، كما جاء في الحديث : "لا يدخل الجنة ولد زنا" (2) وفي الحديث الآخر : "ولد الزنا شَرُّ الثلاثة إذا عمل بعمل أبويه" (3).
وقوله : { أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } يقول تعالى : هذا مقابلة ما أنعم الله عليه من المال والبنين ، كفر بآيات الله وأعرض عنها ، وزعم أنها كَذب مأخوذ من أساطير الأولين ، كقوله : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ } قال الله تعالى : { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } [المدثر : 11 - 26]. قال تعالى هاهنا : { سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ }
قال ابن جرير : سنبين أمره بيانًا واضحًا ، حتى يعرفوه ولا يخفى عليهم ، كما لا تخفى السمة على الخراطيم (4) وهكذا قال قتادة : { سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ } شين لا يفارقه آخر ما عليه.
__________
(1) في أ : "قال".
(2) رواه الإمام أحمد في المسند (2/203) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، رضي الله عنه ، ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (4925 ، 4926) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه ، وقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات (3/111) قال : "وفيه مخالفة للأصول وأعظمها قوله تعالى : "ولا تزر وازرة أخرى". قال الإمام ابن القيم متعقبًا على ابن الجوزي في المنارالمنيف (ص133) : "ليست معرضة بها إن صحت ، فإنه لم يحرم الجنة بفعل والديه ، بل لأن النطفة الخبيثة لا يتخلق منها طيب في الغالب ، ولا يدخل الجنة إلا نفس طيبة ، فإن كانت في هذا الجنس طيبة دخلت الجنة ، وكان الحديث من العام المخصوص ، وقد ورد في ذمة : "أنه شر الثلاثة" وهو حديث حسن ومعناه صحيح بهذا الاعتبار ، فإن شر الأبوين عارض ، وهذه نطفة خبيثة فشره في أصله وشر الأبوين في فعلهما". قلت : ويوجه أيضًا بالتقييد الذي في حديث عائشة الآتي بأنه شر الثلاثة إذا عمل عمل أبويه ، وكلام ابن الجوزي منطبق على حديث : "ولد الزنا في النار إلى سبعة أبناء". وهو موضوع.
(3) رواه الإمام أحمد (6/109) من حديث عائشة ، رضي الله عنها ، و (2/311) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(4) في م : "على الخرطوم".

(8/194)


إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)

وفي رواية عنه : سيما (1) على أنفه. وكذا قال السدي.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ } يقاتل يوم بدر ، فيُخطم بالسيف في القتال. وقال آخرون : { سَنَسِمُهُ } سمة أهل النار ، يعني نسود وجهه يوم القيامة ، وعبر عن الوجه بالخرطوم. حكى ذلك كله أبو جعفر ابن جرير ، ومال إلى أنه لا مانع من اجتماع الجميع عليه في الدنيا والآخرة ، وهو مُتّجه.
وقد (2) قال ابن أبي حاتم في سورة { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ } حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، حدثني الليث حدثني خالد عن (3) سعيد ، عن عبد الملك بن عبد الله ، عن عيسى بن هلال الصدفي ، عن عبد الله بن عمرو ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن العبد يكتب مؤمنًا أحقابًا ثم أحقابا (4) ثم يموت والله عليه ساخط. وإن العبد يكتب كافرًا أحقابًا ثم أحقابًا ، ثم يموت والله عليه (5) راض. ومن مات هَمَّازًا لمَّازًا مُلَقَّبا للناس ، كان علامته يوم القيامة أن يسميه الله على الخرطوم ، من كلا الشفتين" (6).
{ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) }
هذا مَثَل ضَرَبه الله تعالى لكفار قريش فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة ، وأعطاهم من النعم الجسيمة ، وهو بَعْثُهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم إليهم ، فقابلوه بالتكذيب والرد والمحاربة ؛ ولهذا قال : { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ } أي : اختبرناهم ، { كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ } وهي البستان المشتمل على أنواع الثمار
__________
(1) في م : "سنسمه سيما".
(2) في م : "ولهذا".
(3) في م ، أ ، هـ : " بن" والصواب ما أثبتناه من المعجم الكبير للطبراني.
(4) في أ : "أحيانا ثم أحيانا".
(5) في م : "عنه".
(6) ورواه الطبراني في المعجم الكبير برقم (60) "القطعة المفقودة" والمعجم الأوسط برقم (3234) "مجمع البحرين" عن المطلب الأزدى ، عن عبد الله بن صالح به. وقال في الأوسط : "لا يروى عن عبد الله بن عمرو إلا بهذا الإسناد ، تفرد به الليث".

(8/195)


والفواكه { إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } أي : حلفوا فيما بينهم لَيجُذَّنَ ثَمرها ليلا لئلا يعلم بهم فقير ولا سائل ، ليتوفر ثمرها عليهم ولا يتصدقوا منه بشيء ، { وَلا يَسْتَثْنُونَ } أي : فيما حلفوا به. ولهذا حنثهم الله في أيمانهم ، فقال : { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ } أي : أصابتها آفة سماوية ، { فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ } قال ابن عباس : أي كالليل الأسود. وقال الثوري ، والسدي : مثل الزرع إذا حُصِد ، أي هشيمًا يبسًا.
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن أحمد بن الصباح : أنبأنا بشر بن زاذان ، عن عمر بن صبح (1) عن ليث بن أبي سليم ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إياكم والمعاصي ، إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقًا قد كان هُيِّئ له" ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ } قد حرموا خَير جَنّتهم بذنبهم (2).
{ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ } أي : لما كان وقت الصبح نادى بعضهم بعضًا ليذهبوا إلى الجَذَاذ ،
{ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ } أي : تريدون الصرام. قال مجاهد : كان حرثهم عِنَبًا.
{ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ } أي : يتناجون فيما بينهم بحيث لا يُسمعون أحدًا كلامهم. ثم فسر الله عالم السر والنجوى ما كانوا يتخافتون به ، فقال : { فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ } أي : يقول بعضهم لبعض : لا تمكنوا اليوم فقيرًا يدخلها عليكم!
قال الله تعالى : { وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ } أي : قوة وشدة. وقال مجاهد : { وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ } أي : جد وقال عكرمة : غيظ. وقال الشعبي : { عَلَى حَرْدٍ } على المساكين. وقال السدي : { عَلَى حَرْدٍ } أي : كان اسم قريتهم حرد. فأبعد السدي في قوله هذا!
{ قَادِرِينَ } أي : عليها فيما يزعمون ويَرومون.
{ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ } أي : فلما وصلوا إليها وأشرفوا عليها ، وهي على الحالة التي قال الله ، عز وجل ، قد استحالت عن تلك النضارة والزهرة وكثرة الثمار إلى أن صارت سوداء مُدْلَهِمَّة ، لا ينتفع بشيء منها ، فاعتقدوا أنهم قد أخطئوا الطريق ؛ ولهذا قالوا : { إِنَّا لَضَالُّونَ } أي : قد سلكنا إليها غير الطريق فتُهنا عنها. قاله ابن عباس وغيره. ثم رجعوا عما كانوا فيه ، وتيقنوا أنها هي فقالوا : { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي : بل هذه هي ، ولكن نحن لا حَظّ لنا ولا نصيب.
{ قَالَ أَوْسَطُهُمْ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومحمد بن كعب ، والربيع بن أنس ، والضحاك ، وقتادة : أي : أعدلهم وخيرهم : { أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ } ! قال مجاهد ، والسدي ، وابن جريج : { لَوْلا تُسَبِّحُونَ } أي : لولا تستثنون. قال السدي : وكان استثناؤهم في ذلك الزمان تسبيحًا.
__________
(1) في أ : "بن صبيح".
(2) وفي إسناد عمر بن صبح قال ابن حيان : كان ممن يضع الحديث. وقال الدارقطنى : متروك. وقال الأذي : كذاب. وله شاهد من حديث ثوبان ، رضي الله عنه ، رواه الإمام أحمد في المسند (5/277).

(8/196)


إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)

وقال ابن جريج : هو قول القائل : إن شاء الله. وقيل : معناه : { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ } أي : هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم وأنعم به عليكم ، { قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } أتوا بالطاعة حيث لا تنفع ، وندموا واعترفوا حيث لا ينجع ؛ ولهذا قالوا : { إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ } أي : يلوم بعضهم بعضًا على ما كانوا أصروا عليه من منع المساكين من حق الجذاذ ، فما كان جواب بعضهم لبعض إلا الاعتراف بالخطيئة والذنب ، { قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ } أي : اعتدينا وبَغَينا وطغينا وجاوزنا الحد حتى أصابنا ما أصابنا ، { عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ } قيل : رغبوا في بذلها لهم في الدنيا. وقيل : احتسبوا ثوابها في الدار الآخرة ، والله أعلم.
ثم قد ذكر بعض السلف أن هؤلاء قد كانوا من أهل اليمن - قال سعيد بن جبير : كانوا من قرية يقال لها ضروان (1) على ستة أميال من صنعاء. وقيل : كانوا من أهل الحبشة - وكان أبوهم قد خلف لهم هذه الجنة ، وكانوا من أهل الكتاب ، وقد كان أبوهم يسير فيها سيرة حسنة ، فكان ما استغله منها يرد فيها ما يحتاج إليها ويدّخر لعياله قوت سنتهم ، ويتصدق بالفاضل. فلما مات ورثه بنوه ، قالوا : لقد كان أبونا أحمقَ إذ كان يصرف من هذه شيئًا للفقراء ، ولو أنَّا منعناهم لتوفر ذلك علينا. فلما عزموا على ذلك عُوقِبوا بنقيض قصدهم ، فأذهب الله ما بأيديهم بالكلية ، رأس المال الربح والصدقة ، فلم يبق لهم شيء.
قال الله تعالى : { كَذَلِكَ الْعَذَابُ } أي : هكذا عذاب من خالف أمر الله ، وبخل بما آتاه الله وأنعم به عليه ، ومنع حق المسكين والفقراء (2) وذوي الحاجات ، وبدل نعمة الله كفرا { وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } أي : هذه عقوبة الدنيا كما سمعتم ، وعذاب الآخرة أشق. وقد ورد في حديث رواه الحافظ البيهقي من طريق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، عن أبيه ، عن جده ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الجداد (3) بالليل ، والحصاد بالليل (4).
{ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) }
__________
(1) في أ : "جردان".
(2) في أ : "حق المسكين والفقير".
(3) في م ، أ ، هـ : "الجذاذ" بالذال وهو خطأ والمثبت من سنن البيهقي.
(4) سنن البيهقي الكبرى (4/133) والجداد - بالدال بالفتح والكسر - قال ابن الأثير في النهاية (1/244) : "هي صرام النخل ، وهو قطع ثمرتها ، يقال : جد الثمرة يجدها جدا ، وإنما نهى عن ذلك لأجل المساكين حتى يحضروا في النهار فيتصدق عليهم منه".

(8/197)


يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)

لما ذكر [الله] (1) تعالى حال أهل الجنة الدنيوية ، وما أصابهم فيها من النقمة حين عصوا الله ، عز وجل ، وخالفوا أمره ، بين أن لمن اتقاه وأطاعه في الدار الآخرة جنات النعيم التي لا تَبيد ولا تفرغ ولا ينقضي نعيمها.
ثم قال : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } ؟ أي : أفنساوي بين هؤلاء وهؤلاء في الجزاء ؟ كلا ورب الأرض والسماء ؛ ولهذا قال { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } ! أي : كيف تظنون ذلك ؟.
ثم قال : { أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ } يقول : أفبأيديكم كتاب منزل من السماء تدرسونه وتحفظونه وتتداولونه بنقل الخلف عن السلف ، مُتضمن حكما مؤكدًا كما تدعونه ؟ { إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } أي : أمعكم عهود منا ومواثيق مؤكدة ، { إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } أي : أنه سيحصل لكم ما تريدون وتشتهون ، { سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ } ؟ أي : قل لهم : من هو المتضمن المتكفل بهذا ؟
{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ } أي : من الأصنام والأنداد ، { فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ }
{ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) }
__________
(1) زياده من م.

(8/198)


خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)

{ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) }
لما ذكر تعالى أن للمتقين عنده (1) جنات النعيم ، بين متى ذلك كائن وواقع ، فقال : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ } يعني : يوم القيامة وما يكون فيه من الأهوال والزلازل والبلاء والامتحان والأمور العظام. وقد قال البخاري هاهنا :
حدثنا آدم ، حدثنا الليث ، عن خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يَسَار ، عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "يَكشِفُ رَبّنا عن ساقه ، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة ، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طَبَقًا واحدًا" (2).
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وفي غيرهما من طرق (3) وله ألفاظ ، وهو حديث طويل مشهور.
وقد قال عبد الله بن المبارك ، عن أسامة بن زيد ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ }
__________
(1) في م : "عند ربهم".
(2) صحيح البخاري برقم (4919).
(3) وهو حديث الشفاعة وقد سبق سياقه بطريقه وألفاظه عند تفسير أول سورة الإسراء.

(8/198)


قال : هو يوم كَرْب وشدة. رواه ابن جرير ثم قال :
حدثنا ابن حميد ، حدثنا مِهْران ، عن سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، عن ابن مسعود - أو : ابن عباس ، الشك من ابن جرير - : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } قال : عن أمر عظيم ، كقول الشاعر :
وقامت الحرب بنا عن ساق (1)
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } قال : شدة الأمر (2)
وقال ابن عباس : هي أول (3) ساعة تكون في يوم القيامة.
وقال ابن جُرَيح ، عن مجاهد : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } قال : شدة الأمر وجده.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } هو الأمر الشديد المُفظِع من الهول يوم القيامة.
وقال العوفي ، عن ابن عباس قوله : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } يقول : حين يكشف الأمر وتبدو الأعمال. وكشفه دخول الآخرة ، وكشف الأمر عنه. وكذا روى الضحاك وغيره عن ابن عباس. أورد ذلك كله أبو جعفر بن جرير ثم قال :
حدثني أبو زيد عمر بن شَبَّة ، حدثنا هارون بن عمر المخزومي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا أبو سعيد روح بن جناح ، عن مولى لعمر بن عبد العزيز ، عن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } قال : "عن نور عظيم ، يخرون له سجدًا".
ورواه أبو يعلى ، عن القاسم بن يحيى ، عن الوليد بن مسلم ، به (4) وفيه رجل مبهم (5) والله أعلم.
__________
(1) البيت في تفسير الطبري (29/24).
(2) في أ : "الأمر وجده".
(3) في م : "هي أشد".
(4) تفسير الطبري (29/27) ومسند أبي يعلى (13/269).
تنبيه : ظن بعض الناس أن الحافظ ابن كثير سلك هنا مسلك التأويل لصفة الساق ، وهذا فهم خاطئ ؛ وذلك لأن الحافظ ابن كثير فسر هذه الآية بحديث أبي سعيد ، رضي الله عنه ، ثم ذكر ما قيل في هذه الآية ، وقد تكلم الإمام ابن القيم عن هذه الآية كلامًا بديعًا قال ، رحمه الله ، في الصواعق المرسلة (1/252 ، 253) : "والصحابة متنازعون في تفسير هذه الآية : هل المراد الكشف عن الشدة ؟ أو المراد بها أن الرب تعالى يكشف عن ساقه ؟ ولا يحفظ عن الصحابة والتابعين نزاع فيها يذكر أنه من الصفات أم لا في غير هذا الموضوع ، وليس في ظاهر القرآن ما يدل على أن ذلك صفة لله ؛ لأنه سبحانه لم يضف الساق إليه ، وإنما ذكره مجردًا عن الإضافة منكرًا ، والذين أثبتوا ذلك صفة كاليدين والأصبع لم يأخذ ذلك من ظاهر القرآن ، وإنما أثبتوه بحديث أبي سعيد الخدري المتفق على صحته ، وهو حديث الشفاعة الطويل وفيه : "فيكشف الرب عن ساقه فيخرون له سجدًا". ومن حمل الآية على ذلك قال : قوله تعالى : "يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود" القلم : 42 : مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم : "فيكشف عن ساقة فيخرون له سجدًا". وتنكيره للتعظيم والتفخيم كأنه قال : يكشف عن ساق عظيمة ، جلت عظمتها وتعالى شأنها أن يكون لها نظير أو مثل أو شبيه ، قالوا : وحمل الآية على الشدة لا يصح بوجه ؛ فإن لغة القوم في مثل ذلك أن يقال : كشف الشدة عن القوم لا كشف عنها كما قال تعالى : "فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون" الزخرف : 50 ، وقال "ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر" المؤمنون : 75 ، فالعذاب والشدة هو المكشوف لا المكشوف عنه ، وأيضًا فهناك تحدث الشدة وتشتد ، ولا تزال إلا بدخول الجنة ، وهناك لا يدعون إلى السجود ، وإنما يدعون إليه أشد ما كانت الشدة" انتهى نقلا عن التحذير من مختصرات الصابوني ، وانظر : عقيدة الحافظ ابن كثير للشيخ عبد الآخر الغنيمي (ص48 ، 49) والتحذير للشيخ بكر أبو زيد (ص350 - 353).
(5) في أ : "رجل متهم".

(8/199)


فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)

وقوله : { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أي : في الدار الآخرة بإجرامهم وتكبرهم في الدنيا ، فعوقبوا بنقيض ما كانوا عليه. ولما دعوا إلى السجود في الدنيا فامتنعوا منه مع صحتهم وسلامتهم كذلك عوقبوا بعدم قدرتهم عليه في الآخرة ، إذا تجلى الرب ، عز وجل ، فيسجد له المؤمنون ، لا يستطيع أحد من الكافرين ولا المنافقين أن يسجُد ، بل يعود ظهر أحدهم طبقًا واحدًا ، كلما أراد أحدهم أن يسجد خَرّ لقفاه ، عكس السجود ، كما كانوا في الدنيا ، بخلاف ما عليه المؤمنون.
ثم قال تعالى : { فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ } يعني : القرآن. وهذا تهديد شديد ، أي : دعني وإياه مني ومنه ، أنا أعلم به كيف أستدرجه ، وأمده في غيه وأنظر (1) ثم آخذه أخذ عزيز مقتدر ؛ ولهذا قال : { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ } أي : وهم لا يشعرون ، بل يعتقدون أن ذلك من الله كرامة ، وهو في نفس الأمر إهانة ، كما قال : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } [المؤمنون : 55 ، 56] ، وقال : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } [الأنعام : 44]. ولهذا قال هاهنا : { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } أي : وأؤخرهم وأنظرهم وأمدهم (2) وذلك من كيدي ومكري بهم ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } أي : عظيم لمن خالف أمري ، وكذب رسلي ، واجترأ على معصيتي.
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن الله تعالى ليُمْلي للظالم ، حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه". ثم قرأ : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [هود : 102] (3).
وقوله : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } تقدم تفسيرهما في سورة "الطور" (4) (5) والمعنى في ذلك : أنك يا محمد تدعوهم إلى الله ، عز وجل ، بلا أجر تأخذه منهم ، بل ترجو ثواب ذلك عند الله ، عز وجل ، وهم يكذبون بما جئتهم به ، بمجرد الجهل والكفر والعناد.
{ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52) }
__________
(1) في أ : "وأنظره".
(2) في أ : "وأمد لهم".
(3) صحيح البخاري برقم (4686) وصحيح مسلم برقم (2583) من حديث أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه.
(4) في م : "في سورة النور".
(5) عند تفسير الآيتين : 40 ، 41.

(8/200)


يقول تعالى : { فَاصْبِرْ } يا محمد على أذى قومك لك وتكذيبهم ؛ فإن الله سيحكم لك عليهم ، ويجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة ، { وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ } يعني : ذا النون ، وهو يونس بن متى ، عليه السلام ، حين ذهب مُغَاضِبًا على قومه ، فكان من أمره ما كان من ركوبه في البحر والتقام الحوت له ، وشرود الحوت به في البحار وظلمات غمرات اليم ، وسماعه تسبيح البحر بما فيه للعلي القدير ، الذي لا يُرَدّ ما أنفذه من التقدير ، فحينئذ نادى في الظلمات. { أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [الأنبياء : 87]. قال الله { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } [الأنبياء : 88] ، وقال تعالى : { فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الصافات : 143 ، 144] وقال هاهنا : { إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي : وهو مغموم. وقال عطاء الخراساني ، وأبو مالك : مكروب. وقد قدمنا في الحديث أنه لما قال : { لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } خرجت الكلمة تَحُفّ حول العرش ، فقالت الملائكة : يا رب ، هذا صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة. فقال الله : أما تعرفون هذا ؟ قالوا : لا. قال : هذا يونس. قالوا : يا رب ، عبدك الذي لا يزال يرفع له عمل صالح ودعوة مجابة ؟ قال : نعم. قالوا : أفلا ترحم ما كان يعمله في الرخاء فتنجيه من البلاء ؟ فأمر الله الحوت فألقاه بالعراء ؛ ولهذا قال تعالى : { فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ }
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا ينبغي لأحد أن يقول : أنا خير من يونس بن متى".
ورواه البخاري من حديث سفيان الثوري (1) وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة (2).
وقوله : { وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وغيرهما : { لَيُزْلِقُونَكَ } لينفذونك بأبصارهم ، أي : ليعينونك بأبصارهم ، بمعنى : يحسدونك لبغضهم إياك لولا وقاية الله لك ، وحمايته إياك منهم. وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق ، بأمر الله ، عز وجل ، كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة.
حديث أنس بن مالك ، رضي الله عنه : قال أبو داود : حدثنا سليمان بن داود العَتَكي ، حدثنا شريك(ح) ، وحدثنا العباس العَنْبَريّ ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا شريك ، عن العباس بن ذَرِيح ، عن الشعبي - قال العباس : عن أنس - قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا رقية إلا من عين أو حُمة أو دم لا يرقأ". لم يذكر العباس العين. وهذا لفظ سليمان (3).
حديث بُرَيدة بن الحُصَيب ، رضي الله عنه : قال أبو عبد الله ابن ماجة : حدثنا محمد بن عبد الله بن نُمَير ، حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن أبي جعفر الرازي ، عن حُصَين ، عن الشعبي ، عن
__________
(1) المسند (1/390) وصحيح البخاري برقم (4603).
(2) صحيح البخاري برقم (4631) وصحيح مسلم برقم (2376).
(3) سنن أبي داود برقم (3889).

(8/201)


بُرَيدة بن الحصيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا رقية إلا من عين أو حُمة" (1).
هكذا رواه ابن ماجة وقد أخرجه مسلم في صحيحه ، عن سعيد بن منصور ، عن هشيم ، عن حُصَين بن عبد الرحمن ، عن عامر الشعبي ، عن بريدة موقوفًا ، وفيه قصة (2) وقد رواه شعبة ، عن حصين ، عن الشعبي ، عن بريدة. قاله الترمذي (3) وروى هذا الحديث الإمام البخاري من حديث محمد بن فضيل ، وأبو داود من حديث مالك بن مِغْول ، والترمذي من حديث سفيان بن عيينة ، ثلاثتهم عن حصين ، عن عامر عن الشعبي ، عن عمران بن حُصَين موقوفًا (4).
حديث أبي جندب بن جنادة : قال الحافظ أبو يعلى الموصلي ، رحمه الله : حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة بن البِرِند السامي ، حدثنا ديلم بن غَزوان ، حدثنا وهْب بن أبي دبي ، عن أبي حرب عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن العين لتولع الرجلَ بإذن الله ، فيتصاعد حالقا ، ثم يتردى منه" إسناده غريب ، ولم يخرجوه (5).
حديث حابس التميمي : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حرب ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، حدثني حَيَّة بن حابس التميمي : أن أباه أخبره : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا شيء في الهام ، والعين حق ، وأصدق الطيَرَة (6) الفَألُ" (7).
وقد رواه الترمذي عن عمرو بن علي ، عن أبي غسان يحيى بن كثير ، عن علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير ، به (8) ثم قال غريب. قال وروى شيبان ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن حَيَّة بن حابس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت : كذلك رواه الإمام أحمد ، عن حسن بن موسى وحُسَين بن محمد ، عن شيبان ، يحيى بن أبي كثير ، عن حَيَّة ، حدثه عن أبيه ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا بأس في الهام ، والعين حق ، وأصدق الطيرة الفأل " (9).
حديث ابن عباس : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن الوليد ، عن سفيان ، عن دُوَيد ، حدثني إسماعيل بن ثوبان ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "العين
__________
(1) سنن ابن ماجة برقم (3513).
(2) صحيح مسلم برقم (220).
(3) سنن الترمذي (4/345).
(4) صحيح البخاري برقم (5705) وسنن أبي داود برقم (3884) وسنن التلامذي برقم (2075).
(5) ورواه ابن عدي في الكامل (3/104) من طريق أبي يعلى لكنه وقع فيه : إبراهيم ، عن ديلم ، عن وهب بن أبي دبي ، عن محجن ، عن أبي زر به ، فأسقط أبو حرب ، وسيأتي توجيه ذلك من كلام ابن عدى ، ورواه الإمام أحمد في المسند (5/146) من طريق يونس بن محمد ، وابن عدى في الكامل (3/104) من طريق الصلت بن مسعود كلاهما عن ديلم بن غزوان عن وهب عن أبي حرب عن محجن عن أبي ذر به ، قال ابن عدي : وهذا حديث يرويه ديلم عن وهب بن أبي دبي ، وأظن أنه وهم من رواية الصلت حيث قال : عن وهب بن أبي دبي ، عن أبي حرب ، عن محجن ، ولعل أبا حرب هو محجن".
(6) في م : "الطير" ، وفي أ : "الظن".
(7) المسند (5/70).
(8) سنن الترمذي برقم (2061).
(9) المسند (5/70).

(8/202)


حق ، العين حق ، تستنزل الحالق" (1) غريب.
طريق أخرى : قال مسلم في صحيحه : حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، أخبرنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا وُهَيب ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "العين حق ، ولو كان شيء سَابَقَ القَدَرَ سَبَقَت العين ، وإذا اغْتُسلتم فاغسلوا". انفرد به دون البخاري (2).
وقال عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن منصور ، عن المِنْهال بن عمرو ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذ الحسن والحسين ، يقول : "أعيذكما بكلمات الله التامة ، من كل شيطان وهَامَّة ، ومن كل عين لامَّة" ، ويقول هكذا كان إبراهيم يُعَوِّذ إسحاق وإسماعيل ، عليهما السلام".
أخرجه البخاري وأهل السنن من حديث المنهال ، به (3)
حديث أبي أمامة أسعد بن سهل بن حنيف ، رضي الله عنه : "قال ابن ماجة : حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن أبي أمامة ابن سهل بن حُنَيف قال : مر عامر بن ربيعة بسهل بن حُنَيف ، وهو يغتسل ، فقال : لم أر كاليوم ولا جلدَ مخبأة. فما لبث أن لُبِطَ به ، فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له : أدرك سهلا صريعًا. قال : "من تتهمون به ؟". قالوا : عامر بن ربيعة. قال : "علام يقتل أحدكم أخاه ؟ إذا رأى أحدكم من أخيه ما يُعجبه فَلْيَدعُ له بالبركة". ثُم دعا بماء فأمر عامرًا أن يتوضأ فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ، وركبتيه ، ودَاخِلة إزاره ، وأمره أن يصب عليه.
قال سفيان : قال مَعْمَر ، عن الزهري : وأمر أن يكفَأ الإناء من خلفه (4).
وقد رواه النسائي ، من حديث سفيان بن عيينة ومالك بن أنس ، كلاهما عن الزهري ، به. ومن حديث سفيان بن عيينة أيضًا عن معمر ، عن الزهري ، عن أبي أمامة : ويكفَأ الإناء من خلفه. ومن حديث ابن أبي ذئب عن الزهري ، عن أبي أمامة أسعد بن سهل بن حُنَيف ، عن أبيه ، به. ومن حديث مالك أيضًا ، عن محمد بن أبي أمامة بن سهل ، عن أبيه ، به (5).
حديث أبي سعيد الخدري : قال ابن ماجة : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عباد ، عن الجريري ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من أعين (6) الجان وأعين الإنس. فلما نزل (7) المعوذتان أخذ بهما وترك ما سوى ذلك.
__________
(1) المسند (1/274).
(2) صحيح مسلم برقم (2188).
(3) صحيح البخاري برقم (3371) وسنن أبي داود برقم (4737) وسنن النرمذي برقم (2060) وسنن النسائي الكبرى برقم (10844) وسنن ابن ماجة برقم (3525).
(4) سنن ابن ماجة برقم (3509).
(5) سنن النسائي الكبرى برقم (7617 - 7619).
(6) في م : "من عين".
(7) في م : "فلما نزلت".

(8/203)


ورواه الترمذي والنسائي من حديث سعيد بن إياس (1) أبي مسعود الجُرَيري ، به (2) وقال الترمذي : حسن.
حديث آخر عنه : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، حدثني أبي ، حدثني عبد العزيز بن صُهيب ، حدثني أبو نضرة ، عن أبي سعيد : أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اشتكيت يا محمد ؟ قال : "نعم". قال باسم الله أرقيك ، من كل شيء يؤذيك ، من شر كل نفس و عين يشفيك ، باسم الله أرقيك (3).
ورواه عن عفان ، عن عبد الوارث ، مثله. ورواه مسلم وأهل السنن - إلا أبا داود - من حديث عبد الوارث ، به (4).
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا عفان ، حدثنا وهيب ، حدثنا داود ، عن أبي نَضرة ، عن أبي سعيد - أو : جابر بن عبد الله ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتكى ، فأتاه جبريل فقال : باسم الله أرقيك ، من كل شيء يؤذيك ، من كل حاسد وعين والله يُشفيك (5).
ورواه أيضًا ، عن محمد بن عبد الرحمن الطفاوي ، عن داود ، عن أبي نَضرة ، عن أبي سعيد به (6).
قال أبو زُرْعَة الرازي : روى عبد الصمد بن عبد الوارث ، عن أبيه ، عن عبد العزيز ، عن أبي نضرة ، وعن عبد العزيز ، عن أنس ، في معناه ، وكلاهما صحيح.
حديث أبى هُرَيرة : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا مَعْمَر ، عن هَمَّام بن مُنَبِّه قال : هذا ما حدثنا أبو هُرَيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن العين حق" (7).
أخرجاه من حديث عبد الرزاق (8).
وقال ابن ماجة : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا إسماعيل بن عُلَيَّة ، عن الجُرَيري ، عن مُضَارب بن حَزن ، عن أبي هُرَيرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "العين حق".تفرد به.
ورواه أحمد ، عن إسماعيل بن عُلَيَّة ، عن سعيد الجريري ، به (9).
وقال الإمام أحمد حدثنا ابن نمير ، حدثنا ثور - يعني ابن يزيد - عن مكحول ، عن أبي
__________
(1) في م : "سعيد بن أبي إياس".
(2) سنن ابن ماجة برقم (3511) وسنن الترمذي برقم (2058) وسنن النسائي (8/271).
(3) المسند (3/28).
(4) المسند (3/56) وصحيح مسلم برقم (2186) وسنن الترمذي برقم (975) وسنن النسائي الكبري برقم (10843) وسنن ابن ماجة برقم (3523).
(5) المسند (3/75).
(6) المسند (3/58).
(7) المسند (2/318).
(8) صحيح البخاري برقم (5740) وصحيح مسلم برقم (2187).
(9) سنن ابن ماجة برقم (3507) والمسند (2/487).

(8/204)


هُرَيرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "العين حق ، ويحضُرها الشيطانُ ، وحسد ابن آدم" (1)
وقال أحمد : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن قيس : سُئل أبو هُرَيرة : هل سمعت رسول الله يقول : الطيرة في ثلاث : في المسكن والفرس والمرأة ؟ قال : قلت : إذًا أقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل! ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "أصدق الطيرة الفألُ ، والعين حق" (2).
حديث أسماء بنت عُمَيس : قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن عُروةَ بن عامر ، عن عُبَيد بن رفاعة الزُرقي قال : قالت أسماء : يا رسول الله ، إن بني جعفر تصيبهم العين ، أفأسترقي لهم ؟ قال : "نعم ، فلو كان شيء يسبق القدرَ لسبقته العين".
وكذا رواه الترمذي وابن ماجة من حديث سفيان بن عيينة ، به (3) ورواه الترمذي أيضًا والنسائي ، من حديث عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن أيوب ، عن عمرو بن دينار ، عن عُرْوَة بن عامر ، عن عُبَيد بن رفاعة ، عن أسماء بنت عميس ، به (4) وقال الترمذي : حسن صحيح.
حديث عائشة ، رضي الله عنها : قال ابن ماجة : حدثنا علي بن أبي الخَصِيب ، حدثنا وَكِيع ، عن سفيان ، ومِسْعَر ، عن معبد بن خالد ، عن عبد الله بن شَدَّاد ، عن عائشة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تسترقي من العين (5).
ورواه البخاري عن محمد بن كثير ، عن سفيان ، عن معبد بن خالد ، به. وأخرجه مسلم من حديث سُفيانَ ومِسْعَر ، كلاهما عن معبد ، به (6) ثم قال ابن ماجة :
حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبو هشام المخزومي ، حدثنا وُهَيب ، عن أبي واقد ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "استعيذوا بالله فإن النفس حق". تفرد به (7)
وقال أبو داود : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : كان يؤمر العائن فيتوضأ ويغسل منه المَعين (8).
حديث سهل بن حُنَيف : قال الإمام أحمد : حدثنا حُسَين بن محمد ، حدثنا أبو أويس (9) حدثنا الزهري ، عن أبي أمامة بن سَهل بن حُنَيف : أن أباه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وساروا معه
__________
(1) المسند (2/439).
(2) المسند (2/289).
(3) المسند (6/438) وسنن الترمذي برقم (2059) وسنن ابن ماجة برقم (3510).
(4) سنن الترمذي برقم (2059) وسنن النسائي الكبرى برقم (7537).
(5) سنن ابن ماجة برقم (3510).
(6) صحيح البخاري برقم (5738) وصحيح مسلم برقم (2195).
(7) سنن ابن ماجة برقم (3508) وقال البوصيري في الزوائد (3/134) ك "هذا إسناد فيه مقال".
(8) سنن أبي داود برقم (3880).
(9) في م : "أبو إدريس".

(8/205)


نحو مكة ، حتى إذا كانوا بشعب الخَرَار - من الجحفة - اغتسل سهلُ بن حُنَيف - وكان رجلا أبيض حَسن الجسم والجلد - فنظر إليه عامر بن ربيعة ، أخو بني عدي بن كعب ، وهو يغتسل ، فقال : ما رأيت كاليوم ولا جلد مُخَبَّأة. فلُبِطَ سهل ، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له : يا رسول الله ، هل لك في سهل. والله ما يرفع رأسه ولا يُفيق. قال : "هل تتهمون فيه من أحد ؟". قالوا : نظر إليه عامر بن ربيعة. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عامرا ، فتغيظ عليه ، وقال : "علام يقتل أحدكم أخاه ، هلا إذا رأيت ما يعجبك بَركت ؟". ثم قال له : "اغتسل له" - فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه ودَاخلَة إزاره في قَدح - ثم صُب ذلك الماء عليه. يَصُبَه رجل على رأسه وظهره من خلفه ، ثم يكفأ (1). القدح وراءه. ففعل ذلك ، فراح سهل مع الناس ، ليس به بأس (2).
حديث عامر بن ربيعة : "قال الإمام أحمد في مسند عامر : حدثنا وَكِيع ، حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن عيسى ، عن أمَيّة بن هند بن سهل بن حُنَيْف ، عن عبد الله بن عامر قال : انطلق عامر بن ربيعة وسهل بن حنيف يريدان الغسل ، قال : فانطلقا يلتمسان الخمرَ - قال : فوضع عامر جُبَّة كانت عليه من صوف ، فنظرت إليه فأصبته بعيني فنزل الماء يغتسل. قال : فسمعت له في الماء فرقعة ، فأتيته فناديته ثلاثا فلم يجبني. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته. قال : فجاء يمشي فخاض الماء كأني أنظر إلى بياض ساقيه ، قال : فضرب صدره بيده ثم قال : "اللهم اصرف عنه حرها وبردها ووصبها". قال : فقام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا رأى أحدكم من أخيه ، أو من نفسه أو من ماله ، ما يعجبه ، فَليُبَرِّك ، فإن العين حق" (3).
حديث جابر : قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا محمد بن مَعْمَر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا طالب بن حبيب بن عمرو بن سهل الأنصاري - ويقال له : ابن الضَجِيع ، ضجيع حمزة ، رضي الله عنه - حدثني عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أكثر من يموت من أمتي بعد كتاب الله وقضائه وقدره بالأنفس" (4).
قال البزار : يعني العين. قال ولا نعلم يروى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد.
قلت : بل قد روي من وجه آخر عن جابر ؛ قال الحافظ أبو عبد الرحمن محمد بن المنذر الهروي - المعروف بشَكَّر - في كتاب العجائب ، وهو مشتمل على فوائد جليلة وغريبة : حدثنا الرهاوي ، حدثنا يعقوب بن محمد ، حدثنا علي بن أبي علي الهاشمي ، حدثنا محمد بن المُنكَدر ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "العين حق ، لتُورِد الرجل القبر ، والجمل القِدر ، وإن أكثر هلاك أمتي في العين" (5).
__________
(1) في أ : "ثم يلقي".
(2) المسند (3/486).
(3) المسند (3/486).
(4) مسند البزار برقم (3052) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (5/106) : "رجاله رجال الصحيح ، خلا طالب بن حبيب ابن عمرو ، وهو ثقة".
(5) ورواه ابن عدي في الكامل (5/185) من طريق رحيم عن ابن أبي فديك عن علي بن أبي علي اللهبي ، به. وقال [غير محفوظ] وعلي بن أبي علي هو آفنه ، قال أحمد : يروي أحاديث مناكير عن جابر.

(8/206)


ثم رواه عن شعيب بن أيوب ، عن معاوية بن هشام ، عن سفيان ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قد تُدخل الرجلَ العينُ في القبر ، وتدخل الجمل القدر" (1).
حديث عبد الله بن عمرو : "قال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا رشدين بن سعد ، عن الحسن بن ثوبان ، عن هشام بن أبي رُقية ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا عدوى ولا طيرةَ ، ولا هَامة ولا حَسَد ، والعين حق". تفرد به أحمد (2).
حديث عن علي : روى الحافظ ابن عساكر من طريق خَيْثمة بن سليمان الحافظ : حدثنا عبيد بن محمد الكَشَوري ، حدثنا عبد الله بن عبد الله بن عبد ربه البصري ، عن أبي رجاء ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي ؛ أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فوافقه مغتما ، فقال : يا محمد ، ما هذا الغم الذي أراه في وجهك ؟ قال : "الحسن والحسين أصابتهما عين". قال : صَدَق بالعين ، فإن العين حق ، أفلا عوذتهما بهؤلاء الكلمات ؟ قال : "وما هن يا جبريل ؟". قال : قل : اللهم ذا السلطان العظيم ، ذا المن (3) القديم ، ذا الوجه الكريم ، ولي الكلمات التامات ، والدعوات المستجابات ، عاف الحسن والحسين من أنفس الجن ، وأعين الإنس. فقالها النبي صلى الله عليه وسلم فقاما يلعبان بين يديه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "عَوِّذوا أنفسكم ونساءكم وأولادكم بهذا التعويذ ، فإنه لم يتعوذ المتعوذون بمثله".
قال الخطيب البغدادي : تفرد بروايته أبو رجاء محمد بن عبيد الله الحَيَطي (4) من أهل تُسْتَر. ذكره ابن عساكر في ترجمة "طراد بن الحسين" ، من تاريخه (5).
وقوله : { وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } أي : يزدرونه بأعينهم ويؤذونه بألسنتهم ، ويقولون : { إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } أي : لمجيئه بالقرآن ، قال الله تعالى { وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ }
__________
(1) ورواه ابن عدى في الكامل (6/408) وأبو نعيم في الحلية (7/90) من طرق عن شعيب بن أيوب به ، وقال أبو نعيم : "غريب من حديث الثوري ، تفرد به معاويه" وكذا قال ابن عدى.
(2) المسند (2/222).
(3) في م : "والمن".
(4) وقع في تاريخ دمشق : "محمد بن عبد الله الحنظلى" وفي كنز العمال : "محمد بن عبد الله الخطيبى" ولم يتبين لى الصواب ، والله أعلم.
(5) تاريخ دمشق (8/503 "المخطوط").

(8/207)


الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)

تفسير سورة الحاقة
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) }

(8/208)


وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)

{ وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) }
الحاقةُ من أسماء يوم القيامة ؛ لأن فيها يَتَحقَّقُ الوَعدُ والوَعيد ؛ ولهذا عَظَّم تعالى أمرَها فقال : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ } ؟
ثم ذكر تعالى إهلاكه الأمم المكذبين بها فقال تعالى : { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ } وهي الصيحة التي أسكتتهم ، والزلزلة التي أسكنتهم. هكذا قال قتادة : الطاغية الصيحة. وهو اختيار ابن جرير (1).
وقال مجاهد : الطاغية الذنوب. وكذا قال الربيع بن أنس ، وابن زيد : إنها الطغيان ، وقرأ ابن زيد : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا } [الشمس : 11].
وقال السُّدِّي : { فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ } قال : يعني : عاقر الناقة.
{ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ } أي : باردة. قال قتادة ، والربيع ، والسدي ، والثوري : { عاتية } أي : شديدة الهبوب. قال قتادة : عتت عليهم حتى نَقَّبت عن أفئدتهم.
وقال الضحاك : { صرصر } باردة { عاتية } عتت عليهم بغير رحمة ولا بركة. وقال علي وغيره : عتت على الخزنة فخرجت بغير حساب.
{ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ } أي : سلطها عليهم { سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا } أي : كوامل متتابعات مشائيم.
__________
(1) تفسير الطبري (29/31).

(8/208)


قال ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والثوري ، وغير واحد { حسوما } متتابعات.
وعن عكرمة والربيع : مشائيم عليهم ، كقوله : { فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ } [فصلت : 16] قال الربيع : وكان أولها الجمعة. وقال غيره الأربعاء. ويقال : إنها التي تسميها الناس الأعجاز ؛ وكأن الناس أخذوا ذلك من قوله تعالى : { فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } وقيل : لأنها تكون في عجز الشتاء ، ويقال : أيام العجوز ؛ لأن عجوزًا من قوم عاد دخلت سَرَبا فقتلها الريح في اليوم الثامن. حكاه البغوي (1) والله أعلم.
قال ابن عباس : { خاوية } خربة. وقال غيره : بالية ، أي : جعلت الريح تضرب بأحدهم الأرض فيخر ميتًا على أم رأسه ، فينشدخ رأسه وتبقى جثته هامدة كأنها قائمة النخلة إذا خرت بلا أغصان.
وقد ثبت في الصحيحين ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "نُصِرْتُ بالصَّبا ، وأهلكَت عادٌ بالدَّبور" (2).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن يحيى بن الضِّريس العبدي ، حدثنا ابن فُضَيل ، عن مسلم ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما فتح الله على عاد من الريح التي أهلكوا فيها إلا مثل موضع الخاتم ، فَمرّت بأهل البادية فحملتهم ومواشيهم وأموالهم ، فجعلتهم بين السماء والأرض. فلما رأى ذلك أهل الحاضرة الريح (3) وما فيها قالوا : هذا عارض ممطرنا. فألقت أهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة" (4).
وقال الثوري عن ليث ، عن مجاهد : الريح لها جناحان وذنب.
{ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ } ؟ أي : هل تحس منهم من أحد من بقاياهم أنه (5) ممن ينتسب إليهم ؟ بل بادوا عن آخرهم ولم يجعل الله لهم خَلفَا.
ثم قال تعالى : { وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ } قُرئ بكسر القاف ، أي : ومن عنده في زمانه من أتباعه من كفار القبط. وقرأ آخرون بفتحها ، أي : ومن قبله من الأمم المشبهين له.
وقوله : { والمؤتفكات } وهم المكذبون بالرسل. { بالخاطئة } أي بالفعلة الخاطئة ، وهي التكذيب بما أنزل الله.
قال الربيع : { بالخاطئة } أي : بالمعصية وقال مجاهد : بالخطايا.
__________
(1) معالم التنزيل للبغوي (208).
(2) صحيح البخاري برقم (1035) وصحيح مسلم برقم (900).
(3) في م : "فلما رأى أهل الحاضر من عاد الريح".
(4) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (12/421) وأبو الشيخ في العظمة برقم (806) من طريق محمد بن فضيل عن مسلم ، به. وقال الهيثمي في المجمع (7/113) : "فيه مسلم الملائي وهو ضعيف".
(5) في م : "أو".

(8/209)


ولهذا قال : تعالى { فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ } وهذا جنس ، أي : كُلّ كذّبَ رسول الله إليهم. كما قال : { كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ } [ق : 14]. (1) ومن كذب رسول الله فقد كذب بالجميع ، كما قال : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } [الشعراء : 105] ، { كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ } [الشعراء : 123]. { كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ } [الشعراء : 141] وإنما جاء إلى كل أمة رسول واحد ؛ ولهذا قال هاهنا : { فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً } أي : عظيمة شديدة أليمة.
قال مجاهد : { رابية } شديدة. وقال السدي : مهلكة.
ثم قال الله تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ } أي : زاد على الحد بإذن الله وارتفع على الوجود. وقال ابن عباس وغيره : { طَغَى الْمَاءُ } كثر - وذلك بسبب دعوة نوح ، عليه السلام ، على قومه حين كذبوه وخالفوه ، فعبدوا غير الله فاستجاب الله له وعَمّ أهل الأرض بالطوفان إلا من كان مع نوح في السفينة ، فالناس كلهم من سلالة نوح وذريته.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مِهْرَان ، عن أبي سنان سعيد بن سنان ، عن غير واحد ، عن علي بن أبي طالب قال : لم تنزل قطرة من ماء إلا بكيل على يدي ملك ، فلما كان يوم نوح أذن للماء دون الخزان ، فطغى الماء على الخزان فخرج ، فذلك قول الله : { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ } ولم ينزل شيء من الريح إلا بكيل على يدي ملك ، إلا يوم عاد ، فإنه أذن لها دون الخزان فخرجت ، فذلك قوله : { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } عتت على الخزان (2).
ولهذا قال تعالى ممتنًا على الناس : { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ } وهي السفينة الجارية على وجه الماء ، { لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً } عاد الضمير على الجنس لدلالة المعنى عليه ، أي : وأبقينا لكم من جنسها ما تركبون على تيار الماء في البحار ، كما قال : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْه } [الزخرف : 12 ، 13] ، وقال تعالى : { وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } [يس : 41 ، 42].
وقال قتادة : أبقى الله السفينة حتى أدركها أوائل هذه الأمة. والأول أظهر ؛ ولهذا قال : { وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } أي : وتفهم هذه النعمة ، وتذكرها أذن واعية.
قال ابن عباس : حافظة سامعة (3) وقال قتادة : { أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } عقلت (4) عن الله فانتفعت بما سمعت من كتاب الله ، وقال الضحاك : { وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } سمعتها أذن ووعت. أي : من له سمع صحيح وعقل رجيح. وهذا عام فيمن فهم ، ووعى.
__________
(1) في م ، أ ، هـ : "إن كل إلا".
(2) تفسير الطبري (29/32).
(3) في م : "سامعة حافظة".
(4) في م : "تحفظت" ، وفي أ : "حفظت".

(8/210)


فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)

وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعة الدمشقي ، حدثنا العباس بن الوليد بن صبح الدمشقي ، حدثنا زيد بن يحيى ، حدثنا علي بن حوشب ، سمعت مكحولا يقول : لما نزل (1) على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سألت ربي أن يجعلها أذُنَ عَلِيّ". [قال مكحول] (2) فكان عَلِيّ يقول : ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط فنسيته.
وهكذا رواه ابن جرير ، عن علي بن سهل ، عن الوليد بن مسلم ، عن علي بن حوشب ، عن مكحول (3) به. وهو حديث مرسل.
وقد قال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا جعفر بن محمد بن عامر ، حدثنا بشر (4) بن آدم ، حدثنا عبد الله بن الزبير أبو محمد - يعني والد أبي أحمد الزبيري - حدثني صالح بن الهيثم ، سمعت بريدة الأسلمي يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : "إني أمرت أن أدنيك ولا أقصيك ، وأن أعلمك وأن تعي ، وحُقّ لك أن تعي". قال : فنزلت هذه الآية { وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ }
ورواه ابن جرير عن محمد بن خلف ، عن بشر بن آدم ، به (5) ثم رواه ابن جرير من طريق آخر عن داود الأعمى ، عن بُرَيدة ، به. ولا يصح أيضا.
{ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) }
يقول تعالى مخبرا عن أهوال يوم القيامة ، وأول ذلك نفخة الفزع ، ثم يعقبها نفخة الصعق حين يُصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، ثم بعدها نفخة القيام لرب العالمين والبعث والنشور ، وهي هذه النفخة. وقد أكدها هاهنا بأنها واحدة لأن أمر الله لا يخالف ولا يمانع ، ولا يحتاج إلى تكرار وتأكيد.
وقال الربيع : هي النفخة الأخيرة. والظاهر ما قلناه ؛ ولهذا قال هاهنا : { وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } أي : فمدت مَدّ الأديم العُكَاظي ، وتَبَدّلت الأرض غير الأرض ، { فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ } أي : قامت القيامة. { وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } قال سِماك ، عن شيخ من بني أسد ، عن علي قال : تنشق السماء من المجرة. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جريج : هي كقوله : { وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا } [النبأ : 19].
__________
(1) في م ، أ : "لما نزلت".
(2) زيادة من م ، أ.
(3) تفسير الطبري (29/35).
(4) في أ : "حدثنا بشير".
(5) تفسير الطبري (29/36) ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق كما في الكنز برقم (36426) وقال ابن عساكر : "هذا إسناد لا يعرف والحديث شاذ".

(8/211)


وقال ابن عباس : منخرقة ، والعرش بحذائها.
{ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا } الملك : اسم جنس ، أي : الملائكة على أرجاء السماء.
قال ابن عباس : على ما لم يَهِ منها ، أي : حافتها. وكذا قال سعيد بن جبير ، والأوزاعي. وقال الضحاك : أطرافها. وقال الحسن البصري : أبوابها. وقال الربيع بن أنس في قوله : { وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا } يقول : على ما استدق من السماء ، ينظرون إلى أهل الأرض.
وقوله : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } أي : يوم القيامة يحمل العرش ثمانية من الملائكة. ويحتمل أن يكون المراد بهذا العرش العرش العظيم ، أو : العرش الذي يوضع في الأرض يوم القيامة لفصل القضاء ، والله أعلم بالصواب. وفي حديث عبد الله بن عَميرة ، عن الأحنف بن قيس ، عن العباس بن عبد المطلب ، في ذكر حَمَلة العرش أنهم ثمانية أوعال (1).
وقال ابن أبى حاتم : حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد (2) حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني أبو السمح البصري ، حدثنا أبو قَبيل حُيَي بن هانئ : أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول : حملة العرش ثمانية ، ما بين مُوق أحدهم إلى مؤخر عينه مسيرة مائة عام.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي قال : كتب إليّ أحمد بن حفص بن عبد الله النيسابوري : حدثني أبي ، حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن موسى بن عقبة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أذنَ لي أن أحدثكم عن ملك من حَمَلة العرش : بُعْدُ ما بين شحمة أذنه وعنقه بخفق الطير سبعمائة عام".
وهذا إسناد جيد ، رجاله ثقات. وقد رواه أبو داود في كتاب "السنة" من سننه : حدثنا أحمد بن حفص بن عبد الله ، حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن موسى بن عقبة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش : أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام". هذا لفظ أبي داود (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، حدثنا جرير ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير في قوله : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } قال : ثمانية صفوف من الملائكة. قال : ورُوي عن الشعبي [وعكرمة] (4) والضحاك. وابن جُرَيْج ، مثل ذلك. وكذا روى السُّدِّي عن أبي مالك ، عن ابن عباس : ثمانية صفوف. وكذا روى العوفي ، عنه.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : الكَرُوبيّون ثمانية أجزاء ، كل جنس (5) منهم بقدر (6) الإنس والجن والشياطين والملائكة.
وقوله : (7) أي تعرضون على عالم السر والنجوى الذي
__________
(1) حديث الأوعال رواه أبو داود في السنن برقم (4723) وتقدم عند تفسير الآية : 7 من سورة غافر.
(2) في م : "حدثنا أبو سعيد عن ابن سعيد".
(3) سنن أبي داود برقم (4727).
(4) زيادة من م ، أ.
(5) في م : "كل جزء".
(6) في أ : "بعدة".
(7) يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية

(8/212)


فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)

لا يخفى عليه شيء من أموركم ، بل هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر ؛ ولهذا قال : { لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ }
وقد قال ابن أبي الدنيا : أخبرنا إسحاق بن إسماعيل ، أخبرنا سفيان بن عيينة ، عن جعفر بن بُرْقان ، عن ثابت بن الحجاج قال : قال عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أنفسكم قبل أن تُوزَنوا ، فإنه أخف عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم ، وَتَزَيَّنُوا للعرض الأكبر : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ } (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا علي بن علي بن رفاعة ، عن الحسن ، عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ، فأما عرضتان فجدالٌ ومعاذيرُ ، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي ، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله".
ورواه ابن ماجة ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن وَكِيع ، به (2) وقد رواه الترمذي عن أبي كُرَيْب عن وكيع عن علي بن علي ، عن الحسن ، عن أبي هريرة ، به (3).
وقد روى ابنُ جرير عن مجاهد بن موسى ، عن يزيد ، بن سليم بن حيان ، عن مروان الأصغر ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال : يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات : عرضتان ، معاذير وخصومات ، والعرضة الثالثة تطير الصحف في الأيدي. ورواه سعيد بن أبي عَروبة ، عن قتادة مرسلا مثله (4).
{ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) }
يخبر تعالى عن سعادة من أوتى كتابه يوم القيامة بيمينه ، وفرحه بذلك ، وأنه من شدة فرحه يقول لكل من لقيه : { هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ } أي : خذوا اقرؤوا كتابيه ؛ لأنه يعلم أن الذي فيه خير وحسنات محضة ؛ لأنه ممن بَدل الله سيئاته حسنات.
قال عبد الرحمن بن زيد : معنى : { هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ } أي : ها اقرؤوا كتابيه ، و "ؤم" زائدة. كذا قال ، والظاهر أنها بمعنى : هاكم.
وقد قال ابن أبى حاتم حدثنا : بشر بن مطر (5) الواسطي ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا
__________
(1) محاسبة النفس لابن أبي الدنيا برقم (2) وذكره المؤلف في مسند عمر (2/618) وقال : "أثر مشهور وفيه انقطاع ، وثابت بن الحجاج هذا جزري تابعي صغير لم يدرك ، ولم يرو عنه سوى جعفر بن برقان ، وله عند أبي داود في السنن حديثان".
(2) المسند (14/414) وسنن ابن ماجة برقم (4277) وقال البوصيري في الزوائد (3/315) : "هذا إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع ، الحسن لم يسمح من أبي موسي. قاله علي لن المديني وأبو حاتم وأبو زرعة".
(3) سنن الترمذي برقم (2425).
(4) تفسير الطبري (29/38).
(5) في أ : "بشر بن مطير".

(8/213)


عاصم الأحول ، عن أبي عثمان قال : المؤمن يعطى كتابه [بيمينه] (1) في ستر من الله ، فيقرأ سيئاته ، فكلما قرأ سيئةً تغير لونه حتى يمر بحسناته فيقرؤها ، فيرجع إليه لونه. ثم ينظر فإذا سيئاته قد بدلت حسنات ، قال : فعند ذلك يقول : { هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ }
وحدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن الوليد بن سلمة ، حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا موسى بن عبيدة (2) أخبرني عبد الله بن عبد الله بن حنظلة - غسيل الملائكة - قال : إن الله يَقِفُ عبده يوم القيامة فيبدي سيئاته في ظهر صحيفته ، فيقول له : أنت عملت هذا ؟ فيقول : نعم أي رب. فيقول له إني لم أفضحك به ، وإني قد غفرت لك. فيقول عند ذلك : { هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ } حين نجا من فَضْحه يوم القيامة.
وقد تقدم في الصحيح حديثُ ابن عمر حين سئل عن النجوى ، فقال : سمعت النبي الله صلى الله عليه وسلم يقول : "يُدْنِي اللهُ العبدَ يوم القيامة ، فيُقَرِّره بذنوبه كلها ، حتى إذا رأى أنه قد هلك قال الله : إني سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم. ثم يُعطَى كتابَ حسناته بيمينه ، وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد : { هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } [هود : 18] (3).
وقوله : { إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ } أي : قد كنت موقنا في الدنيا أن هذا اليوم كائن لا محالة ، كما قال : { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ } [البقرة : 46].
قال الله : { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ } أي : مرضية ، { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } أي : رفيعة قصورها ، حسان حورها ، نعيمة دورها ، دائم حبورها.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو عُتْبَةَ الحسن بن علي بن مسلم السَّكُوني ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن سعيد بن يوسف ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلام الأسود قال : سمعتُ أبا أمامة قال : سأل رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل يتزاور أهل الجنة ؟ قال : "نعم ، إنه ليهبط أهل الدرجة العليا إلى أهل الدرجة السفلى ، فيحيونهم ويسلمون عليهم ، ولا يستطيع أهل الدرجة السفلى يصعدون إلى الأعلين ، تقصر بهم أعمالهم" (4)
وقد ثبت في الصحيح : "إن الجنة مائة درجة ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض" (5).
وقوله : { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } قال البراء بن عازب : أي قريبة ، يتناولها أحدهم ، وهو نائم على سريره. وكذا قال غير واحد.
قال الطبراني : [حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري] (6) عن عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ،
__________
(1) زيادة من م.
(2) في أ : "موسى بن أبي عبيدة".
(3) انظر : تفسير الآية : 18 من سورة هود وتخريجه هناك.
(4) ورواه أبو نعيم في صفة الجنة برقم (421) من طريق جعفر بن الزبير وبشر بن نمير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة مرفوعًا بنحوه ، وجعفر بن الزبير وبشر بن نمير متروكان واتهما بالوضع.
(5) صحيح البخاري برقم (2790) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(6) زيادة من المعجم الكبير للطبراني (6/272).

(8/214)


وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)

عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، عن عطاء بن يسار ، عن سلمان الفارسي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يدخل أحد الجنة إلا بجواز : (بسم الله الرحمن الرحيم) هذا كتاب من الله لفلان بن فلان ، أدخلوه جنة عالية ، قطوفها دانية" (1).
وكذا رواه الضياء في صفة الجنة من طريق سعدان بن سعيد ، بن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان النهدي ، عن سلمان ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يعطى المؤمن جَوَازا على الصراط : (بسم الله الرحمن الرحيم) ، هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لفلان ، أدخلوه جنة عالية ، قطوفها دانية" (2).
وقوله : { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ } أي : يقال لهم ذلك ؛ تفضلا عليهم ، وامتنانا وإنعاما وإحسانا. وإلا فقد ثبت في الصحيح ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "اعملوا وَسَدِّدوا وقَاربُوا واعلموا أن أحدا منكم لن يدخلَه عملُه الجنةَ". قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : "ولا أنا ، إلا أن يَتَغَمَّدني الله برحمة منه وفضل" (3).
{ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) }
__________
(1) المعجم الكبير للطبراني (6/272) وعبد الرحمن بن زياد ضعيف ، ورواه ابن عدى في الكامل (1/344) من طريق إسحاق الدبري ، به. وقال : "حدث عن عبد الرزاق بحديث منكر" ثم ذكر هذا الحديث.
(2) ورواه ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/446) من طريق أبي بكر - محمد بن خشام - عن العباس البلخي ، عن سعدان بن سعيد الحكمي عن سليمان التيمي به. وقال ابن الجوززي : "هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أما الطريق الأول - أي طريق عبد الرزاق - ففيه عبد الرحمن بن زياد قال أحمد بن حنبل : نحن لا نروى عن عبد الرحمن. وقال ابن حبان : يروى الموضوعات عن الثقات ويدلس. وأما الطريق الثاني ، فقال الدارقطني : تفرد به سعدان عن التيمي. قال ابن الجوزي : سعدان مجهول ، وكذلك محمد بن خشام".
(3) صحيح البخاري برقم (5673) وصحيح مسلم برقم (2816) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه

(8/215)


فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)

{ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ (37) }
وهذا إخبار عن حال الأشقياء إذا أعطي أحدهم كتابه في العَرَصات بشماله ، فحينئذ يندم غاية الندم ، فيقول : { فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ }
قال الضحاك : يعني موته لا حياة بعدها. وكذا قال محمد بن كعب ، والربيع ، والسدي.
وقال قتادة : تمنى (1) الموت ، ولم يكن شيء في الدنيا أكره إليه منه.
{ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } أي : لم يدفع عني مالي ولا جاهي عذابَ الله وبَأسه ، بل خَلَص الأمر إليَّ وحدي ، فلا معين لي ولا مجير. فعندها يقول الله ، عز وجل : { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ }
__________
(1) في م : "يعني".

(8/215)


أي : يأمر الزبانية أن تأخذه عنْفًا من المحشر ، فَتَغُله ، أي : تضع الأغلال في عنقه ، ثم تُورده إلى جهنم فتصليه إياها ، أي : تغمره فيها.
قال ابن أبي حاتم حدثنا : أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد ، عن عمرو بن قيس ، عن المِنْهَال بن عمرو قال : إذا قال الله ، عز وجل { خذوه } ابتدره سبعون ألف ملك ، إن الملك منهم ليقول هكذا ، فيلقي سبعين ألفا في النار.
وروى ابن أبي الدنيا في "الأهوال" : أنه يبتدره أربعمائة ألف ، ولا يبقى شيء إلا دَقَه ، فيقول : ما لي ولك ؟ فيقول : إن الرب عليك غضبان ، فكل شيء غضبان عليك.
وقال الفضيل - هو ابن عياض - : إذا قال الرب ، عز وجل : { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ } ابتدره سبعون ألفا ملك ، أيهم يجعل الغل في عنقه.
{ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ } أي : اغمروه فيها.
وقوله : { ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ } قال كعب الأحبار : كل حلقة منها قدر حديد الدنيا.
وقال العَوفي عن ابن عباس ، وابن جرير : بذراع الملك. وقال ابن جريج ، قال ابن عباس : { فاسلكوه } تدخل في استه ثم تخرج من فيه ، ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود حين يشوى.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : يسلك في دبره حتى يخرج من منخريه ، حتى لا يقوم على رجليه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا سعيد بن يزيد ، عن أبي السمح ، عن عيسى بن هلال الصَّدَفي ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو أن رَصَاصة مثل هذه - وأشار إلى [مثل] (1) جُمْجُمة - أرسلت من السماء إلى الأرض ، وهي مسيرة خمسمائة سنة ، لبلغت الأرض قبل الليل ، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة ، لسارت أربعين خريفًا الليلَ والنهارَ ، قبل أن تبلغ قعرها أو أصلها".
وأخرجه الترمذي ، عن سُوَيْد بن نصر (2) عن عبد الله بن المبارك ، به (3) قال : هذا حديث حسن.
وقوله : { إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } أي : لا يقوم بحق الله عليه من طاعته وعبادته ، ولا ينفع خلقه ويؤدي حقهم ؛ فإن لله على العباد أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا ، وللعباد بعضهم على بعض حقّ الإحسان والمعاونة على البر والتقوى ؛ ولهذا أمر الله بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وقبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : "الصلاة ، وما ملكت أيمانكم" (4).
__________
(1) زيادة من المسند والترمذي.
(2) في أ : "سويد بن سعيد".
(3) المسند (2/197) وسنن الترمذي برقم (2588).
(4) جاء من حديث أنس ، وعلي وأم سلمة ، وسفينة ، رضي الله عنهم ، وحديث علي ، رضي الله عنه : "كان آخر كلام النبي صلى الله عليه وسلم..." فذكره ، رواه الإمام أحمد في المسند (1/78) وأبو داود في السنن برقم (5154).

(8/216)


فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)

وقوله : { فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ } أي : ليس له اليوم من ينقذه من عذاب الله ، لا حميم - وهو القريب - ولا شفيع يطاع ، ولا طعام له هاهنا إلا من غسلين.
قال قتادة : هو شر طعام أهل النار. وقال الربيع ، والضحاك : هو شجرة في جهنم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا منصور بن مزاحم ، حدثنا أبو سعيد المؤدب ، عن خُصَيف ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : ما أدري ما الغسلين ، ولكني أظنه الزقوم.
وقال شَبِيب بن بشر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الغسلين : الدم والماء يسيل من لحومهم. وقال علي بن أبي طلحة عنه : الغسلين : صديد أهل النار.
{ فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) }
يقول تعالى مُقسمًا لخلقه بما يشاهدونه من آياته في مخلوقاته الدالة على كماله في أسمائه وصفاته ، وما غاب عنهم مما لا يشاهدونه من المغيبات عنهم : إن القرآن كلامُه ووحيه وتنزيلُه على عبده ورسوله ، الذي اصطفاه لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة ، فقال : { فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } يعني : محمدًا ، أضافه إليه على معنى التبليغ ؛ لأن الرسول من شأنه أن يبلغ عن المرسل ؛ ولهذا أضافه في سورة التكوير إلى الرسول الملكي : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } وهذا جبريل ، عليه السلام.
ثم قال : { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } يعني : محمدًا صلى الله عليه وسلم { وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ } يعني : أن محمدا رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها ، { وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ } أي : بمتهم { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ } [التكوير : 19 - 25] ، وهكذا قال هاهنا : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ } ، فأضافه تارة إلى قول الرسول الملكي ، وتارة إلى الرسول البشري ؛ لأن كلا منهما مبلغ عن الله ما استأمنه عليه من وحيه وكلامه ؛ ولهذا قال : { تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
قال الإمام أحمد : حدثنا ابن المغيرة ، حدثنا صفوان ، حدثنا شُرَيح بن عبيد الله قال : قال عمر بن الخطاب : خرجت أتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أسلم ، فوجدته قد سبقني إلى المسجد ، فقمت خلفه ، فاستفتح سورة الحاقة ، فجعلت أعجب من تأليف القرآن ، قال : فقلت : هذا والله شاعر كما قالت قريش. قال : فقرأ : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ } قال : فقلت : كاهن. قال فقرأ : { وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ }

(8/217)


وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)

إلى آخر السورة. قال : فوقع الإسلام في قلبي كل موقع (1).
فهذا من جملة الأسباب التي جعلها الله تعالى مؤثرة في هداية عمر بن الخطاب ، كما أوردنا كيفية إسلامه في سيرته المفردة ، ولله الحمد (2).
{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ (44) لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) }
يقول تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا } أي : محمد صلى الله عليه وسلم لو كان كما يزعمون مفتريا علينا ، فزاد في الرسالة أو نقص منها ، أو قال شيئا من عنده فنسبه إلينا ، وليس كذلك ، لعاجلناه بالعقوبة. ولهذا قال { لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ } قيل : معناه لانتقمنا منه باليمين ؛ لأنها أشد في البطش ، وقيل : لأخذنا منه بيمينه.
{ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } قال ابن عباس : وهو نياط القلب ، وهو العِرْقُ الذي القلب معلق فيه. وكذا قال عكرمة ، وسعيد بن جبير ، والحكم ، وقتادة ، والضحاك ، ومسلم البَطِين ، وأبو صخر حُميد بن زياد.
وقال محمد بن كعب : هو القلب ومَرَاقَّه وما يليه.
وقوله : { فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } أي : فما يقدر أحد منكم على أن يحجز بيننا وبينه إذا أردنا به شيئا من ذلك. والمعنى في هذا (3) بل هو صادق بار راشد ؛ لأن الله ، عز وجل ، مقرر له ما يبلغه عنه ، ومؤيد له بالمعجزات الباهرات (4) والدلالات القاطعات.
ثم قال : { وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ } يعني : القرآن كما قال : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } [فصلت : 44].
ثم قال (5) { وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ } أي : مع هذا البيان والوضوح ، سيوجد منكم من يكذب بالقرآن.
ثم قال : { وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ } قال ابن جرير : وإن التكذيب لحسرة على الكافرين يوم القيامة وحكاه عن قتادة بمثله.
__________
(1) المسند (1/17).
(2) في أ : "ولله الحمد والمنة".
(3) في م : "في ذلك".
(4) في م : "القاهرات".
(5) في م : "كما قال"

(8/218)


وروى ابن أبي حاتم ، من طريق السدي ، عن أبي مالك : { وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ } يقول : لندامة. ويحتمل عود الضمير على القرآن ، أي : وإن القرآن والإيمان به لحسرة في نفس الأمر على الكافرين ، كما قال : { كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ } [الشعراء : 200 ، 201] ، وقال تعالى : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } [سبأ : 54] ولهذا قال ها هنا : { وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ } أي : الخبر الصدق الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ولا ريب.
ثم قال : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } أي : الذي أنزل هذا القرآن العظيم. [آخر تفسير سورة "الحاقة" ، ولله الحمد (1) ] (2)
__________
(1) في أ : "ولله الحمد والمنة والثناء والحمد الجميل".
(2) زيادة من م ، أ.

(8/219)


سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)

تفسير سورة سأل سائل
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) }
{ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } فيه تضمين دل عليه حرف "الباء" ، كأنه مُقَدر : يستعجل سائل بعذاب واقع. كقوله : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ } أي : وعذابه واقع لا محالة.
قال النسائي : حدثنا بشر بن خالد ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن المِنْهَال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } قال : النضر بن الحارث بن كَلَدَة.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } قال : ذلك سؤال الكفار عن عذاب الله وهو واقع.
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد في قوله : تعالى { سَأَلَ سَائِلٌ } دعا داع بعذاب واقع يقع في الآخرة ، قال : وهو قولهم : { اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال : 32].
وقال ابن زيد وغيره : { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } أي : واد في جهنم ، يسيل يوم القيامة بالعذاب. وهذا القول ضعيف ، بعيد عن المراد. والصحيح الأول لدلالة السياق عليه.
وقوله : { وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ } أي : مُرصد مُعَدّ للكافرين.
وقال ابن عباس : { وَاقِعٍ } جاء { لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } أي : لا دافع له إذا أراد الله كونه ؛ ولهذا قال { مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ } قال الثوري ، عن الأعمش ، عن رجل ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { ذِي الْمَعَارِجِ } قال : ذو الدرجات.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { ذِي الْمَعَارِجِ } يعني : العلو والفواضل.
وقال مجاهد : { ذِي الْمَعَارِجِ } معارج السماء. وقال قتادة : ذي الفواضل والنعم.

(8/220)


وقوله : { تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ } قال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : { تَعْرُجُ } تصعد.
وأما الروح فقال أبو صالح : هم خلق من خلق الله. يشبهون الناس ، وليسوا أناسا.
قلت : ويحتمل أن يكون المراد به جبريل ، ويكون من باب عطف الخاص على العام. ويحتمل أن يكون اسم جنس لأرواح بني آدم ، فإنها إذا قبضت يُصعد بها إلى السماء ، كما دل عليه حديث البراء. وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، من حديث المِنْهَال ، عن زاذان ، عن البراء مرفوعًا - الحديث بطوله في قبض الروح الطيبة - قال فيه : "فلا يزال يصعد بها من سماء إلى سماء حتى ينتهي بها إلى السماء (1) السابعة". والله أعلم بصحته ، فقد تُكلم في بعض رواته ، ولكنه مشهور ، وله شاهد في حديث أبي هريرة فيما تقدم من رواية الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة ، من طريق ابن أبي ذئب ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن سعيد بن يسار ، عنه وهذا إسناد رجاله على شرط الجماعة ، وقد بسطنا لفظه عند قوله تعالى : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } [إبراهيم : 27].
وقوله : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } فيه أربعة أقوال :
أحدهما : أن المراد بذلك مسافة ما بين العرش العظيم إلى أسفل السافلين ، وهو قرار الأرض السابعة ، وذلك مسيرة خمسين ألف سنة ، هذا ارتفاع العرش عن المركز الذي في وسط الأرض السابعة. وذلك اتساع العرش من قطر إلى قطر مسيرة خمسين ألف سنة ، وأنه من ياقوتة حمراء ، كما ذكره ابن أبي شيبة في كتاب صفة العرش. وقد قال ابن أبي حاتم عند هذه الآية :
حدثنا أحمد بن سلمة ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا حَكَّام ، عن عُمَر بن معروف ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قوله : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السموات مقدار خمسين ألف سنة ويوم كان مقداره ألف سنة. يعني بذلك : تَنزل الأمر من السماء إلى الأرض ، ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد فذلك مقداره ألف سنة ؛ لأن ما بين السماء والأرض مقدار مسيرة خمسمائة سنة.
وقد رواه ابن جرير عن ابن حميد ، عن حَكَّام بن سلم ، عن عُمَر بن معروف ، عن ليث ، عن مجاهد قوله ، لم يذكر ابن عباس (2).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطُّنافِسيّ ، حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا نوح المؤدب ، عن عبد الوهاب بن مجاهد ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : غلظ كل أرض خمسمائة عام ، وبين كل أرض إلى أرض خمسمائة عام ، فذلك سبعة آلاف عام. وغلظ كل سماء
__________
(1) في م : "السماء التي فيها الله".
(2) تفسير الطبري (29/44).

(8/221)


خمسمائة عام ، وبين السماء إلى السماء خمسمائة عام ، فذلك أربعة عشر ألف عام ، وبين السماء السابعة وبين العرش مسيرة ستة وثلاثين ألف عام ، فذلك قوله : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ }
القول الثاني : أن المراد بذلك مدة بقاء الدنيا منذ خلق الله هذا العالم إلى قيام الساعة ، قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو زُرْعَة ، أخبرنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا ابن أبي زائدة ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : الدنيا عمرها خمسون ألف سنة. وذلك عمرها يوم سماها الله تعالى يوم ، { تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ } قال : اليوم : الدنيا.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد - وعن الحكم بن أبان ، عن عكرمة : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : الدنيا من أولها إلى آخرها مقدار خمسين ألف سنة ، لا يدري أحدٌ كم مضى ، ولا كم بقي إلا الله ، عز وجل (1).
القول الثالث : أنه اليوم الفاصل بين الدنيا والآخرة ، وهو قول غريب جدًا. قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا بُهلول بن المورق (2) حدثنا موسى بن عبيدة ، أخبرني محمد بن كعب : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : هو يوم الفصل بين الدنيا والآخرة.
القول الرابع : أن المراد بذلك يوم القيامة ، قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن إسرائيل ، عن سِمَاك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : يوم القيامة. هذا وإسناده صحيح. ورواه الثوري عن سماك بن حرب ، عن عكرمة { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } يوم القيامة. وكذا قال الضحاك ، وابن زيد.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : فهذا يوم القيامة ، جعله الله تعالى على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة.
وقد وردت أحاديث في معنى ذلك ، قال الإمام أحمد :
حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا دَرّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } ما أطول هذا اليوم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده ، إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا".
__________
(1) تفسير عبد الرزاق (2/253).
(2) في أ : "بهلول بن معروف".

(8/222)


ورواه ابن جرير ، عن يونس ، عن ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن دراج ، به (1) إلا أن دَرّاجا وشيخه ضعيفان ، والله أعلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أبي عمرو الغُداني قال : كنت عند أبي هُرَيرة فمر رجل من بني عامر بن صعصعة ، فقيل له : هذا أكثر عامري مالا. فقال أبو هريرة : ردوه (2) فقال : نبئت أنك ذو مال كثير ؟ فقال العامري : أي والله ، إن لي لمائة حُمْرًا و مائة أدمًا ، حتى عد من ألوان الإبل ، وأفنان الرقيق ، ورباط الخيل فقال أبو هريرة : إياك وأخفاف الإبل وأظلافَ النعم (3) - يُرَدّد ذلك عليه ، حتى جعل لونُ العامري يتغير - فقال : ما ذاك يا أبا هُرَيرة ؟ قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من كانت له إبلٌ لا يعطي حقها في نجدتها ورِسْلها - قلنا يا رسول الله : ما نجدتُها ورِسْلُها ؟ قال : "في عُسرها ويسرها - " فإنها تأتي يوم القيامة كأغذّ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره ، حتى يبطح لها بقاع قَرقَر ، فتطؤه بأخفافها ، فإذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله ، وإذا كانت له بقر لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها ، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره ثم يبطح لها بقاع قَرقَر فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها ، وتنطحه كل ذات قرن بقرنها ، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله. وإذا كانت له غنم لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها ، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأسمنه وآشره ، حتى يبطح لها بقاع قَرقَر ، فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها وتنطحه كل ذات قرن بقرنها ، ليس فيها عَقصاء ولا عضباء ، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين الناس ، فيرى سبيله". قال العامري : وما حق الإبل يا أبا هريرة ؟ قال : أن تعطي الكريمة ، وتمنح الغَزيرَة ، وتفقر الظهر ، وتَسقيَ اللبن (4) وتُطرقَ الفحل.
وقد رواه أبو داود من حديث شعبة ، والنسائي من حديث سعيد بن أبي عَرُوبة ، كلاهما عن قتادة ، به (5).
طريق أخرى لهذا الحديث : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو كامل ، عن سُهَيل (6) بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه إلا جعل صفائح يحمى عليها في نار جهنم ، فتكوى بها بجهته وجنبه وظهره ، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار". وذكر بقية الحديث في الغنم والإبل كما تقدم ، وفيه : "الخيل الثلاثة ؛ لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى
__________
(1) المسند (3/75) وتفسير الطبري (29/45) ودراج عن أب الهيثم ضعيف.
(2) في أ : "ردوه إلى".
(3) في م : "الغنم".
(4) في م : "وتسقي الإبل".
(5) المسند (2/489) وسنن أبي داود برقم (1660) وسنن النسائي (5/12).
(6) في أ : "عن سهل".

(8/223)


يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)

رجل وزر" إلى آخره (1).
ورواه مسلم في صحيحه بتمامه منفردًا به دون البخاري ، من حديث سُهَيل (2) عن أبيه ، عن أبي هُرَيرة (3) وموضع استقصاء طرقه وألفاظه في كتاب الزكاة في "الأحكام" ، والغرض من إيراده هاهنا قوله : "حتى يحكم الله بين عباده ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة".
وقد روى ابن جرير عن يعقوب (4) عن ابن عُلَيَّة وعبد الوهاب ، عن أيوب ، عن ابن أبي مُلَيْكة قال : سأل رجل ابن عباس عن قوله : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : فاتهمه ، فقيل له فيه ، فقال : ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ؟ فقال : إنما سألتك لتحدثني. قال : هما يومان ذكرهما الله ، الله أعلم بهما ، وأكره أن أقول في كتاب الله بما لا أعلم (5).
وقوله : { فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا } أي : اصبر يا محمد على تكذيب قومك لك ، واستعجالهم العذاب استبعادًا لوقوعه ، كقوله : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ } [الشورى : 18] قال : { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا } أي : وقوع العذاب وقيام الساعة يراه الكفرة بعيد الوقوع ، بمعنى مستحيل الوقوع ، { وَنَرَاهُ قَرِيبًا } أي : المؤمنون يعتقدون كونه قريبا ، وإن كان له أمد لا يعلمه إلا الله ، عز وجل ، لكن كل ما هو آت فهو قريب وواقع لا محالة.
{ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) }
__________
(1) المسند (2/262).
(2) في أ : "سهل".
(3) صحيح مسلم برقم (987).
(4) في أ : "عن منصور".
(5) تفسير الطبري (29/45).

(8/224)


يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)

{ يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلا إِنَّهَا لَظَى (15) نزاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) }
يقول تعالى : العذابُ واقع بالكافرين { يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، والسدي ، وغير واحد ، كدرْديّ الزيت ، { وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ } أي : كالصوف المنفوش ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والسدي. وهذه الآية كقوله تعالى : { وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ } [القارعة : 5].
وقوله : { وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ } أي : لا يسأل القريب عن حاله ، وهو يراه في أسوأ الأحوال ، فتشغله نفسه عن غيره.
قال العوفي عن ابن عباس : يعرف بعضهم بعضا ، ويتعارفون بينهم ، ثم يفر بعضهم من بعض

(8/224)


بعد ذلك ، يقول : { لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ }
وهذه الآية الكريمة كقوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } [لقمان : 33]. وكقوله : { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } [فاطر : 18]. وكقوله : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } [المؤمنون : 101]. وكقوله : { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [عبس : 34 - 37].
وقوله : { يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ كَلا } أي : لا يقبل منه فداء ولو جاء بأهل الأرض ، وبأعز ما يجده من المال ، ولو بملء الأرض ذهبًا ، أو من ولده الذي كان في الدنيا حُشَاشة كبده ، يود يوم القيامة إذا رأى الأهوال أن يفتدي من عذاب الله به ، ولا يقبل منه. قال مجاهد والسدي : { فَصِيلَتِهِ } قبيلته وعشيرته. وقال عكرمة : فَخذه الذي هو منهم. وقال أشهب ، عن مالك : { فَصِيلَتِهِ } أمه.
وقوله : { إِنَّهَا لَظَى } يصف النار وشدة حرها { نزاعَةً لِلشَّوَى } قال ابن عباس ، ومجاهد : جلدة الرأس. وقال العوفي ، عن ابن عباس : { نزاعَةً لِلشَّوَى } الجلود والهام. وقال مجاهد : ما دون العظم من اللحم. وقال سعيد بن جبير : العصب. والعقب. وقال أبو صالح : { نزاعَةً لِلشَّوَى } يعني : أطراف اليدين والرجلين. وقال أيضا : نزاعة لحم الساقين. وقال الحسن البصري ، وثابت البناني : { نزاعَةً لِلشَّوَى } أي : مكارم وجهه. وقال الحسن أيضا : تحرق كل شيء فيه ، ويبقى فؤاده يصيح. وقال قتادة : { نزاعَةً لِلشَّوَى } أي : نزاعة لهامته ومكارم وَجهه وخَلْقَه وأطرافه. وقال الضحاك : تبري اللحم والجلد عن العظم ، حتى لا تترك منه شيئًا. وقال ابن زيد : الشوى : الآراب العظام. فقوله : نزاعة ، قال : تقطع عظامهم ، ثم يُجَدد خلقهم وتبدل جلودهم.
وقوله : { تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى } أي : تدعو النار إليها أبناءها الذين خلقهم الله لها ، وقدر لهم أنهم في الدار الدنيا يعملون عملها ، فتدعوهم يوم القيامة بلسان طَلق ذَلِق ، ثم تلتقطهم من بين أهل المحشر كما يلتقط الطير الحب. وذلك أنهم - كما قال الله ، عز وجل - كانوا ممن { أَدْبَرَ وَتَوَلَّى } أي : كذب بقلبه ، وترك العمل بجوارحه { وَجَمَعَ فَأَوْعَى } أي : جمع المال بعضه على بعض فأوعاه ، أي : أوكاه ومنع حق الله منه من الواجب عليه في النفقات ومن إخراج الزكاة. وقد ورد في الحديث : "ولا تُوعي فَيُوعي الله عليك" (1) وكان عبد الله بن عُكيم لا يربط له كيسا ويقول : سمعت الله يقول : { وَجَمَعَ فَأَوْعَى }
وقال الحسن البصري : يا ابن آدم ، سمعتَ وعيدَ الله ثم أوعيتَ الدنيا.
وقال قتادة في قوله : { وَجَمَعَ فَأَوْعَى } قال : كان جَمُوعًا قمُومًا للخَبيث.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (1434) ومسلم في صحيحه برقم (1029) من حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق ، رضي الله عنهما.

(8/225)


إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)

{ إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) }
يقول تعالى مخبرًا عن الإنسان وما هو مجبول عليه من الأخلاق الدنيئة : { إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا } ثم فسره بقوله : { إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا } أي : إذا أصابه الضر فزع وجزع وانخلع قلبه من شدة الرعب ، وأيس أن يحصل له بعد ذلك خير.
{ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } أي : إذا حصلت له (1) نعمة من الله بخل بها على غيره ، ومنع حق الله فيها.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا موسى بن عُلَيّ بنُ رَباح : سمعت أبي يحدث عن عبد العزيز بن مروان بن الحكم قال : سمعت أبا هُرَيرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "شر ما في رجل شُحٌ هالع ، وجبن خالع".
ورواه أبو داود عن عبد الله بن الجراح ، عن أبي عبد الرحمن المقري ، به (2) وليس لعبد العزيز عنده سواه.
ثم قال : { إِلا الْمُصَلِّينَ } أي : الإنسان من حيث هو متصف بصفات الذم إلا من عصمه الله ووفقه ، وهداه إلى الخير ويسر له أسبابه ، وهم المصلون { الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ } قيل : معناه يحافظون على أوقاتهم وواجباتهم. قاله ابن مسعود ، ومسروق ، وإبراهيم النخعي.
وقيل : المراد بالدوام هاهنا السكون والخشوع ، كقوله : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } [المؤمنون : 1 ، 2]. قاله عتبة بن عامر. ومنه الماء الدائم ، أي : الساكن الراكد.
وقيل : المراد بذلك الذين إذا عملوا عملا داوموا عليه وأثبتوه ، كما جاء في الصحيح عن عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قَلّ". وفي لفظ : "ما داوم عليه صاحبه" ، قالت : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملا داوم عليه. وفي لفظ : أثبته (3).
__________
(1) في م : "عنده".
(2) المسند (2/320) وسنن أبي داود برقم (2511).
(3) صحيح البخاري برقم (43 ، 6465) وصحيح مسلم برقم (785) من حديث عائشة ، رضي الله عنها.

(8/226)


فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)

وقال قتادة في قوله : { الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ } ذُكر لنا أن دانيال ، عليه السلام ، نعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقال : يصلون صلاة لو صلاها قوم نوح ما غرقوا ، أو قوم عاد ما أرسلت عليهم الريح العقيم ، أو ثمود ما أخذتهم الصيحة. فعليكم بالصلاة فإنها خُلُق للمؤمنين حسن.
وقوله : { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } أي : في أموالهم نصيب مقرر لذوي الحاجات. وقد تقدم الكلام على ذلك في "سورة الذاريات".
وقوله : { وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ } أي : يوقنون بالمعاد والحساب والجزاء ، فهم يعملون عمل من يرجو الثواب ويخاف العقاب ؛ ولهذا قال : { وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ } أي : خائفون وجلون ، { إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } أي : لا يأمنه أحد ممن عقل عن الله أمره إلا بأمان من الله تبارك وتعالى.
وقوله : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } أي : يكفونها عن الحرام ويمنعونها أن توضع في غير ما أذن الله [فيه] (1) ولهذا قال : { إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } أي : من الإماء ، { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } وقد تقدم تفسير ذلك في أول سورة (2) { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } بما أغنى عنى إعادته هاهنا.
وقوله : { وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } أي : إذا اؤتمنوا لم يخونوا ، وإذا عاهدوا لم يغدروا. وهذه صفات المؤمنين ، وضدها صفات المنافقين ، كما ورد في (3) الحديث الصحيح : "آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان". وفي رواية : "إذا حَدَّث كذب ، وإذا عاهد غَدَر ، وإذا خاصم فجر" (4).
وقوله : { وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ } أي : محافظون عليها لا يزيدون فيها ، ولا ينقصون منها ، ولا يكتمونها ، { وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [البقرة : 283].
ثم قال : { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } (5) أي : على مواقيتها وأركانها وواجباتها ومستحباتها ، فافتتح الكلام بذكر الصلاة واختتمه بذكرها ، فدل على الاعتناء بها والتنويه بشرفها ، كما تقدم في أول سورة : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } ؛ سواء لهذا قال هناك : { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [المؤمنون : 10 ، 11] وقال هاهنا : { أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ } أي : مكرمون بأنواع الملاذ والمسار.
{ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) }
__________
(1) زيادة من م.
(2) في م : "سورة المؤمنون".
(3) في م : "كما ورد به".
(4) تقدم تخريج الحديث عند تفسير الآية : 8 من سورة المؤمنون.
(5) في أ : "على صلاتهم".

(8/227)


فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)

{ فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44) }

(8/227)


يقول تعالى منكرًا على الكفار الذين كانوا في زمن (1) النبي صلى الله عليه وسلم وهم مشاهدون له ، ولما أرسله الله به من الهدى وما أيده الله به من المعجزات الباهرات ، ثم هم مع هذا كله فارون منه ، متفرقون عنه ، شاردون يمينًا وشمالا فِرَقًا فِرَقًا ، وشِيعًا شِيعًا ، كما قال تعالى : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } [المدثر : 49 ، 51] الآية وهذه مثلها ؛ فإنه قال تعالى : { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ } أي : فما لهؤلاء الكفار الذين عندك يا محمد { مُهْطِعِينَ } أي مسرعين نافرين منك ، كما قال الحسن البصري : { مُهْطِعِينَ } أي : منطلقين ، { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ } واحدها عزَةٌ ، أي : متفرقين. وهو حال من مهطعين ، أي : في حال تفرقهم واختلافهم ، كما قال الإمام أحمد في أهل الأهواء : فهم مخالفون للكتاب ، مختلفون في الكتاب ، متفقون على مخالفة الكتاب.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ } قال : قبلك ينظرون ، { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ } قال : العزين : العُصَب من الناس ، عن يمين وشمال معرضين يستهزئون به.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار. حدثنا أبو عامر ، حدثنا قرة ، عن الحسن (2) في قوله : { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ } متفرقين ، يأخذون يمينًا وشمالا يقولون : ما قال هذا الرجل ؟
وقال قتادة : { مُهْطِعِينَ } عامدين ، { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ } أي : فِرَقًا حول النبي صلى الله عليه وسلم لا يرغبون في كتاب الله ، ولا في نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقال الثوري ، وشعبة ، وعيسى بن يونس وعَبْثَر بن القاسم (3) ومحمد بن فضيل ، ووَكِيع ، ويحيى القطان ، وأبو معاوية ، كلهم عن الأعمش ، عن المسيب بن رافع ، عن تميم بن طرفة ، عن جابر بن سمرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم (4) وهم حلق ، فقال : "ما لي أراكم عزين ؟"
رواه أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن جرير ، من حديث الأعمش ، به (5)
__________
(1) في أ : "في زمان".
(2) في م : "عن الحسين".
(3) في م : "وعبثر بن القاسم وعيسى بن يونس".
(4) في م : "خرج على أصحابه".
(5) المسند (5/93) وصحيح مسلم برقم (430) وسنن أبي داود برقم (4823) وسنن النسائي الكبرى برقم (11622) وتفسير الطبري (29/54).

(8/228)


وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا مُؤَمَّل ، حدثنا سفيان ، عن عبد الملك بن عمير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة : رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم حِلَق حِلق ، فقال : "ما لي أراكم عزين ؟" (1).
وهذا إسناد جيد ، ولم أره في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه.
وقوله : { أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ } أي : أيطمع هؤلاء - والحالة هذه - من فرارهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم ونفارهم عن الحق - أن يدخلوا جنات النعيم ؟ كلا بل مأواهم الجحيم.
ثم قال تعالى مقررًا لوقوع المعاد والعذاب بهم الذي أنكروا كونه واستبعدوا وجوده ، مستدلا عليهم بالبداءة التي الإعادة أهون منها وهم معترفون بها ، فقال { إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ } أي : من المني الضعيف ، كما قال : { أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ } [المرسلات : 20]. وقال : { فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ } [الطارق : 5 - 10].
ثم قال : { فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ } أي : الذي خلق السموات والأرض ، وجعل مشرقا ومغربا ، وسخر الكواكب تبدو من مشارقها وتغيب في مغاربها. وتقدير الكلام : ليس الأمر كما يزعمون أن لا معاد ولا حساب ، ولا بعث ولا نشور ، بل كل ذلك واقع وكائن لا محالة. ولهذا أتى ب "لا" في ابتداء القسم ليدل على أن المقسم عليه نفي ، وهو مضمون الكلام ، وهو الرد على زعمهم الفاسد في نفي يوم القيامة ، وقد شاهدوا من عظيم قدرة الله تعالى ما هو أبلغ من إقامة القيامة ، وهو خلق السموات والأرض ، وتسخير ما فيهما من المخلوقات من الحيوانات والجمادات ، وسائر صنوف الموجودات ؛ ولهذا قال تعالى : { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [غافر : 57] وقال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الأحقاف : 33]. وقال تعالى في الآية الأخرى : { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس : 81 ، 82]. وقال هاهنا : { فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ } أي : يوم القيامة نعيدهم بأبدان خير من هذه ، فإن قدرته صالحة لذلك ، { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } أي : بعاجزين. كما قال تعالى : { أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ } [القيامة : 3 ، 4]. وقال تعالى : { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ } [الواقعة : 6 ، 61].
واختار ابن جرير { عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ } أي : أمة تطيعنا ولا تعصينا وجعلها ، كقوله : { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [محمد : 38]. والمعنى الأول أظهر لدلالة
__________
(1) تفسير الطبري (29/54).

(8/229)


الآيات الأخر عليه ، والله أعلم.
ثم قال تعالى : { فَذَرْهُمْ } أي : يا محمد { يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا } أي : دعهم في تكذيبهم وكفرهم وعنادهم ، { حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ } أي : فسيعلمون غب ذلك ويذوقون وباله { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } أي : يقومون من القبور إذا دعاهم الرب ، تبارك وتعالى ، لموقف الحساب ، ينهضون سراعًا كأنهم إلى نصب يوفضون.
قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك : إلى عَلَم يسعون. وقال أبو العالية ، ويحيى بن أبي كثير : إلى غاية يسعون إليها.
وقد قرأ الجمهور : "نَصْب" بفتح النون وإسكان الصاد ، وهو مصدر بمعنى المنصوب. وقرأ الحسن البصري : { نُصُبٍ } بضم النون والصاد ، وهو الصنم ، أي : كأنهم في إسراعهم إلى الموقف كما كانوا في الدنيا يهرولون إلى النصب إذا عاينوه يوفضون ، يبتدرون ، أيهم يستلمه أول. وهذا مروي عن مجاهد ، ويحيى بن أبي كثير ، ومسلم البَطين (1) وقتادة ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، وأبي صالح ، وعاصم بن بَهْدَلة ، وابن زيد ، وغيرهم.
وقوله : { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ } أي : خاضعة { تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أي : في مقابلة ما استكبروا في الدنيا عن الطاعة ، { ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ }
آخر تفسير سورة "سأل سائل" ولله الحمد والمنة.
__________
(1) في م : "وأبو مسلم البطين".

(8/230)


إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)

تفسير سورة نوح
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) }
يقول تعالى مخبرا عن نوح ، عليه السلام ، أنه أرسله إلى قومه آمرا له أن ينذرهم بأس الله قبل حلوله بهم ، فإن تابوا وأنابوا رفع عنهم ؛ ولهذا قال : { أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ } أي : بين النذارة ، ظاهر الأمر واضحه.
{ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ } أي : اتركوا محارمه واجتنبوا مآثمه { وَأَطِيعُونِ } فيما آمركم به وأنهاكم عنه.
{ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ } أي : إذا فعلتم ما آمرتكم به وصدقتم ما أرسلت به إليكم ، غفر الله لكم ذنوبكم.
و " من " هاهنا قيل : إنها زائدة. ولكن القول بزيادتها في الإثبات قليل. ومنه قول بعض العرب : "قد كان من مطر". وقيل : إنها بمعنى "عن" تقديره : يصفح لكم عن ذنوبكم واختاره ابن جرير (1) وقيل : إنها للتبعيض ، أي يغفر لكم الذنوب العظام التي وعدكم على ارتكابكم إياها الانتقام.
{ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } أي : يمد في أعماركم ويدرأ عنكم العذاب الذي إن لم تنزجروا عما نهاكم عنه ، أوقعه بكم. (2)
وقد يستدل بهذه الآية من يقول : إن الطاعة والبر وصلة الرحم ، يزاد بها في العمر حقيقة ؛ كما ورد به الحديث : "صلة الرحم تزيد في العمر".
وقوله : { إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : بادروا بالطاعة قبل حلول النقمة ، فإنه إذا أمر [الله] (3) تعالى بكون ذلك لا يرد ولا يمانع ، فإنه العظيم الذي قهر كل شيء ، العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات.
{ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) }
__________
(1) تفسير الطبري (29/57).
(2) في أ : "أو يعذبكم".
(3) زيادة من أ.

(8/231)


يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)

{ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا (20) }

(8/231)


يخبر تعالى عن عبده ورسوله نوح ، عليه السلام ، أنه اشتكى إلى ربه ، عز وجل ، ما لقي من قومه ، وما صبر عليهم في تلك المدة الطويلة التي هي ألف سنة إلا خمسين عاما ، وما بين لقومه ووضح لهم ودعاهم إلى الرشد والسبيل الأقوم ، فقال : { رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا } أي : لم أترك دعاءهم في ليل ولا نهار ، امتثالا لأمرك وابتغاء لطاعتك ، { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا } أي : كلما دعوتهم ليقتربوا من الحق فَروا منه وحَادُوا عنه ، . { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ } أي : سدوا آذانهم لئلا يسمعوا ما أدعوهم إليه. كما أخبر تعالى عن كفار قريش : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [فصلت : 26].
{ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ } قال ابن جريح ، عن ابن عباس : تنكروا له لئلا يعرفهم. وقال سعيد بن جبير ، والسدي : غطوا رءوسهم لئلا يسمعوا ما يقول.
{ وَأَصَرُّوا } أي : استمروا على ما هم فيه (1) من الشرك والكفر العظيم الفظيع ، { وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا } أي : واستنكفوا عن اتباع الحق والانقياد له.
{ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا } أي : جهرة بين الناس.
{ ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ } أي : كلاما ظاهرا بصوت عال ، { وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا } أي : فيما بيني وبينهم ، عليهم الدعوة لتكون أنجع فيهم.
{ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا } أي : ارجعوا إليه وارجعوا عما أنتم فيه وتوبوا إليه من قريب ، فإنه من تاب إليه تاب عليه ، ولو كانت ذنوبه (2) مهما كانت في الكفر والشرك. ولهذا قال : { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا } أي : متواصلة الأمطار. ولهذا تستحب قراءة هذه السورة في صلاة الاستسقاء لأجل هذه الآية. وهكذا روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : أنه صعد المنبر ليستسقي ، فلم يزد على الاستغفار ، وقرأ الآيات في الاستغفار. ومنها
__________
(1) في م : "ما هم عليه".
(2) في أ : "ولو كان ذنبه".

(8/232)


هذه الآية { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا } ثم قال : لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء (1) التي ستنزل بها المطر.
وقال ابن عباس وغيره : يتبع بعضه بعضا.
وقوله : { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا } أي : إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه ، كثر الرزق عليكم ، وأسقاكم من بركات السماء ، وأنبت لكم من بركات الأرض ، وأنبت لكم الزرع ، وَأَدَرَّ لكم الضرع ، وأمدكم بأموال وبنين ، أي : أعطاكم الأموال والأولاد ، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار ، وخللها بالأنهار الجارية بينها.
هذا مقام الدعوة بالترغيب. ثم عدل بهم إلى دعوتهم بالترهيب فقال : { مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا } أي : عظمة قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقال ابن عباس : لا تعظمون الله حق عظمته ، أي : لا تخافون من بأسه ونقمته.
{ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا } قيل : معناه من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة. قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، ويحيى بن رافع ، والسدي ، وابن زيد.
وقوله : { أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا } ؟ أي : واحدة فوق واحدة ، وهل هذا يتلقى من جهة السمع فقط ؟ أو هي من الأمور المدركة بالحس ، مما علم من التسيير والكسوفات ، فإن الكواكب السبعة السيارة يكسف بعضها بعضا ، فأدناها القمر في السماء الدنيا وهو يكسف ما فوقه ، وعطارد في الثانية ، والزهرة في الثالثة ، والشمس في الرابعة ، والمريخ في الخامسة ، والمشترى في السادسة ، وزحل في السابعة. وأما بقية الكواكب - وهي الثوابت - ففي فَلَك ثامن يسمونه فَلَكَ الثوابت. والمتشرعون منهم يقولون : هو الكرسي ، والفلك التاسع ، وهو الأطلس. والأثير عندهم الذي حركته على خلاف حركة سائر الأفلاك ، وذلك أن حركته مبدأ الحركات ، وهي من المغرب إلى المشرق ؛ وسائر الأفلاك عكسه من المشرق إلى المغرب ، ومعها يدور سائر الكواكب تبعا ، ولكن للسيارة حركة معاكسة لحركة أفلاكها ، فإنها تسير من المغرب إلى المشرق. وكل يقطع فلكه بحسبه ، فالقمر يقطع فلكه في كل شهر مرة ، والشمس في كل سنة مرة ، وزحل في كل ثلاثين سنة مرة ، وذلك بحسب اتساع أفلاكها وإن كانت حركة الجمع في السرعة متناسبة. هذا ملخص ما يقولونه في هذا المقام ، على اختلاف بينهم في مواضع كثيرة ، لسنا بصدد بيانها ، وإنما المقصود أن الله سبحانه : { خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا } أي : فاوت بينهما في الاستنارة فجعل كلا منهما أنموذجا على حدة ، ليعرف الليل والنهار بمطلع الشمس ومغيبها ، وقدر القمر منازل وبروجا ، وفاوت نوره ، فتارة يزداد حتى يتناهى ثم يشرع في النقص حتى يستسر ، ليدل على مضي الشهور والأعوام ، كما قال : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [يونس : 5].
__________
(1) في م : "بمجادح" ، وفي أ : "بمخارج".

(8/233)


قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)

وقوله : { وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا } هذا اسم مصدر ، والإتيان به هاهنا أحسن ، { ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا } أي : إذا متم { وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا } أي : يوم القيامة يعيدكم كما بدأكم أول مرة.
{ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِسَاطًا } أي : بسطها ومهدها وقررها وثَبتها بالجبال الراسيات الشم الشامخات.
{ لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا } أي : خلقها لكم لتستقروا عليها وتسلكوا فيها (1) أين شئتم ، من نواحيها وأرجائها وأقطارها ، وكل هذا مما ينبههم به نوح ، عليه السلام على قدرة الله وعظمته في خلق السموات والأرض ، ونعمه عليهم فيما جعل لهم من المنافع السماوية والأرضية ، فهو الخالق الرزاق ، جعل السماء بناء ، والأرض مهادا ، وأوسع (2) على خلقه من رزقه ، فهو الذي يجب أن يعبد ويوحد ولا يشرك به أحد ؛ لأنه لا نظير له ولا عَديل (3) له ، ولا ند ولا كفء ، ولا صاحبة ولا ولد ، ولا وزير ولا مشير ، بل هو العلي الكبير.
{ قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالا (24) }
يقول تعالى مخبرا عن نوح ، عليه السلام ، أنه أنهى إليه ، وهو العليم الذي لا يعزب عنه شيء ، أنه مع البيان المتقدم ذكره ، والدعوة المتنوعة المتشملة على الترغيب تارة والترهيب أخرى : أنهم عصوه وكذبوه وخالفوه ، واتبعوا أبناء الدنيا ممن غفل عن أمر الله ، ومتع بمال وأولاد ، وهي في نفس الأمر استدراج وإنظار لا إكرام ؛ ولهذا قال : { وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا } قُرئ { وَوُلْدُهُ } بالضم وبالفتح ، وكلاهما متقارب.
وقوله : { وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا } قال مجاهد : { كُبَّارًا } أي عظيمًا. وقال ابن زيد : { كُبَّارًا } أي : كبيرا. والعرب تقول : أمر عجيب وعُجَاب وعُجَّاب. ورجل حُسَان. وحُسَّان : وجُمَال وجُمَّال ، بالتخفيف والتشديد ، بمعنى واحد.
والمعنى في قوله : { وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا } أي : باتباعهم في تسويلهم لهم بأنهم على الحق والهدى ، كما يقولون لهم يوم القيامة : { بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا } [سبأ : 33] ولهذا قال هاهنا : { وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } وهذه أسماء أصنامهم التي كانوا يعبدونها من دون الله.
قال البخاري : حدثنا إبراهيم ، حدثنا هشام ، عن ابن جريج ، وقال عطاء ، عن ابن عباس : صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد : أما وَد : فكانت لكلب بدومة الجندل ؛ وأما
__________
(1) في م : "منها".
(2) في م : "ووسع".
(3) في م ، أ : "ولا عدل".

(8/234)


سواع : فكانت لهذيل ، وأما يغوث فكانت لمراد ، ثم لبني غُطَيف بالجُرُف عند سبأ ، أما يُعوقُ : فكانت لهَمْدان ، وأما نسر : فكانت لحمير لآل ذي كَلاع ، وهي (1) أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، عليه السلام ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم. ففعلوا ، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتَنَسَّخَ (2) العلم عُبِدت (3)
وكذا رُوي عن عكرمة ، والضحاك ، وقتادة ، وابن إسحاق ، نحو هذا.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هذه أصنام كانت (4) تعبد في زمن نوح.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن موسى ، عن محمد بن قيس { [يَغُوثَ] وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } (5) قال : كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح ، وكان لهم أتباع يقتدون بهم ، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم : لو صَوَرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم. فصوروهم ، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال : إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر ، فعبدوهم. (6)
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة شيث ، عليه السلام ، من طريق إسحاق بن بشر قال : وأخبرني جُويبر ومقاتل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس أنه قال : ولد لآدم عليه السلام ، أربعون ولدا ، عشرون غلاما وعشرون جارية ، فكان ممن عاش منهم : هابيل ، وقابيل ، وصالح ، وعبد الرحمن - والذي كان سماه عبد الحارث - ووَدّ ، وكان وَدّ يقال له "شيث" ويقال له : "هبة الله" وكان إخوته قد سَوّدوه ، وولد له سَوَاع ويغوث ويعوق ونسر. (7)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو عُمَر الدّوريُّ ، حدثني أبو إسماعيل المؤدّب ، عن عبد الله بن مسلم بن هُرمز عن أبي حزْرَة ، عن عروة بن الزبير قال : اشتكى آدم ، عليه السلام ، وعنده بنوه : ود ، ويغوث ، [ويعوق] (8) وسواع ، ونسر - قال وكان وَدّ أكبَرهم وأبرّهم به.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور ، حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا يعقوب ، عن أبي المطهر قال : ذكروا عند أبي جعفر - وهو قائم يصلي - يزيد بن المهلب ، قال : فلما انفتل من صلاته قال : ذكرتم يزيدَ بن المهلب ، أما إنه قتل في أول أرض عُبد فيها غيرُ الله. قال : ثم ذكر ودًا - قال : وكان وَدٌّ رجلا مسلما وكان محببا في قومه ، فلما مات عسكروا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه ، فلما رأى إبليس جَزَعهم عليه ، تشبه في صورة إنسان ، ثم قال : إني أرى جزعكم على هذا الرجل ، فهل لكم أن أصور لكم مثله ، فيكونَ في ناديكم فتذكرونه ؟ قالوا :
__________
(1) في أ : "ونسرا وهي".
(2) في م : "ونسخ".
(3) صحيح البخاري برقم (4920).
(4) في م : "كانت هذه أصنام".
(5) زيادة من م.
(6) تفسير الطبري (29/62).
(7) تاريخ دمشق (8/165) "المخطوط" ).
(8) زيادة من م ، أ.

(8/235)


مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)

نعم. فصُوِّر لهم مثله ، قال : ووضعوه في ناديهم وجعلوا يذكرونه. فلما رأى ما بهم من ذكره قال : هل لكم أن أجعل في منزل كل واحد منكم تمثالا مثله ، فيكون (1) له في بيته فتذكرونه ؟ قالوا : نعم. قال : فمثل لكل أهل بيت تمثالا مثله ، فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به ، قال : وأدرك أبناؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به ، قال وتناسلوا ودَرَس أمر ذكرهم إياه ، حتى اتخذوه إلها يعبدونه من دون الله أولاد أولادهم ، فكان أول ما عبد من غير الله : الصنم الذي سموه وَدّا.
وقوله : { وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا } يعني : الأصنام التي اتخذوها أضلوا بها خلقا كثيرًا ، فإنه استمرت عبادتها في القرون إلى زماننا هذا في العرب والعجم وسائر صنوف بني آدم. وقد قال الخليل ، عليه السلام ، في دعائه : { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ } [إبراهيم : 35 ، 36].
وقوله : { وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالا } دعاء منه على قومه لتمردهم وكفرهم وعنادهم ، كما دعا موسى على فرعون ومثله في قوله : { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [يونس : 88] وقد استجاب الله لكل من النبيين في قومه ، وأغرق أمته بتكذيبهم لما جاءهم به.
{ مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا (28) }
يقول تعالى : { مِمَّا خَطايَاهُمْ } وقرئ : { خَطِيئَاتِهِمْ } { أُغْرِقُوا } أي : من كثرة ذنوبهم وعتوهم وإصرارهم على كفرهم ومخالفتهم رسولهم { أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا } أي : نقلوا من تيار البحار (2) إلى حرارة النار ، { فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا } أي : لم يكن لهم معين ولا مُغيث ولا مُجير ينقذهم من عذاب الله كقوله : { قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ } [هود : 43].
{ وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } أي : لا تترك على [وجه] (3) الأرض منهم أحدًا ولا تُومُريَّا (4) وهذه من صيغ تأكيد النفي.
قال الضحاك : { دَيَّارًا } واحدا. وقال السُّدِّي : الديار : الذي يسكن الدار.
فاستجاب الله له ، فأهلك جميع من على وجه الأرض من الكافرين حتى ولد نوح لصلبه الذي اعتزل عن أبيه ، وقال : { سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ } [هود : 43].
__________
(1) في م : "ليكون".
(2) في م : "البحر".
(3) زيادة من م ، أ.
(4) في م : "ولادومريا".

(8/236)


وقال ابن أبي حاتم : قرئ (1) على يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني شَبيب بن سعد ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو رحم الله من قوم نوح أحدا ، لرحم امرأة ، لما رأت الماء حملت ولدها ثم صعدت الجبل ، فلما بلغها الماء صعدت (2) به منكبها ، فلما بلغ الماء منكبها وضعت ولدها على رأسها ، فلما بلغ الماء رأسها رفعت ولدها بيدها. فلو رحم الله منهم أحدا لرحم هذه المرأة". (3)
هذا حديث غريب ، ورجاله ثقات. ونجى الله أصحاب السفينة الذين آمنوا مع نوح ، عليه السلام ، وهم الذين أمره الله بحملهم معه.
وقوله : { إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ } أي : إنك إن أبقيت منهم أحدًا أضلوا عبادك ، أي : الذين تخلقهم بعدهم { وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا } أي : فاجرًا في الأعمال كافر القلب ، وذلك لخبرته بهم ومكثه بين أظهرهم ألف سنة إلا خمسين عاما.
ثم قال : { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا } قال الضحاك : يعني : مسجدي ، ولا مانع من حمل الآية على ظاهرها ، وهو أنه دعا لكل من دخل منزله وهو مؤمن ، وقد قال الإمام أحمد :
حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا حَيْوَة ، أنبأنا سالم بن غيلان : أن الوليد بن قيس التُّجِيبِيّ أخبره : أنه سمع أبا سعيد الخدري - أو : عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد : - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا تصحب إلا مؤمنا ، ولا يأكل طعامك إلا تقي".
ورواه أبو داود والترمذي ، من حديث عبد الله بن المبارك ، عن حيوة بن شريح ، به (4) ثم قال الترمذي : إنما نعرفه من هذا الوجه.
وقوله : { وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } دعاء لجميع المؤمنين والمؤمنات ، وذلك يَعُم الأحياءَ منهم والأموات ؛ ولهذا يستحب مثل هذا الدعاء ، اقتداء بنوح ، عليه السلام ، وبما جاء في الآثار ، والأدعية [المشهورة] (5) المشروعة.
وقوله : { وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا } قال السدي : إلا هلاكا. وقال مجاهد : إلا خسارا ، أي : في الدنيا والآخرة.
آخر تفسير سورة "نوح" [عليه السلام ولله الحمد والمنة] (6).
__________
(1) في هـ : "لما قرئ" والمثبت من م ، أ.
(2) في م : "فلما بلغ الماء رأسها صعدت".
(3) وله شاهد من حديث عائشة رواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3591) والحاكم في المستدرك (2/342) من طريق سعيد بن أبي مريم ، عن موسى بن يعقوب ، عن فائد مولى عبيد الله بن علي بن أبي رافع : أن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة أخبره أن عائشة أخبريه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لو رحم الله من قوم نوح أحدًا لرحم أم الصبي" وذكره نحوه ، وقال الحاكم : "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وتعقبه الذهبي بقوله : "إسناد مظلم ، وموسى بن يعقوب المذكور في إسناده ليس بذاك".
(4) المسند (3/38) وسنن أبي داود برقم (4832) وسنن الترمذي برقم (2395).
(5) زيادة من م.
(6) زيادة من أ.

(8/237)


قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)

تفسير سورة الجن
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) }
يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر قومه : أن الجن استمعوا القرآن فآمنوا به وصدقوه وانقادوا له ، فقال تعالى : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ } أي : إلى السداد والنجاح ، { فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا } وهذا المقام شبيه بقوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ } [الأحقاف : 29] وقد قدمنا الأحاديث الواردة في ذلك بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقوله : { وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { جَدُّ رَبِّنَا } أي : فعله وأمره وقدرته.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : جد الله : آلاؤه وقدرته ونعمته على خلقه.
وروي عن مجاهد وعكرمة : جلال ربنا. وقال قتادة : تعالى جلاله وعظمته وأمره. وقال السدي : تعالى أمر ربنا. وعن أبي الدرداء ، ومجاهد أيضا وابن جريج : تعالى ذكره. وقال سعيد بن جبير : { تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا } أي : تعالى ربنا.
فأما ما رواه ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ (1) حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : الجد : أب. ولو علمت الجن أن في الإنس جدا ما قالوا : تعالى جَدّ ربنا.
فهذا إسناد جيد ، ولكن لست أفهم ما معنى هذا الكلام ؛ ولعله قد سقط شيء ، والله أعلم. وقوله : { مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا } أي : تعالى عن اتخاذ الصاحبة والأولاد ، أي : قالت
__________
(1) في م : "عبد الله بن سويد الكوفي".

(8/237)


الجن : تنزه الرب تعالى جلاله وعظمته ، حين أسلموا وآمنوا بالقرآن ، عن اتخاذ الصاحبة والولد.
ثم قالوا : { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا } قال مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي : { سَفِيهُنَا } يعنون : إبليس ، { شَطَطًا } قال السُّدِّي ، عن أبي مالك : { شَطَطًا } أي : جورا. وقال ابن زيد : ظلما كبيرا.
ويحتمل أن يكون المراد بقولهم : { سَفِيهُنَا } اسم جنس لكل من زعم أن لله صاحبة أو ولدا. ولهذا قالوا : { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا } أي : قبل إسلامه { عَلَى اللَّهِ شَطَطًا } أي : باطلا وزورا ؛ { وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } أي : ما حسبنا أن الإنس والجن يتمالئون على الكذب على الله في نسبة الصاحبة والولد إليه. فلما سمعنا هذا القرآن وآمنا به ، علمنا أنهم كانوا يكذبون على الله في ذلك.
وقوله : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } أي : كنا نرى أن لنا فضلا على الإنس ؛ لأنهم كانوا يعوذون بنا ، إي : إذا نزلوا واديا أو مكانا موحشا من البراري وغيرها كما كان عادة العرب في جاهليتها. يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان ، أن يصيبهم بشيء يسوؤهم كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير وذمامه وخفارته ، فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون (1) بهم من خوفهم منهم ، { فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } أي : خوفا وإرهابا وذعرا ، حتى تبقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذا بهم ، كما قال قتادة : { فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } أي : إثما ، وازدادت الجن عليهم بذلك جراءة.
وقال الثوري ، عن منصور عن إبراهيم : { فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } أي : ازدادت الجن عليهم جرأة.
وقال السدي : كان الرجل يخرج بأهله فيأتي الأرض فينزلها فيقول : أعوذ بسيد هذا الوادي من الجن أن أضَرّ أنا فيه أو مالي أو ولدي أو ماشيتي ، قال : فإذا عاذ بهم من دون الله ، رَهقَتهم الجن الأذى عند ذلك.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا أبي ، حدثنا الزبير بن الخرِّيت ، عن عكرمة قال : كان الجن يَفْرَقُون من الإنس كما يفرَق الإنس منهم أو أشد ، وكان الإنس إذا نزلوا واديا هرب الجن ، فيقول سيد القوم : نعوذ بسيد أهل هذا الوادي.
فقال الجن : نراهم يفرقون منا كما نفرق منهم. فدنوا من الإنس فأصابوهم بالخبل والجنون ، فذلك قول الله : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا }
وقال أبو العالية ، والربيع ، وزيد بن أسلم : { رَهَقًا } أي : خوفا. وقال العوفي ، عن ابن عباس : { فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } أي : إثما. وكذا قال قتادة. وقال مجاهد : زاد الكفار طغيانا.
__________
(1) في م : "سيعوذون".

(8/239)


وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا فروة بن المغراء الكندي ، حدثنا القاسم بن مالك - يعني المزني - عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن أبيه ، عن كَردم بن أبي السائب الأنصاري قال : خرجت مع أبي من المدينة في حاجة ، وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، فآوانا المبيت إلى راعي غنم. فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم ، فوثب الراعي فقال : يا عامر الوادي ، جارك. فنادى مناد لا نراه ، يقول : يا سرحان ، أرسله. فأتى الحملَ يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة. وأنزل الله تعالى على رسوله بمكة { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا }
ثم قال : ورُوي عن عبيد بن عمير ، ومجاهد ، وأبي العالية ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم النَّخَعي ، نحوه.
وقد يكون هذا الذئب الذي أخذ الحمل - وهو ولد الشاة - وكان جنّيا حتى يُرهب الإنسي ويخاف منه ، ثم رَدَّه عليه لما استجار به ، ليضله ويهينه ، ويخرجه عن دينه ، والله أعلم.
وقوله : { وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا } أي : لن يبعث الله بعد هذه المدة رسولا. قاله الكلبي ، وابن جرير.
{ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) }
يخبر تعالى عن الجن حين بعث الله رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن ، وكان من حفظه له أن السماء مُلئَت حرسا شديدًا ، وحفظت من سائر أرجائها ، وطردت الشياطين عن مقاعدها التي كانت تقعد فيها قبل ذلك ؛ لئلا يسترقوا شيئا من القرآن. فيلقوه على ألسنة الكهنة ، فيلتبس الأمر ويختلط ولا يدرى من الصادق. وهذا (1) من لطف الله بخلقه (2) ورحمته بعباده ، وحفظه لكتابه العزيز ، ولهذا قال الجن : { وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا } أي : من يروم أن يسترق السمع اليوم يجد له شهابا مرصدا له ، لا يتخطاه ولا يتعداه ، بل يمحقه ويهلكه ، { وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا } أي : ما ندري هذا الأمر الذي قد حدث في السماء ، لا ندري أشر أريد بمن في الأرض ، أم أراد بهم ربهم رشدا ؟ وهذا من أدبهم في العبارة حيث أسندوا الشر إلى غير فاعل ، والخير أضافوه إلى الله عز وجل. وقد ورد في الصحيح : "والشر ليس إليك". وقد كانت الكواكب يُرمَى بها قبل ذلك ، ولكن ليس بكثير بل في الأحيان بعد الأحيان ، كما في حديث ابن عباس (3) بينما نحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رمي بنجم فاستنار ، فقال : "ما كنتم تقولون
__________
(1) في م : "فكان هذا".
(2) في م : "عليه".
(3) في م : "كما في حديث العباس".

(8/240)


وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)

في هذا ؟ فقلنا : كنا نقول : يولد عظيم ، يموت عظيم ، فقال : "ليس كذلك ، ولكن الله إذا قضى الأمر في السماء" ، وذكر تمام الحديث ، وقد أوردناه في سورة "سبأ" بتمامه (1) وهذا هو السبب الذي حملهم على تطلب السبب في ذلك ، فأخذوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها ، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بأصحابه في الصلاة ، فعرفوا أن هذا هو الذي حفظت من أجله السماء ، فآمن من آمن منهم ، وتمرد في طغيانه من بقي ، كما تقدم حديث ابن عباس في ذلك ، عند قوله في سورة "الأحقاف" : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ } الآية 29. ولا شك أنه لما حدث هذا الأمر وهو كثرة الشهب في السماء والرمي بها ، هال ذلك الإنس والجن وانزعجوا له وارتاعوا لذلك ، وظنوا أن ذلك لخراب العالم - كما قال السدي : لم تكن السماء تحرس إلا أن يكون في الأرض نبي أو دين لله ظاهر ، فكانت الشياطين قبل محمد صلى الله عليه وسلم قد اتخذت المقاعد في السماء الدنيا ، يستمعون ما يحدث في السماء من أمر. فلما بعث الله محمدًا نبيا ، رُجموا ليلة من الليالي ، ففزع لذلك أهل الطائف ، فقالوا : هلك أهل السماء ، لما رأوا من شدة النار في السماء واختلاف الشهب. فجعلوا يعتقون أرقاءهم ويُسَيِّبون مواشيهم ، فقال لهم عبد يا ليل بن عمرو بن عمير : ويحكم يا معشر أهل الطائف. أمسكوا عن أموالكم ، وانظروا إلى معالم النجوم فإن رأيتموها مستقرة في أمكنتها فلم يهلك أهل السماء ، إنما هذا من أجل ابن أبي كبشة - يعني : محمدا صلى الله عليه وسلم - وإن أنتم لم تروها فقد هلك أهل السماء. فنظروا فرأوها ، فكفوا عن أموالهم. وفزعت الشياطين في تلك الليلة ، فأتوا إبليس فحدثوه بالذي كان من أمرهم ، فقال : ائتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها. فأتوه فَشَم فقال : صاحبكم بمكة. فبعث سبعة نفر من جن نصيبين ، فقدموا مكة فوجدوا رسول الله (2) صلى الله عليه وسلم قائما يصلي في المسجد الحرام يقرأ القرآن ، فدنوا منه حرصا على القرآن حتى كادت كلاكلهم تصيبه ، ثم أسلموا. فأنزل الله تعالى أمرهم على نبيه صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكرنا هذا الفصل مستقصى في أول البعث من(كتاب السيرة) المطول ، والله أعلم ، ولله الحمد والمنة.
{ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا (13) }
__________
(1) عند تفسير الآية : 23.
(2) في م : "نبي الله".

(8/241)


وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)

{ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) }
يقول مخبرا عن الجن : أنهم قالوا مخبرين عن أنفسهم : { وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } أي : غير ذلك ، { كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا } أي : طرائق متعددة مختلفة وآراء متفرقة.

(8/241)


قال ابن عباس ، ومجاهد وغير واحد : { كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا } أي : منا المؤمن ومنا الكافر.
وقال أحمد بن سليمان النجاد في أماليه ، حدثنا أسلم بن سهل بحشل ، حدثنا علي بن الحسن بن سليمان - هو أبو الشعثاء الحضرمي ، شيخ مسلم - حدثنا أبو معاوية (1) قال : سمعتُ الأعمش يقول : تروح إلينا جني ، فقلت له : ما أحب الطعام إليكم ؟ فقال الأرز. قال : فأتيناهم به ، فجعلت أرى اللقم ترفع ولا أرى أحدا. فقلت : فيكم من هذه الأهواء التي فينا ؟ قال : نعم. قلت : فما الرافضة فيكم (2) ؟ قال (3) شرنا. عرضت هذا الإسناد على شيخنا الحافظ أبي الحجاج المِزِّي فقال : هذا إسناد صحيح إلى الأعمش.
وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة العباس بن أحمد الدمشقي قال (4) سمعتُ بعض الجَنّ وأنا في منزل لي بالليل ينشد :
قُلوبٌ بَرَاها الحبّ حَتى تعلَّقت... مَذَاهبُها في كُلّ غَرب وشَارقِ...
تَهيم بحب الله ، واللهُ رَبُّها... مُعَلَّقةٌ بالله دُونَ الخَلائقِ (5)
وقوله : { وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا } أي : نعلم أن قدرة الله حاكمة علينا وأنا لا نعجزه في الأرض ، ولو أمعنا في الهرب ، فإنه علينا قادر (6) لا يعجزه أحد منا.
{ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ } يفتخرون بذلك ، وهو مفخر (7) لهم ، وشرف رفيع وصفة حسنة.
وقولهم : { فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا } قال ابن عباس ، وقتادة ، وغيرهما : فلا يخاف أن يُنقص من حسناته أو يحمل عليه غير سيئاته ، كما قال تعالى : { فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا } [طه : 112]
{ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ } أي : منا المسلم ومنا القاسط ، وهو : الجائر عن الحق الناكب عنه ، بخلاف المقسط فإنه العادل ، { فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا } أي : طلبوا لأنفسهم النجاة ،
{ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا } أي : وقودًا تسعر بهم.
وقوله : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } اختلف المفسرون في معنى هذا على قولين :
أحدهما : وأن لو استقام القاسطون على طريقة الإسلام وعدلوا إليها واستمروا عليها ، { لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا } أي : كثيرًا. والمراد بذلك سَعَة الرزق. كقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } [المائدة : 66] وكقوله :
__________
(1) في أ : "أبو عوانة".
(2) في أ : "منكم".
(3) في م : "قالوا".
(4) في م : "أنه قال".
(5) تاريخ دمشق (8/887 "المخطوط" ).
(6) في م : "فإنه قادر علينا.
(7) في أ : "وهو مفتخر".

(8/242)


{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } [الأعراف : 96] وعلى هذا يكون معنى قوله : { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أي : لنختبرهم ، كما قال مالك ، عن زيد بن أسلم : { لِنَفْتِنَهُمْ } لنبتليهم ، من يستمر على الهداية ممن يرتد إلى الغواية ؟.
ذكر من قال بهذا القول : قال العوفي ، عن ابن عباس : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ } يعني بالاستقامة : الطاعة. وقال مجاهد : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ } قال : الإسلام. وكذا قال سعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء ، والسدي ، ومحمد بن كعب القرظي.
وقال قتادة : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ } يقول : لو آمنوا كلهم لأوسعنا عليهم من الدنيا.
وقال مجاهد : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ } أي : طريقة الحق. وكذا قال الضحاك ، واستشهد على ذلك بالآيتين اللتين ذكرناهما ، وكل هؤلاء أو أكثرهم قالوا في قوله : { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أي لنبتليهم به.
وقال مقاتل : فنزلت في كفار قريش حين مُنعوا المطر سبع سنين.
والقول الثاني : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ } الضلالة { لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا } أي : لأوسعنا عليهم الرزق استدراجا ، كما قال : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } [الأنعام : 44] وكقوله : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } [المؤمنون : 55 ، 56] وهذا قول أبي مِجلز لاحق بن حُمَيد ؛ فإنه في قوله : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ } أي : طريقة الضلالة. رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وحكاه البغوي عن الربيع بن أنس ، وزيد بن أسلم ، والكلبي ، وابن كيسان. وله اتجاه ، وتيأيد بقوله : { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ }
وقوله : { وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا } أي : عذابا شاقا شديدًا موجعًا مؤلما.
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، وابن زيد : { عَذَابًا صَعَدًا } أي : مشقة لا راحة معها.
وعن ابن عباس : جبل في جهنم. وعن سعيد بن جبير : بئر فيها.

(8/243)


وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)

{ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) }
يقول تعالى آمرًا عباده أن يُوَحِّدوه في مجال عبادته ، ولا يُدْعى معه أحد ولا يشرك به (1) كما قال قتادة في قوله : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } قال : كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبِيَعِهِم ، أشركوا بالله ، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يوحدوه وحده.
وقال ابن أبي حاتم : ذكر علي بن الحسين : حدثنا إسماعيل بن بنت السدي ، أخبرنا رجل سماه ، عن السدي ، عن أبي مالك - أو أبي صالح - عن ابن عباس في قوله : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } قال : لم يكن يوم نزلت هذه الآية في الأرض مسجد إلا المسجد الحرام ، ومسجد إيليا : بيت المقدس.
وقال الأعمش : قالت الجن : يا رسول الله ، ائذن لنا نشهد معك الصلوات في مسجدك. فأنزل الله : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } يقول : صلوا ، لا تخالطوا الناس.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران ، حدثنا سفيان ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن محمود عن سعيد بن جبير ، : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ } قال : قالت الجن لنبي (2) الله صلى الله عليه وسلم : كيف لنا أن نأتي المسجد ونحن ناءون [عنك] (3) ؟ ، وكيف نشهد الصلاة ونحن ناءون عنك ؟ فنزلت : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } (4)
وقال سفيان ، عن خُصَيْف ، عن عكرمة : نزلت في المساجد كلها.
وقال سعيد بن جبير. نزلت في أعضاء السجود ، أي : هي لله فلا تسجدوا بها لغيره. وذكروا عند هذا القول الحديث الصحيح ، من رواية عبد الله بن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم : على الجبهة - أشار (5) بيديه إلى أنفه - واليدين والركبتين وأطراف القدمين" (6)
وقوله : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } قال العوفي ، عن ابن عباس يقول : لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه ؛ من الحرص ، لما سمعوه يتلو القرآن ، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول فجعل يقرئه : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ } يستمعون القرآن.
هذا قول ، وهو مروي عن الزبير بن العوام ، رضي الله عنه.
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن معمر ، حدثنا أبو مسلم ، عن أبي عَوَانة ، عن أبي بشر ،
__________
(1) في م : "ولا يشرك به أحدًا".
(2) في م : "قالت الجن للنبي".
(3) زيادة من م.
(4) تفسير الطبري (29/73)
(5) في م : "وأشار".
(6) رواه البخاري في صحيحه برقم (812) ، صحيح مسلم برقم (490).

(8/244)


عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال الجن لقومهم : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } قال : لما رأوه يصلي وأصحابه ، يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده ، قالوا : عجبوا من طواعية أصحابه له ، قال : فقالوا لقومهم : { لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا }
وهذا قول ثان ، وهو مروي عن سعيد بن جبير أيضا.
وقال الحسن : لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا إله إلا الله" ويدعو الناس إلى ربهم ، كادت العرب تلبد عليه جميعًا.
وقال قتادة في قوله : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } قال : تَلَبَّدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه ، فأبى الله إلا أن ينصره ويمضيه (1) ويظهره على من ناوأه.
هذا قول ثالث ، وهو مروي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقول ابن زيد ، واختيار ابن جرير ، وهو الأظهر لقوله بعده : { قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا } أي : قال لهم الرسول - لما آذوه (2) وخالفوه وكذبوه وتظاهروا عليه ، ليبطلوا ما جاء به من الحق واجتمعوا على عداوته : { إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي } أي : إنما أعبد ربي وحده لا شريك له ، وأستجير به وأتوكل عليه ، { وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا }
وقوله : { قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا } أي : إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ ، وعبد من عباد الله ليس إليّ من الأمر شيء في هدايتكم ولا غوايتكم ، بل المرجع في ذلك كله إلى الله عز وجل.
ثم أخبر عن نفسه أيضا أنه لا يجيره من الله أحد ، أي : لو عصيته فإنه لا يقدر أحد على إنقاذي من عذابه ، { وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا } قال مجاهد ، وقتادة ، والسدي : لا ملجأ. وقال قتادة أيضا : { قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا } أي : لا نصير ولا ملجأ. وفي رواية : لا ولي ولا موئل.
وقوله تعالى : { إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ } قال بعضهم : هو مستثنى من قوله : { لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا } { إِلا بَلاغًا } ويحتمل أن يكون استثناء من قوله : { لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ } أي : لا يجيرني منه ويخلصني إلا إبلاغي الرسالة التي أوجب أداءها عليّ ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [المائدة : 67] (3)
وقوله : { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } أي : أنما أبلغكم رسالة الله ، فمن يعص بعد ذلك فله جزاء على ذلك نار جهنم خالدين فيها أبدًا ، أي لا محيد لهم عنها ، ولا خروج
__________
(1) في م : "ويعينه".
(2) في م : "لما نادوه.
(3) في م : "فإن" وهو خطأ.

(8/245)


قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)

لهم منها.
وقوله : { حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا } أي : حتى إذا رأى هؤلاء المشركون من الجن والإنس ما يوعدون يوم القيامة فسيعلمون يومئذ من أضعف ناصرًا وأقل عددًا ، هم أم المؤمنون الموحدون لله عز وجل ، أي : بل المشركين لا ناصر لهم بالكلية ، وهم أقل عددًا من جنود الله عز وجل.
{ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28) }
يقول تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس : إنه لا علم له بوقت الساعة ، ولا يدري أقريب وقتها أم بعيد ؟ { قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا } ؟ أي : مدة طويلة.
وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن الحديث الذي يتداوله كثير من الجهلة من أنه عليه السلام ، لا يؤلف تحت الأرض ، كذب لا أصل له ، ولم نره في شيء من الكتب. وقد كان صلى الله عليه وسلم يسأل عن وقت الساعة فلا يجيب عنها ، ولما تَبدَّى له جبريل في صورة أعرابي كان فيما سأله أن قال : يا محمد ، فأخبرني عن الساعة ؟ قال : "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" (1) ولما ناداه ذلك الأعرابي بصوت جَهوريّ فقال : يا محمد ، متى الساعة ؟ قال : "ويحك. إنها كائنة ، فما أعددت لها ؟". قال : أما إني لم أعد لها كثير (2) صلاة ولا صيام ، ولكني أحب الله ورسوله. قال : "فأنت مع من أحببت". قال أنس : فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث (3)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن مُصفَى ، حدثنا محمد بن حمير (4) حدثني أبو بكر بن أبي مريم ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يا بني آدم ، إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى ، والذي نفسي بيده ، إنما توعدون لآت" (5)
وقد قال أبو داود في آخر "كتاب الملاحم" : حدثنا موسى بن سهيل ، حدثنا حجاج بن إبراهيم ، حدثنا ابن وهب ، حدثني معاوية بن صالح ، عن عبد الرحمن بن جُبَير ، عن أبيه ، عن أبي ثَعلبة الخُشني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم" (6)
__________
(1) هو جزء من حديث جبريل الطويل ، رواه مسلم في صحيحه برقم (8) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(2) في م : "كبير".
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (2639) من حديث أنس ، رضي الله عنه.
(4) في أ : "محمد بن جبير".
(5) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (10564) من طريق الحسن بن سفيان ، عن محمد بن المصفي ، به.
(6) سنن أبي داود برقم (4349) ، ، ورواه الحاكم في المستدرك (4/424) من طريق ابن وهب ، به. وقال الحاكم : "صحيح على شرطهما ولم يخرجاه".

(8/246)


انفرد به أبو داود ، ثم قال أبو داود :
حدثنا عمرو بن عثمان. حدثنا أبو المغيرة ، حدثني صفوان ، عن شُرَيح بن عبيد ، عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إني لأرجو ألا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم". قيل لسعد : وكم نصف يوم ؟ قال : خمسمائة عام. انفرد به أبو داود (1)
وقوله : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ } هذه كقوله تعالى : { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ } [البقرة : 255] وهكذا قال هاهنا : إنه يعلم الغيب والشهادة ، وإنه لا يطلع أحد من خلقه على شيء من علمه إلا مما أطلعه تعالى عليه ؛ ولهذا قال : { فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ } وهذا يعم الرسول الملكي والبشري.
ثم قال : { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا } أي : يختصه بمزيد معقبات من الملائكة يحفظونه من أمر الله ، ويساوقونه على ما معه من وحي الله ؛ ولهذا قال : { لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا }
وقد اختلف المفسرون في الضمير الذي في قوله : { لِيَعْلَمَ } إلى من يعود ؟ فقيل : إنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب القمي (2) عن جعفر ، عن سعيد بن جبير في قوله : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا } قال : أربعة حفظة من الملائكة مع جبريل ، { لِيَعْلَمَ } محمد صلى الله عليه وسلم { أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا }
ورواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي (3) به. وهكذا رواه الضحاك ، والسدي ، ويزيد بن أبي حبيب.
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر عن قتادة : { لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ } قال : ليعلم نبي الله أن الرسل قد بلغت عن الله ، وأن الملائكة حفظتها ودفعت عنها. وكذا رواه سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة. واختاره ابن جرير.
وقيل غير ذلك ، كما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله : { إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا } قال : هي معقبات من الملائكة يحفظون النبي من الشيطان ، حتى يتبين الذي أرسل به إليهم ، وذلك حين يقول ، ليعلم أهل الشرك أن قد أبلغوا رسالات ربهم.
وكذا قال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ } قال : ليعلم من كذب الرسل أن قد أبلغوا رسالات ربهم. وفي هذا نظر.
__________
(1) سنن أبي داود برقم (4350) ، وشريح بن عبيد لم يدرك سعد بن أبي وقاص ، فهو منقطع.
(2) في أ : "العمي".
(3) في أ : "العمي".

(8/247)


وقال البغوي : قرأ يعقوب : "ليُعلَم" بالضم ، أي : ليعلم الناس أن الرسل بُلّغوا.
ويحتمل أن يكون الضمير عائدًا إلى الله عز وجل ، وهو قول حكاه ابن الجوزي في "زاد المسير" (1) ويكون المعنى في ذلك : أنه يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته ، ويحفظ ما بُيِّن إليهم من الوحي ؛ ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ، ويكون ذلك كقوله : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } [البقرة : 143] وكقوله : { وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ } [العنكبوت : 11] إلى أمثال ذلك ، مع العلم بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعا لا محالة ؛ ولهذا قال بعد هذا : { وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا }.
__________
(1) زاد المسير (8/386).

(8/248)


يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)

تفسير سورة المزمل
وهي مكية
قال الحافظ أبو بكر [أحمد] (1) بن عمرو بن عبد الخالق البزار : حدثنا محمد بن موسى القطان الواسطي ، حدثنا معلى بن عبد الرحمن ، حدثنا شريك ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر قال : اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا : سموا هذا الرجل اسمًا تصدر (2) الناس عنه. فقالوا : كاهن. قالوا : ليس بكاهن. قالوا : مجنون قالوا : ليس بمجنون. قالوا : ساحر. قالوا : ليس بساحر. فتفرق المشركون على ذلك ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فتزمل في ثيابه وتدثر فيها. فأتاه جبريل ، عليه السلام ، فقال : " يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ " " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ".
ثم قال البزار : معلى بن عبد الرحمن : قد حدث عنه جماعة من أهل العلم ، واحتملوا حديثه ، لكن تفرد بأحاديث لا يتابع عليها. (3)
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا (6) إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا (9) }
يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يترك التزمل ، وهو : التغطي في الليل ، وينهض إلى القيام لربه عز وجل ، كما قال تعالى : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [السجدة : 16] وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممتثلا ما أمره الله تعالى به من قيام الليل ، وقد كان واجبًا عليه وحده ، كما قال تعالى : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } [الإسراء : 79] وهاهنا بين له مقدار ما يقوم ، فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا } ء
قال ابن عباس ، والضحاك ، والسدي : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } يعني : يا أيها النائم. وقال قتادة : المزمل في ثيابه ، وقال إبراهيم النخعي : نزلت وهو متزمل بقطيفة.
وقال شبيب بن بِشر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } قال : يا محمد ،
__________
(1) زيادة من م ، أ.
(2) في أ : "فصدوا".
(3) مسند البزار برقم (2276) "كشف الأستار" ، ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3408) من طريق محمد بن موسى القطان به مثله ، وقال الهيثمي في المجمع (7/130) : "وفيه معلى بن عبد الرحمن الواسطي وهو كذاب".

(8/249)


زُمّلتَ القرآن.
وقوله : { نِصْفَهُ } بدل من الليل { أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } أي : أمرناك أن تقوم نصف الليل بزيادة قليلة أو نقصان قليل ، لا حرج عليك في ذلك.
وقوله : { وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا } أي : اقرأه على تمهل ، فإنه يكون عونا على فهم القرآن وتدبره. وكذلك كان يقرأ صلوات الله وسلامه عليه ، قالت عائشة : كان يقرأ السورة فيرتلها ، حتى تكون أطول من أطول منها. وفي صحيح البخاري ، عن أنس : أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : كانت مدًا ، ثم قرأ { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } يمد بسم الله ، ويمد الرحمن ، ويمد الرحيم. (1)
وقال ابن جُرَيج ، عن ابن أبي مُلَيكة عن أم سلمة : أنها سُئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : كان يقطع قراءته آية آية ، { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي. (2)
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن زرّ ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يقال لصاحب (3) القرآن : اقرأ وارْقَ ، ورَتِّل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها".
ورواه أبو داود ، والترمذي والنسائي ، من حديث سفيان الثوري ، به (4) وقال الترمذي : حسن صحيح.
وقد قدمنا في أول التفسير الأحاديث الدالة على استحباب الترتيل وتحسين الصوت بالقراءة ، كما جاء في الحديث : "زَيِّنوا القرآن بأصواتكم" ، و "ليس منا من لم يَتَغَنَّ بالقرآن" ، و "لقد أوتي هذا مزمار من مزامير آل داود" يعني : أبا موسى ، فقال أبو موسى : لو كنت أعلم أنك كنت تسمع قراءتي لحبَّرْته لك تحبيرا. (5)
وعن ابن مسعود أنه قال : لا تنثروه نثر الرمل (6) ولا تهذّوه هذّ الشعر ، قفوا عند عجائبه ، وحركوا به القلوب ، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة. رواه البغوي. (7)
وقال البخاري : حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، حدثنا عمرو بن مرة : سمعت أبا وائل قال : جاء رجل إلى ابن مسعود فقال : قرأت المفصل (8) الليلة في ركعة. فقال : هذّا كهذّ الشعر. لقد عرفت
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5046).
(2) المسند (6/302) ، وسنن أبي داود برقم (4001) ، والشمائل للترمذي برقم (299).
(3) في م : "لقارئ".
(4) المسند (2/192) وسنن أبي داود برقم (1464) ، وسنن الترمذي برقم (2914) ، وسنن النسائي الكبرى برقم (8056).
(5) انظر هذه الأحاديث في : فضائل القرآن في المقدمة.
(6) في أ : "الدقل".
(7) معالم التنزيل للبغوي (8/215).
(8) في أ : "المعضل".

(8/250)


النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن. فذكر عشرين سورة من المُفَصّل سورتين في ركعة. (1)
وقوله : { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا } قال الحسن ، وقتادة : أي العمل به.
وقيل : ثقيلٌ وقت نزوله ؛ من عظمته. كما قال زيد بن ثابت : أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي ، فكادت تُرض فَخذي. (2)
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عمرو بن الوليد ، عن عبد الله بن عمرو قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، هل تحس بالوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أسمعُ صَلاصيل ، ثم أسكتُ عند ذلك ، فما من مرة يوحى إلي إلا ظننت أن نفسي تفيض" ، تفرد به أحمد. (3)
وفي أول صحيح البخاري عن عبد الله بن يوسف ، عن مالك ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة : أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يأتيك الوحي ؟ فقال : "أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده عَلَيّ ، فَيَفْصِمُ عني وقد وَعَيت عنه ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول". قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي صلى الله عليه وسلم في اليوم الشديد البرد ، فَيَفْصِمُ عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا هذا لفظه. (4)
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود ، أخبرنا عبد الرحمن ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : إن كان ليوحَى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته ، فتضرب بِجرَانها. (5)
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور ، عن مَعْمَر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته ، وضعت جرانها ، فما تستطيع أن تحرك حتى يُسَرّى عنه. (6)
وهذا مرسل. الجران : هو باطن العنق.
واختار ابن جرير أنه ثقيل (7) من الوجهين معا ، كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كما ثقل في الدنيا ثقل يوم القيامة في الموازين.
وقوله : { إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا } قال أبو إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : نشأ : قام بالحبشة.
وقال عمر ، وابن عباس ، وابن الزبير : الليل كله ناشئة. وكذا قال مجاهد ، وغير واحد ،
__________
(1) صحيح البخاري برقم (775).
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (4592).
(3) المسند (2/222).
(4) صحيح البخاري برقم (2).
(5) المسند (6/118).
(6) تفسير الطبري (29/82).
(7) في أ : "أنه يقبل".

(8/251)


يقال : نشأ : إذا قام من الليل. وفي رواية عن مجاهد : بعد العشاء. وكذا قال أبو مِجْلَز ، وقتادة ، وسالم وأبو حازم ، ومحمد بن المنكدر.
والغرض أن ناشئة الليل هي : ساعاته وأوقاته ، وكل ساعة منه تسمى ناشئة ، وهي الآنات. والمقصود أن قيام الليل هو (1) أشد مواطأة بين القلب واللسان ، وأجمع على التلاوة ؛ ولهذا قال : { هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا } أي : أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار ؛ لأنه وقت انتشار الناس ولَغَط الأصوات وأوقات المعاش.
[وقد] (2) قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا الأعمش ، أن أنس بن مالك قرأ هذه الآية : "إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأصوب قيلا" فقال له رجل : إنما نقرؤها { وَأَقْوَمُ قِيلا } فقال له : إن أصوب وأقوم وأهيأ وأشباه هذا واحد. (3)
ولهذا قال : { إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا } قال ابن عباس ، وعكرمة ، وعطاء بن أبي مسلم : الفراغ والنوم.
وقال أبو العالية ، ومجاهد ، وابن مالك ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، وسفيان الثوري : فراغًا طويلا.
وقال قتادة : فراغا وبغية ومنقلبا.
وقال السدي : { سَبْحًا طَوِيلا } تطوعا كثيرًا.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { [إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ] سَبْحًا طَوِيلا } (4) قال : لحوائجك ، فَأفْرغ لدينك الليل. قال : وهذا حين كانت صلاة الليل فريضة ، ثم إن الله من على العباد فخففها ووضعها ، وقرأ : { قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا } إلى آخر الآية ، ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ } حتى بلغ : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } [الليل نصفة أو ثلثه. ثم جاء أمر أوسع وأفسح وضع الفريضة عنه وعن أمته] (5) فقال : قال : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } [الإسراء : 49] وهذا الذي قاله كما قاله.
والدليل عليه ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال : حدثنا يحيى ، حدثنا سعيد ابن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن زُرارة بن أوفى ، عن سعيد بن هشام : أنه طلق امرأته ثم ارتحل إلى المدينة ليبيع عقارًا له بها ويجعله في الكُرَاع والسلاح ، ثم يجاهد الروم حتى يموت. فلقي رهطًا من قومه فحدثوه أن رهطًا من قومه ستة أرادوا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "أليس لكم فيّ أسوة (6) ؟"
__________
(1) في م : "هي".
(2) زيادة من م.
(3) مسند أبي يعلى (7/88) ونقل النحقق في الحاشية عن أبي بكر بن الأنباري أنه قال : "حديث لا يصح عن أحد من أهل العلم ، لأنه مبنى على رواية الأعمش عن أنس ، فهو مقطوع ليس بمتصل ، فيؤخذ من قبل أن الأعمش رأي أنسًا ولم يسمع منه".
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من تفسير الطبري.
(6) في أ : "أسوة حسنة".

(8/252)


فنهاهم عن ذلك ، فأشهدهم على رَجعتها ، ثم رجع إلينا فأخبرنا أنه أتى ابن عباس فسأله عن الوتر فقال : ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم قال : ائت عائشة فاسألها ثم ارجع إليّ فأخبرني بردها عليك. قال : فأتيت على حكيم بن أفلحَ فاستلحقتُه إليها ، فقال : ما أنا بقاربها ؛ إني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئًا ، فأبت فيهما إلا مُضِيًا. فأقسمتُ عليه ، فجاء معي ، فدخلنا عليها فقالت : حكيم ؟ وعرفته ، قال : نعم. قالت : من هذا معك ؟ قال : سعيد بن هشام. قالت : من هشام ؟ قال : ابن عامر. قال : فترحمت عليه وقالت : نعم المرء كان عامر. قلت : يا أم المؤمنين ، أنبئينى عن خلق رسول صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : ألست تقرأ القرآن ؟ قلت : بلى (1) قالت : فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن. فَهممت أن أقوم ، ثم بدا لي قيامُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت : يا أم المؤمنين ، أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم.ألست تقرأ هذه السورة : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } ؟ قلت : بلى. قالت : فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم ، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرًا ، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة ، فصار قيام الليل تطوعًا من بعد فريضة. فهممت (2) أن أقوم ، ثم بدا لي وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت : يا أم المؤمنين ، أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت : كنا نعد له سِواكه وطَهُوره ، فيبعثه الله لما شاء أن يبعثه من الليل ، فيتسوك ثم يتوضأ ثم يصلي ثماني ركعات لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة ، فيجلس ويذكر ربه تعالى ويدعو [ويستغفر ثم ينهض وما يسلم. ثم يصلي التاسعة فيقعد فيحمد ربه ويذكره ويدعو] (3) ثم يسلم تسليمًا يسمعنا ، ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم. فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني. فلما أسن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه اللحم ، أوتر بسبع ، ثم صلى ركعتين وهو جالس بعدما يسلم ، فتلك تسع يا بني. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها ، وكان (4) إذا شَغَله عن قيام الليل نوم أو وَجَع أو مرض ، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة ، ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة ، ولا قام ليلة حتى أصبح ، ولا صام شهرًا كاملا غير رمضان.
فأتيت ابن عباس فحدثته بحديثها ، فقال : صدقت ، أما لو كنت أدخل عليها لأتيتها حتى تشافهني مشافهة.
هكذا رواه الإمام أحمد بتمامه. وقد أخرجه مسلم في صحيحه ، من حديث قتادة ، بنحوه. (5)
طريق أخرى عن عائشة في هذا المعنى : قال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا زيد بن الحُبَاب - وحدثنا ابن حميد ، حدثنا مِهْران قالا جميعا ، واللفظ لابن وكيع : عن موسى بن عُبَيدة ، حدثني محمد بن طَحْلاء ، عن أبي سلمة ، عن عائشة قالت : كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيرا يُصَلي عليه من الليل ، فتسامع الناس به فاجتمعوا ، فخرج كالمغضب - وكان بهم رحيما ، فخشي أن يكتب
__________
(1) في أ : "نعم".
(2) في م : "ثم هممت".
(3) زيادة من المسند.
(4) في أ : "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(5) المسند (6/54) ، وصحيح مسلم برقم (746).

(8/253)


عليهم قيام الليل - فقال : "أيها الناس ، اكلَفُوا من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يَمَلّ من الثواب حتى تملوا من العمل ، وخير الأعمال ما ديمَ عليه". ونزل القرآن : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق ، فمكثوا بذلك ثمانية أشهر ، فرأى الله ما يبتغون من رضوانه ، فرحمهم فردهم إلى الفريضة ، وترك قيام الليل. (1)
ورواه ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عبيدة الربذي ، وهو ضعيف. والحديث في الصحيح (2) بدون زيادة نزول هذه السورة ، وهذا السياق قد يُوهم أن نزول هذه السورة بالمدينة ، وليس كذلك ، وإنما هي مكية. وقوله في هذا السياق : إن بين نزول أولها وآخرها ثمانية أشهر - غريب ؛ فقد تقدم في رواية أحمد أنه كان بينهما سنة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، عن مِسْعَر ، عن سِماك الحنفي ، سمعت ابن عباس يقول : أول ما نزل : أول المزمل ، كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان ، وكان بين أولها وآخرها قريب من سنة.
وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب ، عن أبي أسامة ، به. (3)
وقال الثوري ومحمد بن بشر العَبدي ، كلاهما عن مسعر ، عن سماك ، عن ابن عباس : كان بينهما سنة. وروى ابن جرير ، عن أبي كريب ، عن وكيع ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مِهْرَان ، عن سفيان ، عن قيس بن وهب ، عن أبي عبد الرحمن قال : لما نزلت : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } قاموا حولا حتى ورمت أقدامهم وسُوقُهم ، حتى نزلت : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } قال : فاستراح الناس. (4)
وكذا قال الحسن البصري.
وقال ابن أبي حاتم : [حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا عُبَيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي] (5) عن قتادة ، عن زُرارة بن أوفى ، عن سعد بن هشام قال : فقلت - يعني لعائشة - : أخبرينا عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت : ألست تقرأ : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } ؟ قلت : بلى. قالت : فإنها كانت قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حتى انتفخت أقدامهم ، وحُبس آخرها في السماء ستة عشر شهرًا ، ثم نزل.
وقال مَعْمَر ، عن قتادة : { قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا } قاموا حولا أو حولين ، حتى انتفخت سوقُهم
__________
(1) تفسير الطبري (29/79).
(2) صحيح البخاري برقم (6465) ، وصحيح مسلم برقم (782).
(3) تفسير الطبري (29/78).
(4) تفسير الطبري (29/79).
(5) زيادة من م ، أ.

(8/254)


وأقدامهم فأنزل الله تخفيفها بعد في آخر السورة.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حُميد ، حدثنا يعقوب القمي (1) عن جعفر ، عن سعيد - هو ابن جبير - قال : لما أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } قال : مكث النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحال عشر سنين يقوم الليل ، كما أمره ، وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه ، فأنزل الله عليه بعد عشر سنين : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ } إلى قوله : { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ } فخفف الله تعالى عنهم بعد عشر سنين. (2)
ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن عمرو بن رافع ، عن يعقوب القمي (3) به.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا [أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا } فأمر الله نبيه والمؤمنين بقيام الليل إلا قليلا] (4) فشق ذلك على المؤمنين ، ثم خفف الله عنهم ورحمهم ، فأنزل بعد هذا : { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ } إلى قوله : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } فوسع الله - وله الحمد - ولم يضيق.
وقوله : { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا } أي : أكثر من ذكره ، وانقطع إليه ، وتفرغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك ، وما تحتاج إليه من أمور دنياك ، كما قال : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } [الشرح : 7] أي : إذا فرغت من مهامك فانصب في طاعته وعبَادَته ، لتكون فارغ البال. قاله ابن زيد بمعناه أو قريب منه.
وقال ابن عباس ومجاهد ، وأبو صالح ، وعطية ، والضحاك ، والسدي : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا } أي : أخلص له العبادة.
وقال الحسن : اجتهد وبتّل إليه نفسك.
وقال ابن جرير : يقال للعابد : متبتل ، ومنه الحديث المروي : أنه نهى عن التَّبتُّل ، يعني : الانقطاع إلى العبادة وترك التزوج. (5)
وقوله : { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا } أي : هو المالك المتصرف في المشارق والمغارب لا إله إلا هو ، وكما أفردته بالعبادة فأفرده بالتوكل ، { فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا } كما قال في الآية الأخرى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [هود : 123] وكقوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وآيات (6) كثيرة في هذا المعنى ، فيها الأمر بإفراد العبادة والطاعة لله ، وتخصيصه بالتوكل عليه.
__________
(1) في أ : "العمى".
(2) تفسير الطبري (29/79) وهو مرسل.
(3) في أ : "العمى".
(4) زيادة من م ، أ.
(5) في م : "التزويج".
(6) في م : "في آيات".

(8/255)


وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)

{ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا (18) }
يقول تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يقوله من كذبه من سفهاء قومه ، وأن يهجرهم هجرًا جميلا وهو الذي لا عتاب معه. ثم قال له متوعدًا لكفار قومه ومتهددًا - وهو العظيم الذي لا يقوم لغضبه شيء - :
{ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ } أي : دعني والمكذبين المترفين أصحابَ الأموال ، فإنهم على الطاعة أقدر من غيرهم وهم يطالبون من الحقوق بما ليس عند غيرهم ، { وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا } أي : رويدا ، كما قال : { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [لقمان : 24] ؛ ولهذا قال هاهنا : { إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا } وهي : القيود. قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وطاوس ، ومحمد بن كعب ، وعبد الله بن بريدة ، وأبو عمران الجوني ، وأبو مِجلَز ، والضحاك ، وحماد بن أبي سلمان ، وقتادة والسدي ، وابن المبارك والثوري ، وغير واحد ، { وَجَحِيمًا } وهي السعير المضطرمة.
{ وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ } قال ابن عباس : ينشب في الحلق فلا يدخل ولا يخرج.
{ وَعَذَابًا أَلِيمًا يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ } أي : تزلزل ، { وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا } أي : تصير ككثبان الرمل بعد ما كانت حجارة صماء ، ثم إنها تنسف نسفا فلا يبقى منها شيء إلا ذهب ، حتى تصير الأرض قاعًا صفصفا ، لا ترى فيها عوجًا ، أي : واديا ، ولا أمتا ، أي : رابية ، ومعناه : لا شيء ينخفض ولا شيء يرتفع.
ثم قال مخاطبًا لكفار قريش ، والمراد سائر الناس : { إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ } أي : بأعمالكم ، { كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، والثوري : { أَخْذًا وَبِيلا } أي : شديدا ، أي فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول ، فيصيبكم ما أصاب فرعون ، حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، كما قال تعالى : { فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى } [النازعات : 25] وأنتم أولى بالهلاك والدمار إن كذبتم ؛ لأن رسولكم أشرف وأعظم من موسى بن عمران. ويُروَى عن ابن عباس ومجاهد.
وقوله : { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا } يحتمل أن يكون { يَوْمًا } معمولا لتتقون ، كما حكاه ابن جرير عن قراءة ابن مسعود : "فكيف تخافون أيها الناس يوما يجعل الولدان شيبا إن كفرتم بالله ولم تصدقوا به" ؟ ويحتمل أن يكون معمولا لكفرتم ، فعلى الأول : كيف

(8/256)


إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)

يحصلُ لكم أمان من يوم هذا الفزع العظيم إن كفرتم ؟ وعلى الثاني : كيف يحصل لكم تقوى إن كفرتم يوم القيامة وجحدتموه ؟ وكلاهما معنى حسن ، ولكن الأول أولى ، والله أعلم.
ومعنى قوله : { يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا } أي : من شدة أهواله وزلازله وبلابله ، وذلك حين يقول الله لآدم : ابعث بعث النار. فيقول مِن كم ؟ فيقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار ، وواحد إلى الجنة.
قال الطبراني : حدثنا يحيى بن أيوب العلاف ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا نافع بن يزيد ، حدثنا عثمان بن عطاء الخراساني ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : { يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا } قال : "ذلك يوم القيامة ، وذلك يوم يقول الله لآدم : قم فابعث من ذريتك بعثا إلى النار. قال : من كم يا رب ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ، وينجو واحد". فاشتد ذلك على المسلمين ، وعرف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال حين أبصر ذلك في وجوههم : "إن بني آدم كثير ، وإن يأجوج ومأجوج من ولد آدم ، وإنه لا يموت منهم رجل حتى يرثه لصلبه ألف رجل. ففيهم وفي أشباههم جنة لكم". (1)
هذا حديث غريب ، وقد تقدم في أول سورة الحج ذكر هذه الأحاديث.
وقوله : { السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ } قال الحسن ، وقتادة : أي بسببه من شدته وهوله. ومنهم من يعيد الضمير على الله عز وجل. وروي عن ابن عباس ومجاهد ، وليس بقوي ؛ لأنه لم يجر له ذكر هاهنا.
وقوله تعالى : { كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا } أي : كان وعد هذا اليوم مفعولا أي واقعًا لا محالة ، وكائنا لا محيد عنه.
{ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا (19) }
__________
(1) المعجم الكبير للطبراني (11/366) ، وقال الهيثمي في المجمع (7/130) : "وفيه عثمان بن عطاء الخراساني وهو ضعيف".

(8/257)


إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)

{ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) }
يقول تعالى : { إِنَّ هَذِهِ } أي : السورة { تَذْكِرَةٌ } أي : يتذكر بها أولو الألباب ؛ ولهذا قال : { فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا } أي : ممن شاء الله هدايته ، كما قيده في السورة الأخرى : { وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } [الإنسان : 30].

(8/257)


ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ } أي : تارة هكذا ، وتارة هكذا ، وذلك كله من غير قصد منكم ، ولكن لا تقدرون على المواظبة على ما أمركم به من قيام الليل ؛ لأنه يشق عليكم ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } أي : تارة يعتدلان ، وتارة يأخذ هذا من هذا ، أو هذا من هذا ، { عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ } أي : الفرض الذي أوجبه عليكم { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } أي : من غير تحديد بوقت ، أي : ولكن قوموا من الليل ما تيسر. وعبر عن الصلاة بالقراءة ، كما قال في سورة سبحان : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ } أي : بقراءتك ، { وَلا تُخَافِتْ بِهَا }
وقد استدل أصحاب الإمام أبي حنيفة ، رحمه الله ، بهذه الآية ، وهي قوله : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } على أنه لا يتعين قراءة الفاتحة في الصلاة ، بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن ، ولو بآية ، أجزأه ؛ واعتضدوا بحديث المسيء صلاته الذي في الصحيحين : "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن".
وقد أجابهم الجمهور بحديث عبادة بن الصامت ، وهو في الصحيحين أيضا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (1) وفي صحيح مسلم ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "كل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خِدَاج ، فهي خِدَاج ، فهي خِدَاج ، غير تمام". (2) وفي صحيح ابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعًا : "لا تجزئ صلاة من لم يقرأ بأم القرآن". (3)
وقوله : { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي : علم أن سيكون من هذه الأمة ذوو أعذار في ترك قيام الليل ، من مرضى لا يستطيعون ذلك ، ومسافرين (4) في الأرض يبتغون من فضل الله في المكاسب والمتاجر ، وآخرين مشغولين (5) بما هو الأهم في حقهم من الغزو في سبيل الله وهذه الآية - بل السورة كلها - مكية ، ولم يكن القتال شُرع بعد ، فهي من أكبر دلائل النبوة ، لأنه من باب الإخبار بالمغيبات المستقبلة. ولهذا قال : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } (6) أي : قوموا بما تيسر عليكم منه.
قال ابن جرير : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن أبي رجاء محمد ، قال : قلت للحسن : يا أبا سعيد ، ما تقول في رجل قد استظهر القرآن كله عن ظهر قلبه ، ولا يقوم به ، إنما يصلي المكتوبة ؟ قال : يتوسَّدُ القرآن ، لعن الله ذاك ، قال الله تعالى للعبد الصالح : { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ } [يوسف : 68]
__________
(1) صحيح البخاري برقم (756) ، وصحيح مسلم برقم (349).
(2) صحيح مسلم برقم (395).
(3) صحيح ابن خزيمة برقم (490).
(4) في أ : "ومسافرون".
(5) في أ : "وآخرون مشغلون".
(6) في م : "من القرآن".

(8/258)


{ وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ } قلت : يا أبا سعيد ، قال الله : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } ؟ قال : نعم ، ولو خمس آيات.
وهذا ظاهر من مذهب الحسن البصري : أنه كان يرى حقًا واجبًا على حَمَلة القرآن أن يقوموا ولو بشيء منه في الليل ؛ ولهذا جاء في الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل نام حتى أصبح ، فقال : "ذاك رجل بال الشيطان في أذنه". (1) فقيل معناه : نام عن المكتوبة. وقيل : عن قيام الليل. وفي السنن : "أوتِرُوا يا أهل القرآن." (2) وفي الحديث الآخر : "من لم يوتر فليس منا". (3)
وأغرب من هذا ما حكي عن أبي بكر عبد العزيز ، من الحنابلة ، من إيجابه قيام شهر رمضان ، فالله أعلم.
وقال الطبراني : حدثنا أحمد بن سعيد بن فرقد الجُدّي ، حدثنا أبو [حمة] (4) محمد بن يوسف الزبيدي ، حدثنا عبد الرحمن ، [عن محمد بن عبد الله] (5) بن طاوس - من ولد طاوس - عن أبيه ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } قال : "مائة آية". (6)
وهذا حديث غريب جدًا لم أره إلا في معجم الطبراني ، رحمه الله.
وقوله : { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } أي : أقيموا صلاتكم الواجبة عليكم ، وآتوا الزكاة المفروضة. وهذا يدل لمن قال : إن فرض الزكاة نزل بمكة ، لكن مقادير النّصب والمَخْرَج لم تُبَين إلا بالمدينة. والله أعلم.
وقد قال ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، وغير واحد من السلف : إن هذه الآية نَسَخت الذي كان الله قد أوجبه على المسلمين أولا من قيام الليل. واختلفوا في المدة التي بينهما على أقوال كما تقدم. وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لذلك الرجل : "خمس صلوات في اليوم والليلة". قال : هل عليّ غيرها ؟ قال : "لا إلا أن تَطوّع". (7)
وقوله تعالى : { وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } يعني : من الصدقات ، فإن الله يجازي على ذلك أحسن الجزاء وأوفره ، كما قال : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } [البقرة : 245].
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (1144) ، ومسلم في صحيحه برقم (774) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2) جاء من حديث علي وعبد الله بن مسعود ، رضي الله عنهما ، أما حديث علي ، فقد رواه أبو داود في السنن برقم (1416) ، والترمذي في السنن برقم (453) ، والنسائي في السنن (3/228) ، وابن ماجة في السنن برقم (1169) ، وقال الترمذي : "حديث علي حديث حسن" ، وأما حديث ابن مسعود ، فرواه أبو داود في السنن برقم (1417) ، وابن ماجة برقم (1170).
(3) جاء من حديث بريدة وأبي هريرة ، رضي الله عنهما ، أما حديث بريدة ، فرواه أحمد في المسند (5/357) ، وأبو داود في السنن برقم (1419) ، وأما حديث أبي هريرة ، فرواه أحمد في المسند (3/443).
(4) زيادة من المعجم الكبير للطبراني (11/29).
(5) زيادة من م ، أ.
(6) المعجم الكبير (11/29).
(7) صحيح البخاري برقم (46) ، وصحيح مسلم برقم (11) من حديث طلحة رضي الله عنه.

(8/259)


وقوله : { وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا } أي : جميع ما تقدموه بين أيديكم فهو [خير ] (1) لكم حاصل ، وهو خير مما أبقيتموه لأنفسكم في الدنيا.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا أبو خَيْثَمة ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الحارث بن سُوَيد (2) قال : قال عبد الله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه ؟". قالوا : يا رسول الله ، ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه. قال : "اعلموا ما تقولون". قالوا : ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله ؟ قال : "إنما مال أحدكم ما قَدّم ومال وارثه ما أخر".
ورواه البخاري من حديث حفص بن غياث ، والنسائي من حديث (3) أبي معاوية ، كلاهما عن الأعمش ، به. (4)
ثم قال تعالى : { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : أكثروا من ذكره واستغفاره في أموركم كلها ؛ فإنه غفور رحيم لمن استغفره.
آخر تفسير سورة "المزمل" ولله الحمد.
__________
(1) زيادة من م.
(2) في أ : "الحارث بن يزيد".
(3) في م ، أ : "من طريق".
(4) مسند أبي يعلى (9/97) ، وصحيح البخاري برقم (6442) ، وسنن النسائي الكبرى برقم (6439).

(8/260)


يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)

تفسير سورة المدثر
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) }
ثبت في صحيح البخاري [من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة] (1) عن جابر أنه كان يقول : أول شيء نزل من القرآن : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ }
وخالفه (2) الجمهور فذهبوا إلى أن أول القرآن نزولا قوله تعالى : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } كما سيأتي [بيان] (3) ذلك هناك.
قال البخاري : حدثنا يحيى ، حدثنا وَكِيع ، عن علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير قال : سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن ، قال : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } قلت : يقولون : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } ؟ فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله عن ذلك ، وقلتُ له مثل ما قلتَ لي ، فقال جابر : لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "جاورت بحرَاء ، فلما قضيت جواري هبطتُ فنُوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئًا ، ونظرت أمامي فلم أر شيئًا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئًا. فرفعت رأسي فرأيت شيئًا ، فأتيت خديجة فقلت : دثروني. وصبوا علي ماء باردا. قال : فدثروني وصبوا علي ماء باردا قال : فنزلت { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } (4)
هكذا ساقه من هذا الوجه. وقد رواه مسلم (5) من طريق عُقَيل ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة قال : أخبرني جابر بن عبد الله : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي : "فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتًا من السماء ، فرفعت بصري قبَلَ السماء ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض ، فَجَثَثْتُ (6) منه حتى هَوَيتُ إلى الأرض ، فجئت إلى أهلي ، فقلت : زملوني زملوني. فزملوني ، فأنزل الله { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ } إلى : { فَاهْجُرْ } -
__________
(1) زيادة من م.
(2) في م : "وخالف".
(3) زيادة من م.
(4) صحيح البخاري برقم (4922).
(5) صحيح مسلم برقم (161).
(6) في م : "فجثيت".

(8/261)


قال أبو سلمة : والرجز : الأوثان - ثم حَميَ الوحيُ وتَتَابع".
هذا لفظ البخاري (1) وهذا السياق هو المحفوظ ، وهو يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا ، لقوله : "فإذا الملك الذي جاءني (2) بحراء" ، وهو جبريل حين أتاه بقوله : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } ثم إنه حصل بعد هذا فترة ، ثم نزل الملك بعد هذا. ووجه الجمع أن أول شيء نزل بعد فترة الوحي هذه السورة ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا حجاج ، حدثنا لَيْث ، حدثنا عُقَيل ، عن ابن شهاب (3) قال : سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول : أخبرني جابر بن عبد الله : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ثم فتر الوحي عني فترة ، فبينا أنا أمشي سمعتُ صوتًا من السماء ، فرفعت بصري قِبَل السماء ، فإذا الملك الذي جاءني [بحراء الآن] (4) قاعد على كرسي بين السماء والأرض ، فَجُثت (5) منه فَرَقًا ، حتى هَوَيت إلى الأرض ، فجئت أهلي فقلت لهم : زملوني زملوني. فزملوني ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } ثم حمي الوحي [بعدُ] (6) وتتابع". أخرجاه من حديث الزهري ، به (7).
وقال الطبراني : حدثنا محمد بن علي بن شعيب السمسار ، حدثنا الحسن بن بشر (8) البَجَلي ، حدثنا المعافى بن عمران ، عن إبراهيم بن يزيد ، سمعت ابن أبي مُلَيْكة يقول : سمعت ابن عباس يقول : إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما ، فلما أكلوا. قال : ما تقولون في هذا الرجل ؟ فقال بعضهم : ساحر. وقال بعضهم ليس بساحر. وقال بعضهم : كاهن. وقال بعضهم : ليس بكاهن. وقال بعضهم : شاعر. وقال بعضهم ليس بشاعر. وقال بعضهم : [بل] (9) سحر يُؤثر. فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحزنَ وقَنعَ رأسه ، وتَدَثَّر ، فأنزل الله { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } (10).
فقوله { قُمْ فَأَنْذِرْ } أي : شمر عن ساق العزم ، وأنذر الناس. وبهذا حصل الإرسال ، كما حصل بالأول النبوة.
{ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } أي : عظم.
وقوله : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } قال الأجلح الكندي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أنه أتاه رجل فسأله عن هذه الآية : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ }
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4926).
(2) في م : "الذي كان".
(3) في أ : "ابن هشام".
(4) زيادة من م ، أ ، والمسند.
(5) في م : "فجثيت".
(6) زيادة من المسند.
(7) المسند (3/325) ، وصحيح البخاري برقم (4926) ، وصحيح مسلم برقم (161).
(8) في أ : الحسن بن بشير".
(9) زيادة من م.
(10) المعجم الكبير للطبراني (11/125) ، وقال الهيثمي في المجمع (7/131) : "وفيه إبراهيم بن يزيد الخوري وهو ضعيف".

(8/262)


قال : لا تلبسها (1) على معصية ولا على غَدْرَة. ثم قال : أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي :
فَإني بحمد الله لا ثوبَ فَاجر... لبستُ ولا من غَدْرَة أتَقَنَّعُ (2)
وقال ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس [في هذه الآية] (3) { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } قال : في كلام العرب : نَقِي الثياب. وفي رواية بهذا الإسناد : فطهر من الذنوب. وكذا قال إبراهيم ، الشعبي ، وعطاء.
وقال الثوري ، عن رجل ، عن عطاء ، عن ابن عباس في هذه الآية : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } قال : من الإثم. وكذا قال إبراهيم النخعي.
وقال (4) مجاهد : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } قال : نفسك ، ليس ثيابه. وفي رواية عنه : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } عملك فأصلح ، وكذا قال أبو رَزِين. وقال في رواية أخرى : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } أي : لست بكاهن ولا ساحر ، فأعرض عما قالوا.
وقال قتادة : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } أي : طهرها من المعاصي ، وكانت العرب تسمي الرجل إذا نكث ولم يف بعهد الله إنه لَمُدنَس (5) الثياب. وإذا وفى وأصلح : إنه لمطهر الثياب.
وقال عكرمة ، والضحاك : لا تلبسها على معصية.
وقال الشاعر (6)
إذا المرءُ لم يَدْنَس منَ اللؤم عِرْضُه... فَكُلّ ردَاء يَرْتَديه جَميلُ...
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } [يعني] (7) لا تك ثيابك التي تلبس من مكسب غير طائب ، ويقال : لا تلبس ثيابك على معصية.
وقال محمد بن سيرين : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } أي : اغسلها بالماء.
وقال ابن زيد : كان المشركون لا يتطهرون ، فأمره الله أن يتطهر ، وأن يطهر ثيابه.
وهذا القول اختاره ابن جرير ، وقد تشمل الآية جميع ذلك مع طهارة القلب ، فإن العرب تطلق الثياب عليه ، كما قال امرؤ القيس :
أفاطمَ مَهلا بعض هَذا التَدَلُّل... وَإن كُنت قَد أزْمَعْت هَجْري فأجْمِلي...
وَإن تَكُ قَد سَ ـاءتك مني خَليقَةٌ... فَسُلّي ثِيَابي مِن ثيابك تَنْسُلِ (8)
وقال سعيد بن جبير : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } وقلبك ونيتك فطهر.
__________
(1) في أ : "لا تسلبها".
(2) البيت في تفسير الطبري (29ظ91).
(3) زيادة من م.
(4) في م : "وعن".
(5) في م : "لدنس".
(6) هو دكين بن رجاء ، وانظر : الشعر والشعراء لابن قتيبة (2/612) مستفادًا من حاشية الشعب.
(7) زيادة من م.
(8) ديوان امرئ القيس (ص37) مستفادًا من حاشية الشعب.

(8/263)


وقال محمد بن كعب القرظي ، والحسن البصري : وخُلقَك فَحسّن.
وقوله : { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَالرُّجْزَ } وهو الأصنام ، فاهجر. وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، والزهري ، وابن زيد : إنها الأوثان.
وقال إبراهيم ، والضحاك : { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } أي : اترك المعصية.
وعلى كل تقدير فلا يلزم تلبسه بشيء من ذلك ، كقوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } [ الأحزاب : 1]{ وَقَالَ مُوسَى لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } [الأعراف : 142].
وقوله : { وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } قال ابن عباس : لا تعط العطية تلتمس أكثر منها. وكذا قال عكرمة ، ومجاهد ، وعطاء ، وطاوس ، وأبو الأحوص ، وإبراهيم النخعي ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وغيرهم.
وروي عن ابن مسعود أنه قرأ : "ولا تمنن أن تستكثر".
وقال الحسن البصري : لا تمنن بعملك على ربك تستكثره. وكذا قال الربيع بن أنس ، واختاره ابن جرير. وقال خصيف ، عن مجاهد في قوله : { وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } قال : لا تضعف أن تستكثر من الخير ، قال تمنن في كلام العرب : تضعف.
وقال ابن زيد : لا تمنن بالنبوة على الناس ، تستكثرهم بها ، تأخذ عليه عوضا من الدنيا.
فهذه أربعة أقوال ، والأظهر القول الأول ، والله أعلم.
وقوله : { وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } أي : اجعل صبرك على أذاهم لوجه ربك عز وجل ، قاله مجاهد. وقال إبراهيم النخعي : اصبر عطيتك لله تعالى (1).
وقوله : { فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } قال ابن عباس ، ومجاهد والشعبي ، وزيد بن أسلم ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، والسدي ، وابن زيد : { النَّاقُورِ } الصور. قال مجاهد : وهو كهيئة القرن.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أسباط بن محمد ، عن مُطَرِّف ، عن عطية العوفي ، عن ابن عباس : { فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ } فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته ، ينتظر متى يؤمر فينفخ ؟" فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال : "قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، على الله توكلنا".
وهكذا رواه الإمام أحمد عن أسباط ، به (2) ورواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب ، عن ابن فضيل
__________
(1) في أ : "لله عز وجل".
(2) المسند (1/326) ، وقال الحافظ عند تفسير الآية : 173 من سورة آل عمران : "حديث جيد".

(8/264)


ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)

وأسباط ، كلاهما عن مطرف ، به. ورواه من طريق أخرى ، عن العوفي ، عن ابن عباس ، به (1).
وقوله : { فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ } أي : شديد.
{ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } أي : غير سهل عليهم. كما قال تعالى { يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } [القمر : 8].
وقد روينا عن زُرَارة بن أوفى - قاضي البصرة - : أنه صلى بهم الصبح ، فقرأ هذه السورة ، فلما وصل إلى قوله : { فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } شَهِقَ شهقة ، ثم خر ميتا ، رحمه الله (2).
{ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) }
__________
(1) تفسير الطبري (29/95)
(2) رواه أبو نعيم في الحلية (2/258 ، 259).

(8/265)


إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)

{ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) }
يقول تعالى متوعدا لهذا الخبيث الذي أنعم الله عليه بنعم الدنيا ، فكفر بأنعم الله ، وبدلها كفرا ، وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء عليها ، وجعلها من قول البشر. وقد عدد الله عليه نعَمه حيث قال : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } أي : خرج من بطن أمه وحده لا مال له ولا ولد ، ثم رزقه الله ،
{ مَالا مَمْدُودًا } أي : واسعًا كثيرًا قيل : ألف دينار. وقيل : مائة ألف دينار. وقيل : أرضا يستغلها. وقيل غير ذلك.
وجعل له { وَبَنِينَ شُهُودًا } قال مجاهد : لا يغيبون ، أي : حضورا عنده لا يسافرون في التجارات ، بل مَواليهم وأجراؤهم يتولون ذلك عنهم وهم قعود عند أبيهم ، يتمتع بهم ويتَمَلَّى بهم. وكانوا - فيما ذكره السدي ، وأبو مالك ، وعاصم بن عمر بن قتادة - ثلاثة عشر. وقال ابن عباس ، ومجاهد : كانوا عشرة. وهذا أبلغ في النعمة [وهو إقامتهم عنده ]. (1)
{ وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا } أي : مكنته من صنوف المال والأثاث وغير ذلك ،
{ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا } أي : معاندا ، وهو الكفر على نعمه بعد العلم.
قال الله : { سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا } قال الإمام أحمد :
حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن دَرَّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله
__________
(1) زيادة من م ، أ.

(8/265)


صلى الله عليه وسلم قال : "ويل : واد في جهنم ، يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره ، والصَّعُود : جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ، ثم يهوي به كذلك فيه أبدا".
وقد رواه الترمذي عن عبد بن حُمَيد ، عن الحسن بن موسى الأشيب ، به (1) ثم قال : غريب ، لا نعرفه إلا من حديث ابن لَهِيعة عن دراج. كذا قال. وقد رواه ابن جرير ، عن يونس ، عن عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن دَرَّاج (2) وفيه غرابة ونكارة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة وعلي بن عبد الرحمن - المعروف بعلان المصري (3) - قال : حدثنا مِنْجاب ، أخبرنا شريك ، عن عمار الدُّهَنِيّ ، عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : { سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا } قال : "هو جبل في النار من نار يكلف أن يصعده ، فإذا وضع يده ذابت ، وإذا رفعها عادت ، فإذا وضع رجله ذابت ، وإذا رفعها عادت".
ورواه البزار وابن جرير ، من حديث شريك ، به (4).
وقال قتادة ، عن (5) ابن عباس : صعود : صخرة [في جهنم] (6) عظيمة يسحب عليها الكافر على وجهه.
وقال السدي : صعودا : صخرة ملساء في جهنم ، يكلف أن يصعدها.
وقال مجاهد : { سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا } أي : مشقة من العذاب. وقال قتادة : عذابا لا راحة فيه. واختاره ابن جرير.
وقوله : { إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } أي : إنما أرهقناه صعودا ، أي : قربناه من العذاب الشاق ؛ لبعده عن الإيمان ، لأنه فكر وقدر ، أي : تَرَوَّى ماذا يقول في القرآن حين سُئل عن القرآن ، ففكر ماذا يختلق من المقال ، { وَقَدَّرَ } أي : تروى ، { فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } دعاء عليه ،
{ ثُمَّ نَظَرَ } أي : أعاد النظرة (7) والتروي. { ثُمَّ عَبَسَ } أي : قبض بين عينيه وقطب ، { وَبَسَرَ } أي : كلح وكره ، ومنه قول توبة بن الحُمَير الشاعر :
وَقَد رَابَني منها صُدُودٌ رَأيتُه... وَإعرَاضُها عَن حاجَتي وبُسُورُها...
وقوله : { ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ } أي : صُرف عن الحق ، ورجع القهقرى مستكبرا عن الانقياد للقرآن ،
{ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ } أي : هذا سحر ينقله محمد عن غيره عمن قبله ويحكيه عنهم ؛
ولهذا قال : { إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ } أي : ليس بكلام الله.
__________
(1) المسند (3/75) ، وسنن الترمذي برقم (3164).
(2) تفسير الطبري (29/97).
(3) في م : "البصري".
(4) تفسير الطبري (29/97) ، ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3409) "مجمع البحرين" من طريق منجاب بن الحارث به مرفوعًا. وقال الطبراني : "لم يرفع هذا الحديث عن عمار الدهني إلا شريك ، ورواه سفيان بن عيينة عن عمار الدهني فوافقه".
(5) في م : "وقال".
(6) زيادة من م.
(7) في م : "النظر".

(8/266)


وهذا المذكور في هذا السياق هو : الوليد بن المغيرة المخزومي ، أحد رؤساء قريش - لعنه الله - وكان من خبره في هذا ما رواه العوفي ، عن ابن عباس قال : دخل الوليد بن المغيرة على أبي بكر بن أبي قحافة فسأله (1) عن القرآن ، فلما أخبره خرج على قريش فقال : يا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة. فوالله ما هو بشعر ولا بسحر ولا بهذْي من الجنون ، وإن قوله لمن كلام الله. فلما سمع بذلك النفرُ من قريش ائتمروا فقالوا : والله لئن صبا الوليد لتصْبُوَنَّ قريش. فلما سمع بذلك أبو جهل بن هشام قال : أنا والله أكفيكم شأنه. فانطلق حتى دخل عليه بيته فقال للوليد : ألم تر قومك قد جمعوا لك الصدقة ؟ فقال : ألستُ أكثرهم مالا وولدا. فقال له أبو جهل : يتحدثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتصيب من طعامه. فقال الوليد : أقد (2) تحدث به عشيرتي ؟! فلا والله لا أقرب ابن أبي قحافة ، ولا عمر ، ولا ابن أبي كبشة ، وما قوله إلا سحر يؤثر. فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } إلى قوله : { لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ }
وقال قتادة : زعموا أنه قال : والله لقد نظرت فيما قال الرجل فإذا هو ليس بشعر ، وإن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه ليعلو وما يعلى ، وما أشك أنه سحر. فأنزل الله : { فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } الآية ، { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } قبض ما بين عينيه وكلح.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، أخبرنا محمد بن ثور ، عن مَعْمَر ، عن عَبَّاد بن منصور ، عن عكرمة : أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رق له. فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام ، فأتاه فقال : أي عم ، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا. قال : لم ؟ قال : يعطونكه ، فإنك أتيت محمدًا تَتَعَرض لما قبله. قال : قد علمت قريش أني أكثرها مالا. قال : فقل فيه قولا يعلم قومك أنك (3) منكر لما قال ، وأنك كاره له. قال : فماذا أقول فيه ؟ فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني ، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن ، والله ما يشبه الذي يقوله شيئًا من ذلك. والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة ، وإنه ليحطم ما تحته ، وإنه ليعلو وما يعلى. وقال : والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه. قال : فدعني حتى أفكر فيه. فلما فكر قال : إن هذا سحر يأثره عن غيره. فنزلت : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } [قال قتادة : خرج من بطن أمه وحيدا] (4) حتى بلغ : { تِسْعَةَ عَشَرَ } (5)
وقد ذكر محمد بن إسحاق وغير واحد نحوا من هذا. وقد زعم السدي أنهم لما اجتمعوا في دار الندوة ليجمعوا رأيهم على قول يقولونه فيه ، قبل أن يقدم عليهم وفودُ العرب للحج ليصدّوهُم عنه ، فقال قائلون : شاعر. وقال آخرون : ساحر. وقال آخرون : كاهن. وقال آخرون : مجنون. كما قال تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا } [ الإسراء : 48] كل هذا والوليد يفكر فيما يقوله فيه ، ففكر وقدر ، ونظر وعبس وبسر ، فقال : { إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ }
قال الله عز وجل : { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } أي : سأغمره فيها من جميع جهاته.
__________
(1) في م ، أ : "يسأله".
(2) في أ : "أوقد".
(3) في م : "أنه".
(4) زيادة من تفسير الطبري
(5) تفسير الطبري (29/98).

(8/267)


ثم قال { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ } ؟ وهذا تهويل لأمرها وتفخيم.
ثم فسر ذلك بقوله : { لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ } أي : تأكل لحومهم وعروقهم وعَصَبهم وجلودهم ، ثم تبدل غير ذلك ، وهم في ذلك لا يموتون ولا يحيون ، قاله ابن بريدة وأبو سنان وغيرهما.
وقوله : { لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ } قال مجاهد : أي للجلد ، وقال أبو رَزين : تلفح الجلد لفحة فتدعه أسود من الليل. وقال زيد بن أسلم : تلوح أجسادهم عليها. وقال قتادة : { لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ } أي : حراقة للجلد. وقال ابن عباس : تحرق بشرة الإنسان.
وقوله : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } أي : من مقدمي الزبانية ، عظيم خلقهم ، غليظ خلقهم.
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا ابن أبي زائدة ، أخبرني حريث ، عن عامر ، عن البراء في قوله : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } قال إن رهطا من اليهود سألوا رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم. فقال : الله ورسوله أعلم. فجاء رجل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فنزل عليه ساعتئذ : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } فأخبر أصحابه وقال : "ادعهم ، أما إني سائلهم عن تُربَة الجنة إن أتوني ، أما إنها (1) دَرْمكة بيضاء". فجاؤوه فسألوه عن خزنة جهنم ، فأهوى بأصابع كفيه مرتين وأمسك الإبهام في الثانية ، ثم قال : "أخبروني عن تربة الجنة". فقالوا : أخبرهم يا ابن سلام. فقال : كأنها خُبزَة بيضاء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما إن الخبز إنما يكون من الدّرمَك". (2)
هكذا وقع عند ابن أبي حاتم عن البراء ، والمشهور عن جابر بن عبد الله ، كما قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا منده ، حدثنا أحمد بن عَبدَة ، أخبرنا سفيان ويحيى بن حكيم ، حدثنا سفيان ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر بن عبد الله قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، غلبَ أصحابك اليوم. فقال : "بأي شيء ؟" قال : سألتهم يَهُود هل أعلمكم نبيكم عدة خزنة أهل النار ؟ قالوا : لا نعلم حتى نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أفغلب قوم سُئلوا عما لا يدرون فقالوا : لا ندرى (3) حتى نسأل نبينا ؟ عليَّ بأعداء الله ، لكن سألوا (4) نبيهم أن يريهم الله جهرة". فأرسل إليهم فدعاهم. قالوا : يا أبا القاسم ، كم عدد خزنة أهل النار ؟ قال : "هكذا" ، وطبق كفيه ، ثم طبق كفيه ، مرتين ، وعقد واحدة ، وقال لأصحابه : "إن سئلتم عن تربة الجنة فهي الدَّرمك". فلما سألوه فأخبرهم بعدة خزنة أهل النار ، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما تربة الجنة ؟" فنظر بعضهم إلى بعض ، فقالوا : خبزة يا أبا القاسم. فقال : "الخبز من الدَّرمك".
وهكذا رواه الترمذي عند هذه الآية عن ابن أبي عمر ، عن سفيان ، به (5) وقال هو والبزار :
__________
(1) في م : "إنها كأنها".
(2) ورواه البيهقي في البعث برقم (509) من طريق مسروق بن المرزبان ، عن ابن أبي زائدة به ، وقال : "حديث ابن أبي مطر - أي حريث - ليس بالقوى ، وحديث جابر أصح" وهو الآتي بعده.
(3) في م : "قالوا لا نعلم".
(4) في م ، أ : "لكنهم قد سألوا".
(5) سنن الترمذي برقم (3327).

(8/268)


وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)

لا نعرفه (1) إلا من حديث مجالد. وقد رواه الإمام أحمد ، عن علي بن المديني ، عن سفيان ، فقص الدرمك فقط. (2)
{ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) }
يقول تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ } أي : خُزَّانها ، { إِلا مَلائِكَةً } أي : [زبانية] (3) غلاظا شدادا. وذلك رد على مشركي قريش حين ذكر عدد الخزنة ، فقال أبو جهل : يا معشر قريش ، أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم (4) ؟ فقال الله : { وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً } أي : شديدي الخَلْق لا يقاومون ولا يغالبون. وقد قيل : إن أبا الأشدين - واسمه : كَلَدَة بن أسيد بن خلف - قال : يا معشر قريش ، اكفوني منهم اثنين وأنا أكفيكم منهم سبعة عشر ، إعجابا منه بنفسه ، وكان قد بلغ من القوة فيما يزعمون أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة لينتزعوه من تحت قدميه ، فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه. قال السهيلي : وهو الذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصارعته وقال : إن صرعتني آمنت بك ، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم مرارا ، فلم يؤمن. قال : وقد نَسَب ابنُ إسحاق خبر المصارعة إلى ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب (5).
قلت : ولا منافاة بين ما ذكراه ، والله أعلم.
{ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا } أي : إنما ذكرنا عدتهم أنهم تسعةَ عشرَ اختبارًا منَّا للناس ، { لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } أي : يعلمون أن هذا الرسول حق ؛ فإنه نطق بمطابقة ما بأيديهم من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء قبله.
{ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا } أي : إلى إيمانهم. بما يشهدون من صدق إخبار نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، { وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي : من المنافقين { وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا } ؟ أي : يقولون : ما الحكمة في ذكر هذا هاهنا ؟ قال الله
__________
(1) في م : "لا يعرف".
(2) المسند (3/361).
(3) زيادة من م.
(4) في أ : "فتغلبوهم".
(5) الروض الأنف للسهيلي (1/200).

(8/269)


تعالى : { كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } أي : من مثل هذا وأشباهه يتأكد الإيمان في قلوب أقوام ، ويتزلزل عند آخرين ، وله الحكمة البالغة ، والحجة الدامغة.
وقوله : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ } أي : ما يعلم عددهم وكثرتهم إلا هو تعالى ، لئلا يتوهم متوهم أنهم تسعة عشر فقط ، كما قد قاله طائفة من أهل الضلالة والجهالة ومن الفلاسفة اليونانيين. ومن تابعهم (1) من الملتين الذين سمعوا هذه الآية ، فأرادوا تنزيلها على العقول العشرة والنفوس التسعة ، التي اخترعوا دعواها وعجزوا عن إقامة الدلالة على مقتضاها ، فأفهموا (2) صدر هذه الآية وقد كفروا بآخرها ، وهو قوله : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ }
وقد ثبت في حديث الإسراء المروي في الصحيحين وغيرهما. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صفة البيت المعمور الذي في السماء السابعة : "فإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك ، لا يعودون إليه آخر ما عليهم" (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أسود ، حدثنا إسرائيل ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، عن مورق ، عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني أرى ما لا ترون ، وأسمع ما لا تسمعون ، أطت السماء وحُقَّ لها أن تَئط ، ما فيها موضع أصابع إلا عليه ملك ساجد ، لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا ، ولا تَلَذّذتم بالنساء على (4) الفُرُشات ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل". فقال أبو ذر : والله لوددتُ أني شجرة تُعضد.
ورواه الترمذي وابن ماجه ، من حديث إسرائيل (5) وقال الترمذي : حسن غريب ، ويروى عن أبي ذر موقوفًا.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا خير (6) بن عرفة المصري ، حدثنا عُرْوَة بن مروان الرقي ، حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الكريم بن مالك ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما في السموات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم ، أو ملك ساجد ، أو ملك راكع ، فإذا كان يوم القيامة قالوا جميعا : سبحانك! ما عبدناك حَقَّ عبادتك ، إلا أنا لم نشرك بك شيئًا". (7).
وقال محمد بن نصر المروزي في "كتاب الصلاة" : حدثنا عمرو بن زرارة ، أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن صفوان بن مُحْرِز ، عن حكيم بن حزام قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إذ قال لهم : "هل تسمعون ما أسمع ؟" قالوا : ما نسمع من شيء. فقال
__________
(1) في م : "ومن شايعهم".
(2) في أ : "فما فهموا".
(3) هذا جزء من حديث أنس الطويل في الإسراء ، وهو في صحيح البخاري برقم (7517) ، وصحيح مسلم برقم (162). وهذا القدر قد وقع لمسلم من هذا الوجه ، وانظر أحاديث الإسراء عند تفسير أول سورة الإسراء.
(4) في أ : "في".
(5) المسند (5/173) ، وسنن الترمذي برقم (2312) ، وسنن ابن ماجة برقم (4190).
(6) في م : "حدثنا حسين".
(7) المعجم الكبير (2/184) ، وقال الهيثمي في المجمع (1/52) : "وفيه عروة بن مروان". قلت : قال الدارقطني : ليس بالقوى.

(8/270)


رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أسمع أطيط السماء وما تلام أن تَئطّ ، ما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك راكع أو ساجد" (1).
وقال أيضا : حدثنا محمد بن عبد الله بن قهزاذ (2) حدثنا أبو معاذ الفضل بن خالد النحوي ، حدثنا عبيد بن سليمان الباهلي ، سمعت الضحاك بن مزاحم ، يحدث عن مسروق بن الأجدع ، عن عائشة أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما في السماء الدنيا موضع قدم إلا وعليه ملك ساجد أو قائم ، وذلك قول الملائكة : { وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ } [الصاقات : 164 - 166]. (3).
وهذا مرفوع (4) غريب جدا ثم رواه (5) عن محمود بن آدم ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي الضُّحى ، عن مسروق ، عن ابن مسعود أنه قال : إن من السماوات سماءً ما فيها موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدماه قائما ، ثم قرأ : { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ } (6).
ثم قال : حدثنا أحمد بن سيار : حدثنا أبو جعفر محمد بن خالد الدمشقي المعروف بابن أمه ، حدثنا المغيرة بن عثمان (7) بن عطية من بني عمرو بن عوف ، حدثني سليمان بن أيوب [من بني] (8) سالم بن عوف. حدثني عطاء بن زيد بن مسعود من بني الحبلي ، حدثني سليمان بن عمرو بن الربيع ، من بني سالم ، حدثني عبد الرحمن بن العلاء ، من بني ساعدة ، عن أبيه العلاء بن سعد - وقد شهد الفتح وما بعده - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما لجلسائه : "هل تسمعون ما أسمع ؟" قالوا : وما تسمع يا رسول الله ؟ قال : "أطَّتِ السماء وحقّ لها أن تَئط ، إنه ليس فيها موضع قَدَم إلا وعليه ملك قائم أو راكع أو ساجد ، وقالَ الملائكة : { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ } (9) وهذا إسناد غريب جدا.
ثم قال : حدثنا [محمد بن يحيى ، حدثنا] (10) إسحاق بن محمد بن إسماعيل الفَروي ، حدثنا عبد الملك بن قدامة ، عن عبد الرحمن عن عبد الله بن ديناره ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمر : أن عمر جاء والصلاة قائمة ، ونفر ثلاثة جلوس ، أحدهم أبو جحش الليثي ، فقال : قوموا فصلوا مع رسول الله. فقام اثنان وأبى أبو جحش أن يقوم ، وقال : لا أقوم حتى يأتي رجل هو أقوى مني ذراعين ، وأشد مني بطشًا فيصرعني ، ثم يَدس وجهي في التراب. قال عمر : فصرعته ودسست وجهه في التراب ، فأتى عثمان بن عفان فحجزني عنه ، فخرج عمر مغضبا حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "ما رَأيَكَ يا أبا حفص ؟". فذكر له ما كان منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن رضى
__________
(1) تعظيم قدر الصلاة للمروزي برقم (248).
(2) في م : "مهزاذ".
(3) تعظيم قدر الصلاة برقم (253).
(4) في أ : "وهذا مرفوعا" وهو خطأ.
(5) في م : "ثم رواه".
(6) تعظيم قدر الصلاة برقم (254).
(7) في هـ : "عمر".
(8) زيادة من م.
(9) تعظيم قدر الصلاة برقم (255).
(10) زيادة من تعظيم قدر الصلاة (256).

(8/271)


عمر رحمةٌ ، والله لوددْتُ أنك جئتني برأس الخبيث" ، فقام عمر يُوجّهُ نحوه ، فلما أبعد ناداه فقال : "اجلس حتى أخبرك بغنى الرب عز وجل عن صلاة أبي جحش ، إن لله في السماء الدنيا ملائكة خشوعًا (1) لا يرفعون رءوسهم حتى تقوم الساعة. فإذا قامت رفعوا رءوسهم ثم قالوا : ربنا ، ما عبدناك حق عبادتك ، وإن لله في السماء الثانية ملائكة سجودًا لا يرفعون رءوسهم حتى تقوم الساعة فإذا قامت الساعة رفعوا رءوسهم ، وقالوا : سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك" فقال له عمر : وما يقولون يا رسول الله ؟ فقال : " أما أهل السماء الدنيا فيقولون : سبحان ذي الملك والملكوت. وأما أهل السماء الثانية فيقولون : سبحان ذي العزة والجبروت. وأما أهل السماء الثالثة فيقولون : سبحان الحي الذي لا يموت. فقلها يا عمر في صلاتك". فقال عمر : يا رسول الله ، فكيف بالذي كنت علمتني وأمرتني أن أقوله في صلاتي ؟ فقال : "قل هذا مرة وهذا مرة". وكان الذي أمره به أن يقول : "أعوذ بعفوك من عقابك ، وأعوذ برضاك من سخَطك ، وأعوذ بك منك ، جل وجهك" (2) وهذا حديث غريب جدا ، بل منكر نكارة شديدة ، وإسحاق الفروي روى عنه البخاري ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وضعفه أبو داود والنسائي والعقيلي والدارقطني. وقال أبو حاتم الرازي : كان صدوقا إلا أنه ذهب بصره فرُبما لقن ، وكتبه صحيحة. وقال مرة : هو مضطرب ، وشيخه عبد الملك بن قدامة أبو قتادة الجمحي : تكلم فيه أيضا. والعجب من الإمام محمد بن نصر كيف رواه ولم يتكلم عليه ، ولا عَرَّف بحاله ، ولا تعرض لضعف بعض رجاله ؟! غير أنه رواه من وجه آخر عن سعيد بن جبير مرسلا بنحوه. ومن طريق أخرى عن الحسن البصري مرسلا قريبًا منه ، ثم قال محمد بن نصر :
حدثنا محمد بن عبد الله بن قهزاذ ، أخبرنا النضر ، أخبرنا عباد بن منصور قال : سمعت عدي بن أرطاة وهو يخطبنا على منبر المدائن قال : سمعت رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن لله تعالى ملائكة تُرعَد فرائصهم من خيفته ، ما منهم ملك تقطر منه دمعة من عينه إلا وقعت على ملك يصلي ، وإن منهم ملائكة سجودًا منذ خلق الله السماوات والأرض لم يرفعوا رءوسهم ولا يرفعونها إلى يوم القيامة ، وإن منهم ملائكة ركوعًا لم يرفعوا رءوسهم منذ خلق الله السماوات والأرض ولا يرفعونها إلى يوم القيامة ، فإذا رفعوا رءوسهم نظروا إلى وجه الله عز وجل ، قالوا : سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك" (3).
وهذا إسناد لا بأس به.
وقوله : { وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ } قال مجاهد وغير واحد : { وَمَا هِيَ } أي : النار التي وصفت ، { إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ }
__________
(1) في م ، أ : "خشوع".
(2) تعظيم قدر الصلاة برقم (256) ، ورواه الحاكم في المستدرك (3/87) من طريق إسحاق الفروي به ، وقال : "حديث صحيح الإسناد على شريط البخاري ولم يخرجاه" ، وتعقبه الذهبي. قلت : "منكر غريب ، وما هو على شرط البخاري ، وفيه عبد الملك بن قدامة الجحمي ضعيف ، تفرد به".
(3) تعظيم قدر الصلاة برقم (260).

(8/272)


كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)

ثم قال : { كَلا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ } أي : ولى ، { وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ } أي : أشرق ، { إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ } أي : العظائم ، يعني : النار ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وغير واحد من السلف. { نَذِيرًا لِلْبَشَرِ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ } أي : لمن شاء أن يقبل النّذارة ويهتدي للحق ، أو يتأخر عنها ويولي ويردها.
{ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) }

(8/273)


فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)

{ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ (53) كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) }
يقول تعالى مخبرًا أن : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } أي : معتقلة بعملها يوم القيامة ، قاله ابن عباس وغيره : { إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ } فإنهم { فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ } أي : يسألون المجرمين وهم في الغرفات وأولئك في الدركات قائلين لهم :
{ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ } أي : ما عبدنا ربنا ولا أحسنا إلى خلقه من جنسنا ،
{ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ } أي : نتكلم فيما لا نعلم. وقال قتادة : كلما غوي غاو غوينا معه ،
{ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } يعني : الموت. كقوله : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [الحجر : 99] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما هو - يعني عثمان بن مظعون - فقد جاءه اليقين من ربه". (1)
قال الله تعالى : { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } أي : من كان متصفا بهذه (2) الصفات فإنه لا تنفعه يوم القيامة شفاعة شافع فيه ؛ لأن الشفاعة إنما تنجع إذا كان المحل قابلا فأما من وافى الله كافرا يوم القيامة فإنه له النار لا محالة ، خالدا فيها.
ثم قال تعالى : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } أي : فما لهؤلاء الكفرة الذين قبلك مما تدعوهم إليه وتذكرهم به معرضين ،
{ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } أي : كأنهم في نفارهم عن الحق ، وإعراضهم عنه حُمُر من حمر الوحش إذا فرت ممن يريد صيدها من أسد ، قاله أبو هريرة ، وابن عباس - في رواية - عنه وزيد بن أسلم ، وابنه عبد الرحمن. أو : رام ، وهو رواية (3) عن
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (1243) من حديث أم العلاء رضي الله عنها.
(2) في م : "بمثل هذه".
(3) في م : "وهما روايتان".

(8/273)


ابن عباس ، وهو قول الجمهور.
وقال حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران (1) عن ابن عباس : الأسد ، بالعربية ، ويقال له بالحبشية : قسورة ، وبالفارسية : شير (2) وبالنبطية : أويا.
{ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً } أي : بل يريد كل واحد من هؤلاء المشركين أن ينزل عليه كتابًا كما أنزل على النبي. قاله مجاهد وغيره ، كقوله : { وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124] ، وفي رواية عن قتادة : يريدون أن يؤتوا براءة بغير عمل.
فقوله : { كَلا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ } أي : إنما أفسدهم عدم إيمانهم بها ، وتكذيبهم بوقوعها.
ثم قال تعالى : { كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ } أي : حقا إن القرآن تذكرة ،
{ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّه } كقوله { وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ } [ الإنسان : 30].
وقوله : { هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } أي : هو أهل أن يُخاف منه ، وهو أهل أن يَغفر ذنب من تاب إليه وأناب. قاله قتادة.
وقال الإمام أحمد : حدثنا زيد (3) بن الحباب ، أخبرني سهيل - أخو حزم (4) - حدثنا ثابت البناني ، عن أنس بن مالك قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } وقال : "قال ربكم : أنا أهل أن أتقى ، فلا يجعل معي إله ، فمن اتقى أن يجعل معي إلها كان أهلا أن أغفر له".
ورواه الترمذي ، وابن ماجه من حديث زيد بن الحباب ، والنسائي من حديث المعافي بن عمران كلاهما عن سُهَيل بن عبد الله القطعي ، به (5) وقال الترمذي : حسن غريب ، وسهيل ليس بالقوي. ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه ، عن هُدْبَة بن خالد ، عن سُهَيل ، به. وهكذا رواه أبو يعلى ، والبَزار ، والبَغَوي ، وغيرهم ، من حديث سُهَيل القُطَعي ، به. (6)
آخر تفسير سوره "المدثر" ولله الحمد والمنة
[وحسبنا الله ونعم الوكيل] (7)
__________
(1) في أ : "يوسف بن ماهك".
(2) في أ : "بتار".
(3) في أ : "حدثنا يزيد".
(4) في م : "أخو حمزة".
(5) المسند (3/142) ، وسنن الترمذي برقم (3328) ، وسنن ابن ماجة برقم (4299) ، وتفسير النسائي (2/475).
(6) مسند أبي يعلى (6/66) ، ومعالم التنزيل للبغوي (8/276).
(7) زيادة من م.

(8/274)


لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)

تفسير سورة القيامة
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الإنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلا لا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) }
قد تقدم غير مرة أن المقسم عليه إذا كان منتفيًا ، جاز الإتيان بلا قبل القسم لتأكيد النفي. والمقسوم عليه هاهنا هو إثبات الميعاد ، والرد على ما يزعمه الجهلة من العباد من عدم بَعث الأجساد ؛ ولهذا قال تعالى : { لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } قال الحسن : أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة. وقال قتادة : بل أقسم بهما جميعًا. هكذا (1) حكاه ابن أبي حاتم. وقد حكى ابن جرير ، عن الحسن والأعرج أنهما قرآ : "لأقسم [بيوم القيامة] (2) " ، وهذا يوجه قول الحسن ؛ لأنه أثبت القسم بيوم القيامة ونفى القسم بالنفس اللوامة. والصحيح أنه أقسم بهما جميعا كما قاله قتادة رحمه الله ، وهو المروي عن ابن عباس ، وسعيد بن جُبَير ، واختاره ابن جرير.
فأما يوم القيامة فمعروف ، وأما النفس اللوامة ، فقال قرة بن خالد ، عن الحسن البصري في هذه الآية : إن المؤمن - والله - ما نراه إلا يلوم نفسه : ما أردت بكلمتي ؟ ما أردت بأكلتي ؟ ما أردت بحديث نفسي ؟ وإن الفاجر يمضي قُدُما ما يعاتب نفسه.
وقال جُوَيْبر : بلغنا عن الحسن أنه قال في قوله : { وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } قال : ليس أحد من أهل السموات والأرض إلا يلوم نفسه يوم القيامة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن صالح بن (3) مسلم ، عن إسرائيل ، عن سِماك : أنه سأل عِكْرِمة عن قوله : { وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } قال : يلوم (4) على الخير والشر : لو فعلت كذا وكذا.
__________
(1) في م : "كذا".
(2) زيادة من م.
(3) في م : "عن".
(4) في م : "تلوم".

(8/275)


ورواه ابن جرير ، عن أبي كُرَيْب ، عن وَكِيع عن إسرائيل. (1)
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا مؤمل ، حدثنا سفيان ، عن ابن جُرَيج ، عن الحسن بن مسلم ، عن سعيد بن جُبَير في : { وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } قال : تلوم على الخير والشر.
ثم رواه من وجه آخر عن سعيد أنه سأل ابن عباس عن ذلك : فقال : هي النفس اللؤوم. (2)
وقال علي ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : تندم على ما فات وتلوم عليه.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : اللوامة : المذمومة.
وقال قتادة : { اللَّوَّامَةِ } الفاجرة.
قال ابن جرير : وكل هذه الأقوال متقاربة المعنى ، الأشبه بظاهر التنزيل أنها التي تلوم صاحبها على الخير والشر وتندم على ما فات.
وقوله : { أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ } أي : يوم القيامة ، أيظن أنا لا نقدر على إعادة عظامه وجمعها من أماكنها المتفرقة ؟ { بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ } قال سعيد بن جُبَير والعَوفي ، عن ابن عباس : أن نجعله (3) خُفّا أو حافرًا. وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وابن جرير. ووجَّهه ابنُ جرير بأنه تعالى لو شاء لجعل ذلك في الدنيا.
والظاهر من الآية أن قوله : { قَادِرِينَ } حال من قوله : { نَجْمَعَ } أي : أيظن الإنسان أنا لا نجمع عظامه ؟ بلى سنجمعها قادرين على أن نُسَوِّي بنانه ، أي : قدرتنا صالحة لجمعها ، ولو شئنا لبعثناه أزيد مما كان ، فتجعل بنانه - وهي أطراف أصابعه - مستوية. وهذا معنى قول ابن قتيبة ، والزجاج.
وقوله : { بَلْ يُرِيدُ الإنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } قال سعيد ، عن ابن عباس : يعني يمضي قدما.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } يعني : الأمل ، يقول الإنسان : أعمل ثم أتوب قبل يوم القيامة ، ويقال : هو الكفر بالحق بين يدي القيامة.
وقال مجاهد { لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } ليمضي أمامه راكبا رأسه. وقال الحسن : لا يلقى ابن آدم إلا تنزع نفسه إلى معصية الله قدما قدما ، إلا من عصمه الله.
ورُوي عن عكرِمة ، وسعيد بن جُبَير ، والضحاك ، والسدي ، وغير واحد من السلف : هو الذي يَعجَل الذنوبَ ويُسوّف التوبة.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو الكافر يكذب بيوم الحساب. وكذا قال ابن زيد ، وهذا هو الأظهر من المراد ؛ ولهذا قال بعده { يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ } ؟ أي : يقول متى يكون يوم
__________
(1) تفسير الطبري (29/109).
(2) تفسير الطبري (29/109).
(3) في أ : "أن نحوله".

(8/276)


القيامة ؟ وإنما سؤاله سؤال استبعاد لوقوعه ، وتكذيب لوجوده ، كما قال تعالى : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ } [ سبأ : 29 ، 30 ].
وقال تعالى ها هنا : { فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ } قال أبو عمرو بن العلاء : { بَرِقَ } بكسر الراء ، أي : حار. وهذا الذي قاله شبيه بقوله تعالى : { لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } [ إبراهيم : 43 ] ، بل ينظرون من الفزع هكذا وهكذا ، لا يستقر لهم بصر على شيء ؛ من شدة الرعب.
وقرأ آخرون : "بَرَقَ" بالفتح ، وهو قريب في المعنى من الأول. والمقصود أن الأبصار تنبهر يوم القيامة وتخشع وتحار وتذل من شدة الأهوال ، ومن عظم ما تشاهده يوم القيامة من الأمور.
وقوله : { وَخَسَفَ الْقَمَرُ } أي : ذهب ضوءه.
{ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } قال مجاهد : كُوّرا. وقرأ ابن زيد عند تفسير هذه الآية : { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ } [ التكوير : 1 ، 2 ] ورُوي عن ابن مسعود أنه قرأ : "وجُمع بين الشمس والقمر".
وقوله : { يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ } أي : إذا عاين ابنُ آدم هذه الأهوال يوم القيامة ، حينئذ يريد أن يفر ويقول : أين المفر ؟ أي : هل من ملجأ أو موئل ؟ قال الله تعالى : { كَلا لا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ } قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد بن جُبَير ، وغير واحد من السلف : أي لا نجاة.
وهذه كقوله : { مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ } [ الشورى : 47 ] أي : ليس لكم مكان تتنكرون فيه ، وكذا قال هاهنا { لا وَزَرَ } أي : ليس لكم مكان تعتصمون فيه ؛ ولهذا قال : { إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ } أي : المرجع والمصير.
ثم قال تعالى : { يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } أي : يخبر بجميع أعماله قديمها وحديثها ، أولها وآخرها ، صغيرها وكبيرها ، كما قال تعالى : { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [ الكهف : 49 ] وهكذا قال هاهنا : { بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } أي : هو شهيد على نفسه ، عالم بما فعله ولو اعتذر وأنكر ، كما قال تعالى : { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } [ الإسراء : 14 ].
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } يقول : سمعُه وبصرُه ويداه ورجلاه وجوارحُه.
وقال قتادة : شاهد على نفسه. وفي رواية قال : إذا شئت - والله - رأيته بصيرا بعيوب الناس وذنوبهم غافلا عن ذنوبه ، وكان يقال : إن في الإنجيل مكتوبا : يا ابن آدم ، تُبصر القَذَاة في عين أخيك ، وتترك الجِذْل (1) في عينك لا تبصره.
__________
(1) في م : "وتترك الجذع".

(8/277)


لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)

وقال مجاهد : { وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } ولو جادل عنها فهو بصير عليها. وقال قتادة : { وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } ولو اعتذر يومئذ بباطل لا يقبل منه. وقال السدي : { وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } حجته. وكذا قال ابن زيد ، والحسن البصري ، وغيرهم. واختاره ابن جرير.
وقال قتادة ، عن زرارة ، عن ابن عباس : { وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } يقول : لو ألقى ثيابه.
وقال الضحاك : ولو أرخى ستوره ، وأهل اليمن يسمون الستر : المعذار.
والصحيح قول مجاهد وأصحابه ، كقوله : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ]وكقوله { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [ المجادلة : 18 ].
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } هي الاعتذار (1) ألم تسمع أنه قال : { لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ } [ غافر : 52 ] وقال { وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ } [ النحل : 87 ]{ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ } [ النحل : 28 ] وقولهم { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }
{ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) }
__________
(1) في أ : "هي الأعذار".

(8/278)


كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)

{ كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) }
هذا تعليم من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقيه الوحي من الملك ، فإنه كان يبادر إلى أخذه ، ويسابق الملك في قراءته ، فأمره الله عز وجل إذا جاءه الملك بالوحي أن يستمع له ، وتكفل له أن يجمعه في صدره ، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه ، وأن يبينه له ويفسره ويوضحه. فالحالة (1) الأولى جمعه في صدره ، والثانية تلاوته ، والثالثة تفسيره وإيضاح معناه ؛ ولهذا قال : { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } أي : بالقرآن ، كما قال : { وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } [ طه : 114 ].
ثم قال : { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } أي : في صدرك ، { وَقُرْآنَهُ } أي : أن تقرأه ، { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } أي : إذا تلاه عليك الملك عن الله عز وجل ، { فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } أي : فاستمع له ، ثم اقرأه كما أقرأك ، { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } أي : بعد حفظه وتلاوته نبينه لك ونوضحه ، ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، عن أبي عَوَانة ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة ، فكان يحرك شفتيه - قال : فقال لي ابن عباس : أنا أحرك شفتي (2) كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرك شفتيه. وقال
__________
(1) في م : "فالحال".
(2) في أ : "أنا أحركهما".

(8/278)


لي سيعد : وأنا أحرك شفتي كما رأيت ابن عباس يحرك شفتيه - فأنزل الله عز وجل { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } قال : جمعه في صدرك ، ثم تقرأه ، { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } فاستمع له وأنصت ، { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } فكان بعد ذلك إذا انطلق جبريل قرأه كما أقرأه. (1)
وقد رواه البخاري ومسلم ، من غير وجه ، عن موسى بن أبي عائشة ، به (2) ولفظ البخاري : فكان إذا أتاه جبريل أطرق ، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عز وجل (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو يحيى التيمي ، حدثنا موسى بن أبي عائشة ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي يلقى منه شدة ، وكان إذا نزل عليه عرف في تحريكه شفتيه ، يتلقى أوله ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره ، فأنزل الله : { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ }
وهكذا قال الشعبي ، والحسن البصري ، وقتادة ، ومجاهد ، والضحاك ، وغير واحد : إن هذه الآية نزلت في ذلك.
وقد روى ابن جرير من طريق العوفي ، عن ابن عباس : { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } قال : كان لا يفتر من القراءة مخافة أن ينساه ، فقال الله : { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا } أن نجمعه لك { وَقُرْآنَهُ } أن نقرئك فلا تنسى.
وقال ابن عباس وعطية العوفي : { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } تبيين حلاله وحرامه. وكذا قال قتادة.
وقوله : { كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ } أي : إنما يحملهم على التكذيب بيوم القيامة ومخالفة ما أنزله الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم من الوحي الحق والقرآن العظيم : إنهم إنما همتهم إلى الدار الدنيا العاجلة ، وهم لاهون متشاغلون عن الآخرة.
ثم قال تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ } من النضارة ، أي حسنة بَهِيَّة مشرقة مسرورة ، { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } أي : تراه عيانا ، كما رواه البخاري ، رحمه الله ، في صحيحه : "إنكم سترون ربكم عَيَانا". (4) وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح ، من طرق متواترة عند أئمة الحديث ، لا يمكن دفعها ولا منعها ؛ لحديث أبي سعيد وأبي هريرة - وما في الصحيحين - : أن ناسا قالوا : يا رسول الله ، هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال : "هل تُضَارُّون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سَحَاب ؟" قالوا : لا. قال : "فإنكم تَرَون ربكم كذلك". (5) وفي الصحيحين عن جرير قال : نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال : "إنكم تَرَون ربكم كما ترون هذا القمر ، فإن استطعتم ألا تُغلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل
__________
(1) المسند (1/343).
(2) صحيح البخاري برقم (4927 ، 4928) ، وصحيح مسلم برقم (448).
(3) صحيح البخاري برقم (4929).
(4) صحيح البخاري برقم (554 ، 573 ، 485) من حديث جرير رضي الله عنه.
(5) صحيح البخاري برقم (7437 ، 7438) ، وصحيح مسلم برقم (182).

(8/279)


غروبها فافعلوا" (1) وفي الصحيحين عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "جَنَّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فِضَّة آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله إلا رِدَاء الكبرياء على وجهه في جنة عدن". (2) وفي أفراد مسلم ، عن صهيب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا دخل أهلُ الجنة الجنة" قال : "يقول الله تعالى : تريدون شيئا أزيدكم ؟ فيقولون : ألم تُبَيض وجوهنا ؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار ؟" قال : "فيكشف الحجاب ، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم ، وهي الزيادة". ثم تلا هذه الآية : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ]. (3)
وفي أفراد مسلم ، عن جابر في حديثه : "إن الله يَتَجلَّى للمؤمنين يضحك" (4) - يعني في عرصات القيامة - ففي هذه الأحاديث أن المؤمنين ينظرون (5) إلى ربهم عز وجل في العرصات ، وفي روضات الجنات.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا عبد الملك بن أبجر ، حدثنا ثُوَير (6) بن أبي فاختة ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أدنى أهل الجنة منزلة لينظر في ملكه ألفي سنة ، يرى أقصاه كما يرى أدناه ، ينظر إلى أزواجه وخدمه. وإن أفضلهم منزلة لينظر إلى وجه الله كل يوم مرتين". (7)
ورواه الترمذي عن عبد بن حميد ، عن شَبابة ، عن إسرائيل ، عن ثُوَير قال : "سمعت ابن عمر..". فذكره ، قال : "ورواه عبد الملك بن أبجر ، عن ثُوَير ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قوله". وكذلك رواه الثوري ، عن ثُوَير ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، لم يرفعه (8) ولولا خشية الإطالة لأوردنا الأحاديث بطرقها وألفاظها من الصحاح والحسان والمسانيد والسنن ، ولكن ذكرنا ذلك مفرقا في مَواضِعَ من هذا التفسير ، وبالله التوفيق (9). وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة ، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام. وهُدَاة الأنام.
ومن تأول ذلك بأن المراد بـ { إِلَى } مفرد الآلاء ، وهي النعم ، كما قال الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد : { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } فقال تنتظر الثواب من ربها. رواه ابن جرير من غير وجه عن مجاهد. وكذا قال أبو صالح أيضا - فقد أبعد هذا القائل (10) النجعة ، وأبطل فيما ذهب إليه. وأين هو من قوله تعالى : { كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } ؟[ المطففين : 15 ] ، قال الشافعي ، رحمه الله : ما حَجَب الفجار إلا وقد عَلم أن الأبرار يرونه عز وجل. ثم قد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما دل عليه سياق الآية الكريمة ، وهي قوله : { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } قال ابن جرير :
__________
(1) صحيح البخاري برقم (7434 ، 7436) ، وصحيح مسلم برقم (633).
(2) صحيح البخاري برقم (7444) ، وصحيح مسلم برقم (180).
(3) صحيح مسلم برقم (181).
(4) صحيح مسلم برقم (191).
(5) في م : "ينظروا".
(6) في م ، أ : "حدثنا يزيد.
(7) المسند (2/13).
(8) سنن الترمذي برقم (3330).
(9) وانظر : كتاب النهاية في الفتن والملاحم للحافظ ابن كثير (2/300) فقد أطال قي ذكر أحاديث الرؤية.
(10) في م : "الناظر".

(8/280)


كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)

حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري ، حدثنا آدم ، حدثنا المبارك عن الحسن : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ } قال : حسنة ، { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } قال تنظر إلى الخالق ، وحُقّ لها أن تَنضُر وهي تنظر إلى الخالق (1).
وقوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } هذه وجوه الفجار تكون يوم القيامة باسرة. قال قتادة : كالحة. وقال السدي : تغير ألوانها. وقال ابن زيد { بَاسِرَةٌ } أي : عابسة.
{ تَظُنُّ } أي : تستيقن ، { أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } قال مجاهد : داهية. وقال قتادة : شر. وقال السدي : تستيقن أنها هالكة. وقال ابن زيد : تظن أن ستدخل النار.
وهذا المقام كقوله : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [ أل عمران : 106 ] وكقوله { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ } [ عبس : 38 - 42 ] وكقوله { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً } إلى قوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } [ الغاشية : 2 - 10 ] في أشباه ذلك من الآيات والسياقات.
{ كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40) }
يخبر تعالى عن حالة الاحتضار وما عنده من الأهوال - ثبتنا الله هنالك بالقول الثابت - فقال تعالى : { كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ } إن جعلنا { كَلا } رداعة فمعناها : لست يا ابن آدم تكذب هناك بما أخبرت به ، بل صار ذلك عندك عيانا. وإن جعلناها بمعنى(حقا) فظاهر ، أي : حقا إذا بلغت التراقي ، أي : انتزعت روحك من جسدك وبلغت تراقيك ، والتراقي : جمع ترقوة ، وهي العظام التي بين ثغرة النحر والعاتق ، كقوله : { فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ فَلَوْلا (2) إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ الواقعة : 83 - 87 ]. وهكذا قال هاهنا : { كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ } ويذكر هاهنا حديث بُسْر بن جِحاش الذي تقدم في سورة "يس" (3). والتراقي : جمع ترقوة ، وهي قريبة من الحلقوم.
__________
(1) تفسير الطبري (29/119).
(2) في أ : "كلا" وهو خطأ.
(3) حديث بسر بن جحاش ، رواه الإمام أحمد في المسند (4/310) من طريق جبير بن نفير ، عن بسر بن جحاش : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق يومًا في كفه فوضع عليها إصبعه ثم قال : "قال الله تعالى : ابن آدم أني تعجزني وقد خلقتك مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك ، مشيت بين برديك وللأرض منك وئيد ، فجمعت ومنعت ، حتى إذا بلغت التراقي قلت : أتصدق وأنى أوان الصدقة ؟!" وقد سبق عند تفسير الآية : 77 من سورة يس.

(8/281)


{ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } قال : عكرمة ، عن ابن عباس : أي من راق يرقى ؟ وكذا قال أبو قلابة : { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } أي : من طبيب شاف. وكذا قال قتادة ، والضحاك ، وابن زيد.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نصر بن علي ، حدثنا روح بن المسيب أبو رجاء الكلبي ، حدثنا عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس : { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } قال : قيل : من يرقى بروحه : ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب ؟ فعلى هذا يكون من كلام الملائكة.
وبهذا الإسناد ، عن ابن عباس في قوله : { وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ } قال : التفت عليه الدنيا والآخرة. وكذا قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ } يقول : آخر يوم في الدنيا ، وأول يوم من أيام الآخرة ، فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحم الله.
وقال عكرمة : { وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ } الأمر العظيم بالأمر العظيم. وقال مجاهد : بلاء ببلاء. وقال الحسن البصري في قوله : { وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ } هما ساقاك إذا التفتا (1). وفي رواية عنه : ماتت رجلاه فلم تحملاه ، وقد كان عليها جوالا. وكذا قال السدي ، عن أبي مالك.
وفي رواية عن الحسن : هو لفهما في الكفن.
وقال الضحاك : { وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ } اجتمع عليه أمران : الناس يجهزون جسده ، والملائكة يجهزون روحه.
وقوله : { إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ } أي : المرجع والمآب ، وذلك أن الروح ترفع إلى السماوات ، فيقول الله عز وجل : ردوا عبدي إلى الأرض ، فإني منها خلقتهم ، وفيها أعيدهم ، ومنها أخرجهم تارة أخرى. كما ورد في حديث البراء الطويل. وقد قال الله تعالى : { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } [ الأنعام : 61 ، 62 ].
وقوله : { فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } هذا إخبار عن الكافر الذي كان في الدار الدنيا مكذبا للحق بقلبه ، متوليا عن العمل بقالبه ، فلا خير فيه باطنا ولا ظاهرا ، ولهذا قال : { فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى } أي : جَذلا (2). أشرا بَطرا كسلانا ، لا همة له ولا عمل ، كما قال : { وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ } [المطففين : 34]. وقال { إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ } أي : يرجع { بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا } [الانشقاق : 13 - 15].
وقال الضحاك : عن ابن عباس : { ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى } [أي] (3). يختال. وقال قتادة ، وزيد بن أسلم : يتبختر.
قال الله تعالى : { أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى } وهذا تهديد ووعيد أكيد منه تعالى للكافر به المتبختر في مشيته ، أي : يحق لك أن تمشي هكذا وقد كفرت بخالقك وبارئك ، كما يقال
__________
(1) في أ : "إذا التقيا".
(2) في م : "أي جزلان".
(3) زيادة من م.

(8/282)


في مثل هذا على سبيل التهكم والتهديد كقوله : { ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } [الدخان : 49]. و كقوله : { كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ } [المرسلات : 46] ، وكقوله { فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ } [الزمر : 15] ، وكقوله { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } [فصلت : 40]. إلى غير ذلك.
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا عبد الرحمن - يعني ابن مهدي - عن إسرائيل ، عن موسى بن أبي عائشة قال : سألت سعيد بن جبير قلت : { أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى } ؟ قال : قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جهل ، ثم نزل به القرآن.
وقال أبو عبد الرحمن النسائي : حدثنا إبراهيم بن يعقوب (1). حدثنا أبو النعمان ، حدثنا أبو عَوَانة - (ح) وحدثنا أبو داود : حدثنا محمد بن سليمان (2). حدثنا أبو عوانة - عن موسى بن أبي عائشة ، عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : { أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى } ؟ قال : قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) ثم أنزله الله عز وجل (4).
قال ابن أبي حاتم : وحدثنا أبي ، حدثنا هشام بن خالد ، حدثنا شعيب عن إسحاق ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى } وعيد على أثر وعيد ، كما تسمعون ، وزعموا أن عدو الله أبا جهل أخذ نَبيّ الله بمجامع ثيابه ، ثم قال : "أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى". فقال عدو الله أبو جهل : أتوعدني يا محمد ؟ والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئا ، وإني لأعز من مشى بين جبليها.
وقوله : { أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } قال السدي : يعني : لا يبعث.
وقال مجاهد ، والشافعي ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني لا يؤمر ولا ينهى.
والظاهر أن الآية تعم الحالين ، أي : ليس يترك في هذه الدنيا مهملا لا يؤمر ولا ينهى ، ولا يترك في قبره سدى لا يبعث ، بل هو مأمور منهي في الدنيا ، محشور إلى الله في الدار الآخرة. والمقصود هنا إثبات المعاد ، والرد على من أنكره من أهل الزيغ والجهل والعناد (5) ، ولهذا قال مستدلا على الإعادة بالبداءة فقال.
{ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى } ؟ أي : أما كان الإنسان نطفة ضعيفة من ماء مهين ، يمنى يراق من الأصلاب في الأرحام. { ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى } أي : فصار علقة ، ثم مضغة ، ثم شُكّل ونفخ فيه الروح ، فصار خلقا آخر سَويًا سليم الأعضاء ، ذكرا أو أنثى بإذن الله وتقديره ؛ ولهذا قال : { فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى }
ثم قال : { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } أي : أما هذا الذي أنشأ هذا الخلق السوي من هذه النطفة الضعيفة بقادر على أن يعيده كما بدأه ؟ وتناولُ القدرة للإعادة إما بطريق الأولى بالنسبة إلى البداءة ، وإما مساوية على القولين في قوله : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم : 27].
__________
(1) في م ، أ ، هـ : "يعقوب بن إبراهيم" والمثبت من سنن النسائي الكبري (11638).
(2) في م : "عن ابن سليمان".
(3) في م : "قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل".
(4) سنن النسائي الكبري برقم (11638).
(5) في أ : "والفساد".

(8/283)


والأول أشهر كما تقدم في سورة "الروم" بيانه وتقريره ، والله أعلم.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا شبابة ، عن شعبة ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن آخر : أنه كان فوق سطح يقرأ ويرفع صوته بالقرآن ، فإذا قرأ : { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } ؟ قال : سبحانك اللهم فبلى. فسئل عن ذلك فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك. وقال أبو داود ، رحمه الله : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن موسى بن أبي عائشة قال : كان رجل يصلي فوق بيته ، فكان إذا قرأ : { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } ؟ قال (1) سبحانك ، فبلى ، فسألوه عن ذلك فقال : سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تفرد به أبو داود (2) ولم يسم هذا الصحابي ، ولا يضر ذلك.
وقال أبو داود أيضا : حدثنا عبد الله بن محمد الزهري ، حدثنا سفيان ، حدثني إسماعيل بن أمية : سمعت أعرابيا يقول : سمعت أبا هُرَيرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قرأ منكم بالتين والزيتون فانتهى إلى آخرها : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ } ؟ فليقل : بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين. ومن قرأ : { لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } فانتهى إلى : { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } ؟ فليقل : بلى. ومن قرأ : { وَالْمُرْسَلات } فبلغ { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } ؟ فليقل : آمنا بالله".
ورواه أحمد ، عن سفيان بن عيينة. ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر ، عن سفيان بن عيينة (3). وقد رواه شعبة ، عن إسماعيل بن أمية قال : قلت له : من حدثك ؟ قال رجل صدق ، عن أبي هريرة (4)
وقال ابن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } ذُكِر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال : "سبحانك وبلى" (5).
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس أنه مر بهذه الآية : { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } ؟ ، قال : سبحانك ؛ فبلى.
آخر تفسير سورة "القيامة" ولله الحمد والمنة
__________
(1) في م : "فقال".
(2) سنن أبي داود برقم (884) ، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (2/310).
(3) سنن أبي داود برقم (887) ، والمسند (2/249) ، وسنن الترمذي برقم (3347). وقد جاء تسمية هذا الأعرابي في رواية الحاكم ، فرواه في المستدرك (2/510) من طريق يزيد بن عياض ، عن إسماعيل بن أمية ، عن أبي اليسع ، عن أبي هريرة بنحوه وقال : "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". قلت : يزيد بن عياض كذاب.
(4) انظر : تحفة الأشراف للمزي (11/105) ، وقد ذكر له متابعات أخرى.
(5) تفسير الطبري (29/125).

(8/284)


هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)

تفسير سورة الإنسان
وهي مكية.
قد تقدم في صحيح مسلم ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة " الم تَنزيلُ " السجدة ، و " هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ " (1)
وقال عبد الله بن وهب : أخبرنا ابن زيد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه السورة : " هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ " وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود ، فلما بلغ صفة الجنان ، زفر زفرة فخرجت نفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أخرج نفس (2) صاحبكم - أو قال : أخيكم - الشوقُ إلى الجنة". مرسل غريب (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
{ هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) }
يقول تعالى مخبرًا عن الإنسان أنه أوجده بعد أن لم يكن شيئًا يذكر (4) لحقارته وضعفه ، فقال : { هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا } ؟
ثم بين ذلك فقال : { إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } أي : أخلاط. والمشج والمشيج : الشيء الخَليط (5) ، بعضه في بعض.
قال ابن عباس في قوله : { مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } يعني : ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا واختلطا ، ثم ينتقل بعد من طور إلى طور ، وحال إلى حال ، ولون إلى لون. وهكذا قال عكرمة ، ومجاهد ، والحسن ، والربيع بن أنس : الأمشاج : هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة.
__________
(1) تقدم حديث أبي هريرة عند تفسير أول سورة السجدة وخرجناه هناك ، أما حديث ابن عباس فلم يتقدم ، وهو في صحيح مسلم برقم (879).
(2) في أ : "روح".
(3) وقد جاء موصولا ، فرواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (4774) "مجمع البحرين" من طريق عفيف بن سالم ، عن أيوب بن عتبه ، عن عطاء ، عن ابن عمر : أن رجلا من الحبشة ، فذكر قصة طويلة وفيها : أن نزلت هذه السورة وهو عند الرسول فقال : يا رسول الله ، هل ترى عيني في الجنة مثل ما ترى عينك ؟ فقال النبي : "نعم" فبكى الحبشى حتى فاضت نفسه. وقال الطبراني : "لا يروى عن ابن عمر إلا بهذا الإسناد ، تفرد به عفيف". وسيأتي الحديث عند آخر السورة من رواية الطبراني.
(4) في أ : "مذكورًا".
(5) في م : "المختلط".

(8/285)


وقوله : { نَبْتَلِيهِ } أي : نختبره ، كقوله : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا } [ الملك : 2 ]. { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } أي : جعلنا له سمعا وبصرًا يتمكن بهما من الطاعة والمعصية.
وقوله : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ } أي : بيناه له ووضحناه وبصرناه به ، كقوله : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } [ فصلت : 17 ] ، وكقوله : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } [ البلد : 10 ] ، أي : بينا له طريق الخير وطريق الشر. وهذا قول عكرمة ، وعطية ، وابن زيد ، ومجاهد - في المشهور عنه - والجمهور.
ورُوي عن مجاهد ، وأبي صالح ، والضحاك ، والسدي أنهم قالوا في قوله : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ } يعني خروجه من الرحم. وهذا قول غريب ، والصحيح المشهور الأول.
وقوله : { إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } منصوب على الحال من "الهاء" في قوله : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ } تقديره : فهو في ذلك إما شقي وإما سعيد ، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم ، عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كل الناس يَغْدو ، فبائع نفسه فموبقها أو مُعْتقها" (1). وتقدم في سورة "الروم" عند قوله : { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } [ الروم : 30 ] من رواية جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كل مولود يولد على الفطرة حتى يُعربَ عنه لسانه ، فإذا أعرب عنه لسانه ، فإما شاكرًا وإما كفورًا".
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر ، حدثنا عبد الله بن جعفر ، عن عثمان بن محمد ، عن المقبري ، عن أبي هُرَيرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما من خارج يخرج إلا ببابه رايتان : رايةٌ بيد مَلَك ، وراية بيد شَيطان ، فإن خرج لما يُحِبّ اللهُ اتبعَه المَلَك برايته ، فلم يزل تحت راية الملك حتى يرجع إلى بيته. وإن خرج لما يُسخط الله اتبعه الشيطان برايته ، فلم يزل تحت راية الشيطان ، حتى يرجع إلى بيته" (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن ابن خُثَيم ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن جابر بن عبد الله : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عُجرَة : "أعاذك الله من إمارة السفهاء". قال : وما إمارة السفهاء ؟ قال : "أمراء يكونون من بعدي ، لا يهتدون بهداي ، ولا يستَنّونَ بسنتي ، فمن صَدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم ، فأولئك ليسوا مني ولست منهم ، ولا يَردُون على حوضي. ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يُعِنهم على ظلمهم ، فأولئك مني وأنا منهم ، وسيردون على حوضي. يا كعب بن عُجرَة ، الصوم جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة ، والصلاة قربان - أو قال : برهان - يا كعبَ بنَ عجرَة ، إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سُحْت ، النار أولى به. يا كعب ، الناس غَاديان ، فمبتاعُ نفسَه فمعتقها ، وبائع نفسه فموبقها".
ورواه عن عَفّان ، عن وُهَيب (3) ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، به (4).
__________
(1) صحيح مسلم برقم (223).
(2) المسند (2/323).
(3) في أ : "عن وهب".
(4) المسند (3/321).

(8/286)


إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)

{ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) }

(8/287)


عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)

{ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) }
يخبر تعالى عما أرصده للكافرين من خلقه به من السلاسل والأغلال والسعير ، وهو اللهب والحريق في نار جهنم ، كما قال : { إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } [غافر : 71 ، 72].
ولما ذكر ما أعده (1) لهؤلاء الأشقياء من السعير قال بعده : { إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا } وقد علم ما في الكافور من التبريد والرائحة الطيبة ، مع ما يضاف إلى ذلك من اللذاذة في الجنة.
قال الحسن : برد الكافور في طيب الزنجبيل ؛ ولهذا قال : { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا } أي : هذا الذي مُزج لهؤلاء الأبرار من الكافور هو عين يشرب بها المقربون من عباد الله صرفا بلا مزج ويَرْوَوْنَ بها ؛ ولهذا ضمن يشرَب "يروى" حتى عداه بالباء ، ونصب { عَيْنًا } على التمييز.
قال بعضهم : هذا الشراب (2) في طيبه كالكافور. وقال بعضهم : هو من عين كافور. وقال بعضهم : يجوز أن يكون منصوبًا بـ { يَشْرَبُ } حكى هذه الأقوال الثلاثة ابنُ جرير.
وقوله : { يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا } أي : يتصرفون فيها حيث شاؤوا وأين شاؤوا ، من قصورهم ودورهم ومجالسهم ومحالهم.
والتفجير هو الإنباع ، كما قال تعالى : { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا } [الإسراء : 90]. وقال : { وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا } [الكهف : 33].
وقال مجاهد : { يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا } يقودونها حيث شاؤوا ، وكذا قال عكرمة ، وقتادة. وقال الثوري : يصرفونها حيث شاؤوا.
وقوله : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا } أي : يتعبدون لله فيما أوجبه عليهم من [فعل] (3) الطاعات الواجبة بأصل الشرع ، وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر.
__________
(1) في أ : "أعده الله".
(2) في م : "الطعام".
(3) زيادة من م ، أ.

(8/287)


قال الإمام مالك ، عن طلحة بن عبد الملك الأيلي ، عن القاسم بن مالك ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يَعصي الله فلا يَعصِه" ، رواه البخاري من حديث مالك (1).
ويتركون المحرمات التي نهاهم عنها خيفة من سوء الحساب يوم المعاد ، وهو اليوم الذي شره مستطير ، أي : منتشر عام على الناس إلا من رَحِمَ الله.
قال ابن عباس : فاشيًا. وقال قتادة : استطار - والله - شرّ ذلك اليوم حتى مَلأ السماوات والأرض.
قال ابن جرير : ومنه قولهم : استطار الصدع في الزجاجة واستطال. ومنه قول الأعشى :
فَبَانَتْ وَقَد أسْأرت في الفُؤا... د صَدْعًا ، على نَأيها مُستَطيرًا (2)
يعني : ممتدا فاشيا.
وقوله : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ } قيل : على حب الله تعالى. وجعلوا الضمير عائدًا إلى الله عز وجل لدلالة السياق عليه. والأظهر أن الضمير عائد على الطعام ، أي : ويطعمون الطعام في حال محبتهم وشهوتهم له ، قاله مجاهد ، ومقاتل ، واختاره ابن جرير ، كقوله تعالى : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } [ البقرة : 177 ] ، وكقوله تعالى : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران : 92 ].
وروى البيهقي ، من طريق الأعمش ، عن نافع قال : مرض ابن عمر فاشتهى عنبا - أول ما جاء العنب - فأرسلت صفية - يعني امرأته - فاشترت عنقودًا بدرهم ، فاتبع الرسولَ السائل ، فلما دخل به قال السائل : السائل. فقال ابن عمر : أعطوه إياه. فأعطوه إياه. ثم أرسلت بدرهم آخر فاشترت عنقودًا فاتبع الرسولَ السائلُ ، فلما دخل قال السائل : السائل. فقال ابن عمر : أعطوه إياه. فأعطوه إياه. فأرسلت صفية إلى السائل فقالت : والله إن عُدتَ لا تصيبُ منه خيرًا أبدًا. ثم أرسلت بدرهم آخر فاشترت به (3).
وفي الصحيح : "أفضل الصدقة أن تَصَدّقَ وأنت صحيح ، شحيح ، تأمل الغنى ، وتخشى الفقر" (4) أي : في حال محبتك للمال وحرصك عليه وحاجتك إليه ؛ ولهذا قال تعالى : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } أما المسكين واليتيم ، فقد تقدم بيانهما وصفتهما. وأما الأسير : فقال سعيد بن جبير ، والحسن ، والضحاك : الأسير : من أهل القبلة. وقال ابن عباس : كان أسراؤهم يومئذ مشركين. ويشهد لهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى ، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء ، وهكذا قال سعيد بن جبير ، وعطاء ، والحس ، وقتادة.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6696 ، 6700).
(2) تفسير الطبري (29/129).
(3) السنن الكبرى للبيهقي (4/185).
(4) صحيح مسلم برقم (1032) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(8/288)


وقد وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإحسان إلى الأرقاء في غير ما حديث ، حتى إنه كان آخر ما أوصى أن جعل يقول : "الصلاةَ وما ملكت أيمانكم" (1).
وقال عكرمة : هم العبيد - واختاره ابن جرير - لعموم الآية للمسلم والمشرك.
قال مجاهد : هو المحبوس ، أي : يطعمون لهؤلاء الطعام وهم يشتهونه ويحبونه ، قائلين بلسان الحال : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ } أي : رجاءَ ثواب الله ورضاه { لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا } أي : لا نطلب منكم مجازاة تكافئونا بها ولا أن تشكرونا عند الناس.
قال مجاهد وسعيد بن جبير : أما والله ما قالوه بألسنتهم ، ولكن علم الله به من قلوبهم ، فأثنى عليهم به ليرغب في ذلك راغب.
{ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا } أي : إنما نفعل هذا لعل الله أن يرحمنا ويتلقانا بلطفه ، في اليوم العبوس القمطرير.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس { عَبُوسًا } ضيقا ، { قَمْطَرِيرًا } طويلا.
وقال عكرمة وغيره ، عنه ، في قوله : { يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا } أي : يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عَرَق مثل القَطرَان.
وقال مجاهد : { عَبُوسًا } العابس الشفتين ، { قَمْطَرِيرًا } قال : تقبيض الوَجه بالبُسُور.
وقال سعيد بن جبير ، وقتادة : تعبس فيه الوجوه من الهول ، { قَمْطَرِيرًا } تقليص الجبين وما بين العينين ، من الهول.
وقال ابن زيد : العبوس : الشر. والقمطرير : الشديد.
وأوضح العبارات وأجلاها وأحلاها ، وأعلاها وأولاها - قولُ ابن عباس ، رضي الله عنه.
قال ابن جرير : والقمطرير هو : الشديد ؛ يقال : هو يوم قمطرير ويوم قُماطِر ، ويوم عَصِيب وعَصَبْصَب ، وقد اقمطرّ اليومُ يقمطرّ اقمطرارا ، وذلك أشد الأيام وأطولها في البلاء والشدة ، ومنه قول بعضهم :
بنَي عَمّنا ، هل تَذكُرونَ بَلاءنَا ?... عَلَيكم إذَا ما كانَ يومُ قُمَاطرُ (2)
قال الله تعالى : { فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا } وهذا من باب التجانس البليغ ، { فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ } أي : آمنهم مما خافوا منه ، { وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً } أي : في وجوههم ، { وَسُرُورًا } أي : في قلوبهم. قاله الحسن البصري ، وقتادة ، وأبو العالية ، والربيع بن أنس. وهذه كقوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ } [ عبس : 38 ، 39 ]. وذلك أن القلب إذا سُرَّ استنار الوجه ، قال كعب بن مالك في حديثه الطويل : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) رواه أحمد في المسند (1/78) من حديث على رضي الله عنه.
(2) البيت في تفسير الطبري (29/131) غير منسوب.

(8/289)


مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)

إذا سُرَّ ، استنار وجهه حتى كأنه قطعة (1) قَمَر (2) وقالت عائشةُ : دخل عَلَيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورا تَبرُقُ أسَاريرُ وَجْهه (3). الحديث.
وقوله : { وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا } أي : بسبب صبرهم أعطاهم ونَوّلهم وبوّأهم { جَنَّةً وَحَرِيرًا } أي : منزلا رحبا ، وعيشا رَغَدًا (4) ولباسًا حَسَنًا.
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة هشام بن سليمان الدّارَاني قال : قرئ على أبي سليمان الداراني سورة : { هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ } فلما بلغ القارئ إلى قوله : { وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا } قال بما صبروا على ترك الشهوات في الدنيا ، ثم أنشد :
كَم قَتيل بشَهوةٍ وأسير... أفّ مِنْ مُشتَهِي خِلاف الجَميل...
شَهوَاتُ الإنْسان تورثه الذُّل... وَتُلْقيه في البَلاء الطَّويل (5)
{ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ (15) قَوَارِيرَاَْ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) }
يخبر تعالى عن أهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم ، وما أسبغ عليهم من الفضل العَميم فقال : { مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ } وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة "الصافات" ، وذكر الخلاف في الاتكاء : هل هو الاضطجاع ، أو التمرفق ، أو التربع أو التمكن في الجلوس ؟ وأن الأرائك هي السُّرر تحت الحجال.
وقوله : { لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا } أي : ليس عندهم حَرّ مزعج ، ولا برد مؤلم ، بل هي مزاج واحد دائم سَرْمَدْيّ ، { لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا } [الكهف : 108].
__________
(1) في م : "كأنه فلقة".
(2) حديث توبه كعب بن مالك في صحيح البخاري برقم (3951 ، 4673) ، وفي صحيح مسلم برقم (2769) ، وتقدم عند تفسير الآية : 118 من سورة "التوبة".
(3) حديث عائشة في لحاق أسامة بأبيه زيد. رواه البخاري في صحيحه برقم (3555) ، ومسلم في صحيحه برقم (1459).
(4) في م : "رغيدا".
(5) انظر : مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (27/86) ووقع صدره فيه :
كم قتيل لشهوة وأسير

(8/290)


{ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا } أي : قريبة إليهم أغصانها ، { وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا } أي : متى تعاطاه دنا القطْفُ إليه وتدلى من أعلى غصنه ، كأنه سامع طائع ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : { وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ } [الرحمن : 54] وقال تعالى { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } [الحاقة : 23]
قال (1) مجاهد : { وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا } إن قام ارتفعت بقَدْره ، وإن قعد تَدَلَّتْ (2) له حتى ينالها ، وإن اضطجع تَدَلَّت (3) له حتى ينالها ، فذلك قوله : { تَذْلِيلا }
وقال قتادة : لا يرد أيديهم عنها شوكٌ ولا بُعدُ.
وقال مجاهد : أرض الجنة من وَرق ، وترابها المسك ، وأصول شجرها من ذهب وفضة ، وأفنانها من اللؤلؤ الرطب والزبرجد والياقوت ، والوَرَق والثمر بين ذلك. فمن أكل منها قائما لم يؤذه ، ومن أكل منها قاعدا لم يؤذه ، ومن أكل منها مضطجعًا لم يؤذه.
وقوله : { وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ } أي : يطوف عليهم الخَدَم بأواني الطعام ، وهي من فضة ، وأكواب الشراب وهي الكيزان التي لا عرى لها ولا خراطيم.
وقوله (4) : { قَوَارِيرَ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ } فالأول منصوب بخبر "كان" أي : كانت قوارير. والثاني منصوب إما على البدلية (5) أو تمييز ؛ لأنه بينه بقوله : { قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ }
قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن البصري ، وغير واحد : بياض الفضة في صفاء الزجاج ، والقوارير لا تكون إلا من زجاج. فهذه الأكواب هي من فضة ، وهي مع هذا شفافة يرى ما في باطنها من ظاهرها ، وهذا مما لا نظير له في الدنيا.
قال ابن المبارك ، عن إسماعيل ، عن رجل ، عن ابن عباس : ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله : { قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا } أي : على قدر ريّهم ، لا تزيد عنه ولا تنقص ، بل هي مُعَدّة لذلك ، مقدرة بحسب ريّ صاحبها. هذا معنى قول ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبي صالح ، وقتادة ، وابن أبزى ، وعبد الله بن عُبَيد الله بن عمير ، وقتادة ، والشعبي ، وابن زيد. وقاله ابن جرير وغير واحد. وهذا أبلغ في الاعتناء والشرف والكرامة.
وقال العَوفي ، عن ابن عباس : { قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا } قدرت للكف. وهكذا قال الربيع بن أنس. وقال الضحاك : على قدر أكُفّ الخُدّام. وهذا لا ينافي القول الأول ، فإنها مقدرة في القَدْر والرّي.
وقوله : { وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا } (6) أي : ويسقون - يعني الأبرار أيضا - في هذه الأكواب { كَأْسًا } أي : خمرًا ، { كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا } فتارة يُمزَج لهم الشراب بالكافور
__________
(1) في م : "وقال".
(2) في أ : "تذللت".
(3) في أ : "تذللت".
(4) في م ، أ : "وهذه".
(5) في أ : "على البداية".
(6) في أ : "كان مزاجه" وهو خطأ.

(8/291)


وهو بارد ، وتارة بالزنجبيل وهو حار ، ليعتدل الأمر ، وهؤلاء يمزج لهم من هذا تارة ومن هذا تارة. وأما المقربون فإنهم يشربون من كل منهما صِرْفًا ، كما قاله قتادة وغير واحد. وقد تقدم قوله : { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ } وقال هاهنا : { عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا } أي : الزنجبيل عين في الجنة تسمى سلسبيلا.
قال عكرمة : اسم عين في الجنة. وقال مجاهد : سميت بذلك لسلاسة سيلها وحِدّة جَريها.
وقال قتادة : { عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا } عين سَلِسَة مُستَقِيد (1) ماؤها.
وحكى ابنُ جرير عن بعضهم أنها سميت بذلك لسلاستها في الحَلْق. واختار هو أنها تَعُمّ ذلك كلَّه ، وهو كما قال.
وقوله تعالى : { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا } أي : يطوف على أهل الجنة للخدْمَة ولدانٌ من ولدان الجنة { مُخَلَّدُونَ } أي : على حالة واحدة مخلدون عليها ، لا يتغيرون عنها ، لا تزيد أعمارهم عن تلك السن. ومن فسرهم بأنهم مُخَرّصُونَ في آذانهم الأقرطة ، فإنما عبر عن المعنى بذلك ؛ لأن الصغير هو الذي يليق له ذلك دون الكبير.
وقوله : { إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا } أي : إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة ، وكثرتهم ، وصباحة وجوههم ، وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم ، حسبتهم لؤلؤا منثورا. ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا ، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن.
قال قتاده ، عن أبي أيوب ، عن عبد الله بن عمرو : ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه ألف خادم ، كل خادم على عمل ما عليه صاحبه.
وقوله : { وَإِذَا رَأَيْتَ } أي : وإذا رأيت يا محمد ، { ثَمَّ } أي : هناك (2) ، يعني في الجنة ونعيمها وسَعَتها وارتفاعها وما فيها من الحَبْرَة والسرور ، { رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا } أي : مملكةً لله هُناك عظيمةً وسلطانًا باهرًا.
وثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لآخر أهل النار خروجا منها ، وآخر أهل الجنة دخولا إليها : إن لك مثلَ الدنيا وعشرة أمثالها.
وقد قَدّمنا (3) في الحديث المَرويّ من طريق ثُوَير بن أبي فاختة ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي (4) سنة ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه". فإذا كان هذا عطاؤه تعالى لأدنى من يكون في الجنة ، فما ظنك بما هو أعلى منزلة ، وأحظى عنده تعالى.
وقد روى الطبراني هاهنا حديثًا غريبًا جدًا فقال : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا محمد بن
__________
(1) في أ : "مستعذب".
(2) في أ : "أي هنالك".
(3) عند تفسير الآية : 23 من سورة "القيامة".
(4) في أ : "مسيرة ألف".

(8/292)


إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25)

عمار الموصلي ، حدثنا عفيف (1) بن سالم ، عن أيوب بن عتبة ، عن عطاء ، عن ابن عمر قال : جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال له رسول الله : "سل واستفهم". فقال : يا رسول الله ، فُضّلْتُم علينا بالصور والألوان والنبوة ، أفرأيتَ إن آمنتُ بما آمنتَ به وعملتُ بمثل ما عملتَ به ، إني لكائن معكَ في الجنة ؟ قال : "نعم ، والذي نفسي بيده ، إنه لَيُرَى بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قال : لا إله إلا الله ، كان له بها عَهدٌ عند الله ، ومن قال : سبحان الله وبحمده ، كتب له مائة ألف حسنة ، وأربعة وعشرون ألف حسنة". فقال رجل : كيف نهلك بعد هذا يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وُضِعَ على جبل لأثقله ، فتقوم النعمة - أو : نعَم الله - فتكاد تستنفذ ذلك كله ، إلا أن يَتَغَمّده الله برحمته". ونزلت هذه السورة : { هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ } إلى قوله : { وَمُلْكًا كَبِيرًا } فقال الحبشي : وإن عيني لترى ما ترى عيناك في الجنة ؟ قال : "نعم". فاستبكى حتى فاضت نفسه. قال ابن عمر : فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُدليه في حُفرَته بيده (2).
وقوله : { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ } أي : لباس أهل الجنة فيها الحرير ، ومنه سندس ، وهو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها مما يلي أبدانهم ، والإستبرق منه ما فيه بريق ولمعان ، وهو مما يلي الظاهر ، كما هو المعهود في اللباس (3) { وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ } وهذه صفة الأبرار ، وأما المقربون فكما قال : { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [الحج : 23]
ولما ذكر تعالى زينة الظاهر بالحرير والحلي قال (4) بعده : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا } أي : طهر بواطنهم من الحَسَد والحقد والغل والأذى وسائر الأخلاق الرّديَّة ، كما روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال : إذا انتهى أهلُ الجنة إلى باب الجنة وَجَدوا هنالك عينين فكأنما ألهموا ذلك فشربوا من إحداهما [فأذهب الله] (5) ما في بطونهم من أذى ، ثم اغتسلوا من الأخرى فَجَرت عليهم نضرةُ النعيم.
وقوله : { إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا } أي : يقال لهم ذلك تكريما لهم وإحسانا إليهم كقوله : { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ } [الحاقة : 24] وكقوله : { وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الأعراف : 43]
وقوله : { وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا } أي : جزاكم الله على القليل بالكثير.
{ إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزيلا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا (25) }
__________
(1) في م ، أ ، هـ : "حدثنا عقبة" والمثبت من المعجم الأوسط للطبراني.
(2) المعجم الأوسط برقم (4774) "مجمع البحرين" ، وقال : "لا يروى عن ابن عمر إلا بهذا الإسناد ، تفرد به عفيف".
(3) في أ : "في الملبس".
(4) في أ : "فقال".
(5) مكانها في هـ ، كلمة غير واضحة ، والمثبت من م ، أ.

(8/293)


وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)

{ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا (26) إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31) }

(8/293)


يقول تعالى ممتنًا على رسوله صلى الله عليه وسلم بما نزله عليه من القرآن العظيم تنزيلا { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } أي : كما أكرمتُكَ بما أنزلتُ عليك ، فاصبر على قضائه وقَدَره ، واعلم أنه سَيُدَبرك بحسن تدبيره ، { وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا } أي : لا تطع الكافرين والمنافقين إن أرادوا صَدّك عما أنزل إليك (1) بل بَلّغ ما أنزل إليك من ربك ، وتوكل على الله ؛ فإن الله يعصمك من الناس. فالآثم هو الفاجر في أفعاله ، والكفور هو الكافر بقلبه.
{ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا } أي : أولَ النهار وآخره.
{ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا } كقوله : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } [الإسراء : 79] وكقوله : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا } [المزمل : 1 - 4].
ثم قال : منكرًا على الكفار ومن أشبههم في حُبّ الدنيا والإقبال عليها والانصباب إليها ، وترك الدار الآخرة وراء ظهورهم : { إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا } يعني : يوم القيامة.
ثم قال : { نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وغير واحد : يعني خَلْقَهم. { وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلا } أي : وإذا شئنا بعثناهم يوم القيامة ، وبَدلناهم فأعدناهم خلقا جديدا. وهذا استدلال بالبداءة على الرجعة.
وقال ابن زيد ، وابن جرير : { وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلا } [أي] (2) : وإذا شئنا أتينا بقوم آخرين غيرهم ، كقوله : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ (3) قَدِيرًا } [النساء : 133] وكقوله : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } [إبراهيم : 19 ، 20 ، وفاطر 16 ، 17].
ثم قال تعالى : { إِنَّ هَذِهِ } يعنى : هذه السورة { تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا } أي طريقا ومسلكا ، أي : من شاء اهتدى بالقرآن ، كقوله : { وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا } [النساء : 39].
__________
(1) في أ : "عليك".
(2) زيادة من م.
(3) في أ : "وكان الله على كل شيء" وهو خطأ.

(8/294)


ثم قال : { وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } أي : لا يقدر أحد أن يَهدي نفسه ، ولا يدخل في الإيمان (1) ولا يجر لنفسه نفعًا ، { إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي : عليم بمن يستحق الهداية فَيُيَسّرها له ، ويقيض له أسبابها ، ومن يستحق الغواية فيصرفه عن الهدى ، وله الحكمة البالغة ، والحجة الدامغة ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا }
ثم قال : { يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } أي : يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، ومن يهده فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له.
[آخر سورة "الإنسان"] (2) [والله أعلم] (3)
__________
(1) في م : "في إيمان"
(2) زيادة من م ، أ.
(3) زيادة من أ.

(8/295)


وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)

تفسير سورة المرسلات
وهي مكية.
قال البخاري : حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، [حدثنا أبي] (1) ، حدثنا الأعمش ، حدثني إبراهيم ، عن الأسود ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم ، في غار بمنى ، إذ نزلت عليه : " وَالْمُرْسَلاتِ " فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه ، وإن فاه لرطب بها ، إذ وَثَبت علينا حَيَّة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اقتلوها". فابتدرناها فذهبت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "وُقِيَتْ شركم كما وُقِيتُم شرّهَا".
وأخرجه مسلم أيضا ، من طريق الأعمش (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان بن عُيَيْنَة ، عن الزّهْري ، عن عُبَيد الله ، عن ابن عباس ، عن أمه : أنها سَمعَت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالمرسلات عُرفًا (3).
وفي رواية مالك ، عن الزهري ، عن عُبَيد الله ، عن ابن عباس : أن أم الفضل سمعته يقرأ : " وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا " ، فقالت : يا بني ، ذكَّرتني بقراءتك هذه السورة ، أنها لآخر ما سمعتُ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب.
أخرجاه في الصحيحين ، من طريق مالك ، به (4).
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا زكريا بن سهل المروزي ، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق ، أخبرنا الحسين بن واقد ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هُرَيرة : { وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا } قال : الملائكة.
__________
(1) زيادة من م ، أ ، والبخاري.
(2) صحيح البخاري برقم (1830) ، وصحيح مسلم برقم (2234).
(3) المسند (6/338)
(4) صحيح البخاري برقم (763) ، وصحيح مسلم برقم (462).

(8/296)


قال : ورُوي عن مسروق ، وأبي الضحى ، ومجاهد - في إحدى الروايات - والسّدي ، والربيع بن أنس ، مثلُ ذلك.
ورُويَ عن أبي صالح أنه قال : هي الرسل. وفي رواية عنه : أنها الملائكة. وهكذا قال أبو صالح في " الْعَاصِفَاتِ" و " النَّاشِرَات " [و " الْفَارِقَاتِ " ] (1) و " الْمُلْقِيَاتِ" : أنها الملائكة.
وقال الثوري ، عن سلمة بن كُهَيل ، عن مُسلم البَطين ، عن أبي العُبَيدَين قال : سألت ابنَ مسعود عن { وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا } قال : الريح. وكذا قال في : { فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا } إنها الريح. وكذا قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وأبو صالح - في رواية عنه - وتوقف ابن جرير في { وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا } هل هي الملائكة إذا أرسلت بالعُرْف ، أو كعُرْف الفَرَس يتبع بعضهم بعضا ؟ أو : هي الرياح إذا هَبَّت شيئا فشيئا ؟ وقطع بأن العاصفات عصفا هي الرياح ، كما قاله ابن مسعود ومن تابعه. وممن قال ذلك في العاصفات أيضا : علي بن أبي طالب (2) ، والسدي ، وتوقف في { وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا } هل هي الملائكة أو الريح ؟ كما تقدم. وعن أبي صالح : أن الناشرات نشرا : المطر.
والأظهر أن : "الْمُرْسَلات" هي الرياح ، كما قال تعالى : { وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } [ الحجر : 22] ، وقال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [ الأعراف : 57] وهكذا العاصفات هي : الرياح ، يقال : عصفت الريح إذا هَبَّت بتصويت ، وكذا الناشرات هي : الرياح التي تنشر السحاب في آفاق السماء ، كما يشاء الرب عز وجل.
وقوله : { فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا } يعني : الملائكة قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، ومسروق ، ومجاهد ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، والسّدي ، والثوري. ولا خلاف هاهنا ؛ فإنها تنزل بأمر الله على الرسل ، تفرق بين الحق والباطل ، والهدى والغيّ ، والحلال والحرام ، وتلقي إلى الرسل وحيا فيه إعذار إلى الخلق ، وإنذارٌ لهم عقابَ الله إن خالفوا أمره.
وقوله : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ } هذا هو المقسم عليه بهذه الأقسام ، أي : ما وعدتم به من قيام الساعة ، والنفخ في الصور ، وبعث الأجساد وجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ، ومجازاة كل عامل بعمله ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، إن هذا كله { لَوَاقِع } أي : لكائن لا محالة.
ثم قال : { فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ } أي : ذهب ضوؤها ، كقوله : { وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ } [ التكوير : 2] وكقوله : { وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ } [ الانفطار : 2].
{ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ } أي : انفطرت وانشقت ، وتدلت أرجاؤها ، وَوَهَت أطرافها.
{ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ } أي : ذُهِب بها ، فلا يبقى لها عين ولا أثر ، كقوله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا } [ طه : 105 - 107]
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ : "علي بن أبي طلحة".

(8/297)


أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)

وقال تعالى : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا } [ الكهف : 47]
وقوله : { وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ } قال العوفي ، عن ابن عباس : جمعت. وقال ابن زيد : وهذه كقوله تعالى : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ } [ المائدة : 109]. وقال مجاهد : { أُقِّتَت } أجلت.
وقال الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم : { أُقِّتَت } أوعدت. وكأنه يجعلها كقوله : { وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } [ الزمر : 69].
ثم قال : { لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } يقول تعالى : لأي يوم أجلت الرسل وأرجئ أمرها ؟ حتى تقوم الساعة ، كما قال تعالى : { فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [ إبراهيم : 47 ، 48] وهو يوم الفصل ، كما قال { لِيَوْمِ الْفَصْلِ }
ثم قال معظما لشأنه : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } أي : ويل لهم من عذاب الله غدا. وقد قدمنا في الحديث أن "ويل" : واد في جهنم. ولا يصح.
{ أَلَمْ نُهْلِكِ الأوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) }

(8/298)


أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)

{ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) }
يقول تعالى : { أَلَمْ نُهْلِكِ الأوَّلِينَ } ؟ يعني : من المكذبين للرسل المخالفين لما جاؤوهم به ،
{ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ } أي : ممن أشبههم ؛ ولهذا قال : { كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } قاله ابن جرير (1).
ثم قال ممتنا على خلقه ومحتجا على الإعادة بالبَدَاءة : { أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ } ؟ أي : ضعيف حقير بالنسبة إلى قُدرَة البارئ عز وجل ، كما تقدم في سورة "يس" في حديث بُسْر بن جِحَاش : "ابنَ آدم ، أنَّى تُعجزُني وقد خلقتك من مثل هذه ؟" (2).
__________
(1) تفسير الطبري (29/144).
(2) تقدم تخريج الحديث عند تفسير الآية : 26 من سورة "القيامة".

(8/298)


انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)

{ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ } يعني : جمعناه في الرّحِم ، وهو قرار الماء من الرجل والمرأة ، والرحم معد لذلك ، حافظ لما أودع فيه من الماء.
وقوله : { إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ } يعنى : إلى مدة معينة من ستة أشهر أو تسعة أشهر ؛ ولهذا قال : { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ }
ثم قال : { أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا } قال ابن عباس : { كِفَاتًا } كنَّا. وقال مجاهد : يُكَفتُ الميت فلا يُرَى منه شيء. وقال الشعبي : بطنها لأمواتكم ، وظهرها لأحيائكم. وكذا قال مجاهد وقتادة.
{ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ } يعني : الجبال ، أرسى بها الأرض لئلا تميد وتضطرب.
{ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا } عذبا زُلالا من السحاب ، أو مما أنبعه الله من عيون الأرض.
{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } أي : ويل لمن تأمل هذه المخلوقات الدالة على عظمة خالقها ، ثم بعد هذا يستمر على تكذيبه وكفره.
{ انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) }
يقول تعالى مخاطبا للكفار المكذبين بالمعاد والجزاء والجنة والنار ، أنهم يقال لهم يوم القيامة : { انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ } يعني : لَهَبَ النار إذا ارتفع وصَعِدَ معه دخان ، فمن شدته وقوته أن له ثلاث شعب ، { لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ } أي : ظل الدخان المقابل للهب لا ظليل هو في نفسه ، ولا يغني من اللهب ، يعني : ولا يقيهم حر اللهب.
وقوله : { إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ } أي : يتطاير الشرر من لهبها كالقصر. قال (1) ابن مسعود : كالحصون. وقال ابن عباس وقتادة ، ومجاهد ، ومالك عن زيد بن أسلم ، وغيرهم : يعني أصول الشجر.
{ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ } أي : كالإبل السود. قاله مجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك. واختاره ابن جرير.
وعن ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير : { جِمَالَةٌ صُفْرٌ } يعني : حبال السفن. وعنه -
__________
(1) في م : "قاله".

(8/299)


أعني ابن عباس - : { جِمَالَةٌ صُفْرٌ } قطع نحاس (1).
وقال البخاري : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا يحيى ، أخبرنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن عابس قال : سمعت ابن عباس : { إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ } قال : كنا نعمد إلى الخشبة ثلاثة أذرع وفوق ذلك ، فنرفعه للشتاء ، فنسميه القَصَرَ ، { كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ } حبال السفن ، تجمع حتى تكون كأوساط الرجال (2) ، { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ }
ثم قال تعالى : { هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ } أي : لا يتكلمون.
{ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } أي : لا يقدرون على الكلام ، ولا يؤذن لهم فيه ليعتذروا ، بل قد قامت عليهم الحجة ، ووقع القولُ عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون. وعرصات القيامة حالات ، والرب تعالى يخبر عن هذه الحالة تارة ، وعن هذه الحالة تارة ؛ ليدل على شدّة الأهوال والزلازل يومئذ. ولهذا يقول بعد كل فصل من هذا الكلام : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ }
وقوله : { هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ } وهذه مخاطبة من الخالق لعباده يقول لهم : { هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ } يعني : أنه جمعهم بقدرته في صعيد واحد ، يُسمعُهم الداعي ويَنفُذهُم البصر.
وقوله : { فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ } تهديد شديد ووعيد أكيد ، أي : إن قدرتم على أن تتخلصوا من قبضتي ، وتَنجُوا من حكمي فافعلوا ، فإنكم لا تقدرون على ذلك ، كما قال تعالى { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ } [الرحمن : 33] ، وقال تعالى : { وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا } [هود : 57] وفي الحديث : "يا عبادي ، إنكم لن تَبلُغوا نَفْعِي فتنفعوني ، ولن تبلغوا ضري فتضروني".
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن المنذر الطريقي الأودي ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا حُصيَن بن عبد الرحمن ، عن (3) حسان بن أبي المخارق ، عن أبي عبد الله الجَدَلي قال : أتيت بيت المقدس ، فإذا عُبادة بن الصامت ، وعبد الله بن عمرو ، وكعب الأحبار يتحدثون في بيت المقدس ، فقال عبادة : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين بصعيد واحد ، ينفذهم البصر ويُسمعهم الداعي ، ويقول الله : { هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ } اليوم لا ينجو مني جبار عنيد ، ولا شيطان مريد. فقال عبد الله بن عمرو (4) : فإنا نحدث يومئذ أنه يخرج عُنُق من النار فتنطلق حتى إذا كانت بين ظهراني الناس نادت : أيها الناس ، إني بُعثتُ إلى ثَلاثَة أنا أعرف بهم من الأب بولده ومن الأخ بأخيه ، لا يُغَيّبهم عني وَزَر ، ولا تُخفِيهم عني خافية : الذي جعل مع الله إلها آخر ، وكلّ جبار عنيد ، وكلّ شيطان مريد. فتنطوي عليهم فتقذف بهم في النار قبل الحساب بأربعين سنة (5).
__________
(1) في م : "النحاس".
(2) صحيح البخاري برقم (4933).
(3) في م : "ابن".
(4) في م : "عمر".
(5) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (13/170) عن محمد بن فضيل به نحوه.

(8/300)


إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)

{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) }
يقول تعالى مخبرًا عن عباده المتقين (1) الذين عبدوه بأداء الواجبات ، وترك المحرمات : إنهم يوم القيامة يكونون في جنات وعيون ، أي : بخلاف ما أولئك الأشقياء فيه ، من ظل اليحموم ، وهو الدخان الأسود المنتن.
{ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ } أي : من سائر أنواع الثمار ، مهما طلبوا وجدوا. { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : يقال لهم ذلك على سبيل الإحسان إليهم.
ثم قال تعالى مخبرًا خبرًا مستأنفًا : { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } أي : هذا حزاؤنا لمن أحسن العمل ، { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ }
وقوله : { كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ } خطاب للمكذبين بيوم الدين ، وأمَرَهم أمر تهديد ووعيد فقال تعالى : { كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا } أي : مدة قليلة قريبة قصيرة ، { إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ } أي : ثم تساقون إلى نار جهنم التي تقدم ذكرها ، { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } كما قال تعالى : { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [لقمان : 24] وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [يونس : 69 ، 70]
وقوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ } أي : إذا أمر هؤلاء الجهلة من الكفار أن يكونوا من المصلين مع الجماعة ، امتنعوا من ذلك واستكبروا عنه ؛ ولهذا قال : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ }
ثم قال : { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } ؟ أي : إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن ، فبأي كلام يؤمنون به ؟! كقوله تعالى : { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ } [الجاثية : 6].
قال ابن أبي حاتم : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن إسماعيل بن أمية : سمعت رجلا أعرابيا بَدَويا يقول : سمعت أبا هريرة يرويه إذا قرأ : { وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا } فقرأ : { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } ؟ فليقل : آمنت بالله وبما أنزل.
وقد تقدم هذا الحديث في سورة "القيامة" (2).
آخر تفسير سورة "والمرسلات" [ولله الحمد والمنة] (3)
__________
(1) في أ : "المؤمنين".
(2) تقدم تخريج الحديث عند تفسير الآية الأخيرة من سورة القيامة من رواية الترمذي وأبي داود.
(3) زيادة من م ، أ.

(8/301)


عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)

تفسير سورة النبأ
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) }
يقول تعالى منكرًا على المشركين في تساؤلهم عن يوم القيامة إنكارًا لوقوعها : { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ } أي : عن أي شيء يتساءلون ؟ من أمر القيامة ، وهو النبأ العظيم ، يعني : الخبر الهائل المفظع الباهر.
قال قتادة ، وابن زيد : النبأ العظيم : البعث بعد الموت. وقال مجاهد : هو القرآن. والأظهر الأول لقوله : { الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } يعني : الناس فيه على قولين : مؤمن به وكافر.
ثم قال تعالى متوعدًا لمنكري القيامة : { كَلا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ } وهذا تهديدٌ شديد ووعيد أكيد.
ثم شرع وتعالى يُبَيّن قدرته العظيمة على خلق الأشياء الغريبة والأمور العجيبة ، الدالة على قدرته على ما يشاء من أمر المعاد وغيره ، فقال : { أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَادًا } ؟ أي : ممهدة للخلائق ذَلُولا لهم ، قارّةً ساكنة ثابتة ، { وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا } أي : جعلها لها أوتادًا أرساها بها وثبتها وقرّرها حتى سكنت ولم تضطرب بمن عليها.
ثم قال : { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا } يعني : ذكرًا وأنثى ، يستمتع كل منهما بالآخر ، ويحصل التناسل بذلك ، كقوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } [الروم : 21].
وقوله : { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا } أي : قطعا للحركة لتحصل الراحة من كثرة الترداد (1) والسعي
__________
(1) في أ : "الاسترداد".

(8/302)


في المعايش (1) في عرض النهار. وقد تقدم مثل هذه الآية في سورة "الفرقان" (2).
{ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا } أي : يغشى الناس ظلامه وسواده ، كما قال : { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } [الشمس : 4] وقال الشاعر (3) :
فَلَمَّا لَبِسْنَ اللَّيْلَ ، أو حِينَ نَصَّبتْ... له مِن خَذا آذانِها وَهْوَ جَانِحُ...
وقال قتادة في قوله : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا } أي : سكنًا.
وقوله : { وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا } أي : جعلناه مشرقا مُنيرًا (4) مضيئًا ، ليتمكن الناس من التصرف فيه والذهاب والمجيء للمعاش والتكسب والتجارات ، وغير ذلك.
وقوله : { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا } يعني : السموات السبع ، في اتساعها وارتفاعها وإحكامها وإتقانها ، وتزيينها بالكواكب الثوابت والسيارات ؛ ولهذا قال : { وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا } يعني : الشمس المنيرة على جميع العالم التي يتوهج ضوؤها لأهل الأرض كلهم.
وقوله : { وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا } قال العوفي ، عن ابن عباس : { الْمُعْصِرَاتِ } الريح.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا أبو داود الحَفَري (5) عن سفيان ، عن الأعمش ، عن المِنْهَال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ } قال : الرياح. وكذا قال عكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، ومقاتل ، والكلبي ، وزيد بن أسلم : وابنه عبد الرحمن : إنها الرياح. ومعنى هذا القول أنها تستدر المطر من السحاب.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { مِنَ الْمُعْصِرَاتِ } أي : من السحاب. وكذا قال عكرمة أيضا ، وأبو العالية ، والضحاك ، والحسن ، والربيع بن أنس ، والثوري. واختاره ابن جرير.
وقال الفراء : هي السحاب التي تَتَحَلَّب بالمطر ولم تُمطر بعدُ ، كما يقال امرأة معصر ، إذا دنا حيضها ولم تحض.
وعن الحسن ، وقتادة : { مِنَ الْمُعْصِرَاتِ } يعني : السموات. وهذا قول غريب.
والأظهر أن المراد بالمعصرات : السحاب ، كما قال [الله] (6) تعالى : { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ } [الروم : 48] أي : من بينه.
وقوله : { مَاءً ثَجَّاجًا } قال مجاهد ، وقتادة ، والربيع بن أنس : { ثَجَّاجًا } منصبا. وقال الثوري : متتابعًا. وقال ابن زيد : كثيرا.
__________
(1) في م : "في المعاش".
(2) عند تفسير الآية 47.
(3) هو ذو الرمة ، والبيت في تفسير الطبري (30/3).
(4) في أ : "نيرا".
(5) في أ : "الجوني".
(6) زيادة من م.

(8/303)


إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآَبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)

قال ابن جرير : ولا يعرف في كلام العرب في صفة الكثرة الثج ، وإنما الثج : الصب المتتابع. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : "أفضلُ الحجّ العجّ والثجّ". يعني : صَبّ دماء البُدْن (1). هكذا قال. قلت : وفي حديث المستحاضة حين قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنعت لك الكُرسُفَ" - يعني : أن تحتشي بالقطن - : قالت (2) : يا رسول الله ، هو أكثر من ذلك ، إنما أثج ثجًا (3). وهذا فيه دَلالة على استعمال الثَّج في الصبّ المتتابع الكثير ، والله أعلم.
وقوله : { لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا } أي : لنخرجَ بهذا الماء الكثير الطيب النافع المُبَارَك { حَبًّا } يدخر للأناسي والأنعام ، { وَنَبَاتًا} أي : خضرًا يؤكل رطبا ، { وَجَنَّاتٍ } أي : بساتين وحدائقَ من ثمرات متنوعة ، وألوان مختلفة ، وطعوم وروائح متفاوتة ، وإن كان ذهلك (4) في بقعة واحدة من الأرض مجتمعًا ؛ ولهذا قال : { وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا } قال ابن عباس ، وغيره : { أَلْفَافًا } مجتمعة. وهذه كقوله تعالى : { وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ } الآية [الرعد : 4].
{ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا (24) إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا (30) }
يقول تعالى مخبرًا عن يوم الفصل ، وهو يوم القيامة ، أنه مؤقت بأجل معدود ، لا يزاد عليه ولا ينقص منه ، ولا يعلم وقته على التعيين إلا الله عز وجل ، كما قال : { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ } [هود : 104].
{ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا } قال مجاهد : زُمَرًا (5). قال ابن جرير : يعني تأتي كل أمة مع رسولها ، كقوله : { يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } [الإسراء : 31] (6).
وقال البخاري : { يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا } حدثنا محمد ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما بين النفختين أربعون".
__________
(1) تفسير الطبري (30/5) ، وهذا الحديث جاء من حديث ابن عمر ، وأبي بكر ، وجابر ، وابن مسعود رضي الله عنهم ، وانظر تخريجها والكلام عليها في : نصب الراية للإمام الزيلعي (3/33 - 35).
(2) في أ : "فقالت".
(3) حديث المستحاضة هو حديث حمنة بنت جحش ، وقد رواه الإمام أحمد في المسند (6/439) ، وأبو داود في السنن برقم (287) ، والترمذي في السنن برقم (128).
(4) في م ، أ : "ذلك".
(5) في م : "زمرا زمرا".
(6) تفسير الطبري (30/60).

(8/304)


قالوا : أربعون يومًا ؟ قال : "أبيتُ". قالوا : أربعون شهرًا ؟ قال : "أبيت". قالوا : أربعون سنة ؟ قال : "أبيت". قال : "ثم يُنزلُ الله من السماء ماء فينبتُونَ كما ينبتُ البقلُ ، ليس من الإنسان شيءٌ إلا يَبلَى ، إلا عظمًا واحدا ، وهو عَجْبُ الذنَب ، ومنه يُرَكَّبُ الخَلْقُ يومَ القيامة" (1).
{ وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا } أي : طرقا ومسالك لنزول الملائكة ، { وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا } كقوله : { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } [النمل : 88] وكقوله : { وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ } [القارعة : 5].
وقال هاهنا : { فَكَانَتْ سَرَابًا } أي : يخيل إلى الناظر أنها شيء ، وليست بشيء ، بعد هذا تَذهب بالكلية ، فلا عين ولا أثر ، كما قال : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا } [طه : 105 - 107] وقال : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً } [الكهف : 47].
وقوله : { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا } أي : مرصدة مُعَدّة ، { للِطَّاغِينَ } وهم : المَرَدة العصاة المخالفون للرسل ، { مَآبًا } أي : مرجعا ومنقلبا ومصيرا ونزلا. وقال الحسن ، وقتادة في قوله : { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا } يعني : أنه لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز بالنار ، فإن كان معه جواز نجا ، وإلا احتبس. وقال سفيان الثوري : عليها ثلاث قناطر.
وقوله : { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } أي : ماكثين فيها أحقابا ، وهي جمع "حقُب" ، وهو : المدة من الزمان. وقد اختلفوا في مقداره. فقال ابن جرير ، عن ابن حميد ، عن مِهْران ، عن سفيان الثوري ، عن عَمَّار الدّهنِي ، عن سالم بن أبي الجعد قال : قال علي بن أبي طالب لهلال الهَجَري : ما تجدونَ الحُقْبَ في كتاب الله المنزل ؟ قال : نجده ثمانين سنة ، كل سنة اثنا عشر شهرا ، كل شهر ثلاثون يوما كل يوم ألف سنة (2).
وهكذا رُويَ عن أبي هُرَيرة ، وعبد الله بن عَمرو ، وابن عباس ، وسعيد بن جُبَير ، وعَمرو بن ميمون ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، والضحاك. وعن الحسن والسّدي أيضا : سبعون سنة كذلك. وعن عبد الله بن عمرو : الحُقبُ أربعون سنة ، كل يوم منها كألف سنة مما تعدون. رواهما ابن أبي حاتم.
وقال بُشَير (3) بن كعب : ذُكِر لي أن الحُقب الواحد ثلاثمائة سنة ، كل سنة ثلاثمائة وستون يومًا (4) ، كل يوم منها كألف سنة. رواه ابن جرير (5) ، وابن أبي حاتم.
ثم قال ابن أبي حاتم : ذكر عن عُمَر بن علي بن أبي بكر الأسْفَذْنيّ (6) : حدثنا مروان بن معاوية الفَزَاري ، عن جعفر بن الزبير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا }
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4935).
(2) تفسير الطبري (30/8).
(3) في أ : "وقال بشر".
(4) في م : "كل سنة اثنا عشر شهرا ، كل سنة ثلاثمائة وستون يوما".
(5) تفسير الطبري (30/8).
(6) في أ : "الأسعدي".

(8/305)


قال : فالحقب [ألف] (1) شهر ، الشهر ثلاثون يوما ، والسنة اثنا عشر شهرا ، والسنة ثلاثمائة وستون يوما ، كل يوم منها ألف سنة مما تعدون ، فالحقب ثلاثون ألف ألف سنة (2). وهذا حديثٌ منكر جدًا ، والقاسم هو والراوي عنه وهو جعفر بن الزبير كلاهما متروك.
وقال البزار : حدثنا محمد بن مِرْدَاس ، حدثنا سليمان بن مسلم أبو المُعَلَّى قال : سألت سليمان التيمي : هل يخرج من النار أحد ؟ فقال حدثني نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "والله لا يخرج من النار أحد حتى يمكث فيها أحقابا". قال : والحُقْب : بضع وثمانون سنة ، والسنة ثلاثمائة وستون يوما مما تعدون (3).
ثم قال : سليمان بن مسلم بصري مشهور.
وقال السّدي : { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } سبعمائة حُقب ، كل حقب سبعون سنة ، كل سنة ثلاثمائة وستون يومًا ، كل يوم كألف سنة مما تعدون.
وقد قال مقاتل بن حَيّان : إن هذه الآية منسوخة بقوله : { فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا }
وقال خالد بن مَعْدان : هذه الآية وقوله : { إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ } [هود : 107] في أهل التوحيد. رواهما ابن جرير.
ثم قال : ويحتمل أن يكون قوله : { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } متعلقًا بقوله : { لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا } ثم يحدث الله لهم بعد ذلك عذابا من شكل آخر ونوع آخر. ثم قال : والصحيح أنها لا انقضاء لها ، كما قال قتادة والربيع بن أنس. وقد قال قبل ذلك.
حدثني محمد بن عبد الرحيم البَرْقِي ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن زهير ، عن سالم : سمعت الحسن يسأل عن قوله : { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } قال : أما الأحقاب فليس لها عِدّة إلا الخلود في النار ، ولكن ذكروا أن الحُقبَ سبعون سنة ، كل يوم منها كألف سنة مما تعدون.
وقال سعيد ، عن قتادة : قال الله تعالى : { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } وهو : ما لا انقطاع له ، كلما مضى حُقب جاء حقب بعده ، وذكر لنا أن الحُقْب ثمانون سنة.
وقال الربيع بن أنس : { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } لا يعلم عدة هذه الأحقاب إلا الله ، ولكن الحُقْب الواحد ثمانون سنة ، والسنة ثلاثمائة وستون يوما ، كل يوم كألف سنة مما تعدون. رواهما أيضا ابن جرير (4).
__________
(1) زيادة من إتحاف للبوصيري.
(2) ورواه ابن أبي عم العدني في مسنده كما في إتحاف المهرة للبوصيري (ق 218 سليمانية) عن مروان ، عن جعفر بن الزبير بنحوه ، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/292) من طريق يعقوب بن كعب ، عن مروان ، عن جعفر ، عن القاسم ، عن أبي أمامة مرفوعا : "الحقب الواحد : ثلاثون ألف سنة".
(3) مسند البزار برقم (2249) "كشف الأستار" ورواه الديلمي في مسند الفردوس برقم (7029) من طريق زياد بن أبي زيد ، عن سليمان بن مسلم به نحوه ، وقال الهيثمي في المجمع (10/395) : "فيه سليمان بن مسلم الخشاب ، وهو ضعيف جدًا".
(4) تفسير الطبري (30/9).

(8/306)


وقوله : { لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا } أي : لا يجدون في جَهنَّم بردًا لقلوبهم ، ولا شرابا طيبا يتغذون به. ولهذا قال : { إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا } قال أبو العالية : استثنى من البرد الحميم ومن الشراب الغساق. وكذا قال الربيع بن أنس. فأما الحميم : فهو الحار الذي قد انتهى حره وحُموه. والغَسَّاق : هو ما اجتمع من صديد أهل النار وعرقهم ودموعهم وجروحهم ، فهو بارد لا يستطاع من برده ، ولا يواجه من نتنه. وقد قدمنا الكلام على الغساق في سورة "ص" (1) بما أغنى عن إعادته ، أجارنا الله من ذلك ، بمنه وكرمه.
قال ابن جرير : وقيل : المراد بقوله : { لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا } يعني : النوم ، كما قال الكندي :
بَرَدت مَرَاشفها عَلَيّ فصدّني... عنها وَعَنْ قُبُلاتها ، البَرْدُ...
يعني بالبرد : النعاس والنوم (2) هكذا ذكره ولم يَعزُه إلى أحد. وقد رواه ابن أبي حاتم ، من طريق السدي ، عن مرة الطيب. ونقله عن مجاهد أيضا. وحكاه البغوي عن أبي عُبَيدة ، والكسائي أيضا.
وقوله : { جَزَاءً وِفَاقًا } أي : هذا الذي صاروا إليه من هذه العقوبة وَفق أعمالهم الفاسدة التي كانوا يعملونها في الدنيا. قاله مجاهد ، وقتادة ، وغير واحد.
ثم قال : { إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا } أي : لم يكونوا يعتقدون أن ثم دارًا يجازون فيها ويحاسبون ، { وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا } أي : وكانوا يكذبون بحجج الله ودلائله على خلقه التي أنزلها على رسله ، فيقابلونها بالتكذيب والمعاندة.
وقوله : { كِذَّابًا } أي : تكذيبا ، وهو مصدر من غير الفعل. قالوا : وقد سُمع أعرابي يستفتي الفَرّاءَ على المروة : الحلقُ أحبّ إليك أو القِصار ؟ وأنشد بعضهم (3) :
لَقَد طالَ ما ثَبَّطتنِي عَن صَحَابَتِي... وعن حوج قضاؤها مِن شفَائيا...
وقوله : { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا } أي : وقد عَلِمنا أعمالَ العباد كلهم ، وكتبناهم عليهم ، وسنجزيهم على ذلك ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر.
وقوله : { فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا } أي : يقال لأهل النار : ذوقوا ما أنتم فيه ، فلن نزيدكم إلا عذابًا من جنسهِ ، { وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } [ص : 58].
قال قتادة : عن أبي أيوب الأزدي ، عن عبد الله بن عمرو قال : لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه : { فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا } قال : فهم في مزيد من العذاب أبدا.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن محمد بن مصعب الصوري ، حدثنا خالد بن عبد
__________
(1) انظر تفسير الآية : 57 من سورة "ص".
(2) تفسير الطبري (30/9).
(3) البيت في تفسير الطبري (30/11).

(8/307)


الرحمن ، حدثنا جَسر (1) بن فَرقد ، عن الحسن قال : سألت أبا برزة الأسلمي عن أشد آية في كتاب الله على أهل النار. قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : { فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا } فقال : "هلك القوم بمعاصيهم الله عَزّ وجل" (2).
جسرُ (3) بن فَرقد : ضعيف الحديث بالكلية.
__________
(1) في أ : "حدثنا".
(2) ورواه البيهقي في البعث برقم (635) من طريق محمد بن غالب ، عن مسلم بن إبراهيم ، عن جسر بن فرقد به ، فذكره موقوفا ، ورواه ابن مردويه في تفسيره كما في تخريج الكشاف للزيلعي (4/145) من طريق جعفر بن جسر بن فرقد ، عن أبيه ، عن الحسن به ، ورواه الثعلبي في تفسيره كما في تخريج الكشاف للزيلعي (4/145) من طريق مهدى بن ميمون ، عن الحسن بن دينار ، عن الحسن ، عن أبي برزة مرفوعًا بنحوه.
(3) في أ : "حسن".

(8/308)


إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)

{ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) }
يقول تعالى مخبرًا عن السعداء وما أعد لهم تعالى من الكرامة والنعيم المقيم ، فقال : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا } قال ابن عباس والضحاك : متنزها. وقال مجاهد ، وقتادة : فازوا ، فنجوا من النار. الأظهر هاهنا قولُ بن عباس ؛ لأنه قال بعده : { حَدَائِقَ } وهي البساتين من النخيل وغيرها { وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا } أي : وحورًا كواعب. قال ابن عباس ومجاهد ، وغير واحد : { كواعب } أي : نواهد ، يعنون أن ثُدُيَّهن نواهد لم يتدلين لأنهن أبكار عُرُب أتراب ، أي : في سن واحدة ، كما تقدم بيانه في سورة "الواقعة".
قال ابن أبي حاتم : حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرحمن الدّشتكيّ ، حدثني أبي ، عن أبي سفيان عبد الرحمن بن عبد رب بن تيم اليشكرى ، حدثنا عطية بن سليمان أبو الغيث ، عن أبي عبد الرحمن القاسم بن أبي القاسم الدمشقي ، عن أبي أمامة : أنه سمعه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن قُمُص أهل الجنة لتبدو من رضوان الله ، وإن السحابة لتمر بهم فتناديهم : يا أهل الجنة ، ماذا تريدون أن أمطركم ؟ حتى إنها لتمطرهم الكواعب الأتراب" (1)
وقوله : { وَكَأْسًا دِهَاقًا } قال ابن عباس : مملوءة متتابعة. وقال عكرمة : صافية. وقال مجاهد ، والحسن وقتادة ، وابن زيد : { دهاقا } الملأى المترعة. وقال مجاهد (2) وسعيد بن جبير : هي المتتابعة.
وقوله : { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا } كقوله : { لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ } [الطور : 23] أي : ليس فيها كلام لاغٍ عَارٍ عن الفائدة ، ولا إثم كذب ، بل هي دار السلام ، وكل ما فيها سالم من النقص.
__________
(1) ورواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان (1/195) من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد ، عن أبي سفيان - عبد الرحمن بن عبد رب بن تيم اليشكرى به.
(2) في م : "وقال قتادة".

(8/308)


رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)

وقوله : { جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا } أي : هذا الذي ذكرناه جازاهم الله به وأعطاهموه ، بفضله ومَنِّه وإحسانه ورحمته ؛ { عَطَاءً حِسَابًا } أي : كافيًا وافرًا شاملا كثيرًا ؛ تقول العرب : "أعطاني فأحسبني" أي : كفاني. ومنه "حسبي الله" ، أي : الله كافيّ.
{ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40) }
يخبر تعالى عن عظمته وجلاله ، وأنه رب السموات والأرض وما فيهما وما بينهما ، وأنه الرحمن الذي شملت رحمته كل شيء.
وقوله : { لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا } أي : لا يقدر أحد على ابتداء مخاطبته إلا بإذنه ، كقوله : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } [البقرة : 255] ، وكقوله : { يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ } [هود : 105]
وقوله : { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ } اختلف المفسرون في المراد بالروح هاهنا ، ما هو ؟ على أقوال :
أحدها : رواه العوفي ، عن ابن عباس : أنهم أرواح بني آدم.
الثاني : هم بنو آدم. قاله الحسن ، وقتادة ، وقال قتادة : هذا (1) مما كان ابن عباس يكتمه.
الثالث : أنهم خَلق من خلق الله ، على صُور بني آدم ، وليسوا بملائكة ولا ببشر ، وهم يأكلون ويشربون. قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو صالح والأعمش.
الرابع : هو جبريل. قاله الشعبي ، وسعيد بن جبير ، والضحاك. ويستشهد لهذا القول بقوله : { نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } [الشعراء : 193 ، 194] وقال مقاتل بن حيان : الروح : أشرف الملائكة ، وأقرب إلى الرب عز وجل ، وصاحب الوحي.
والخامس : أنه القرآن. قاله ابن زيد ، كقوله : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } الآية [الشورى : 52].
والسادس : أنه ملك من الملائكة بقدر جميع المخلوقات ؛ قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : قوله : { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ } قال : هو ملك عظيم من أعظم الملائكة خلقًا.
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن خلف العسقلاني ، حدثنا رَواد (2) بن الجراح ، عن أبي
__________
(1) في م : "وهذا".
(2) في أ : "حدثنا داود".

(8/309)


حمزة ، عن الشعبي ، عن علقمة ، عن ابن مسعود قال : الروح : في السماء الرابعة هو أعظم من السموات ومن الجبال ومن الملائكة ، يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة ، يخلق الله من كل تسبيحة مَلَكًا من الملائكة يجيء يوم القيامة صفًا وحده (1) ، وهذا قول غريب جدًا.
وقد قال الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله بن عرْس المصري ، حدثنا وهب [الله بن رزق أبو هريرة ، حدثنا بشر بن بكر] (2) ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني عطاء ، عن عبد الله بن عباس : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن لله ملكا لو قيل له : التقم السماوات السبع والأرضين بلقمة واحدة ، لفعل ، تسبيحه : سبحانك حيث كنت" (3).
وهذا حديث غريب جدًا ، وفي رفعه نظر ، وقد يكون موقوفًا على ابن عباس ، ويكون مما تلقاه من الإسرائيليات ، والله أعلم.
وتَوَقَّفَ ابنُ جرير فلم يقطَع بواحد من هذه الأقوال كلها ، والأشبه - والله أعلم - أنهم بنو آدم.
وقوله : { إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ } كقوله : { لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ } [هود : 105]. وكما ثبت في الصحيح : "ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل".
وقوله { وَقَالَ صَوَابًا } أي : حقا ، ومن الحق : "لا إله إلا الله" ، كما قاله أبو صالح ، وعكرمة.
وقوله : { ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ } أي : الكائن لا محالة ، { فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا } (4) أي : مرجعا وطريقا يهتدي إليه ومنهجا يمر به عليه.
وقوله : { إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا } يعني : يوم القيامة لتأكد وقوعه صار قريبا ، لأن كل ما هو آت آت.
{ يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } أي : يعرض عليه جميع أعماله ، خيرها وشرها ، قديمها وحديثها ، كقوله : { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا } [الكهف : 49] ، وكقوله : { يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [القيامة : 13].
{ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا } أي : يود الكافر يومئذ أنه كان في الدار الدنيا ترابا ، ولم يكن خُلِقَ ، ولا خرج إلى الوجود. وذلك حين عاين عذاب الله ، ونظر إلى أعماله الفاسدة قد سُطَّرت عليه بأيدي الملائكة السَّفَرة الكرام البَرَرة ، وقيل : إنما يود ذلك حين يحكم الله بين
__________
(1) تفسير الطبري (30/15).
(2) زيادة من م ، أ.
(3) المعجم الكبير (11/95) ، والمعجم الأوسط برقم (66) "مجمع البحرين" ، وقال في الأوسط : "لم يروه عن الأوزاعى إلا بشر ، تفرد به وهب" ، ووهب لم أر من ترجم له.
(4) في م : "سبيلا" وهو خطأ.

(8/310)


الحيوانات التي كانت في الدنيا ، فيفصل بينها بحكمه العدل الذي لا يجور ، حتى إنه ليقتص للشاة الجمَّاء من القرناء. فإذا فرغ من الحكم بينها قال لها : كوني ترابا ، فتصير ترابا. فعند ذلك يقول الكافر : { يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا } أي : كنت حيوانا فأرجع إلى التراب. وقد ورد معنى هذا في حديث الصّور المشهور (1) وورد فيه آثار عن أبي هُرَيرة ، وعبد الله بن عمرو ، وغيرهما.
[آخر تفسير سورة "عم" (2) ] (3)
__________
(1) حديث الصور تقدم بطوله عند تفسير الآية : 73 من سورة "الأنعام".
(2) في م : "النبأ".
(3) زيادة من م ، أ.

(8/311)


وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)

تفسير سورة النازعات
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) }
قال ابن مسعود وابن عباس ، ومسروق ، وسعيد بن جبير ، وأبو صالح ، وأبو الضحى ، والسُّدي : { وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا } الملائكة ، يعنون حين تنزع أرواح بني آدم ، فمنهم من تأخذ روحه بعُنف فَتُغرق في نزعها ، و[منهم] (1) من تأخذ روحه بسهولة وكأنما حَلَّته من نشاط ، وهو قوله : { وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا } قاله ابن عباس.
وعن ابن عباس : { والنازعات } هي أنفس الكفار ، تُنزع ثم تُنشَط ، ثم تغرق في النار. رواه ابن أبي حاتم.
وقال مجاهد : { وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا } الموت.وقال الحسن ، وقتادة : { وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا } هي النجوم.
وقال عَطَاءُ بنُ أبي رَباح في قوله : { والنازعات } و { الناشطات } هي القسيّ في القتال. والصحيح الأول ، وعليه الأكثرون.
وأما قوله : { وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا } فقال ابن مسعود : هي الملائكة. ورُوي عن علي ، ومجاهد ، وسعيد بن جُبَير ، وأبي صالح مثلُ ذلك.
وعن مجاهد : { وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا } الموت.وقال قتادة : هي النجوم. وقال عطاء بن أبي رباح : هي السفن.
وقوله : { فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا } رُوي عن علي ، ومسروق ، ومجاهد ، وأبي صالح ، والحسن البصري : يعني الملائكة ؛ قال الحسن : سبقت إلى الإيمان والتصديق به. وعن مجاهد : الموت. وقال قتادة : هي النجوم وقال عطاء : هي الخيل في سبيل الله.
__________
(1) زيادة من م.

(8/312)


وقوله : { فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا } قال علي ، ومجاهد ، وعطاء ، وأبو صالح ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، والسدي : هي الملائكة - زاد الحسن : تدبر الأمر من السماء إلى الأرض. يعني : بأمر ربها عز وجل. ولم يختلفوا في هذا ، ولم يقطع ابن جرير بالمراد في شيء من ذلك ، إلا أنه حكى في { فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا } أنها الملائكة ، ولا أثبت ولا نفى.
وقوله : { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ } قال ابن عباس هما النفختان الأولى والثانية. وهكذا قال مجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وغير واحد.
وعن مجاهد : أما الأولى - وهي قوله : { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ } - فكقوله جلت عظمته : { يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ } [المزمل : 14] ، والثانية - وهي الرادفة - فهي كقوله : { وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } [الحاقة : 14].
وقد قال الإمام أحمد حدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الطفيل بن أبي بن كعب ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "جاءت الراجفة ، تتبعها الرادفة ، جاء الموت بما فيه". فقال رجل : يا رسول الله ، أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك ؟ قال : "إذًا يكفيك الله ما أهَمَّك من دنياك وآخرتك".
وقد رواه الترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من حديث سفيان الثوري ، بإسناده مثله (1) ولفظ الترمذي وابن أبي حاتم : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلث الليل قام فقال : " يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه".
وقوله : { قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } قال ابن عباس : يعني خائفة. وكذا قال مجاهد ، وقتادة.
{ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ } أي : أبصار أصحابها. وإنما أضيف إليها ؛ للملابسة ، أي : ذليلة حقيرة ؛ مما عاينت من الأهوال.
وقوله : { يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ } ؟ يعني : مشركي قريش ومن قال بقولهم في إنكار المعاد ، يستبعدون وقوعَ البعث بعد المصير إلى الحافرة ، وهي القبور ، قاله مجاهد. وبعد تمزق أجسادهم وتفتت عظامهم ونخورها ؛ ولهذا قالوا : { أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً } ؟ وقرئ : "ناخرة".
وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : أي بالية. قال ابن عباس : وهو العظم إذا بلي ودَخَلت
الريح فيه. { قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ }
وعن ابن عباس ، ومحمد بن كعب ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وأبي مالك ، والسدي ، وقتادة : الحافرة : الحياة بعد الموت. وقال ابن زيد : الحافرة : النار. وما أكثر أسمائها! هي النار ، والجحيم ، وسقر ، وجهنم ، والهاوية ، والحافرة ، ولظى ، والحُطَمة.
وأما قولهم : { تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ } فقال محمد بن كعب : قالت قريش : لئن أحيانا الله بعد أن نموت لنخسرن.
__________
(1) المسند (5/136) ، وسنن الترمذي برقم (2457) ، وتفسير الطبري (30/21).

(8/313)


هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15)

قال الله تعالى : { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } أي : فإنما هو أمر من الله لا مثنوية فيه ولا تأكيد ، فإذا الناس قيام ينظرون ، وهو أن يأمر تعالى إسرافيلَ فينفخ في الصور نفخَة البعث ، فإذا الأولون والآخرون قيامٌ بين يَدَي الربّ عز وجل ينظرون ، كما قال : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا } [الإسراء : 52] وقال تعالى : { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [القمر : 50] وقال تعالى : { وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [النحل : 77].
قال مجاهد : { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ } صيحة واحدة.
وقال إبراهيم التيمي : أشد ما يكون الرب غَضَبًا على خلقه يوم يبعثهم.
وقال الحسن البصري : زجرة من الغضب. وقال أبو مالك ، والربيع بن أنس : زجرة واحدة : هي النفخة الآخرة.
وقوله : { فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } قال ابن عباس : { بِالسَّاهِرَة } الأرض كلها. وكذا قال سعيد بن جُبَير ، وقتادة ، وأبو صالح.
وقال عكرمة ، والحسن ، والضحاك ، وابن زيد : { بِالسَّاهِرَة } وجه الأرض.
وقال مجاهد : كانوا بأسفلها فأخرجوا إلى أعلاها. قال : و { بِالسَّاهِرَة } المكان المستوي.
وقال الثوري : { بِالسَّاهِرَة } أرض الشام ، وقال عثمان بن أبي العاتكة : { بِالسَّاهِرَة } أرض بيت المقدس. وقال وهب بن مُنَبه : { الساهرة } جبل إلى جانب بيت المقدس. وقال قتادة أيضا : { بِالسَّاهِرَة } جهنم.
وهذه أقوال كلها غريبة ، والصحيح أنها الأرض وجهها الأعلى.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا خَزَر بن المبارك الشيخ الصالح ، حدثنا بشر بن السري ، حدثنا مصعب بن ثابت ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد الساعدي : { فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } قال : أرض بيضاء عفراء خالية كالخُبزَة النَّقِيّ.
وقال الربيع بن أنس : { فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } ويقول الله عز وجل : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [إبراهيم : 48] ، ويقول : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا } [طه : 105 ، 106]. وقال : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً } [الكهف : 47] : وبرزت الأرض التي عليها الجبال ، وهي لا تعد من هذه الأرض ، وهي أرض لم يعمل عليها خطيئة ، ولم يَهرَاق عليها دم.
{ هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) }

(8/314)


إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)

{ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) }

(8/314)


يخبر تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم عن عبده ورسوله موسى ، عليه السلام ، أنه ابتعثه إلى فرعون ، وأيده بالمعجزات ، ومع هذا استمر على كفره وطغيانه ، حتى أخذه الله أخذ عزيز مقتدر. وكذلك عاقبة من خالفك وكذب بما جئت به ؛ ولهذا قال في آخر القصة : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى }
فقوله : { هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } ؟ أي : هل سمعت بخبره ؟ { إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ } أي : كلمه نداء ، { بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ } أي : المطهر ، { طُوًى } وهو اسم الوادي على الصحيح ، كما تقدم في سورة طه. فقال له : { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } أي : تجبر وتمرد وعتا ، { فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى } ؟ أي : قل له هل لك أن تجيب إلى طريقة ومسلك تَزكَّى به ، أي : تسلم وتطيع. { وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ } أي : أدلك إلى عبادة ربك ، { فَتَخْشَى } أي : فيصير قلبك خاضعا له مطيعا خاشيا بعدما كان قاسيا خبيثا بعيدا من الخير. { فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى } يعني : فأظهر له موسى مع هذه الدعوة الحق حجة قويةً ، ودليلا واضحا على صدق ما جاءه به من عند الله ، { فَكَذَّبَ وَعَصَى } أي : فكذب بالحق وخالف ما أمره به من الطاعة. وحاصلُه أنه كَفَر قلبُه فلم ينفعل (1) لموسى بباطنه ولا بظاهره ، وعلمُهُ بأن ما جاء به أنه حق لا يلزم منه أنه مؤمن به ؛ لأن المعرفة علمُ القلب ، والإيمان عمله ، وهو الانقياد للحق والخضوع له.
وقوله : { ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى } أي : في مقابلة الحق بالباطل ، وهو جَمعُهُ السحرة ليقابلوا ما جاء به موسى ، عليه السلام ، من المعجزة الباهرة ، { فَحَشَرَ فَنَادَى } أي : في قومه ، { فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى }
قال ابن عباس ومجاهد : وهذه الكلمة قالها فرعون بعد قوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } [القصص : 38] بأربعين سنة.
قال الله تعالى : { فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى } أي : انتقم الله منه انتقاما جعله به عبرة ونكالا لأمثاله من المتمردين في الدنيا ، { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ } [هود : 99] ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ } [القصص : 41]. هذا هو الصحيح في معنى الآية ، أن المراد بقوله : { نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى } أي : الدنيا والآخرة ، وقيل : المراد بذلك كلمتاه الأولى والثانية. وقيل : كفره وعصيانه. والصحيح الذي لا شك فيه الأول.
وقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى } أي : لمن يتعظ وينزجر.
__________
(1) في أ : "فلم يفعل".

(8/315)


أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)

{ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ (33) }
يقول تعالى محتجًا على منكري البعث في إعادة الخلق بعد بدئه : { أَأَنْتُمْ } أيها الناس { أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ } ؟ يعني : بل السماءُ أشدّ خلقًا منكم ، كما قال تعالى : { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [غافر : 57] ، وقال : { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ (1) } [يس : 81] ، فقوله : { بَنَاهَا } فسره بقوله : { رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا } أي : جعلها عالية البناء ، بعيدة الفناء ، مستوية الأرجاء ، مكللة بالكواكب في الليلة الظلماء.
وقوله : { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا } أي : جعل ليلها مظلمًا أسود حالكا ، ونهارها مضيئا مشرقا نيرا واضحا.
قال ابن عباس : أغطش ليلها : أظلمه. وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وجماعة كثيرون.
{ وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا } أي : أنار نهارها.
وقوله : { وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } فسره بقوله : { أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا } وقد تقدم في سورة "حم السجدة" (2) أن الأرض خلقت قبل السماء ، ولكن إنما دُحيت بعد خلق السماء ، بمعنى أنه أخرج ما كان فيها بالقوة إلى الفعل. وهذا معنى قول ابن عباس ، وغير واحد ، واختاره ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي ، حدثنا عبيد الله - يعني ابن عمرو - عن زيد بن أبي أنيسة ، عن المِنْهال بن عَمْرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { دَحَاهَا } وَدَحْيها أن أخرج منها الماء والمرعى ، وشقق [فيها] (3) الأنهار ، وجعل فيها الجبال والرمال والسبل والآكام ، فذلك قوله : { وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } وقد تقدم تقرير ذلك هنالك.
وقوله : { وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } أي : قررها وأثبتها وأكَّدها في أماكنها ، وهو الحكيم العليم ، الرءوف بخلقه الرحيم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا العوام بن حَوشب ، عن سليمان بن أبي سليمان ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لما خلق الله الأرض جعلت تَمِيد ، فخلق الجبال فألقاها عليها ، فاستقرت فتعجبت الملائكةُ من خلق الجبال فقالت : يا رب ، فهل من
__________
(1) في م ، أ : "بلى إنه على كل شيء قدير" وهو خطأ.
(2) عند تفسير الآية : 9.
(3) زيادة من أ.

(8/316)


فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)

خلقك شيء أشد من الجبال ؟ قال نعم ، الحديد. قالت : يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من الحديد ؟ قال : نعم ، النار. قالت : يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من النار ؟ قال : نعم ، الماء. قالت : يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من الماء ؟ قال : نعم ، الريح. قالت : يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الريح ؟ قال : نعم ، ابن آدم ، يتصدق بيمينه يخفيها من (1) شماله" (2).
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابنُ حميد ، حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن أبي عبد الرحمن السّلميّ ، عن علي قال : لما خلق الله الأرض قمصت وقالت : تخلق عَلَيّ آدم وذريته ، يلقون علي نتنهم ويعملون عَلَيّ بالخطايا ، فأرساها الله بالجبال ، فمنها ما ترون ، ومنها ما لا ترون ، وكان أول قَرَار الأرض كلحم الجزور إذا نحِر ، يختلج لحمه. غريب (3).
وقوله { مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ } أي : دحا الأرض فأنبع عيونها ، وأظهر مكنونها ، وأجرى أنهارها ، وأنبت زروعها وأشجارها وثمارها ، وثبت جبالها ، لتستقر بأهلها ويقر قرارها ، كل ذلك متاعا لخلقه ولما يحتاجون إليه من الأنعام التي يأكلونها ويركبونها مدة احتياجهم إليها في هذه الدار إلى أن ينتهي الأمد ، وينقضي الأجل.
{ فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) }
يقول تعالى : { فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى } وهو يوم القيامة. قاله ابن عباس ، سميت بذلك لأنها تَطُم على كل أمر هائل مفظع ، كما قال تعالى : { وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } [القمر : 46].
{ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ مَا سَعَى } أي : حينئذ يتذكرُ ابنُ آدم جميع عمله خيره وشره ، كما قال : { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى } [الفجر : 23].
{ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى } أي : أظهرت للناظرين فرآها الناس عيانا ، { فَأَمَّا مَنْ طَغَى } أي : تَمَرّد وعتا ، { وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي : قدمها على أمر دينه وأخراه ، { فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى } أي : فإن مصيرَه إلى الجحيم وإن مطعمه من الزقوم ، ومشربه من الحميم. { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى }
__________
(1) في أ : "عن".
(2) المسند (3/124) ، ورواه الترمذي في السنن برقم (3369) عن محمد بن بشار ، عن يزيد بن هارون به ، وقال الترمذي : "هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه".
(3) تفسير الطبري (30/30).

(8/317)


أي : خاف القيام بين يدي الله عز وجل ، وخاف حُكْمَ الله فيه ، ونهى نفسه عن هواها ، ورَدها إلى طاعة مولاها { فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } أي : منقلبه ومصيره ومرجعه إلى الجنة الفيحاء.
ثم قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا } أي : ليس علمها إليك ولا إلى أحد من الخلق ، بل مَردها ومَرجعها إلى الله عز وجل ، فهو الذي يعلم وقتها على التعيين ، { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ } [الأعراف : 187] ، وقال هاهنا : { إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا } ولهذا (1) لما سأل جبريلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة قال : "ما المسئول عنها بأعلم من السائل". (2).
وقوله { إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا } أي : إنما بعثتك لتنذر الناس وتحذرهم من بأس الله وعذابه (3) ، فمن خشي الله وخاف مقامه (4) ووعيده ، اتبعك فأفلح وأنجح ، والخيبة والخسار على من كذبك وخالفك.
وقوله : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } أي : إذا قاموا من قبورهم إلى المحشر يستقصرون مُدّة الحياة الدنيا ، حتى كأنها عندهم كانت عشية من يوم أو ضُحى من يوم.
قال جُويْبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } أما عَشِيَّة : فما بين الظهر إلى غروب الشمس ، { أَوْ ضُحَاهَا } ما بين طلوع الشمس إلى نصف النهار.
وقال قتادة : وقت الدنيا في أعين القوم حين عاينوا الآخرة.
[آخر تفسير سورة "النازعات"] (5) [ولله الحمد والمنة] (6)
__________
(1) في م : "وهذا".
(2) هذا جزء من حديث جبريل الطويل وهو في صحيح مسلم برقم (8).
(3) في م : "وعقابه".
(4) في م : "وخاف عقابه"
(5) زيادة من م ، أ.
(6) زيادة من م.

(8/318)


عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)

تفسير سورة عبس
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) }
ذكر غيرُ واحد من المفسرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوما يخاطبُ بعض عظماء قريش ، وقد طَمع في إسلامه ، فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابنُ أم مكتوم - وكان ممن أسلم قديما - فجعل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ويلح عليه ، وودَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن لو كف ساعته تلك ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل ؛ طمعا ورغبة في هدايته. وعَبَس في وجه ابن أم مكتوم وأعرض عنه ، وأقبل على الآخر ، فأنزل الله عز وجل : (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ) ؟ أي : يحصل له زكاة وطهارة في نفسه. (أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ) أي : يحصل له اتعاظ وانزجار عن المحارم ، (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ) أي : أما الغني فأنت تتعرض له لعله يهتدي ، (وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى ) ؟ أي : ما أنت بمطالب به إذا لم يحصل له زكاة. (وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى ) أي : يقصدك ويؤمك ليهتدى بما تقول له ، (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) أي : تتشاغل. ومن هاهنا أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يخص بالإنذار أحدًا ، بل يساوى فيه بين الشريف والضعيف ، والفقير والغني ، والسادة والعبيد ، والرجال والنساء ، والصغار والكبار. ثم الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة.
قال الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثنا محمد - هو ابن مهدي - حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة [عن أنس] (1) في قوله : (عَبَسَ وَتَوَلَّى ) جاء ابن أم مكتوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكلم أبي بن خلف ، فأعرض عنه ، فأنزل الله : (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى ) فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه.
قال قتادة : وأخبرني أنس بن مالك قال : رأيته يوم القادسية وعليه درع ومعه راية سوداء -
__________
(1) تنبيه : ما بين المعقوفين ليس في أصل مسند أبي يعلى وتفسير عبد الرزاق. وهل من النسخ ، وأظنه مقحما. والله أعلم.

(8/319)


يعني ابن أم مكتوم (1).
وقال أبو يعلى وابن جرير : حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، حدثني أبي ، عن هشام بن عروة مما عرضه عليه عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : أنزلت : (عَبَسَ وَتَوَلَّى ) في ابن أم مكتوم الأعمى ، أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول : أرشدني. قالت : وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظماء المشركين. قالت : فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يُعرض عنه ويقبل على الآخر ، ويقول : "أترى بما أقول بأسا ؟". فيقول : لا. ففي هذا أنزلت : (عَبَسَ وَتَوَلَّى ) (2).
وقد روى الترمذي هذا الحديث ، عن سعيد بن يحيى الأموي ، بإسناده ، مثله ، ثم قال : وقد رواه بعضهم عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : أنزلَت (عَبَسَ وَتَوَلَّى ) في ابن أم مكتوم ، ولم يذكر فيه عن عائشة (3).
قلت : كذلك هو في الموطأ (4).
ثم روى ابن جرير وابن أبي حاتم أيضا من طريق العوفي ، عن ابن عباس قوله : (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى ) قال : بينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يناجي عتبةَ بن ربيعة ، وأبا جهل بنَ هشام ، والعباس بن عبد المطلب - وكان يتصدى لهم كثيرا ، ويحرص (5) عليهم أن يؤمنوا - فأقبل إليه رجل أعمى - يقال له عبد الله بن أم مكتوم - يمشي وهو يناجيهم ، فجعل عبد الله يستقرئ النبي صلى الله عليه وسلم آية من القرآن ، وقال : يا رسول الله ، علمنى مما علمك الله. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعبس في وجهه ، وتولى وكَرهَ كَلامَه ، وأقبل على الآخرين ، فلما قضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نجواه ، وأخذ ينقلب إلى أهله ، أمسك الله بعض بصره ، ثم خَفَق برأسه ، ثم أنزل الله : (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ) فلما نزل فيه ما نزل ، أكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه وقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "ما حاجتك ؟ هل تريد من شيء ؟ " وإذا ذهب من عنده قال : "هل لك حاجة في شيء ؟ ". وذلك لما أنزل الله تعالى : (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى ) (6).
فيه غرابة ونكارة ، وقد تُكُلّم في إسناده.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرّمادي ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا الليث ، حدثنا يونس ، عن ابن شهاب قال : قال سالم بن عبد الله ، عن عبد الله بن عمر :
__________
(1) مسند أبي يعلى (5/431) ، وتفسير عبد الرزاق (2/282).
(2) مسند أبي يعلى (8/261) ، وتفسير الطبري (30/32).
(3) سنن الترمذي برقم (3328).
(4) الموطأ (1/203)
(5) في أ : "ويجعل".
(6) تفسير الطبري (30/32) ، ووجه غرابته ما نقله السهيلي في الروض الأنف عن شيخه ابن العربي قال : "قول المفسرين في الذي شغل النبي صلى الله عليه وسلم أنه الوليد بن المغيرة ، وأمية بن خلف ، والعباس كله باطل ، فإن أمية والوليد كانا بمكة ، وابن أم مكتوم كان بالمدينة ما حضر معهما ، ولا حضرا معه وماتا كافرين ، أحدهما قبل الهجرة والآخر في بدر ، ولم يقصد أمية المدينة قط ، ولا حضر عنده مفردا ولا مع آخر" انتهى.

(8/320)


قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن بلالا يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم". وهو الأعمى الذي أنزل الله فيه : (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى ) وكان يؤذن مع بلال. قال سالم : وكان رَجُلا ضريرَ البصر ، فلم يك يؤذن حتى يقول له الناس - حين ينظرون إلى بزوغ الفجر - : أذَّن (1).
وهكذا ذكر عروة بن الزبير ، ومجاهد ، وأبو مالك ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد ، وغير واحد من السلف والخلف : أنها نزلت (2) في ابن أم مكتوم. والمشهور أن اسمه عبد الله ، ويقال : عمرو. والله أعلم.
وقوله : (كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ) أي : هذه السورة ، أو الوصية بالمساواة بين الناس في إبلاغ العلم من (3) شريفهم ووضيعهم.
وقال قتادة والسدي : (كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ) يعني : القرآن ، (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ) أي : فمن شاء ذكر الله في جميع أموره. ويحتمل عود الضمير على الوحي ؛ لدلالة الكلام عليه.
وقوله : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ) أي : هذه السورة أو العظة ، وكلاهما متلازم ، بل جميع القرآن (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ) أي : معظمة موقرة (مَرْفُوعَةٍ ) أي : عالية القدر ، (مُطَهَّرَةٍ ) أي : من الدنس والزيادة والنقص.
وقوله : (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ) قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وابن زيد : هي الملائكة. وقال وهب بن منبه : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال قتادة : هم القراء. وقال ابن جريج ، عن ابن عباس : السفرة بالنبطية : القراء.
وقال ابن جرير : الصحيح أن السفرة الملائكة ، والسفرة يعني بين الله وبين خلقه ، ومنه يقال : السفير : الذي يسعى بين الناس في الصلح والخير ، كما قال الشاعر :
ومَا أدَعُ السّفَارَة بَين قَومي... وَما أمْشي بغش إن مَشَيتُ (4)
وقال البخاري : سَفَرةٌ : الملائكة. سَفرت : أصلحت بينهم. وجعلت الملائكةُ إذا نزلت بوَحْي الله وتأديته كالسفير الذي يصلح بين القوم (5).
وقوله : (كِرَامٍ بَرَرَةٍ ) أي : خُلقهم كريم حَسَنٌ شريف ، وأخلاقهم وأفعالهم بارة طاهرة كاملة. ومن هاهنا ينبغي لحامل القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السداد والرشاد.
قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا هشام ، عن قتادة ، عن زُرَارة بن أوفى ، عن سعد بن هشام ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرؤه وهو عليه شاق له أجران". أخرجه الجماعة من طريق قتادة ، به (6).
{ قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ (32) }
__________
(1) أصل الحديث في صحيح مسلم برقم (1092).
(2) في م : "أنها أنزلت".
(3) في أ : "بين".
(4) تفسير الطبري (30/35).
(5) صحيح البخاري (8/691) "فتح".
(6) المسند (6/48) وصحيح البخاري برقم (4937) وصحيح مسلم برقم (798) وسنن أبي داود برقم (1454) وسنن الترمذي برقم (2904) وسنن النسائي الكبرى برقم (8047) وسنن ابن ماجة برقم (3779).

(8/321)


إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)

يقول تعالى ذاما لمن أنكر البعث والنشور من بني آدم : (قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ) قال الضحاك ، عن ابن عباس : (قُتِلَ الإنْسَانُ ) لعن الإنسان. وكذا قال أبو مالك. وهذا لجنس الإنسان المكذب ؛ لكثرة تكذيبه بلا مستند ، بل بمجرد الاستبعاد وعدم العلم.
قال ابن جرير (1) (مَا أَكْفَرَهُ ) ما أشد كفره! وقال ابن جرير : ويحتمل أن يكون المراد : أي شيء جعله كافرا ؟ أي : ما حمله على التكذيب بالمعاد (2).
وقال قتادة - وقد حكاه البغوي عن مقاتل والكلبي - : (مَا أَكْفَرَهُ ) ما ألعنه.
ثم بين تعالى له كيف خلقه من الشيء الحقير ، وأنه قادر على إعادته كما بدأه ، فقال : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ) أي : قدر أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد. (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) قال العوفي ، عن ابن عباس : ثم يسر عليه خروجه من بطن أمه. وكذا قال عكرمة ، والضحاك ، وأبو صالح ، وقتادة ، والسدي ، واختاره ابن جرير (3).
وقال مجاهد : هذه كقوله : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } [الإنسان : 3] أي : بينا (4) له ووضحناه وسهلنا عليه عمله (5) وهكذا قال الحسن ، وابن زيد. وهذا هو الأرجح والله أعلم.
وقوله : (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) أي : إنه بعد خلقه له (أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) أي : جعله ذا قبر. والعرب تقول : "قبرت الرجل" : إذا ولى ذلك منه ، وأقبره الله. وعضبت قرن الثور ،
وأعضبه الله ، وبترت ذنب البعير وأبتره الله. وطردت عني فلانا ، وأطرده الله ، أي : جعله طريدا قال الأعشى :
لَو أسْنَدَتْ مَيتًا إلى نَحْرها (6) عَاش ، وَلم يُنقَل إلى قَابِر (7)
__________
(1) في أ : "ابن جريح"
(2) تفسير الطبري (30/35) ، وقد تصرف الحافظ هنا في كلامه
(3) تفسير الطبري (30/36).
(4) في أ : "أي بيناه"
(5) في أ : "عمله".
(6) في م ، أ : "إلى صدرها".
(7) البيت في تفسير الطبري (30/36).

(8/322)


وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)

وقوله : (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ) أي : بعثه بعد موته ، ومنه يقال : البعث والنشور ، { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ } [الروم : 20] ، { وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا } [البقرة : 259].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أصبغُ بنُ الفَرج ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث : أن دراجا أبا السمح أخبره ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يأكل الترابُ كلَّ شيء من الإنسان إلا عَجْبُ ذَنَبه (1) قيل : وما هو يا رسول الله ؟ قال : "مثل حبة خردل منه ينشئون" (2).
وهذا الحديث ثابت في الصحيح من رواية الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، بدون هذه الزيادة ، ولفظه : "كل ابن آدم يَبْلى إلا عَجْبُ الذَّنَب ، منه خلق وفيه يُركَّب" (3).
وقوله : (كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) قال ابن جرير : يقول : كلا ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر ؛ من أنه قد أدى حق الله عليه في نفسه وماله ، (لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) يقول : لم يُؤد ما فُرض عليه من الفرائض لربه عز وجل.
ثم روى - هو وابن أبي حاتم - من طريق ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد قوله : (كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) قال : لا يقضي أحد أبدا كل ما افتُرض عليه. وحكاه البغوي ، عن الحسن البصري ، بنحو من هذا. ولم أجد للمتقدمين فيه كَلامًا سوى هذا. والذي يقع لي في معنى ذلك - والله أعلم - أن المعنى : (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ) أي : بعثه ، (كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) [أي] (4) لا يفعله الآن حتى تنقضي المدة ، ويفرغ القدر من بني آدم ممن كتب تعالى (5) له أن سيُوجَدُ منهم ، ويخرج إلى الدنيا ، وقد أمر به تعالى كونا وقدرا ، فإذا تناهى ذلك عند الله أنشر الله الخلائق وأعادهم كما بدأهم.
وقد روى ابنُ أبي حاتم ، عن وهب بن مُنَبّه قال : قال عُزَير ، عليه السلام : قال الملك الذي جاءني : فإن القبور هي بطنُ الأرض ، وإن الأرض هي أم الخلق ، فإذا خلق الله ما أراد أن يخلق وتمت هذه القبورُ التي مَدّ الله لها ، انقطعت الدنيا ومات من عليها ، ولفظت الأرض ما في جوفها ، وأخرجت القبورُ ما فيها ، وهذا شبيه بما قلنا من معنى الآية ، والله - سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وقال : (6) (فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ) فيه امتنان ، وفيه استدلال بإحياء النبات من الأرض الهامدة على إحياء الأجسام بعدما كانت عَظَاما بالية وترابا متمزقا ، (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ) أي : أنزلناه من السماء على الأرض ، (ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقًّا ) أي : أسكناه فيها فدخل في تُخُومها وتَخَلَّل في
__________
(1) في أ : "إلا عجز الذنب".
(2) ورواه الحاكم في المستدرك (4/609) من طريق بحر بن نصر ، عن ابن وهب به ، وقال : "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" قلت : دراج عن أبي الهيثم ضعيف.
(3) صحيح البخاري برقم (4814) ، وصحيح مسلم برقم (2955)
(4) زيادة من م ، أ.
(5) في م : "ممن كتب الله".
(6) في أ : "وقوله".

(8/323)


أجزاء الحب المودعَ فيها فنبت وارتفع وظهر على وجه الأرض ، (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا ) فالحب : كل ما يذكر من الحبوب ، والعنب معروف والقضب هو : الفصفصة التي تأكلها الدواب رطبة. ويقال لها : القَتّ أيضا قال ذلك ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك. والسدي.
وقال الحسن البصري : القضب العلف.
(وَزَيْتُونًا ) وهو معروف ، وهو أدْمٌ وعصيره أدم ، ويستصبح به ، ويدهن به. (وَنَخْلا ) يؤكل بلحا بسرا ، ورطبا ، وتمرا ، ونيئا ، ومطبوخا ، ويعتصر منه رُبٌّ وخل. (وَحَدَائِقَ غُلْبًا ) أي : بساتين. قال الحسن ، وقتادة : (َ غُلْبًا ) نخل غلاظ كرام. وقال ابن عباس ، ومجاهد : "الحدائق" : كل ما التف واجتمع. وقال ابن عباس أيضا : (غُلْبًا ) (1) الشجر الذي يستظل به. وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : (وَحَدَائِقَ غُلْبًا ) أي : طوال. وقال عكرمة : (غُلْبًا ) أي : غلاظ الأوساط. وفي رواية : غلاظ الرقاب (2) ، ألم تر إلى الرجل إذا كان غليظ الرقبة قيل : والله إنه لأغلب. رواه ابن أبي حاتم ، وأنشد ابن جرير للفرزدق :
عَوَى فَأثارَ أغلبَ ضَيْغَمِيًا... فَويلَ ابن المَراغَة ما استَثَارا (3)
وقوله : (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) أما الفاكهة فهو ما يتفكه به من الثمار. قال ابن عباس : الفاكهة : كل ما أكل رطبا. والأبّ ما أنبتت الأرض ، مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس - وفي رواية عنه : هو الحشيش للبهائم. وقال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبو مالك : الأب : الكلأ. وعن مجاهد ، والحسن ، وقتادة ، وابن زيد : الأب للبهائم كالفاكهة لبني آدم. وعن عطاء : كل شيء نبت على وجه الأرض فهو أبٌّ. وقال الضحاك : كل شيء أنبتته الأرض سوى الفاكهة فهو أبٌّ.
وقال ابن إدريس ، عن عاصم بن كليب ، عن أبيه ، عن ابن عباس : الأب : نبت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس. ورواه ابن جرير من ثلاث طرق ، عن ابن إدريس ، ثم قال : حدثنا أبو كُرَيْب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس ، حدثنا عبد الملك ، عن سعيد بن جبير قال : عدّ ابن عباس وقال : الأب : ما أنبتت الأرض للأنعام. هذا لفظ أبي كريب ، وقال أبو السائب : ما أنبتت الأرض مما يأكل الناس وتأكل الأنعام.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : الأب : الكلأ والمرعى. وكذا قال مجاهد ، والحسن ، وقتادة ، وابن زيد ، وغير واحد.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : حدثنا محمد بن يزيد ، حدثنا العوام بن حَوشَب ، عن إبراهيم التَّيمي قال : سُئِلَ أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه ، عن قوله تعالى : (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) فقال : أي سماء تظلني ، وأي أرض تقلني إن قلتُ في كتاب الله ما لا أعلم (4).
__________
(1) في م : "الغلب".
(2) في م : "الأرقاب".
(3) تفسير الطبري (30/37)
(4) فضائل القرآن لأبي عبيد (ص 227) ، وسبق الكلام عليه في مقدمة التفسير.

(8/324)


فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)

وهذا منقطع بين إبراهيم التيمي والصديق. فأما ما رواه ابن جرير حيث قال : حدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عدي ، حدثنا حُمَيد ، عن أنس قال : قرأ عمر بن الخطاب (عَبَسَ وَتَوَلَّى ) فلما أتي على هذه الآية : (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) قال : عرفنا ما الفاكهة ، فما الأب ؟ فقال : لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا لهو التكلف (1).
فهو إسناد صحيح ، وقد رواه غير واحد عن أنس ، به. وهذا محمول على أنه أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه ، وإلا فهو وكل من قرأ هذه الآية يعلم أنه من نبات الأرض ، لقوله : (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا )
وقوله : (مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ ) أي : عيشة لكم ولأنعامكم في هذه الدار إلى يوم القيامة.
{ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) }
قال ابن عباس : (الصَّاخَّةُ ) اسم من أسماء يوم القيامة ، عظمه الله ، وحَذّره عباده. قال ابن جرير : لعله اسم للنفخة في الصور. وقال البَغَويّ : (الصَّاخَّةُ ) يعني صيحة القيامة ؛ سميت بذلك لأنها تَصُخّ الأسماع ، أي : تبالغ في إسماعها حتى تكاد تُصمّها (2).
(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ) أي : يراهم ، ويفر منهم ، ويبتعد عنهم ؛ لأن الهول عظيم ، والخطب جليل.
قال عكرمة : يلقى الرجل زوجته فيقول لها : يا هذه ، أيّ بعل كنتُ لك ؟ فتقول : نعم البعل كنتَ! وتثنى بخير ما استطاعت ، فيقول لها : فإني أطلبُ إليك اليومَ حسنًة واحدًة تهبينها (3) لي لعلي أنجو مما ترين. فتقول له : ما أيسر ما طلبتَ ، ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا أتخوف مثل الذي تخاف. قال : وإن الرجل ليلقي ابنه فيتعلق به فيقول : يا بني ، أيّ والد كنتُ لك ؟ فيثني بخير. فيقولُ له : يا بني ، إني احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك لعلي أنجو بها مما ترى. فيقول ولده : يا أبت ، ما أيسر ما طلبت ، ولكني أتخوف مثل الذي تتخوف ، فلا أستطيع أن أعطيك شيئا. يقول الله تعالى (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ )
وفي الحديث الصحيح - في أمر الشفاعة - : أنه إذا طلب إلى كل من أولي العزم أن يشفع عند الله في الخلائق ، يقول : نفسي نفسي ، لا أسأله اليومَ إلا نفسي ، حتى إن عيسى ابن مريم يقول :
__________
(1) تفسير الطبري (30/38) ، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (7/180) من طريق يزيد به ، وتقدم الكلام عليه في مقدمة التفسير.
(2) في أ : "تصخها".
(3) في أ : "تهبيها".

(8/325)


لا أسأله اليوم إلا نفسي ، لا أسأله مريم التي ولدتني. ولهذا قال تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ) (1).
قال قتادة : الأحب فالأحبَ ، والأقرب فالأقربَ ، من هول ذلك اليوم.
وقوله : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) أي : هو في شُغُل شاغل عن غيره.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار بن الحارث ، حدثنا الوليد بن صالح ، حدثنا ثابت أبو زيد العباداني ، عن هلال بن خَبَّاب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تحشرون حفاة عراة مشاة غُرلا " قال : فقالت زوجته : يا رسول الله ، أوَ يرى (2) بعضنا عورة بعض ؟ قال : " (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) أو قال : "ما أشغله عن النظر".
وقد رواه النسائي منفردا به ، عن أبي داود ، عن عارم ، عن ثابت بن يزيد - وهو أبو زيد الأحول البصري ، أحد الثقات - عن هلال بن خَبَّاب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، به (3) وقد رواه الترمذي عن عبد بن حُمَيد ، عن محمد بن الفضل ، عن ثابت بن يزيد ، عن هلال ابن خَبَّاب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "تُحشَرون حُفاة عُرَاة غُرْلا". فقالت امرأة : أيبصر - أو : يرى - بعضنا عورة بعض ؟ قال : "يا فلانة ، (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) (4). ثم قال الترمذي : وهذا حديث حسن صحيح ، وقد روى من غير وجه عن ابن عباس ، رضي الله عنه (5).
وقال النسائي : أخبرني عمرو بن عثمان ، حدثنا بَقِيَّة ، حدثنا الزبيدي ، أخبرني الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يبعث الناس يوم القيامة حفاة عراة غُرلا". فقالت عائشة : يا رسول الله ، فكيف بالعورات ؟ فقال : " (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) (6).
انفرد به النسائي من هذا الوجه.
ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أزهر بن حاتم ، حدثنا الفضل بن موسى ، عن عائد ابن شُرَيح ، عن أنس بن مالك قال : سألت عائشة ، رضي الله عنها ، رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، إني سائلتك عن حديث فتخبرني أنتَ به. فقال : "إن كان عندي منه علم". قالت : يا نبي الله ، كيف يُحشر الرجال ؟ قال : "حفاة عراة". ثم انتظَرتْ ساعة فقالت : يا نبي الله ، كيف يحشر النساء ؟ قال : "كذلك حفاة عراة". قالت : واسوأتاه من يوم القيامة! قال : "وعن أي ذلك تسألين ؟ إنه قد نزل علي آية لا يضرك كان عليك ثياب أو لا يكون".
__________
(1) أحاديث الشفاعة سبقت عند تفسير أول سورة الإسراء.
(2) في م : "يا رسول الله ، ننظر أو يرى".
(3) سنن النسائي الكبري برقم (11647).
(4) سنن الترمذي برقم (3332).
(5) في أ : "رضي الله تعالى عنهما".
(6) سنن النسائي الكبرى برقم (11648).

(8/326)


إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)

.
قالت : أيةُ آية هي يا نبي الله ؟ قال : " (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) (1).
وقال البغوي في تفسيره : أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشّريحي ، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرني الحسين بن عبد الله ، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن ، حدثنا محمد بن عبد العزيز ، حدثنا ابن أبي أويس ، حدثنا أبي ، عن محمد بن أبي عياش ، عن عطاء بن يسار ، عن سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يبعث الناس حفاة عراة غُرلا قد ألجمهم العرق ، وبلغ شحوم الآذان". فقلت : يا رسول الله ، واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض ؟ فقال : "قد شُغل الناس ، (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) (2).
هذا حديث غريب من هذا الوجه جدا ، وهكذا رواه ابن جرير عن أبي عمار الحسين بن حريث المروزي ، عن الفضل بن موسى ، به (3). ولكن قال أبو حاتم الرازي : عائذ بن شريح ضعيف ، في حديثه ضعف (4).
وقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ) أي : يكون الناس هنالك فريقين : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ) أي : مستنيرة ، (ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ) أي : مسرورة فرحة من سرور قلوبهم ، قد ظهر البشر على وجوههم ، وهؤلاء أهل الجنة.
(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ) أي : يعلوها ويغشاها (5) قترة ، أي : سواد.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سهل بن عثمان العسكري ، حدثنا أبو علي محمد مولى جعفر بن محمد ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يلجم الكافرَ العرقُ ثم تقع الغُبْرة على وجوههم". قال : فهو قوله : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ) (6).
وقال ابن عباس : (تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ) أي : يغشاها سواد الوجوه.
وقوله : (أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ) أي : الكفرة قلوبهم ، الفجرة في أعمالهم ، كما قال تعالى : { وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا } [نوح : 27].
آخر تفسير سورة "عبس" ولله الحمد والمنة.
__________
(1) ورواه الطبري في تفسيره (30/39) ، عن الحسين بن حريث عن الفضل بن موسى به.
(2) معالم التنزيل للبغوي (8/340) ، ورواه الحاكم في المستدرك (2/514) من طريق إسماعيل بن إسحاق ، عن إسماعيل بن أبي أويس به نحوه. وقال : "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذا اللفظ".
(3) تفسير الطبري (30/39)
(4) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (7/16).
(5) في م : "تعلوها وتغشاها".
(6) ذكره السيوطي في الدر المنثور (8/424) ، وله شاهد من حديث ابن مسعود : رواه ابن حبان في صحيحه برقم (2582) "موارد" من طريق شريك ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن ابن مسعود مرفوعا : "إن الكافر ليلجمه العرق يوم القيامة فيقول : أرحنى ولو إلى النار".

(8/327)


إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)

تفسير سورة التكوير
وهي مكية.
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا عبد الله بن بحير القاص : أن عبد الرحمن بن يزيد الصنعاني أخبره : أنه سمع ابن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من سَرَّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأيُ عين فليقرأ : " إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ " ، و " وإذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ " ، و " إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ".
وهكذا رواه الترمذي ، عن العباس بن عبد العظيم العنبري ، عن عبد الرزاق ، به (1).
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) }
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } يعني : أظلمت. وقال العوفي ، عنه : ذهبت ، وقال مجاهد : اضمحَلّت وذَهَبت. وكذا قال الضحاك.
وقال قتادة : ذهب ضوءها. وقال سعيد بن جبير : { كُوِّرَتْ } غُوّرت.
وقال الربيع بن خُثَيم : { كُوِّرَتْ } يعني : رمى بها.
وقال أبو صالح : { كُوِّرَتْ } ألقيت. وعنه أيضا : نكست. وقال زيد بن أسلم : تقع في الأرض.
قال ابن جرير : والصواب من القول عندنا في ذلك أن التكوير جَمعُ الشيء بعضه إلى (2) بعض ، ومنه تكوير العمامة [وهو لفها على الرأس ، وكتكوير الكاره ، وهي] (3) جمع الثياب بعضها إلى (4) بعض ، فمعنى قوله : { كُوَّرَتْ } جمع بعضها إلى بعض ، ثم لفت فرمى بها ، وإذا فعل بها ذلك ذهب ضوءها (5).
__________
(1) المسند (2/27) ، وسنن الترمذي برقم (3333) ، وقال الترمذي : "هذا حديث حسن غريب".
(2) في م : "على".
(3) زيادة من تفسير الطبري.
(4) في م : "على".
(5) تفسير الطبري (30/41).

(8/328)


وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج وعمرو بن عبد الله الأودي ، حدثنا أبو أسامة ، عن مجالد ، عن شيخ من بَجِيلة ، عن ابن عباس : { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } قال : يكور الله الشمس والقمر والنجوم يوم القيامة في البحر ، ويبعث الله ريحا دبورًا فتضرمها نارا. وكذا قال عامر الشعبي. ثم قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح ، حدثني معاوية بن صالح ، عن ابن يزيد بن أبي مريم ، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قول الله : { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } قال : "كورت في جهنم" (1).
وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثنا موسى بن محمد بن حَيَّان ، حدثنا دُرُسْتُ بن زياد ، حدثنا يزيد الرقاشي ، حدثنا أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الشمس والقمر ثوران (2) عقيران في النار" (3).
هذا حديث ضعيف ؛ لأن يزيد الرقاشي ضعيف ، والذي رواه البخاري في الصحيح بدون هذه الزيادة ، ثم قال البخاري :
حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا عبد العزيز بن المختار ، حدثنا عبد الله الداناجُ ، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : "الشمس والقمر يكوران يوم القيامة" (4).
انفرد به البخاري وهذا لفظه ، وإنما أخرجه في كتاب "بدء الخلق" ، وكان جديرًا أن يذكره هاهنا أو يكرره ، كما هي عادته في أمثاله! وقد رواه البزار فَجَوّد إيراده فقال :
حدثنا إبراهيم بن زياد البغدادي ، حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا عبد العزيز بن المختار ، عن عبد الله الداناج قال : سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن خالد بن عبد الله القسري في هذا المسجد - مسجد الكوفة ، وجاء الحسن فجلس إليه فَحدّث قال : حدثنا أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الشمس والقمر نوران في النار يوم القيامة". فقال الحسن : وما ذنبهما ؟ فقال : أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول : أحسبه قال : وما ذنبهما.
ثم قال : لا يروى عن أبي هُرَيرة إلا من هذا الوجه ، ولم يرو عبد الله الداناج عن أبي سلمة سوى هذا الحديث.
وقوله : { وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ } أي : انتثرت ، كما قال تعالى : { وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ } [الانفطار : 2] ، وأصل الانكدار : الانصباب.
قال الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب قال : ست آيات قبل يوم القيامة ، بينا الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس ، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم ، فبينما هم كذلك إذ
__________
(1) ورواه الديلمي في مسنده ، كما في الدر المنثور للسيوطي (8/426).
(2) في م ، أ ، هـ : "نوران" ، والصواب بالثاء.
(3) مسند أبي يعلى (7/148) ، ورواه ابن حبان في المجروحين (1/293) من طريق درست بن زياد به ، وقال في درست بن زياد : "كان منكر الحديث جدا ، لا يحل الاحتجاج بخبره. وروى عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك ، فذكر هذا الحديث".
(4) صحيح البخاري برقم (3200).

(8/329)


وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت واختلطت ، ففزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن ، واختلطت الدواب والطير والوحوش ، فماجوا بعضهم في بعض : { وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ } قال : اختلطت ، { وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ } قال : أهملها أهلها ، { وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ } قال : قالت الجن : نحن نأتيكم بالخبر. قال : فانطلقوا إلى البحر فإذا هو نار تأجج ، قال : فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى وإلى السماء السابعة العليا ، قال فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم.
رواه ابن جرير (1) - وهذا لفظه - وابن أبي حاتم ، ببعضه ، وهكذا قال مجاهد والربيع بن خُثَيم (2) ، والحسن البصري ، وأبو صالح ، وحماد بن أبي سليمان ، والضحاك في قوله : { وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ } ي : تناثرت.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ } أي : تغيرت. وقال يزيد بن أبي مريم عن النبي صلى الله عليه وسلم : { وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ } قال : "انكدرت في جهنم ، وكل من عبد من دون الله فهو في جهنم ، إلا ما كان من عيسى وأمه ، ولو رضيا أن يُعبَدا لدخلاها". رواه ابن أبي حاتم بالإسناد المتقدم.
وقوله : { وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ } أي : زالت عن أماكنها ونُسِفت ، فتركت الأرض قاعا صفصفا.
وقوله : { وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ } قال عكرمة ، ومجاهد : عشار الإبل. قال مجاهد : { عُطِّلَت } تركت وسُيّبت.
وقال أبي بن كعب ، والضحاك : أهملها أهلها : وقال الربيع بن خُثَيم (3) لم تحلب ولم تُصَرّ ، تخلى منها أربابها.
وقال الضحاك : تركت لا راعي لها.
والمعنى في هذا كله متقارب. والمقصود أن العشار من الإبل - وهي : خيارها والحوامل منها التي قد وَصَلت في حملها إلى الشهر العاشر - واحدها (4) عُشَراء ، ولا يزال ذلك اسمها حتى تضع - قد اشتغل الناس عنها وعن كفالتها والانتفاع بها ، بعد ما كانوا أرغب شيء فيها ، بما دَهَمهم من الأمر العظيم المُفظع الهائل ، وهو أمر القيامة وانعقاد أسبابها ، ووقوع مقدماتها.
وقيل : بل يكون ذلك يوم القيامة ، يراها أصحابها كذلك ولا سبيل لهم إليها. وقد قيل في العشار : إنها السحاب يُعطَّل عن المسير بين السماء والأرض ، لخراب الدنيا. و[قد] (5) قيل : إنها الأرض التي تُعشَّر. وقيل : إنها الديار التي كانت تسكن تُعَطَّل لذهاب أهلها. حكى هذه الأقوال كلها الإمام أبو عبد الله القرطبي في كتابه "التذكرة" ، ورجح أنها الإبل ، وعزاه إلى أكثر الناس (6).
__________
(1) تفسير الطبري (30/41).
(2) في أ : "خيثم".
(3) في أ : "خيثم".
(4) في م : "واحدتها".
(5) زيادة من م.
(6) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة (ص 212 ، 213).

(8/330)


قلت : بل لا يعرف عن السلف والأئمة سواه ، والله أعلم.
وقوله : { وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ } أي : جمعت. كما قال تعالى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [الأنعام : 38]. قال ابن عباس : يحشر كل شيء حتى الذباب. رواه ابن أبي حاتم. وكذا قال الربيع بن خُثَيم (1) والسّديّ ، وغير واحد. وكذا قال قتادة في تفسير هذه الآية : إن هذه الخلائق [موافية] (2) فيقضي الله فيها ما يشاء.
وقال عكرمة : حشرها : موتها.
وقال ابن جرير : حدثني علي بن مسلم الطوسي ، حدثنا عباد بن العوام ، أخبرنا حُصَين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ } قال : حَشرُ البهائم : موتها ، وحشر كل شيء الموت غيره (3) الجن والإنس ، فإنهما يوقفان يوم القيامة.
حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وَكِيع ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن أبي يعلى ، عن الربيع بن خُثَيم (4) : { وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ } قال : أتى عليها أمر الله. قال سفيان : قال أبي : فذكرته لعكرمة ، فقال : قال ابن عباس : حشرها : موتها.
وقد تقدم عن أبيّّ بن كعب أنه قال : { وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ } اختلطت.
قال ابن جرير : والأولى قَولُ من قال : { حُشِرَت } جُمعت ، قال الله تعالى : { وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً } [ص : 19] ، أي : مجموعة.
وقوله : { وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ } قال ابن جرير : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن عُلَية ، عن داود ، عن سعيد بن المسيب قال : قال علي ، رضي الله عنه ، لرجل من اليهود : أين جهنم ؟ قال : البحر. فقال : ما أراه إلا صادقا. { وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ } [الطور : 6] ، { وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ } [مخففة] (5) (6).
وقال ابن عباس وغير واحد : يرسل الله عليها الدّبور فتسعرها ، وتصير نارًا تأجج ، وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله : { وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ }
وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد ، حدثنا أبو طاهر ، حدثني عبد الجبار بن سليمان أبو سليمان النفاط - شيخٌ صَالِح يُشبهُ مالكَ بن أنس - عن معاوية بن سعيد قال : إن هذا البحر بركة - يعني بحر الرُّوم - وسط الأرض ، والأنهار كلها تصب فيه ، والبحر الكبير يصب فيه ، وأسفله آبار مطبقة بالنحاس ، فإذا كان يوم القيامة أسجر.
__________
(1) في أ : "خيثم".
(2) زيادة من م ، أ.
(3) في م : "غير".
(4) في أ : "خيثم".
(5) زيادة من تفسير الطبري.
(6) تفسير الطبري (30/43).

(8/331)


وهذا أثر غريب عجيب. وفي سنن أبي داود : "لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز ، فإن تحت البحر نارا ، وتحت النار بحرا" الحديث ، وقد تقدم الكلام عليه في سورة "فاطر" (1).
وقال مجاهد ، والحسن بن مسلم : { سُجِّرَت } أوقدت. وقال الحسن : يبست. وقال الضحاك ، وقتادة : غاض ماؤها فذهب ولم يبق فيها قطرة. وقال الضحاك أيضا : { سُجِّرَتْ } فجرت. وقال السدي : فتحت وسيرت. وقال الربيع بن خُثَيم (2) { سُجِّرَتْ } فاضت.
وقوله : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } أي : جمع كل شكل إلى نظيره ، كقوله : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } [الصافات : 22].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن الصباح البزار ، حدثنا الوليد بن أبي ثور ، عن سمَاك ، عن النعمان بن بشير أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } قال : الضرباء ، كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله" ، وذلك بأن الله عز وجل يقول : { وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } [الواقعة : 7 - 10] ، قال : هم الضرباء (3).
ثم رواه ابن أبي حاتم من طرق أخر ، عن سماك بن حرب ، عن النعمان بن بشير أن عُمَر خطب الناس فقرأ : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } فقال : تَزَوّجها : أن تؤلف (4) كل شيعة إلى شيعتهم. وفي رواية : هما الرجلان يعملان العمل فيدخلان به الجنة أو النار (5).
وفي رواية عن النعمان قال : سئل عمر عن قوله تعالى : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } فقال : يقرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح ، ويقرن بين الرجل السوء مع الرجل السوء في النار ، فذلك تزويج الأنفس.
وفي رواية عن النعمان أن عمر قال للناس : ما تقولون في تفسير هذه الآية : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } ؟ فسكتوا. قال : ولكن هو الرجل يزوج نظيره من أهل الجنة ، والرجل يزوج نظيره من أهل النار ، ثم قرأ : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ }
وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } قال : ذلك حين يكون الناس أزواجا ثلاثة.
وقال ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } قال : الأمثال من الناس جمع
__________
(1) لم يتقدم الكلام على الحديث في سورة "فاطر" ، وهو في سنن أبي داود برقم (2489) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(2) في أ : "خيثم".
(3) ورواه ابن مردويه في تفسيره ، كما في الدر المنثور (8/429).
(4) في أ : "أن يؤلف الله".
(5) ورواه أبو بكر بن حمدان كما في مسند عمر (2/620) للمؤلف من طريق خلف بن الوليد ، عن إسرائيل عن سماك بنحوه ، ورواه عبد الرزاق في تفسيره (2/284 ، 285) ، عن الثوري ، عن سماك ، عن النعمان ، وعن إسرائيل ، عن سماك ، عن النعمان ، ورواه الحاكم في المستدرك (2/515) من طريق سفيان عن سماك ، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه

(8/332)


بينهم. وكذا قال الربيع بن خُثَيم (1) والحسن ، وقتادة. واختاره ابن جرير ، وهو الصحيح.
قول آخر في قوله : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } قال ابن أبي حاتم :
حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن أشعث [بن سوار] (2) ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : يسيل واد من أصل العرش من ماء فيما بين الصيحتين ، ومقدار ما بينهما أربعون عاما ، فينبت منه كل خلق بلي ، من الإنسان أو طير أو دابة ، ولو مر عليهم مار قد عرفهم قبل ذلك لعرفهم على الأرض. قد نبتوا ، ثم تُرسَل الأرواح فتزوج الأجساد ، فذلك قول الله تعالى (3) : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ }
وكذا قال أبو العالية ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والشعبي ، والحسن البصري أيضا في قوله : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } أي : زوجت بالأبدان. وقيل : زوج المؤمنون بالحور العين ، وزوج الكافرون بالشياطين. حكاه القرطبي في "التذكرة" (4).
وقوله : { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ } هكذا قراءة الجمهور : { سُئلَت } والموءودة هي التي كان أهل الجاهلية يدسونها في التراب كراهية البنات ، فيوم القيامة تسأل الموءودة على أي ذنب قتلت ، ليكون ذلك تهديدا لقاتلها ، فإذا (5) سئل المظلوم فما ظن الظالم إذا ؟!
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ } أي : سألت. وكذا قال أبو الضحى : "سألت" أي : طالبت بدمها. وعن السدي ، وقتادة ، مثله (6).
وقد وردت أحاديث تتعلق بالموءودة ، فقال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثني أبو الأسود - وهو : محمد بن عبد الرحمن بن نوفل - عن عروة ، عن عائشة ، عن جُدَامة بنت وهب - أخت عكاشة - قالت حضرتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في ناس وهو يقول : " لقد هممت أن أنهى عن الغيلَة ، فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يُغيلُونَ أولادهم ، ولا يضر أولادهم ذلك شيئا". ثم سألوه عن العزل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذلك الوأد الخفي ، وهو الموءودة سئلت".
ورواه مسلم من حديث أبي عبد الرحمن المقرئ - وهو عبد الله بن يزيد - عن سعيد بن أبي أيوب (7) ورواه أيضا ابن ماجة ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يحيى بن إسحاق السيلحيني ، عن يحيى بن أيوب (8) ورواه مسلم أيضا وأبو داود والترمذي ، والنسائي ، من حديث مالك بن
__________
(1) في أ : "خيثم".
(2) زيادة من م.
(3) في م ، أ : "قول الله عز وجل".
(4) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة (ص 213).
(5) في م : "فإنه إذا".
(6) انظر : تفسير الطبري (30/45) ، والبحر المحيط لأبي حيان (8/433).
(7) المسند (6/434) ، وصحيح مسلم برقم (1442).
(8) سنن ابن ماجة برقم (2011)

(8/333)


أنس ، ثلاثتهم عن أبي الأسود ، به (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن أبي عَدي ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن علقمة ، عن سلمة بن يزيد الجُعْفي قال : انطلقتُ أنا وأخي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : يا رسول الله ، إن أمنا مليكة كانت تَصل الرحم وتقري الضيف ، وتفعل [وتفعل] (2) هلكت في الجاهلية ، فهل ذلك نافعها شيئا ؟ قال : "لا". قلنا : فإنها كانت وأدت أختا لنا في الجاهلية ، فهل ذلك نافعُها شيئا ؟ قال : "الوائدةُ والموءودةُ في النار ، إلا أن يدركَ الوائدةَ الإسلامُ ، فيعفو الله عنها".
ورواه النسائي ، من حديث داود بن أبي هند ، به (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا أبو أحمد الزبيري (4) ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن علقمة وأبي الأحوص ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الوائدة والموءودة في النار" (5).
وقال أحمد أيضا : حدثنا إسحاق الأزرق ، أخبرنا عوف ، حدثتني حسناء (6) ابنة معاوية الصُّرَيمية ، عن عمها قال : قلت : يا رسول الله ، من في الجنة ؟ قال : "النبي في الجنة والشهيد في الجنة والمولود في الجنة والموءودة في الجنة" (7).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا قرة قال : سمعت الحسن يقول : قيل : يا رسول الله ، من في الجنة ؟ قال : "الموءودة في الجنة".
هذا حديث مرسل من مراسيل الحسن ، ومنهم من قبله.
وقال ابن أبي حاتم : حدثني أبو عبد الله الظهراني ، حدثنا حفص بن عمر العدني ، حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة قال : قال ابن عباس : أطفال المشركين في الجنة ، فمن زعم أنهم في النار فقد كذب ، يقول الله عز وجل (8) { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ } قال ابن عباس : هي المدفونة.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا إسرائيل ، عن سمَاك بن حرب ، عن النعمان بن بشير ، عن عمر بن الخطاب في قوله : { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ [بأَيّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] } (9) ، قال : جاء قيس بن عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني وأدت بنات لي في الجاهلية ، فقال : "أعتق عن كل واحدة منهن رقبة". قال : يا رسول الله ، إني صاحب إبل ؟ قال : "فانحر عن كل واحدة منهن بدنة".
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1442) ، وسنن أبي داود برقم (3882) وسنن الترمذي برقم (2077) وسنن النسائي (6/106)
(2) زيادة من م ، أ والمسند.
(3) المسند (3/478) وسنن النسائي الكبرى برقم (11649).
(4) في أ : "التبريذي".
(5) ورواه أبو داود في السنن برقم (4717) من طريق أبي إسحاق ، عن عامر ، عن علقمة ، عن ابن مسعود به ، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (10/114) من طريق أبي إسحاق ، عن الشعبي عن علقمة ، عن ابن مسعود ، به.
(6) في م ، أ : "خنساء".
(7) المسند (5/58).
(8) في م : "الله تعالى".
(9) زيادة من أ.

(8/334)


قال الحافظ أبو بكر البزار : خولف فيه عبد الرزاق ، ولم نكتبه إلا عن الحسين بن مهدي ، عنه (1).
وقد رواه ابن أبي حاتم فقال : أخبرنا أبو عبد الله الظهراني (2) - فيما كتب إلي - قال : حدثنا عبد الرزاق فذكره بإسناده مثله ، إلا أنه قال : "وأدت ثمان بنات لي في الجاهلية". وقال في آخره : "فأهد إن شئت عن كل واحدة (3) بدنة". ثم قال :
حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا قيس بن الربيع ، عن الأغر بن الصباح ، عن خليفة بن حُصَين قال : قدم قيس بن عاصم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني وأدتُ اثنتي عشرة ابنًة لي في الجاهلية - أو : ثلاث عشرة - قال (4) : " أعتق عددهن نَسِما". قال : فأعتق عددهن نسما ، فلما كان في العام المقبل جاء بمائة ناقة ، فقال : يا رسول الله ، هذه صدقة قومي على أثر ما صنعت بالمسلمين. قال علي بن أبي طالب : فكنا نريحها ، ونسميها القيسية (5).
وقوله : { وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ } قال الضحاك : أعطى كل إنسان صحيفته بيمينه أو بشماله. وقال قتادة : [صحيفتك] (6) يا ابن آدم ، تُملى فيها ، ثم تطوى ، ثم تنشر عليك يوم القيامة ، فلينظر (7) رجل ماذا يملي في صحيفته.
وقوله : { وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ } قال مجاهد : اجتذبت. وقال السدي : كشفت. وقال الضحاك : تنكشط فتذهب.
وقوله : { وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ } قال السدي : أحميت. وقال قتادة : أوقدت. قال : وإنما يسعرها غضب الله وخطايا بني آدم.
وقوله : { وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ } قال الضحاك ، وأبو مالك ، وقتادة ، والربيع بن خُثَيم (8) أي : قربت إلى أهلها.
وقوله : { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ } هذا هو الجواب ، أي : إذا وقعت هذه الأمور حينئذ تعلم كل نفس ما عملت وأحضر ذلك لها ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا } [آل عمران : 30]. وقال تعالى : { يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [القيامة : 13].
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبدة ، حدثنا ابن المبارك ، أخبرنا محمد بن مُطَرّف ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه قال : لما نزلت : { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } قال عمر : لما بلغ { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ } قال : لهذا أجرىَ الحديثُ.
__________
(1) مسند البزار برقم (2280) "كشف الأستار".
(2) في م ، أ : "الطبراني".
(3) في م : "واحدة منهن".
(4) في م : "فقال".
(5) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (18/338) من طريق يحيى الحماني ، عن قيس بن الربيع به نحوه ، والحماني ضعيف لكنه توبع هنا.
(6) زيادة من تفسير الطبري (30/46). مستفادا من هامش ط. الشعب.
(7) في م : "فينظر".
(8) في أ : "خيثم".

(8/335)


فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)

{ فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِي الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) }
روى مسلم في صحيحه ، والنسائي في تفسيره عند هذه الآية ، من حديث مِسْعر بن كِدَام ، عن الوليد بن سَرِيع ، عن عمرو بن حُرَيث قال : صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم الصبح ، فسمعته يقرأ : { فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } (1).
ورواه النسائي عن بندار ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن الحجاج بن عاصم ، عن أبي الأسود ، عن عمرو بن حُرَيث ، به نحوه (2).
قال ابن أبي حاتم وابن جرير ، من طريق الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن رجل من مراد ، عن علي : { فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ } قال : هي النجوم تخنس بالنهار ، وتظهر بالليل.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن سماك بن حرب ، سمعت خالد بن عرعرة ، سمعت عليا وسئل عن : { فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ } فقال : هي النجوم ، تخنِس بالنهار وتكنس بالليل (3).
وحدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وَكِيع ، عن إسرائيل ، عن سِماك ، عن خالد ، عن عليّ قال : هي النجوم.
وهذا إسناد جيد صحيح إلى خالد بن عرعرة ، وهو السهمي الكوفي ، قال أبو حاتم الرازي : روي عن علي ، وروى عنه سماك والقاسم بن عوف الشيباني (4) ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا والله أعلم.
وروى يونس ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي : أنها النجوم. رواه ابن أبي حاتم وكذا رُوي عن ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والسّدي ، وغيرهم : أنها النجوم.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا هَوذة بن خليفة ، حدثنا عوف ، عن بكر بن عبد الله في قوله : { فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ } قال : هي النجوم الدراريّ ، التي تجرى تستقبل المشرق.
__________
(1) صحيح مسلم برقم (456) ، وسنن النسائي الكبرى برقم (11651).
(2) سنن النسائي الكبرى برقم (11650).
(3) تفسير الطبري (30/47).
(4) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (3/343).

(8/336)


وقال بعض الأئمة : إنما قيل للنجوم : "الخنس" ، أي : في حال طلوعها ، ثم هي جوار في فلكها ، وفي حال غيبوبتها يقال لها : "كُنَّس" من قول العرب : أوى الظبي إلى كنَاسة : إذا تغيب فيه.
وقال الأعمش ، عن إبراهيم قال : قال عبد الله : { فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ } قال : بقر الوحش. وكذا قال الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، عن عبد الله : { فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ } ما هي يا عمرو ؟ قلت : البقر. قال : وأنا أرى ذلك.
وكذا روى يونس عن أبي إسحاق ، عن أبيه.
وقال أبو داود الطيالسي ، عن عمرو ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { الْجَوَارِي الْكُنَّسِ } قال : البقر [الوحش] (1) تكنس إلى الظل. وكذا قال سعيد بن جبير.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : هي الظباء. وكذا قال سعيد أيضا ، ومجاهد ، والضحاك.
وقال أبو الشعثاء جابر بن زيد : هي الظباء والبقر.
وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب ، حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا مغيرة (2) عن إبراهيم ومجاهد : أنهما تذاكرا هذه الآية : { فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ } فقال إبراهيم لمجاهد : قل فيها بما سمعت. قال : فقال مجاهد : كنا نسمع فيها شيئا ، وناس يقولون : إنها النجوم. قال : فقال إبراهيم : قل فيها بما سمعت. قال : فقال مجاهد : كنا نسمع أنها بقر الوحش حين تكنس في حُجْرتها. قال : فقال إبراهيم : إنهم يكذبون على عليّ ، هذا كما رووا عن علي أنه ضمن الأسفل الأعلى ، والأعلى الأسفل.
وتوقف ابن جرير في قوله : { الْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ } هل هو النجوم ، أو الظباء وبقر الوحش ؟ قال : ويحتمل أن يكون الجميع مرادا.
وقوله : { وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ } فيه قولان :
أحدهما : إقباله بظلامه. قال مجاهد : أظلم. وقال سعيد بن جبير : إذا نشأ. وقال الحسن البصري : إذا غَشى الناس. وكذا قال عطية العوفي.
وقال علي بن أبي طلحة ، والعوفي عن ابن عباس : { إِذَا عَسْعَسَ } إذا أدبر. وكذا قال مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وكذا قال زيد بن أسلم ، وابنه عبد الرحمن : { إِذَا عَسْعَسَ } أي : إذا ذهب فتولى.
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البَخْتَري ، سمع أبا عبد الرحمن السلمي قال : خرج علينا علي ، رضي الله عنه ، حين ثَوّب المثوب بصلاة الصبح فقال : أين السائلون عن الوتر : { وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } ؟ هذا حين أدبر حسن.
__________
(1) زيادة من م.
(2) في أ : "سفيان".

(8/337)


وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله : { إِذَا عَسْعَسَ } إذا أدبر. قال لقوله : { وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } أي : أضاء ، واستشهد بقول الشاعر (1) أيضا :
حَتّى إذا الصُّبحُ له تَنَفَّسا... وانجابَ عَنها لَيلُها وعَسعَسَا...
أي : أدبر. وعندي أن المراد بقوله : { عَسْعَسَ } إذا أقبل ، وإن كان يصح استعماله في الإدبار ، لكن الإقبال هاهنا أنسب ؛ كأنه أقسم تعالى بالليل (2) وظلامه إذا أقبل ، وبالفجر وضيائه إذا أشرق ، كما قال : { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } [الليل : 1 ، 2] ، وقال : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى } [الضحى : 1 ، 2] ، وقال { فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا } [الأنعام : 96] ، وغير ذلك من الآيات.
وقال كثير من علماء الأصول : إن لفظة "عسعس" تستعمل في الإقبال والإدبار على وجه الاشتراك ، فعلى هذا يصح أن يراد كل منهما ، والله أعلم.
قال ابن جرير : وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب يزعم أن "عسعس" : دنا من أوله وأظلم. وقال الفراء : كان أبو البلاد (3) النحوي يُنشد بيتًا :
عَسعَس حَتَّى لو يشاء ادّنا... كانَ له من ضَوئه مَقبس...
يريد : لو يشاء إذ دنا ، أدغم الذال في الدال. وقال الفراء : وكانوا يَرَون أن هذا البيت مصنوع (4).
وقوله : { وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } قال الضحاك : إذا طلع. وقال قتادة : إذا أضاء وأقبل. وقال سعيد بن جبير : إذا نشأ. وهو المروي عن علي ، رضي الله عنه.
وقال ابن جرير : يعني : وَضَوءُ النهار إذا أقبل وَتَبَيَّن.
وقوله : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } يعني : أن هذا القرآن لتبليغُ رسول كريم ، أي : ملك شريف حَسَن الخلق ، بهي المنظر ، وهو جبريل ، عليه الصلاة والسلام. قاله ابن عباس ، والشعبي ، وميمون بن مِهْران ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، وغيرهم.
{ ذِي قُوَّةٍ } كقوله { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ [فَاسْتَوَى] (5) } [النجم : 5 ، 6] ، أي : شديد الخَلْق ، شديد البطش والفعل ، { عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } أي : له مكانة عند الله عز وجل ومنزلة رفيعة.
قال أبو صالح في قوله : { عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } قال : جبريل يدخل في سبعين حجابا من
__________
(1) البيت في تفسير الطبري (30/50) منسوبا إلى علقمة بن قرط.
(2) في م : "بالفجر".
(3) في أ : "أبو التلاد".
(4) تفسير الطبري (30/50)
(5) زيادة من أ.

(8/338)


نور بغير إذن ، { مُطَاعٍ ثَمَّ } أي : له وجاهة ، وهو مسموع القول مطاع في الملأ الأعلى.
قال قتادة : { مُطَاعٍ ثَمَّ } أي : في السموات ، يعني : ليس هو من أفناد الملائكة ، بل هو من السادة والأشراف ، مُعتَنى به ، انتخب لهذه الرسالة العظيمة.
وقوله : { أَمِينٍ } صفة لجبريل بالأمانة ، وهذا عظيم جدا أن الرب عز وجل يزكي عبده ورسوله الملكي جبريل كما زكى عبده ورسوله البشري محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله : { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ }
قال الشعبي ، وميمون بن مهران ، وأبو صالح ، ومن تقدم ذكرهم : المراد بقوله : { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } يعني : محمدا صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى : { وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ } يعني : ولقد رأى محمدٌ جبريل الذي يأتيه بالرسالة عن الله عز وجل على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح { بِالأفُقِ الْمُبِينِ } أي : البين ، وهي الرؤية الأولى التي كانت بالبطحاء ، وهي المذكورة في قوله : { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إَلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } [النجم : 5 - 10] ، كما تقدم تفسيرُ ذلك وتقريره. والدليلُ أن المرادَ بذلك جبريل ، عليه السلام. والظاهر - والله أعلم - أن هذه السورة نزلت قبل ليلة الإسراء ؛ لأنه لم يذكر فيها إلا هذه الرؤية وهي الأولى ، وأما الثانية وهي المذكورة في قوله : { وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى } [النجم : 13 - 16] ، فتلك إنما ذكرت في سورة "النجم" ، وقد نزلت بعد[سورة] (1) الإسراء.
وقوله : { وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ } أي : وما محمد على ما أنزله الله إليه بظنين ، أي : بمتهم. ومنهم من قرأ ذلك بالضاد ، أي : ببخيل ، بل يبذله لكل أحد.
قال سفيان بن عُيَينة : ظنين وضنين سواء ، أي : ما هو بكاذب ، وما هو بفاجر. والظنين : المتهم ، والضنين : البخيل.
وقال قتادة : كان القرآن غيبا ، فأنزله الله على محمد ، فما ضَنّ به على الناس ، بل بَلَّغه ونشره وبذله لكل من أراده. وكذا قال عكرمة ، وابن زيد ، وغير واحد. واختار ابنُ جرير قراءة الضاد (2).
قلت : وكلاهما متواتر ، ومعناه صحيح كما تقدم.
وقوله : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ } أي : وما هذا القرآن بقول شيطان رجيم ، أي : لا يقدر على حمله ، ولا يريده ، ولا ينبغي له. كما قال : { وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } [الشعراء : 210 - 212].
__________
(1) زيادة من م.
(2) تفسير الطبري (30/53).

(8/339)


وقوله : { فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ } ؟ أي : فأين تذهب عقولكم في تكذيبكم بهذا القرآن ، مع ظهوره ووضوحه ، وبيان كونه جاء (1) من عند الله عز وجل ، كما قال الصديق ، رضي الله عنه ، لوفد بني حنيفة حين قدموا مسلمين ، وأمرهم فتلوا عليه شيئا من قرآن مسيلمة الذي هو في غاية الهذيان والركاكة ، فقال : ويحكم ، أين يُذهَب بعقولكم (2) ؟ والله إن هذا الكلام لم يخرج من إلٍّ ، أي : من إله.
وقال قتادة : { فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ } أي : عن كتاب الله وعن طاعته.
وقوله : { إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } أي : هذا القرآن ذكر لجميع الناس ، يتذكرون به ويتعظون ، { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } أي : من أراد الهداية فعليه بهذا القرآن ، فإنه منجاةٌ له وهداية ، ولا هداية فيما سواه ، { وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } أي : ليست المشيئة موكولة إليكم ، فمن شاء اهتدى ومن شاء ضل ، بل ذلك كله تابع لمشيئة الله عز وجل رب العالمين.
قال سفيان الثوري ، عن سعيد بن عبد العزيز ، عن سليمان بن موسى : لما نزلت هذه الآية : { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } قال أبو جهل : الأمر إلينا ، إن شئنا استقمنا ، وإن شئنا لم نستقم. فأنزل الله : { وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (3) }.
آخر تفسير سورة "التكوير" ولله الحمد [والمنة] (4).
__________
(1) في م "حقا".
(2) في م : "أين تذهب عقولكم".
(3) رواه الطبري في تفسيره (30/53).
(4) زيادة من م.

(8/340)


إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)

تفسير سورة الانفطار
وهي مكية.
قال النسائي : أخبرنا محمد بن قدامة ، حدثنا جرير عن الأعمش ، عن محارب بن دثَار ، عن جابر قال : قام معاذ فصلى العشاء الآخرة فطوّل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أفتان يا معاذ ؟! [أفتان يا معاذ ؟!] (1) أين كنت عن سبح اسم ربك الأعلى ، والضحى ، وإذا السماء انفطرت ؟!" (2).
وأصل الحديث مخرج في الصحيحين (3) ولكن ذُكَر " إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ " في (4) أفراد النسائي. وتقدم من رواية عبد الله بن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من سَرَّه أن يَنْظُرَ إلى القيامة رأي عين فليقرأ : " إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ " و " إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ " و " إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ " " (5).
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) }
يقول تعالى : { إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ } أي : انشقت. كما قال : { السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِه } [الزمر : 18].
{ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ } أي : تساقطت.
{ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : فجر الله بعضها في بعض. وقال الحسن : فجر الله بعضها في بعض ، فذهب ماؤها. وقال قتادة : اختلط مالحها بعذبها. وقال الكلبي : ملئت.
{ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَت } قال ابن عباس : بُحِثَت. وقال السدي : تُبَعثر : تُحرّك فيخرج من فيها.
{ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ } أي : إذا كان هذا حَصَل هذا.
وقوله : { يَاأَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } ؟ : هذا تهديد ، لا كما يتوهمه بعض الناس
__________
(1) زيادة من سنن النسائي.
(2) سنن النسائي الكبرى برقم (11652).
(3) صحيح البخاري برقم (700 ، 711) وصحيح مسلم برقم (465).
(4) في م ، أ : "من".
(5) تقدم تخريج الحديث عند تفسير سورة التكوير ، وهو في سنن الترمذي برقم (3333).

(8/341)


من أنه إرشاد إلى الجواب ؛ حيث قال : { الْكَرِيمِ } حتى يقول قائلهم : غره كرمه. بل المعنى في هذه الآية : ما غرك يا ابن آدم بربك الكريم - أي : العظيم - حتى أقدمت على معصيته ، وقابلته بما لا يليق ؟ كما جاء في الحديث : "يقول الله يوم القيامة : ابن (1) آدم ، ما غرك بي ؟ ابن آدم ، ماذا أجبتَ المرسلين ؟".
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان : أن عمر سمع رجلا يقرأ : { يَاأَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } فقال عمر : الجهل (2).
وقال أيضا : حدثنا عمر بن شَبَّة ، حدثنا أبو خلف ، حدثنا يحيى البكاء ، سمعت ابن عمر يقول وقرأ هذه الآية : { يَاأَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } قال ابن عمر : غره - والله - جهله.
قال : ورُوي عن ابن عباس ، والربيع بن خُثَيم (3) والحسن ، مثل ذلك.
وقال قتادة : { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } شيءٌ ، ما غَرّ ابن آدم غير هذا العدو الشيطان.
وقال الفضيل بن عياض : لو قال لي : "ما غرك بي (4) لقلت : سُتُورك المُرخاة.
وقال أبو بكر الوراق : لو قال لي : { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } لقلت : غرني كرم الكريم.
قال البغوي : وقال بعض أهل الإشارة : إنما قال : { بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } دون سائر أسمائه وصفاته ، كأنه لقنه الإجابة (5).
وهذا الذي تخيله هذا القائل ليس بطائل ؛ لأنه إنما أتى باسمه { الْكَرِيم } ؛ لينبه (6) على أنه لا ينبغي أن يُقَابَل الكريم بالأفعال القبيحة ، وأعمال السوء.
و [قد] (7) حكى البغوي ، عن الكلبي ومقاتل أنهما قالا نزلت هذه الآية في الأسود بن شَريق ، ضرب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعاقب في الحالة الراهنة ، فأنزل الله : { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } ؟ (8).
وقوله : { الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ } أي : ما غرك بالرب الكريم { الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ } أي : جعلك سَويا معتدل القامة منتصبها ، في أحسن الهيئات والأشكال.
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا حَريزُ ، حدثني عبد الرحمن بن مَيسرة ، عن جُبير ابن نُفَير ، عن بُسْر بن جحَاش القرشي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق يوما في كفه ، فوضع عليها إصبعه ، ثم قال : "قال اللَه عز وجل : ابن (9) آدم أنَّى تُعجِزني وقد خلقتك من مثل هذه ؟ حتى
__________
(1) في م : "يا ابن".
(2) ذكره السيوطي في الدر المنثور (8/439) وعزاه لابن المنذر وسعيد بن منصور أيضا.
(3) في أ : "خيثم".
(4) في أ : "بربك".
(5) معالم التنزيل للبغوي (8/356).
(6) في أ : "للتنبيه".
(7) زيادة من م.
(8) معالم التنزيل للبغوي (8/356).
(9) في م : "يا ابن".

(8/342)


إذا سَوّيتك وعدلتك ، مشيت بين بردين وللأرض منك وَئِيدٌ ، فجَمَعت ومَنعت ، حتى إذا بلغت التراقي قلتَ : أتصدقُ ، وأنَّى أوانُ الصدقة".
وكذا رواه ابن ماجة ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يزيد بن هارون ، عن حَريز بن عثمان ، به (1).
قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزِّي : وتابعه يحيى بن حمزة ، عن ثور بن يزيد ، عن عبد الرحمن بن ميسرة (2).
وقوله : { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } قال مجاهد : في أي شَبَه أب أو أم أو خال أو عم ؟
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن سنان القزاز ، حدثنا مُطَهَّر بن الهيثم ، حدثنا موسى بنُ عُلَيِّ بن رَبَاح ، حدثني أبي ، عن جدي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : "ما ولد لك ؟" قال : يا رسول الله ، ما عسى أن يُولَد لي ؟ إما غلام وإما جارية. قال : "فمن يشبه ؟". قال : يا رسول الله ، من عسى أن يشبه ؟ إما أباه وإما أمه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم عندها : "مه. لا تقولَنَّ هكذا ، إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم ؟ أما قرأت هذه الآية في كتاب الله : { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } " قال : سَلَكك (3).
وهكذا رواه ابن أبي حاتم والطبراني ، من حديث مُطهر بن الهيثم ، به (4) وهذا الحديث لو صح لكان فيصلا في هذه الآية ، ولكن إسناده ليس بالثابت ؛ لأن "مُطَهَّر بن الهيثم" قال فيه أبو سعيد بن يونس : كان متروك الحديث. وقال ابن حبان : يُرْوى عن موسى بن علي وغيره ما لا يُشبهُ حَديثَ الأثبات. ولكن في الصحيحين عن أبي هُرَيرة أن رَجُلا قال : يا رسول الله ، إن امرأتي وَلَدت غُلامًا أسودَ ؟. قال : "هل لك من إبل ؟". قال : نعم. قال : "فما ألوانها ؟" قال : حُمر. قال : "فهل فيها من أورَق ؟" قال : نعم. قال : "فأنى أتاها ذلك ؟" قال : عسى أن يكون نزعة عِرْق. قال : "وهذا عسى أن يكون نزعة عرق" (5).
وقد قال عكرمة في قوله : { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } إن شاء في صورة قرد ، وإن شاء في صورة خنزير. وكذا قال أبو صالح : إن شاء في صورة كلب ، وإن شاء في صورة حمار ، وإن شاء في صورة خنزير.
وقال قتادة : { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } قال : قادر - والله - ربنا على ذلك. ومعنى هذا القول عند هؤلاء : أن الله ، عز وجل ، قادر على خلق النطفة على شكل قبيح من الحيوانات
__________
(1) المسند (4/210) وسنن ابن ماجة برقم (2707) وقال البوصيري في الزوائد (2/365) : "إسناد صحيح رجاله ثقات".
(2) تحفة الأشراف للمزي (2/97).
(3) في م : "شكلك".
(4) المعجم الكبير (5/74).
(5) صحيح البخاري برقم (5305) وصحيح مسلم برقم (1500).

(8/343)


المنكرة الخلق ، ولكن بقدرته ولطفه وحلمه يخلقه على شكل حسن مستقيم معتدل تام ، حَسَن المنظر والهيئة.
وقوله : { كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ } أي : بل إنما يحملكم على مواجهة الكريم ومقابلته بالمعاصي ، تكذيب في قلوبكم بالمعاد والجزاء والحساب.
وقوله تعالى : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } يعني : وإن عليكم لملائكةً حَفَظَة كراما فلا تقابلوهم بالقبائح ، فإنهم يكتبون عليكم جميع أعمالكم.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطُّنَافِسِيّ ، حدثنا وَكيع ، حدثنا سفيان ومِسْعَر ، عن علقمة بن مَرْثَد ، عن مجاهد قال : : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى حالتين : الجنابة والغائط. فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بحرم حائط أو ببعيره ، أو ليستره أخوه".
وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار ، فوصله بلفظ آخر ، فقال : حدثنا محمد بن عثمان بن كرامة ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن حفص بن سليمان ، عن علقمة بن مرثد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله ينهاكم عن التعرِّي ، فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم ، الكرام الكاتبين ، الذين لا يُفَارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حالات : الغائط ، والجنابة ، والغسل. فإذا اغتسل أحدكم بالعراء فليستتر بثوبه ، أو بحرم حائط ، أو ببعيره".
ثم قال : حفص بن سليمان لين الحديث ، وقد روي عنه ، واحتمل حديثه (1).
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا زياد بن أيوب ، حدثنا مُبَشّر بن إسماعيل الحلبي ، حدثنا تمام ابن نَجِيح ، عن الحسن - يعني البصري - عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من حافظين يرفعان إلى الله ، عز وجل ، ما حفظا في يوم ، فيرى في أول الصحيفة وفي آخرها استغفار إلا قال الله تعالى : قد غفرت لعبدي ما بين طرفى الصحيفة".
ثم قال : تفرد به تمام بن نجيح ، وهو صالح الحديث (2).
قلت : وثقه ابن معين وضعفه البخاري ، وأبو زُرْعة ، وابن أبي حاتم والنسائي ، وابن عدي. ورماه ابن حبان بالوضع. وقال الإمام أحمد : لا أعرف حقيقة أمره.
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إسحاق بن سليمان البغدادي المعروف بالقُلُوسِي (3) حدثنا بيان بن حمران (4) حدثنا سلام ، عن منصور بن زاذان ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هُرَيرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن لله ملائكة (5) يعرفون بني آدم - وأحسبه قال : ويعرفون أعمالهم - فإذا نظروا إلى عبد يعمل بطاعة الله ذكروه بينهم وسَمَّوه ، وقالوا : أفلح الليلة فلان ، نجا الليلة فلان. وإذا نظروا إلى عبد يعمل بمعصية الله وذكروه بينهم وسموه ، وقالوا : هلك الليلة فلان".
__________
(1) مسند البزار برقم (317) "كشف الأستار".
(2) مسند البزار برقم (3252) "كشف الأستار".
(3) في مسند البزار : "الفلوسي" نسبة إلى الفلوس.
(4) في أ : "عمران".
(5) في م : "إن ملائكة الله".

(8/344)


إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)

ثم قال البزار : سلام هذا ، أحسبه سلام المدائني ، وهو لين الحديث (1).
{ إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) }
يخبر تعالى عما يصير الأبرار إليه من النعيم ، وهم الذين أطاعوا الله عز وجل ، ولم يقابلوه بالمعاصي.
وقد روى ابن عساكر في ترجمة "موسى بن محمد" ، عن هشام بن عمار ، عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق ، عن عبيد الله ، عن محارب ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إنما سماهم الله الأبرار لأنهم بَروا الآباء والأبناء" (2).
ثم ذكر ما يصير إليه الفجار من الجحيم والعذاب المقيم ؛ ولهذا قال : { يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ } أي : يوم الحساب والجزاء والقيامة ، { وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ } أي : لا يغيبون عن العذاب ساعةً واحدة ، ولا يخفف عنهم من عذابها ، ولا يجابون إلى ما يسألون من الموت أو الراحة ، ولو يوما واحدا.
وقوله : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ } تعظيم لشأن يوم القيامة ، ثم أكده بقوله : { ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ } ثم فسره بقوله : { يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } أي : لا يقدر واحد (3) على نفع أحد ولا خلاصه مما هو فيه ، إلا أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى.
ونذكر هاهنا حديث : "يا بني هاشم ، أنقذوا أنفسكم من النار ، لا أملك لكم من الله شيئا". وقد تقدم في آخر تفسير سورة "الشعراء" ؛ ولهذا قال : { وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } كقوله { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [غافر : 16] ، وكقوله : { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ } [الفرقان : 26] ، وكقوله { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } [الفاتحة : 4].
قال قتادة : } يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ والأمر - والله - اليوم لله ، ولكنه يومئذ لا ينازعه أحد.
آخر تفسير سورة "الانفطار" ولله الحمد.
__________
(1) مسند البزار برقم (2195) "كشف الأستار".
(2) تاريخ دمشق (17/400 "المخطوط").
(3) في أ : "أحد".

(8/345)


وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)

تفسير سورة المطففين
وهي مدنية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) }
قال النسائي وابن ماجة : أخبرنا محمد بن عقيل - زاد ابن ماجة : وعبد الرحمن بن بشر - قالا حدثنا علي بن الحسين بن واقد ، حدثني أبي ، عن يزيد - هو ابن أبي سعيد النحوي ، مولى قريش - عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله : { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ } فحسنَّوا الكيلَ بعد ذلك (1).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن النضر بن حماد ، حدثنا محمد بن عبيد ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مُرّة ، عن عبد الله بن الحارث ، عن هلال بن طلق قال : بينا أنا أسير مع ابن عمر فقلت : من أحسن الناس هيئةً وأوفاه كيلا ؟ أهل مكة أو المدينة ؟ قال : حق لهم ، أما سمعت الله يقول : { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ }
وقال ابن جرير : حدثنا أبو السائب ، حدثنا ابن فضيل ، عن ضرار ، عن عبد الله المكتب ، عن رجل ، عن عبد الله قال : قال له رجل : يا أبا عبد الرحمن ، إن أهل المدينة ليوفون الكيل. قال : وما يمنعهم أن يوفوا الكيل وقد قال الله عز وجل : { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ } حتى بلغ : { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } (2).
فالمراد بالتطفيف هاهنا : البَخْس في المكيال والميزان ، إما بالازدياد إن اقتضى من الناس ، وإما بالنقصان إن قَضَاهم. ولهذا فسر تعالى المطففين الذين وعدهم بالخَسَار والهَلاك وهو الويل ، بقوله : { الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ } أي : من الناس { يَسْتَوْفُونَ } أي : يأخذون حقهم بالوافي والزائد ، { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } أي : ينقصون. والأحسن أن يجعل "كالوا" و "وزنوا" متعديا ، ويكون هم في محل نصب ، ومنهم من يجعلها ضميرا مؤكدا للمستتر في قوله : "كالوا" و "وزنوا" ، ويحذف المفعول لدلالة الكلام عليه ، وكلاهما متقارب.
__________
(1) سنن النسائي الكبرى برقم (11654) وسنن ابن ماجة برقم (2223).
(2) تفسير الطبري (30/58).

(8/346)


وقد أمر الله - تعالى - بالوفاء في الكيل والميزان ، فقال : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } [الإسراء : 35] ، وقال : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } [الأنعام : 152] ، وقال : { وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ } [الرحمن : 9]. وأهلك الله قوم شعيب ودَمَّرهم على ما كانوا يبخسون الناس في المكيال والميزان.
ثم قال تعالى متوعدا لهم : { أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ } ؟ أي : أما يخافُ أولئك من البعث والقيام بين يَدَي من يعلم السرائر والضمائر ، في يوم عظيم الهول ، كثير الفزع ، جليل الخطب ، من خسر فيه أدخل نارا حامية ؟
وقوله : { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : يقومون حفاة عراة غُرلا في موقف صعب حَرج ضيق ضنَك على المجرم ، ويغشاهم من أمر الله - ما تَعْجزُ القوى والحواس عنه.
قال الإمام مالك : عن نافع ، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه".
رواه البخاري ، من حديث مالك وعبد الله بن عون ، كلاهما عن نافع ، به (1). ورواه مسلم من الطريقين أيضا. وكذلك رواه صالح [وثابت بن كيسان] (2) وأيوب بن يحيى ، وعبد الله وعبيد الله ابنا عمر ، ومحمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر ، به (3).
ولفظ الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا ابن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : : " { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } لعظَمة الرحمن عز وجل يوم القيامة ، حتى إن العرقَ ليُلجِمُ الرجالَ إلى أنصاف آذانهم" (4).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن إسحاق ، حدثنا ابن المبارك ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، حدثني سليم بن عامر ، حدثني المقداد - يعني ابن الأسود الكندي - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إذا كان يومُ القيامة أدنِيَت الشمس من العباد ، حتى تكون قيدَ ميل أو ميلين ، قال : فتصهرهم الشمس ، فيكونون في العَرق كقَدْر أعمالهم ، منهم من يأخذه إلى عَقِبيه ، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه ، ومنهم من يأخذه إلى حَقْوَيه ، ومنهم من يلجمه إلجاما".
رواه مسلم ، عن الحكم بن موسى ، عن يحيى بن حمزة - والترمذي ، عن سويد ، عن ابن المبارك - كلاهما عن ابن جابر ، به (5).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن سَوَّار ، حدثنا الليث بن سعد ، عن معاوية
__________
(1) صحيح البخاري برقم (2862 ، 6531).
(2) زيادة من أ.
(3) صحيح مسلم برقم (2862).
(4) المسند (2/31).
(5) المسند (6/3) وصحيح مسلم برقم (2864) وسنن الترمذي يرقم (2421).

(8/347)


ابن صالح : أن أبا عبد الرحمن حدثه ، عن أبي أمامة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "تدنو الشمس يوم القيامة على قدر ميل ، ويزاد في حرها كذا وكذا ، تغلي منها الهوام كما تغلي القدور ، يُعرَقون فيها على قدر خطاياهم ، منهم من يبلغ إلى كعبيه ، ومنهم من يبلغ إلى ساقيه ، ومنهم من يبلغ إلى وسطه ، ومنهم من يلجمه العرق". انفرد به أحمد (1).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا أبو عُشَّانة حَي بن يُؤمِنُ ، أنه سمع عقبة بن عامر يقول : سمعتُ رسول صلى الله عليه وسلم يقول : "تدنو الشمس من الأرض فيعرق الناس ، فمن الناس من يبلغ عرقه عَقِبيه ، ومنهم من يبلغ إلى نصف الساق ، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه ، ومنهم من يبلغ العَجُز ، ومنهم من يبلغ الخاصرة ، ومنهم من يبلغ منكبيه ، ومنهم من يبلغ وسط فيه - وأشار بيده فألجمها فاه ، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير هكذا - ومنهم من يغطيه عرقه". وضرب بيده إشارة. انفرد به أحمد (2).
وفي حديث : أنهم يقومون سبعين سنة لا يتكلمون. وقيل : يقومون ثلاثمائة سنة. وقيل : يقومون أربعين ألف سنة. ويقضى بينهم في مقدار عشرة (3) آلاف سنة ، كما في صحيح مسلم عن أبي هُرَيرة مرفوعا : "في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة" (4).
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو عون الزيادي ، أخبرنا عبد السلام بن عَجْلان ، سمعت أبا يزيد المدني ، عن أبي هريرة (5) قال : قال النبي (6) صلى الله عليه وسلم لبشير (7) الغفاري : "كيف أنت صانع في يوم يقوم الناس فيه ثلاثمائة سنة لرب العالمين ، من أيام الدنيا ، لا يأتيهم فيه خبر من السماء ولا يؤمر فيه بأمر ؟". قال بشير : المستعان الله. قال : "فإذا أويت إلى فراشك فتعوذ بالله من كَرْب يوم القيامة ، وسوء الحساب".
ورواه ابن جرير من طريق عبد السلام ، به (8).
وفي سنن أبي داود : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله من ضيق المقام يوم القيامة (9).
وعن ابن مسعود : يقومون أربعين سنة رافعي رءوسهم إلى السماء ، لا يكلمهم أحد ، قد ألجم العرق بَرّهم وفاجرهم.
وعن ابن عمر : يقومون مائة سنة. رواهما ابن جرير (10).
وفي سنن أبي داود والنسائي وابن ماجة ، من حديث زيد بن الحباب ، عن معاوية بن
صالح ،
__________
(1) المسند (5/254).
(2) المسند (4/157).
(3) في أ : "عدة".
(4) صحيح مسلم برقم (987).
(5) في م : "عن أبي هريرة مرفوعا".
(6) في م ، أ : "قال رسول الله".
(7) في أ : "لبشر".
(8) تفسير الطبري (30/59).
(9) سنن أبي داود برقم (766) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(10) تفسير الطبري (30/59).

(8/348)


عن أزهر بن سعيد الحواري ، عن عاصم بن حميد ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح قيام الليل : يكبر عشرا ، ويحمد عشرا ، ويسبح عشرا ، ويستغفر عشرا ، ويقول : "اللهم اغفر لي واهدني ، وارزقني وعافني". ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة (1).
__________
(1) سنن أبي داود برقم (766) وسنن النسائي (3/208) وسنن ابن ماجة برقم (1356).

(8/349)


كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)

{ كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (13) كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) }
يقول : حقا { إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ } أي : إن مصيرهم ومأواهم لفي سجين - فعيل من السَّجن ، وهو الضيق - كما يقال : فسّيق وشرّيب وخمّير وسكّير ، ونحو ذلك. ولهذا عظم أمره فقال : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ } ؟ أي : هو أمر عظيم ، وسجن مقيم وعذاب أليم.
ثم قد قال قائلون : هي تحت الأرض السابعة. وقد تقدم في حديث البراء بن عازب ، في حديثه الطويل : يقول الله عز وجل في روح الكافر : اكتبوا كتابه في سجين.
وسجين : هي تحت الأرض السابعة. وقيل : صخرة تحت السابعة خضراء. وقيل : بئر في جهنم.
وقد روى ابن جرير في ذلك حديثا غريبا منكرا لا يصح فقال : حدثنا إسحاق بن وهب الواسطي ، حدثنا مسعود بن موسى بن مُشكان الواسطي ، حدثنا نَصر بن خُزَيمة الواسطي ، عن شعيب بن صفوان ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الفلق : جب في جهنم (1) مغطى ، وأما سجين فمفتوح" (2).
والصحيح أن "سجينا" مأخوذ من السَّجن ، وهو الضيق ، فإن المخلوقات كل ما تسافل منها ضاق ، وكل ما تعالى منها اتسع ، فإن الأفلاك السبعة كل واحد منها أوسع وأعلى من الذي دونه ، وكذلك الأرضون كل واحدة أوسع من التي دونها ، حتى ينتهي السفول المطلق والمحل الأضيق إلى المركز في وسط الأرض السابعة. ولما كان مصير الفجار إلى جهنم وهي أسفل السافلين ، كما قال تعالى : { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [التين] : 5 ، 6]. وقال هاهنا : { كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ } وهو يجمع الضيق والسفول ، كما قال :
__________
(1) في م : "في وادي جهنم".
(2) تفسير الطبري (30/61).

(8/349)


{ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا } [الفرقان : 13].
وقوله : { كِتَابٌ مَرْقُومٌ } ليس تفسيرا لقوله : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ } وإنما هو تفسير (1) لما كتب لهم من المصير إلى سجين ، أي : مرقوم مكتوب مفروغ منه ، لا يزاد فيه أحد ولا ينقص منه أحد ؛ قاله محمد بن كعب القرظي.
ثم قال : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } أي : إذا صاروا يوم القيامة إلى ما أوعدهم الله من السَّجن والعذاب المهين. وقد تقدم الكلام على قوله : { وَيْلٌ } بما أغنى عن إعادته ، وأن المراد من ذلك (2) الهلاك والدمار ، كما يقال : ويل لفلان. وكما جاء في المسند والسنن من رواية بَهْز بن حكيم بن معاوية بن حَيَدة ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ويل للذي يُحَدِّث فيكذب ، ليضحِكَ الناس ، ويل له ، ويل له" (3).
ثم قال تعالى مفسرا للمكذبين الفجار الكفرة : { الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ } أي : لا يصدقون بوقوعه ، ولا يعتقدون كونه ، ويستبعدون أمره. قال الله تعالى : { وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } أي : معتد في أفعاله ؛ من تعاطي الحرام والمجاوزة في تناول المباح والأثيم (4) في أقواله : إن حدث كذب ، وإن وعد أخلف ، وإن خاصم فجر.
وقوله : { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } أي : إذا سمع كلام الله من الرسول ، يكذب به ، ويظن به ظن السوء ، فيعتقد أنه مفتعل مجموع من كتب الأوائل ، كما قال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } [النحل : 24] ، وقال : { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا } [الفرقان : 5] ، قال الله تعالى : { كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : ليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا ، إن هذا القرآن أساطير الأولين ، بل هو كلام الله ووحيه وتنزيله على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرَّيْن الذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب والخطايا ؛ ولهذا قال تعالى : { كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } والرين يعتري قلوبَ الكافرين ، والغيم للأبرار ، والغين للمقربين.
وقد روى ابن جرير والترمذي والنسائي وابن ماجة من طرق ، عن محمد بن عَجْلان ، عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن العبد إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب منها صقل قلبه ، وإن زاد زادت ، فذلك قول الله : { كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } (5).
وقال الترمذي : حسن صحيح. ولفظ النسائي : "إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكِت في قلبه نكتة ، فإن هو نزع واستغفر وتاب صُقِل قلبه ، فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه ، فهو الران الذي قال
__________
(1) في م : "تقرير".
(2) في أ : "ذلك أنه".
(3) المسند (5/5 ، 7) وسنن أبي داود برقم (4990) وسنن الترمذي برقم (2315) وسنن النسائي الكبرى برقم (11655).
(4) في أ : "والإثم".
(5) تفسير الطبري (30/62) وسنن الترمذي برقم (3334) وسنن النسائي الكبرى برقم (11658) وسنن ابن ماجة برقم (4244).

(8/350)


كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)

الله : { كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ }
وقال أحمد : حدثنا صفوان بن عيسى ، أخبرنا ابن عَجْلان ، عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستغفر صُقِل قلبه ، فإن زاد زادت حتى تعلو قلبه ، وذاك الران الذي ذكر الله في القرآن : { كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } " (1).
وقال الحسن البصري : هو الذنب على الذنب ، حتى يعمى القلب ، فيموت. وكذا قال مجاهد ابن جبر وقتادة ، وابن زيد ، وغيرهم.
وقوله : { كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } أي : لهم يوم القيامة مَنزلٌ ونزل سجين ، ثم هم يوم القيامة مع (2) ذلك محجوبون عن رؤية ربهم وخالقهم.
قال الإمام أبو عبد الله الشافعي : [في] (3) هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عز وجل يومئذ (4).
وهذا الذي قاله الإمام الشافعي ، رحمه الله ، في غاية الحسن ، وهو استدلال بمفهوم هذه الآية ، كما دل عليه منطوق قوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة : 22 ، 23]. وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح (5) المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم عز وجل في الدار الآخرة ، رؤية بالأبصار في عَرَصات القيامة ، وفي روضات الجنان الفاخرة.
وقد قال ابن جرير [محمد بن عمار الرازي] (6) : حدثنا أبو معمر المنْقَريّ ، حدثنا عبد الوارث ابن سعيد ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن في قوله : { كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } قال : يكشف الحجاب ، فينظر إليه المؤمنون والكافرون ، ثم يحجب عنه الكافرون وينظر إليه المؤمنون. كُلّ يوم غدوة وعشية - أو كلاما هذا معناه.
قوله : { ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ } أي : ثم هم مع هذا الحرمان عن رؤية الرحمن من أهل النيران ، { ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } أي : يقال لهم ذلك على وجه التقريع والتوبيخ ، والتصغير والتحقير.
{ كَلا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) }
__________
(1) المسند (2/297).
(2) في م : "بعد".
(3) زيادة من م ، أ.
(4) رواه البيهقي في مناقب الشافعي (1/419).
(5) في م : "الصحيحة".
(6) زيادة من م ، أ.

(8/351)


يقول تعالى : حقا { إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ } وهم بخلاف الفجار ، { لَفِي عِلِّيِّينَ } أي : مصيرهم إلى عليين ، وهو بخلاف سجين.
قال الأعمش ، عن شَمر بن عطية ، عن هلال بن يَسَاف قال : سأل ابن عباس كعبا وأنا حاضر عن سجين ، قال : هي الأرض السابعة ، وفيها أرواح الكفار. وسأله عن عِلّيين فقال : هي السماء السابعة ، وفيها أرواح المؤمنين. وهكذا قال غير واحد : إنها السماء السابعة.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { كَلا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ } يعني : الجنة.
وفي رواية العَوفي ، عنه : أعمالهم في السماء عند الله. وكذا قال الضحاك.
وقال قتادة : عليون : ساق العرش اليمنى. وقال غيره : عليون عند سدرة المنتهى.
والظاهر : أن عليين مأخوذ من العلو ، وكلما علا الشيء وارتفع عظم واتسع ؛ ولهذا قال معظما أمره ومفخما شأنه : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّون } ثم قال مؤكدا لما كتب لهم : { كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ } وهم الملائكة ، قاله قتادة.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : يشهده من كل سماء مقربوها.
ثم قال تعالى : { إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } أي : يوم القيامة هم في نعيم مقيم ، وجنات فيها فضل عميم ، { عَلَى الأرَائِكِ } وهي : السرر تحت الحِجَال ، { يَنْظُرُونَ } قيل : معناه : ينظرون في مُلكهم وما أعطاهم الله من الخير والفضل الذي لا ينقضي ولا يبيد. وقيل : معناه { عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ } إلى الله عز وجل. وهذا مقابله (1) لما وُصف به أولئك الفجار : { كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } فذكر عن هؤلاء أنهم يباحون النظر إلى الله عز وجل وهم على سررهم وفرشهم ، كما تقدم في حديث ابن عمر : "إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفى سنة ، يرى أقصاه كما يرى أدناه ، وإن أعلاه لمن ينظر إلى الله في اليوم مرتين" (2).
وقوله : { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ } أي : تعرف إذا نظرت إليهم في وجوههم نضرة النعيم ، أي : صفة الترافة والحشمة والسرور والدِّعة والرياسة ؛ مما هم فيه من النعيم العظيم.
وقوله : { يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ } أي : يسقون من خمر من الجنة. والرحيق : من أسماء الخمر. قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، وابن زيد.
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا زهير ، عن سعد (3) أبي المجاهد الطائي ، عن عطية بن سعد العوفي ، عن أبي سعيد الخدري - أراه قد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم - قال : "أيما مؤمن سقى
__________
(1) في أ : "مقابل".
(2) تقدم تخريج الحديث عند تفسير الآيتين : 22 ، 23 من سورة القيامة.
(3) في أ : "عن سعيد".

(8/352)


إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)

مؤمنا شربة (1) على ظمأ ، سقاه الله تعالى يوم القيامة من الرحيق المختوم. وأيما مؤمن أطعم مؤمنا على جوع ، أطعمه الله من ثمار الجنة. وأيما مؤمن كسا مؤمنا ثوبا على عُري ، كساه الله من خُضر الجنة" (2).
وقال ابن مسعود في قوله : { خِتَامُهُ مِسْكٌ } أي : خلطه مسك.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : طيب الله لهم الخمر ، فكان آخر شيء جعل فيها مسك ، خُتِم بمسك. وكذا قال قتادة والضحاك.
وقال إبراهيم والحسن : { خِتَامُهُ مِسْكٌ } أي : عاقبته مسك.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا أبو حمزة ، عن جابر ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن أبي الدرداء : { خِتَامُهُ مِسْكٌ } قال : شراب أبيض مثل الفضة ، يختمون به شرابهم. ولو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل أصبعه فيه ثم أخرجها ، لم يبق ذو روح إلا وجد طيبها (3).
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { خِتَامُهُ مِسْكٌ } قال : طيبه مسك.
وقوله : { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } أي : وفي مثل هذا الحال فليتفاخر المتفاخرون ، وليتباهى ويكاثر (4) ويستبق إلى مثله المستبقون. كقوله : { لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ } [الصافات : 61].
وقوله : { وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ } أي : ومزاج هذا الرحيق الموصوف من تسنيم ، أي : من شراب يقال له تسنيم ، وهو أشرف شراب أهل الجنة وأعلاه. قاله أبو صالح والضحاك ؛ ولهذا قال : { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } أي : يشربها المقربون صِرْفًا ، وتُمزَجُ لأصحاب اليمين مَزجًا. قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، ومسروق ، وقتادة ، وغيرهم.
{ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) }
__________
(1) في م : "شربة ماء".
(2) المسند (3/13) وعطية العوفي ضعيف.
(3) تفسير الطبري (30/68).
(4) في م ، أ : "ويتكاثر".

(8/353)


عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)

{ عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) }
يخبر تعالى عن المجرمين أنهم كانوا في الدار الدنيا يضحكون من المؤمنين ، أي : يستهزئون بهم ويحتقرونهم (1) وإذا مروا بالمؤمنين يتغامزون عليهم ، أي : محتقرين لهم ، { وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ } أي : إذا انقلب ، أي : رجع هؤلاء المجرمون إلى منازلهم ، انقلبوا إليها فاكهين ،
__________
(1) في أ : "يحقرونهم".

(8/353)


إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)

أي : مهما طلبوا وجدوا ، ومع هذا ما شكروا نعمة الله عليهم ، بل اشتغلوا بالقوم المؤمنين يحتقرونهم ويحسدونهم ، { وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّون } أي : لكونهم على غير دينهم ، قال الله تعالى : { وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِين } أي : وما بُعث هؤلاء المجرمون (1) حافظين على هؤلاء المؤمنين ما يصدر من أعمالهم وأقوالهم ، ولا كلفوا بهم ؟ فلم اشتغلوا بهم وجعلوهم نصب أعينهم ، كما قال تعالى : { قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ } [المؤمنون : 108 - 111].
ولهذا قال هاهنا : { فَالْيَوْمَ } يعني : يوم القيامة { الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } أي : في مقابلة ما ضحك بهم أولئك ، { عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ } أي : إلى الله عز وجل ، في مقابلة من زعم فيهم أنهم ضالون ، ليسوا بضالين ، بل هم من أولياء الله المقربين ، ينظرون إلى ربهم في دار كرامته.
وقوله : { هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } ؟ أي : هل جوزي الكفار على ما كانوا يقابلون به المؤمنين من الاستهزاء والتنقص أم لا ؟ يعني : قد جوزوا أوفر الجزاء وأتمه وأكمله.
آخر [تفسير سورة] (2) "المطففين".
تفسير سورة الانشقاق
وهي مكية.
قال مالك ، عن عبد الله بن يزيد ، عن أبي سلمة : أن أبا هريرة قرأ بهم : " إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ " فسجد فيها ، فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها. رواه مسلم والنسائي ، من طريق مالك ، به (3).
وقال البخاري : حدثنا أبو النعمان ، حدثنا معتمر ، عن أبيه ، عن بكر ، عن أبي رافع قال : صليت مع أبي هُرَيرة العتمة فقرأ : " إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ " فسجد ، فقلت له ، قال : سجدتُ خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه (4).
ورواه أيضا عن مسدد ، عن معتمر ، به. ثم رواه عن مسدد ، عن يزيد بن زُرَيع ، عن التيمي ، عن بكر ، عن أبي رافع ، فذكره (5) وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من طرق ، عن سليمان بن طِرْخان التيمي ، به (6) وقد روى مسلم وأهل السنن من حديث سفيان بن عُيَينة - زاد النَّسائي : وسفيان الثوري - كلاهما عن أيوب بن موسى ، عن عطاء بن ميناء ، عن أبي هريرة قال : سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في " إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ " و " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ " (7).
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الأرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) }
__________
(1) في أ : "المجرمين" وهو خطأ.
(2) زيادة من أ.
(3) صحيح مسلم برقم (578) وسنن النسائي الكبرى برقم (11660).
(4) صحيح البخاري برقم (766).
(5) صحيح البخاري برقم (768).
(6) صحيح مسلم برقم (578) وسنن أبي داود برقم (1408) وسنن النسائي (2/161).
(7) صحيح مسلم برقم (578) وسنن أبي داود برقم (1407) وسنن الترمذي برقم (573) وسنن النسائي (2/162).

(8/354)


يقول تعالى : { إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } وذلك يوم القيامة ، { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا } أي : استمعت لربها

(8/355)


وأطاعت أمره فيما أمرها به من الانشقاق { وَحُقَّتْ } أي : وحق لها أن تطيع أمره ؛ لأنه العظيم الذي لا يُمانَع ولا يغالب ، بل قد قهر كلّ شيء وذل له كل شيء.
ثم قال : { وَإِذَا الأرْضُ مُدَّتْ } أي : بُسطت وفرشت وَوُسِّعَت.
قال ابن جرير ، رحمه الله : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن (1)
ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا كان يومُ القيامة مَدَّ الله الأرض مَدَّ الأديم حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه ، فأكون أول من يدعى ، وجبريل عن يمين الرحمن ، والله ما رآه قبلها ، فأقول : يا رب ، إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي ؟ فيقول الله عز وجل : صدق. ثم أشفع فأقول : يا رب ، عبادك عبدوك في أطراف الأرض. قال : وهو المقام المحمود" (2).
وقوله : { وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ } أي : ألقت ما في بطنها من الأموات ، وتخلت منهم. قاله مجاهد ، وسعيد ، وقتادة ، { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } كما تقدم.
وقوله : { يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا } أي : ساع إلى ربك سعيا ، وعامل عملا { فَمُلاقِيهِ } ثم إنك ستلقى ما عملتَ من خير أو شر. ويشهد له ما رواه أبو داود الطيالسي ، عن الحسن بن أبي جعفر ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قال جبريل : يا محمد ، عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه" (3).
ومن الناس من يعيد الضمير على قوله : { رَبِّك } أي : فملاق (4) ربك ، ومعناه : فيجازيك بعملك ويكافئك على سعيك. وعلى هذا فكلا القولين متلازم.
قال العوفي ، عن ابن عباس : { يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا } يقول : تعمل عملا تلقى الله به ، خيرا كان أو شرا.
وقال قتادة : { يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا } إن كدحك - يا ابن آدم - لضعيف ، فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل ، ولا قوة إلا بالله.
ثم قال : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا } أي : سهلا بلا تعسير ، أي : لا يحقق عليه جَميعُ دقائق أعماله ؛ فإن من حوسب كذلك يهلك (5) لا محالة.
__________
(1) في أ : "حدثنا أبو".
(2) تفسير الطبري (30/72) ورواه عبد الرزاق في تفسيره (1/328) ومن طريقه الطبري في تفسيره (15/99) عن معمر ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين به مرسلا ، ورواه أبو نعيم في الحلية (3/145) من طريق محمد بن جعفر ، عن إبراهيم بن سعد ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين ، عن رجل من أهل العلم به ، وقال : "صحيح تفرد بهذه الألفاظ علي بن الحسين لم يروه عنه إلا الزهري ولا عنه إلا إبراهيم بن سعد ، وعلي بن الحسين هو أفضل وأتقى من أن يروه عن رجل لا يعتمده فينسبه إلى العلم ويطلق القول به". وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (8/400) : "رجاله ثقات ، وهو صحيح إن كان الرجل صحابيا". لكن الحديث له علة وهي الاختلاف على الزهري في اسم الصحابي ، فرواه الحاكم في المستدرك (5/570) من طريق إبراهيم بن حمزة الزبيري ، عن إبراهيم بن سعد ، عن الزهري ، عن علي بن حسين ، عن جابر مرفوعا بنحوه ، وقال الحاكم : "صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه".
(3) مسند الطيالسي برقم (1755).
(4) في م : "أي ملاق".
(5) في م ، أ : "كذلك هلك".

(8/356)


قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، أخبرنا أيوب ، عن عبد الله بن أبي مُلَيْكة ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من نُوِقش الحساب عُذِّب". قالت : فقلت : أليس قال الله : { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا } ؟ ، قال : "ليس ذاك بالحساب ولكن ذلك العَرْض ، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب".
وهكذا رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير ، من حديث أيوب السختياني ، به (1)
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا أبو عامر الخَرَاز ، عن ابن أبي مُلَيْكة ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنه ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا معذبا". فقلت : أليس الله يقول : { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا } ؟ ، قال : "ذاك العرض ، إنه من نُوِقش الحساب عُذب" ، وقال بيده على إصبعه كأنه يَنكُتُ.
وقد رواه أيضا عن عمرو بن علي ، عن ابن أبي عدي ، عن أبي يونس القُشَيري ، عن ابن أبي مُلَيْكة ، عن القاسم ، عن عائشة ، فذكر الحديث (2) أخرجاه من طريق أبي يونس القُشَيري ، واسمه حاتم بن أبي صغيرة (3) به (4).
قال ابن جرير : حدثنا نصر بن علي الجهضمي ، حدثنا مسلم ، عن الحريش بن الخَرِّيت أخى الزبير ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة قالت : من نُوِقش الحساب - أو : من حُوسِب - عُذِّبَ. قال : ثم قالت : إنما الحسابُ اليسيرُ عَرض على الله عز وجل وهو يراهم (5).
وقال أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثني عبد الواحد بن حمزة بن (6) عبد الله بن الزبير ، عن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن عائشة قالت : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته : "اللهم حاسبني حسابا يسيرا". فلما انصرف قلت : يا رسول الله ، ما الحساب اليسير ؟ قال : "أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه ، إنه من نُوِقش الحسابَ يا عائشةُ يومئذ هَلَكَ". صحيح على شرط مسلم (7).
قوله تعالى : { وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا } أي : ويرجع إلى أهله في الجنة. قاله قتادة ، والضحاك ، { مَسْرُورًا } أي : فرحان مغتبطا بما أعطاه الله عز وجل.
وقد روى الطبراني عن ثوبان - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إنكم تعملون أعمالا لا تعرف ، ويوشك العازب (8) أن يثوب إلى أهله ، فمسرور ومكظوم (9).
__________
(1) المسند (6/47) وصحيح البخاري برقم (4939) وصحيح مسلم برقم (2876) وسنن الترمذي برقم (3337) وسنن النسائي الكبرى برقم (11659) وتفسير الطبري (30/74).
(2) تفسير الطبري (30/74).
(3) في أ : "صفرة".
(4) صحيح البخاري برقم (4939) وصحيح مسلم برقم (2876).
(5) تفسير الطبري (30/74).
(6) في م : "عن".
(7) المسند (6/48).
(8) في م ، أ ، هـ : "العارف" والمثبت من المعجم الكبير.
(9) المعجم الكبير (2/94) من طريق يحيى الحماني ، عن جعفر بن سليمان ، عن أبي عبد الله الشامي ، عن عائذ الله ، عن ثوبان به مرفوعا ، ويحيى الحماني ضعيف.

(8/357)


فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)

وقوله : { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ } أي : بشماله من وراء ظهره ، تُثْنى يده إلى ورائه ويعطى كتابه بها كذلك ، { فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا } أي : خسارا وهلاكا ، { وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا } أي : فرحا لا يفكر في العواقب ، ولا يخاف مما أمامه ، فأعقبه ذلك الفرح اليسير الحزن الطويل ، { إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ } أي : كان يعتقد أنه لا يرجع إلى الله ولا يعيده بعد موته. قاله ابن عباس ، وقتادة ، وغيرهما. والحَوْرُ : هو الرجوع. قال الله : { بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا } يعني : بلى سيعيده الله كما بدأه ، ويجازيه على أعماله خيرها وشرها ، فإنه { كَانَ بِهِ بَصِيرًا } أي : عليما خبيرا.
{ فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) }
رُوي عن علي ، وابن عباس ، وعُبادة بن الصامت ، وأبي هُرَيرة ، وشداد بن أوس ، وابن عمر ، ومحمد بن علي بن الحسين ، ومكحول ، وبكر بن عبد الله المزني ، وبُكَيْر (1) بن الأشج ، ومالك ، وابن أبي ذئب ، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجَشُون أنهم قالوا : الشفق : الحمرة.
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن ابن خُثَيم (2) عن ابن لبيبة ، عن أبي هُرَيرة قال : الشفق : البياض (3).
فالشفق هو : حمرة الأفق إما قبل طلوع الشمس - كما قاله مجاهد - وإما بعد غروبها - كما هو معروف (4) عند أهل اللغة.
قال الخليل بن أحمد : الشفق : الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة ، فإذا ذهب قيل : غاب الشفق.
وقال الجوهري : الشفق : بقية ضوء الشمس وحمرتُها في أول الليل إلى قريب من العَتمَة. وكذا قال عكرمة : الشفق الذي يكون بين المغرب والعشاء.
وفي صحيح مسلم ، عن عبد الله بن عمرو ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "وقت المغرب ما لم يغب الشفق" (5).
ففي هذا كله دليل على أن الشفق هو كما قاله الجوهري والخليل. ولكن صح عن مجاهد أنه
__________
(1) في أ : "وبكر".
(2) في أ : "خيثم".
(3) تفسير عبد الرزاق (2/292).
(4) في م : "كما هو المعروف".
(5) صحيح مسلم برقم (612).

(8/358)


قال في هذه الآية : { فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ } هو النهار كله. وفي رواية عنه أيضا أنه قال : الشفق : الشمس. رواهما ابن أبي حاتم.
وإنما حمله على هذا قَرْنهُ بقوله تعالى : { وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ } أي : جمع. كأنه أقسم بالضياء والظلام.
وقال ابن جرير : أقسم الله بالنهار مدبرًا ، وبالليل مقبلا. وقال ابن جرير : وقال آخرون : الشفق اسم للحمرة والبياض. وقالوا : هو من الأضداد (1).
قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة : { وَمَا وَسَقَ } وما جمع. قال قتادة : وما جمع من نجم ودابة. واستشهد ابن عباس بقول الشاعر : (2)
مُستَوسقات لو تَجِدْنَ سَائقا...
قد قال عكرمة : { وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ } يقول : ما ساق من ظلمة ، إذا كان الليل ذهب كل شيء إلى مأواه.
وقوله : { وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ } قال ابن عباس : إذا اجتمع واستوى. وكذا قال عكرمة ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، ومسروق ، وأبو صالح ، والضحاك ، وابن زيد.
{ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ } إذا استوى. وقال الحسن : إذا اجتمع ، إذا امتلأ. وقال قتادة : إذا استدار.
ومعنى كلامهم : أنه إذا تكامل نوره وأبدر ، جعله مقابلا لليل وما وسق.
وقوله : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } قال البخاري : أخبرنا سعيد بن النضر ، أخبرنا هُشَيم ، أخبرنا أبو بشر ، عن مجاهد قال : قال ابن عباس : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } حالا بعد حال - قال هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم.
هكذا رواه البخاري بهذا اللفظ (3) ، وهو محتمل أن يكون ابن عباس أسند هذا التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كأنه قال : سمعت هذا من نبيكم صلى الله عليه وسلم ، فيكون قوله : "نبيكم" مرفوعا على الفاعلية من "قال" وهو الأظهر ، والله أعلم ، كما قال أنس : لا يأتي عام إلا والذي بعده شَرٌّ منه ، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا أبو بشر ، عن مجاهد ؛ أن ابن عباس كان يقول : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } قال : يعني نبيكم صلى الله عليه وسلم ، يقول : حالا بعد حال. وهذا لفظه (4).
__________
(1) تفسير الطبري (30/76).
(2) البيت في تفسير الطبري (30/76) وقد ذكره المبرد في الكامل : إن لنا قلائصا حقائقا... مستوسقات لو يجدن سائقا
وهو منسوب لابن صرمة.
(3) صحيح البخاري برقم (4940).
(4) تفسير الطبري (30/78).

(8/359)


وقال علي ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } حالا بعد حال. وكذا قال عكرمة ومُرَة الطّيِّب ، ومجاهد ، والحسن ، والضحاك [ومسروق وأبو صالح] (1).
ويحتمل أن يكون المراد : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } حالا بعد حال. قال : هذا ، يعني المراد بهذا نبيكم صلى الله عليه وسلم ، فيكون مرفوعا على أن "هذا" و "نبيكم" يكونان مبتدأ وخبرا ، والله أعلم. ولعل هذا قد يكون هو المتبادر إلى كثير من الرواة ، كما قال أبو داود الطيالسي وغُنْدَر : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } قال : محمد صلى الله عليه وسلم. ويؤيد هذا المعنى قراءةُ عمر ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وعامة أهل مكة والكوفة : "لَتَرْكَبَنّ" بفتح التاء والباء.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، عن إسماعيل ، عن الشعبي : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } قال : لتركَبن يا محمد سماء بعد سماء. وهكذا رُوي عن ابن مسعود ، ومسروق ، وأبي العالية : { طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } سماء بعد سماء.
قلت : يعنون ليلة الإسراء.
وقال أبو إسحاق ، والسدي (2) عن رجل ، عن ابن عباس : { طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } منزلا على منزل. وكذا رواه العوفي ، عن ابن عباس مثله - وزاد : "ويقال : أمرا بعد أمر ، وحالا بعد حال".
وقال السدي نفسهُ : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } أعمال من قبلكم منزلا بعد منزل.
قلت : كأنه أراد معنى الحديث الصحيح : "لتركبن سَنَنَ من كان قبلكم ، حَذْو القُذَّة بالقُذَّة ، حتى لو دخلوا جُحر ضَبِّ لدخلتموه". قالوا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال : "فمن ؟" (3) وهذا محتمل.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا صدقة ، حدثنا ابن جابر ، أنه سمع مكحولا يقول في قول الله : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } قال : في كل عشرين سنة ، تحدثون أمرا لم تكونوا عليه.
وقال الأعمش : حدثني إبراهيم قال : قال عبد الله : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } قال : السماء تنشق ثم تحمر ، ثم تكون لونا بعد لون.
وقال الثوري ، عن قيس بن وهب ، عن مرة ، عن ابن مسعود : { طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } قال : السماء مَرةً كالدهان ، ومرة تنشق.
وروى البزار من طريق جابر الجعفي ، عن الشعبي ، عن علقمة ، عن عبد الله بن مسعود : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } يا محمد ، يعني حالا بعد حال. ثم قال : ورواه جابر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس.
__________
(1) زيادة من م.
(2) في م : "عن السدي".
(3) تقدم تخريج الحديث عند تفسير الآية : 34 من سورة التوبة.

(8/360)


وقال سعيد بن جبير : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } قال : قوم كانوا في الدنيا خسيس أمرهم ، فارتفعوا في الآخرة ، وآخرون كانوا أشرافا في الدنيا ، فاتضعوا في الآخرة.
وقال عكرمة : { طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } حالا بعد حال ، فطيما بعد ما كان رضيعًا ، وشيخًا بعد ما كان شابا.
وقال الحسن البصري : { طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } يقول : حالا بعد حال ، رخاء بعد شدة ، وشدة بعد رخاء ، وغنى بعد فقر ، وفقرا بعد غنى ، وصحة بعد سقم ، وسَقَما بعد صحة.
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن عبد الله بن زاهر : حدثني أبي ، عن عمرو بن شَمِر ، عن جابر - هو الجعفي - عن محمد بن علي ، عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن ابن آدم لفي غفلة مما خُلِقَ له ؛ إن الله إذا أراد خلقه قال للملك : اكتب رزقه ، اكتب أجله ، اكتب أثره ، اكتب شقيا أو سعيدًا ، ثم يرتفع ذلك الملك ويبعث الله إليه مَلَكا آخر فيحفظه حتى يدرك ، ثم يرتفع ذلك الملك ، ثم يوكل الله به ملكين يكتبان حسناته وسيئاته ، فإذا حَضَره الموتُ ارتفع ذانك الملكان ، وجاءه ملك الموت فقبض روحه ، فإذا دخل قبره رَدَّ الروح في جسده ، ثم ارتفع ملك الموت ، وجاءه مَلَكا القبر فامتحناه ، ثم يرتفعان ، فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات ، فانتشطا كتابا معقودا في عنقه ، ثم حضرا معه : واحدٌ سائقا وآخر شهيدا" ، ثم قال الله عز وجل : { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا } [ق : 22] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } قال : "حالا بعد حال". ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن قدامكم لأمرا عظيما لا تَقدرُونه ، فاستعينوا بالله العظيم" (1).
هذا حديث منكر ، وإسناده فيه ضعفاء ، ولكن معناه صحيح ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم.
ثم قال ابن جرير بعد ما حكى أقوال الناس في هذه الآية من القراء والمفسرين : والصواب من التأويل قول من قال لَتَرْكَبَنّ أنت - يا محمد - حالا بعد حال وأمرًا بعد أمر من الشَّدَائد. والمراد بذلك - وإن كان الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مُوَجَّها (2) - جَميعَ الناس ، وأنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالا (3).
وقوله : { فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ } أي : فماذا يمنعهم من الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر ؟ وما لهم إذا قرأت عليهم آيات الرحمن (4) وكلامه - وهو هذا القرآن - لا يسجدون إعظاما وإكرامًا واحتراما ؟.
وقوله : { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ } أي : من سجيتهم التكذيب والعناد والمخالفة للحق.
{ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ } قال مجاهد وقتادة : يكتمون في صدورهم.
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور (7/600) لابن أبي الدنيا في ذكر الموت وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية.
(2) في م : "متوجها".
(3) تفسير الطبري (30/80).
(4) في أ : "آيات الله".

(8/361)


{ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي : فأخبرهم - يا محمد - بأن الله عز وجل قد أعد لهم عذابا أليما.
وقوله { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } هذا استثناء منقطع ، يعني لكن الذين آمنوا - أي : بقلوبهم - وعملوا الصالحات بجوارحهم { لَهُمْ أَجْرٌ } أي : في الدار الآخرة.
{ غَيْرُ مَمْنُونٍ } قال ابن عباس : غير منقوص. وقال مجاهد ، والضحاك : غير محسوب.
وحاصل قولهما أنه غير مقطوع ، كما قال تعالى : { عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [هود : 108]. وقال السدي : قال بعضهم : { غَيْرُ مَمْنُونٍ } غير منقوص. وقال بعضهم : { غَيْرُ مَمْنُونٍ } عليهم.
وهذا القول الآخر عن بعضهم قد أنكره غير واحد ؛ فإن الله عز وجل له المنة على أهل الجنة في كل حال وآن ولحظة ، وإنما دخلوها بفضله ورحمته لا بأعمالهم ، فله عليهم المنة دائما سرمدًا ، والحمد لله وحده أبدا ؛ ولهذا يلهمون تسبيحه وتحميده كما يلهمون النَّفَس : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [يونس : 10].
آخر تفسير سورة "الانشقاق" ولله الحمد.

(8/362)


وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)

تفسير سورة البروج
وهي مكية.
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا رُزَيق بن أبي سلمى ، حدثنا أبو المهزّم ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج ، والسماء والطارق (1).
وقال أحمد : حدثنا أبو سعيد - مولى بني (2) هاشم - حدثنا حماد بنُ عباد السدوسي ، سمعت أبا المهزم يحدث عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يقرأ بالسموات في العشاء (3) تفرد به أحمد.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) }
__________
(1) المسند (2/326).
(2) في م : "مولى ابن".
(3) المسند (2/327).

(8/362)


يقسم الله بالسماء وبروجها ، وهي : النجوم العظام ، كما تقدم بيان ذلك في قوله : { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا } [الفرقان : 61].
قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، والسدي : البروج : النجوم. وعن مجاهد أيضا : البروج التي فيها الحرس.
وقال يحيى بن رافع : البروج : قصور في السماء. وقال المِنْهَال بن عمرو : { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ } الخلق الحسن.
واختار ابن جرير أنها : منازل الشمس والقمر ، وهي اثنا عشر برجا ، تسير الشمس في كل واحد منها شهرًا ، ويسير القمر في كل واحد يومين وثلثا ، فذلك ثمانية وعشرون منزلة (1) ويستسرّ ليلتين.
__________
(1) في م : "منزلا".

(8/363)


وقوله : { وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } اختلف المفسرون في ذلك ، وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا عبد الله بن محمد بن عمرو الغزي (1) حدثنا عُبَيد الله - يعني ابن موسى - حدثنا موسى بن عبيدة ، عن أيوب بن خالد بن صفوان بن أوس الأنصاري ، عن عبد الله بن رافع ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ } يوم القيامة { وَشَاهِدٍ } يوم الجمعة. وما طلعت شمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة ، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه ، ولا يستعيذ فيها من شر إلا أعاذه ، { وَمَشْهُودٍ } يوم عرفة" (2).
وهكذا روى هذا الحديث ابن خُزَيمة ، من طرق عن موسى بن عُبَيدة الربذي - وهو ضعيف الحديث - وقد روي موقوفا على أبي هريرة ، وهو أشبه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد ، حدثنا شعبة ، سمعت علي بن زيد ويونس بن عبيد يحدثان عن عمار - مولى بني هاشم - عن أبي هريرة - أما عليّ فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما يونس فلم يَعْدُ أبا هريرة - أنه قال في هذه الآية : { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } قال : يعني الشاهدَ يومُ الجمعة ، ويوم مشهود يوم القيامة (3).
وقال أحمد أيضا : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن يونس ، سمعت عمارًا - مولى بني هاشم - يحدث عن أبي هريرة وأنه قال في هذه الآية : { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } قال : الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة ، والموعود يوم القيامة (4).
وقد رُوي عن أبي هريرة أنه قال : اليوم الموعود يوم القيامة. وكذلك قال الحسن ، وقتادة ، وابن زيد. ولم أرهم يختلفون في ذلك ، ولله الحمد.
ثم قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عوف ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ، حدثني أبي ، حدثنا ضَمْضَم بن زُرْعَة ، عن شُرَيح بن (5) عبيد ، عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اليوم الموعود يوم القيامة ، وإن الشاهد يوم الجمعة ، وإن المشهود يوم عرفة ، ويوم الجمعة ذخره الله لنا" (6).
ثم قال ابن جرير : حدثنا سهل بن موسى الرازي ، حدثنا ابن أبي فُدَيْك ، عن ابن حرملة ، عن سعيد بن المسَيَّب أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن سيد الأيام يوم الجمعة ، وهو الشاهدُ ، والمشهود يوم عرفة" (7).
__________
(1) في أ : "المقرئ".
(2) ورواه الترمذي في السنن برقم (3339) من طريق روح بن عبادة وعبيد الله بن موسى ، عن موسى بن عبيدة به نحوه ، وقال الترمذي : "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة ، وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث ، ضعفه يحيى بن سعيد وغيره".
(3) المسند (2/298) ووقع فيه : "يعني الشاهد يوم عرفة ، والموعود يوم القيامة".
(4) المسند (2/298 ، 299).
(5) في أ : "عن".
(6) تفسير الطبري (30/82) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (3/298) عن هاشم بن مرثد ، عن محمد بن إسماعيل به ، وفيه ضعف وانقطاع ، وقد تقدم هذا الإسناد مرارا.
(7) تفسير الطبري (30/82).

(8/364)


وهذا مرسل من مراسيل سعيد بن المسيَّب ، ثم قال ابن جرير :
حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وكيع ، عن شعبة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف المكي ، عن ابن عباس قال : الشاهد هو محمد صلى الله عليه وسلم ، والمشهود يوم القيامة ، ثم قرأ : { ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ } (1) [هود : 103].
وحدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن شباك قال : سأل رجل الحسن بن علي عن : { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } قال : سألت أحدًا قبلي ؟ قال : نعم ، سألت ابن عمر وابن الزبير ، فقالا يوم الذبح ويوم الجمعة. فقال : لا ولكن الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قرأ : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } [النساء : 41] ، والمشهود يوم القيامة ، ثم قرأ : { ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ } (2).
وهكذا قال الحسن البصري. وقال سفيان الثوري ، عن ابن حرملة ، عن سعيد بن المسيب : { وَمَشْهُودٍ } يوم القيامة.
وقال مجاهد ، وعكرمة ، والضحاك : الشاهد : ابن آدم ، والمشهود : يوم القيامة.
وعن عكرمة أيضا : الشاهد : محمد صلى الله عليه وسلم ، والمشهود : يوم الجمعة.
[وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الشاهد : الله ، والمشهود : يوم القيامة] (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دُكَيْن ، حدثنا سفيان ، عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } قال : الشاهد : الإنسان. والمشهود : يوم الجمعة. هكذا رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مِهْران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } الشاهد : يوم عرفة ، والمشهود : يوم القيامة.
وبه عن سفيان - هو الثوري - عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : يوم الذبح ، ويوم عرفة ، يعني الشاهد والمشهود.
قال ابن جرير : وقال آخرون : المشهود يوم الجمعة. ورووا في ذلك ما حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، حدثني عمي عبد الله بن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن زيد بن أيمن ، عن عبادة بن نُسَيّ ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أكثروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة ، فإنه يوم مشهود ، تشهده الملائكة" (4).
وعن سعيد بن جبير : الشاهد : الله ، وتلا { وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } [النساء : 79] ، والمشهود :
__________
(1) تفسير الطبري (30/83).
(2) تفسير الطبري (30/83).
(3) زيادة من م ، أ ، والطبري.
(4) تفسير الطبري (30/84).

(8/365)


نحن. حكاه البغوي ، وقال : الأكثرون على أن الشاهد : يوم الجمعة ، والمشهود : يوم عرفة.
وقوله : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ } أي : لعن أصحاب الأخدود ، وجمعه : أخاديد ، وهي الحفير في الأرض ، وهذا خبر عن قوم من الكفار عَمَدوا إلى من عندهم من المؤمنين بالله ، عز وجل ، فقهروهم وأرادوهم أن يرجعوا عن دينهم ، فأبوا عليهم ، فحفروا لهم في الأرض أخدُودًا وأججوا فيه نار ، وأعدوا لها وقودًا يسعرونها به ، ثم أرادوهم فلم يقبلوا منهم ، فقذفوهم فيها ؛ ولهذا قال تعالى : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ } أي : مشاهدون لما يفعل بأولئك المؤمنين.
قال الله تعالى : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } أي : وما كان لهم عندهم ذنب إلا إيمانهم بالله العزيز الذي لا يضام من لاذ بجنابه ، المنيع الحميد في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره ، وإن كان قد قَدّر على عباده هؤلاء هذا الذي وقع بهم بأيدي الكفار به ، فهو العزيز الحميد ، وإن خفي سبب ذلك على كثير من الناس.
ثم قال : { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } من تمام الصفة أنه المالك لجميع السموات والأرض وما فيهما وما بينهما ، { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي : لا يغيب عنه شيء في جميع السموات والأرض ، ولا تخفى عليه خافية.
وقد اختلف أهل التفسير في أهل هذه القصة ، من هم. فعن علي ، رضي الله عنه ، أنهم أهل فارس حين أراد ملكهم تحليل تزويج (1) المحارم ، فامتنع عليه علماؤهم ، فعمد إلى حفر أخدود فقذف فيه من أنكر عليه منهم واستمر فيهم تحليل المحارم إلى اليوم.
وعنه أنهم كانوا قوما باليمن اقتتل مؤمنوهم ومشركوهم ، فغلب مؤمنوهم على كفارهم ، ثم اقتتلوا فغلب الكفار المؤمنين ، فخدُّوا لهم الأخاديد ، وأحرقوهم فيها.
وعنه أنهم كانوا من أهل الحبشة ، واحدهم (2) حَبَشِيٌّ.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ } قال : ناس من بني إسرائيل ، خَدّوا أخدودًا في الأرض ، ثم أوقدوا فيه نارا ، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالا ونساء ، فعُرضوا عليها ، وزعموا أنه دانيال وأصحابه.
وهكذا قال الضحاك بن مٌزَاحم ، وقيل غير ذلك. وقد قال الإمام أحمد :
حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن (3) عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن صُهَيب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "كان ملك فيمن كان قبلكم ، وكان له ساحر ، فلما كبر الساحر قال للملك : إني قد كبرت سِنِّي وحضر أجلي ، فادفع إلي غلاما لأعلمه السحر. فدفع إليه غلاما فكان يعلمه السحر ، وكان بين الساحر وبين الملك راهب ، فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه ، فأعجبه نحوه وكلامه ، وكان إذا أتى الساحر ضربه وقال : ما حبسك ؟ وإذا أتى أهله ضربوه
__________
(1) في أ : "تزوج".
(2) في م ، أ : "ونبيهم".
(3) في أ : "بن".

(8/366)


وقالوا : ما حبسك ؟ فشكا ذلك إلى الراهب ، فقال : إذا أراد الساحر أن يضربك فقل : حبسني أهلي. وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل : حبسني الساحر.
قال : فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة ، قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا ، فقال : اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر. قال : فأخذ حجرًا فقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحبّ إليك وأرضى من أمر الساحر ، فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس. ورماها فقتلها ، ومضى الناس. فأخبر الراهب بذلك فقال : أيْ بُنَي ، أنت أفضل مني ، وإنك سَتُبتلى ، فإن ابتليت فلا تدل علي. فكان الغلام يبُرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم ، وكان جليس للملك فعمي ، فسمع به ، فأتاه بهدايا كثيرة فقال : اشفني ولك ما هاهنا أجمعُ. فقال : ما أنا أشفي أحدًا ، إنما يشفي الله ، عز وجل ، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك. فآمن فدعا الله فشفاه. ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس ، فقال له الملك : يا فلان ، من رَدّ عليك بصرك ؟ فقال : ربي ؟ فقال : أنا ؟ قال : لا ربي وربك الله. قال : ولك رب غيري ؟ قال : نعم ، ربي وربك الله. فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام ، فبعث إليه فقال : أيْ بُنَي ، بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص وهذه الأدواء ؟ قال : ما أشفي أنا أحدًا ، إنما يشفي الله ، عز وجل. قال : أنا ؟ قال : لا. قال : أولك رب غيري ؟ قال : ربي وربك الله. فأخذه أيضا بالعذاب ، فلم يزل به حتى دل على الراهب ، فأتى بالراهب فقال : ارجع عن دينك ، فأبى ، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه ، وقال للأعمى : ارجع عن دينك ، فأبى ، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض. وقال للغلام : ارجع عن دينك ، فأبى ، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا ، وقال : إذا بلغتم ذروته ، فإن رجع عن دينه وإلا فَدَهدهوه [من فوقه] (1) فذهبوا به ، فلما علوا به الجبل قال : اللهم ، اكفنيهم بما شئت. فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون. وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك فقال : ما فعل أصحابك ؟ فقال : كفانيهم الله. فبعث به مع نفر في قُرقُور فقال : إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فغرِّقوه في البحر. فلججوا به البحر فقال الغلام. اللهم ، اكفنيهم بما شئت. فغرقوا أجمعون ، وجاء الغلام حتى دخل على الملك فقال : ما فعل أصحابك ؟ فقال : كفانيهم الله. ثم قال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به ، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني ، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي. قال : وما هو ؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد ثم تصلبني على جذع ، وتأخذ سهمًا من كنانتي ثم قل : "بسم الله رب الغلام" ، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. ففعل ، ووضع السهم في كبد قوسه ثم رماه ، وقال : "باسم الله رب الغلام". فوقع السهم في صدغه ، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات ، فقال الناس : آمنا برب الغلام. فقيل للملك : أرأيت ما كنت تحذر ؟ فقد - والله - نزل بك ، قد آمن الناس كلهم. فأمر بأفواه السكك فَخُدّت فيها الأخاديد ، وأضرمت فيها النيران ، وقال : من رجع عن دينه فدعوه وإلا فأقحموه فيها. قال : فكانوا يتعادون فيها ويتدافعون ، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه ، فكأنها تقاعست أن تقع في النار ، فقال الصبي : اصبري يا أماه ، فإنك على الحق".
__________
(1) زيادة من المسند.

(8/367)


وهكذا رواه مسلم في آخر الصحيح عن هُدْبة بن خالد ، عن حماد بن سلمة به نحوه (1) ورواه النسائي عن أحمد بن سليمان ، عن عفان ، عن حماد بن سلمة (2) ومن طريق حماد بن زيد ، كلاهما عن ثابت ، به واختصروا أوله. وقد جَوّده الإمام أبو عيسى الترمذي ، فرواه في تفسير هذه السورة عن محمود بن غَيلانَ وعَبد بن حُمَيد - المعنى واحد - قالا أخبرنا عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن ثابت البُناني ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن صُهَيب قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر هَمَس - والهَمس في قول بعضهم : تحريك شفتيه كأنه يتكلم - فقيل له : إنك - يا رسول الله - إذا صليت العصر همست ؟ قال : "إن نبيا من الأنبياء ، كان أُعجِب بأمته فقال : من يقوم لهؤلاء ؟. فأوحى الله إليه أن خيرهم بين أن أنتقم منهم ، وبين أن أسلط عليهم عدوهم. فاختاروا النقمة ، فسلَّط عليهم الموت ، فمات منهم في يوم سبعون ألفا". قال : وكان إذا حَدّث بهذا الحديث ، حَدّث بهذا الحديث الآخر قال : كان مَلك من الملوك ، وكان لذلك الملك كاهن تكهن له ، فقال الكاهن : انظروا لي غلامًا فَهِمًا - أو قال : فطنًا لَقنًا - فأعلمه علمي هذا فذكر القصة بتمامها ، وقال في آخره (3) يقول الله عز وجل : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ } حتى بلغ : { الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } قال : فأما الغلام فإنه دفن قال : فيذكر أنه أخرج في زمان عمر بن الخطاب ، وإصبعه على صُدغه كما وضعها حين قتل. ثم قال الترمذي : حسن غريب (4).
وهذا السياق ليس فيه صراحة أن سياق هذه القصة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزِّي : فيحتمل أن يكون من كلام صُهَيب الرومي ، فإنه كان عنده علم من أخبار النصارى ، والله أعلم.
وقد أورد محمد بن إسحاق بن يَسَار هذه القصة في السيرة بسياق آخر ، فيها مخالفة لما تقدم فقال : حدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القُرَظي - وحدثني أيضًا بعض أهل نجران ، عن أهلها - : أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان ، وكان في قرية من قراها قريبًا من نجران - ونجران هي القرية العظمى التي إليها جمَاعُ أهل تلك البلاد - ساحرٌ يعلم غلمان أهل نجران السحر فلما نزلها فَيمُون (5) - ولم يسموه لي بالاسم الذي سماه ابن منبه ، قالوا : رجل نزلها - ابتنى (6) خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي فيها الساحر ، وجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر ، فبعث الثامر ابنه عبد الله بن الثامر مع غلمان أهل نجران ، فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من عبادته وصلاته ، فجعل يجلس إليه ويسمع منه ، حتى أسلم فوحد الله وعبده ، وجعل يسأله عن شرائع الإسلام حتى إذا فقه فيه جعل يسأله عن الاسم الأعظم ، وكان يعلمه ، فكتمه إياه وقال له : يا ابن أخي ، إنك لن تحمله ؛ أخشى ضعفك عنه. والثامر أبو عبد الله لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان ، فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن به عنه ، وتخوف ضعفه فيه ، عمد إلى أقداح فجمعها ، ثم لم يبق لله اسما يعلمه إلا كتبه في قدْح ،
__________
(1) المسند (6/16) وصحيح مسلم برقم (3005).
(2) سنن النسائي الكبرى برقم (11661).
(3) في أ : "في أواخره".
(4) سنن الترمذي برقم (3340).
(5) في أ : "ميمون".
(6) في م : "فابتنى".

(8/368)


وكل اسم في قدح ، حتى إذا أحصاها أوقد نارًا ثم جعل يقذفها فيها قدْحا قدْحًا ، حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بِقدْحه ، فوثب القدْح حتى خرج منها لم يضره شيء ، فأخذه ثم أتى به صاحبه فأخبره أنه قد علم الاسم الأعظم الذي كتمه فقال : وما هو : قال : هو كذا وكذا. قال : وكيف علمته ؟ فأخبره بما صنع. قال : أي ابن أخي ، قد أصبته فأمسك على نفسك ، وما أظن أن تفعل.
فجعل عبد الله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدًا به ضر إلا قال : يا عبد الله ، أتوحدُ الله وتدخلُ في ديني وأدعو الله لك فيعافيكَ مما أنت فيه من البلاء ؟ فيقول : نعم. فيوحد الله ويسلم ، فيدعو الله له فَيشفَى حتى لم يبق بنجران أحد به ضر إلا أتاه ، فاتبعه على أمره ودعا له فعوفي ، حتى رُفع شأنه إلى ملك نجران ، فدعاه فقال له : أفسدت عليّ أهل قريتي ، وخالفت ديني ودين آبائي ، لأمثلنّ بك. قال : لا تقدر على ذلك. قال : فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل ، فَيُطرح على رأسه ، فيقع إلى الأرض ما به بأس ، وجعل يبعث به إلى مياه نجران ، بُحور لا يلقى فيها شيء إلا هلك ، فيلقى به فيها ، فيخرج ليس به بأس. فلما غلبه قال له عبد الله بن الثامر : إنك - والله - لا تقدر على قتلي حتى تُوَحّدَ الله فَتُؤمن بما آمنت به ، فإنك إن فعلت سُلّطتَ عليّ فقتلتني. قال : فوحّدَ الله ذلك الملك ، وشهد شهادة عبد الله بن الثامر ، ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة ، فقتله ، وهلك الملك مكانه. واستجمع أهلُ نجران على دين عبد الله بن الثامر - وكان على ما جاء به عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، من الإنجيل وحُكمه - ثم أصابهم ما أصاب أهلَ دينهم من الأحداث ، فمن هنالك كان أصل دين النصرانية بنجران.
قال ابن إسحاق : فهذا حديث محمد بن كعب القرظي وبعض أهل نجران عن عبد الله بن الثامر ، والله أعلم أيّ ذلك كان.
قال : فسار إليهم ذو نواس بجنده ، فدعاهم إلى اليهودية ، وخيَّرهم بين ذلك أو القتل ، فاختاروا القتل ، فخدّ الأخدود ، فحرق بالنار وقتل بالسيف ومثل بهم ، حتى قتل منهم قريبًا من عشرين ألفا ، ففي ذي نواس وجنده أنزل الله ، عز وجل ، على رسوله صلى الله عليه وسلم : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد } (1).
هكذا ذكر محمد بن إسحاق في السيرة أن الذي قتل أصحاب الأخدود هو ذو نواس ، واسمه : زرعة ، ويسمَّى في زمان مملكته بيوسف ، وهو ابن تِبَان أسعد أبي كَرب ، وهو تُبَّع الذي غزا المدينة وكسى الكعبة ، واستصحب معه حبرين من يهود المدينة ، فكان تَهَوّد من تَهَوّد من أهل اليمن على يديهما ، كما ذكره ابن إسحاق مَبسوطًا ، فقتل ذو نواس في غداة واحدة في الأخدود عشرين ألفا ، ولم ينج منهم سوى رجل واحد يقال له : دوس ذو ثَعلبان ، ذهب فارسا ، وطَرَدُوا وراءه فلم يُقدَر عليه ، فذهب إلى قيصر ملك الشام ، فكتب إلى النجاشي ملك الحبشة ، فأرسل معه جيشًا من نصارى الحبشة يقدمهم أرياط وأبرهة ، فاستنقذوا اليمن من أيدي اليهود ، وذهب ذو نواس هاربًا
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (1/34).

(8/369)


فَلَجَّج في البحر ، فغرق. واستمر مُلْكُ الحبشة في أيدي النصارى سبعين سنة ، ثم استنقذه سيف ابن ذي يزن الحميري من أيدي النصارى ، لما استجاش بكسرى ملك الفرس ، فأرسل معه من في السجون ، وكانوا قريبًا من سبعمائة ، ففتح بهم اليمن ، ورجع الملك إلى حمير. وسنذكر طرفًا من ذلك - إن شاء الله - في تفسير سورة : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ }
وقال ابن إسحاق : وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم : أنه حُدِّث : أن رجلا من أهل نجران كان في زمان عمر بن الخطاب ، حَفَر خَربَة من خَرِب نجران لبعض حاجته ، فوجد عبد الله بن الثامر تحت دَفْن فيها قاعدا ، واضعا يده على ضربة في رأسه ، ممسكا عليها بيده ، فإذا أخذت يده عنها ثَعبتْ دما ، وإذا أرسلت يده رُدّت عليها ، فأمسكت دمها ، وفي يده خاتم مكتوب فيه : ربي الله. فكُتِب فيه إلى عمر بن الخطاب يخبره بأمره ، فكتب عمر إليهم : أن أقرّوه على حاله ، وردّوا عليه الدّفَن الذي كان عليه. ففعلوا (1).
وقد قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا ، رحمه الله : حدثنا أبو بلال الأشعري ، حدثنا إبراهيم بن محمد عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، حدثني بعض أهل العلم : أن أبا موسى لما افتتح أصبهان وجد حائطا من حيطان المدينة قد سقط ، فبناه فسقط ، ثم بناه فسقط ، فقيل له : إن تحته رجلا صالحًا. فحفر الأساس فوجد فيه رجلا قائمًا معه سيف ، فيه مكتوب : أنا الحارث بن مضاض ، نقمت على أصحاب الأخدود. فاستخرجه أبو موسى ، وبنى الحائط ، فثبت.
قلت : هو الحارث بن مضاض بن عمرو بن مُضاض بن عمرو الجرهمي ، أحد ملوك جرهم الذين ولوا أمر الكعبة بعد ولد نَبْت (2) بن إسماعيل بن إبراهيم ، وَوَلدُ الحارث هذا هو : عمرو بن الحارث بن مضاض هو آخر ملوك جرهم بمكة ، لما أخرجتهم خزاعة وأجلوهم إلى اليمن ، وهو القائل في شعره الذي قال ابن هشام (3) إنه أول شعر قاله العرب :
كَأن لَم يَكُنْ بَين الحَجُون إلى الصّفا... أَنِيسٌ ، ولم يَسمُر بمكَّةَ سَامِرُ...
بَلَى ، نَحنُ كُنَّا أهلَهَا فأبادَنَا... صُروفُ اللَّيالي والجُدودُ العَوَاثِرُ...
وهذا يقتضي أن هذه القصة كانت قديما بعد زمان إسماعيل ، عليه السلام ، بقرب من خمسمائة سنة أو نحوها ، وما ذكره ابن إسحاق يقتضي أن قصتهم كانت في زمان الفترة التي بين عيسى ومحمد ، عليهما من الله السلام ، وهو أشبه ، والله أعلم.
وقد يحتمل أن ذلك قد وقع في العالم كثيرًا ، كما قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا صفوان ، عن عبد الرحمن بن جبير قال : كانت الأخدود في اليمن زمان تبع ، وفي القسطنطينية زمان قسطنطين حين صرف النصارى قبلتهم عن دين المسيح والتوحيد ، فاتخذوا أتّونا ، وألقى فيه النصارى الذين كانوا على دين المسيح والتوحيد. وفي العراق في أرض بابل بختنصر ، الذي وضع الصنم وأمر الناس أن يسجدوا له ، فامتنع دانيال وصاحباه :
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (1/36).
(2) في م : "ثابت".
(3) السيرة النبوية لابن هشام (1/115).

(8/370)


إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)

عزريا وميشائيل ، فأوقد لهم أتونا وألقى فيه الحطب والنار ، ثم ألقاهما فيه ، فجعلها الله عليهما بردًا وسلاما ، وأنقذهما منها ، وألقى فيها الذين بغوا عليه وهم تسعة رهط ، فأكلتهم النار.
وقال أسباط ، عن السدي في قوله : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ } قال : كانت الأخدود ثلاثة : خَدّ بالعراق ، وخَدّ بالشام ، وخَدّ باليمن. رواه ابن أبي حاتم.
وعن مقاتل قال : كانت الأخدود ثلاثة : واحدة بنجران باليمن ، والأخرى بالشام ، والأخرى بفارس ، أما التي بالشام فهو أنطنانوس الرومي ، وأما التي بفارس فهو بختنصر ، وأما التي بأرض العرب فهو يوسف ذو نواس. فأما التي بفارس والشام فلم ينزل الله فيهم قرآنا ، وأنزل في التي كانت بنجران.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدَّشْتَكي ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع - هو ابن أنس - في قوله : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ } قال : سمعنا أنهم كانوا قومًا في زمان الفترة فلما رأوا ما وقع في الناس من الفتنة والشر وصاروا أحزابًا ، { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [المؤمنون : 53 ، الروم : 32] ، اعتزلوا إلى قرية سكنوها ، وأقاموا على عبادة الله { مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ } [البينة : 5] ، وكان هذا أمرهم حتى سمع بهم جبار من الجبارين ، وحُدّث حديثهم ، فأرسل إليهم فأمرهم أن يعبدوا الأوثان التي اتخذوا (1) وأنهم أبوا عليه كلّهم وقالوا : لا نعبد إلا الله وحده ، لا شريك له. فقال لهم : إن لم تعبدوا هذه الآلهة التي عبدتُ فإني قاتلكم. فأبوا عليه ، فخَدَّ أخدودا من نار ، وقال لهم الجبار - وَوَقَفهم عليها - : اختاروا هذه أو الذي نحن فيه. فقالوا : هذه أحب إلينا. وفيهم نساء وذرية ، ففزعت الذرية ، فقالوا لهم : لا نار من بعد اليوم. فوقعوا فيها ، فقبضت أرواحهم من قبل أن يمسهم حَرّهُا ، وخرجت النار من مكانها فأحاطت بالجبارين ، فأحرقهم الله بها ، ففي ذلك أنزل الله ، عز وجل : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد }
ورواه ابن جرير : حُدِّثت عن عمار ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، به نحوه (2).
وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } أي : حَرقوا (3) قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وابن أبْزَى.
{ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا } أي : لم يقلعوا عما فعلوا ، ويندموا على ما أسلفوا.
{ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ } وذلك أن الجزاء من جنس العمل. قال الحسن البصري : انظروا إلى هذا الكرم والجود ، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة.
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) }
__________
(1) في أ : "التي لتخذوها".
(2) تفسير الطبري (30/88).
(3) في م : "حرقوا بالنار".

(8/271)


يخبر تعالى عن عباده المؤمنين أن { لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } (1) بخلاف ما أعد لأعدائه من الحريق والجحيم ؛ ولهذا قال : { ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ }
ثم قال : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } أي : إن بطشه وانتقامه من أعدائه الذين كَذَّبوا رسله وخالفوا أمره ، لشديد عظيم قوي ؛ فإنه تعالى ذو القوة المتين ، الذي ما شاء كان كما يشاء في مثل لمح البصر ، أو هو أقرب ؛ ولهذا قال : { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيد } أي : من قوته وقدرته التامة يبدئ الخلق ثم يعيده كما بدأه ، بلا ممانع ولا مدافع. { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُود } أي : يغفر ذنب من تاب إليه وخَضَع لديه ، ولو كان الذنب من أي شيء كان.
والودود - قال ابن عباس وغيره - : هو الحبيب ، { ذُو الْعَرْشِ } [أي : صاحب العرش] (2) المعظم (3) العالي على جميع الخلائق.
و { الْمَجِيدُ } فيه قراءتان : الرفع على أنه صفة للرب ، عز وجل. والجر على أنه صفة للعرش ، وكلاهما معنى صحيح.
{ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } أي : مهما أراد فعله ، لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل ؛ لعظمته وقهره وحكمته وعدله ، كما روينا عن أبي بكر الصديق أنه قيل له - وهو في مرض الموت - : هل نظر إليك الطبيب ؟ قال : نعم. قالوا : فما قال لك ؟ قال : قال لي : إني فعال لما أريد.
وقوله : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ } أي : هل بلغك ما أحل الله بهم من البأس ، وأنزل عليهم من النقمة التي لم يردها عنهم أحد ؟.
وهذا تقرير لقوله : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } أي : إذا أخذ الظالم أخذه أخذًا أليمًا شديدا ، أخذ عزيز مقتدر.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسِيّ ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة تقرأ : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ } فقام يسمع (4) فقال : "نعم ، قد جاءني" (5).
__________
(1) في أ بعدها : "خالدين فيها".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : "العظيم".
(4) في أ : "يستمع".
(5) وهذا مرسل.

(8/372)


وقوله : { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ } أي : هم في شك وريب وكفر وعناد ، { وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ } أي : هو قادر عليهم ، قاهر لا يفوتونه ولا يعجزونه ، { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ } أي : عظيم كريم ، { فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ } أي : هو في الملأ الأعلى محفوظ من الزيادة والنقص والتحريف والتبديل.
قال ابن جرير : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا قُرَّة بن سليمان ، حدثنا حرب بن سُرَيج (1) حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك في قوله : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ } قال : إن اللوح المحفوظ الذي ذكر الله : { بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ } في جبهة إسرافيل (2).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح ، حدثنا معاوية بن صالح : أن أبا الأعْيَس - هو عبد الرحمن بن سَلْمَان - قال : ما من شيء قضى الله - القرآن فما قبله وما بعده - إلا وهو في اللوح المحفوظ. واللوح المحفوظ بين عيني إسرافيل ، لا يؤذن له بالنظر فيه.
وقال الحسن البصري : إن هذا القرآن المجيد عند الله في لوح محفوظ ، ينزل منه ما يشاء على من يشاء من خلقه.
وقد روى البغوي من طريق إسحاق بن بشر (3) أخبرني مقاتل وابن جريج ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : إنه في صدر اللوح لا إله إلا الله وحده ، دينه الإسلام ، ومحمد عبده ورسوله ، فمن آمن بالله وصدق بوعده واتبع رسله ، أدخله الجنة. قال : واللوح لوح من درة بيضاء ، طوله ما بين السماء والأرض ، وعرضه ما بين المشرق والمغرب ، وحافتاه الدر والياقوت ، ودفتاه ياقوتة حمراء ، وقلمه نور ، وكلامه معقود بالعرش ، وأصله في حجر ملك (4).
قال مقاتل : اللوح المحفوظ عن يمين العرش.
وقال الطبراني : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا منجاب بن الحارث ، حدثنا إبراهيم بن يوسف ، حدثنا زياد بن عبد الله ، عن ليث ، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله خلق لوحًا محفوظًا من دُرَّة بيضاء ، صفحاتها من ياقوتة حمراء ، قَلَمه نور وكتابه نور ، لله فيه كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة ، يخلق ويرزق ، ويميت ويحيي ، ويُعِزُّ ويُذِلُّ ، ويفعل ما يشاء" (5).
آخر تفسير سورة "البروج" ولله الحمد (6).
__________
(1) في أ : "شريح".
(2) تفسير الطبري (30/90).
(3) في أ : "بشير".
(4) معالم التنزيل للبغوي (8/389).
(5) المعجم الكبير (12/72) وزياد وليث بن أبي سليم ضعيفان ، وقد جاء موقوفا على ابن عباس ، رواه الطبراني في المعجم الكبير (10/316) من طريق بكير بن شهاب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس بنحوه.
(6) في أ : "والله أعلم".

(8/373)


وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)

تفسير سورة الطارق
وهي مكية.
قال عبد الله ابن الإمام أحمد : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن محمد - قال : عبد الله وسمعته أنا منه - حدثنا مروان بن معاوية الفزاري ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي ، عن عبد الرحمن ابن خالد بن أبي جَبل (1) العُدْواني ، عن أبيه : أنه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مُشرّق ثَقيف وهو قائم على قوس - أو : عصا - حين أتاهم يبتغي عندهم النصر ، فسمعته يقول : " وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ " حتى ختمها - قال : فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك ، ثم قرأتها في الإسلام - قال : فدعتني ثقيف فقالوا : ماذا سمعت (2) من هذا الرجل ؟ فقرأتها عليهم ، فقال من معهم من قريش : نحن أعلم بصاحبنا ، لو كنا نعلم ما يقول حقا لاتبعناه (3).
وقال النسائي : حدثنا عمرو بن منصور ، حدثنا أبو نعيم ، عن مسْعَر ، عن محارب بن دِثَار ، عن جابر قال : صلى معاذ المغرب ، فقرأ البقرة والنساء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أفتان يا معاذ ؟ ما كان يكفيك أن تقرأ بالسماء والطارق ، والشمس وضحاها ، ونحو هذا ؟" (4).
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ (10) }
يقسم (5) تعالى بالسماء وما جعل فيها من الكواكب النيرة ؛ ولهذا قال : { وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ } ثم قال { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ } ثم فسره بقوله : { النَّجْمُ الثَّاقِبُ }
قال قتادة وغيره : إنما سمي النجم طارقا ؛ لأنه إنما يرى بالليل ويختفي بالنهار. ويؤيده ما جاء في الحديث الصحيح : نهى أن يطرق الرجل أهله طروقا (6) أي : يأتيهم فجأة بالليل. وفي
__________
(1) في أ : "جهل".
(2) في م : "ما سمعت".
(3) المسند (4/335) وقال الهيثمي في المجمع (7/136) : "عبد الرحمن ذكره ابن أبي حاتم ولم يخرجه أحد وبقية رجاله ثقات".
(4) سنن النسائي الكبرى برقم (11664).
(5) في أ : "أقسم".
(6) رواه البخاري في صحيحه برقم (5243) من حديث جابر ، رضي الله عنه.

(8/374)


الحديث الآخر المشتمل على الدعاء : "إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن" (1).
وقوله : { الثَّاقِبُ } قال ابن عباس : المضيء. وقال السدي : يثقب الشياطين إذا أرسل عليها. وقال عكرمة : هو مضيء ومحرق للشيطان.
وقوله : { إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } أي : كل نفس عليها من الله حافظ يحرسها من الآفات ، كما قال تعالى : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } الآية [الرعد : 11].
وقوله : { فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ } تنبيه للإنسان على ضعف أصله الذي خُلق منه ، وإرشاد له إلى الاعتراف بالمعاد ؛ لأن من قدر على البَدَاءة فهو قادر على الإعادة بطريق الأولى ، كما قال : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم : 27].
وقوله : { خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ } يعني : المني ؛ يخرج دَفقًا من الرجل ومن المرأة ، فيتولد منهما الولد بإذن الله ، عز وجل (2) ؛ ولهذا قال : { يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ } يعني : صلب الرجل وترائب المرأة ، وهو صدرها.
قال شبيب بن بشر ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس : { يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ } صلب الرجل وترائب المرأة ، أصفر رقيق ، لا يكون الولد إلا منهما. وكذا قال سعيد بن جُبَير ، وعكرمة ، وقتادة والسُّدِّي ، وغيرهم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، عن مِسْعَر : سمعت الحكم ذكر عن ابن عباس : { يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ } قال : هذه الترائب. ووضع يده على صدره.
وقال الضحاك وعطية ، عن ابن عباس : تَريبة المرأة موضُع القلادة. وكذا قال عكرمة ، وسعيد بن جُبَير. وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الترائب : بين ثدييها.
وعن مجاهد : الترائب ما بين المنكبين إلى الصدر. وعنه أيضا : الترائب أسفل من التراقي. وقال سفيان الثوري : فوق الثديين. وعن سعيد بن جُبَير : الترائب أربعة أضلاع من هذا الجانب الأسفل.
وعن الضحاك : الترائب بين الثديين والرجلين والعينين.
وقال الليث بن سعد عن مَعْمَر بن أبي حبيبة (3) المدني : أنه بلغه في قول الله عز وجل : { يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ } قال : هو عصارة القلب ، من هناك يكون الولد.
وعن قتادة : { يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ } من بين صلبه ونحره.
وقوله : { إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ } فيه قولان :
أحدهما : على رجع هذا الماء الدافق إلى مقره الذي خرج منه لقادر على ذلك. قاله مجاهد ،
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند (3/419) من حديث عبد الرحمن بن خنبش ، رضي الله عنه.
(2) في أ : "بإذن الله تعالى".
(3) في أ : "حبة".

(8/375)


وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)

وعكرمة ، وغيرهما.
والقول الثاني : إنه على رجع هذا الإنسان المخلوق من ماء دافق ، أي : إعادته وبعثه إلى الدار الآخرة لقادر ؛ لأن من قدر على البدء قدر على الإعادة.
وقد ذكر الله ، عز وجل ، هذا الدليل في القرآن في غير ما موضع ، وهذا القول قال به الضحاك ، واختاره ابن جرير ، ولهذا قال : { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } أي : يوم القيامة تبلى فيه السرائر ، أي : تظهر وتبدو ، ويبقى السر علانية والمكنون مشهورا. وقد ثبت في الصحيحين ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يرفع لكل غادر لواء عند استه (1) يقال : هذه غَدْرَةُ فلان بن فلان" (2).
وقوله : { فَمَا لَهُ } أي : الإنسان يوم القيامة { مِنْ قُوَّةٍ } أي : في نفسه { وَلا نَاصِرٍ } أي : من خارج منه ، أي : لا يقدر على أن ينقذ نفسه من عذاب الله ، ولا يستطيع له أحد ذلك.
{ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17) }
قال ابن عباس : الرجع : المطر. وعنه : هو السحاب فيه المطر. وعنه : { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ } تمطر ثم تمطر.
وقال قتادة : ترجع رزق العباد كل عام ، ولولا ذلك لهلكوا وهلكت مواشيهم.
وقال ابن زيد : ترجع نجومها وشمسها وقمرها ، يأتين من هاهنا.
{ وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ } قال ابن عباس : هو انصداعها عن النبات. وكذا قال سعيد بن جُبَير وعكرمة ، وأبو مالك ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، وغير واحد.
وقوله : { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } قال ابن عباس : حق. وكذا قال قتادة.
وقال آخر : حكم عدل.
{ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ } أي : بل هو حق جد.
ثم أخبر عن الكافرين بأنهم يكذبون به ويصدون عن سبيله ، فقال : { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا } أي : يمكرون بالناس في دعوتهم إلى خلاف القرآن.
ثم قال : { فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ } أي : أنظرهم ولا تستعجل لهم ، { أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا } أي : قليلا. أي : وترى ماذا أحل بهم من العذاب والنكال والعقوبة والهلاك ، كما قال : { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [لقمان : 24].
آخر تفسير سورة "الطارق" ولله الحمد (3).
__________
(1) في أ : "عند رأسه".
(2) صحيح البخاري برقم (3188) وصحيح مسلم برقم (1735).
(3) في أ : "والله أعلم".

(8/376)


تفسير سورة سبح
وهي مكية.
والدليل على ذلك ما رواه البخاري : حدثنا عبدان : أخبرني أبي ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب قال : أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم ، فجعلا يقرئاننا القرآن. ثم جاء عمار وبلال وسعد. ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين. ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به ، حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون : هذا رسول الله قد جاء ، فما جاء حتى قرأت : " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى " في سور مثلها (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا إسرائيل ، عن ثُوَيْر بن أبي فاختَةَ ، عن أبيه ، عن علي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذه السورة : " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى " تفرد به أحمد (2).
وثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ : "هلا صَلّيت بسبح اسم ربك الأعلى ، والشمس وضحاها ، والليل إذا يغشى" (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر ، عن أبيه ، عن حبيب بن سالم ، عن أبيه ، عن النعمان بن بشير : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في العيدين ب " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى " و " هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ " وإن وافق يوم الجمعة قرأهما جميعا (4).
هكذا وقع في مسند الإمام أحمد إسناد هذا الحديث. وقد رواه مسلم - في صحيحه - وأبو داود والترمذي والنسائي ، من حديث أبو عَوَانة وجرير وشعبة ، ثلاثتهم عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر ، عن أبيه ، عن حبيب بن سالم ، عن النعمان بن بشير ، به (5) قال الترمذي : "وكذا رواه الثوري ومسعر ، عن إبراهيم - قال : ورواه سفيان بن عيينة عن إبراهيم - عن أبيه ، عن حبيب بن سالم ، عن أبيه ، عن النعمان. ولا يعرف لحبيب رواية عن أبيه".
وقد رواه ابن ماجة عن محمد بن الصباح ، عن سفيان بن عيينة ، عن إبراهيم بن المنتشر ، عن أبيه عن حبيب بن سالم ، عن النعمان به (6) كما رواه الجماعة ، والله أعلم.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4941).
(2) المسند (1/961) وقال الهيثمي في المجمع (7/136) : "فيه ثوير بن أبي فاختة وهو متروك".
(3) صحيح البخاري برقم (507) وصحيح مسلم برقم (465).
(4) المسند (4/271)
(5) صحيح مسلم برقم (878) وسنن أبي داود برقم (1122) وسنن الترمذي برقم (533) وسنن النسائي (3/112).
(6) سنن ابن ماجة برقم (1281).

(8/377)


سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)

ولفظ مسلم وأهل السنن : كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة ب " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى " و " هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ " وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما.
وقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي بن كعب ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الرحمن بن أبْزَى ، وعائشة أم المؤمنين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر ب " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى " و " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " و " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " - زادت عائشة : والمعوذتين (1).
وهكذا رُوي هذا الحديث - من طريق - جابر وأبي أمامة صُدَيّ بن عجلان ، وعبد الله بن مسعود ، وعمران بن حصين ، وعلي بن أبي طالب ، رضي الله عنهم (2) ولولا خشية الإطالة لأوردنا ما تيسر من أسانيد ذلك ومتونه ولكن في الإرشاد بهذا الاختصار كفاية ، والله أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى (6) إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا (13) }
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا موسى - يعني ابن أيوب الغافقي - حدثنا عمي إياس بن عامر ، سمعت عقبة بن عامر الجهني لما نزلت : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [الواقعة : 74 ، 96]قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اجعلوها في ركوعكم". فلما نزلت : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى } قال : "اجعلوها في سجودكم".
ورواه أبو داود وابن ماجة ، من حديث ابن المبارك ، عن موسى بن أيوب ، به (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مسلم البَطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى } قال : "سبحان ربي الأعلى".
وهكذا رواه أبو داود عن زُهَير بن حرب ، عن وكيع ، به (4) وقال : "خولف فيه وكيع ،
__________
(1) حديث أبي بن كعب في المسند (5/123) وحديث ابن عباس في المسند (1/299) وحديث ابن أبزى في المسند (3/406) وحديث عائشة في المسند (6/227).
(2) وقد توسع الحافظ ابن حجر في ذكر طرق هذا الحديث والكلام عليها في كتابه تلخيص الحبير (2/19).
(3) المسند (4/155) وسنن أبي داود برقم (869) وسنن ابن ماجة برقم (887).
(4) المسند (1/232) وسنن أبي داود برقم (883).

(8/378)


رواه أبو وكيع وشعبة ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، موقوفا".
وقال الثوري ، عن السدي ، عن عبد خير قال : سمعت عليا قرأ (1) { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى } فقال : سبحان ربي الأعلى.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حُمَيد ، حدثنا حَكَّام عن عَنْبَسة ، عن أبي إسحاق الهَمْداني : أن ابن عباس كان إذا قرأ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى } يقول : سبحان ربي الأعلى ، وإذا قرأ : { لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } [القيامة : 1] فأتى على آخرها : { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } [القيامة : 40] يقول : سبحانك وبلى (2).
وقال قتادة : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى } ذُكِرَ لنا أن نَبِيّ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها ، قال : "سبحان ربي الأعلى".
وقوله : { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } أي : خلق الخليقة وسَوّى كل مخلوق في أحسن الهيئات.
وقوله : { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } قال مجاهد : هدى الإنسان للشقاوة والسعادة ، وهدى الأنعام لمراتعها.
وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لفرعون : { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [طه : 5] أي : قدر قدرا ، وهدى الخلائق إليه ، كما ثبت في صحيح مسلم ، عن عبد الله ابن عَمرو : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله قَدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء" (3).
وقوله : { وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى } أي : من جميع صنوف النباتات والزروع ، { فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى } قال ابن عباس : هشيما متغيرا. وعن مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد ، نحوه.
قال ابن جرير : وكان بعض أهل العلم بكلام العرب (4) يرى أن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم ، وأن معنى الكلام : والذي أخرج المرعى أحوى ، أي : أخضر إلى السواد ، فجعله غثاء بعد ذلك. ثم قال ابن جرير : وهذا وإن كان محتملا إلا أنه غير صواب ؛ لمخالفته أقوال أهل التأويل.
وقوله : { سَنُقْرِئُكَ } أي : يا محمد { فَلا تَنْسَى } وهذا إخبار من الله ، عز وجل ، ووعد منه له ، بأنه سيقرئه قراءة لا ينساها ، { إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ } وهذا اختيار ابن جرير.
وقال قتادة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينسى شيئا إلا ما شاء الله.
وقيل : المراد بقوله : { فَلا تَنْسَى } طلب ، وجعلوا معنى الاستثناء على هذا ما يقع من
__________
(1) في أ : "يقرأ".
(2) تفسير الطبري (30/96).
(3) صحيح مسلم برقم (2653).
(4) في أ : "بكلام العربية".

(8/379)


النسخ ، أي : لا تنسى ما نقرئك إلا ما شاء الله رفعه ؛ فلا عليك أن تتركه.
وقوله : { إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى } أي : يعلم ما يجهر به العباد وما يخفونه من أقوالهم وأفعالهم ، لا يخفى عليه من ذلك شيء.
وقوله تعالى : { وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى } أي : نسهل عليك أفعال الخير وأقواله ، ونشرع لك شرعا سهلا سمحا مستقيما عدلا لا اعوجاج فيه ولا حرج ولا عسر.
وقوله : { فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى } أي : ذكِّر حيث تنفع التذكرة. ومن هاهنا (1) يؤخذ الأدب في نشر العلم ، فلا يضعه عند غير أهله ، كما قال أمير المؤمنين علي ، رضي الله عنه : ما أنت بمحدِّث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم. وقال : حدث الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟!
وقوله : { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } أي : سيتعظ بما تبلغه - يا محمد - من قلبه يخشى الله ويعلم أنه ملاقيه ، { وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا } أي : لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة تنفعه ، بل هي مضرة عليه ؛ لأن بسببها يشعر ما يعاقب به من أليم العذاب ، وأنواع النكال.
قال الإمام أحمد : حدثنا ابن أبي عدي ، عن سليمان - يعني التيمي - عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما أهل النار الذين هم أهلها لا (2) يموتون ولا يحيون ، وأما أناس يريد الله بهم الرحمة فيميتهم في النار فيدخل عليهم الشفعاء (3) فيأخذ الرجل أنصارة فينبتهم - أو قال : ينبتون - في نهر الحياء - أو قال : الحياة - أو قال : الحيوان - أو قال : نهر الجنة فينبتون - نبات الحبَّة في حميل السيل". قال : وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أما ترون الشجرة تكون خضراء ، ثم تكون صفراء أو قال : تكون صفراء ثم تكون خضراء ؟". قال : فقال بعضهم : كأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالبادية (4).
وقال أحمد أيضا : حدثنا إسماعيل ، حدثنا سعيد بن يزيد ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما أهل النار الذين هم أهلها ، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ، ولكن أناس - أو كما قال - تصيبهم النار بذنوبهم - أو قال : بخطاياهم - فيميتهم إماتة ، حتى إذا صاروا فحما أذن في الشفاعة ، فجيء بهم ضبائر ضبائر ، فنبتوا على أنهار الجنة ، فيقال : يا أهل الجنة ، اقبضوا عليهم. فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل". قال : فقال رجل من القوم حينئذ : كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالبادية.
ورواه مسلم في حديث بشر بن المفضل (5) وشعبة ، كلاهما عن أبي مَسْلَمة سعيد بن زيد ، به
__________
(1) في م : "ومن هذا".
(2) في أ : "فإنهم لا".
(3) في أ : "الشفاعة".
(4) المسند (3/5).
(5) في أ : "الفضل".

(8/380)


قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)

مثله (1) ورواه أحمد أيضا عن يزيد ، عن سعيد بن إياس الجريري ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن أهل النار الذين لا يريد الله إخراجهم لا يموتون فيها ولا يحيون ، وأن أهل النار الذين يريد الله إخراجهم يميتهم فيها إماتة ، حتى يصيروا فحمًا ، ثم يخرجون ضبائر فيلقون على أنهار الجنة ، أو : يرش (2) عليهم من أنهار الجنة فينبتون كما تنبت الحبَّة في حميل السيل" (3).
وقد قال الله إخبارا عن أهل النار : { وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ } [الزخرف : 77] وقال تعالى : { لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا } [فاطر : 36] إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى.
{ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) }
__________
(1) المسند (3/11) وصحيح مسلم برقم (185).
(2) في م : "فيرش".
(3) المسند (3/20).

(8/381)


بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)

{ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19) }
يقول تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } أي : طهَّر نفسه من الأخلاق الرذيلة ، وتابع ما أنزل الله على رسوله ، صلوات الله وسلامه عليه ، { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } أي : أقام الصلاة في أوقاتها ؛ ابتغاء رضوان الله وطاعة لأمر الله وامتثالا لشرع الله. وقد قال الحافظ أبو بكر البزار :
حدثنا عباد بن أحمد العرزمي ، حدثنا عمي محمد بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن عطاء بن السائب ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } قال : "من شهد أن لا إله إلا الله ، وخلع الأنداد ، وشهد أني رسول الله" ، { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } قال : "هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بها".
ثم قال (1) لا يروى عن جابر إلا من هذا الوجه (2).
وكذا قال ابن عباس : إن المراد بذلك الصلوات الخمس. واختاره ابن جرير.
وقال ابن جرير : حدثني عَمرو بن عبد الحميد الآملي (3) حدثنا مروان بن معاوية ، عن أبي خلدة قال : دخلت على أبي العالية فقال لي : إذا غدوت غدا إلى العيد فمرّ بي. قال : فمررت به فقال : هل طعمت شيئا ؟ قلت : نعم. قال : أفضت على نفسك من الماء ؟ قلت : نعم. قال : فأخبرني ما فعلت بزكاتك ؟ قلت : وكأنك قُلت : قد وَجّهتهَا ؟ قال : إنما أردتك لهذا. ثم قرأ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } وقال : إن أهل المدينة لا يرون صدقة أفضل منها ومن سقاية الماء.
__________
(1) في م : "وقال".
(2) مسند البزار برقم (2284) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/137) : "رواه البزار عن شيخه عباد بن أحمد العرزمي وهو متروك".
(3) في أ : "الأيلي".

(8/381)


قلت : وكذلك روينا عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أنه كان يأمر الناس بإخراج صدقة الفطر ، ويتلو هذه الآية { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى }
وقال أبو الأحوص : إذا أتى أحدكم سائل وهو يريد الصلاة ، فليقدم بين يدي صلاته زكاته ، فإن الله يقول : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى }
وقال قتادة في هذه الآية { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } زكى ماله وأرضى خالقه.
ثم قال تعالى : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي : تقدمونها على أمر الآخرة ، وتبدونها على ما فيه نفعهم وصلاحهم في معاشهم ومعادهم ، { وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } أي : ثواب الله في الدار الآخرة خير من الدنيا وأبقى ، فإن الدنيا دنيَّة فانية ، والآخرة شريفة باقية ، فكيف يؤثر عاقل ما يفنى على ما يبقى ، ويهتم بما يزول عنه قريبا ، ويترك الاهتمام بدار البقاء والخلد ؟!
قال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا ذُوَيد ، عن أبي إسحاق ، عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الدنيا دَارُ من لا دارَ له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له" (1).
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا أبو حمزة ، عن عطاء ، عن عَرْفَجة الثقفي قال : استقرأت ابن مسعود : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى } فلما بلغ : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } ترك القراءة ، وأقبل على أصحابه وقال : آثرنا الدنيا على الآخرة. فسكت القوم ، فقال : آثرنا الدنيا لأنا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها ، وزُويت عنا الآخرة فاخترنا هذا العاجل وتركنا الآجل (2).
وهذا منه على وجه التواضع والهضم ، أو هو إخبار عن الجنس من حيث (3) هو ، والله أعلم.
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود الهاشمي ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، أخبرني عمرو بن أبي عمرو ، عن المطلب بن عبد الله ، عن أبي موسى الأشعري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من أحب دنياه أضر بآخرته ، ومَن أحبّ آخرته أضرّ بدنياه ، فآثروا ما يبقَى على ما يفنى". تفرد به أحمد.
وقد رواه أيضا عن أبي سلمة الخزاعي ، عن الدراوردي ، عن عمرو بن أبي عمرو ، به مثله سواء (4).
وقوله : { إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } قال الحافظ أبو بكر البزار :
__________
(1) المسند (6/71) وقال الهيثمي في المجمع (10/288) : "رجاله رجال الصحيح غير ذويد وهو ثقة".
(2) تفسير الطبري (30/100).
(3) في أ : "من جنسه".
(4) المسند (4/412) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (2473) "موارد" من طريق يعقوب بن عبد الرحمن ، عن عمرو بن أبي عمرو به.

(8/382)


حدثنا نصر بن علي ، حدثنا مُعتمر بن سليمان ، عن أبيه عن عطاء بن السائب ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : { إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } قال النبي صلى الله عليه وسلم : "كان كل هذا - أو : كان هذا - في صحف إبراهيم وموسى" (1).
ثم قال : لا نعلم أسند الثقات عن عطاء بن السائب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس غير (2) هذا ، وحديثا آخر أورده قبل هذا.
وقال النسائي : أخبرنا زكريا بن يحيى ، أخبرنا نصر بن علي ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن عطاء بن السائب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما نزلت { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى } قال : كلها في صحف إبراهيم وموسى ، فلما نزلت : { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [النجم : 37] قال : وفَّى { أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [النجم : 38] (3).
يعني أن هذه الآية كقوله في سورة "النجم" : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى } [النجم : 36 - 42] الآيات إلى آخرهن. وهكذا قال عكرمة - فيما رواه ابن جرير ، عن ابن حميد ، عن مِهْران ، عن سفيان الثوري ، عن أبيه ، عن عكرمة - في قوله : { إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } يقول : الآيات التي في سبح اسم ربك الأعلى.
وقال أبو العالية : قصة هذه السورة في الصحف الأولى.
واختار ابن جرير أن المراد بقوله : { إِنَّ هَذَا } إشارة إلى قوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } ثم قال : { إِنَّ هَذَا } أي : مضمون هذا الكلام { لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } (4).
وهذا اختيار حسن قوي. وقد رُوي عن قتادة وابن زيد ، نحوُه. والله أعلم.
آخر تفسير سورة "سبح" ولله الحمد والمنة.
__________
(1) سنن النسائي الكبرى برقم (11668).
(2) في أ : "نحو".
(3) مسند البزار برقم (2285) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/137) : "فيه عطاء بن السائب وقد اختلط ، وبقية رجاله رجال الصحيح".
(4) تفسير الطبري (30/101).

(8/383)


هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)

تفسير سورة الغاشية
وهي مكية.
قد تقدم عن النعمان بن بَشير : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ب " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى " والغاشية في صلاة العيد ويوم الجمعة.
وقال الإمام مالك ، عن ضَمْرَة بن سعيد ، عن عُبَيد الله بن عبد الله : أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير : بم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة مع سورة الجمعة ؟ قال : " هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ".
رواه أبو داود عن القَعْنَبي ، والنسائي عن قتيبة ، كلاهما عن مالك ، به (1) ورواه مسلم وابن ماجة ، من حديث سفيان بن عيينة ، عن ضمرة بن سعيد ، به (2).
بسم الله الرحمن الرحيم
{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) }
الغاشية : من أسماء يوم القيامة. قاله ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد ؛ لأنها تغشى الناس وتَعُمّهم. وقد قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسِيّ ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة تقرأ : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ } فقام يستمع ويقول : "نعم ، قد جاءني" (3).
وقوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ } أي : ذليلة. قاله قتادة. وقال ابن عباس : تخشع ولا ينفعها عملها.
وقوله : { عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ } أي : قد عملت عملا كثيرا ، ونصبت فيه ، وصليت يوم القيامة نارا حامية.
__________
(1) الموطأ (1/111) وسنن أبي داود برقم (1123) وسنن النسائي (3/112).
(2) صحيح مسلم برقم (878) وسنن ابن ماجة برقم (1119).
(3) وهذا مرسل وقد تقدم.

(8/384)


وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)

وقال الحافظ أبو بكر البرقاني : حدثنا إبراهيم بن محمد المُزَكّى ، حدثنا محمد بن إسحاق السراج ، حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا سيار (1) حدثنا جعفر قال : سمعت أبا عمران الجَوني يقول : مر عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، بدير راهب ، قال : فناداه : يا راهب [يا راهب] (2) فأشرف. قال : فجعل عمر ينظر إليه ويبكي. فقيل له : يا أمير المؤمنين ، ما يبكيك من هذا ؟ قال : ذكرت قول الله ، عز وجل في كتابه : { عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً } فذاك الذي أبكاني (3).
وقال البخاري : قال ابن عباس : { عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ } النصارى.
وعن عكرمة ، والسدي : { عَامِلَةٌ } في الدنيا بالمعاصي { نَّاصِبَةٌ } في النار بالعذاب والأغلال (4).
قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة : { تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً } أي : حارة شديدة الحر { تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } أي : قد انتهى حَرّها وغليانها. قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، والسّدي.
وقوله : { لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : شجر من نار.
وقال سعيد بن جبير : هو الزقوم. وعنه : أنها الحجارة.
وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وأبو الجوزاء ، وقتادة : هو الشِّبرِقُ. قال قتادة : قريش تسميه في الربيع الشِّبرِقُ ، وفي الصيف الضريع. قال عكرمة : وهو شجرة ذات شوك لاطئة بالأرض.
وقال البخاري : قال مجاهد : الضريعُ نبتٌ يقال له : الشِّبرِقُ ، يسميه أهل الحجاز : الضريعَ إذا يبس ، وهو سم (5).
وقال مَعْمَر ، عن قتادة : { إِلا مِنْ ضَرِيعٍ } هو الشِّبرِقُ ، إذا يبس سُمّي الضريع.
وقال سعيد ، عن قتادة : { لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ } من شر الطعام وأبشعه وأخبثه.
وقوله : { لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ } يعني : لا يحصل به مقصود ، ولا يندفع به محذور.
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) }
__________
(1) في أ : "حدثنا يسار".
(2) زيادة من م ، أ.
(3) ورواه عبد الرزاق في تفسيره (2/299) عن جعفر بن سليمان ، عن أبي عمران به ، ورواه الحاكم في المستدرك (2/522) من طريق الخضر بن أبان ، عن سيار ، عن جعفر به ، وقال الحاكم : "هذه حكاية في وقتها ، فإن أبا عمران الجوني لم يدرك زمان عمر".
(4) في م : "والإهلاك".
(5) صحيح البخاري (8/700) "فتح".

(8/385)


أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)

لما ذكر حال الأشقياء ، ثنى بذكر السعداء فقال : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ } أي : يوم القيامة { نَّاعِمَةٌ } أي : يعرف النعيم فيها. وإنما حَصَل لها ذلك بسعيها.
وقال سفيان : { لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ } قد رضيت عملها.
وقوله : { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } أي : رفيعة بهية في الغرفات آمنون ، { لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً } أي : لا يسمع في الجنة التي هم فيها كلمة لغو. كما قال : { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا } [مريم : 62] وقال : { لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ } [الطور : 23] وقال : { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا } [الواقعة : 25 ، 26]
{ فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ } أي : سارحة. وهذه نكرة في سياق الإثبات ، وليس المراد بها عينا واحدة ، وإنما هذا جنس ، يعني : فيها عيون جاريات.
وقال ابن أبي حاتم : قُرئ على الربيع بن سليمان : حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا ابن ثوبان ، عن عطاء بن قُرَّة ، عن عبد الله بن ضَمْرة ، عن أبي هُرَيرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "أنهار الجنة تفجر من تحت تلال - أو : من تحت جبال - المسك" (1).
{ فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ } أي : عالية ناعمة كثيرة الفرش ، مرتفعة السَّمْك ، عليها الحور العين. قالوا : فإذا أراد وَليُّ الله أن يجلس على تلك السرر العالية تواضعت له ، { وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ } يعني : أواني الشرب معدة مُرصدة (2) لمن أرادها من أربابها ، { وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ } قال ابن عباس : النمارق : الوسائد. وكذا قال عكرمة ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، والثوري ، وغيرهم.
وقوله : { وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ } قال ابن عباس : الزرابي : البسط. وكذا قال الضحاك ، وغير واحد.
ومعنى مبثوثة ، أي : هاهنا وهاهنا لمن أراد الجلوس عليها.
ونذكر هاهنا هذا الحديث الذي رواه أبو بكر بن أبي داود : حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا أبي ، عن محمد بن مهاجر ، عن الضحاك المعافري عن سليمان بن موسى : حدثني كُرَيْب أنه سمع أسامة بن زيد يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا هل من مُشَمَّر للجنة ، فإن الجنة لا خَطَر لها ، هي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز ، وقصر مشيد ، ونهر مطرد ، وثمرة نضيجة وزوجة حسناء جميلة ، وحُلَل كثيرة ، ومقام في أبد في دارٍ سليمة ، وفاكهة وخضرة ، وحبرة ونعمة ، في محلة عالية بهية ؟". قالوا : نعم يا رسول الله ، نحن المشمرون لها. قال : " قولوا : إن شاء الله". قال القوم : إن شاء الله.
ورواه ابن ماجة عن العباس بن عثمان الدمشقي ، عن الوليد بن مسلم (3) عن محمد بن مهاجر به (4).
{ أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) }
__________
(1) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (2622) "موارد" من طريق القراطيسي ، عن أسد بن موسى به.
(2) في م : "موضوعة".
(3) في أ : "سلمة".
(4) البعث لابن أبي داود برقم (71) وسنن ابن ماجة برقم (4332) وقال البوصيري في الزوائد (3/325) : "هذا إسناد فيه مقال ، الضحاك المعافري ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال الذهبي في طبقات التهذيب : "مجهول". وسليمان بن موسى مختلف فيه وباقي رجال الإسناد ثقات".

(8/386)


يقول تعالى آمرًا عباده بالنظر في مخلوقاته الدالة على قدرته وعظمته : { أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } ؟ فإنها خَلق عجيب ، وتركيبها غريب ، فإنها في غاية القوة والشدة ، وهي مع ذلك تلين للحمل الثقيل ، وتنقاد للقائد الضعيف ، وتؤكل ، وينتفع بوبرها ، ويشرب لبنها. ونبهوا بذلك لأن العرب غالب دوابهم كانت الإبل ، وكان شريح القاضي يقول : اخرجوا بنا حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت ، وإلى السماء كيف رفعت ؟ أي : كيف رفعها الله ، عز وجل ، عن الأرض هذا الرفع العظيم ، كما قال تعالى : { أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ } [ق : 6]
{ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ } أي : جعلت منصوبة قائمة ثابتة راسية لئلا تميد الأرض بأهلها ، وجعل فيها ما جعل من المنافع والمعادن.
{ وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } ؟ أي : كيف بسطت ومدت ومهدت ، فنبَّه البدوي على الاستدلال بما يشاهده من بعيره الذي هو راكب عليه ، والسماء التي فوق رأسه ، والجبل الذي تجاهه ، والأرض التي تحته - على قدرة خالق ذلك وصانعه ، وأنه الرب العظيم الخالق المتصرف المالك ، وأنه الإله الذي لا يستحق العبادة سواه. وهكذا أقسم "ضِمَام" في سؤاله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما رواه الإمام أحمد حيث قال :
حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس قال : كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع ، فجاء رجل من أهل البادية فقال : يا محمد ، إنه أتانا رسولُك فزعَم لنا أنك تَزعُم أن الله أرسلك. قال : "صدق". قال : فمن خلق السماء ؟ قال : "الله". قال : فمن خلق الأرض ؟ قال : "الله". قال : فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل ؟ قال : "الله". قال : فبالذي خلق السماء والأرض ونصب هذه الجبال ، آللهُ أرسلك ؟ قال : "نعم". قال : وزعم رسولُك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا. قال : "صدق". قال : فبالذي أرسلك ، آلله أمرك بهذا ؟

(8/387)


قال : "نعم". قال : وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا ؟ قال : "صدق". قال : فبالذي أرسلك ، آلله أمرك بهذا ؟. قال : "نعم". قال : وزعم رسولك أن علينا حَجّ البيت من استطاع إليه سبيلا. قال : "صدق". قال : ثم ولى فقال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن شيئا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن صدق ليدخُلَنّ الجنة".
وقد رواه مسلم ، عن عمرو الناقد ، عن أبي النضر هاشم بن القاسم ، به (1) وعَلّقه البخاري ، ورواه الترمذي والنسائي ، من حديث سليمان بن المغيرة به (2) ورواه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث الليث بن سعد ، عن سعيد المقبري ، عن شريك ابن عبد الله بن أبي نمر ، عن أنس ، به بطوله (3) وقال في آخره : "وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر".
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا إسحاق ، حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثني عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما كان يحدث عن امرأة في الجاهلية على رأس جبل ، معها ابن لها ترعى غنما ، فقال لها ابنها : يا أمه ، من خلقك ؟ قالت : الله. قال : فمن خلق أبي ؟ قالت : الله. قال : فمن خلقني ؟ قالت : الله. قال : فمن خلق السماء ؟ قالت : الله. قال : فمن خلق الأرض ؟ قالت : الله. قال : فمن خلق الجبل ؟ قالت : الله. قال : فمن خلق هذه الغنم ؟ قالت : الله. قال : إني لأسمع لله شأنا. وألقى نفسه من الجبل فتقطع.
قال ابن عمر : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يحدثنا هذا.
قال ابن دينار : كان ابن عمر كثيرًا ما يحدثنا بهذا (4).
في إسناده ضعف ، وعبد الله بن جعفر هذا هو المديني ، ضَعّفه ولده الإمام علي بن المديني وغيره.
وقوله : { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } أي : فذكر - يا محمد - الناس بما أرسلت به إليهم ، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ؛ ولهذا قال : { لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وغيرهما : لست عليهم بجبار.
وقال ابن زيد : لست بالذي تكرههم على الإيمان.
قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، عن سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله عز وجل". ثم قرأ : { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ }
__________
(1) المسند (3/143) وصحيح مسلم برقم (12).
(2) صحيح البخاري (1/148) "فتح" وسنن الترمذي برقم (619) وسنن النسائي الكبرى برقم (2401).
(3) المسند (3/168) وصحيح البخاري برقم (63) وسنن أبي داود برقم (486) وسنن النسائي الكبرى برقم (2402) وسنن ابن ماجة برقم (1402).
(4) ورواه ابن عدي في الكامل (4/178) عن أبي يعلى به مثله. وقال : "غير محفوظ ، لا يحدث به عن ابن دينار غير عبد الله بن جعفر".

(8/388)


وهكذا رواه مسلم في كتاب "الإيمان" ، والترمذي والنسائي في كتابى (1) التفسير" من سننيهما ، من حديث سفيان بن سعيد الثوري ، به بهذه الزيادة (2) وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من رواية أبي هريرة ، بدون ذكر هذه الآية (3).
وقوله : { إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ } أي : تولى عن العمل بأركانه ، وكفر بالحق بجنانه ولسانه. وهذه كقوله : { فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [القيامة : 31 ، 32] ولهذا قال : { فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأكْبَرَ } قال الإمام أحمد :
حدثنا قتيبة ، حدثنا ليث ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن علي بن خالد (4) أن أبا أمامة الباهلي مَرَّ على خالد بن يزيد بن معاوية ، فسأله عن ألين كلمة سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ألا كلكم يدخل الجنة ، إلا من شَرَد على الله شَراد البعير على أهله".
تفرد (5) بإخراجه الإمام أحمد (6) وعلي بن خالد هذا ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه ، ولم يزد على ما هاهنا : "روي عن أبي أمامة ، وعنه سعيد بن أبي هلال" (7).
وقوله : { إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ } أي : مرجعهم ومنقلبهم { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } أي : نحن نحاسبهم على أعمالهم ونجازيهم بها ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.
آخر تفسير سورة "الغاشية" ولله الحمد والمنة.
__________
(1) في أ : "في كتاب".
(2) المسند (3/300) وصحيح مسلم برقم (21) وسنن الترمذي برقم (3341) وسنن النسائي الكبرى برقم (11670).
(3) صحيح البخاري برقم (2946) وصحيح مسلم برقم (21).
(4) في أ : "علي بن أبي خالد" والمثبت من "م" والمسند.
(5) في م : "انفرد".
(6) المسند (5/258).
(7) الجرح والتعديل (6/184) وقد ذكر الهيثمي في المجمع (10/403) "أنه ثقة".

(8/389)


وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)

تفسير سورة الفجر
وهي مكية.
قال النسائي : أخبرنا عبد الوهاب بن الحكم ، أخبرني يحيى بن سعيد ، عن سليمان ، عن محارب بن دِثار وأبي صالح ، عن جابر قال : صلى معاذ صلاةً ، فجاء رجل فصلى معه فطَول ، فصلى في ناحية المسجد ثم انصرف ، فبلغ ذلك معاذا فقال : منافق. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل الفتى ، فقال : يا رسول الله ، جئت أصلي معه فَطَوّل عَلَيّ ، فانصرفت وصليتُ في ناحية المسجد ، فعلقت ناضحي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أفَتَّان يا معاذ ؟ أين أنت مِن { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى } { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } { وَالْفَجْرِ } { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } (1).
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) }
أما الفجر فمعروف ، وهو : الصبح. قاله علي ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسدي. وعن مسروق ، ومجاهد ، ومحمد بن كعب : المراد به فجر يوم النحر خاصة ، وهو خاتمة الليالي العشر.
وقيل : المراد بذلك الصلاة التي تفعل عنده ، كما قاله عكرمة.
وقيل : المراد به جميع النهار. وهو رواية عن ابن عباس.
والليالي العشر : المراد بها عشر ذي الحجة. كما قاله ابن عباس ، وابن الزبير ، ومجاهد ، وغير واحد من السلف والخلف. وقد ثبت في صحيح البخاري ، عن ابن عباس مرفوعا : "ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام" - يعني عشر ذي الحجة - قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : "ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجلا خرج بنفسه وماله ، ثم لم يرجع من ذلك بشيء" (2).
__________
(1) سنن النسائي الكبرى برقم (11673).
(2) صحيح البخاري برقم (969).

(8/390)


وقيل : المراد بذلك العشر الأول من المحرم ، حكاه أبو جعفر ابن جرير ولم يعزه إلى أحد (1) وقد روى أبو كُدَيْنة ، عن قابوس بن أبي ظِبْيان ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَلَيَالٍ عَشْرٍ } قال : هو العشر الأول من رمضان.
والصحيح القول الأول ؛ قال الإمام أحمد :
حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا عَيَّاش بن عقبة ، حدثني خَير بن نُعَيم ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن العشر عشر الأضحى ، والوتر يوم عرفة ، والشفع يوم النحر".
ورواه النسائي عن محمد بن رافع وعبدة بن عبد الله ، كل منهما عن زيد بن الحباب ، به (2) ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، من حديث زيد بن الحباب ، به (3) وهذا إسناد رجاله لا بأس بهم ، وعندي أن المتن في رفعه نكارة ، والله أعلم.
وقوله : { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } قد تقدم في هذا الحديث أن الوتر يوم عرفة ، لكونه التاسع ، وأن الشفع يوم النحر لكونه العاشر. وقاله ابن عباس ، وعكرمة ، والضحاك أيضا.
قول ثان : وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثني عقبة بن خالد ، عن واصل ابن السائب قال : سألت عطاء عن قوله : { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } قلتُ : صلاتنا وترنا هذا ؟ قال : لا ولكن الشفع يوم عرفة ، والوتر ليلة الأضحى.
قول ثالث : قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عامر بن إبراهيم الأصبهاني ، حدثني أبي ، عن النعمان - يعني ابن عبد السلام - عن أبي سعيد بن عوف ، حدثني بمكة قال : سمعتُ عبد الله ابن الزبير يخطب الناس ، فقام إليه رجلٌ فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن الشفع والوتر. فقال : الشفع قول الله ، عز وجل : { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } والوتر قوله : { وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } [البقرة : 203].
وقال ابن جريج : أخبرني محمد بن المرتفع أنه سمع ابن الزبير يقول : الشفع أوسط أيام (4) التشريق ، والوتر آخر أيام التشريق.
وفي الصحيحين من رواية أبي هُرَيرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن لله تسعة وتسعين اسما ، مائة إلا واحدا ، من أحصاها دخل الجنة ، وهو وتر يحب الوتر" (5).
قول رابع : قال الحسن البصري ، وزيد بن أسلم : الخلق كلهم شفع ، ووتر ، أقسم تعالى بخلقه. وهو رواية عن مجاهد ، والمشهور عنه الأول.
__________
(1) في أ : "إلى واحد".
(2) المسند (3/327) وسنن النسائي الكبرى برقم (1671).
(3) تفسير الطبري (30/108).
(4) في أ : "الشفع الأيام من".
(5) صحيح البخاري برقم (6410) وصحيح مسلم برقم (2677).

(8/391)


وقال العَوفي ، عن ابن عباس : { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } قال : الله وتر واحد ، وأنتم شفع. ويقال : الشفع صلاة الغداة ، والوتر : صلاة المغرب.
قول خامس : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عبيد بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد : { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } قال : الشفع الزوج ، والوتر : الله عز وجل.
وقال أبو عبد الله ، عن مجاهد : الله الوتر ، وخلقه الشفع ، الذكر والأنثى.
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد قوله : { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } كل شيء خلقه الله شفع ، السماء والأرض ، والبر والبحر ، والجن والإنس ، والشمس والقمر ، ونحو هذا. ونحا مجاهد في هذا ما ذكروه في قوله تعالى : { وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الذاريات : 49] أي : لتعلموا أن خالق الأزواج واحد.
قول سادس : قال قتادة ، عن الحسن : { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } هو العدد ، منه شفع ومنه وتر.
قول سابع : في الآية الكريمة رواه ابنُ أبي حاتم وابنُ جَرير من طريق ابن جريج ، ثم قال ابن جرير : وَرُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر يؤيد القول الذي ذكرنا عن أبي الزبير : حدثني عَبد الله بن أبي زياد القطواني ، حدثنا زيد بن الحباب ، أخبرني عياش بن عقبة ، حدثني خير (1) بن نُعَيم ، عن أبي الزبير ، عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الشفع اليومان ، والوتر اليوم الثالث" (2).
هكذا ورد هذا الخبر بهذا اللفظ ، وهو مخالف لما تقدم من اللفظ في رواية أحمد والنسائي وابن أبي حاتم ، وما رواه هو أيضا ، والله أعلم.
قال أبو العالية ، والربيع بن أنس ، وغيرهما : هي الصلاة ، منها شفع كالرباعية والثنائية ، ومنها وتر كالمغرب ، فإنها ثلاث ، وهي وتر النهار. وكذلك صلاة الوتر في آخر التهجد من الليل.
وقد قال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة ، عن عمران بن حصين : { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } قال : هي الصلاة المكتوبة ، منها شفع ومنها وتر. وهذا منقطع وموقوف ، ولفظه خاص بالمكتوبة. وقد روي متصلا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه عام ، قال الإمام أحمد :
حدثنا أبو داود - هو الطيالسي - حدثنا همام ، عن قتادة ، عن عمران بن عصام : أن شيخا (3) حدثه من أهل البصرة ، عن عمران بن حصين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل عن الشفع والوتر ، فقال : "هي الصلاة ، بعضها شفع ، وبعضها وتر" (4).
هكذا وقع في المسند ، وكذا رواه ابن جرير عن بُنْدَار ، عن عفان وعن أبي كُرَيْب ، عن عبيد الله بن موسى ، كلاهما عن همام - وهو ابن يحيى - عن قتادة ، عن عمران بن عصام ، عن
__________
(1) في أ : "حدثني القطراني".
(2) تفسير الطبري (30/109).
(3) في أ : "أن جبيرا".
(4) المسند (4/437).

(8/392)


شيخ ، عن عمران بن حصين (1) وكذا رواه أبو عيسى الترمذي ، عن عمرو بن علي ، عن ابن مَهْدِيّ وأبي داود ، كلاهما عن همام ، عن قتادة ، عن عمران بن عصام ، عن رجل من أهل البصرة ، عن عمران بن حصين ، به. ثم قال : غريب ، لا نعرفه إلا من حديث قتادة ، وقد رواه خالد بن قيس أيضا عن قتادة (2).
وقد روي عن عمران بن عصام ، عن عمران نفسه ، والله أعلم.
قلت : ورواه ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا همام (3) عن قتادة ، عن عمران بن عصام الضبعي - شيخ من أهل البصرة - عن عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره ، هكذا رأيته في تفسيره ، فجعل الشيخ البصري هو عمران بن عصام [الضبعي] (4).
وهكذا رواه ابن جرير : حدثنا نصر بن علي ، حدثني أبي ، حدثني خالد بن قيس ، عن قتادة ، عن عمران بن عصام ، عن عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشفع والوتر قال : "هي الصلاة منها شفع ، ومنها وتر" (5).
فأسقط ذكر الشيخ المبهم ، وتفرد به عمران بن عصام الضبعي أبو عمارة البصري ، إمام مسجد بني ضُبَيعة وهو والد أبي جَمْرَة (6) نصر بن عمران الضبعي. روى عنه قتادة ، وابنه أبو جمرة (7) والمثنى بن سعيد ، وأبو التياح يزيد بن حميد. وذكره ابن حبَّان في كتاب الثقات (8) وذكره خليفة ابن خَيَاط في التابعين (9) من أهل البصرة ، وكان شريفا نبيلا حظيا عند الحجاج بن يوسف ، ثم قتله يوم الزاوية سنة ثلاث (10) وثمانين لخروجه مع ابن الأشعث ، وليس له عند الترمذي سوى هذا الحديث الواحد. وعندي أن وقفه على عمران بن حصين أشبه ، والله أعلم.
ولم يجزم ابن جرير بشيء من هذه الأقوال في الشفع والوتر.
وقوله : { وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } (11) قال العوفي ، عن ابن عباس : أي إذا ذهب.
وقال عبد الله بن الزبير : { وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } حتى يذهب بعضه بعضا.
وقال مجاهد ، وأبو العالية ، وقتادة ، ومالك ، عن زيد بن أسلم وابن زيد : { وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } إذا سار.
وهذا يمكن حمله على ما قاله ابن عباس ، أي : ذهب. ويحتمل أن يكون المراد إذا سار ،
__________
(1) تفسير الطبري (30/109).
(2) سنن الترمذي برقم (3342).
(3) في أ : "أخبرنا هشام".
(4) زيادة من أ.
(5) تفسير الطبري (30/109).
(6) في أ : "أبي حمزة".
(7) في أ : "أبي حمزة".
(8) الثقات (5/234).
(9) في أ : "المتابعين".
(10) في م : "سنة ثنتين".
(11) في م : "يسرى".

(8/393)


أي : أقبل. وقد يقال : إن هذا أنسب ؛ لأنه في مقابلة قوله : { وَالْفَجْرِ } فإن الفجر هو إقبال النهار وإدبار الليل ، فإذا حمل قوله : { وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } (1) على إقباله كان قَسَمًا بإقبال الليل وإدبار النهار ، وبالعكس ، كقوله : { وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } [التكوير : 17 ، 18]. وكذا قال الضحاك : { [وَاللَّيْلِ ] إِذَا يَسْرِ } (2) أي : يجري.
وقال عكرمة : { وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } يعني : ليلة جَمْع. رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم.
ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عصام ، حدثنا أبو عامر ، حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو قال : سمعت محمد بن كعب القرظي ، يقول في قوله : { وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } قال : اسر يا سار ولا تبين إلا بجَمْع.
وقوله : { هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ } أي : لذي عقل ولب وحجا [ودين] (3) وإنما سمي العقل حجْرًا لأنه يمنع الإنسان من تعاطي ما لا يليق به من الأفعال والأقوال ، ومنه حجْرُ البيت لأنه يمنع الطائف من اللصوق بجداره الشامي. ومنه حجر اليمامة ، وحَجَرَ الحاكم على فلان : إذا منعه التصرف ، { وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا } [الفرقان : 22] ، كل هذا من قبيل واحد ، ومعنى متقارب ، وهذا القسم هو بأوقات العبادة ، وبنفس العبادة من حج وصلاة وغير ذلك من أنواع القرب التي يتقرب بها [إليه عباده] (4) المتقون المطيعون له ، الخائفون منه ، المتواضعون لديه ، الخاشعون لوجهه الكريم.
ولما ذكر هؤلاء وعبادتهم وطاعتهم قال بعده : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ } وهؤلاء كانوا متمردين عتاة جبارين ، خارجين عن طاعته مكذبين لرسله ، جاحدين لكتبه. فذكر تعالى كيف أهلكهم ودمرهم ، وجعلهم أحاديث وعبَرا ، فقال : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } وهؤلاء عاد الأولى ، وهم أولاد عاد بن إرم بن عَوص بن سام بن نوح ، قاله ابن إسحاق وهم الذين بعث الله فيهم رسوله هودًا ، عليه السلام ، فكذبوه وخالفوه ، فأنجاه الله من بين أظهرهم ومن آمن معه منهم ، وأهلكهم بريح صرصر عاتية ، { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ } [الحاقة : 7 ، 8]وقد ذكر الله قصتهم في القرآن في غير ما موضع ، ليعتبر بمصرعهم المؤمنون.
فقوله تعالى : { إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } (5) عطف بيان ؛ زيادة تعريف بهم.
وقوله : { ذَاتِ الْعِمَادِ } لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشِّعر التي ترفع بالأعمدة الشداد ، وقد كانوا أشد الناس في زمانهم (6) خلقة وأقواهم بطشا ، ولهذا ذكَّرهم هود بتلك النعمة وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم ، فقال : { وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ] } (7) [الأعراف : 69]. وقال تعالى :
__________
(1) في م : "يسرى".
(2) زيادة من م ، أ.
(3) زيادة من م.
(4) زيادة من م ، أ.
(5) في م : "بعاد إرم".
(6) في م : "زيادتهم".
(7) في م ، أ ، هـ : "ولا تعثوا في الأرض مفسدين" والصواب ما أثبتناه.

(8/394)


{ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } [فصلت : 15] ، وقال هاهنا : { الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ } أي : القبيلة التي لم يخلق مثلها في بلادهم ، لقوتهم وشدتهم وعظم تركيبهم.
قال مجاهد : إرم : أمة قديمة. يعني : عادا الأولى ، كما قال قتادة بن دعامة ، والسُّدِّيُّ : إن إرم بيت مملكة عاد. وهذا قول حسن جيد قوي.
وقال مجاهد ، وقتادة ، والكلبي في قوله : { ذَاتِ الْعِمَادِ } كانوا أهل عمود لا يقيمون.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : إنما قيل لهم : { ذَاتِ الْعِمَادِ } لطولهم.
واختار الأول ابنُ جرير ، ورد الثاني فأصاب.
وقوله : { الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ } أعاد ابن زيد الضميرَ على العماد ؛ لارتفاعها ، وقال : بنوا عُمُدا بالأحقاف لم يخلق مثلها في البلاد. وأما قتادة وابن جرير فأعاد الضمير على القبيلة ، أي : لم يخلق مثل تلك القبيلة في البلاد ، يعني في زمانهم. وهذا القول هو الصواب ، وقول ابن زيد ومن ذهب مذهبه ضعيف ؛ لأنه لو كان أراد ذلك لقال : التي لم يعمل مثلها في البلاد ، وإنما قال : { لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، حدثنا معاوية بن صالح ، عمن حدثه ، عن المقدام ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر إرم ذات العماد فقال : "كان الرجل منهم يأتي على صخرة فيحملها على الحي فيهلكهم" (1).
ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو الطاهر ، حدثنا أنس بن عياض ، عن ثور بن زيد الديلي. قال : قرأت كتابا - قد سمى حيث قرأه - : أنا شداد بن عاد ، وأنا الذي رفعت العماد ، وأنا الذي شددت بذراعي نظر واحد ، وأنا الذي كنزت كنزا على سبعة أذرع ، لا يخرجه إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قلت : فعلى كل قول سواء كانت العماد أبنية بنوها ، أو أعمدة بيوتهم للبدو ، أو سلاحا يقاتلون به ، أو طول الواحد منهم - فهم قبيلة وأمة من الأمم ، وهم المذكورون في القرآن في غير ما موضع ، المقرونون بثمود كما هاهنا ، والله أعلم. ومن زعم أن المراد بقوله : { إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } مدينة إما دمشق ، كما روي عن سعيد بن المسيب وعكرمة ، أو اسكندرية كما رُوي عن القُرَظي (2) أو غيرهما ، ففيه نظر ، فإنه كيف يلتئم الكلام على هذا : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } إن جعل ذلك بدلا أو عطف بيان ، فإنه لا يتسق الكلام حينئذ. ثم المراد إنما هو الإخبار عن إهلاك القبيلة المسماة بعاد ، وما أحل الله بهم من بأسه الذي لا يُرَد ، لا أن المراد الإخبار عن مدينة أو إقليم.
__________
(1) ورواه ابن مردويه في تفسيره كما في فتح الباري لابن حجر (8/701).
(2) في أ : "القرطبي".

(8/395)


وإنما نبهت على ذلك لئلا يُغْتَرَّ بكثير مما ذكره جماعة من المفسرين عند هذه الآية ، من ذكر مدينة يقال لها : { إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } مبنية بلبن الذهب والفضة ، قصورها ودورها وبساتينها ، وإن حصباءها (1) لآلئ وجواهر ، وترابها بنادق المسك ، وأنهارها سارحة ، وثمارها ساقطة ، ودورها لا أنيس بها ، وسورها (2) وأبوابها تصفر ، ليس بها داع ولا مجيب. وأنها تنتقل فتارة تكون بأرض الشام ، وتارة باليمن ، وتارة بالعراق ، وتارة بغير ذلك من البلاد - فإن هذا كله من خرافات الإسرائيليين ، من وضع بعض زنادقتهم ، ليختبروا بذلك عقول الجهلة من الناس أن تصدقهم في جميع ذلك.
وذكر الثعلبي وغيره أن رجلا من الأعراب - وهو عبد الله بن قِلابة - في زمان معاوية ذهب في طلب أباعر له شردت ، فبينما هو يتيه في ابتغائها ، إذ طلع على مدينة عظيمة لها سور وأبواب ، فدخلها فوجد فيها قريبًا مما ذكرناه من صفات المدينة الذهبية التي تقدم ذكرها ، وأنه رجع فأخبر الناس ، فذهبوا معه إلى المكان الذي قال فلم يروا شيئا.
وقد ذكر ابن أبي حاتم قصة { إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } هاهنا مطولة جدا ، فهذه الحكاية ليس يصح إسنادها ، ولو صح إلى ذلك الأعرابي فقد يكون اختلق ذلك ، أو أنه أصابه نوع من الهَوَس والخبال (3) فاعتقد أن ذلك له حقيقة في الخارج ، وليس كذلك. وهذا مما يقطع بعدم صحته. وهذا قريب مما يخبر به كثير من الجهلة والطامعين والمتحيلين ، من وجود مطالب تحت الأرض ، فيها قناطير الذهب والفضة ، وألوان الجواهر واليواقيت (4) واللآلئ والإكسير الكبير ، لكن عليها موانع تمنع من الوصول إليها والأخذ منها ، فيحتالون على أموال الأغنياء والضعفة والسفهاء ، فيأكلونها بالباطل في صرفها في بخاخير وعقاقير ، ونحو ذلك من الهذيانات ، ويَطْنزون بهم. والذي يجزم به أن في الأرض دفائن جاهلية وإسلامية وكنوزًا كثيرة ، من ظفر بشيء منها أمكنه تحويله (5) فأما على الصفة التي زعموها فكذب وافتراء وبهت ، ولم يصح في ذلك شيء مما يقولون إلا عن نقلهم أو نقل من أخذ عنهم ، والله سبحانه وتعالى الهادي للصواب.
وقولُ ابن جرير : يحتمل أن يكون المراد بقوله : { إِرَمَ } قبيلة أو بلدة كانت عاد تسكنها فلذلك لم تُصرَف فيه نظر ؛ لأن المراد من السياق إنما هو الإخبار عن القبيلة ، ولهذا قال بعده : { وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ } يعني : يقطعون الصخر بالوادي. قال ابن عباس : ينحتونها ويخرقونها. وكذا قال مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد. ومنه يقال : "مجتابي النمار". إذا خرقوها ، واجتاب الثوب : إذا فتحه. ومنه الجيب أيضا. وقال الله تعالى : { وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ } [الشعراء : 149]. وأنشد ابن جرير وابن أبي حاتم هاهنا قول الشاعر :
__________
(1) في أ : "وأن حصباؤها" وهو خطأ.
(2) في م : "وسررها".
(3) في م : "والخيال".
(4) في م : "والياقوت".
(5) في م : "تحويلها".

(8/396)


ألا كُلّ شيء - ما خَلا الله - بائدٌ... كَما بَاد حَيٌّ من شنيف ومارد...
هُم ضَرَبُوا في كُلِّ صَمَّاء صَعدة... بأيد شِدَاد أيّدات السَّواعد (1)
وقال ابن إسحاق : كانوا عربا ، وكان منزلهم بوادي القرى. وقد ذكرنا قصة "عاد" مستقصاة في سورة "الأعراف" بما أغنى عن إعادته.
وقوله : { وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ } قال العوفي ، عن ابن عباس : الأوتاد : الجنود الذين يشدون له أمره. ويقال : كان فرعون يوتد أيديهم وأرجلهم في أوتاد من حَديد يعلقهم بها. وكذا قال مجاهد : كان يوتد الناس بالأوتاد. وهكذا قال سعيد بن جبير ، والحسن ، والسدي. قال السدي : كان يربط الرجل ، كل قائمة من قوائمه في وتد ثم يرسل عليه صخرة عظيمة فتشدخه (2).
وقال قتادة : بلغنا أنه كانت له مَطَالٌّ وملاعب ، يلعب له تحتها ، من أوتاد وحبال.
وقال ثابت البناني ، عن أبي رافع : قيل لفرعون { ذِي الأوْتَادِ } ؛ لأنه ضرب لامرأته أربعة أوتاد ، ثم جعل على ظهرها رحى عظيمة حتى ماتت.
وقوله : { الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ } أي : تمردوا وعتوا وعاثوا في الأرض بالإفساد والأذية للناس ، { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } أي : أنزل عليهم رجزا من السماء ، وأحل بهم عقوبة لا يردها عن القوم المجرمين.
وقوله : { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } قال ابن عباس : يسمع ويرى. يعني : يرصد (3) خلقه فيما يعملون ، ويجازي كلا بسعيه في الدنيا والآخرى ، وسيعرض الخلائق كلهم عليه ، فيحكم فيهم بعدله ، ويقابل كلا بما يستحقه. وهو المنزه عن الظلم والجور.
وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثًا غريبًا جدًا - وفي إسناده نظر وفي صحته - فقال : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري ، حدثنا يونس الحذاء ، عن أبي حمزة البيساني ، عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا معاذ ، إن المؤمن لدى الحق أسير. يا معاذ ، إن المؤمن لا يسكن روعه ولا يأمن اضطرابه حتى يُخَلَّف جسر جهنم خلف ظهره. يا معاذ ، إن المؤمن قيده القرآن عن كثير من شهواته ، وعن أن يهلك فيها هو بإذن الله ، عز وجل ، فالقرآن دليله ، والخوف محجته ، والشوق مطيته ، والصلاة كهفه ، والصوم جنته ، والصدقة فكاكه ، والصدق أميره ، والحياء وزيره ، وربه ، عز وجل ، من وراء ذلك كله بالمرصاد" (4).
قال ابن أبي حاتم : يونس الحذاء وأبو حمزة مجهولان ، وأبو حمزة عن معاذ مرسل. ولو كان عن أبي حمزة لكان حسنًا. أي : لو كان من كلامه لكان حسنًا. ثم قال ابن أبي حاتم :
__________
(1) تفسير الطبري (30/113).
(2) في أ : "فشخده".
(3) في أ : "يراصد".
(4) ورواه أبو نعيم في الحلية (10/31) من طريق إسحاق بن أبي حسان ، عن أحمد بن أبي الحواري به ، ورواه أبو نعيم في الحلية (1/26) من طريق عبد الملك بن أبي كريمة ، عن أبي حاجب ، عن عبد الرحمن ، عن معاذ مرفوعا بنحوه.

(8/397)


فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)

حدثنا أبي ، حدثنا صفوان بن صالح ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن صفوان بن عمرو ، عن أيفع بن عبد الكلاعي : أنه سمعه وهو يعظ الناس يقول : إن لجهنم سبع قناطر - قال : والصراط عليهن ، قال : فيحبس الخلائق عند القنطرة الأولى ، فيقول : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ } [الصافات : 24] ، قال : فيحاسبون على الصلاة ويُسألون عنها ، قال : فيهلك فيها من هلك ، وينجو من نجا ، فإذا بلغوا القنطرة الثانية حُوسبوا على الأمانة كيف أدوها ، وكيف خانوها ؟ قال : فيهلك من هلك وينجو من نجا. فإذا بلغوا القنطرة الثالثة سُئلوا عن الرحم كيف وَصَلُوها وكيف قطعوها ؟ قال : فيهلك من هلك وينجو من نجا. قال : والرحم يومئذ متدلية إلى الهُويّ في جهنم تقول : اللهم من وصلني فَصِلْه ، ومن قطعني فاقطعه. قال : وهي التي يقول الله عز وجل : { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ }.
هكذا أورد هذا الأثر ، ولم يذكر تمامه.
{ فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) }
يقول تعالى منكرًا على الإنسان في اعتقاده إذا وسع الله عليه في الرزق ليختبره في ذلك ، فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له وليس كذلك ، بل هو ابتلاء وامتحان. كما قال تعالى : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } [المؤمنون : 55 ، 56]. وكذلك في الجانب الآخر إذا ابتلاه وامتحنه وضَيَّق عليه في الرزق ، يعتقد أن ذلك من الله إهانة له. قال الله : { كَلا } أي : ليس الأمر كما زعم ، لا في هذا ولا في هذا ، فإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب ، ويضيق على من يحب ومن لا يحب ، وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين ، إذا كان غنيا بأن يشكر الله على ذلك ، وإذا كان فقيرًا بأن يصبر.
وقوله : { بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ } فيه أمر بالإكرام له ، كما جاء في الحديث الذي رواه عبد الله ابن المبارك ، عن سعيد بن أبي أيوب ، عن يحيى بن سليمان ، عن زيد بن أبي عتاب (1) عن أبي هُريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : "خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه ، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه" ثم قال بأصبعه : "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا" (2).
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن الصباح بن سفيان ، أخبرنا عبد العزيز - يعني ابن أبي حازم - حدثني أبي ، عن سهل - يعني ابن سعد - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة". وقرن (3) بين إصبعيه : الوسطى والتي تلي الإبهام (4).
__________
(1) في م : "غياث".
(2) الزهد لابن المبارك برقم (654) ورواه ابن ماجة في السنن برقم (3679) من طريق ابن المبارك ، وقال البوصيري في الزوائد (3/165) : "هذا إسناد ضعيف ، يحيى بن سليمان - أبو صالح - قال فيه البخاري : منكر ، وقال أبو حاتم : مضطرب الحديث ، وذكره ابن حبان في الثقات".
(3) في أ : "وفرق".
(4) سنن أبي داود برقم (5150) وهو في صحيح البخاري برقم (6005) من طريق ابن أبي حازم به.

(8/398)


كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)

{ وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } يعني : لا يأمرون بالإحسان إلى الفقراء والمساكين ، ويحث بعضهم على بعض في ذلك ، { وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ } يعني : الميراث { أَكْلا لَمًّا } أي : من أي جهة حصل لهم ، من حلال أو حرام ، { وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا } أي : كثيرا - زاد بعضهم : فاحشا.
{ كَلا إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) }

(8/399)


يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)

{ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) }
يخبر تعالى عما يقع يوم القيامة من الأهوال العظيمة ، فقال : { كَلا } أي : حقا { إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا } أي : وطئت ومهدت وسويت الأرض والجبال ، وقام الخلائق من قبورهم لربهم ، { وَجَاءَ رَبُّكَ } يعني : لفصل القضاء بين خلقه ، وذلك بعد ما يستشفعون (1) إليه بسيد ولد آدم على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم ، بعدما يسألون أولي العزم من الرسل واحدًا بعد واحد ، فكلهم يقول : لست بصاحب ذاكم ، حتى تنتهي النوبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم (2) فيقول : "أنا لها ، أنا لها". فيذهب فيشفع عند الله في أن يأتي لفصل القضاء فيشفعه الله في ذلك ، وهي أول الشفاعات ، وهي المقام المحمود كما تقدم بيانه في سورة "سبحان" (3) فيجيء الرب تعالى لفصل القضاء كما يشاء ، والملائكة يجيئون بين يديه صفوفا صفوفا.
وقوله : { وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ } قال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثنا عمر بن حفص بن (4) غياث ، حدثنا أبي ، عن العلاء بن خالد الكاهلي ، عن شقيق ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف مَلَك يجرونها".
وهكذا رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، عن عمر بن حفص ، به (5) ورواه أيضا عن عبد بن حُمَيد ، عن أبي عامر ، عن سفيان الثوري ، عن العلاء بن خالد ، عن شقيق ابن سلمة - وهو أبو وائل - عن عبد الله بن مسعود ، قوله ولم يرفعه (6) وكذا رواه ابن جرير ، عن الحسن بن عرفة ، عن مَروان بن معاوية الفزاري ، عن العلاء بن خالد ، عن شقيق ، عن عبد الله ، قوله (7).
__________
(1) في أ : "يشفعون".
(2) في م : "صلوات الله وسلامه عليه".
(3) عند تفسير الآية : 79.
(4) في أ : "نبأنا".
(5) صحيح مسلم برقم (2842) وسنن الترمذي برقم (2573).
(6) سنن الترمذي برقم (2573).
(7) تفسير الطبري (30/120).

(8/399)


وقوله : { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ } أي : عمله وما كان أسلفه في قديم دهره وحديثه ، { وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى } أي : وكيف تنفعه الذكرى ؟ { يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } يعني : يندم على ما كان سلف منه من المعاصي - إن كان عاصيا - ويود لو كان ازداد من الطاعات - إن كان طائعا - كما قال الإمام أحمد بن حنبل :
حدثنا علي بن إسحاق ، حدثنا عبد الله - يعني ابن المبارك - حدثنا ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن جبير بن نفير ، عن محمد بن أبي عَمِيرة - وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال : لو أن عبدًا خر على وجهه من يوم ولد إلى أن يموت هَرمًا في طاعة الله ، لَحَقِرَه يوم القيامة ، ولودَّ أنه يُرَدَّ إلى الدنيا كيما يزداد من الأجر والثواب.
ورواه بَحِيرُ بنُ سَعد ، عن خالد بن معدان ، عن عتبة بن عبد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
قال الله تعالى : { فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ } أي : ليس أحد أشد عذابًا من تعذيب الله من عصاه ، { وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } أي : وليس أحد أشد قبضا ووثقا من الزبانية لمن كفر بربهم ، عز وجل ، هذا في حق المجرمين من الخلائق والظالمين (2) فأما النفس الزكية المطمئنة وهي الساكنة الثابتة الدائرة مع الحق فيقال لها : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ } أي : إلى جواره وثوابه وما أعد لعباده في جنته ، { رَاضِيَةً } أي : في نفسها { مَرْضِيَّةً } أي : قد رضيت عن الله ورضي عنها وأرضاها ، { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } أي : في جملتهم ، { وَادْخُلِي جَنَّتِي } وهذا يقال لها عند الاحتضار ، وفي يوم القيامة أيضا ، كما أن الملائكة يبشرون المؤمن عند احتضاره وعند قيامه من قبره ، وكذلك هاهنا.
ثم اختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآية ، فروى الضحاك ، عن ابن عباس : نزلت في عثمان بن عفان. وعن بُرَيدة بن الحصيب : نزلت في حمزة بن عبد المطلب ، رضي الله عنه.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : يقال للأرواح المطمئنة يوم القيامة : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ } يعني : صاحبك ، وهو بدنها الذي كانت تعمره في الدنيا ، { رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً }
وروي عنه أنه كان يَقرؤها : "فادخلي في عبدي وادخلي جنتي". وكذا (3) قال عكرمة والكلبي ، واختاره ابن جرير ، وهو غريب ، والظاهر الأول ؛ لقوله : { ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ } [الأنعام : 62]{ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ } (4) [غافر : 43] أي : إلى حكمه والوقوف بين يديه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي ، حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في
__________
(1) المسند (4/185).
(2) في أ : "والعالمين".
(3) في م : "وكذلك".
(4) في م : "وأن مصيرنا" وهو خطأ.

(8/400)


قوله : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً } قال : نزلت وأبو بكر جالس ، فقال : يا رسول الله ، ما أحسن هذا. فقال : "أما إنه سيقال لك هذا" (1).
ثم قال : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن سعيد بن جبير قال : قرأت عند النبي صلى الله عليه وسلم : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً } فقال أبو بكر ، رضي الله عنه : إن هذا حسن. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "أما إن الملك سيقول لك هذا عند الموت".
وكذا رواه ابن جرير ، عن أبي كُرَيْب ، عن ابن يمان ، به. وهذا مرسل حسن (2).
ثم قال ابن أبي حاتم : وحدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا مَرْوان بن شجاع الجزري ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير قال : مات ابن عباس بالطائف ، فجاء طير لم ير على خَلْقه (3) فدخل نعشه ، ثم لم ير خارجا منه فلما دفن تُليت هذه الآية على شفير القبر ، ما يدرى من تلاها : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي }.
رواه الطبراني عن عبد الله بن أحمد عن أبيه ، عن مَرْوان بن شجاع ، عن سالم بن عجلان الأفطس ، به فذكره (4).
وقد ذكر الحافظ محمد بن المنذر الهروي - المعروف بشكِّر - في كتاب "العجائب" بسنده عن قُبَاث بن رزين أبي هاشم قال : أسرتُ في بلاد الروم ، فجمعنا الملك وعَرَض علينا دينه ، على أن من امتنع ضربت عنقه. فارتد ثلاثة ، وجاء الرابع فامتنع ، فضربت عنقه ، وألقي رأسه في نهر هناك ، فرسب في الماء ثم طفا على وجه الماء ، ونظر إلى أولئك الثلاثة فقال : يا فلان ، ويا فلان ، ويا فلان - يناديهم بأسمائهم - قال الله تعالى في كتابه : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي } ثم غاص في الماء ، [قال] (5) فكادت النصارى أن يسلموا ، ووقع سرير الملك ، ورجع أولئك الثلاثة إلى الإسلام. قال : وجاء الفداء من عند الخليفة أبي جعفر المنصور فخلصنا.
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة رواحة بنت أبي عمرو الأوزاعي ، عن أبيها : حدثني سليمان بن حبيب المحاربي ، حدثني أبو أمامة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل : "قل اللهم ، إني أسألك نفسًا بك مطمئنة ، تؤمن بلقائك ، وترضى بقضائك ، وتقنع بعطائك" (6)
ثم روى عن أبي سليمان بن زَبْر أنه قال : حديث رواحة هذا واحد أمّه.
آخر تفسير سورة "الفجر" ولله الحمد [والمنة] (7).
__________
(1) ورواه ابن مردويه والضياء المقدسي في المختارة كما في الدر المنثور (8/513).
(2) تفسير الطبري (30/122) ورواه عبد بن حميد وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية كما في الدر المنثور (8/513).
(3) في م : "على خلقته".
(4) المعجم الكبير (10/290) وقال الهيثمي في المجمع (9/285) : "رجاله رجال الصحيح".
(5) زيادة من م.
(6) تاريخ دمشق (ص 100) "تراجم النساء" طـ - المجمع العربي بدمشق ، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/118) من طريق عبد الرحمن بن عبد الغفار ، عن رواحة بنت عبد الرحمن به.
(7) زيادة من م ، أ.

(8/401)


لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)

تفسير سورة البلد
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) }
هذا قسم من الله عز وجل (1) بمكة أم القرى في حال كون الساكن فيها حالا ؛ لينبه على عظمة قدرها في حال إحرام أهلها.
قال خَصيف ، عن مجاهد : { لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ } لا رد عليهم ؛ أقسم بهذا البلد.
وقال شَبيب بن بشر ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس : { لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ } يعني : مكة ، { وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ } قال : أنت - يا محمد - يحل لك أن تقابل به. وكذا رُوي عن سعيد بن جُبَير ، وأبي صالح ، وعطية ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وابن زيد.
وقال مجاهد : ما أصبت فيه فهو حلال لك.
وقال قتادة : { وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ } قال : أنت به من غير حَرَج ولا إثم.
وقال الحسن البصري : أحلها الله له ساعة من نهار.
وهذا المعنى الذي قالوه قد وَرَد به الحديث المتفق على صحته : "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض ، فهو حَرَامٌ بحُرمَة الله إلى يوم القيامة ، لا يُعضَد شجره ولا يختلى خلاه. وإنما أحلت لي ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب". وفي لفظ [آخر] (2) فإن أحد تَرَخَّص بقتال رسول الله فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم" (3).
وقوله : { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا ابن عطية ، عن شريك ، عن خَصِيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } الوالد : الذي يلد ، وما ولد : العاقر الذي لا يولد له.
__________
(1) في أ : "تعالى".
(2) زيادة من م.
(3) الحديث في صحيح البخاري برقم (104 ، 105 ، 1832 ، 4295) وصحيح مسلم برقم (1353) من حديث ابن عباس رضي الله عنه.

(8/402)


ورواه [ابن جرير و] (1) ابن أبي حاتم ، من حديث شريك - وهو ابن عبد الله القاضي - به.
وقال عكرمة : الوالد : العاقر ، وما ولد : الذي يلد. رواه ابن أبي حاتم.
وقال مجاهد ، وأبو صالح ، وقتادة ، والضحاك ، وسفيان الثوري ، وسعيد بن جبير ، والسدي ، والحسن البصري ، وخُصيف ، وشرحبيل بن سعد وغيرهم : يعني بالوالد آدم ، وما ولد ولده.
وهذا الذي ذهب إليه مجاهد وأصحابه حَسَنٌ قوي ؛ لأنه تعالى لما أقسم بأم القرى وهي المساكن أقسم بعده بالساكن ، وهو آدم أبو البشر وولده.
وقال أبو عمران الجوني : هو إبراهيم وذريته. رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم.
واختار ابن جرير أنه عام في كل والد وولده. وهو محتمل أيضا.
وقوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ } رُوي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، وإبراهيم النخعي ، وخَيْثَمة ، والضحاك ، وغيرهم : يعني منتصبا - زاد ابن عباس في رواية عنه - في (2) بطن أمه.
والكبد : الاستواء والاستقامة. ومعنى هذا القول : لقد خلقنا الإنسان سويا مستقيما كقوله : { يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ } [الانفطار : 6 ، 7] ، وكقوله { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [التين : 4].
وقال ابن [أبي نجيحُ] (3) جريج وعطاء (4) عن ابن عباس : في كبد ، قال : في شدّة خُلق ، ألم تر إليه... وذكر مولده ونبات أسنانه.
قال مجاهد : { فِي كَبَدٍ } نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة يتكبد في الخلق - قال مجاهد : وهو كقوله : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا } وأرضعته كرها ، ومعيشته كره ، فهو يكابد ذلك.
وقال سعيد بن جبير : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ } في شدة وطَلَب معيشة. وقال عكرمة : في شدة وطول. وقال قتادة : في مشقة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عصام ، حدثنا أبو عاصم ، أخبرنا عبد الحميد بن جعفر ، سمعت محمد بن علي أبا جعفر الباقر سأل رجلا من الأنصار عن قول الله : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ } قال : في قيامه واعتداله. فلم يُنكر عليه أبو جعفر.
وروى من طريق أبي مودود : سمعت الحسن قرأ هذه الآية : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ } قال : يكابد أمرا من أمر الدنيا ، وأمرا من أمر الآخرة - وفي رواية : يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في م ، أ : "منتصبا في".
(3) زيادة من م.
(4) في م ، أ : "عن عطاء".

(8/403)


وقال ابن زيد : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ } قال : آدم خلق في السماء ، فَسُمي ذلك الكَبَد.
واختار ابن جرير أن المراد [بذلك] (1) مكابدة الأمور ومشاقها.
وقوله : { أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } قال الحسن البصري : يعني أيحسب أن لن يقدر عليه أحد يأخذ ماله.
وقال قتادة : { أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } قال : ابن آدم يظن أن لن يُسأل عن هذا المال : من أين اكتسبه ؟ وأين أنفقه ؟
وقال السدي : { أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } قال : الله عز وجل.
وقوله : { يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا } أي : يقول ابن آدم : أنفقت مالا لبدا ، أي : كثيرا. قاله مجاهد [والحسن] (2) وقتادة ، والسدي ، وغيرهم.
{ أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ } قال مجاهد : أي أيحسب أن لم يره الله عز وجل. وكذا قال غيره من السلف.
وقوله : { أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ } أي : يبصر بهما ، { وَلِسَانًا } أي : ينطق به ، فَيُعبر عما في ضميره ، { وَشَفَتَيْنِ } (3) يستعين بهما على الكلام وأكل الطعام ، وجمالا لوجهه وفمه.
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي الربيع الدمشقي ، عن مكحول قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "يقول الله تعالى : يا ابن آدم ، قد أنعمت عليك نعماً عظاما لا تحصى عددها ولا تطيق شكرها ، وإن مما أنعمت عليك أن جعلت لك عينين تنظر بهما ، وجعلت لهما غطاءً ، فانظر بعينيك إلى ما أحللت لك ، وإن رأيت ما حرمت عليك فأطبق عليهما غطاءهما. وجعلت لك لسانا ، وجعلت له غلافا ، فانطق بما أمرتك وأحللتُ لك ، فإن عَرَض لك ما حرمت عليك فأغلق عليك لسانك. وجعلت لك فرجا ، وجعلت لك سترا ، فأصب بفرجك ما أحللت لك ، فإن عَرَض لك ما حرمت عليك فَأرْخِ عليك سترك. يا ابن آدم ، إنك لا تحمل سخطي ، ولا تطيق انتقامي" (4).
{ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } قال سفيان الثوري ، عن عاصم ، عن زرّ ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } قال : الخير والشر. وكذا رُوي عن علي ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وأبي وائل ، وأبي صالح ، ومحمد بن كعب ، والضحاك ، وعطاء الخراساني في آخرين.
وقال عبد الله بن وهب : أخبرني بن لَهِيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن سِنان بن سعد ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هما نجدان ، فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير" (5).
__________
(1) زيادة من م.
(2) زيادة من م ، أ.
(3) في م : (ولسانا وشفتين).
(4) تاريخ دمشق (19/46 "المخطوط" ).
(5) ورواه ابن عدي في الكامل (3/356) من طريق ابن وهب.

(8/404)


فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)

تفرد به سنان بن سعد - ويقال : سعد بن سنان - وقد وثقه ابن معين. وقال الإمام أحمد والنسائي والجوزجاني : منكر الحديث. وقال أحمد : تركت حديثه لاضطرابه. وروى خمسة عشر حديثا منكرة كلها ، ما أعرف منها حديثا واحدا. يشبه حديثه حديثَ الحسن - يعني البصري - لا يشبه حديثَ أنس.
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن أبي رجاء قال : سمعت الحسن يقول : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : "يا أيها الناس ، إنهما النجدان ، نجد الخير ونجد الشر ، فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير" (1).
وكذا رواه حبيب بن الشهيد ، ويونس بن عبيد ، وأبو وهب ، عن الحسن مرسلا. وهكذا أرسله قتادة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا عيسى ابن عقال (2) عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } قال : الثديين.
وروي عن الربيع بن خُثَيم (3) وقتادة وأبي (4) حازم ، مثل ذلك. ورواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب ، عن وَكِيع ، عن عيسى بن عقَال ، به. ثم قال : والصواب القول الأول.
ونظير هذه الآية قوله : { إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } [سورة الإنسان : 2 ، 3 ].
{ فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) }
قال ابن جرير : حدثني عمر بن إسماعيل بن مجالد ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية ، عن ابن عمر في قوله : { فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ } قال : جبل في جهنم.
وقال كعب الأحبار : { فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ } هو سبعون درجة في جهنم. وقال الحسن البصري : { فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ } قال : عقبة في جهنم. وقال قتادة : إنها قحمة شديدة فاقتحموها بطاعة الله عز وجل. وقال قتادة (5) { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ } ثم أخبر عن اقتحامها. فقال : { فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ }
__________
(1) تفسير الطبري (30/128).
(2) في أ : "عفان".
(3) في أ : "خيثم".
(4) في م : "وابن".
(5) في جميع النسخ : "وقال قتادة : وقوله (وما أدراك ما العقبة) ". وحذفنا "وقوله" ليستقيم المعنى. مستفادا من هامش طـ. الشعب.

(8/405)


وقال ابن زيد : { اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ } أي : أفلا سلك الطريق التي فيها النجاة والخير. ثم بينها فقال : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ }
قرئ : { فَكُّ رَقَبَةٍ } بالإضافة ، وقُرئ على أنه فعل ، وفيه ضمير الفاعل والرقبة مفعوله وكلتا (1) القراءتين معناهما متقارب.
قال الإمام أحمد : حدثنا علي (2) بن إبراهيم ، حدثنا عبد الله - يعني ابن سعيد (3) بن أبي هند - عن إسماعيل بن أبي حكيم - مولى آل الزبير - عن سعيد بن مرجانة : أنه سمع أبا هُرَيرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرْب منها إربا منه من النار ، حتى إنه ليعتق باليد اليد ، وبالرجل الرجل ، وبالفرج الفرج". فقال علي بن الحسين : أنتَ سَمعتَ هذا من أبي هُرَيرة ؟ فقال سعيد : نعم. فقال علي بن الحسين لغلام له - أفْرَهَ غلمانه - : ادعُ مطْرَفًا. فلما قام بين يديه قال : اذهب فأنت حُر لوجه الله.
وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ، من طرق ، عن سعيد بن مرجانة ، به (4) وعند مسلم أن هذا الغلام الذي أعتقه علي بن الحسين زين العابدين كان قد أعطي فيه عشرة آلاف درهم.
وقال قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن مَعدانَ بن أبي طلحة ، عن أبي نَجِيح (5) قال : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : "أيما مسلم أعتقَ رَجُلا مسلما ، فإن الله جاعلٌ وفاء كل عظم من عظامه عظمًا من عظام محرره من النار ، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة ، فإن الله جاعل وفاء كل عظم من عظامها عظما من عظامها من النار".
رواه ابن جرير هكذا (6) وأبو نجيح هذا هو عمرو بن عَبسَةَ السلمي ، رضي الله عنه.
قال الإمام أحمد : حدثنا حيوة بن شريح ، حدثنا بقية ، حدثني بَحير بن سعد ، عن خالد بن معدان ، عن كثير بن مرة ، عن عمرو بن عَبسَة (7) أنه حدثهم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من بنى مسجدا ليذكر الله فيه ، بنى الله له بيتا في الجنة. ومن أعتق نفسًا مسلمة ، كانت فديته من جهنم. ومن شاب شيبة في الإسلام ، كانت له نورا يوم القيامة" (8).
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا حَريز ؛ عن سُليم بن عامر : أن شرحبيل بن السمط قال لعمرو بن عَبسةَ (9) حَدِّثنا حديثًا ليس فيه تَزَيّد ولا نسيان. قال عمرو : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من أعتق رقبة مسلمة كانت فكاكه من النار ، عُضْوا بعضو. ومن
__________
(1) في م : "وكلا".
(2) في م : "حدثنا مكي".
(3) في م : "سعد".
(4) المسند (2/422) وصحيح البخاري برقم (2517 ، 6715) وصحيح مسلم برقم (1509) وسنن الترمذي برقم (1541) وسنن النسائي الكبرى برقم (4875).
(5) في أ : "عن ابن أبي نجيح".
(6) تفسير الطبري (30/129) ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (4879) من طريق قتادة.
(7) في أ : "ابن عنبسة".
(8) المسند (4/386).
(9) في أ : "عنبسة".

(8/406)


شاب شيبة في سبيل الله ، كانت له نورا يوم القيامة ، ومن رمى بسهم فبلغ فأصاب أو أخطأ ، كان كمعتق رقبة من بني إسماعيل" (1).
وروى أبو داود ، والنسائي بعضه (2).
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا الفرج ، حدثنا لقمان ، عن أبي أمامة ، عن عمرو بن عَبسَةَ (3) قال السلمي (4) قلت له : حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه انتقاص ولا وَهم. قال : سمعته يقول : "من وُلد له ثلاثة أولاد في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا الحِنْثَ ، أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم ، ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نورا يوم القيامة ، ومن رَمى بسهم في سبيل الله ، بلغ به العدو ، أصاب أو أخطأ ، كان له عتق رقبة. ومن أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار ، ومن أنفق زوجين في سبيل الله ، فإن للجنة ثمانية أبواب ، يدخله الله من أي باب شاء منها" (5).
وهذه أسانيد جيدة قوية ، ولله الحمد [والمنة] (6).
حديث آخر : قال أبو داود : حدثنا عيسى بن محمد الرملي ، حدثنا ضَمْرة ، عن ابن أبي عَبلَة ، عن الغريف بن الديلمي قال : أتينا واثلة بن الأسقع فقلنا له : حدثنا حَديثا ليس فيه زيادة ولا نقصان. فغضب وقال : إن أحدكم ليقرأ ومصحفه معلق في بيته ، فيزيد وينقص. قلنا : إنما أردنا حديثًا سمعتَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب - يعني النار - بالقتل ، فقال : "أعتقوا عنه يُعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار".
وكذا رواه النسائي من حديث إبراهيم بن أبي عَبلة ، عن الغَريف بن عياش الديلمي ، عن واثلة ، به (7).
حديث آخر : قال أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا هشام ، عن قتادة ، عن قيس الجذامي ، عن عقبة بن عامر الجهني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من أعتق رقبة مسلمة فهو فداؤه من النار" (8).
وحدثنا عبد الوهاب الخفاف ، عن سعيد ، عن قتادة قال : ذُكِر أن قيسا الجذامي حَدّث عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من أعتق رقبة مؤمنة فهي فكاكه من النار" (9).
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم وأبو أحمد قالا حدثنا عيسى بن عبد
__________
(1) المسند (4/113).
(2) سنن أبي داود برقم (3966) وسنن النسائي الكبرى برقم (4885 ، 4886).
(3) في أ : "عنبسة".
(4) في م : "السلمي قال".
(5) المسند (4/386).
(6) زيادة من أ.
(7) سنن أبي داود برقم (3964) وسنن النسائي الكبرى برقم (4890 ، 4891).
(8) المسند (4/150)
(9) المسند (4/147).

(8/407)


الرحمن البجلي - من بني بجيلة - من بني سليم - عن طلحة - قال أبو أحمد : حدثنا طلحة بن مصرف - عن عبد الرحمن بن عوسجة ، عن البراء بن عازب قال : جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، علمني عملا يدخلني الجنة. فقال : "لئن كنت أقصرتَ الخطبة لقد أعرضت المسألة. أعتق النسمة ، وفك الرقبة". فقال : يا رسول الله ، أوليستا بواحدة ؟ قال : "لا إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين في عتقها. والمنحة الوكوف ، والفيء على ذي الرحم الظالم ؛ فإن لم تُطِق ذلك فأطعم الجائعَ ، واسْقِ الظمآن ، وأمر بالمعروف ، وانه عن المنكر ، فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من الخير" (1).
وقوله : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ } قال ابن عباس : ذي مجاعة. وكذا قال عكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وغير واحد. والسَّغَب : هو الجوع.
وقال إبراهيم النَّخَعِي : في يومٍ الطعامُ فيه عزيزٌ.
وقال قتادة : في يوم يُشتهى فيه الطعام.
وقوله : { يَتِيمًا } أي : أطعم في مثل هذا اليوم يتيما ، { ذَا مَقْرَبَةٍ } أي : ذا قرابة منه. قاله ابن عباس ، وعكرمة ، والحسن ، والضحاك ، والسدي. كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد :
حدثنا يزيد ، أخبرنا هشام ، عن حفصة بنت سيرين ، عن سليمان بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "الصدقة على المسكين (2) صدقة ، وعلى ذي الرحم اثنتان ، صدقة وصلة".
وقد رواه الترمذي والنسائي (3) وهذا إسناد صحيح.
وقوله : { أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } أي : فقيرا مُدقعًا لاصقا بالتراب ، وهو الدقعاء أيضا.
قال ابن عباس : { ذَا مَتْرَبَةٍ } هو المطروح في الطريق (4) الذي لا بيت له ، ولا شيء يقيه من التراب - وفي رواية : هو الذي لصق بالدقعاء من الفقر والحاجة ، ليس له شيء - وفي رواية عنه : هو البعيد التربة.
قال ابن أبي حاتم : يعني الغريب عن وطنه.
وقال عكرمة : هو الفقير المديون المحتاج.
وقال سعيد بن جبير : هو الذي لا أحد له.
وقال ابن عباس ، وسعيد ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان : هو ذو العيال.
وكل هذه قريبة المعنى.
وقوله : { ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا } (5) أي : ثم هو مع هذه الأوصاف الجميلة الطاهرة (6)
__________
(1) المسند (4/299).
(2) في أ : "على المسلمين".
(3) المسند (4/214) وسنن الترمذي برقم (658) وسنن النسائي (5/92) وقال الترمذي : "حديث سلمان بن عامر حديث حسن".
(4) في م : "بالطريق".
(5) في م : "آمنوا وعملوا الصالحات".
(6) في أ : "الظاهرة".

(8/408)


مؤمنٌ بقلبه ، محتسب ثواب ذلك عند الله عز وجل. كما قال تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } [الإسراء : 19] وقال { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } الآية (1) [النحل : 97].
وقوله : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } أي : كان من المؤمنين العاملين صالحا ، المتواصين بالصبر على أذى الناس ، وعلى الرحمة بهم. كما جاء في الحديث : "الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" (2) وفي الحديث الآخر : "لا يَرْحَم اللهُ من لا يَرْحَم الناس" (3).
وقال أبو داود : حدثنا [أبو بكر] (4) بن أبي شيبة ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن ابن عامر (5) عن عبد الله بن عَمْرو - يرويه - قال : "من لم يَرْحم صغيرنا ويَعْرِف حَقَّ كبيرنا ، فليس منا" (6).
وقوله : { أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ } أي : المتصفون بهذه الصفات من أصحاب اليمين.
ثم قال : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ } أي : أصحاب الشمال ، { عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ } أي : مطبقة عليهم ، فلا محيد لهم عنها ، ولا خروج لهم منها.
قال أبو هريرة ، وابن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، ومحمد بن كعب القرظي ، وعطية العوفي ، والحسن ، وقتادة ، والسدي : { مُؤْصَدَةٌ } أي : مطبقة - قال ابن عباس : مغلقة الأبواب. وقال مجاهد : أصد الباب بلغة قريش : أي أغلقه.
وسيأتي في ذلك حديث في سورة : { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ }
وقال الضحاك : { مُؤْصَدَةٌ } حيط لا باب له.
وقال قتادة : { مُؤْصَدَةٌ } مطبقة فلا ضوء فيها ولا فُرَج ، ولا خروج منها آخر الأبد.
وقال أبو عمران الجوني : إذا كان يوم القيامة أمر الله بكل جبار وكل شيطان وكل من كان يَخاف الناس في الدنيا شره ، فأوثقوا في الحديد ، ثم أمر بهم إلى جهنم ، ثم أوصدوها عليهم ، أي : أطبقوها - قال : فلا والله لا تستقر أقدامهم على قرار أبدا ، ولا والله لا ينظرون فيها إلى أديم سماء أبدا ، ولا والله لا تلتقي جفون أعينهم على غمض نوم أبدا ، . ولا والله لا يذوقون فيها بارد شراب أبدا. رواه ابن أبي حاتم.
آخر تفسير سورة "البلد" ولله الحمد والمنة
__________
(1) في م : "الآيات".
(2) رواه الإمام أحمد في المسند (2/160) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (2319) من حديث جرير رضي الله عنه.
(4) زيادة من أ.
(5) في أ : "جابر".
(6) سنن أبي داود برقم (4943).

(8/409)


وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)

تفسير سورة والشمس وضحاها
وهي مكية.
تقدم حديث جابر الذي في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ : "هلا صليت بـ { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى } { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) }
قال مجاهد : { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } أي : وضوئها. وقال قتادة : { وَضُحَاهَا } النهار كله.
قال ابن جرير : والصواب أن يقال : أقسم الله بالشمس ونهارها ؛ لأن ضوء الشمس الظاهر هو النهار (1).
{ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا } قال مجاهد : تبعها. وقال العوفي ، عن ابن عباس : { وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا } قال : يتلو النهار. وقال قتادة : { إِذَا تَلاهَا } ليلة الهلال ، إذا سقطت الشمس رؤي الهلال.
وقال ابن زيد : هو يتلوها في النصف الأول من الشهر ، ثم هي تتلوه. وهو يتقدمها في النصف الأخير من الشهر.
وقال مالك ، عن زيد بن أسلم : إذا تلاها ليلة القدر.
وقوله : { وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا } قال مجاهد : أضاء. وقال قتادة : { وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا } إذا غشيها النهار.
قال ابن جرير : وكان بعض أهل العربية يتأول ذلك بمعنى : والنهار إذا جلا الظلمة ، لدلالة الكلام عليها.
قلت : ولو أن هذا القائل تأول [ذلك] (2) بمعنى { وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا } أي : البسيطة ، لكان أولى ، ولصح [تأويله في] (3) قول الله (4) { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } فكان أجود وأقوى ، والله أعلم. ولهذا قال مجاهد : { وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا } إنه كقوله : { وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } [الليل : 2].
__________
(1) تفسير الطبري (30/133).
(2) زيادة من م ، أ.
(3) زيادة من م ، أ.
(4) في م ، أ : "قوله".

(8/410)


وأما ابن جرير فاختار عود الضمير في ذلك كله على الشمس ، لجريان ذكرها. وقالوا في قوله : { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } يعني : إذا يغشى الشمس حين تغيب ، فتظلم الآفاق.
وقال بَقِيَّة بن الوليد ، عن صفوان ، حدثني يزيد بن ذي حمامة (1) قال : إذا جاء الليل قال الرب جل جلاله : غشي عبادي خلقي العظيم ، فالليل يهابه ، والذي خلقه أحق أن يهاب. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله : { وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا } يحتمل أن تكون "ما" هاهنا مصدرية ، بمعنى : والسماء وبنائها. وهو قول قتادة ، ويحتمل أن تكون بمعنى "مَن" يعني : والسماء وبانيها. وهو قول مجاهد ، وكلاهما متلازم ، والبناء هو الرفع ، كقوله : { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } أي : بقوة { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ } [الذاريات : 47 ، 48].
وهكذا قوله : { وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا } قال مجاهد : { طَحَاهَا } دحاها. وقال العوفي ، عن ابن عباس : { وَمَا طَحَاهَا } أي : خلق فيها.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { طَحَاهَا } قسمها.
وقال مجاهد ، وقتادة والضحاك ، والسُّدِّي ، والثوري ، وأبو صالح ، وابن زيد : { طَحَاهَا } بسطها.
وهذا أشهر الأقوال ، وعليه الأكثر من المفسرين ، وهو المعروف عند أهل اللغة ، قال الجوهري : طحوته مثل دحوته ، أي : بسطته.
وقوله : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } أي : خلقها سوية مستقيمة على الفطرة القويمة ، كما قال تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } [الروم : 30] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يُهَوِّدانه أو يُنَصِّرانه أو يُمَجِّسانه ، كما تولد البهيمة بهيمة جَمْعَاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ".
أخرجاه من رواية أبي هريرة (2)
وفي صحيح مسلم من رواية عياض بن حمار المجاشعي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يقول الله عز وجل : إني خلقت عبادي حُنَفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم" (3).
وقوله : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } أي : فأرشدها إلى فجورها وتقواها ، أي : بين لها ذلك ، وهداها إلى ما قدر لها.
قال ابن عباس : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } بين لها الخير والشر. وكذا قال مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والثوري.
__________
(1) في أ : "ذي حماية".
(2) صحيح البخاري برقم (1385) وصحيح مسلم برقم (2658).
(3) صحيح مسلم برقم (2865)

(8/411)


وقال سعيد بن جبير : ألهمها الخير والشر. وقال ابن زيد : جعل فيها فجورها وتقواها.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا صفوان بن عيسى وأبو عاصم النبيل قالا حدثنا عَزْرَة بن ثابت ، حدثني يحيى بن عقيل ، عن يحيى بن يَعْمَر ، عن أبي الأسود الدّيلي (1) قال : قال لي عمران بن حصين : أرأيت ما يعمل فيه الناس ويتكادحون فيه ، أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قَدَر قد سبق ، أو فيما يُستَقبَلُون مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم ، وأكدت عليهم الحجة ؟ قلت : بل شيء قضي (2) عليهم. قال : فهل يكون ذلك ظلمًا ؟ قال : ففزعت منه فزعًا شديدًا ، قال : قلت له : ليس شيء إلا وهو خَلقُه وملْك يَده ، لا يسألُ عما يفعل وهم يسألون. قال : سددك الله ، إنما سألت لأخبر (3) عقلك ، إن رجلا من مُزَينة - أو جهينة - أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أرأيت ما يعمل الناس فيه ويتكادحون ، أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قَدر قد سبق ، أم شيء مما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم ، وأكدت به عليهم الحجة ؟ قال : "بل شيء قد قضي (4) عليهم". قال : ففيم نعمل ؟ قال : "من كان الله خلقه لإحدى المنزلتين يُهَيِّئه لها ، وتصديق ذلك في كتاب الله : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا }
رواه أحمد ومسلم ، من حديث عَزْرَة بن ثابت به (5).
وقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } يحتمل أن يكون المعنى : قد أفلح من زكى نفسه ، أي : بطاعة الله - كما قال قتادة - وطهرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل. ويُروَى نحوه عن مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير. وكقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } [الأعلى : 14 ، 15].
{ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } أي : دسسها ، أي : أخملها ووضع منها بخذلانه إياها عن الهُدَى ، حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله عز وجل.
وقد يحتمل أن يكون المعنى : قد أفلح من زكى الله نفسه ، وقد خاب من دَسَّى الله نفسه ، كما قال (6) العوفي وعلي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي وأبو زُرْعَة قالا حدثنا سهل (7) بن عثمان ، حدثنا أبو مالك - يعني عمرو بن هشام - عن جُوَيبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قول الله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } قال النبي صلى الله عليه وسلم : "أفلحت نفس زكاها الله" (8).
ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي مالك ، به. وجويبر [هذا] (9) هو ابن سعيد ، متروك الحديث ، والضحاك لم يلق ابن عباس.
__________
(1) في أ : "الديلمي".
(2) في أ : "شيء قد قضي".
(3) في م : "إنما سألتك لأختبر".
(4) في م : "قضى الله".
(5) تفسير الطبري (30/135) والمسند (4/438) وصحيح مسلم برقم (2650).
(6) في م : "كما قاله".
(7) في أ : "سهيل".
(8) ورواه الديلمي في مسند الفردوس برقم (4600) من طريق جويبر به.
(9) زيادة من م.

(8/412)


كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)

وقال الطبراني : حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح ، حدثنا أبي ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بهذه الآية : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } وقف ، ثم قال : "اللهم آت نفسي تقواها ، أنت وليها ومولاها ، وخير من زكاها" (1).
حديث آخر : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا يعقوب بن حميد المدني ، حدثنا عبد الله بن عبد الله الأموي ، حدثنا مَعْن بن محمد الغفاري ، عن حنظلة بن علي الأسلمي ، عن أبي هريرة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } قال : "اللهم آت نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها" (2) لم يخرجوه من هذا الوجه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، عن نافع - عن ابن عمر - عن صالح بن سُعَيد ، عن عائشة : أنها فَقَدت النبي صلى الله عليه وسلم من مضجعه ، فلمسته بيدها ، فوقعت (3) عليه وهو ساجد ، وهو يقول : "رب ، أعط نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها" (4) تفرد به.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا عاصم الأحول ، عن عبد الله بن الحارث ، عن زيد بن أرقم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "اللهم ، إني أعوذ بك من العجز والكَسَل والهرم ، والجُبن والبخل وعذاب القبر. اللهم ، آت نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها. اللهم ، إني أعوذ بك من قَلْب لا يخشع ، ومن نَفْس لا تشبع ، وعِلْم لا ينفع ، ودعوة لا يستجاب لها". قال زيد : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمناهن ونحن نعلمكوهن.
رواه مسلم من حديث أبي معاوية ، عن عاصم الأحول ، عن عبد الله بن الحارث - وأبي عثمان النهدي ، عن زيد بن أرقم ، به (5).
{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15) }
يخبر تعالى عن ثمود أنهم كذبوا رسولهم ، بسبب ما كانوا عليه من الطغيان والبغي.
وقال محمد بن كعب : { بِطَغْوَاهَا } أي : بأجمعها.
والأول أولى ، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما. فأعقبهم ذلك تكذيبًا في قلوبهم بما جاءهم به
__________
(1) المعجم الكبير (11/106) وزاد : "عن عمرو بن دينار وعطاء بن أبي رباح" وقال الهيثمي في المجمع (7/138) : "إسناد حسن".
(2) ورواه ابن أبي عاصم في السنة برقم (318) عن يعقوب بن حميد به.
(3) في م : "فوثبت".
(4) المسند (6/209).
(5) المسند (4/371) وصحيح مسلم برقم (2722).

(8/413)


رسولهم من الهدى واليقين.
{ إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا } أي : أشقى القبيلة ، هو قُدَار بن سالف عاقرُ الناقة ، وهو أحيمر ثمود ، وهو الذي قال تعالى : { فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ } [القمر : 29]. وكان هذا الرجل عزيزًا فيهم ، شريفًا في قومه ، نسيبًا رئيسًا مطاعًا ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا ابن نمير ، حدثنا هشام ، عن أبيه ، عن عبد الله بن زَمْعَةَ قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر الناقة ، وذكر الذي عقرها ، فقال : " { إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا } انبعث لها رجل عارم عزيز منيع في رهطه ، مثل أبي زمعة".
ورواه البخاري في التفسير ، ومسلم في صفة النار ، والترمذي والنسائي في التفسير من سننهما (1) وكذا ابن جرير وابن أبي حاتم [من طرق] (2) عن هشام بن عروة ، به (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا عيسى بن يونس ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثني يزيد بن محمد بن خُثَيم (4) عن محمد بن كعب القرظي ، عن محمد بن خُثَيم (5) أبي يزيد عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : "ألا أحدثك بأشقى الناس ؟ ". قال : بلى : قال : "رجلان ؛ أحيمر ثمود الذي عَقَر الناقة ، والذي يضربك يا عليّ عَلَى هذا - يعني قَرنه - حتى تبتل منه هذه" يعني : لحيته (6).
وقوله : { فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ } يعني : صالحًا ، عليه السلام : { نَاقَةُ اللَّهِ } أي : احذروا ناقة الله أن تمسوها بسوء ، { وَسُقْيَاهَا } أي : لا تعتدوا عليها في سقياها ، فإن لها شرب يوم ولكم شرب يوم معلوم. قال الله : { فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا } أي : كذبوه فيما جاءهم به فأعقبهم ذلك أن عقروا الناقة التي أخرجها الله من الصخرة آية لهم وحجة عليهم ، { فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ } أي : غضب عليهم ، فدمر عليهم ، { فَسَوَّاهَا } أي : فجعل العقوبة نازلة عليهم على السواء.
قال قتادة : بلغنا أن أحيمر ثمود لم يعقر الناقة حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم ، وذكرهم وأنثاهم ، فلما اشترك القوم في عقرها دمدم الله عليهم بذنوبهم (7) فسواها.
وقوله : { وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا } وقرئ : "فلا يخاف عقباها".
__________
(1) في م : "من سننيهما".
(2) زيادة من م.
(3) المسند (4/17) وصحيح البخاري برقم (4942) وصحيح مسلم برقم (2855) وسنن الترمذي برقم (3343) وسنن النسائي الكبرى برقم (11675) وتفسير الطبري (30/137).
(4) في أ : "خيثم".
(5) في أ : "خيثم".
(6) ورواه البخاري في التاريخ الكبير (1/71) عن إبراهيم بن موسى به ، ورواه أبو نعيم في الدلائل (ص 485) من طريق محمد بن سلمة ، عن ابن إسحاق به ، وقال البخاري : "هذا إسناد لا يعرف سماع يزيد من محمد ولا محمد بن كعب من ابن خثيم ولا ابن خثيم من عمار".
(7) في م ، أ : "بذنبهم".

(8/414)


قال ابن عباس : لا يخاف الله من أحد تبعة. وكذا قال مجاهد ، والحسن ، وبكر بن عبد الله المزني ، وغيرهم.
وقال الضحاك والسدي : { وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا } أي : لم يخف (1) الذي عقرها عاقبة ما صنع. والقول الأول أولى ؛ لدلالة السياق عليه ، والله أعلم.
آخر تفسير "والشمس وضحاها".
__________
(1) في أ : "لم يخف الله".

(8/415)


وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)

تفسير سورة الليل
وهي مكية.
تقدم قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ : "فهلا صليت ب " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى " " وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا " " وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى " ؟ ".
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) }
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن علقمة : أنه قدم الشام فدخل مسجد دمشق ، فصلى فيه ركعتين وقال : اللهم ، ارزقني جليسًا صالحًا. قال : فجلس إلى أبي الدرداء ، فقال له أبو الدرداء : ممن أنت ؟ قال : من أهل الكوفة. قال : كيف سمعت ابن أم عبد يقرأ : { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } ؟ قال علقمة : "والذكر والأنثى". فقال أبو الدرداء : لقد سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما زال هؤلاء حتى شككوني. ثم قال : ثم ألم يكن فيكم صاحب الوساد وصاحب السر الذي لا يعلمه أحد غيره ، والذي أجير من الشيطان على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ؟ (1).
وقد رواه البخاري هاهنا ومسلم ، من طريق الأعمش ، عن إبراهيم قال : قدم أصحاب عبد الله على أبي الدرداء ، فطلبهم فوجدهم ، فقال : أيكم يقرأ على قراءة عبد الله ؟ قالوا : كلنا ، قال : أيكم أحفظ ؟ فأشاروا إلى علقمة ، فقال : كيف سمعته يقرأ : { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } ؟ قال : "والذكر والأنثى". قال : أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هكذا ، وهؤلاء يريدوني أن أقرأ : { وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى } والله لا أتابعهم (2).
هذا لفظ البخاري : هكذا قرأ ذلك ابن مسعود ، وأبو الدرداء - ورفعه أبو الدرداء - وأما الجمهور فقرأوا ذلك كما هو مُثبَت في المصحف الإمام العثماني في سائر الآفاق : { وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى }
__________
(1) المسند (6/449) وتكملة الحديث "وصاحب الوساد : ابن مسعود ، وصاحب السر : حذيفة ، والذي أجير من الشيطان : عمار".
(2) صحيح البخاري برقم (4944) وصحيح مسلم برقم (824).

(8/416)


فأقسم تعالى بـ { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } أي : إذا غَشيَ الخليقةَ بظلامه ، { وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } أي : بضيائه وإشراقه ، { وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى } كقوله : { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا } [النبأ : 8] ، وكقوله : { وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } [الذاريات : 49].
ولما كان القسم بهذه الأشياء المتضادة كان القسم عليه أيضا متضادا ؛ ولهذا قال : { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } أي : أعمال العباد التي اكتسبوها متضادة أيضًا ومتخالفة ، فمن فاعل خيرا ومن فاعل شرا.
قال الله تعالى : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى } أي : أعطى ما أمر بإخراجه ، واتقى الله في أموره ، { وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى } أي : بالمجازاة على ذلك - قاله قتادة ، وقال خَصِيف : بالثواب. وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وأبو صالح ، وزيد بن أسلم : { وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى } أي : بالخلف. وقال أبو عبد الرحمن السلمي ، والضحاك : { وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى } أي : بلا إله إلا الله. وفي رواية عن عكرمة : { وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى } أي : بما أنعم الله عليه. وفي رواية عن زيد بن أسلم : { وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى } قال : الصلاة والزكاة والصوم. وقال مرة : وصدقة الفطر.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا صفوان بن صالح الدمشقي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا زُهَير بن محمد ، حدثني مَن سَمِع أبا العالية الرياحي يُحدث عن أبي بن كعب قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسنى قال : "الحسنى : الجنة" (1).
وقوله : { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } قال ابن عباس : يعني للخير. وقال زيد بن أسلم : يعني للجنة.
وقال بعض السلف : من ثواب الحسنةُ (2) الحسنة بعدها ، ومن جزاء السيئة السيئةُ بعدها ؛ ولهذا قال تعالى : { وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ } أي : بما عنده ، { واستغنى } قال عكرمة ، عن ابن عباس : أي بخل بماله ، واستغنى عن ربه ، عز وجل. رواه ابن أبي حاتم.
{ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى } أي : بالجزاء في الدار الآخرة.
{ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } أي : لطريق الشر ، كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الأنعام : 11] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة دالة على أن الله ، عز وجل ، يُجازي من قصد الخير بالتوفيق له ، ومن قصد الشر بالخذلان. وكل ذلك بقدر مُقدّر ، والأحاديث الدالة على هذا المعنى كثيرة :
رواية أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه : قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عَيَّاش ، حدثني العطاف بن خالد ، حدثني رجل من أهل البصرة ، عن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، عن أبيه قال : سمعت أبي يذكر أن أباه سمع أبا بكر وهو يقول : قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، أنعمل على ما فرغ منه أو على أمر مؤتنف ؟ قال : "بل على أمر قد فُرغ منه".
__________
(1) ورواه الطبري في تفسيره (15/69) طـ - المعارف ، من طريق عمرو بن أبي سلمة عن زهير به.
(2) في أ : "عن ثواب الحسنى".

(8/417)


قال : ففيم العملُ يا رسول الله ؟ قال : "كل ميسر لما خلق له" (1).
رواية علي ، رضي الله عنه : قال البخاري ، حدثنا أبو نعيم : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن سعد (2) بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي بن أبي طالب قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بَقِيع الغَرْقَد في جنازة ، فقال : "ما منكم من أحد إلا وقد كُتب مقعده من الجنة ومقعده من النار". فقالوا : يا رسول الله ، أفلا نتكل ؟ فقال : "اعملوا ، فكل ميسر لما خلق له". قال : ثم قرأ : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } إلى قوله : { لِلْعُسْرَى } (3).
وكذا رواه من طريق شعبة ووَكِيع ، عن الأعمش ، بنحوه (4) ثم رواه عن عثمان بن أبي شيبة ، عن جرير ، عن منصور ، عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه : كنا في جنازة في بقيع الغرقد ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ، ومعه مخْصَرَةٌ فَنَكَسَ فجعل ينكُت بمخصرته ، ثم قال : "ما منكم من أحد - أو : ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار ، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة". فقال رجل : يا رسول الله ، أفلا نتكل وندع العمل ؟ فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى أهل السعادة ، ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى أهل الشقاء ؟ فقال : "أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاء فييسرون إلى عمل أهل الشقاء". ثم قرأ : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } الآية (5).
وقد أخرجه بقية الجماعة ، من طرق ، عن سعد بن عبيدة ، به (6).
رواية عبد الله بن عمر : وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا شعبة عن عاصم بن عبيد الله قال : سمعتُ سالم بنَ عبد الله يُحدث عن ابن عُمَر : قال : قال عمر : يا رسول الله ، أرأيت ما نعمل فيه ؟ أفي أمر قد فُرغ أو مبتدأ أو مبتدع ؟ قال : " فيما قد فُرغَ منه ، فاعمل يا ابن الخطاب ، فإن كُلا مُيَسَّر ، أما من كان من أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة ، وأما من كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء".
ورواه الترمذي في القدر ، عن بندار ، عن ابن مَهْدِي ، به (7) وقال : حسن صحيح.
حديث آخر من رواية جابر : قال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو ابن الحارث ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله أنه قال : يا رسول الله ، أنعمل لأمر قد فرغ
__________
(1) المسند (1/5).
(2) في م : "سعيد".
(3) صحيح البخاري برقم (4945).
(4) صحيح البخاري برقم (4946 ، 4947).
(5) صحيح البخاري برقم (4948).
(6) صحيح مسلم برقم (2647) وسنن أبي داود برقم (4694) وسنن الترمذي برقم (3344) وسنن النسائي الكبرى برقم (11678) وسنن ابن ماجة برقم (78).
(7) المسند (2/52) وسنن الترمذي برقم (2135).

(8/418)


منه ، أو لأمر نستأنفه ؟ فقال : "لأمر قد فرغ منه". فقال سراقة : ففيم العمل إذًا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كل عامل مُيَسَّر لعمله".
ورواه مسلم عن أبي الطاهر ، عن ابن وهب ، به (1).
حديث آخر : قال ابن جرير : حدثني يونس ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن طلق ابن حبيب ، عن بشير (2) بن كعب العدوي قال : سأل غلامان شابان النبي صلى الله عليه وسلم فقالا يا رسول الله ، أنعمل فيما جَفَّت به الأقلام وجَرَتْ به المقادير ، أو في شيء يستأنف ؟ فقال : "بل فيما جفت به الأقلام ، وجرت به المقادير". قالا ففيم العمل إذًا ؟ قال : "اعملوا فكل عامل ميسر لعمله الذي خلق له". قالا فالآن نجد ونعمل (3).
رواية أبي الدرداء : قال الإمام أحمد : حدثنا هَيْثَم (4) بن خارجة ، حدثنا أبو الربيع سليمان بن عتبة السلمي ، عن يونس بن ميسرة بن حَلْبس ، عن أبي إدريس ، عن أبي الدرداء قال : قالوا : يا رسول الله ، أرأيت ما نعمل ، أمر قد فُرغ منه أم شيء نستأنفه ؟ قال : "بل أمر قد فرغ منه". قالوا : فكيف بالعمل يا رسول الله ؟ قال : "كل امرئ مهيأ لما خلق له" (5).
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
حديث آخر : قال ابن جرير : حدثني الحسن بن سلمة بن أبي كَبْشَة ، حدثنا عبد الملك بن عمرو ، حدثنا عباد بن راشد ، عن قتادة ، حدثني خُلَيد العصري ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من يوم غربت فيه شمسه إلا وبجَنْبَتَيْهَا ملكان يناديان بصوت يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين : اللهم أعط منفقًا خلفًا ، وأعط ممسكًا تلفًا". وأنزل الله في ذلك القرآن : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } (6).
ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن ابن أبي كبشة ، بإسناده مثله.
حديث آخر : قال ابن أبي حاتم : حدثني أبو عبد الله الطهراني ، حدثنا حفص بن عُمَر العَدَاني ، حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة ، عن ابن عباس ؛ أن رجلا كان له نخل ، ومنها نخلة فرعها إلى (7) دار رجل صالح فقير ذي عيال ، فإذا جاء الرجل فدخل داره وأخذ الثمر من نخلته ، فتسقط الثمرة فيأخذها صبيان الفقير فنزل من نخلته فَنزع (8) الثمرة من أيديهم ، وإن أدخل أحدهم
__________
(1) تفسير الطبري (30/144) وصحيح مسلم برقم (2648). تنبيه : لم يقع ذكر سراقة في رواية الطبري ولا في رواية أبي الطاهر في صحيح مسلم ، وإنما وقع في صحيح مسلم من طريق آخر.
(2) في أ : "بشر".
(3) تفسير الطبري (30/144).
(4) في أ : "حدثنا هشيم".
(5) المسند (6/441).
(6) تفسير الطبري (30/142).
(7) في م ، أ : "في".
(8) في أ : "فينزع".

(8/419)


الثمرة في فمه أدخل أصبعه في حلق الغلام ونزع الثمرة من حلقه. فشكا ذلك الرجلُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخبره بما هو فيه من صاحب النخلة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "اذهب". ولقي النبي صلى الله عليه وسلم صاحب النخلة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "أعطني نخلتك التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة" فقال له : لقد أعطيت ، ولكن يعجبني ثمرها ، وإن لي لنخلا كثيرًا ما فيها نخلة أعجب إلي ثمرة من ثمرها. فذهب النبي صلى الله عليه وسلم فتبعه رجل كان يسمع الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صاحب النخلة. فقال الرجل : يا رسول الله ، إن أنا أخذت النخلة فصارت لي النخلة فأعطيتها أتعطيني بها ما أعطيته بها نخلة في الجنة ؟ قال : "نعم". ثم إن الرجل لقي صاحب النخلة ، ولكلاهما نخل ، فقال له : أخبرك أن محمدًا ، [قد] (1) أعطاني بنخلتي المائلة في دار فلان نخلة في الجنة ، فقلت ، له : قد أعطيتُ ولكن يعجبني ثمرها. فسكت عنه الرجلُ ، فقال له : أتُراك إذا بعتها ؟ قال : لا إلا أن أعطى بها شيئًا ، ولا أظنني أعطاه. قال : وما مناك بها (2) ؟ قال : أربعون نخلة. فقال الرجل : لقد جئتَ بأمر عظيم ، نخلتك تطلب بها أربعين نخلة ؟! ثم سكتا وأنشأ في كلام [آخر] (3) ثم قال : أنا أعطيتك أربعين نخلة ، فقال : أشهد لي إن كنت صادقا. فأمر بأناس فدعاهم فقال : اشهدوا أني قد أعطيته من نخلي أربعين نخلة بنخلته التي فرعها في دار فلان ابن فلان. ثم قال : ما تقول ؟ فقال صاحب النخلة : قد رضيت. ثم قال بعدُ : ليس بيني وبينك بيع لم نفترق قال (4) له : قد أقالك الله ، ولست بأحمق حين أعطيتك أربعين نخلة بنخلتك المائلة. فقال صاحب النخلة : قد رضيتُ على أن تعطيني الأربعين على ما أريد. قال : تعطينيها على ساق. ثم مكث ساعة ، ثم قال : هي لك على ساق وأوقف له شهودًا وعد له أربعين نخلة على ساق ، فتفرقا ، فذهب الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن النخلة المائلة في دار فلان قد صارت لي ، فهي لك. فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرجل صاحب الدار فقال له : "النخلة لك ولعيالك". قال عكرمة : قال ابن عباس : فأنزل الله عز وجل : { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } إلى قوله : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } إلى آخر السورة (5).
هكذا رواه ابن أبي حاتم ، وهو حديث غريب جدًا.
قال ابن جرير : وذكر أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه : حدثني هارون ابن إدريس الأصم ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن محمد ابن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال : كان أبو بكر يعتق على الإسلام بمكة ، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن ، فقال له أبوه : أي بني ، أراك تعتق أناسًا ضعفاء ، فلو أنك تعتق رجالا جُلَداء يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك ؟! فقال : أيْ أبَت ، إنما أريد - أظنه قال - ما عند الله : قال : فحدثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية
__________
(1) زيادة من م.
(2) في م ، أ. "فيها".
(3) زيادة من م.
(4) في م : "فقال".
(5) ذكره السيوطي في الدر المنثور (8/532) وقال : "أخرج ابن أبي حاتم بسند ضعيف عن ابن عباس".

(8/420)


إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14)

أنزلت فيه : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } (1).
وقوله : { وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى } قال مجاهد : أي إذا مات. وقال أبو صالح ، ومالك عن زيد بن أسلم : إذا تردى في النار.
{ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) }
__________
(1) تفسير الطبري (30/142).

(8/421)


لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)

{ لا يَصْلاهَا إِلا الأشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21) }
قال قتادة : { إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى } أي : نبين الحلالَ والحرامَ. وقال غيره : من سَلك طريق الهدى وَصَل إلى الله. وجعله كقوله تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } [النحل : 9]. حكاه ابن جرير.
وقوله : { وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأولَى } أي : الجميع ملكنا (1) وأنا المتصرف فيهما.
وقوله : { فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى } قال مجاهد : أي توهج.
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن سِماك بن حرب ، سمعتُ النعمان بن بشير يخطب يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يقول : "أنذركم النار [أنذرتكم النار ، أنذرتكم النار] (2) حتى لو أن رجلا كان بالسوق لسمعه من مقامي هذا. قال : حتى وقعت خَميصة كانت على عاتقه عند رجليه (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، حدثني أبو إسحاق : سمعت النعمان ابن بشير يخطب ويقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن أهون أهل النار عذابًا يوم القيامة رجلٌ توضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منها دماغه".
رواه البخاري (4)
وقال مسلم : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو أسامة ، عن الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أهون أهل النار عذابًا من له نعلان وشراكان من نار يَغلي منهما دماغه كما يَغْلي المِرْجَل ، ما يرى أن أحدًا أشد منه عذابًا ، وإنه لأهونهم عذابا" (5).
وقوله : { لا يَصْلاهَا إِلا الأشْقَى } أي : لا يدخلها دخولا يحيط به من جميع جوانبه إلا الأشقى. ثم فسره فقال : { الَّذِي كَذَّبَ } أي : بقلبه ، { وَتَوَلَّى } أي : عن العمل بجوارحه وأركانه.
__________
(1) في م : "ملكا".
(2) زيادة من م ، أ ، والمسند.
(3) المسند (4/272).
(4) المسند (4/274) وصحيح البخاري برقم (6561 ، 6562).
(5) صحيح مسلم برقم (213).

(8/421)


قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا عبد ربه (1) بن سعيد ، عن المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يدخل النار إلا شقي". قيل : ومن الشقي ؟ قال : "الذي لا يعمل بطاعة ، ولا يترك لله معصية" (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يونس وسُريج قالا حدثنا فُلَيح ، عن هلال بن علي ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هُرَيرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كل أمتي تدخل الجنة يوم القيامة إلا من أبى". قالوا : ومن يأبى يا رسول الله ؟ قال : "من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى".
ورواه البخاري عن محمد بن سنان ، عن فُلَيح ، به (3)
وقوله : { وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى } أي : وسَيُزَحزح عن النار التقي النقي الأتقى.
ثم فسره بقوله : { الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى } أي : يصرف ماله في طاعة ربه ؛ ليزكي نفسه وماله وما وهبه الله من دين ودنيا.
{ وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى } أي : ليس بَذْله حاله (4) في مكافأة من أسدى إليه معروفًا ، فهو يعطي في مقابلة ذلك ، وإنما دفعه ذلك { ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى } أي : طمعًا في أن يحصل له رؤيته في الدار الآخرة في روضات الجنات ، قال الله تعالى : { وَلَسَوْفَ يَرْضَى } أي : ولسوف يرضى من اتصف بهذه الصفات.
وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك. ولا شك أنه داخل فيها ، وأولى الأمة (5) بعمومها ، فإن لفظها لفظ العموم ، وهو قوله تعالى : { وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى } ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة ؛ فإنه كان صديقًا تقيًا كريما جوادًا بذالا لأمواله في طاعة مولاه ، ونصرة رسول الله ، فكم من دراهم (6) ودنانير (7) بذلها ابتغاء وجه ربه الكريم ، ولم يكن لأحد من الناس عنده منّةٌ يحتاج إلى أن يكافئه بها ، ولكن كان فضله وإحسانه على السادات والرؤساء من سائر القبائل ؛ ولهذا قال له عروة بن مسعود - وهو سيد ثقيف ، يوم صلح الحديبية - : أما والله لولا يد لك كانت عندي لم أجزك بها لأجبتك. وكان الصديق قد أغلظ له في المقالة ، فإذا كان هذا حاله مع سادات العرب ورؤساء القبائل ، فكيف بمن عداهم ؟ ولهذا قال : { وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى } وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من أنفق زوجين في سبيل الله دَعَته خَزَنَةُ الجنة : يا عبد الله ، هذا خير" ، فقال أبو بكر : يا رسول الله ، ما على من يُدعى منها ضرورة فهل يدعى منها كلها أحد ؟ قال : "نعم ، وأرجو أن تكون منهم" (8).
آخر تفسير سورة "الليل" ولله الحمد والمنة (9)
__________
(1) في أ : "حدثنا عبد الله".
(2) المسند (2/349).
(3) المسند (2/361) وصحيح البخاري برقم (7280).
(4) في أ : "ماله".
(5) في أ : "الآية".
(6) في م ، أ : "من درهم".
(7) في أ : "ودينار".
(8) صحيح البخاري برقم (2841) وصحيح مسلم برقم (1027) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(9) في أ : "ولله الحمد والمنة والثناء الحسن الجميل".

(8/422)


وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)

تفسير سورة الضحى
وهي مكية.
روينا من طريق أبي الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بَزةَ المقرئ قال : قرأت على عكرمة بن سليمان ، وأخبرني أنه قرأ على إسماعيل بن قسطنطين وشبل بن عبَّاد ، فلما بلغت " وَالضُّحَى " قالا لي : كَبر حتى تختم مع خاتمة كل سورة ، فإنا قرأنا على ابن كثير فأمرنا بذلك. وأخبرنا أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك. وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس فأمره بذلك ، وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب فأمره بذلك ، وأخبره أبي أنه قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بذلك (1).
فهذه سُنة تفرد بها أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله البزي ، من ولد القاسم بن أبي بزة ، وكان إمامًا في القراءات ، فأما في الحديث فقد ضَعَّفَه أبو حاتم الرازي وقال : لا أحدث عنه ، وكذلك أبو جعفر العقيلي قال : هو منكر الحديث. لكن حكى الشيخ شهاب الدين أبو شامة في شرح الشاطبية عن الشافعي أنه سمع رجلا يكبر هذا التكبير في الصلاة ، فقال له : أحسنت وأصبت السنة. وهذا يقتضي صحة هذا الحديث.
ثم اختلف القراء في موضع هذا التكبير وكيفيته ، فقال بعضهم : يكبر من آخر " وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى " وقال آخرون : من آخر " وَالضُّحَى " وكيفية التكبير عند بعضهم أن يقول : الله أكبر ويقتصر ، ومنهم من يقول الله أكبر ، لا إله إلا الله والله أكبر.
وذكر الفراء في مناسبة التكبير من أول سورة "الضحى" : أنه لما تأخر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتر تلك المدة [ثم] (2) جاءه الملك فأوحى إليه : " وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى " السورة بتمامها ، كبر فرحًا وسرورًا. ولم يرو ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف ، فالله أعلم (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) }
__________
(1) ورواه الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال (1/145) ثم قال : "هذا حديث غريب ، وهو مما أنكر على البزي ، قال أبو حاتم : هذا منكر".
(2) زيادة من م.
(3) والصواب أن هذا مما لم يصح فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته ، رضي الله عنهم ، وما روى فيها مما لا تقوم به الحجة ، وشيخ الإسلام - ابن تيمية - قد تكلم على هذا التكبير كلاما شديدا في الفتاوى (13/417 - 419) ، وانظر : الآداب الشرعية لابن مفلح (2/310) ومرويات دعاء ختم القرآن لبكر أبو زيد (ص6) ومن كتابه استفدت هذا ، فجزاه الله خيرا.

(8/423)


قال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن الأسود بن قيس قال : سمعت جُنْدُبا يقول : اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين ، فأتت امرأة فقالت : يا محمد ، ما أرى شيطانك إلا قد تركك. فأنزل الله عز وجل : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } (1).
رواه البخاري ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، من طرق ، عن الأسود بن قيس ، عن جُنْدُب - هو ابن عبد الله البَجلي ثم العَلقي (2) به (3) وفي رواية سفيان بن عيينة عن الأسود بن قيس : سمع جندبًا قال : أبطأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال المشركون : وُدِّع محمد. فأنزل الله : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } (4).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج وعمرو بن عبد الله (5) الأودي قالا حدثنا أبو أسامة ، حدثني سفيان ، حدثني الأسود بن قيس ، أنه سمع جندبًا يقول : رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر في أصبعه فقال :
هل أنت إلا أصبع دميت... وفي سبيل الله ما لقيت?...
قال : فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم ، فقالت له امرأة : ما أرى شيطانك إلا قد تركتك (6) فنزلت : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } والسياق لأبي سعيد.
قيل : إن هذه المرأة هي : أم جميل امرأة أبي لهب ، وذكر أن إصبعه ، عليه السلام ، دميت. وقوله - هذا الكلام الذي اتفق أنه موزون - ثابت في الصحيحين (7) ولكن الغريب هاهنا جعله سببًا لتركه القيام ، ونزول هذه السورة. فأما ما رواه ابن جرير :
حدثنا ابن أبي الشوارب ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا سليمان الشيباني ، عن عبد الله ابن شداد : أن خديجة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : ما أرى ربك إلا قد قلاك. فأنزل الله : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى }
وقال أيضا : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وَكِيع ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه قال : أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فجزع جزعًا شديدًا ، فقالت خديجة : إني أرى ربك قد قلاك مما نَرى من جزعك. قال : فنزلت : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } إلى آخرها (8).
__________
(1) المسند (4/312).
(2) في أ : "العلقمي".
(3) صحيح البخاري برقم (1124 ، 1125 ، 4983 ، 4950 ، 4951) وصحيح مسلم برقم (1797) وسنن الترمذي برقم (3345) وسنن النسائي الكبرى برقم (11681) وسنن ابن ماجة برقم (3250).
(4) هذه الرواية في مسلم والترمذي.
(5) في أ : "وعمرو بن عبد الله بن عبد الله الأودي".
(6) في م : "قد تركك".
(7) صحيح البخاري برقم (2802) وصحيح مسلم برقم (1796).
(8) تفسير الطبري (30/148).

(8/424)


فإنه حديث مرسل من [هذين الوجهين] (1) ولعل ذكر خديجة ليس محفوظًا ، أو قالته على وجه التأسف والتحزن ، والله أعلم.
وقد ذكر بعض السلف - منهم ابن إسحاق - أن هذه السورة هي التي أوحاها جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين تبدى له في صورته التي خلقه الله عليها ، ودنا إليه وتدلى منهبطًا عليه وهو بالأبطح ، { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } [ النجم : 10 ]. قال : قال له هذه السورة : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى }
قال العوفي ، عن ابن عباس : لما نزلَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ، أبطأ عنه جبريل أياما ، فتغير بذلك ، فقال المشركون : ودعه ربه وقلاه. فأنزل الله : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى }
وهذا قسم منه تعالى بالضحى وما جعل فيه من الضياء ، { وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى } أي : سكن فأظلم وادلَهَم. قاله مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد ، وغيرهم. وذلك دليل ظاهر على قدرة خالق هذا وهذا. كما قال : { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } [ الليل : 1 ، 2 ] ، وقال : { فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ الأنعام : 96 ].
وقوله : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ } أي : ما تركك ، { وَمَا قَلَى } أي : وما أبغضك ، { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولَى } أي : والدار الآخرة خير لك من هذه الدار. ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا ، وأعظمهم لها إطراحًا ، كما هو معلوم [بالضرورة] (2) من سيرته. ولما خُيِّرَ ، عليه السلام ، في آخر عمره بين الخلد في الدنيا إلى آخرها ثم الجنة ، وبين الصيرورة إلى الله عز وجل ، اختار ما عند الله على هذه الدنيا الدنية.
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا المسعودي ، عن عمرو بن مرة ، عن إبراهيم النَّخعِي ، عن علقمة ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير ، فأثر في جنبه ، فلما استيقظ جعلت أمسح جنبه وقلت : يا رسول الله ، ألا آذنتنا حتى نبسط لك على الحصير شيئا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما لي وللدنيا ؟! ما أنا والدنيا ؟! إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظَلّ تحت شجرة ، ثم راح وتركتها (3).
ورواه الترمذي وابن ماجة ، من حديث المسعودي به (4) وقال الترمذي : حسن صحيح.
وقوله : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } أي : في الدار الآخرة يعطيه حتى يرضيه في أمته ، وفيما أعدَّه له من الكرامة ، ومن جملته نهر الكوثر الذي حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف ، وطينه [من] (5) مسك أذفر كما سيأتي.
وقال الإمام أبو عمر الأوزاعي ، عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر المخزومي ، عن
__________
(1) زيادة من م ، أ.
(2) زيادة من م.
(3) في أ : "وتركها".
(4) المسند (1/391) وسنن الترمذي برقم (2377) وسنن ابن ماجة برقم (4109).
(5) زيادة من أ.

(8/425)


علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه قال : عرض على رسول الله ما هو مفتوح على أمته من بعده كنزا كنزا ، فسر بذلك ، فأنزل الله : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } فأعطاه في الجنة ألف ألف قصر ، في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم. رواه ابن جرير (1) من طريقه ، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس : ومثلُ هذا ما يقال إلا عن توقيف.
وقال السدي ، عن ابن عباس : من رضاء محمد صلى الله عليه وسلم ألا يدخل أحد من أهل بيته النار. رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم.
وقال الحسن : يعني بذلك الشفاعة. وهكذا قال أبو جعفر الباقر.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا معاويةُ بن هشام ، عن علي بن صالح ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنا أهلُ بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } (2).
ثم قال تعالى يعدد نعَمه عل عبده ورسوله محمد ، صلوات الله وسلامه عليه : { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى } وذلك أن أباه تُوفّي وهو حَملٌ في بطن أمه ، وقيل : بعد أن ولد ، عليه السلام ، ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب وله من العمر ست سنين. ثم كان في كفالة جده عبد المطلب ، إلى أن توفي وله من العمر ثمان سنين ، فكفله عمه أبو طالب. ثم لم يزل يحوطه وينصره ويَرفع من قَدره وَيُوقّره ، ويكفّ عنه أذى قومه بعد أن ابتعثه الله على رأس أربعين سنة من عمره ، هذا وأبو طالب على دين قومه من عبادة الأوثان ، وكل ذلك بقدر الله وحُسن تدبيره ، إلى أن تُوفي أبو طالب قبل الهجرة بقليل ، فأقدم عليه سفهاء قريش وجُهالهم ، فاختار الله له الهجرة من بين أظهرهم إلى بلد الأنصار من الأوس والخزرج ، كما أجرى الله سُنَّته على الوجه الأتم والأكمل. فلما وصل إليهم آوَوه ونَصَرُوه وحاطوه وقاتلوا بين يديه ، رضي الله عنهم أجمعين ، وكل هذا من حفظ الله له وكلاءته وعنايته به.
وقوله : { وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى } كقوله { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] ومنهم من قال [إن] (3) المراد بهذا أنه ، عليه السلام ، ضل في شعاب مكة وهو صغير ، ثم رجع. وقيل : إنه ضل وهو مع عمه في طريق الشام ، وكان راكبًا ناقة في الليل ، فجاء إبليس يعدل بها عن الطريق ، فجاء جبريل ، فنفخ إبليس نفخة ذهب منها إلى الحبشة ، ثم عدل بالراحلة إلى الطريق. حكاهما البغوي.
__________
(1) في أ : "رواه ابن جرير وابن أبي حاتم".
(2) ورواه البغوي في شرح السنة (14/248) من طريق ابن أبي شيبة فذكره دون الآية ، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (15/236) بهذا الطريق ولم يذكر الآية ، ولعل ذكرها وقع في كتاب التفسير ، ورواه ابن ماجة في السنن برقم (4082) عن عثمان بن أبي شيبة ، عن معاوية بن هشام به ، وقال البوصيري في الزوائد (3/262) : "هذا إسناد فيه يزيد بن أبي زياد الكوفي مختلف فيه".
(3) زيادة من م.

(8/426)


وقوله : { وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى } أي : كنت فقيرًا ذا عيال ، فأغناك الله عمن سواه ، فجمع له بين مقامي ، الفقير الصابر والغني الشاكر ، صلوات الله وسلامه عليه.
وقال قتادة في قوله : { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى } قال : كانت هذه منازل الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعثه الله ، عز وجل. رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم.
وفي الصحيحين - من طريق عبد الرزاق - عن مَعْمَر ، عن همام بن مُنَبّه قال : هذا ما حَدّثنا أبو هُرَيرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليس الغنى عن كثرة العَرَض ، ولكن (1) الغنى غنى النفس" (2).
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قد أفلح من أسلم ، ورُزق كفافًا ، وقنعه (3) الله بما آتاه" (4).
ثم قال : { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ } أي : كما كنت يتيمًا فآواك الله فلا تقهر اليتيم ، أي : لا تذله وتنهره وتهنه ، ولكن أحسِنْ إليه ، وتلطف به.
قال قتادة : كن لليتيم كالأب الرحيم.
{ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ } أي : وكما كنت ضالا فهداك الله ، فلا تنهر السائل في العلم المسترشد.
قال ابن إسحاق : { وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ } أي : فلا تكن جبارًا ، ولا متكبرًا ، ولا فَحَّاشا ، ولا فَظّا على الضعفاء من عباد الله.
وقال قتادة : يعني رَد المسكين برحمة ولين.
{ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } أي : وكما كنت عائلا فقيرًا فأغناك الله ، فحدث بنعمة الله عليك ، كما جاء في الدعاء المأثور النبوي : "واجعلنا شاكرين لنعمتك (5) مثنين بها ، قابليها ، وأتمها علينا".
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَية ، حدثنا سعيد بن إياس الجُرَيري ، عن أبي نضرة قال : كان المسلمون يرون أن من شكر النعم أن يحدّث بها.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا منصور بن أبي مزاحم ، حدثنا الجراح بن مَليح ، عن أبي عبد الرحمن ، عن الشعبي ، عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر : "من لم يشكر القليل ، لم يشكر الكثير ، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله. والتحدث بنعمة الله شكر ، وتركها كفر. والجماعة رحمة ، والفرقة عذاب" (6) إسناد ضعيف.
__________
(1) في م : "وإنما".
(2) لم أقع عليه في الصحيحين من هذا الطريق ، وقد جاء فيهما من طرق أخر عن أبي هريرة ، انظر : صحيح البخاري برقم (6446) وصحيح مسلم برقم (1051).
(3) في أ : "ومتعه".
(4) صحيح مسلم برقم (1054).
(5) في أ : "لنعمك".
(6) زوائد المسند (4/278).

(8/427)


وفي الصحيحين ، عن أنس ، أن المهاجرين قالوا : يا رسول الله ، ذهب الأنصار بالأجر كله. قال : "لا ما دعوتم الله لهم ، وأثنيتم عليهم" (1).
وقال أبو داود : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا الربيع بن مسلم ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا يشكر الله من لا يشكر الناس".
ورواه الترمذي عن أحمد بن محمد ، عن ابن المبارك ، عن الربيع بن مسلم (2) وقال : صحيح.
وقال أبو داود : حدثنا عبد الله بن الجراح ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من أبلي بلاء فذكره فقد شكره ، وإن كتمه فقد كفره". تفرد به أبو داود (3).
وقال أبو داود : حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا بشر (4) حدثنا عمارة بن غَزْية ، حدثني رجل من قومي ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أعطَى عَطاء فَوَجَد فَليَجزْ به ، فإن لم يجد فَليُثن به ، فمن أثنى به فقد شكره ، ومن كتمه فقد كفره". قال أبو داود : ورواه يحيى بن أيوب ، عن عُمارة بن غَزية ، عن شرحبيل عن جابر - كرهوه فلم يسموه. تفرد به أبو داود (5).
وقال مجاهد : يعني النبوة التي أعطاك ربك. وفي رواية عنه : القرآن.
وقال ليث ، عن رجل ، عن الحسن بن علي : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } قال : ما عملت من خير فَحَدث إخوانك.
وقال محمد بن إسحاق : ما جاءك الله (6) من نعمة وكرامة من النبوة فحدّث بها واذكرها ، وادع إليها. وقال : فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ما أنعم الله به عليه من النبوة سرًا إلى من يطمئن إليه من أهله ، وافترضت عليه الصلاة ، فصلى.
آخر تفسير سورة "الضحى" [ولله الحمد] (7).
__________
(1) لم أقع عليه في الصحيحين ، ورواه الإمام أحمد في المسند (3/200).
(2) سنن أبي داود برقم (4811) وسنن الترمذي برقم (1954).
(3) سنن أبي داود برقم (4814).
(4) في أ : "بشير".
(5) سنن أبي داود برقم (4813).
(6) في م : "ما جاءك من الله".
(7) زيادة من أ.

(8/428)


أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)

تفسير سورة ألم نشرح
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) }
يقول تعالى : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } يعني : أما شرحنا لك صدرك ، أي : نورناه وجعلناه فَسيحًا رحيبًا واسعًا كقوله : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ } [ الأنعام : 125 ] ، وكما شرح الله صدره كذلك جعل شَرْعه فسيحا واسعًا سمحًا سهلا لا حرج فيه ولا إصر ولا ضيق.
وقيل : المراد بقوله : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } شرح صدره ليلة الإسراء ، كما تقدم من رواية مالك بن صعصعة (1) وقد أورده الترمذي هاهنا. وهذا وإن كان واقعًا ، ولكن لا منافاة ، فإن من جملة شرح صدره الذي فُعِل بصدره ليلة الإسراء ، وما نشأ عنه من الشرح المعنوي أيضًا ، والله أعلم.
قال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثني محمد بن عبد الرحيم (2) أبو يحيى البزاز (3) حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا معاذ بن محمد بن معاذ بن محمد بن أبي بن كعب ، حدثني أبي محمد بن معاذ ، عن معاذ ، عن محمد ، عن أبي بن كعب : أن أبا هريرة كان جريًّا على أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء لا يسأله عنها غيره ، فقال : يا رسول الله ، ما أولُ ما رأيت من أمر النبوة ؟ فاستوى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا وقال : "لقد سألتَ يا أبا هريرة ، إني لفي الصحراء ابنُ عشر سنين وأشهر ، وإذا بكلام فوق رأسي ، وإذا رجل يقول لرجل : أهو هو ؟ [قال : نعم] (4) فاستقبلاني بوجوه لم أرها [لخلق] (5) قط ، وأرواح لم أجدها من خلق قط ، وثياب لم أرها على أحد قط. فأقبلا إلي يمشيان ، حتى أخذ كل واحد منهما بعَضُدي ، لا أجد لأحدهما مسا ، فقال أحدهما لصاحبه : أضجعه. فأضجعاني بلا قَصْر ولا هَصْر. فقال أحدهما لصاحبه : افلق صدره. فهوى أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع ، فقال له : أخرج الغِلّ والحَسَد. فأخرج شيئًا كهيئة العلقة ثم نبذها فطرحها ، فقال له : أدخل الرأفة والرحمة ، فإذا مثل الذي أخرج شبهُ الفضة ، ثم هز
__________
(1) تقدم تخريج الحديث عند تفسير أول سورة الإسراء.
(2) في أ : "محمد بن عبد الرحمن ".
(3) في م ، أ : "البزار".
(4) زيادة من المسند.
(5) زيادة من المسند.

(8/429)


إبهام رجلي اليمنى فقال : اغدُ واسلم. فرجعت بها أغدو ، رقة على الصغير ، ورحمةً للكبير" (1).
وقوله : { وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ } بمعنى : { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ]{ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ } الإنقاض : الصوت. وقال غير واحد من السلف في قوله : { الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ } أي : أثقلك حمله.
وقوله : { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } قال مجاهد : لا أُذْكرُ إلا ذُكِرتَ معي : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدًا رسول الله.
وقال قتادة : رفع اللهُ ذكرَه في الدنيا والآخرة ، فليس خطيب ولا مُتشهد ولا صاحبُ صلاة إلا ينادي بها : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله.
قال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا عمرو بن الحارث ، عن دَراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "أتاني جبريل فقال : إنّ ربي وربك يقول : كيف رفعت ذكرك ؟ قال : الله أعلم. قال : إذا ذُكِرتُ ذُكِرتَ معي" ، وكذا رواه ابن أبي حاتم عن يونس بن عبد الأعلى ، به ورواه أبو يعلى من طريق ابن لَهِيعة ، عن دَرَّاج (2).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا أبو عُمر الحَوضي ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سألت ربي مسألة وَدَدْتُ أني لم أكن سألته ، قلت : قد كانت قبلي أنبياء ، منهم من سخرت له الريح (3) ومنهم من يحيي الموتى. قال : يا محمد ، ألم أجدك يتيما فآويتك ؟ قلت : بلى يا رب. قال : ألم أجدك ضالا فهديتك ؟ قلت : بلى يا رب. قال : ألم أجدك عائلا فاغنيتك ؟ قال : قلت : بلى يا رب. قال : ألم أشرح (4) لك صدرك ؟ ألم أرفع لك ذكرك ؟ قلت : بلى يا رب" (5).
وقال أبو نعيم في "دلائل النبوة" : حدثنا أبو أحمد الغطريفي ، حدثنا موسى بن سهل الجَوْني ، حدثنا أحمد بن القاسم بن بَهْرام الهيتي ، حدثنا نصر بن حماد ، عن عثمان بن عطاء ، عن الزهري ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لما فرغت مما أمرني الله به من أمر السموات والأرض قلت : يا رب ، إنه لم يكن نبي قبلي إلا وقد كرمته ، جعلت إبراهيم خليلا وموسى كليما ، وسخرت لداود الجبال ، ولسليمان الريح والشياطين ، وأحييت لعيسى الموتى ، فما جعلت لي ؟ قال : أو ليس قد أعطيتك أفضل من ذلك كله ، أني لا أذكر إلا ذُكِرْتَ معي ، وجعلت صدور أمتك أناجيل يقرءون القرآن ظاهرا ، ولم أعطها أمة ، وأعطيتك كنزا من كنوز عرشي : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" (6).
__________
(1) زوائد المسند (5/139) وقال الهيثمي في المجمع (8/222) : "رجاله ثقات وثقهم ابن حبان".
(2) تفسير الطبري (30/151).
(3) في أ : "البحر".
(4) في أ : "ألم نشرح".
(5) ورواه الحاكم في المستدرك (2/526) من طريق أحمد بن سلمة ، عن عبد الله بن الجراح ، عن حماد بن زيد به ، وقال : "صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
(6) وذكره المؤلف في البداية والنهاية (6/288) ثم قال : "وهذا إسناد فيه غرابة ، ولكن أورد له شاهدا من طريق أبي القاسم بن منيع البغوي ، عن سليمان بن داود المهراني ، عن حماد بن زيد ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس مرفوعا بنحوه".

(8/430)


وحكى البغوي ، عن ابن عباس ومجاهد : أن المراد بذلك : الأذان. يعني : ذكره فيه ، وأورد من شعر حسان بن ثابت :
أغَرّ عَلَيه للنبوة خَاتَم... مِنَ الله من نُور يَلوحُ وَيشْهَد...
وَضمَّ الإلهُ اسم النبي إلى اسمه... إذا قَالَ في الخَمْس المؤذنُ : أشهدُ...
وَشَقَّ لَهُ مِن اسمه ليُجِلَّه... فَذُو العَرشِ محمودٌ وهَذا مُحَمَّدُ (1)
وقال آخرون : رفع الله ذكره في الأولين والآخرين ، ونوه به ، حين أخذ الميثاق على جميع النبيين أن يؤمنوا به ، وأن يأمروا أممهم (2) بالإيمان به ، ثم شهر ذكره في أمته فلا يُذكر الله إلا ذُكر معه.
وما أحسن ما قال الصرصري ، رحمه الله :
لا يَصِحُّ الأذانُ في الفَرْضِ إلا... باسمِه العَذْب في الفم المرْضي...
وقال أيضًا :
[ألَم تَر أنَّا لا يَصحُّ أذانُنَا... وَلا فَرْضُنا إنْ لم نُكَررْه فيهما] (3)...
وقوله : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } أخبر تعالى أن مع العسر يوجَدُ اليسر ، ثم أكد هذا الخبر.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا حُميد بن حماد بن خَوَار أبو الجهم ، حدثنا عائذ بن شُريح قال : سمعت أنس بن مالك يقول : كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا (4) وحياله حجر ، فقال : "لو جاء العسر فدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه" ، فأنزل الله عز وجل : (5) { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } (6).
ورواه أبو بكر البزار في مسنده عن محمد بن مَعْمَر ، عن حُميد بن حماد ، به ولفظه : "لو جاء العسر حتى يدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى يخرجه" ثم قال : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } ثم قال البزار : لا نعلم رواه عن أنس إلا عائذ بن شريح (7).
قلت : وقد قال فيه أبو حاتم الرازي : في حديثه ضعف ، ولكن رواه شعبة عن معاوية بن قرة ، عن رجل ، عن عبد الله بن مسعود موقوفا.
__________
(1) معالم التنزيل للبغوي (8/464).
(2) في أ : "أمتهم".
(3) زيادة من م ، أ.
(4) في أ : "جالس" وهو خطأ.
(5) كذا في م ، أ ، هـ : "إن" وهو خطأ ، والصواب ما أثبتناه.
(6) ورواه الحاكم في المستدرك (2/255) من طريق محمود بن غيلان به ، وقال الحاكم : "هذا حديث عجيب غير أن الشيخين لم يحتجا بعائذ بن شريح". وقال الذهبي : "تفرد حميد بن حماد ، عن عائذ ، وحميد منكر الحديث كعائذ".
(7) مسند البزار برقم (2288) "كشف الأستار" ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3416) من طريق محمد بن معمر به.

(8/431)


وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا أبو قَطَن (1) حدثنا المبارك بن فضالة ، عن الحسن قال : كانوا يقولون : لا يغلب عسر واحد يسرين اثنين.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن (2) ثور ، عن مَعْمَر ، عن الحسن قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم يومًا مسرورًا فرحًا وهو يضحك ، وهو يقول : "لن يَغْلِب عُسْر يسرين ، لن يغلب عسر يسرين ، فإن (3) مع العسر يسرًا ، إن مع العسر يسرًا".
وكذا رواه من حديث عوف الأعرابي ويونس بن عبيد ، عن الحسن مرسلا (4).
وقال سعيد ، عن قتادة : ذُكِرَ لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر أصحابه بهذه الآية فقال : "لن يغلب عسر يسرين".
ومعنى هذا : أن العسر معرف في الحالين ، فهو مفرد ، واليسر منكر فتعدد ؛ ولهذا قال : "لن يغلب عسر يسرين" ، يعني قوله : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } فالعسر الأول عين (5) الثاني واليسر تعدد.
وقال الحسن بن سفيان : حدثنا يزيد بن صالح ، حدثنا خارجة ، عن عباد بن كثير ، عن أبي الزناد ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "نزل (6) المعونة من السماء على قدر المؤونة ، ونزل الصبر على قدر المصيبة" (7).
ومما يروى عن الشافعي ، رضي الله عنه ، أنه قال :
صَبرا جَميلا ما أقرَبَ الفَرجا... مَن رَاقَب الله في الأمور نَجَا...
مَن صَدَق الله لَم يَنَلْه أذَى... وَمَن رَجَاه يَكون حَيثُ رَجَا...
وقال ابن دُرَيد : أنشدني أبو حاتم السجستاني :
إذا اشتملت على اليأس القلوبُ... وضاق لما به الصدر الرحيبُ...
وأوطأت المكاره واطمأنت... وأرست في أماكنها الخطوبُ...
ولم تر لانكشاف الضر وجها... ولا أغنى بحيلته الأريبُ
__________
(1) في أ : "مطر".
(2) في أ : "حدثنا أبو".
(3) كذا في م ، أ ، هـ : "إن" وهو خطأ. من ابن جرير (30/151).
(4) تفسير الطبري (30/151) ورواه عبد الرزاق في تفسيره (2/309) عن معمر ، عن الحسن به مرسلا ، وقد جاء موقوفا على ابن مسعود ، رواه عبد الرزاق في تفسيره (2/309) من طريق ميمون عن إبراهيم النخعي عنه ، وجاء مرفوعا عن جابر ، رواه ابن مردويه في تفسيره ، وقال الحافظ ابن حجر : "إسناده ضعيف".
(5) في م : "هو".
(6) في أ : "نزلت".
(7) ورواه البزار في مسنده برقم (1506) "كشف الأستار" وابن عدي في الكامل (4/115) من طريق عبد العزيز الدراوردي عن طارق وعباد بن كثير ، عن أبي الزناد به. وقال البزار : "لا نعلمه عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد". وقال ابن عدي : "وطارق بن عمار يعرف بهذا الحديث". والحديث معلول. انظر : العلل لابن أبي حاتم (2/126 ، 133) والكامل لابن عدي (6/238 ، 402 ، 2/37 ، 4/115).

(8/432)


...
أتاك على قُنوط منك غَوثٌ... يمن به اللطيف المستجيبُ...
وكل الحادثات إذا تناهت... فموصول بها الفرج القريب...
وقال آخر :
وَلَرُب نازلة يضيق بها الفتى... ذرعا وعند الله منها المخرج...
كملت فلما استحكمت حلقاتها... فرجت وكان يظنها لا تفرج...
وقوله : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } أي : إذا فَرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها ، فانصب في العبادة ، وقم إليها نشيطا فارغ البال ، وأخلص لربك النية والرغبة. ومن هذا القبيل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته : "لا صلاة بحضرة طعام ، ولا وهو يدافعه الأخبثان" (1) وقوله صلى الله عليه وسلم : "إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء ، فابدءوا بالعَشَاء" (2).
قال مجاهد في هذه الآية : إذا فرغت من أمر الدنيا فقمت إلى الصلاة ، فانصب لربك ، وفي رواية عنه : إذا قمت إلى الصلاة فانصب في حاجتك ، وعن ابن مسعود : إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل. وعن ابن عياض نحوه. وفي رواية عن ابن مسعود : { فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } بعد فراغك من الصلاة وأنت جالس.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } يعني : في الدعاء.
وقال زيد بن أسلم ، والضحاك : { فَإِذَا فَرَغْتَ } أي : من الجهاد { فَانْصَبْ } أي : في العبادة. { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } قال الثوري : اجعل نيتك ورغبتك إلى الله ، عز وجل.
آخر تفسير سورة "ألم نشرح" ولله الحمد.
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه برقم (560) من حديث عائشة ، رضي الله عنها.
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (5465) من حديث عائشة ، رضي الله عنها.

(8/433)


وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)

تفسير سورة والتين والزيتون
وهي مكية.
قال مالك وشعبة ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في سَفَر في إحدى الركعتين بالتين والزيتون ، فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا أو قراءة منه. أخرجه الجماعة في كتبهم (1).
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8) }
اختلف المفسرون هاهنا على أقوال كثيرة فقيل : المراد بالتين مسجد دمشق. وقيل : هي نفسها. وقيل : الجبل الذي عندها.
وقال القرطبي : هو مسجد أصحاب الكهف (2).
وروى العوفي ، عن ابن عباس : أنه مسجد نوح الذي على الجودي.
وقال مجاهد : هو تينكم هذا.
{ وَالزَّيْتُونِ } قال كعب الأحبار ، وقتادة ، وابن زيد ، وغيرهم : هو مسجد بيت المقدس.
وقال مجاهد ، وعكرمة : هو هذا الزيتون الذي تعصرون.
{ وَطُورِ سِينِينَ } قال كعب الأحبار وغير واحد : هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى.
{ وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ } يعني : مكة. قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وإبراهيم النَّخَعِي ، وابن زيد ، وكعب الأحبار. ولا خلاف في ذلك.
وقال بعض الأئمة : هذه مَحَالٌّ ثلاثة ، بعث الله في كل واحد منها نبيًا مرسلا من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار ، فالأول : محلة التين والزيتون ، وهي بيت المقدس التي بعث الله فيها عيسى ابن مريم. والثاني : طور سينين ، وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن عمران. والثالث : مكة ، وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمنا ، وهو الذي أرسل فيه محمدا صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4952) وصحيح مسلم برقم (464) وسنن أبي داود برقم (1221) وسنن الترمذي برقم (310) وسنن النسائي الكبرى برقم (11682) وسنن ابن ماجة برقم (834 ، 835).
(2) تفسير القرطبي (20/111) عن محمد بن كعب.

(8/434)


قالوا : وفي آخر التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة : جاء الله من طور سيناء - يعني الذي كلم الله عليه موسى [بن عمران] (1) - وأشرق من سَاعيرَ - يعني بيت المقدس الذي بعث الله منه عيسى - واستعلن من جبال فاران - يعني : جبال مكة التي أرسل الله منها محمدًا - فذكرهم (2) على الترتيب الوجودي بحسب ترتيبهم في الزمان ، ولهذا أقسم بالأشرف ، ثم الأشرف منه ، ثم بالأشرف منهما.
وقوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } هذا هو المقسم عليه ، وهو أنه تعالى خلق الإنسان في أحسن صورة ، وشكل منتصب القامة ، سَويّ الأعضاء حسنها.
{ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } أي : إلى النار. قاله مجاهد ، وأبو العالية ، والحسن ، وابن زيد ، وغيرهم. ثم بعد هذا الحسن والنضارة مصيره إلى النار إن لم يطع الله ويتبع الرسل ؛ ولهذا قال : { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ }
وقال بعضهم : { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } أي : إلى أرذل العمر. رُوي هذا عن ابن عباس ، وعكرمة - حتى قال عكرمة : من جمع القرآن لم يُرَدّ إلى أرذل العمر. واختار ذلك ابن جرير. ولو كان هذا هو المراد لما حَسُن استثناء المؤمنين من ذلك ؛ لأن الهَرَم قد يصيبُ بعضهم ، وإنما المراد ما ذكرناه ، كقوله : { وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ العصر : 1 - 3 ].
وقوله : { فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } أي : غير مقطوع ، كما تقدم.
ثم قال : { فَمَا يُكَذِّبُكَ } يعني : يا ابن آدم { بَعْدُ بِالدِّينِ } ؟ أي : بالجزاء في المعاد وقد علمت البدأة ، وعرفت أن من قدر على البدأة ، فهو قادر على الرجعة بطريق الأولى ، فأي شيء يحملك على التكذيب بالمعاد وقد عرفت هذا ؟
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن ، عن سفيان ، عن منصور قال : قلت لمجاهد : { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } عنى به النبي صلى الله عليه وسلم قال : مَعَاذ الله! عنى به الإنسان. وهكذا قال عكرمة وغيره.
وقوله : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ } أي : أما هو أحكم الحاكمين ، الذي لا يجور ولا يظلم أحدًا ، ومن عَدْله أن يقيم القيامة فينصف المظلوم في الدنيا ممن ظلمه. وقد قدمنا في حديث أبي هريرة مرفوعًا : "فإذا قرأ أحدكم { وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ } فأتى على آخرها : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ } فليقل : بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين" (3).
آخر تفسير [سورة] (4) " وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ " ولله الحمد.
__________
(1) زيادة من م.
(2) في م : "مخبرا عنهم".
(3) انظر : تفسير الآية الأخيرة من سورة القيامة.
(4) زيادة من م ، أ.

(8/435)


اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)

تفسير سورة اقرأ
وهي أول شيء نزل من القرآن.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) }
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح. ثم حُبب إليه الخلاء ، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه - وهو : التعبد - الليالي ذواتَ العدد ، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فَتُزَوِّد (1) لمثلها حتى فَجَأه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فيه فقال : اقرأ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فقلت : ما أنا بقارئ". قال : "فأخذني فَغَطَّني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ. فقلت : ما أنا بقارئ. فَغَطَّني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ. فقلت : ما أنا بقارئ. فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } حتى بلغ : { مَا لَمْ يَعْلَمْ } قال : فرجع بها تَرجُف بَوادره (2) حتى دخل على خديجة فقال : "زملوني زملوني". فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوْع. فقال : يا خديجة ، ما لي : فأخبرها الخبر وقال : "قد خشيت علي". فقالت له : كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا ؛ إنك لتصل الرحم ، وتصدُق الحديث ، وتحمل الكَلَّ ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به وَرَقة بن نوفل بن أسَد بن عبد العُزى ابن قُصي - وهو ابن عم خديجة ، أخي أبيها ، وكان امرأ تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العربي ، وكتب بالعربية من الإنجيل (3) ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخًا كبيرًا قد عَميَ - فقالت خديجة : أيّ ابن عم ، اسمع من ابن أخيك. فقال ورقة : ابنَ أخي ، ما ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى ، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى (4) ليتني (5) فيها جَذعا أكونُ حيا حين يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أومخرجيَّ هُم ؟". فقال ورقة : نعم ، لم يأت رجل قط بما جئت به (6) إلا عودي ، وإن يُدركني يومك أنصُرْكَ نصرًا مُؤزرًا. [ثم] (7) لم ينشَب وَرَقة أن تُوُفِّي ، وفَتَر الوحي فترة حتى حَزن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - حزنًا غدا منه مرارا كي يَتَردى من رءوس شَوَاهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه ، تبدى له
__________
(1) في م ، أ : "فتزوده".
(2) في أ : "يرجف فؤاده".
(3) في م ، : "وكتب من الإنجيل بالعربية".
(4) في أ : "على عيسى".
(5) في م : "يا ليتني".
(6) في أ : "بمثل ما جئت به".
(7) زيادة من م ، أ ، والمسند.

(8/436)


كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)

جبريل فقال : يا محمد ، إنك رسولُ الله حقًا. فيسكن بذلك جأشه ، وتَقَرُّ نفسه فيرجع. فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة الجبل تَبَدى له جبريل ، فقال له مثل ذلك.
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري (1) وقد تكلمنا على هذا الحديث من جهة سنده ومتنه ومعانيه في أول شرحنا للبخاري مستقصى ، فمن أراده فهو هناك محرر ، ولله الحمد والمنة.
فأول شيء [نزل] (2) من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات (3) وهُنَّ أول رحمة رَحم الله بها العباد ، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم. وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة ، وأن من كَرَمه تعالى أن عَلّم الإنسان ما لم يعلم ، فشرفه وكرمه بالعلم ، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة ، والعلم تارة يكون في الأذهان ، وتارة يكون في اللسان ، وتارة يكون في الكتابة بالبنان ، ذهني ولفظي ورسمي ، والرسمي يستلزمهما من غير عكس ، فلهذا قال : { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } وفي الأثر : قيدوا العلم بالكتابة (4). وفيه أيضا : "من عمل بما علم رزقه (5) الله علم ما لم يكن [يعلم] (6).
{ كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) }
يخبر تعالى عن الإنسان أنه ذو فرح وأشر وبطر وطغيان ، إذا رأى نفسه قد استغنى وكثر ماله. ثم تَهدده وتوعده ووعظه فقال : { إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى } أي : إلى الله المصير والمرجع ، وسيحاسبك على مالك : من أين جمعته ؟ وفيم صرفته ؟
قال ابن أبي حاتم : حدثنا زيد بن إسماعيل الصائغ ، حدثنا جعفر بن عون ، حدثنا أبو عُمَيس ، عن عون قال : قال عبد الله : مَنهومان لا يشبعان ، صاحب العلم وصاحب الدنيا ، ولا يستويان ،
__________
(1) المسند (6/232) وصحيح البخاري برقم (3 ، 4 ، 4953 ، 6982 ، 4955 ، 3392) وصحيح مسلم برقم (160).
(2) زيادة من م ، أ.
(3) في م : "المباركة".
(4) جاء عن عمر - رضي الله عنه - موقوفا ، رواه الحاكم في المستدرك (1/106) وابن أبي شيبة في المصنف (9/49) والدارمي في السنن برقم (503). وعن أنس موقوفا ، رواه الحاكم في المستدرك (1/106) والرامهرمزي في المحدث الفاصل (ص368) ، وجاء مرفوعا من حديث أنس ، رواه الخطيب في تقييد العلم (ص 70) والرامهرمزي في المحدث الفاصل (ص 368). ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، رواه الحاكم في المستدرك (1/106) وابن عبد البر في جمع بيان العلم (1/73) والموقوف أصح.
(5) في م : "أورثه".
(6) زيادة من م ، أ.

(8/437)


فأما صاحب العلم فيزداد رضا الرحمن ، وأما صاحب الدنيا فيتمادى في الطغيان. قال ثم قرأ عبد الله : { إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } وقال للآخر : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ فاطر : 28 ].
وقد رُوي هذا مرفوعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : "منهومان لا يشبعان : طالب علم ، وطالب دنيا" (1).
ثم قال تعالى : { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى } نزلت في أبي جهل ، لعنه الله ، توعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصلاة عند البيت ، فوعظه الله تعالى بالتي هي أحسن أولا فقال : { أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى } أي : فما ظنك إن كان هذا الذي تنهاه على الطريق المستقيمة في فعله ، أو { أَمَرَ بِالتَّقْوَى } بقوله ، وأنت تزجره وتتوعده على صلاته ؛ ولهذا قال : { أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } أي : أما علم هذا الناهي لهذا المهتدي أن الله يراه ويسمع كلامه ، وسيجازيه على فعله أتم الجزاء.
ثم قال تعالى متوعدًا ومتهددًا : { كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ } أي : لئن لم يرجع عما هو فيه من الشقاق والعناد { لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ } أي : لنَسمَنَّها سوادا يوم القيامة.
ثم قال : { نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } يعني : ناصية أبي جهل كاذبة في مقالها خاطئة في فعَالها.
{ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } أي : قومه وعشيرته ، أي : ليدعهم يستنصر بهم ، { سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } وهم ملائكة العذاب ، حتى يعلم من يغلبُ : أحزبُنا أو حزبه.
قال البخاري : حدثنا يحيى ، حدثنا عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن عبد الكريم الجَزَري ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : قال أبو جهل : لئن رأيت محمدًا يصلي عند الكعبة لأطأن على عُنُقه. فبَلغَ النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : "لئن فعله لأخذته الملائكة". ثم قال : تابعه عمرو بن خالد ، عن عبيد الله - يعني ابن عمرو - عن عبد الكريم (2).
وكذا رواه الترمذي والنسائي في تفسيرهما من طريق عبد الرزاق ، به (3) وهكذا رواه ابن جرير ، عن أبي كُرَيْب ، عن زكريا بن عَدِيّ ، عن عبيد الله بن عمرو ، به (4).
وروى أحمد ، والترمذي (5) وابن جرير - وهذا لفظه - من طريق داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام فمر به أبو جهل بن هشام فقال : يا محمد ، ألم أنهك عن هذا ؟ - وَتَوعَّده - فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهره ، فقال : يا محمد ،
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك (1/92) من طريق قتادة ، عن أنس به مرفوعا ، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (10/223) من طريق زيد بن وهب ، عن ابن مسعود به مرفوعا ، وفي إسناده ضعيف.
(2) صحيح البخاري برقم (4958).
(3) سنن الترمذي برقم (3348) وسنن النسائي برقم (11685).
(4) تفسير الطبري (30/165).
(5) في م ، أ : "والترمذي والنسائي".

(8/438)


بأي شيء تهددني ؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادي ناديًا! فأنزل الله : { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } قال ابن عباس : لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته (1) وقال الترمذي : حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا إسماعيل بن زيد أبو يزيد ، حدثنا فُرَات ، عن عبد الكريم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال أبو جهل : لئن رأيت رسول الله يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على عنقه. قال : فقال : "لو فعل لأخذته الملائكة عيانًا ، ولو أن اليهود تَمَنَّوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار ، ولو خرج الذين يُبَاهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا" (2).
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، أخبرنا يونس بن أبي إسحاق ، عن الوليد بن العيزار ، عن ابن عباس قال : قال أبو جهل : لئن عاد محمد يصلي عند المقام لأقتلنه. فأنزل الله ، عز وجل : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ] } (3) حتى بلغ هذه الآية : { لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فصلى (4) فقيل : ما يمنعك ؟ قال : قد اسودّ ما بيني وبينه من الكتائب. قال ابن عباس : والله لو تحرك لأخذته الملائكة والناس ينظرون إليه (5).
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، حدثنا نعيم بن أبي هند ، عن أبي حازم ، عن أبي هُرَيرة قال : قال أبو جهل : هل يعفِّر محمد وجهه بين أظهركم ؟ قالوا : نعم. قال : فقال : واللات والعزى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأن على رقبته (6) ولأعفِّرن وجهه في التراب ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُصَلي ليطأ على رقبته ، قال : فما فَجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه ، قال : فقيل له : ما لك ؟ فقال : إن بيني وبينه خَنْدقا من نار وهَولا وأجنحة. قال : فقال رسول الله : "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا". قال : وأنزل الله - لا أدري في حديث أبي هريرة أم لا - : { كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى } إلى آخر السورة.
وقد رواه أحمد بن حنبل ، ومسلم ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، من حديث معتمر بن سليمان ، به (7).
وقوله : { كَلا لا تُطِعْهُ } يعني : يا محمد ، لا تطعه فيما ينهاك عنه من المداومة على العبادة وكثرتها ، وصلِّ حيث شئت ولا تباله ؛ فإن الله حافظك وناصرك ، وهو يعصمك من الناس ، { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } كما ثبت في الصحيح - عند مسلم - من طريق عبد الله بن وهب ، عن
__________
(1) المسند (1/329) وسنن الترمذي برقم (3349) وتفسير الطبري (30/164).
(2) المسند (1/248).
(3) زيادة من أ.
(4) في أ : "يصلى".
(5) تفسير الطبري (30/165).
(6) في م : "على عنقه".
(7) تفسير الطبري (30/165) والمسند (2/370) وصحيح مسلم برقم (2797) وسنن النسائي الكبرى برقم (11683).

(8/439)


عمرو بن الحارث ، عن عمارة بن غزية ، عن سُمَيّ ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، فأكثروا الدعاء" (1).
وتقدم أيضًا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسجد في : { إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } و { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }
آخر تفسير سورة "اقرأ" (2).
__________
(1) صحيح مسلم برقم (482).
(2) في م ، أ : "آخر تفسيرها".

(8/440)


إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)

تفسير سورة القدر (1)
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنزلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) }
يخبر الله تعالى أنه أنزل القرآن ليلة القدر ، وهي الليلة المباركة التي قال الله ، عز وجل : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } [ الدخان : 3 ] وهي ليلة القدر ، وهي من شهر رمضان ، كما قال تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } [ البقرة : 185 ].
قال ابن عباس وغيره : أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العِزّة من السماء الدنيا ، ثم نزل مفصلا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى مُعَظِّما لشأن ليلة القدر ، التي اختصها بإنزال القرآن العظيم فيها ، فقال : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ }
قال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية : حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا القاسم بن الفضل الحُدّاني (2) عن يوسف بن سعد قال : قام رجل إلى الحسن بن علي بعد ما بايع معاوية فقال : سَوّدتَ وجوهَ المؤمنين - أو : يا مسود وجوه المؤمنين - فقال : لا تؤنبني ، رحمك الله ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أريَ بني أمية على منبره ، فساءه ذلك ، فنزلت : { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } يا محمد ، يعني نهرًا في الجنة ، ونزلت : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } يملكها بعدك بنو أمية يا محمد. قال القاسم : فعددنا فإذا هي ألف شهر ، لا تزيد يومًا ولا تنقص يومًا (3).
ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث القاسم بن الفضل ، وهو ثقة وثقه يحيى القطان وابن مهدي. قال : وشيخه يوسف بن سعد - ويقال : يوسف بن مازن - رجل مجهول ، ولا نعرف هذا الحديث ، على هذا اللفظ إلا من هذا الوجه.
وقد روى هذا الحديث الحاكم في مستدركه ، من طريق القاسم (4) بن الفضل ، عن يوسف بن
__________
(1) في أ : "سورة ليلة القدر".
(2) في أ : "الجذامي".
(3) سنن الترمذي برقم (3350).
(4) في أ : "من حديث الحاكم".

(8/441)


مازن ، به (1) وقول الترمذي : إن يوسف هذا مجهول - فيه نظر ؛ فإنه قد روى عنه جماعة ، منهم : حماد بن سلمة ، وخالد الحذاء ، ويونس بن عبيد. وقال فيه يحيى بن معين : هو مشهور ، وفي رواية عن ابن معين [قال] (2) هو ثقة. ورواه ابن جرير من طريق القاسم بن الفضل ، عن عيسى بن مازن ، كذا قال ، وهذا يقتضي اضطرابًا في هذا الحديث ، والله أعلم. ثم هذا الحديث على كل تقدير منكر جدًا ، قال شيخنا الإمام الحافظ الحجة أبو الحجاج المزّي : هو حديث منكر.
قلت : وقول القاسم بن الفضل الحُدّاني (3) إنه حسب مُدّة بني أمية فوجدها ألف شهر لا تزيد يومًا ولا تنقص ، ليس بصحيح ؛ فإنّ معاويةَ بن أبي سفيان ، رضي الله عنه ، استقل بالملك حين سَلّم إليه الحسن بن علي الإمرة سنةَ أربعين ، واجتمعت البيعة لمعاوية ، وسمي ذلك عام الجماعة ، ثم استمروا فيها متتابعين بالشام وغيرها ، لم تخرج عنهم إلا مدة دولة عبد الله بن الزبير في الحرمين والأهواز وبعض البلاد قريبًا من تسع سنين ، لكن لم تَزُل يدهم عن الإمرة بالكلية ، بل عن بعض البلاد ، إلى أن استلبهم بنو العباس الخلافة في سنة اثنتين وثلاثين ومائة ، فيكون مجموع مدتهم اثنتين وتسعين سنة ، وذلك أزيد من ألف شهر ، فإن الألف شهر عبارة عن ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر ، وكأن القاسم بن الفضل أسقط من مدتهم أيام ابن الزبير ، وعلى هذا فتقارب ما قاله الصحة في الحساب ، والله أعلم.
ومما يدلّ على ضَعف هذا الحديث أنَّه سِيقَ لذم دولة بني أمية ، ولو أريد ذلك لم يكن بهذا السياق ؛ فإن تفضيل ليلة القدر على أيامهم لا يدل على ذَم أيامهم ، فإنّ ليلة القدر شريفة جدًا ، والسورة الكريمة إنما جاءت لمدح ليلة القدر ، فكيف تُمدح بتفضيلها على أيام بني أمية التي هي مذمومة ، بمقتضى هذا الحديث ، وهل هذا إلا كما قال القائل :
ألَم تَرَ أنّ السيف ينقُصُ قَدْرُه... إذا قِيل إنّ السيف أمضَى مِن العَصَا...
وقال آخر :
إذا أنتَ فَضَّلتَ امرأ ذا بَرَاعَة... عَلى نَاقص كَانَ المديحُ منَ النَّقص...
ثم الذي يفهم من ولاية (4) الألف شهر المذكورة في الآية هي أيام بني أمية ، والسورة مكية ، فكيف يحال على ألف شهر هي دولة بني أمية ، ولا يدل عليها لفظ الآية ولا معناها ؟! والمنبر إنما صنع بالمدينة بعد مدة من الهجرة ، فهذا كله مما يدل على ضعف هذا الحديث ونكارته ، والله أعلم (5).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا مسلم - يعني ابن خالد - عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لَبس السلاح في
__________
(1) المستدرك (3/170) ومن طريقه البيهقي في دلائل النبوة (6/509).
(2) زيادة من م.
(3) في أ : "الجذامي".
(4) في م : "ثم من الذي يفهم من الآية أن".
(5) وانظر : البداية والنهاية (6/243 ، 244) فقد توسع أيضا في الكلام على هذا الحديث.

(8/442)


سبيل الله ألف شهر ، قال : فَعَجب المسلمون من ذلك ، قال : فأنزل الله عز وجل : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } التي لبس ذلك الرجل السلاح في سبيل الله ألف شهر (1).
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا حَكَّام بن سلم ، عن المثنى بن الصباح ، عن مجاهد قال : كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ، ثم يجاهد العدو بالنهار حتى يمسي ، ففعل ذلك ألف شهر ، فأنزل الله هذه الآية : { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } قيام تلك الليلة خير من عمل ذلك الرجل (2).
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، حدثني مسلمة بن عُلَيّ ، عن علي بن عروة قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أربعة من بني إسرائيل ، عبدوا الله ثمانين عامًا ، لم يَعْصوه طرفة عين : فذكر أيوب ، وزكريا ، وحزْقيل بن العجوز ، ويوشع بن نون - قال : فعجب (3) أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ، فأتاه جبريل فقال : يا محمد ، عَجِبَتْ أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة ، لم يَعْصُوه طرفة عين ؛ فقد أنزل الله خيرًا من ذلك. فقرأ عليه : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } هذا أفضل مما عجبت أنت وأمتك. قال : فَسُرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه (4).
وقال سفيان الثوري : بَلَغني عن مجاهد : ليلةُ القدر خير من ألف شهر. قال : عَمَلها ، صيامها وقيامها خير من ألف شهر. رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا ابن أبي زائدة ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ليلة القدر خير من ألف شهر ، ليس في تلك الشهور ليلة القدر. وهكذا قال قتادة بن دعامة ، والشافعي ، وغير واحد.
وقال عمرو بن قيس الملائي : عمل فيها خير من عمل ألف شهر.
وهذا القول بأنها أفضل من عبادة ألف شهر - وليس فيها ليلة القدر - هو اختيارُ ابن جرير. وهو الصواب لا ما عداه ، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم : "رِباطُ ليلة في سبيل الله خَيْر من ألف ليلة فيما سواه من المنازل". رواه أحمد (5) وكما جاء في قاصد الجمعة بهيئة حسنة ، ونية صالحة : "أنه يُكتَبُ له عمل سنة ، أجر صيامها وقيامها" إلى غير ذلك من المعاني المشابهة لذلك.
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا أيوب ، عن أبي قِلابَة ، عن أبي هُريرة قال : لما حضر رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قد جاءكم شهر رمضان ، شهر مبارك ، افترض الله
__________
(1) ورواه الثعلبي في تفسيره والواحدي في أسباب النزول كما في تخريج الكشاف للزيلعي (4/253) من طريق مسلم بن خالد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد به مرسلا.
(2) تفسير الطبري (30/167).
(3) في أ : "فتعجب".
(4) وذكره السيوطي في الدر المنثور (8/569) وعزاه لابن أبي حاتم.
(5) المسند (1/62) من حديث عثمان ، رضي الله عنه.

(8/443)


عليكم صيامه ، تفتح فيه أبواب الجنة ، وتغلق فيه أبواب الجحيم ، وتغل فيه الشياطين ، فيه ليلة خير من ألف شهر ، من حُرم خَيرَها فقد حُرم".
ورواه النسائي ، من حديث أيوب ، به (1).
ولما كانت ليلة القدر تعدل عبادتها عبادة ألف شهر ، ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تَقَدَّم من ذنبه" (2).
وقوله : { تَنزلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ } أي : يكثر تَنزلُ الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها ، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة ، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ويحيطون بحِلَق الذكر ، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيما له.
وأما الروح فقيل : المراد به هاهنا جبريل ، عليه السلام ، فيكون من باب عطف الخاص على العام. وقيل : هم ضرب من الملائكة. كما تقدم في سورة "النبأ". والله أعلم.
وقوله : { مِنْ كُلِّ أَمْرٍ } قال مجاهد : سلام هي من كل أمر.
وقال سعيد بن منصور : حدثنا عيسى بن يونس ، حدثنا الأعمش ، عن مجاهد في قوله : { سَلامٌ هِيَ } قال : هي سالمة ، لا يستطيع الشيطان (3) أن يعمل فيها سوءًا أو يعمل فيها أذى.
وقال قتادة وغيره : تقضى فيها الأمور ، وتقدر الآجال والأرزاق ، كما قال تعالى : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ }
وقوله : { سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } قال سعيد بن منصور : حدثنا هُشَيْم ، عن أبي إسحاق ، عن الشعبي في قوله تعالى : { مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } قال : تسليم الملائكة ليلة القدر على أهل المساجد ، حتى يطلع الفجر.
وروى ابن جرير عن ابن عباس أنه كان يقرأ : "من كل امرئ سلام هي حتى مطلع الفجر".
وروى البيهقي في كتابه "فضائل الأوقات" عن عليٍّ أثرًا غريبًا في نزول الملائكة ، ومرورهم على المصلين ليلة القدر ، وحصول البركة للمصلين.
وروى ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار أثرًا غريبًا عجيبًا مطولا جدًا ، في تنزل الملائكة من سدرة المنتهى صحبة جبريل ، عليه السلام ، إلى الأرض ، ودعائهم للمؤمنين والمؤمنات (4).
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا عمران - يعني القطان - عن قتادة ، عن أبي ميمونة ، عن أبي هُريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر : "إنها ليلة سابعة - أو : تاسعة - وعشرين ، وإن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى" (5).
__________
(1) المسند (2/230) وسنن النسائي (4/129).
(2) صحيح البخاري برقم (1901) وصحيح مسلم برقم (760).
(3) في أ : "الشياطين".
(4) سيأتي إيراد الأثر عند تفسير آخر السورة.
(5) مسند الطيالسي برقم (2545).

(8/444)


وقال الأعمش ، عن المِنهَال ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى في قوله : { مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ } قال : لا يحدث فيها أمر.
وقال قتادة وابن زيد في قوله : { سَلامٌ هِيَ } يعني (1) هي خير كلها ، ليس (2) فيها شر إلى مطلع الفجر. ويؤيد هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد :
حدثنا حَيْوَة (3) بن شُرَيح ، حدثنا بَقِيَّة ، حدثني بَحير بن سعد ، عن خالد بن مَعْدَان ، عن عبادة بن الصامت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ليلة القدر في العشر البواقي ، من قامهن ابتغاء حسبتهن ، فإن الله يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وهي ليلة وتر : تسع أو سبع ، أو خامسة ، أو ثالثة ، أو آخر ليلة". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أمارة ليلة القدر أنها صافية بَلْجَة ، كأن فيها قمرًا ساطعًا ، ساكنة سجية ، لا برد فيها ولا حر ، ولا يحل لكوكب يُرمَى به فيها حتى تصبح. وأن أمارتها أن الشمس صبيحتها تخرج مستوية ، ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر ، ولا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ" (4).
وهذا إسناد حسن ، وفي المتن غرابة ، وفي بعض ألفاظه نكارة.
وقال أبو داود الطيالسي ، حدثنا زَمْعَة ، عن سلمة بن وَهْرام ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر : "ليلة سمحة طلقة ، لا حارة ولا باردة ، وتصبح شمس (5) صبيحتها ضعيفة حمراء" (6).
وروى ابن أبي عاصم النبيل بإسناده عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إني رأيت ليلة القدر فأنسيتها ، وهي في العشر الأواخر ، من لياليها ليلة (7) طلقة بلجة ، لا حارة ولا باردة ، كأن فيها قمرًا ، لا يخرج شيطانها حتى يضيء فجرها" (8).
فصل
اختلف العلماء : هل كانت ليلة القدر في الأمم السالفة ، أو هي من خصائص هذه الأمة ؟ على قولين :
قال أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري : حدثنا مالك : أنه بلغه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُري أعمار الناس قبله - أو : ما شاء الله من ذلك - فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل الذي بلغ غيرهم في طول العمر ، فأعطاه الله ليلة القدر خيرا من ألف شهر (9) وقد أسند من وجه آخر.
__________
(1) في م : "قال".
(2) في م : "لا تحدث".
(3) في أ : "حدثنا عبدة".
(4) المسند (5/324).
(5) في م : "وتصبح شمسها".
(6) مسند الطيالسي برقم (2680) وفيه : "صفيقة" بدل : "ضعيفة".
(7) في أ : "لياليها وهي ليلة".
(8) عزاه إليه صاحب الكنز (8/540) برقم (24069) ولم أقع عليه في السنة ، ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (2190) من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن أبي الزبير ، عن جابر بنحوه.
(9) الموطأ برواية الزهري برقم (889).

(8/445)


وهذا الذي قاله مالك يقتضي تخصيص هذه الأمة بليلة القدر ، وقد نقله صاحب "العُدّة" أحد أئمة الشافعية عن جمهور العلماء ، فالله أعلم. وحكى الخطابي عليه الإجماع [ونقله الرافعي جازمًا به عن المذهب] (1) والذي دل عليه الحديث أنها كانت في الأمم الماضين كما هي في أمتنا.
قال أحمد بن حنبل : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عكرمة بن عمار : حدثني أبو زُمَيل سِمَاك الحَنَفي : حدثني مالك بن مَرْثَد بن عبد الله ، حدثني مَرْثَد قال : سألت أبا ذر قلت : كيف سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر ؟ قال : أنا كنت أسأل الناس عنها ، قلت : يا رسول الله ، أخبرني عن ليلة القدر ، أفي رمضان هي أو في غيره ؟ قال : "بل هي في رمضان". قلت : تكون مع الأنبياء ما كانوا ، فإذا قبضوا رفعت ؟ أم هي إلى يوم القيامة ؟ قال : "بل هي إلى يوم القيامة". قلت : في أي رمضان هي ؟ قال : "التمسوها في العشر الأول ، والعشر الأواخر". ثم حَدّثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وحَدّث ، ثم اهتبلت غفلته قلت : في أي العشرين هي ؟ قال : "ابتغوها في العشر الأواخر ، لا تسألني عن شيء بعدها". ثم حدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم اهتبلت غفلته فقلت : يا رسول الله ، أقسمت عليك بحقي عليك لَمَا أخبرتني في أي العشر هي ؟ فغضب علي غضبًا لم يغضب مثله منذ صحبته ، وقال : "التمسوها في السبع الأواخر ، لا تسألني عن شيء بعدها".
ورواه النسائي عن الفلاس ، عن يحيى بن سعيد القطان ، به (2).
ففيه دلالة على ما ذكرناه ، وفيه أنها تكون باقية إلى يوم القيامة في كل سنة [بعد النبي صلى الله عليه وسلم] (3) لا كما زعمه بعض طوائف الشيعة من رفعها بالكلية ، على ما فهموه من الحديث الذي سنورده بعدُ من قوله ، عليه السلام : "فرفعت ، وعسى أن يكون خيرًا لكم" ؛ لأن المراد رفعُ عِلْم وقتها عينًا. وفيه دلالة على أنها ليلة القدر يختص (4) وقوعها بشهر رمضان من بين سائر الشهور ، لا كما رُوي عن ابن مسعود ومن تابعه من علماء أهل الكوفة ، من أنها توجد في جميع السنة ، وترجى في جميع الشهور على السواء.
وقد ترجم أبو داود في سننه على هذا فقال : "باب بيان أن ليلة القدر في كل رمضان" : حدثنا حُمَيد بن زَنْجُويه النسائي (5) أخبرنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير ، حدثني موسى بن عقبة ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن عبد الله بن عمر قال : سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أسمع عن ليلة القدر ، فقال : "هي في كل رمضان" (6).
وهذا إسناد رجاله ثقات إلا أن أبا داود قال : رواه شعبة وسفيان عن أبي إسحاق فأوقفاه.
وقد حكي عن أبي حنيفة ، رحمه الله ، رواية أنها ترجى (7) في جميع شهر رمضان. وهو وجه [حكاه] (8) الغزالي ، واستغربه الرافعي جدًا.
__________
(1) زيادة من م.
(2) المسند (5/171) وسنن النسائي الكبرى برقم (3427).
(3) زيادة من أ.
(4) في م : "مختص".
(5) في م : "الشامي".
(6) سنن أبي داود برقم (1387).
(7) في م : "أنها ترتجي".
(8) زيادة من م ، أ.

(8/446)


فصل
ثم قد قيل : إنها في أول ليلة من شهر رمضان ، يحكى هذا عن أبي رَزِين. وقيل : إنها تقع ليلة سبع عشرة. وروى فيه أبو داود حديثًا مرفوعًا عن ابن مسعود. وروي موقوفًا عليه ، وعلى زيد بن أرقم ، وعثمان بن أبي العاص.
وهو قول عن محمد بن إدريس الشافعي ، ويحكى عن الحسن البصري. ووجهوه بأنها ليلة بدر ، وكانت ليلة جمعة هي السابعة عشر (1) من شهر رمضان ، وفي صبيحتها كانت وقعة بدر ، وهو اليوم الذي قال الله تعالى فيه : { يَوْمَ الْفُرْقَانِ } [ الأنفال : 41 ].
وقيل : ليلة تسع عشرة ، يحكى عن علي وابن مسعود أيضًا ، رضي الله عنهما..
وقيل : ليلة إحدى وعشرين ؛ لحديث أبي سعيد الخدري قال : اعتكف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم [في] (2) العشر الأوَل من رمضان واعتكفنا معه ، فأتاه جبريل فقال : إن الذي تطلب أمامك. فاعتكف العشر الأوسط فاعتكفنا معه ، فأتاه جبريل فقال : [إن] (3) الذي تطلب أمامك. ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبًا صبيحة عشرين من رمضان ، فقال : "من كان اعتكف معي فليرجع ، فإني رأيت ليلة القدر ، وإني أنسيتها ، وإنها (4) في العشر الأواخر وفي وِتْر ، وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء". وكان سقف المسجد جريدًا من النخل ، وما نَرى في السماء شيئًا ، فجاءت قَزَعَة فَمُطرنا ، فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديق رؤياه. وفي لفظ : "في صبح إحدى وعشرين" أخرجاه في الصحيحين (5).
قال الشافعي : وهذا الحديث أصح الروايات.
وقيل : ليلة ثلاث وعشرين ؛ لحديث عبد الله بن أنيس (6) في "صحيح مسلم" (7) وهو قريب السياق من رواية أبي سعيد ، فالله أعلم.
وقيل : ليلة أربع وعشرين ، قال أبو داود الطيالسي : حدثنا حماد بن سلمة ، عن الجُرَيري ، عن أبي نَضْرَة ، عن أبي سعيد ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ليلة القدر ليلة أربع وعشرين" (8) إسناده رجاله ثقات.
وقال أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن يزيد بن أبي حَبِيب ، عن أبي الخير ، عن الصنابحي ، عن بلال قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليلة القدر ليلة أربع وعشرين" (9).
__________
(1) في أ : "في السابع عشر".
(2) زيادة من م.
(3) زيادة من م ، أ.
(4) في م : "ثم إنها".
(5) صحيح مسلم برقم (1167).
(6) في أ : "أويس".
(7) صحيح مسلم برقم (1168).
(8) مسند الطيالسي برقم (2167).
(9) المسند (6/12).

(8/447)


ابن لهيعة ضعيف. وقد خالفه ما رواه البخاري عن أصبغ ، عن ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، بن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن أبي عبد الله الصنابحي قال : أخبرني بلال - مؤذنُ رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنها أول السبع من العشر الأواخر ، فهذا الموقوف أصح ، والله أعلم. وهكذا رُوي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وجابر ، والحسن ، وقتادة ، وعبد الله بن وهب : أنها ليلة أربع وعشرين. وقد تقدم في سورة "البقرة" (1) حديث واثلة بن الأسقع مرفوعًا : "إن القرآن أنزل ليلة أربع وعشرين".
وقيل : تكون ليلة خمس وعشرين ؛ لما رواه البخاري ، عن عبد الله بن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ، في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى". فَسَّره كثيرون بليالي الأوتار ، وهو أظهر وأشهر. وحمله آخرون على الأشفاع كما رواه مسلم عن أبي سعيد ، أنه حمله على ذلك. والله أعلم.
وقيل : إنها تكون ليلة سبع وعشرين ؛ لما رواه مسلم في صحيحه عن أبي بن كعب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنها ليلة سبع وعشرين".
قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان : سمعت عبدة وعاصمًا ، عن زِرّ : سألت أبيّ بن كعب قلت : أبا المنذر ، إن أخاك ابن مسعود يقول : من يُقِم الحَولَ يُصبْ ليلة القدر. قال : يرحمه الله ، لقد علم أنها في شهر رمضان ، وأنها ليلة سبع وعشرين. ثم حلف. قلت : وكيف تعلمون ذلك ؟ قال : بالعلامة - أو : بالآية - التي أخبرنا بها ، تطلع ذلك اليوم لا شعاع لها ، أعني الشمس (2).
وقد رواه مسلم من طريق سفيان بن عيينة وشعبة والأوزاعي ، عن عبدة ، عن زِرّ ، عن أبي ، فذكره ، وفيه : فقال : والله الذي لا إله إلا هو ، إنها لفي رمضان - يحلف ما يستثني - والله إني لأعلم أي ليلة القدر هي التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها ، هي ليلة سبع وعشرين ، وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها (3).
وفي الباب عن معاوية ، وابن عمر ، وابن عباس ، وغيرهم (4) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنها ليلة سبع وعشرين. وهو قول طائفة من السلف ، وهو الجَادّة من مذهب أحمد بن حنبل ، رحمه الله ، وهو رواية عن أبي حنيفة أيضًا. وقد حُكِيَ عن بعض السلف أنه حاول استخراج كونها ليلة سبع وعشرين من القرآن ، من قوله : { هِيَ } لأنها الكلمة السابعة والعشرون من السورة ، والله أعلم.
وقد قال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدَّبري ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة وعاصم : أنهما سمعا عكرمة يقول : قال ابن عباس : دعا عمر بن الخطاب
__________
(1) عند تفسير الآية 185.
(2) المسند (5/130).
(3) صحيح مسلم برقم (762).
(4) وانظر هذه الأحاديث وغيرها في : الدر المنثور للسيوطي (8/570 - 580).

(8/448)


أصحاب محمد (1) صلى الله عليه وسلم ، فسألهم عن ليلة القدر ، فأجمعوا على أنها في العشر الأواخر. قال ابن عباس : فقلت لعمر : إني لأعلم - أو : إني لأظن - أي ليلة القدر هي ؟ فقال عمر : أي ليلة هي ؟ [فقلت] (2) سابعة تمضي - أو : سابعة تبقى - من العشر الأواخر. فقال عمر : ومن أين علمت ذلك ؟ قال ابن عباس : فقلت : خلق الله سبع سموات ، وسبع أرضين ، وسبعة أيام ، وإن الشهر يدور على سبع ، وخلق الإنسان من سبع ، ويأكل من سبع ، ويسجد على سبع ، والطواف بالبيت سبع ، ورمي الجمار سبع...لأشياء ذكرها. فقال عمر : لقد فطنت لأمر ما فطنا له. وكان قتادة يَزيد عن ابن عباس في قوله : ويأكل من سبع ، قال : هو قول الله تعالى : { فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا [وَقَضْبًا] } (3) الآية [ عبس : 27 ، 28 ] (4).
وهذا إسناد جيد قوي ، ونصٌ (5) غريب جدًا ، والله أعلم.
وقيل : إنها تكون في ليلة تسع وعشرين. قال أحمد بن حنبل :
حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا سعيد بن سلمة ، حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن عُمرَ بن عبد الرحمن ، عن عبادة بن الصامت : أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "في رمضان ، فالتمسوها في العشر الأواخر ، فإنها في وتْر إحدى وعشرين ، أو ثلاث وعشرين ، أو خمس وعشرين ، أو سبع وعشرين ، [أو تسع وعشرين] (6) أو في آخر ليلة" (7).
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود - وهو : أبو داود الطيالسي - حدثنا عمران القطان ، عن قتادة ، عن أبي ميمونة (8) عن أبي هريرة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر : "إنها ليلة سابعة أو تاسعة وعشرين ، وإن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى" (9).
تفرد به أحمد ، وإسناده لا بأس به.
وقيل : إنها تكون في آخر ليلة ، لما تقدم من هذا الحديث آنفًا (10) ولما رواه الترمذي والنسائي ، من حديث عُيَينة بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي بكرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "في تسع يبقين ، أو سبع يبقين ، أو خمس يبقين ، أو ثلاث ، أو آخر ليلة". يعني : التمسوا ليلة القدر (11).
__________
(1) في أ : "أصحاب رسول الله".
(2) زيادة من م ، أ.
(3) زيادة من المعجم الكبير (10/322).
(4) المعجم الكبير (10/322).
(5) في م : "ومتن".
(6) زيادة من أ ، والمسند.
(7) المسند (5/321).
(8) في أ : "عن أبي معاوية".
(9) المسند (2/519).
(10) في أ : " : أيضا".
(11) سنن الترمذي برقم (794) وسنن النسائي الكبرى برقم (3404).

(8/449)


وقال الترمذي : حسن صحيح. وفي المسند من طريق أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر : "إنها آخر ليلة" (1).
فصل
قال [الإمام] (2) الشافعي في هذه الروايات : صدرت من النبي صلى الله عليه وسلم جوابًا للسائل إذ قيل له : ألتمس ليلة القدر في الليلة الفلانية ؟ يقول : "نعم". وإنما ليلة القدر ليلة مُعَيَّنة : لا تنتقل. نقله الترمذي عنه بمعناه. وروي عن أبي قِلابَة أنه قال : ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر (3).
وهذا الذي حكاه عن أبي قلابة نص عليه مالك ، والثوري ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو ثور ، والمزني ، وأبو بكر بن خُزَيمة ، وغيرهم. وهو محكي عن الشافعي - نقله القاضي عنه ، وهو الأشبه - والله أعلم.
وقد يستأنس لهذا القول بما ثبت في الصحيحين ، عن عبد الله بن عُمر : أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر من رمضان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر ، فمن كان مُتحريها فَلْيَتَحرها في السبع الأواخر" (4).
وفيها أيضًا عن عائشة ، رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "تَحَرَّوْا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان" (5) ولفظه للبخاري.
ويحتج للشافعي أنها لا تنتقل ، وأنها معينة من الشهر ، بما رواه البخاري في صحيحه ، عن عبادة بن الصامت قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر ، فَتَلاحى رجلان من المسلمين ، فقال : "خرجت لأخبركم بليلة القدر ، فتلاحى فلان وفلان ، فرفعت ، وعسى أن يكون خيرًا لكم ، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة" (6).
وجه الدلالة منه : أنها لو لم تكن معينة مستمرة التعيين ، لما حصل لهم العلم بعينها في كل سنة ، إذا (7) لو كانت تنتقل لما علموا تَعيُّنها إلا ذلك العام فقط ، اللهم إلا أن يقال : إنه إنما خرج ليعلمهم بها تلك السنة فقط.
وقوله : "فتلاحى فلان وفلان فرفعت" : فيه استئناس لما يقال : إن المماراة تقطع الفائدة والعلم النافع ، وكما جاء في الحديث : "إن العبد ليُحْرَم الرزقَ بالذَّنْبِ يُصِيبه".
وقوله : "فرفعت" أي : رفع علم تَعينها لكم ، لا أنها رفعت بالكلية من الوجود ، كما يقوله
__________
(1) لم أقع عليه في المسند ، وقد ذكره السيوطي في الدر المنثور (8/572) وعزاه لأحمد ، ولعلي أستدركه فيما بعد.
(2) زيادة من أ.
(3) سنن الترمذي (3/159).
(4) صحيح البخاري برقم (2015) وصحيح مسلم برقم (1165).
(5) صحيح البخاري برقم (2017) وصحيح مسلم برقم (1169).
(6) صحيح البخاري برقم (2023).
(7) في أ : "إذ".

(8/450)


جهلة الشيعة ؛ لأنه قد قال بعد هذا : "فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة".
وقوله : "وعسى أن يكون خيرًا لكم" يعني : عدم تعيينها لكم ، فإنها إذا كانت مبهمة اجتهد طُلابها في ابتغائها في جميع محال رجائها ، فكان أكثر للعبادة ، بخلاف ما إذا علموا (1) عينها فإنها كانت الهمم تتقاصر على قيامها فقط. وإنما اقتضت الحكمة إبهامها لتعم العبادة جميع الشهر في ابتغائها ، ويكون الاجتهاد في العشر الأواخر (2) أكثر. ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، حتى توفاه الله ، عز وجل. ثم اعتكف أزواجهُ من بعده. أخرجاه من حديث عائشة (3).
ولهما عن ابن عمر : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان (4).
وقالت عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر ، أحيا الليل ، وأيقظ أهله ، وشد المئزر. أخرجاه (5).
ولمسلم عنها (6) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيره (7).
وهذا معنى قولها : "وشد المئزر". وقيل : المراد بذلك : اعتزال النساء. ويحتمل أن يكون كناية عن الأمرين ، لما رواه الإمام أحمد :
حدثنا سُرَيج ، حدثنا أبو مَعْشَر ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بقي عشر من رمضان شَدَّ مئزره ، واعتزل نساءه. انفرد به أحمد (8).
وقد حكي عن مالك ، رحمه الله ، أن جميع ليالي العشر في تطلب ليلة القدر على السواء ، لا يترجح منها ليلة على أخرى : رأيته في شرح الرافعي ، رحمه الله.
والمستحب الإكثار من الدعاء في جميع الأوقات ، وفي شهر رمضان أكثر ، وفي العشر الأخير منه ، ثم في أوتاره أكثر. والمستحب أن يكثر من هذا الدعاء : "اللهم ، إنك عَفُوٌّ تحب العفو ، فاعف عني" ؛ لما رواه الإمام أحمد :
حدثنا يزيد - هو ابن هارون - حدثنا الجريري (9) - وهو سعيد بن إياس - عن عبد الله بن بُريدة ، أن عائشة قالت : يا رسول الله ، إن وافقت ليلة القدر فما أدعو ؟ قال : "قولي : اللهم إنك عفو تحب العفو ، فاعف عني" (10).
__________
(1) في أ : "إذا عملوا".
(2) في أ : "الأخير".
(3) صحيح البخاري برقم (2026) وصحيح مسلم برقم (1172).
(4) صحيح البخاري برقم (2025) وصحيح مسلم برقم (1171).
(5) صحيح البخاري برقم (2024) وصحيح مسلم برقم (1174).
(6) في م : "عنهما".
(7) صحيح مسلم برقم (1175).
(8) المسند (6/66).
(9) في م : "الجوهري".
(10) المسند (6/182).

(8/451)


وقد رواه الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، من طريق كَهْمَس بن الحسن ، عن عبد الله بن بريدة ، عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله ، أرأيت إن علمْتُ أي ليلة القدر ، ما أقول فيها ؟ قال : "قولي : اللهم ، إنك عَفُو تحب العفو ، فاعف عني" (1).
وهذا لفظ الترمذي ، ثم قال : "هذا حديث حسن صحيح". وأخرجه الحاكم في مستدركه ، وقال : "هذا صحيح على شرط الشيخين" (2) ورواه النسائي أيضًا من طريق سفيان الثوري ، عن علقمة بن مَرثَد ، عن سليمان بن بُرَيدة عن عائشة قالت : يا رسول الله ، أرأيتَ إن وافقتُ ليلة القدر ، ما أقول فيها ؟ قال : "قولي : اللهم إنك عَفُو تحب العفو ، فاعف عني" (3).
ذكر أثر غريب ونبأ عجيب ، يتعلق بليلة القدر ، رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم ، عند تفسير هذه السورة الكريمة فقال :
حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن أبي زياد القَطواني ، حدثنا سيار بن حاتم ، حدثنا موسى بن سعيد - يعني الراسبي - عن هلال أبي جبلة ، عن أبي عبد السلام ، عن أبيه ، عن كعب أنه قال : إن سدرة المنتهى على حد السماء السابعة ، مما يلي الجنة ، فهي على حَدّ هواء الدنيا وهواء الآخرة ، عُلوها في الجنة ، وعروقها وأغصانها من تحت الكرسي ، فيها ملائكة لا يعلم عدّتهم (4) إلا الله ، عز وجل ، يعبدون الله ، عز وجل ، على أغصانها في كل موضع شعرة منها ملك. ومقام جبريل ، عليه السلام ، في وسطها ، فينادي الله جبريل أن ينزل في كل ليلة قَدْر مع الملائكة الذين يسكنون سدرة المنتهى ، وليس فيهم ملك إلا قد أعطى الرأفة والرحمة للمؤمنين ، فينزلون على (5) جبريل في ليلة القدر ، حين تغرب الشمس ، فلا تبقى بقعة في ليلة القدر إلا وعليها ملك ، إما ساجد وإما قائم ، يدعو للمؤمنين والمؤمنات ، إلا أن تكون كنيسة أو بيعة ، أو بيت نار أو وثن ، أو بعض أماكنكم التي تطرحون فيها الخبَث ، أو بيت فيه سكران ، أو بيت فيه مُسكر ، أو بيت فيه وثن منصوب ، أو بيت فيه جرس مُعَلّق ، أو مبولة ، أو مكان فيه كساحة البيت ، فلا يزالون ليلتهم تلك يدعون للمؤمنين والمؤمنات ، وجبريل لا يدع أحدًا من المؤمنين (6) إلا صافحه ، وعلامة ذلك مَن اقشعر جلدهُ ورقّ قلبه ودَمعَت عيناه ، فإن ذلك من مصافحة جبريل.
وذكر كعب أنه من قال في ليلة القدر : "لا إله إلا الله" ، ثلاث مرات ، غَفَر الله له بواحدة ، ونجا من النار بواحدة ، وأدخله الجنة بواحدة. فقلنا لكعب الأحبار : يا أبا إسحاق ، صادقًا ؟ فقال كعب (7) وهل يقول : "لا إله إلا الله" في ليلة القدر إلا كل صادق ؟ والذي نفسي بيده ، إن ليلة القدر لتثقل على الكافر والمنافق ، حتى كأنها على ظهره جبل ، فلا تزال الملائكة هكذا حتى يطلع الفجر. فأول من يصعد جبريل حتى يكون في وجه الأفق الأعلى من الشمس ، فيبسط جناحيه -
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3513) وسنن النسائي الكبرى برقم (11688) وسنن ابن ماجة برقم (3850).
(2) المستدرك (1/531).
(3) سنن النسائي الكبرى برقم (10713).
(4) في م ، أ : "عددهم".
(5) في أ : "مع".
(6) في أ : "من الناس".
(7) في م : "كعب الأحبار".

(8/452)


وله جناحان أخضران ، لا ينشرهما إلا في تلك الساعة - فتصير الشمس لا شعاع لها ، ثم يدعو مَلَكًا (1) فيصعد ، فيجتمع نور الملائكة ونور جناحي جبريل ، فلا تزال الشمس يومها ذلك متحيرة ، فيقيم جبريل ومن معه بين الأرض وبين السماء الدنيا يومهم ذلك ، في دعاء ورحمة واستغفار للمؤمنين والمؤمنات ، ولمن صام رمضان احتسابًا ، ودعاء لمن حَدث نفسه إن عاش إلى قابل صام رمضان لله. فإذا أمسوا (2) دخلوا السماء الدنيا ، فيجلسون حلقًا [حلقا] (3) فتجتمع إليهم ملائكة سماء الدنيا ، فيسألونهم عن رجل رجل ، وعن امرأة امرأة (4) فيحدثونهم حتى يقولوا : ماذا فعل فلان ؟ وكيف وجدتموه العامَ ؟ فيقولون : وجدنا فلانا عام أول في هذه الليلة متعبدًا ووجدناه العام مبتدعًا ، ووجدنا فلانا مبتدعًا ووجدناه العام عابدًا قال : فيكفون عن الاستغفار لذلك ، ويقبلون على الاستغفار لهذا ، ويقولون : وجدنا فلانا وفلانا يذكران الله ، ووجدنا فلانًا راكعًا ، وفلانًا ساجدًا ، ووجدناه تاليا لكتاب الله. قال : فهم كذلك يومهم وليلتهم ، حتى يصعدون إلى السماء الثانية ، ففي كل سماء يوم وليلة ، حتى ينتهوا مكانهم من (5) سدرة المنتهى ، فتقول لهم سدرة المنتهى : يا سكاني ، حدثوني عن الناس وسموهم لي. فإن لي عليكم حقًا ، وإني أحبُّ من أحبَّ الله. فذكر كعب الأحبار أنهم يَعدُون لها ، ويحكون لها الرجل والمرأة بأسمائهم وأسماء آبائهم. ثم تقبل الجنة على السدرة فتقول : أخبرني بما أخبرك (6) سكانك من الملائكة. فتخبرها ، قال : فتقول الجنة : رحمة الله على فلان ، ورحمة الله على فلانة ، اللهم عجِّلهم إليَّ ، فيبلغ جبريل مكانه قبلهم ، فيلهمه الله فيقول : وجدت فلانًا ساجدًا فاغفر له. فيغفر له ، فيسمعُ جبريلُ جميعَ حملة العرش فيقولون : رحمة الله على فلان ، ورحمة الله على فلانة ، ومغفرته (7) لفلان ، ويقول (8) يا رب ، وجدت عبدك فلانًا الذي وجدته عام أول على السُنَّة والعبادة ، ووجدته العام قد أحدث حدثًا وتولى عما أمر به. فيقول الله : يا جبريل ، إن تاب فأعتبني قبل أن يموت بثلاث ساعات غفرت له. فيقول جبريل : لك الحمد إلهي ، أنت أرحم من جميع خلقك ، وأنت أرحم بعبادك من عبادك بأنفسهم ، قال : فيرتج العرش وما حوله ، والحجب والسموات ومن فيهن ، تقول : الحمد لله الرحيم ، الحمد لله الرحيم.
قال : وذكر كعب أنه من صام رمضان وهو يحدث نفسه إذا أفطر بعد رمضان ألا يعصي الله ، دخل الجنة بغير مسألة ولا حساب.
آخر تفسير سورة "ليلة القدر" [ولله الحمد والمنة] (9).
__________
(1) في م : "ملكا ملكا".
(2) في أ : "فإذا استووا".
(3) زيادة من م.
(4) في م : "عن رجل عن رجل وعن امرأة عن امرأة".
(5) في أ : "في".
(6) في أ : "بما أخبروك".
(7) في م : "ومغفرة".
(8) في أ : "ويقولون".
(9) زيادة من م.

(8/453)


تفسير سورة لم يكن
وهي مدنية.
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد - وهو ابن سلمة - أخبرنا علي - هو ابن زيد - عن عمار بن أبي عمار قال : سمعت أبا حَيَّة البدري - وهو : مالك بن عمرو بن ثابت الأنصاري - قال : لما نزلت : " لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ " إلى آخرها ، قال جبريل : يا رسول الله ، إن ربك يأمرك أن تقرئها أُبَيًا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي : "إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة". قال أبي : وقد ذكرت ثم يا رسول الله ؟ قال : "نعم". قال : فبكى أبي (1).
حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب : "إن الله أمرني أن أقرأ عليك : " لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا " قال : وسمانى لك ؟ قال : "نعم". فبكى.
ورواه البخاري ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، من حديث شعبة ، به (2).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا مُؤَمِّل ، حدثنا سفيان ، حدثنا أسلم المنقري ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبْزَى ، عن أبيه ، عن أبي بن كعب قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني أمرت أن أقرأ عليك سورة كذا وكذا". قلت : يا رسول الله ، وقد ذُكرتُ هناك ؟ قال : "نعم". فقلت له : يا أبا المنذر ، فَفَرحت بذلك. قال : وما يمنعني والله يقول : " قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ " [ يونس : 58 ]. قال مؤمل : قلت لسفيان : القراءة في الحديث ؟ قال : نعم. تفرد به من هذا الوجه (3).
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا حدثنا شعبة ، عن عاصم بن بَهْدَلة ، عن زر بن حبيش ، عن أبي بن كعب قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي : "إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن". قال : فقرأ : " لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ " قال : فقرأ فيها : ولو أن ابن آدم سأل واديا من مال ، فأعطيه (4) لسأل ثانيًا ، ولو سأل ثانيًا فأعطيه (5) لسأل ثالثًا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب. وإن ذلك الدين عند الله الحنيفية ، غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية ، ومن يفعل خيرا فلن يكفره.
__________
(1) المسند (3/489).
(2) المسند (3/130) وصحيح البخاري (4959) وصحيح مسلم برقم (799) وسنن الترمذي برقم (3792) وسنن النسائي الكبرى برقم (11691).
(3) المسند (5/123).
(4) في أ : "فأعطيته".
(5) في أ : "فأعطيته".

(8/454)


ورواه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي ، عن شعبة ، به (1) وقال : حسن صحيح.
طريق أخرى : قال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن خليد الحلبي ، حدثنا محمد بن عيسى الطباع ، حدثنا معاذ بن محمد بن معاذ بن أبي بن كعب ، عن أبيه ، عن جده ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أبا المنذر ، إني أمرت أن أعرض عليك القرآن". قال : بالله آمنت ، وعلى يدك أسلمت ، ومنك تعلمت. قال : فرد النبي صلى الله عليه وسلم القول. [قال] (2) فقال : يا رسول الله ، أذكرت هناك ؟ قال : "نعم ، باسمك ونسبك في الملأ الأعلى". قال : فاقرأ إذًا يا رسول الله (3).
هذا غريب من هذا الوجه ، والثابت ما تقدم. وإنما قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة تثبيتًا له ، وزيادة لإيمانه ، فإنه - كما رواه أحمد والنسائي ، من طريق أنس ، عنه (4) ورواه أحمد وأبو داود ، من حديث سليمان بن صُرَد عنه (5) ورواه أحمد عن عفان ، عن حماد ، عن حميد ، عن أنس ، عن عبادة بن الصامت ، عنه (6) ورواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي ، من حديث إسماعيل بن أبي خالد ، عن عبد الله بن عيسى ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عنه (7) كان قد أنكر على إنسان ، وهو : عبد الله بن مسعود ، قراءة شيء من القرآن على خلاف ما أقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستقرأهما ، وقال ، لكل منهما : "أصبت". قال أبي : فأخذني من الشك ولا إذ كنت في الجاهلية. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره ، قال أبي : فَفضْتُ عَرَقًا ، وكأنما أنظر إلى الله فرقًا. وأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جبريل أتاه فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف. فقلت : "أسأل الله معافاته ومغفرته". فقال : على حرفين. فلم يزل حتى قال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف. كما قدمنا ذكر هذا الحديث بطرقه وألفاظه في أول التفسير. فلما نزلت هذه السورة الكريمة وفيها : " رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ " قرأها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة إبلاغ وتثبيت وإنذار ، لا قراءة تعلم واستذكار ، والله أعلم.
وهذا كما أن عمر بن الخطاب لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية عن تلك الأسئلة ، وكان فيما قال : أولم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : "بلى ، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا ؟". قال : لا قال : "فإنك آتيه ، ومُطوَّف به". فلما رجعوا من الحديبية ، وأنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم سورة "الفتح" ، دعا عمر بن الخطاب وقرأها عليه ، وفيها قوله : " لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ " الآية [ الفتح : 27] ، كما تقدم.
وروى الحافظ أبو نُعَيم في كتابه "أسماء الصحابة" من طريق محمد بن إسماعيل الجعفري المدني :
__________
(1) المسند (5/131) وسنن الترمذي برقم (3793).
(2) زيادة من م ، أ.
(3) المعجم الكبير (1/200).
(4) المسند (5/122) وسنن النسائي (2/54).
(5) المسند (5/124) وسنن أبي داود برقم (1477).
(6) المسند (5/114).
(7) المسند (5/127) وصحيح مسلم برقم (820) وسنن أبي داود برقم (1478) وسنن النسائي (2/153).

(8/455)


لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)

حدثنا عبد الله بن سلمة بن أسلم ، عن ابن شهاب ، عن إسماعيل بن أبي حكيم المدني ، حدثني فُضَيل ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله ليسمع قراءة " لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا " فيقول : أبشر عبدي ، فوعزتي لأمكننه (1) لك في الجنة حتى ترضى".
حديث غريب جدًا. وقد رواه الحافظ أبو موسى المديني وابن الأثير ، من طريق الزهري ، عن إسماعيل بن أبي حكيم ، عن نَظير المزني - أو : المدني - عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الله ليسمع قراءة " لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا " ويقول : أبشر عبدي ، فوعزتي لا أنساك على حال من أحوال الدنيا والآخرة ، ولأمكنن لك في الجنة حتى ترضى" (2).
بسم الله الرحمن الرحيم
{ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) }
أما أهل الكتاب فهم : اليهود والنصارى ، والمشركون : عَبَدةُ الأوثان والنيران ، من العرب ومن العجم. وقال مجاهد : لم يكونوا { مُنْفَكِّينَ } يعني : منتهين حتى يتبين لهم الحق. وكذا قال قتادة.
{ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } أي : هذا القرآن ؛ ولهذا قال تعالى : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } ثم فسر البينة بقوله : { رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً } يعني : محمدًا صلى الله عليه وسلم ، وما يتلوه من القرآن العظيم ، الذي هو مكتتب في الملأ الأعلى ، في صحف مطهرة كقوله : { فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ } [ عبس : 13 - 16 ].
وقوله : { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } قال ابن جرير : أي في الصحف المطهرة كتب من الله قيمة : عادلة مستقيمة ، ليس فيها خطأ ؛ لأنها من عند الله ، عز وجل.
قال قتادة : { رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً } يذكر القرآن بأحسن الذكر ، ويثني عليه بأحسن الثناء.
وقال ابن زيد : { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } مستقيمة معتدلة.
وقوله : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } كقوله :
__________
(1) في م : "لأملأن" ، وفي أ : "لأمكنن".
(2) أسد الغابة لابن الأثير (4/549) وذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة (3/528) من طريق أبي موسى ، وهي من طريق محمد بن إسماعيل بن جعفر ، عن عبد الله بن سلمة ، عن الزهري به ، وقال : "عبد الله بن سلمة واهي الحديث".

(8/456)


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)

{ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ آل عمران : 105 ] يعني بذلك : أهل الكتب المنزلة على الأمم قبلنا ، بعد ما أقام الله عليهم الحجج والبينات تفرقوا واختلفوا في الذي أراده الله من كتبهم ، واختلفوا اختلافًا كثيرًا ، كما جاء في الحديث المروي من طرق : "إن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة ، وإن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة". قالوا : من هم يا رسول الله ؟ قال : "ما أنا عليه وأصحابي" (1).
وقوله : { وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } كقوله { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] ؛ ولهذا قال : حنفاء ، أي : مُتَحنفين عن الشرك إلى التوحيد. كقوله : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] وقد تقدم تقرير الحنيف في سورة "الأنعام" (2) بما أغنى عن إعادته هاهنا.
{ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ } وهي أشرف عبادات البدن ، { وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ } وهي الإحسان إلى الفقراء (3) والمحاويج. { وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } أي : الملة القائمة العادلة ، أو : الأمة المستقيمة المعتدلة.
وقد استدل كثير من الأئمة ، كالزهري والشافعي ، بهذه الآية الكريمة على أن الأعمال داخلة في الإيمان ؛ ولهذا قال : { وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ }
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) }
__________
(1) جاء هذا الحديث من حديث أبي هريرة ، وأنس ، وسعد بن أبي وقاص ، ومعاوية ، وعمرو بن عوف المزني ، وعوف بن مالك ، وأبي أمامة ، وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهم - قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "هو حديث صحيح مشهور" وانظر : تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي (1/447 - 450).
(2) عند تفسير الآية : 161.
(3) في أ : "الفقير".

(8/457)


جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)

{ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) }
يخبر تعالى عن مآل الفجار ، من كفرة أهل الكتاب ، والمشركين المخالفين لكتب الله المنزلة وأنبياء الله المرسلة : أنهم يوم القيامة { فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا } أي : ماكثين ، لا يحولون عنها ولا يزولون { أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ } أي : شر الخليقة التي برأها الله وذرأها.
ثم أخبر تعالى عن حال الأبرار - الذين آمنوا بقلوبهم ، وعملوا الصالحات بأبدانهم - بأنهم خير

(8/457)


البرية.
وقد استدل بهذه الآية أبو هريرة وطائفة من العلماء ، على تفضيل المؤمنين من البرية (1) على الملائكة ؛ لقوله : { أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ }
ثم قال : { جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ } أي : يوم القيامة ، { جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } أي : بلا انفصال ولا انقضاء ولا فراغ.
{ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } ومقام رضاه عنهم أعلى مما أوتوه من النعيم المقيم ، { وَرَضُوا عَنْهُ } فيما منحهم من الفضل العميم.
وقوله : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } أي : هذا الجزاء حاصل لمن خشي الله واتقاه حق تقواه ، وعبده كأنه يراه ، وقد علم أنه إن لم يره فإنه يراه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا أبو معشر ، عن أبي وهب - مولى أبي هريرة - عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا أخبركم بخير البرية ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله. قال : "رجل أخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، كلما كانت هَيْعَة استوى عليه. ألا أخبركم بخير البرية ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله. قال : "رجل في ثُلَّة من غنمه ، يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة. ألا أخبركم بشر (2) البرية ؟ ". قالوا : بلى. قال : "الذي يَسأل بالله ، ولا يُعطي به" (3).
آخر تفسير سورة "لم يكن" (4).
__________
(1) في أ : "من البشر".
(2) في أ : "بخير".
(3) المسند (2/396) وقال الهيثمي في المجمع (5/279) : "أبو معشر - نجيح - ضعيف ، وأبو معشر (كذا فيه ، والصواب : أبو وهب) مولى أبي هريرة لم أعرفه".
(4) في م : "آخر تفسيرها".

(8/458)


تفسير سورة إذا زلزلت
وهي مكية.
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا سعيد ، حدثنا عياش بن عباس ، عن عيسى بن هلال الصَّدفي ، عن عبد الله بن عمرو قال : أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أقرئني يا رسول الله. قال (1) له : "اقرأ ثلاثا من ذات الر". فقال له الرجل : كبر سني واستد (2) قلبي ، وغَلُظ لساني. قال : "فاقرأ من ذات (3) حم" ، فقال مثل مقالته الأولى. فقال : "اقرأ ثلاثا من المسبحات" ، فقال مثل مقالته. فقال الرجل : ولكن أقرئني - يا رسول الله - سورة جامعة. فأقرأه : " إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا " حتى إذا فرغ منها قال الرجلُ : والذي بعثك بالحق ، لا أزيد عليها أبدًا. ثم أدبر الرجل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أفلح الرويجل! أفلح الرويجل!" ثم قال : "عَلَيّ به". فجاءه فقال له : "أمرْتُ بيوم الأضحى جعله الله عيدا لهذه الأمة". فقال له الرجل : أرأيت إن لم أجد إلا مَنيحَة أنثى فأضحي بها ؟ قال : "لا ولكنك تأخذ من شعرك ، وتقلم أظفارك ، وتقص شاربك ، وتحلق عانتك ، فذاك تمام أضحيتك عند الله ، عز وجل".
وأخرجه أبو داود والنسائي ، من حديث أبي عبد الرحمن المقرئ (4) به (5).
وقال الترمذي : حدثنا محمد بن موسى الحَرشي البصري : حدثنا الحسن بن سلْم (6) بن صالح العجلي ، حدثنا ثابت البُناني ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قرأ " إِذَا زُلْزِلَتِ " عدلَت له بنصف القرآن". ثم قال : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن سلم (7) (8).
وقد رواه البزار عن محمد بن موسى الحرشي ، عن الحسن بن سلم (9) عن ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " تَعدلُ ثلث القرآن ، و " إِذَا زُلْزِلَتِ " تَعدلُ ربع القرآن". هذا لفظه.
وقال الترمذي أيضا : حدثنا علي بن حُجْر ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا يمان بن المغيرة العنزي ، حدثنا عطاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " " إِذَا زُلْزِلَتِ " تَعْدلُ نصف القرآن ، و " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " تعدل ثلث القرآن ، و " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " تعدل ربع القرآن". ثم قال : غريب ، لا نعرفه إلا من حديث يمان بن المغيرة (10).
__________
(1) في م : "فقال".
(2) في م : "واشتد".
(3) في أ : "من ذوات".
(4) في أ : "المقبري".
(5) المسند (2/169) وسنن أبي داود برقم (1399) وسنن النسائي (7/212).
(6) في أ : "مسلم".
(7) في م ، أ : "مسلم".
(8) سنن الترمذي برقم (2893).
(9) في م ، أ : "مسلم".
(10) سنن الترمذي برقم (2894).

(8/459)


إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)

وقال أيضا : حدثنا عقبة بن مُكَرَّم العَمّي البصري ، حدثني ابن أبي فُدَيْك ، أخبرني سلمة بن وردان ، عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أصحابه : "هل تزوجت يا فلان ؟ " قال : لا والله يا رسول الله ، ولا عندي ما أتزوج ؟! قال : "أليس معك " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " ؟ ". قال : بلى. قال : "ثلث القرآن". قال : "أليس معك " إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ " ؟ ". قال : بلى. قال : "ربع القرآن". قال : "أليس معك " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " ؟ ". قال : بلى. قال : "ربع القرآن". قال : "أليس معك " إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ " ؟ ". قال : بلى. قال : "ربع القرآن" تزوج ، [تزوج] (1). ثم قال : هذا حديث حسن (2).
تفرد بهن ثلاثتهن الترمذي ، لم يروهن غيره من أصحاب الكتب.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) }
قال ابن عباس : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا } أي : تحركت من أسفلها. { وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا } يعني : ألقت ما فيها من الموتى. قاله غير واحد من السلف. وهذه كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } [ الحج : 1 ] وكقوله { وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت } [ الانشقاق : 3 ، 4 ].
وقال مسلم في صحيحه : حدثنا واصل بن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن فُضَيل ، عن أبيه ، عن أبي حازم ، عن أبي هُرَيرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تَقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة ، فيجيء القاتل فيقول : في هذا قَتَلْتُ ، ويجيء القاطع فيقول : في هذا قَطَعتُ رحمي ، ويجيء السارق فيقول : في هذا قُطِعت يدي ، ثم يَدَعُونه فلا يأخذون منه شيئا" (3).
وقوله : { وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا } أي : استنكر أمرها بعد ما كانت قارة ساكنة ثابتة ، وهو مستقر على ظهرها ، أي : تقلبت الحال ، فصارت متحركة مضطربة ، قد جاءها من أمر الله ما قد أعد لها من الزلزال الذي لا محيد لها عنه ، ثم ألقت ما في بطنها من الأموات من الأولين والآخرين ، وحينئذ استنكر الناس أمرها وتبدلت الأرض غير الأرض والسموات ، وبرزوا لله الواحد القهار.
وقوله : { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا } أي : تحدث بما عمل العاملون على ظهرها.
__________
(1) زيادة من سنن الترمذي.
(2) سنن الترمذي برقم (2895).
(3) صحيح مسلم برقم (1013).

(8/460)


قال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم ، حدثنا ابن المبارك - وقال الترمذي وأبو عبد الرحمن النسائي ، واللفظ له : حدثنا سُوَيد بن نصر ، أخبرنا عبد الله - هو ابن المبارك - عن سعيد بن أبي أيوب ، عن يحيى بن أبي سليمان ، عن سعيد المقْبُرِي ، عن أبي هريرة قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا } قال : "أتدرون ما أخبارها ؟ ". قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : "فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عَمِل على ظهرها ، أن تقول : عمل كذا وكذا ، يوم كذا وكذا ، فهذه أخبارها" (1).
ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب.
وفي معجم الطبراني من حديث ابن لَهِيعة : حدثني الحارث بن يزيد - سمع ربيعة الجُرَشي - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "تحفظوا من الأرض ، فإنها أمكم ، وإنه ليس من أحد عامل عليها خيرًا أو شرًا ، إلا وهي مُخبرة" (2).
وقوله : { بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا } قال البخاري : أوحى لها وأوحى إليها ، ووحى لها ووحى إليها : واحد (3) وكذا قال ابن عباس : { أَوْحَى لَهَا } أي : أوحى إليها.
والظاهر أن هذا مُضَمَّن [بمعنى] (4) أذن لها.
وقال شبيب بن بشر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا } قال : قال لها ربها : قولي ، فقالت.
وقال مجاهد : { أَوْحَى لَهَا } أي : أمرها. وقال القُرَظي : أمرها أن تنشق عنهم.
وقوله : { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا } أي : يرجعون عن مواقف الحساب ، { أَشْتَاتًا } أي : أنواعًا وأصنافًا ، ما بين شقي وسعيد ، مأمور به إلى الجنة ، ومأمور به إلى النار.
قال ابن جريج : يتصدعون أشتاتًا فلا يجتمعون آخر ما عليهم.
وقال السُّدِّي : { أَشْتَاتًا } فرقا.
وقوله تعالى : { لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ } أي : ليعملوا ويجازوا بما عملوه في الدنيا ، من خير وشر. ولهذا قال : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ }
قال البخاري : حدثنا إسماعيل بن عبد الله ، حدثني مالك عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح السَّمان عن أبي هُرَيرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الخيل لثلاثة : لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر ؛ فأما الذي له أجر ، فرجل ربطها في سبيل الله فأطال طَيلها في مرج أو روضة ، فما أصابت في طيلها ذلك في المرج والروضة كان له حسنات ، ولو أنها قطعت طيلها فاستنَّت شَرَفا أو
__________
(1) المسند (2/374) وسنن الترمذي برقم (3353) وسنن النسائي الكبرى برقم (11693).
(2) المعجم الكبير (5/65) وقال الهيثمي في المجمع (1/241) : "وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف".
(3) صحيح البخاري (8/726) "فتح".
(4) زيادة من م ، أ.

(8/461)


شرفين ، كانت آثارها وأرواثها حسنات له ، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يَسقَى به كان ذلك حسنات له ، وهي لذلك الرجل أجر. ورجل ربطها تَغَنيا وتعففا ، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها ، فهي له ستر. ورجل ربطها فخرًا ورئاء ونواء ، فهي على ذلك وزر". فسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحُمُر ، فقال : "ما أنزل الله فيها شيئًا إلا هذه الآية الفاذة الجامعة : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } (1).
ورواه مسلم ، من حديث زيد بن أسلم ، به (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا جرير بن حازم ، حدثنا الحسن ، عن صعصعة بن معاوية - عم الفرزدق - : أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } قال : حسبي! لا أبالي ألا أسمع غيرها (3).
وهكذا رواه النسائي في التفسير ، عن إبراهيم بن يونس بن محمد المؤدب ، عن أبيه ، عن جرير ابن حازم ، عن الحسن البصري قال : حدثنا صعصعةُ عم الفرزدق ، فذكره (4).
وفي صحيح البخاري ، عن عَدي مرفوعا : "اتقوا النار ولو بِشِقِّ تمرة ، ولو بكلمة طيبة" (5) وفي الصحيح : "لا تَحْقِرَنَّ من المعروف شيئا ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي ، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط" (6) وفي الصحيح أيضا : "يا نساء (7) المؤمنات ، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرْسَنَ شاة" (8) يعني : ظلفها. وفي الحديث الآخر : "ردوا السائل ولو بظلْف مُحَرق" (9).
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، حدثنا كثير بن زيد ، عن المطلب بن عبد الله ، عن عائشة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يا عائشة ، استتري من النار ولو بشق تمرة ، فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان". تفرد به أحمد (10).
ورُويَ عن عائشة أنها تصدقت بعنبة ، وقالت : كم فيها من مثقال ذرة (11).
وقال أحمد : حدثنا أبو عامر ، حدثنا سعيد بن مسلم ، سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير :
__________
(1) في م ، أ : "من" وهو خطأ.
(2) صحيح البخاري برقم (4962) وصحيح مسلم برقم (987).
(3) المسند (5/59).
(4) سنن النسائي الكبرى برقم (11694).
(5) صحيح البخاري برقم (7512).
(6) صحيح مسلم برقم (2626) من حديث أبي ذر الغفاري ، رضي الله عنه.
(7) في م : "يا معشر نساء" ، وفي أ : "معشر النساء".
(8) صحيح البخاري برقم (2566) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(9) رواه أحمد في المسند (5/381) وأبو داود في السنن برقم (1667) والترمذي في السنن برقم (665) من حديث أم بجيد الأنصارية ، رضي الله عنها. وقال الترمذي : "حديث أم بجيد حديث حسن صحيح".
(10) المسند (6/79).
(11) هو في الموطأ (2/997) بلاغا عن عائشة.

(8/462)


حدثني عوف بن الحارث بن الطفيل : أن عائشة أخبرته : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : "يا عائشة ، إياك ومحقرات الذنوب ، فإن لها من الله طالبا".
ورواه النسائي وابن ماجة ، من حديث سعيد بن مسلم بن بَانَك ، به (1).
وقال ابن جرير : حدثني أبو الخطاب الحساني ، حدثنا الهيثم بن الربيع ، حدثنا سماك بن عطية ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس قال : كان أبو بكر يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } (2) فرفع أبو بكر يده وقال : يا رسول الله ، إني أُجزى بما عملتُ من مثقال ذرة من شر ؟ فقال : "يا أبا بكر ، ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر ويدخر الله لك مثاقيل ذَر الخير حتى تُوفَاه يوم القيامة" (3).
ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه [عن] (4) أبي الخطاب ، به. ثم قال ابن جرير :
حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا أيوب قال : في كتاب أبي قِلابة ، عن أبي إدريس : أن أبا بكر كان يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره (5).
ورواه أيضًا عن يعقوب ، عن ابن عُلَيَّة ، عن أيوب ، عن أبي قلابة : أن أبا بكر ، وذكره.
طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني حُيَي ابن عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : لما نزلت : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا } وأبو بكر الصديق ، رضي الله عنه ، قاعد ، فبكى حين أنزلت ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما يبكيك يا أبا بكر ؟". قال : يبكيني هذه السورة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لولا أنكم تخطئون وتذنبون ، فيغفر الله لكم ، لخلق الله أمة يخطئون ويذنبون فيغفر لهم" (6).
حديث آخر : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة وعلي بن عبد الرحمن بن [محمد بن] (7) المغيرة - المعروف بعلان المصري - قالا حدثنا عمرو بن خالد الحرَّاني ، حدثنا ابن لَهِيعة ، أخبرني هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري قال : لما أنزلت : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } قلت : يا رسول الله ، إني لراء عملي ؟ قال : "نعم". قلت : تلك الكبار الكبار ؟ قال : "نعم". قلت : الصغار الصغار ؟ قال : "نعم". قلت : واثُكلَ أُمي. قال : "أبشر يا أبا سعيد ؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها - يعني إلى
__________
(1) المسند (6/151) وسنن ابن ماجة برقم (4243).
(2) في أ : "من" وهو خطأ.
(3) تفسير الطبري (30/173) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3418) "مجمع البحرين" من طريق أبي الخطاب ، به ، وقال : "لم يروه عن أيوب إلا سماك ، ولا عنه إلا الهيثم. تفرد به زيادة". قلت : الهيثم بن الربيع ضعيف.
(4) زيادة من م ، أ.
(5) تفسير الطبري (30/174) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (7103) والطبراني في المعجم الكبير برقم (87) "القطعة المعقودة" من طريق ابن وهب ، به.
(6) تفسير الطبري (30/175).
(7) زيادة من الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (3/1/195).

(8/463)


سبعمائة ضعف - ويضاعف الله لمن يشاء ، والسيئة بمثلها أو يغفر الله ، ولن ينجو أحد منكم بعمله". قلت : ولا أنت يا رسول الله (1) ؟ قال : "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة" (2) قال أبو زُرْعَة : لم يرو هذا غير ابن لَهِيعة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر ، حدثني ابن لهيعة ، حدثني (3) عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير في قوله تعالى : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } وذلك لما نزلت هذه الآية : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } [ الإنسان : 8 ] ، كان المسلمون يرون أنهم لا يُؤجَرون على الشيء القليل الذي أعطوه ، فيجيء المسكين إلى أبوابهم فيستقلون أن يعطوه التمرة والكسرة والجَوْزة ونحو ذلك ، فيردونه ويقولون : ما هذا بشيء. إنما نُؤجَر على ما نعطي ونحن نحبه. وكان آخرون يَرَون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير : الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك ، يقولون : إنما وعد الله النار على الكبائر. فرغبهم في القليل من الخير أن يعملوه ، فإنه يوشك أن يكثر ، وحذرهم اليسير من الشر ، فإنه يوشك أن يكثر ، فنزلت : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } يعني : وزن أصغر النمل { خَيْرًا يَرَهُ } يعني : في كتابه ، ويَسُرُّه ذلك. قال : يكتب لكل بر وفاجر بكل سيئة سيئة واحدة. وبكل حسنة عشر حسنات ، فإذا كان يوم القيامة ضاعف الله حسنات المؤمنين أيضًا ، بكل واحدة عشر ، ويمحو عنه بكل حسنة عشر سيئات ، فمن زادت حسناته على سيئاته مثقال ذرة ، دخل الجنة.
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا عمران ، عن قتادة ، عن عبد ربه ، عن أبي عياض ، عن عبد الله بن مسعود ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إياكم ومحقرات الذنوب ، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه". وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلا كمثل قوم نزلوا أرض فلاة ، فحضر صَنيع القوم ، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود ، والرجل يجيء بالعود ، حتى جمعوا سوادا ، وأجَّجوا نارًا ، وأنضجوا ما قذفوا فيها (4).
[آخر تفسير سورة "إذا زلزلت"] (5) [ولله الحمد والمنة] (6)
__________
(1) في أ : "يا نبي الله".
(2) ذكره السيوطي في الدر المنثور (8/594) وعزاه لابن أبي حاتم ، ولآخره شاهد في الصحيح من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(3) في م : "عن".
(4) المسند (1/402).
(5) زيادة من م ، أ.
(6) زيادة من أ.

(8/464)


وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9)

تفسير سورة العاديات
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) }

(8/465)


وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)

{ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) }
يقسم تعالى بالخيل إذا أجريت في سبيله فَعَدت وضَبَحت ، وهو : الصوت الذي يسمع من الفرس حين تعدو. { فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا } يعني : اصطكاك نعالها للصخر فتقدح منه النار.
{ فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا } يعني : الإغارة وقت الصباح ، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير صباحًا ويتسمّع (1) أذانا ، فإن سمع (2) وإلا أغار.
[وقوله] (3) { فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا } يعني : غبارًا في [مكان] (4) معترك الخيول.
{ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا } أي : توسطن ذلك المكان كُلُّهن جمع.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عبدة ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الله : { وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا } قال : الإبل.
وقال علي : هي الإبل. وقال ابن عباس : هي الخيل. فبلغ عليا قولُ ابن عباس ، فقال : ما كانت لنا خيل يوم بدر. قال ابن عباس : إنما كان ذلك في سرية بعثت.
قال ابن أبي حاتم وابن جرير : حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني أبو صخر ، عن أبي معاوية البجلي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس حدثه ، قال : بينا أنا في الحِجْر جالسا ، جاءني رجل فسألني عن : { وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا } فقلت له : الخيل حين تغير في سبيل الله ، ثم تأوي إلى الليل ، فيصنعون طعامهم ، ويورون نارهم. فانفتل عني فذهب إلى علي ، رضي الله عنه ، وهو عند سقاية زمزم فسأله عن { وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا } فقال : سألت عنها أحدًا قبلي ؟ قال : نعم ، سألت ابن عباس فقال : الخيل حين تغير في سبيل الله. قال : اذهب فادعه لي. فلما وقف على رأسه قال : تفتي الناس بما لا علم لك ، والله لئن كان أولَ غزوة في الإسلام بدر ، وما كان معنا إلا فَرَسان : فرس للزبير وفرس للمقداد ، فكيف تكون العاديات ضبحًا ؟ إنما العاديات ضبحا من عرفة
__________
(1) في أ : "ويستمع".
(2) في م : "فإن سمع أذانا".
(3) زيادة من م ، أ.
(4) زيادة من م ، أ.

(8/465)


إلى المزدلفة ، ومن المزدلفة إلى منى.
قال ابن عباس : فنزعت عن قولي ورجعت إلى الذي قال علي ، رضي الله عنه (1).
وبهذا الإسناد عن ابن عباس قال : قال علي : إنما { وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا } من عرفة إلى المزدلفة ، فإذا أووا إلى المزدلفة أوروا النيران.
وقال العَوفي عن ابن عباس : هي الخيل.
وقد قال بقول علي : إنها الإبل جماعة. منهم : إبراهيم ، وعبيد بن عمير وبقول ابن عباس آخرون ، منهم : مجاهد وعكرمة ، وعطاء وقتادة ، والضحاك. واختاره ابن جرير.
قال ابن عباس ، وعطاء : ما ضبحت دابة قط إلا فرس أو كلب.
وقال ابن جُرَيْج (2) عن عطاء سمعت ابن عباس يصف الضبح : أح أح.
وقال أكثر هؤلاء في قوله : { فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا } يعني : بحوافرها. وقيل : أسعَرْنَ الحرب بين رُكبانهن. قاله قتادة.
وعن ابن عباس ومجاهد : { فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا } يعني : مكر الرجال.
وقيل : هو إيقاد النار إذا رجعوا إلى منازلهم من الليل.
وقيل : المراد بذلك : نيران القبائل.
وقال من فسرها بالخيل : هو إيقاد النار بالمزدلفة.
وقال ابن جرير : والصواب الأول ؛ أنها الخيل حين تقدح بحوافرها.
وقوله { فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : يعني إغارة الخيل صبحًا في سبيل الله.
وقال من فسرها بالإبل : هو الدفع صبحا من المزدلفة إلى منى.
وقالوا كلهم في قوله : { فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا } هو : المكان الذي إذا حلت فيه أثارت به الغبار ، إما في حج أو غزو.
وقوله : { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا } قال العَوفى ، عن ابن عباس ، وعطاء ، وعكرمة ، وقتادة ، والضحاك : يعني جَمَع الكفار من العدو.
ويحتمل أن يكون : فوسطن بذلك المكان جَميعُهُن ، ويكون { جَمْعًا } منصوبا على الحال المؤكدة.
وقد روى أبو بكر البزار هاهنا حديثًا [غريبًا جدًا] (3) فقال : حدثنا أحمد بن عبدة ، حدثنا حفص بن جُمَيع ، حدثنا سِمَاك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا
__________
(1) تفسير الطبري (30/176).
(2) في أ : "جرير".
(3) زيادة من م ، أ.

(8/466)


فأشهرت شهرًا لا يأتيه منها خبر ، فنزلت : { وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا } ضبحت بأرجلها ، { فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا } قدحت بحوافرها الحجارة فأورت نارًا ، { فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا } صبَّحت القوم بغارة ، { فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا } أثارت بحوافرها التراب ، { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا } قال : صبحت القوم جميعا (1).
وقوله : { إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ } هذا هو المقسم عليه ، بمعنى : أنه لنعم ربه لجحود كفور.
قال ابن عباس ، ومجاهد وإبراهيم النَّخعِي ، وأبو الجوزاء ، وأبو العالية ، وأبو الضحى ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن قيس ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، وابن زيد : الكنود : الكفور. قال الحسن : هو الذي يعد المصائب ، وينسى نعم ربه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن جعفر بن الزبير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ } قال : "الكفور الذي يأكل وحده ، ويضرب عبده ، ويمنع رفده" (2).
ورواه ابن أبي حاتم ، من طريق جعفر بن الزبير - وهو متروك - فهذا إسناد ضعيف. وقد رواه ابن جرير أيضا من حديث حريز بن عثمان ، عن حمزة بن هانئ ، عن أبي أمامة موقوفا (3).
وقوله : { وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } قال قتادة وسفيان الثوري : وإن الله على ذلك لشهيد. ويحتمل أن يعود الضمير على الإنسان ، قاله محمد بن كعب القرظي ، فيكون تقديره : وإن الإنسان على كونه كنودا (4) لشهيد ، أي : بلسان حاله ، أي : ظاهر ذلك عليه في أقواله وأفعاله ، كما قال تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } [التوبة : 17]
وقوله : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } أي : وإنه لحب الخير - وهو : المال - لشديد. وفيه مذهبان :
أحدهما : أن المعنى : وإنه لشديد المحبة للمال.
والثاني : وإنه لحريص بخيل ؛ من محبة المال. وكلاهما صحيح.
ثم قال تعالى مُزَهِّدا في الدنيا ، ومُرَغِّبًا في الآخرة ، ومنبهًا على ما هو كائن بعد هذه الحال ، وما يستقبله الإنسان من الأهوال : { أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ } أي : أخرج ما فيها من الأموات ، { وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ } قال ابن عباس وغيره : يعني أبرز وأظهر ما كانوا يسرون في نفوسهم ، { إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ } أي : لعالم بجميع ما كانوا يصنعون ويعملون ، مجازيهم (5) عليه أوفر الجزاء ، ولا يظلم مثقال ذرة. آخر [تفسير] (6) سورة "والعاديات" ولله الحمد [والمنة ، وحسبنا الله] (7)
__________
(1) مسند البزار برقم (2291) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/142) : "فيه حفص بن جميع وهو ضعيف".
(2) ورواه الطبري في تفسيره (30/180) عن أبي كريب ، به.
(3) تفسير الطبري (30/180).
(4) في م : "لكنودا".
(5) في أ : "ويجازيهم".
(6) زيادة من م.
(7) زيادة من م.

(8/467)


الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)

تفسير سورة القارعة
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11) }
{ الْقَارِعَةُ } من أسماء يوم القيامة ، كالحاقة ، والطامة ، والصاخة ، والغاشية ، وغير ذلك.
ثم قال معظمًا أمرها ومهولا لشأنها : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ } ؟ ثم فسر ذلك بقوله : { يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ } أي : في انتشارهم وتفرقهم ، وذهابهم ومجيئهم ، من حيرتهم مما هم فيه ، كأنهم فراش مبثوث (1) كما قال في الآية الأخرى : { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ }
وقوله : { وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ } يعني : قد صارت كأنها الصوف المنفوش ، الذي قد شَرَع في الذهاب والتمزق.
قال مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، وعطاء الخراساني ، والضحاك ، والسدي : " الْعِهْنِ" الصوف.
ثم أخبر تعالى عما يئول إليه عمل العاملين ، وما يصيرون إليه من الكرامة أو الإهانة ، بحسب أعمالهم ، فقال : { فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } أي : رجحت حسناته على سيئاته ، { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ } يعني : في الجنة. { وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } أي : رجحت سيئاته على حسناته.
وقوله : { فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } قيل : معناه : فهو ساقط هاو بأم رأسه في نار جهنم. وعَبَّر عنه بأمه - يعني (2) دماغه - روي نحو هذا عن ابن عباس ، وعكرمة ، وأبي صالح ، وقتادة - قال قتادة : يهوي في النار على رأسه (3) وكذا قال أبو صالح : يهوون في النار على رءوسهم.
وقيل : معناه : { فَأُمُّهُ } التي يرجع إليها ، ويصير في المعاد إليها { هَاوِيَةٌ } وهي اسم من أسماء النار.
قال ابن جرير : وإنما قيل : للهاوية أمه ؛ لأنه لا مأوى له غيرها (4).
__________
(1) في أ : "منتشر".
(2) في م : "وهو".
(3) في م : "على رءوسهم".
(4) تفسير الطبري (30/183).

(8/468)


وقال ابن زيد : الهاوية : النار ، هي أمه ومأواه التي يرجع إليها ويأوي إليها ، وقرأ : { وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ } [آل عمران : 151].
قال ابن أبي حاتم : وروي عن قتادة أنه قال : هي النار ، وهي مأواهم. ولهذا قال تعالى مفسرا للهاوية : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ }
قال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى : حدثنا ابن ثور ، عن مَعْمَر ، عن الأشعث بن عبد الله الأعمى قال : إذا مات المؤمن ذهب بروحه إلى أرواح المؤمنين ، فيقولون : رَوِّحُوا أخاكم ، فإنه كان في غَمّ الدنيا. قال : ويسألونه : وما فعل فلان (1) ؟ فيقول : مات ، أو ما جاءكم ؟ فيقولون : ذهب به إلى أمه الهاوية (2)
وقد رواه ابن مَرْدَويّه من طريق أنس بن مالك مرفوعًا ، بأبسط من هذا. وقد أوردناه في كتاب صفة النار ، أجارنا (3) الله منها بمنه وكرمه (4).
وقوله : { نَارٌ حَامِيَةٌ } أي : حارة شديدة الحر ، قوية اللهيب والسعير.
قال أبو مصعب ، عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "نار بني آدم التي تُوقدون جزء من سبعين جزء من نار جهنم". قالوا : يا رسول الله ، إن كانت لكافية. فقال : "إنها فُضِّلَت عليها بتسعة وستين جُزءًا" (5).
ورواه البخاري ، عن إسماعيل بن أبي أويس ، عن مالك. ورواه مسلم عن قُتيبة ، عن المغيرة ابن عبد الرحمن ، عن أبي الزِّناد ، به (6) وفي بعض ألفاظه : "أنها فُضلت عليها بتسعة وستين جزءا ، كلهن مثل حرّها".
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا حماد - وهو ابن سلمة - عن محمد بن زياد - سمع (7) أبا هريرة يقول : سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول : " نار بني آدم التي توقدون ، جزء من سبعين جزءا من نار جهنم". فقال رجل : إن كانت لكافية. فقال : "لقد فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا حَرًّا فحرا" (8).
تفرد به أحمد من هذا الوجه ، وهو على شرط مسلم.
__________
(1) في م ، أ : "بفلان".
(2) تفسير الطبري (30/182).
(3) في أ : "أعاذنا".
(4) قال السيوطي في الدر المنثور (8/606) : "وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا مات المؤمن تلقته أرواح المؤمنين يسألونه : ما فعل فلان ؟ ما فعلت فلانة ؟ فإن كان مات ولم يأتهم قالوا : خولف به إلى أمه الهاوية بئست الأم وبئست المربية حتى يقولوا : ما فعل فلان هل تزوج ؟ ما فعلت فلانة هل تزوجت ؟ فيقولون : دعوه فيستريح فقد خرج من كرب الدنيا".
(5) الموطأ برواية الزهري برقم (2098) وهو في رواية يحيى (2/994).
(6) صحيح البخاري برقم (3265) وصحيح مسلم برقم (2843).
(7) في م ، أ : "سمعت".
(8) المسند (2/467).

(8/469)


وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا سفيان ، عن أبي الزياد (1) عن الأعرج ، عن أبي هُرَيرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم - وعمرو ، عن يحيى بن جَعْدة - : "إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم ، وضربت (2) بالبحر مرتين ، ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد" (3).
وهذا على شرط الصحة (4) ولم يخرجوه من هذا الوجه ، وقد رواه مسلم في صحيحه من طريق [ابن أبي الزناد] (5) (6).
ورواه البزار من حديث عبد الله بن مسعود ، وأبي سعيد الخدري : "ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا" (7).
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا (8) عبد العزيز - هو ابن محمد الدراوردي - عن سُهَيل عن أبيه ، عن أبي هُريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "هذه النار جزء من مائة جزء من جهنم" (9).
تفرد به أيضا من هذا الوجه ، وهو على شرط مسلم أيضا.
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن عمرو الخلال ، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ، حدثنا مَعْن بن عيسى القزاز ، عن مالك ، عن عَمّه أبي سُهَيل ، عن أبيه ، عن أبي هُريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتدرون ما مثل ناركم هذه من نار جهنم ؟ لهي أشد سوادًا من دخان ناركم هذه بسبعين ضعفًا" (10).
وقد رواه أبو مصعب ، عن مالك ، ولم يرفعه. وروى الترمذي وابن ماجة ، عن عباس الدَّوريّ ، عن يحيى ابن أبي بُكَيْر : حدثنا شريك ، عن عاصم ، عن أبي صالح ، عن أبي هُرَيرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت ، فهي سوداء مظلمة" (11).
وقد روي هذا من حديث أنس (12) وعمر بن الخطاب.
__________
(1) في أ : "عن أبي الزناد".
(2) في أ : "وضرمت".
(3) المسند (2/244).
(4) في م ، أ : "على شرط الصحيحين".
(5) زيادة من م.
(6) صحيح مسلم برقم (2843).
(7) أما حديث ابن مسعود ، فهو في مسند البزار برقم (1864) من طريق عبيد بن إسحاق ، عن زهير ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو ابن ميمون ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، وقال البزار : "هكذا رواه زهير ولا نعلم رواه عن زهير إلا عبيد بن إسحاق. ورواه عمرو بن ثابت ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو الأصم ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه ، ورواه غير عمرو ابن ثابت ، عن أبي إسحاق ، عمرو الأصم ، عن عبد الله موقوفا". وأما حديث أبي سعيد ، فقد رواه أيضا الترمذي في السنن برقم (2590) من طريق فراس ، عن عطية ، عن أبي سعيد - رضي الله عنه - وقال الترمذي : "هذا حديث حسن غريب".
(8) في أ : "بن".
(9) المسند (2/379).
(10) المعجم الأوسط برقم (4843) "مجمع البحرين" وقال الهيثمي في المجمع (10/387) : "رجاله رجال الصحيح".
(11) سنن الترمذي برقم (2591) وسنن ابن ماجة برقم (4320) وقال الترمذي : "حديث أبي هريرة في هذا موقوف أصح ، ولا أعلم أحدا رفعه غير يحيى بن بكير عن شريك".
(12) حديث أنس رواه ابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان من طريق مبارك بن فضالة ، عن ثابت ، عن أنس مرفوعا ، وقد تقدم عند تفسير الآية : 81 من سورة التوبة.

(8/470)


وجاء في الحديث - عند الإمام أحمد - من طريق أبي عثمان النَّهدي ، عن أنس - وأبي نضرة العَبْديّ ، عن أبي سعيد وعَجْلان مولى المُشْمَعّل ، عن أبي هريرة - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن أهون أهل النار عذابًا من له نعلان يغلي منهما دماغه" (1).
وثبت في الصحيح (2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب ، أكل بعضي بعضًا ، فأذن لها بنَفَسين : نفس في الشتاء ، ونفس في الصيف. فأشد ما تجدون في الشتاء من بردها ، وأشد ما تجدون في الصيف من حرها" (3).
وفي الصحيحين : "إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة ، فإن شدة الحر من فَيح جَهَنم" (4). آخر تفسير سورة "القارعة"
__________
(1) حديث أبي سعيد في المسند (3/13) وحديث أبي هريرة في المسند (2/432).
(2) في م : "في الصحيحين".
(3) صحيح البخاري برقم (3260) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(4) صحيح البخاري برقم (533) وصحيح مسلم برقم (615) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.

(8/471)


أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)

تفسير سورة التكاثر
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) }
يقول تعالى : شغلكم حب الدنيا ونعيمها وزهرتها عن طلب الآخرة وابتغائها ، وتمادى بكم ذلك حتى جاءكم الموت وزرتم المقابر ، وصرتم من أهلها ؟!
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا زكريا بن يحيى الوَقار المصري ، حدثنا خالد بن عبد الدايم ، عن ابن زيد بن أسلم ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } عن الطاعة ، { حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } حتى يأتيكم الموت" (1).
وقال الحسن البصري : { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } في الأموال والأولاد.
وفي صحيح البخاري ، في "الرقاق" منه : وقال لنا أبو الوليد : حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك ، عن أبي بن كعب قال : كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت : { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } يعني : "لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب".
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة : سمعت قتادة يحدث عن مُطْرِّف - يعني ابن عبد الله بن الشخير - عن أبيه قال : انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : " { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } يقول ابن آدم : مالي مالي. وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت ؟ ".
ورواه مسلم والترمذي والنسائي ، من طريق شعبة ، به (2).
وقال مسلم في صحيحه : حدثنا سويد بن سعيد ، حدثنا حفص بن ميسرة ، عن العلاء ، عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يقول العبد : مالي مالي ؟ وإنما له من ماله ثلاث : ما أكل فأفنى ، أو لبس فأبلى ، أو تصدق فاقتنى (3) وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس". تفرد به مسلم (4).
__________
(1) وهذا معضل ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف.
(2) المسند (4/24) وصحيح مسلم برقم (2958) وسنن الترمذي برقم (3354) وسنن النسائي (6/238).
(3) في أ : "فأبقى".
(4) صحيح مسلم برقم (2959).

(8/472)


وقال البخاري : حدثنا الحُمَيدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، سمع أنس بن مالك يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يتبع الميت ثلاثةٌ ، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد : يتبعه أهله وماله وعمله ، فيرجع أهله وماله ، ويبقى عمله".
وكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي ، من حديث سفيان بن عيينة ، به (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى ، عن شعبة ، حدثنا قتادة ، عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يهرم ابن آدم وتبقى منه اثنتان : الحرص والأمل". أخرجاه في الصحيحين (2).
وذكر الحافظ ابن عساكر ، في ترجمة الأحنف بن قيس (3) - واسمه الضحاك - أنه رأى في يد رجل درهما فقال : لمن هذا الدرهم ؟ فقال الرجل : لي. فقال : إنما هو لك إذا أنفقته في أجر أو ابتغاء شكر. ثم أنشد الأحنف متمثلا قول الشاعر :
أنتَ للمال إذا أمسكتَه... فإذا أنفقتَه فالمالُ لَكْ...
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة قال : صالح بن حيان حدثني عن ابن بريدة في قوله : { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } قال : نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار ، في بني حارثة وبني الحارث ، تفاخروا وتكاثروا ، فقالت إحداهما : فيكم مثلُ فلان بن فلان ، وفلان ؟ وقال الآخرون مثل ذلك ، تفاخروا (4) بالأحياء ، ثم قالوا : انطلقوا بنا إلى القبور. فجعلت إحدى الطائفتين تقول : فيكم مثل فلان ؟ يشيرون إلى القبر - ومثل فلان ؟ وفعل الآخرون مثل ذلك ، فأنزل الله : { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } لقد كان لكم فيما رأيتم عبرة وشغل.
وقال قتادة : { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } كانوا يقولون نحن أكثر من بني فلان (5) ونحن أعَدُّ من بني فلان ، وهم كل يوم يتساقطون إلى آخرهم ، والله ما زالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبور كلهم.
والصحيح أن المراد بقوله : { زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } أي : صرتم إليها ودفنتم فيها ، كما جاء في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من الأعراب يعوده ، فقال : "لا بأس ، طهور إن شاء الله". فقال : قلت : طَهُور ؟! بل هي حمى تفور ، على شيخ كبير ، تُزيره القبور! قال : "فَنَعَم إذًا" (6).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني ، أخبرنا حكام بن سلم الرازي ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن الحجاج ، عن المنْهال ، عن زر بن حُبَيْش ، عن علي قال : ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت : { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ }
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6514) وصحيح مسلم برقم (2960) وسنن الترمذي برقم (2379) وسنن النسائي الكبرى برقم (2064).
(2) المسند (3/115) وصحيح البخاري برقم (6421) وصحيح مسلم برقم (1047).
(3) تاريخ دمشق (8/443 "المخطوط" ).
(4) في م : "وتفاخروا".
(5) في أ : "من بني إسرائيل".
(6) صحيح البخاري برقم (5662 ، 5656 ، 7470).

(8/473)


ورواه الترمذي عن أبي كُرَيب ، عن حَكَّام بن سلم (1) [به] (2) وقال : غريب (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سلمة بن داود العُرضي (4) حدثنا أبو المليح الرقي ، عن ميمون بن مهران قال : كنت جالسا عند عمر بن عبد العزيز ، فقرأ : { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } فلبث هنيهة (5) فقال : يا ميمون ، ما أرى المقابر إلا زيارة ، وما للزائر بد من أن يرجع إلى منزله.
قال أبو محمد : يعني أن يرجع إلى منزله - إلى جنة أو نار. وهكذا ذُكر أن بعضَ الأعراب سمع رجلا يتلو هذه الآية : { حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } فقال : بُعثَ اليوم (6) ورَب الكعبة. أي : إن الزائر سيرحل من مقامه ذلك إلى غيره.
وقوله : { كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ } قال الحسن البصري : هذا (7) وعيد بعد وعيد.
وقال الضحاك : { كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ } يعني : الكفار ، { ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ } يعني : أيها المؤمنون.
وقوله : { كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ } أي : لو علمتم حق العلم ، لما ألهاكم التكاثر عن طلب الدار الآخرة ، حتى صرتم إلى المقابر.
ثم قال : { لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ } هذا تفسير الوعيد المتقدم ، وهو قوله : { كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ } تَوعَّدَهم بهذا الحال ، وهي رؤية النار (8) التي إذا زفرت زفرة خَرَّ كل ملك مقرب ، ونبي مرسل على ركبتيه ، من المهابة والعظمة ومعاينة الأهوال ، على ما جاء به الأثر المروي في ذلك.
وقوله : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } أي : ثم لتسألن يومئذ عن شكر ما أنعم الله به عليكم ، من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك. ما إذا قابلتم به نعمه من شكره وعبادته.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا زكريا بن يحيى الخزاز (9) المقري ، حدثنا عبد الله ابن عيسى أبو خالد الخزاز ، حدثنا يونس بن عبيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه سمع عمر بن الخطاب يقول : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الظهيرة ، فوجد أبا بكر في المسجد فقال : "ما أخرجك هذه الساعة ؟ " قال : أخرجني الذي أخرجك يا رسول الله. قال : وجاء عمر بن الخطاب فقال : "ما أخرجك يا ابن الخطاب ؟ " قال أخرجني الذي أخرجكما. قال : فقعد عمر ، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثهما ، ثم قال : "هل بكما من قوة ، تنطلقان إلى هذا النخل فتصيبان طعامًا وشرابًا
__________
(1) في أ : "سليم".
(2) زيادة من م ، أ.
(3) سنن الترمذي برقم (3355).
(4) في أ : "العرمي".
(5) في أ : "هنية".
(6) في أ : "القوم".
(7) في أ : "هو".
(8) في م : "أهل النار".
(9) في أ : "الجزاز".

(8/474)


وظلا ؟ " قلنا : نعم. قال : "مُروا بنا إلى منزل ابن التَّيهان أبي الهيثم الأنصاري". قال : فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أيدينا ، فسلم واستأذن - ثلاث مرات - وأم الهيثم من وراء الباب تسمع الكلام ، تريد أن يزيدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من السلام ، فلما أراد أن ينصرف خرجت أم الهيثم تسعى خلفهم ، فقالت : يا رسول الله ، قد - والله - سمعت تسليمك ، ولكن أردت أن تزيدنا من سلامك. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خيرًا". ثم قال : "أين أبو الهيثم ؟ لا أراه". قالت : يا رسول الله ، هو قريب ذهب يَستعذبُ الماء ، ادخلوا فإنه يأتي الساعة إن شاء الله ، فبسطت - بساطا تحت شجرة ، فجاء أبو الهيثم ففرح بهم وقرت عيناه بهم ، فصعد على نخلة فصرم لهم أعذاقًا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "حَسْبُكَ يا أبا الهيثم". قال : يا رسول الله ، تأكلون من بُسره ، ومن رطبه ، ومن تَذْنُوبه ، ثم أتاهم بماء فشربوا عليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هذا من النعيم الذي تسألون عنه" (1) هذا غريب من هذا الوجه.
وقال ابن جرير : حدثني الحُسَين بن علي الصدائي ، حدثنا الوليد بن القاسم ، عن يزيد بن كيسان ، عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : بينما أبو بكر وعمر جالسان ، إذ جاءهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "ما أجلسكما هاهنا ؟ " قالا والذي بعثك بالحق ما أخرجنا من بيوتنا إلا الجوع. قال : "والذي بعثني بالحق ما أخرجني غيره". فانطلقوا حتى أتوا بيت رجل من الأنصار ، فاستقبلتهم المرأة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : "أين فلان ؟ " فقالت : ذهب يستعذب (2) لنا ماء. فجاء صاحبهم يحمل قربته فقال : مرحبا ، ما زار العباد شيء أفضل من شيء (3) زارني اليوم. فعلق قربته بكرب نخلة (4) وانطلق فجاءهم بعذق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "ألا كنت اجتنيت" ؟ فقال : أحببت أن تكونوا الذين تختارون على أعينكم. ثم أخذ الشفرة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إياك والحلوب ؟ " فذبح لهم يومئذ ، فأكلوا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لتسألن عن هذا يوم القيامة. أخرجكم من بيوتكم الجوع ، فلم ترجعوا حتى أصبتم هذا ، فهذا من النعيم" (5).
ورواه مسلم من حديث يزيد بن كيسان ، به (6) ورواه أبو يعلى وابن ماجة ، من حديث المحاربي ، عن يحيى بن عُبيد الله ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن أبي بكر الصديق ، به (7) وقد رواه أهل السنن الأربعة ، من حديث عبد الملك بن عمير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، بنحو من هذا السياق وهذه القصة (8).
وقال الإمام أحمد : حدثنا سُرَيج ، حدثنا حشرج ، عن أبي نُصرة ، عن أبي عسيب - يعني
__________
(1) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (19/253) من طريق زكريا بن يحيى ، عن عبد الله بن عيسى ، به. وقال الهيثمي في المجمع (10/317) : "فيه عبد الله بن عيسى - أبو خلف - وهو ضعيف".
(2) في م : "ليستعذب".
(3) في م : "من نبي".
(4) في أ : "بكور نخلته".
(5) تفسير الطبري (30/185).
(6) صحيح مسلم برقم (2038).
(7) مسند أبي يعلى (1/79) وسنن ابن ماجة برقم (3181).
(8) سنن أبي داود برقم (5128) وسنن الترمذي برقم (2822) ، (2369) وسنن النسائي الكبرى برقم (11697) وسنن ابن ماجة برقم (3745).

(8/475)


مولى رسول الله - قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا فمر بي ، فدعاني فخرجت إليه ، ثم مر بأبي بكر فدعاه فخرج إليه ، ثم مر بعمر فدعاه فخرج إليه ، فانطلق حتى أتى (1) حائطا لبعض الأنصار ، فقال لصاحب الحائط : "أطعمنا". فجاء بِعذْق فوضعه ، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ثم دعا بماء بارد فشرب ، وقال : "لتسألن عن هذا يوم القيامة". قال : فأخذ عُمَرُ العذْقَ فضرب به الأرض ، حتى تناثر البُسرُ قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : يا رسول الله ، إنا لمسئول (2) عن هذا يوم القيامة ؟ قال : "نعم ، إلا من ثلاثة : خرقة لف بها الرجل عورته ، أو كسرة سَدَّ بها جوعته ، أو جحر تَدخَّل فيه من الحر والقر" (3) تفرد به أحمد.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حماد ، حدثنا عمار ، سمعت جابر بن عبد الله يقول : أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رطبا ، وشربوا ماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هذا من النعيم الذي تسألون عنه".
ورواه النسائي ، من حديث حماد بن سلمة [عن عمار بن أبي عمار عن جابر] (4) به (5).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا محمد بن عمرو ، عن صفوان بن سليم ، عن محمود (6) بن الربيع قال : لما نزلت : { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } فقرأ حتى بلغ : { لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } قالوا : يا رسول الله ، عن أي (7) نعيم نُسأل ؟ وإنما هما الأسودان الماء والتمر ، وسيوفنا على رقابنا ، والعدو حاضر ، فعن أي نعيم نسأل ؟ قال (8) أما إن ذلك سيكون" (9).
وقال أحمد : حدثنا أبو عامر ، عبد الملك بن عمرو ، حدثنا عبد الله بن سليمان ، حدثنا معاذ بن عبد الله بن حُبَيب ، عن أبيه ، عن عمه قال : كنا في مجلس فطلع علينا النبي صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه أثر ماء ، فقلنا : يا رسول الله ، نراك طيب النفس. قال : "أجل". قال : ثم خاض الناس في ذكر الغنى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا بأس بالغنى لمن اتقى الله ، والصحة لمن اتقى الله خير من الغنى ، وطيب النفس من النعيم".
ورواه ابن ماجة ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن خالد بن مخلد ، عن عبد الله بن سليمان ، به (10).
وقال الترمذي : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا شبابة ، عن عبد الله بن العلاء ، عن الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزم الأشعري قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن أول ما يسأل عنه - يعني يوم القيامة - العبد من النعيم أن يقال له : ألم نُصِحّ لك جسمك ، ونُرْوكَ من الماء البارد ؟ ".
__________
(1) في أ : "حتى دخل".
(2) في م ، أ : "إنا لمسئولون".
(3) المسند (5/81).
(4) زيادة من أ.
(5) المسند (3/351) وسنن النسائي (6/246).
(6) في أ : "عن محمد".
(7) في م : "أي يوم".
(8) في م : "فقال".
(9) المسند (5/429).
(10) المسند (5/372) وسنن ابن ماجة برقم (2141) وقال البوصيري في الزوائد (2/158) : "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".

(8/476)


تفرد به الترمذي. ورواه ابن حبان في صحيحه ، من طريق الوليد بن مسلم ، عن عبد الله بن العلاء بن زَيْر ، به (1).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا سفيان ، عن محمد بن عمرو ، عن يحيى بن حاطب ، عن عبد الله بن الزبير قال : قال الزبير : لما نزلت : { [ثُمَّ] (2) لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } قالوا : يا رسول الله ، لأي نعيم نسأل عنه ، وإنما هما الأسودان التمر والماء ؟ قال : "إن ذلك سيكون". وكذا رواه الترمذي وابن ماجة ، من حديث سفيان - هو ابن عيينة - به (3) ورواه أحمد عنه (4) وقال الترمذي : حسن.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله الظهراني ، حدثنا حفص بن عمر العدني ، عن الحكم ابن أبان ، عن عكرمة قال : لما نزلت هذه الآية : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } قالت الصحابة : يا رسول الله ، وأي نعيم نحن فيه ، وإنما نأكل في أنصاف بطوننا خبز الشعير ؟ فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم : قل لهم : أليس تحتذون النعال ، وتشربون الماء البارد ؟ فهذا من النعيم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا محمد بن سليمان بن الأصبهاني ، عن ابن أبي ليلى - أظنه عن عامر - عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { [ثُمَّ] (5) لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } قال : "الأمن والصحة" (6).
وقال زيد بن أسلم ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } يعني : شبع البطون ، وبارد الشراب ، وظلال المساكن ، واعتدال الخلق ، ولذة النوم. رواه ابن أبي حاتم بإسناده المتقدم ، عنه في أول السورة.
وقال سعيد بن جبير : حتى عن شربة عسل. وقال مجاهد : عن كل لذة من لذات الدنيا. وقال الحسن البصري : نعيم الغداء والعشاء ، وقال أبو قِلابة : من النعيم أكل العسل والسمن بالخبز النقي. وقول مجاهد هذا أشمل هذه الأقوال.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } قال : النعيم : صحة الأبدان والأسماع والأبصار ، يسأل الله العباد فيما استعملوها ، وهو أعلم بذلك منهم ، وهو قوله تعالى : { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا } [الإسراء : 36].
وثبت في صحيح البخاري ، وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه ، من حديث عبد الله بن سعيد ابن أبي هند ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3358) وصحيح ابن حبان برقم (7320) "الإحسان".
(2) زيادة من أ.
(3) سنن الترمذي برقم (3356) وسنن ابن ماجة برقم (4158).
(4) المسند (1/174).
(5) زيادة من أ.
(6) ورواه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد برقم (855) من طريق محمد بن سليمان الأصبهاني ، به.

(8/477)


"نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ" (1).
ومعنى هذا : أنهم مقصرون في شكر هاتين النعمتين ، لا يقومون بواجبهما ، ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه ، فهو مغبون.
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا القاسم بن محمد بن يحيى المروزي ، حدثنا علي بن الحسن ابن شقيق ، حدثنا أبو حمزة ، عن ليث ، عن أبي فزارة ، عن يزيد بن الأصم ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما فوق الإزار ، وظل الحائط ، وخُبْز ، يحاسب به العبد يوم القيامة ، أو يسأل عنه" (2) ثم قال : لا نعرفه إلا بهذا الإسناد.
وقال الإمام أحمد : حدثنا بهز وعفان قالا حدثنا حماد - قال عفان في حديثه : قال إسحاق ابن عبد الله ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يقول الله ، عز وجل - قال عفان : يوم القيامة - : يا بن آدم ، حملتك على الخيل والإبل ، وزوجتك النساء ، وجعلتك تَرْبَع (3) وترأس ، فأين شكر ذلك ؟ " (4) تفرد به من هذا الوجه.
آخر تفسير سورة "التكاثر" (5) [ولله الحمد والمنة] (6)
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6412) وسنن الترمذي برقم (2304) وسنن ابن ماجة برقم (4170).
(2) مسند البزار برقم (3643) "كشف الأستار" وليث بن أبي سليم ضعيف.
(3) في أ : "ترتع".
(4) المسند (2/492).
(5) في م : "ألهاكم".
(6) زيادة من أ.

(8/478)


تفسير سورة العصر
وهي مكية.
ذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب [لعنه الله] (1) وذلك بعد ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أن يسلم عمرو ، فقال له مسيلمة : ماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة ؟ قال (2) لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة. فقال : وما هي ؟ فقال : " وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ " ففكر مسيلمة هُنَيهة ثم قال : وقد أنزل علي مثلها. فقال له عمرو : وما هو ؟ فقال : يا وَبْر يا وَبْر ، إنما أنت أذنان وصَدْر ، وسائرك حفز نَقْز. ثم قال : كيف ترى يا عمرو ؟ فقال له عمرو : والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب (3)
وقد رأيت أبا بكر الخرائطي أسند (4) في كتابه المعروف ب "مساوى الأخلاق" ، في الجزء الثاني منه ، شيئًا من هذا أو قريبا منه (5).
والوبْر : دويبة تشبه الهر ، أعظم شيء فيه أذناه ، وصدره وباقيه دميم. فأراد مسيلمة أن يركب من هذا الهذيان ما يعارض به القرآن ، فلم يرج ذلك على عابد الأوثان في ذلك الزمان.
وذكر الطبراني من طريق حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن عبد الله بن حصن[أبي مدينة] ، قال : كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا ، لم يتفرقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر "سورة العصر" إلى آخرها ، ثم يسلم أحدهما على الآخر (6).
وقال الشافعي ، رحمه الله : لو تدبر الناس هذه السورة ، لوسعتهم.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في م : "فقال".
(3) وفي صحة هذه القصة نظر ؛ فإن إسلام عمرو بن العاص متقدم على تنبئ مسيلمة ، فإن مسيلمة الكذاب تنبأ سنة عشر من الهجرة ، وكان قد وفد على النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه سنة عشرة من الهجرة ، كما في السيرة النبوية لابن هشام (3/74). وعمرو بن العاص أسلم سنة ثمان على الأصح كما في الإصابة للحافظ ابن حجر (3/2). ثم وقفت على ما نقله الحافظ ابن حجر في الإصابة (3/225) : أن عمرا بن العاص أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البحرين وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو هناك وأنه مر على مسيلمة وأنه أعطاه الأمان ثم قال له : إن محمدا أرسل في جسيم الأمر وأرسلت في المحقرات.. فذكر نحو القصة ، وعزاه لابن شاهين في الصحابة ، فعلى هذا يكون ما جاء هنا بعد إسلام عمرو بن العاص وليس قبل إسلامه ، والله أعلم.
(4) في أ : "استدل".
(5) لم أقف عليه في المطبوع من مساوئ الأخلاق ، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن ابن شاهين وصل هذه القصة من طريق الليث عن خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال : "أن قرة بن هبيرة قدم على رسول الله... ثم ذكر أن رسول الله أرسل عمرا إلى البحرين ، فذكر نحو القصة". انظر : الإصابة (3/225).
(6) المعجم الأوسط برقم (5097) "مجمع البحرين".

(8/479)


وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)

بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) }
العصر : الزمان الذي يقع فيه حركات بني آدم ، من خير وشر.
وقال مالك ، عن زيد بن أسلم : هو العشى ، والمشهور الأول.
فأقسم تعالى بذلك على أن الإنسان لفي خسر ، أي : في خسارة وهلاك ، { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } فاستثنى من جنس الإنسان عن الخسران الذين آمنوا بقلوبهم ، وعملوا الصالحات بجوارحهم ، { وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ } وهو أداء الطاعات ، وترك المحرمات ، { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } على المصائب والأقدار ، وأذى من يؤذى ممن يأمرونه بالمعروف وينهونه عن المنكر. آخر تفسير سورة "العصر" ولله الحمد والمنة

(8/480)


وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)

تفسير سورة ويل لكل همزة لمزة
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) }
الهماز : بالقول ، واللماز : بالفعل. يعني : يزدري بالناس (1) وينتقص بهم. وقد تقدم بيان ذلك في قوله : { هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ } [القلم : 11].
قال ابن عباس : { هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ } طعان معياب. وقال الربيع بن أنس : الهُمَزة ، يهمزه في وجه ، واللمزة (2) من خلفه. وقال قتادة : يهمزه ويلمزه بلسانه وعينه ، ويأكل لحوم الناس ، ويطعنُ عليهم.
وقال مجاهد : الهمزة : باليد والعين ، واللمزةُ : باللسان. وهكذا قال ابن زيد. وقال مالك ، عن زيد بن أسلم : هُمَزة لحوم الناس.
ثم قال بعضهم : المراد بذلك الأخنس بن شريق. وقيل غيره. وقال مجاهد : هي عامة.
وقوله : { الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ } أي : جمعه (3) بعضه على بعض ، وأحصى عدده كقوله : { وَجَمَعَ فَأَوْعَى } [المعارج : 18] قاله السدي ، وابن جرير.
وقال محمد بن كعب في قوله : { جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ } ألهاه ماله بالنهار ، هذا إلى (4) هذا ، فإذا كان الليل ، نام كأنه جيفة.
وقوله : { يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ } أي : يظن أن جمعه المال يخلده في هذه الدار ؟ { كَلا } أي : ليس الأمر كما زعم ولا كما حسب. ثم قال تعالى : { لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ } أي : ليلقين هذا الذي جمع مالا فعدده (5) في الحطمة وهي اسم من أسماء النار صفة ؛ لأنها تحطم من فيها.
ولهذا قال : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأفْئِدَةِ } قال ثابت البناني : تحرقهم إلى الأفئدة وهم أحياء ، ثم يقول : لقد بلغ منهم العذاب ، ثم يبكي.
__________
(1) في م : "على الناس".
(2) في م : "ولمزه".
(3) في م : "أي جمع".
(4) في م : "في".
(5) في م : "فعده".

(8/481)


وقال محمد بن كعب : تأكل كل شيء من جسده ، حتى إذا بلغت فؤاده حَذْوَ حلقه ترجع على جسده.
وقوله : { إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ } أي : مطبقة كما تقدم تفسيره في سورة البلد.
وقال ابن مَرْدُويه : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا علي بن سراج ، حدثنا عثمان بن خَرزَاذ ، حدثنا شجاع بن أشرس ، حدثنا شريك ، عن عاصم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : { إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ } قال : "مطبقة".
وقد رواه أبو بكر بن أبي شيبة ، عن عبد الله بن أسيد ، عن إسماعيل بن خالد (1) عن أبي صالح ، قوله ، ولم يرفعه.
{ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ } قال عطية العوفي : عمد من حديد. وقال السُّدِّي : من نار. وقال شبيب بن بشر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ } يعني : الأبواب هي الممدوة (2).
وقال قتادة في قراءة عبد الله بن مسعود : إنها عليهم مؤصدة بعمد ممدة.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : أدخلهم في عمد فمدت عليهم بعماد ، وفي أعناقهم السلاسل فسدت بها الأبواب.
وقال قتادة : كنا نحدث أنهم يعذبون بعمد في النار. واختاره ابن جرير.
وقال أبو صالح : { فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ } يعني القيود الطوال. آخر تفسير سورة "ويل لكل همزة لمزة"
__________
(1) في أ : "إسماعيل بن أبي خالد".
(2) في أ : "هي الممددة".

(8/482)


أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)

تفسير سورة الفيل
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) }
هذه من النعم التي امتن الله بها على قريش ، فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل ، الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة ومحو أثرها من الوجود ، فأبادهم الله ، وأرغم آنافهم ، وخيب سعيهم ، وأضل عملهم ، وَرَدهم بشر خيبة. وكانوا قوما نصارى ، وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالا مما كان عليه قريش من عبادة الأوثان. ولكن كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال ، ولسان حال القدر يقول : لم ننصركم - يا معشر قريش - على الحبشة لخيريتكم عليهم ، ولكن صيانة للبيت العتيق الذي سنشرفه ونعظمه ونوقره ببعثة النبي الأمي محمد ، صلوات الله وسلامه عليه (1) خاتم الأنبياء.
وهذه قصة أصحاب الفيل على وجه الإيجاز والاختصار والتقريب ، قد تقدم في قصة أصحاب الأخدود (2) أن ذا نُوَاس - وكان آخر ملوك حمير ، وكان مشركًا - هو الذي قتل أصحاب الأخدود ، وكانوا نصارى ، وكانوا قريبًا من عشرين ألفًا ، فلم يفلت منهم إلا دَوس ذو ثعلبان ، فذهب فاستغاث بقيصر ملك الشام - وكان نصرانيًا - فكتب له إلى النجاشي ملك الحبشة ؛ لكونه أقرب إليهم ، فبعث معه أميرين : أرياط وأبرهة بن الصباح أبا يكسوم (3) في جيش كثيف ، فدخلوا اليمن فجاسوا خلال الديار ، واستلبوا الملك من حمير ، وهلك ذو نواس غريقا في البحر. واستقل الحبشة بملك اليمن وعليهم هذان الأميران : أرياط وأبرهة ، فاختلفا في أمرهما وتصاولا وتقاتلا وتصافا ، فقال أحدهما للآخر : إنه لا حاجة بنا إلى اصطدام الجيشين بيننا ، ولكن أبرز إلي وأبرز إليك ، فأينا قتل الآخر ، استقل بعده بالملك. فأجابه إلى ذلك فتبارزا ، وخَلَفَ كل واحد منهما قناة ، فحمل أرياط على أبرهة فضربه بالسيف ، فشرم أنفه وفمه وشق وجهه ، وحمل عَتَوْدَة مولى أبرهة على أرياط فقتله ، ورجع أبرهة جريحًا ، فداوى جرحه فَبَرأ ، واستقل بتدبير جيش الحبشة باليمن. فكتب (4) إليه النجاشي يلومه على ما كان منه ، ويتوعده ويحلف ليطأن بلاده ويجزن ناصيته. فأرسل إليه أبرهة يترقق له ويصانعه ، وبعث مع رسوله بهدايا وتحف ، وبجراب فيها من تراب اليمن ، وجز ناصيته فأرسلها معه ، ويقول في كتابه : ليطأ الملك على هذا الجراب فيبر قسمه ،
__________
(1) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(2) عند تفسير الآية : 4 من سورة البروج.
(3) في أ : "أبا بكشوم".
(4) في أ : "فأرسل".

(8/483)


وهذه ناصيتي قد بعثت بها إليك. فلما وصل ذلك إليه أعجبه منه ، ورضي عنه ، وأقره على عمله. وأرسل أبرهة يقول للنجاشي : إني سأبني لك كنيسة بأرض اليمن لم يُبْنَ قبلها مثلها. فشرع في بناء كنيسة هائلة بصنعاء ، رفيعة البناء ، عالية الفناء ، مزخرفة الأرجاء. سمتها العرب القُلَّيس ؛ لارتفاعها ؛ لأن الناظر إليها تكاد تسقط قلنسوته عن رأسه من ارتفاع بنائها. وعزم أبرهة الأشرمُ على أن يصرف حَجّ العرب إليها كما يُحَج إلى الكعبة بمكة ، ونادى بذلك في مملكته ، فكرهت العرب العدنانية والقحطانية ذلك ، وغضبت قريش لذلك غضبًا شديدًا ، حتى قصدها بعضهم ، وتوصل إلى أن دخلها ليلا. فأحدث فيها وكرّ راجعًا. فلما رأى السدنة ذلك الحدث ، رفعوا أمرهم إلى ملكهم أبرهة ، وقالوا له : إنما صنع هذا بعض قريش غضبًا لبيتهم الذي ضاهيت هذا به ، فأقسم أبرهة ليسيرن إلى بيت مكة ، وليخربنه حجرًا حجرًا.
وذكر مقاتل بن سليمان أن فتية من قريش دخلوها فأججوا فيها نارًا ، وكان يومًا فيه هواء شديد فأحرقته ، وسقطت إلى الأرض.
فتأهب أبرهة لذلك ، وصار في جيش كثيف عَرَمرم ؛ لئلا يصده أحد عنه ، واستصحب معه فيلا عظيما كبير الجثة لم ير مثله ، يقال له : محمود ، وكان قد بعثه إليه النجاشي ملك الحبشة لذلك. ويقال : كان معه أيضًا ثمانية أفيال. وقيل : اثنا عشر فيلا. وقيل غيره ، والله أعلم. يعني ليهدم به الكعبة ، بأن يجعل السلاسل في الأركان ، وتوضع في عُنُق الفيل ، ثم يزجر ليلقي الحائط جملة واحدة. فلما سمعت العرب بمسيره أعظموا ذلك جدًا ، ورأوا أن حقًا عليهم المحاجبة (1) دون البيت ، وَرَد من أراده بكيد. فخرج إليه رجل [كان] (2) من أشراف أهل اليمن وملوكهم ، يقال له "ذو نَفْر" فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة ، وجهاده عن بيت الله ، وما يريد من هدمه وخرابه. فأجابوه وقاتلوا أبرهة ، فهزمهم لما يريده الله ، عز وجل ، من كرامة البيت وتعظيمه ، وأسر "ذو نُفْر" فاستصحبه معه. ثم مضى لوجهه حتى إذا كان بأرض خثعم ، عَرَض له نُفَيل بن حَبيب الخَشْعمي في قومه : شهران وناهس ، فقاتلوه ، فهزمهم أبرهة ، وأسر نُفَيل بن حبيب ، فأراد قتله ثم عفا عنه ، واستصحبه معه ليدله في بلاد الحجاز. فلما اقترب من أرض الطائف ، خرج إليه أهلها ثقيف وصانعوه خيفة على بيتهم ، الذي عندهم ، الذي يسمونه اللات. فأكرمهم وبعثوا معه "أبا رغَال" دليلا. فلما انتهى أبرهة إلى المُغَمْس - وهو قريب من مكة - نزل به وأغار جيشه على سَرْح أهل مكة من الإبل وغيرها ، فأخذوه. وكان في السرح (3) مائتا بعير لعبد المطلب. وكان الذي أغار على السرح بأمر أبرهة أمير المقدمة ، وكان يقال له : "الأسود بن مفصود" فهجاه بعض العرب - فيما ذكره ابن إسحاق (4) - وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة ، وأمره أن يأتيه بأشرف قريش ، وأن يخبره أن الملك لم يجئ لقتالكم إلا أن تَصُدوه عن البيت. فجاء حناطة فَدُل على عبد المطلب بن هاشم وبلغه عن أبرهة ما قال ، فقال له عبد المطلب : والله ما نريد حربه ، وما لنا بذلك من طاقة ، هذا بيت الله الحرام ، وبيت خليله إبراهيم ، فإن يمنعه منه فهو بيته
__________
(1) في أ : "المحاجة".
(2) زيادة من م ، أ.
(3) في أ : "في السراح".
(4) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/51).

(8/484)


وحرمه ، وإن يخلى بينه وبينه ، فوالله ما عندنا دَفْع عنه. فقال له حناطة : فاذهب معي إليه. فذهب معه ، فلما رآه أبرهة أجله ، وكان عبد المطلب رجلا جميلا حسن المنظر ، ونزل أبرهة عن سريره ، وجلس معه على البساط ، وقال لترجمانه : قل له : حاجتك ؟ فقال للترجمان : إن حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي. فقال أبرهة لترجمانه : قل له : لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زَهِدت فيك حين كلمتني ، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك ، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئتُ لهدمه ، لا تكلمني فيه ؟! فقال له عبد المطلب : إني أنا رب الإبل ، وإن للبيت ربا سيمنعه. قال : ما كان ليمتنع مني! قال : أنت وذاك.
ويقال : إنه ذهب مع عبد المطلب جماعة من أشراف العرب فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عن البيت ، فأبى عليهم ، ورد أبرهة على عبد المطلب إبله ، ورجع عبد المطلب إلى قريش فأمرهم بالخروج من مكة ، والتحصن في رءوس الجبال ، تخوفا عليهم من معرة الجيش. ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده ، وقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة :
لاهُمَّ (1) إنَّ المرء يمـ... نَعُ رَحْلَه فامْنع حِلالَك...
لا يغلبنَّ صَلِيبُهم... ومحَالُهم غدوًا مِحَالك...
قال ابن إسحاق : ثم أرسل عبد المطلب حَلْقة الباب ، ثم خرجوا إلى رءوس الجبال (2).
وذكر مقاتل بن سليمان أنهم تركوا عند البيت مائة بدنة مُقَلَّدة ، لعل بعض الجيش (3) ينال منها شيئا بغير حق ، فينتقم الله منه.
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة ، وهيأ فيله - وكان اسمه محمودًا - وعبأ جيشه ، فلما وجهوا الفيل نحو مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى.
جنبه ثم أخذ بأذنه وقال ابرك محمود وارجع راشدا من حيث جئت ، فإنك في بلد الله الحرام". ثم أرسل أذنه ، فبرك الفيل. وخرج نفيل بن حبيب يَشتد حتى أصعد في الجبل. وضربوا الفيل ليقوم فأبى. فضربوا في رأسه بالطْبرزين (4) وأدخلوا محاجن لهم في مَرَاقه فبزغوه بها ليقوم ، فأبى ؛ فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول. ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك. ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ووجهوه إلى مكة فبرك. وأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان.
مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها : حجر في منقاره ، وحجران في رجليه ، أمثال الحمص والعدس ، لا تصيب منهم أحدًا إلا هلك ، وليس كلهم أصابت. وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق ، ويسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق هذا. ونفيل على رأس الجبل مع قريش وعرب الحجاز ، ينظرون ماذا أنزل الله بأصحاب الفيل من النقمة ، وجعل نفيل يقول :
__________
(1) في أ : "اللهم".
(2) انظر : السيرة النبوية لبن هشام (1/52).
(3) في م ، أ : "بعض الحبشة".
(4) في أ : "بالطورين من الآلات".

(8/485)


أينَ المَفَرُّ? والإلهُ الطَّالب (1) والأشرمُ المغلوبُ غير الغالب (2)
قال ابن إسحاق : وقال نُفَيل في ذلك أيضًا :
ألا حُييت عَنا يا رُدَينا... نَعمْنا كُم مَعَ الأصبَاح عَينَا...
رُدَينةُ لو رأيت - ولا تَرَيْه... لَدَى جَنْب المحصّب - ما رَأينَا...
إذا لَعَذَرتني وَحَمَدت أمْري... وَلَم تأسى عَلَى مَا فات بَيْنَا...
حَمِدتُ الله إذ أبصَرتُ طيرًا... وَخفْتُ حَجارة تُلقَى عَلَينا...
فَكُلّ القوم يَسألُ عَن نُفَيل... كَأنَّ عليَ للحُبْشَان دَينَا!...
وذكر الواقدي بأسانيده أنهم لما تعبئوا لدخول الحرم وهيئوا الفيل ، جعلوا لا يصرفونه إلى جهة من سائر الجهات إلا ذهب [فيها] (3) فإذا وجهوه إلى الحرم رَبَض وصاح. وجعل أبرهة يحمل على سائس الفيل وينهره ويضربه ، ليقهر الفيل على دخول الحرم. وطال الفصل في ذلك. هذا وعبد المطلب وجماعة من أشراف مكة ، منهم (4) المطعم بن عدي ، وعمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم ، ومسعود [بن عمرو] (5) الثقفي ، على حراء ينظرون إلى ما الحبشة يصنعون ، وماذا يلقون من أمر الفيل ، وهو العجب العجاب. فبينما هم كذلك ، إذ بعث الله عليهم طيرًا أبابيل ، أي قَطَعًا قِطَعًا صفرا دون الحمام ، وأرجلها حمر ، ومع كل طائر ثلاث أحجار ، وجاءت فحلقت عليهم ، وأرسلت تلك الأحجار عليهم فهلكوا.
وقال محمد بن كعب : جاءوا بفيلين فأما محمود فَرَبض ، وأما الآخر فَشَجُع (6) فحُصِب.
وقال وهب بن مُنَبِّه : كان معهم فيلة ، فأما محمود - وهو فيل الملك - فربض ، ليقتدي به بقية الفيلة ، وكان فيها فيل تَشَجَّع فحصب ، فهربت بقية الفيلة.
وقال عطاء بن يَسَار ، وغيره : ليس كلهم أصابه العذاب في الساعة الراهنة ، بل منهم من هلك سريعًا ، ومنهم من جعل يتساقط عضوًا عضوًا وهم هاربون ، وكان أبرهة ممن يتساقط عضوًا عضوًا ، حتى مات ببلاد خثعم.
قال ابن إسحاق : فخرجوا يتساقطون بكل طريق ، ويهلكون على كل منهل (7) وأصيب أبرهة في جسده ، وخرجوا به معهم يسقط أنْمُلة أنْمُلة ، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر ، فما مات حتى انصدع صدره عن (8) قلبه فيما يزعمون.
وذكر مقاتل بن سليمان : أن قريشًا أصابوا مالا جزيلا من أسلابهم ، وما كان معهم ، وأن عبد المطلب أصاب يومئذ من الذهب ما ملأ حفرة.
__________
(1) في م : "الغالب".
(2) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/53) وتفسير الطبري (30/196).
(3) زيادة من م ، أ.
(4) في م ، أ : "فيهم".
(5) زيادة من م ، أ.
(6) في أ : "فخشع".
(7) في م : "كل سهل".
(8) في أ : "من".

(8/486)


وقال ابن إسحاق : وحدثني يعقوب بن عُتْبَة : أنه حدث (1) أن أول ما رؤيت الحَصبة والجُدري بأرض العرب ذلك العام ، وأنه أول ما رؤي به مَرائر الشجر الحَرْمل ، والحنظل والعُشر ، ذلك العام (2).
وهكذا روي عن عكرمة ، من طريق جيد.
قال ابن إسحاق : فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم كان فيما يَعُد به على قريش من نعْمتَه (3) عليهم وفضله ، ما رَدَّ عنهم من أمر الحبشة ، لبقاء أمرهم ومدتهم ، فقال : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } { لإيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } [سورة قريش] أي : لئلا يغير شيئا من حالهم التي كانوا عليها ، لما أراد الله بهم من الخير لو قبلوه.
قال ابن هشام : الأبابيل الجماعات ، ولم تتكلم العرب بواحدة. قال : وأما السجيل ، فأخبرني يونس النحوي وأبو عبيدة أنه عند العرب : الشديد الصلب. قال : وذكر بعض المفسرين أنهما كلمتان بالفارسية ، جعلتهما العرب كلمة واحدة ، وإنما هو سنج وجل يعني بالسنج : الحجر ، والجل : الطين. يقول : الحجارة من هذين الجنسين : الحجر والطين. قال : والعصفُ : ورقُ الزرع الذي لم يُقضب ، واحدته عصفه. انتهى ما ذكره (4).
وقد قال حماد بن سلمة : عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله - وأبو سلمة بن عبد الرحمن - : { طَيْرًا أَبَابِيلَ } قال : الفرق (5).
وقال ابن عباس ، والضحاك : أبابيل يتبع بعضها بعضًا. وقال الحسن البصري ، وقتادة : الأبابيل : الكثيرة. وقال مجاهد : أبابيل : شتى متتابعة مجتمعة. وقال ابن زيد : الأبابيل : المختلفة ، تأتي من هاهنا ، ومن هاهنا ، أتتهم من كل مكان.
وقال الكسائي : سمعت [النحويين يقولون : أبول مثل العجول. قال : وقد سمعت] (6) بعض النحويين يقول : واحد الأبابيل : إبيل.
وقال ابن جرير : [حدثنا ابن المثنى] (7) حدثني عبد الأعلى ، حدثني داود ، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل ؛ أنه قال في قوله : { وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ } هي : الأقاطيع ، كالإبل المؤبلة.
__________
(1) في أ : "أنه حدثه".
(2) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/54).
(3) في أ : "من بعثه".
(4) السيرة النبوية لابن هشام (1/55).
(5) في أ : "الغرق".
(6) زيادة من تفسير الطبري (30/191).
(7) زيادة من تفسير الطبري (30/191).

(8/487)


وحدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن ابن عباس : { وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ } قال : لها خراطيم كخراطيم الطير ، وأكف كأكف الكلاب.
وحدثنا يعقوب ، حدثنا هشيم ، أخبرنا حصين عن عكرمة في قوله : { طَيْرًا أَبَابِيلَ } قال : كانت طيرًا خضرا خرجت من البحر ، لها رءوس كرءوس السباع.
وحدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن مهدي ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن عبيد ابن عمير : { طَيْرًا أَبَابِيلَ } قال : هي طير (1) سود بحرية ، في منقارها (2) وأظافيرها الحجارة.
وهذه أسانيد صحيحة.
وقال سعيد بن جبير : كانت طيرًا خضرا لها مناقير صفر ، تختلف عليهم.
وعن ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء : كانت الطير الأبابيل مثل التي يقال لها عنقاء مُغْرب. رواه عنهم ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن عبيد بن عمير ، قال : لما أراد الله أن يهلك أصحاب الفيل ، بعث عليهم طيرا أنشئت من البحر ، أمثال الخطاطيف. كل طير منها تحمل ثلاثة أحجار مجزعة : حجرين في رجليه وحجرا في منقاره. قال : فجاءت حتى صفت على رءوسهم ، ثم صاحت وألقت ما في أرجلها ومناقيرها ، فما يقع حجر على رأس رجل إلا خرج من دبره ، ولا يقع على شيء من جسده إلا وخرج من الجانب الآخر. وبعث الله ريحا شديدة فضربت الحجارة فزادتها شدة فأهلكوا جميعا.
وقال السُّدِّي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ } قال : طين في حجارة : "سنك - وكل" وقد قدمنا بيان ذلك بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقوله : { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } قال سعيد بن جبير : يعني التبن الذي تسميه العامة : هبور. وفي رواية عن سعيد : ورق الحنطة. وعنه أيضا : العصف : التبن. والمأكول : القصيل يجز للدواب. وكذلك قال الحسن البصري.
وعن ابن عباس : العصف : القشرة التي على الحبة ، كالغلاف على الحنطة.
وقال ابن زيد : العصف : ورق الزرع ، وورق البقل ، إذا أكلته البهائم فراثته ، فصار درينا (3).
والمعنى : أن الله ، سبحانه وتعالى ، أهلكهم ودمرهم ، وردهم بكيدهم وغيظهم لم ينالوا خيرًا ، وأهلك عامتهم ، ولم يرجع منهم بخير إلا وهو جريح ، كما جرى لملكهم أبرهة ، فإنه انصدع صدره عن قلبه حين وصل إلى بلده صنعاء ، وأخبرهم بها (4) جرى لهم ، ثم مات. فملك بعده ابنه
__________
(1) في م : "هي طيور".
(2) في أ : "في مناقيرها".
(3) في م : "دوثا".
(4) في م : "بما".

(8/488)


يكسوم ، ثم من بعده أخوه مسروق بن أبرهة (1) ثم خرج سيف بن ذي يَزَن الحميري إلى كسرى فاستغاثه (2) على الحبشة ، فأنفذ معه من جيوشه فقاتلوا معه ، فرد الله إليهم ملكهم ، وما كان في آبائهم من الملك ، وجاءته وفود العرب للتهنئة.
وقد قال محمد بن إسحاق : حدثنا عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة ، عن عائشة قالت : لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مُقْعَدَين ، يستطعمان (3) ورواه الواقدي ، عن عائشة مثله. ورواه أيضا عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت : كانا مقعدين يستطعمان الناس ، عند إساف ونائلة ، حيث يذبح المشركون ذبائحهم.
قلت : كان اسم قائد الفيل : أنيسا.
وقد ذكر الحافظ أبو نعيم في كتاب "دلائل النبوة" من طريق ابن وهب ، عن ابن لَهِيعة عن عقيل بن خالد ، عن عثمان بن المغيرة قصة أصحاب الفيل ، ولم يذكر أن أبرهة قدم من اليمن ، وإنما بعث على الجيش رجلا يقال له : شمر بن مفصود ، وكان الجيش عشرين ألفًا ، وذكر أن الطير طرقتهم ليلا فأصبحوا صرعى.
وهذا السياق غريب جدًا ، وإن كان أبو نعيم قد قواه ورجحه على غيره. والصحيح أن أبرهة الأشرم الحبشي قدم مكة كما دل على ذلك السياقات والأشعار. وهكذا روى ابن لَهِيعة ، عن الأسود ، عن عُرْوَة : أن أبرهة بعث الأسود بن مفصود على كتيبة معهم الفيل ، ولم يذكر قدوم أبرهة نفسه ، والصحيح قدومه ، ولعل ابن مقصود كان على مقدمة الجيش ، والله أعلم.
ثم ذكر ابن إسحاق شيئًا من أشعار العرب ، فيما كان من قصة أصحاب الفيل ، فمن ذلك شعر عبد الله بن الزبعرى :
تَنَكَّلُوا عن بطن مَكَّةَ إنها... كانتْ قديمًا لا يُرَام حَريمها...
لم تُخلَق الشِّعرَى ليالي حُرّمتْ... إذ لا عزيزَ من الأنام يَرُومها...
سائل أميرَ الجيش عنها ما رَأى?... فلسوفَ يُنبي الجاهلين عليمها...
ستونَ ألفًا لم يؤوبوا أرَضهم... بل لم يعش بعد الإياب سقيمها...
كانتْ بها عادٌ وجُرْهُم قبلهم... واللهُ من فوق العباد يُقيمها (4)
وقال أبو قيس (5) بن الأسلت الأنصاري المري : (6)
__________
(1) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/61 ، 62).
(2) في م : "فاستعانه".
(3) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/57).
(4) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/58).
(5) في م : "أبو القيس".
(6) في م ، أ : "المدني".

(8/489)


ومن صُنْعه يوم فيل الحُبُو... ش ، إذ كل ما بَعَثُوه رَزَمْ...
محاجنهم تحت أقرابه... وقد شَرَموا أنفه فانخرم...
وقد جعلوا سوطه مغولا... إذا يَمَّمُوه قَفَاه كُليم...
فَسوَّل (1) أدبر أدراجه... وقد باء بالظلم من كان ثمَّ...
فأرسل من فوقهم حاصبًا... يَلُفهُم مثْلَ لَفُ القزُم...
تحث على الصَّبر أحبارُهم... وَقَد ثأجُوا كَثؤاج الغَنَم...
وقال أبو الصلت بن أبي ربيعة الثقفي ، ويروى لأمية بن أبي الصلت بن أبي ربيعة :
إن آيات رَبِّنا بَاقياتٌ... مَا يُمَاري فيهنَّ إلا الكفورُ...
خُلِقَ الليلُ والنهارُ فَكُلّ... مستبينٌ حسابُه مَقْدُورُ...
ثمَّ يجلو النَّهارَ ربٌ رحيمٌ... بمهاة شُعَاعها منشورُ...
حُبِسَ الفيلُ بالمُغمَّس حَتَّى... صار يَحْبُو ، كأنه معقورُ...
لازمًا حلقُه الجرانَ كما قُطِّر... من ظَهْر كَبْكَب مَحدُورُ...
حَوله من مُلُوك كِندةَ أبطالُ... ملاويثُ في الحُرُوب صُقُورُ...
خَلَّفُوه ثم ابذَعرّوا جَميعًا ، ... كُلَّهم عَظْمُ ساقه مَكْسُورُ...
كُلّ دين يَومَ القِيَامة عندَ الـ... له إلا دِينُ الحَنِيفَة بورُ...
وقد قدمنا في تفسير "سورة الفتح" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أطل يوم الحديبية على الثنية التي تهبط به على قريش ، بركت ناقته ، فزجروها فألحَّت ، فقالوا : خلأت القصواء ، أي : حَرَنت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل" ثم قال : "والذي نفسي بيده ، لا يسألوني اليوم خطة يُعَظمون فيها حُرُمات الله ، إلا أجبتهم إليها". ثم زجرها فقامت. والحديث من أفراد البخاري (2).
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة : "إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسَلَّط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب" (3). آخر تفسير سورة "الفيل".
__________
(1) في م ، أ : "فولى و".
(2) تقدم تخريج هذا الحديث عند تفسير الآية : 26 من سورة الفتح ، وهو في صحيح البخاري برقم (2731 ، 2732).
(3) صحيح البخاري برقم (112) وصحيح مسلم برقم (1355) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.

(8/490)


لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)

تفسير سورة لإيلاف قريش
وهي مكية.
ذكر حديث غريب في فضلها : قال البيهقي في كتاب "الخلافيات" : حدثنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا بكر بن محمد بن حمدان الصيرفي بمرو ، حدثنا أحمد بن عُبَيد الله النرسي (1) حدثنا يعقوب بن محمد الزهري ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن ثابت بن شرحبيل ، حدثني عثمان بن عبد الله [بن] (2) أبي عتيق ، عن سعيد بن عمرو بن جعدة بن هبيرة ، عن أبيه ، عن جدته أم هانئ بنت أبي طالب ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "فضل الله قريشًا بسبع خلال : أني منهم (3) وأن النبوة فيهم ، والحجابة ، والسقاية فيهم ، وأن الله نصرهم على الفيل ، وأنهم عبدوا الله ، عز وجل ، عشر سنين لا يعبده غيرهم ، وأن الله أنزل فيهم سورة من القرآن" ثم تلاها رسول الله : بسم الله الرحمن الرحيم " لإيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ". (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
{ لإيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) }
هذه السورة مفصولة عن التي قبلها في المصحف الإمام ، كتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم وإن كانت متعلقة بما قبلها. كما صرح بذلك محمد بن إسحاق وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ؛ لأن المعنى عندهما : حبسنا عن مكة الفيل وأهلكنا أهله { لإيلافِ قُرَيْشٍ } أي : لائتلافهم واجتماعهم في بلدهم آمنين.
وقيل : المراد بذلك ما كانوا يألفونه من الرحلة في الشتاء إلى اليمن ، وفي الصيف إلى الشام في المتاجر وغير ذلك ، ثم يرجعون إلى بلدهم آمنين في أسفارهم ؛ لعظمتهم عند الناس ، لكونهم سكان حرم الله ، فمن عَرَفهم احترمهم ، بل من صوفي إليهم وسار معهم أمن بهم. هذا (5) حالهم في أسفارهم ورحلتهم في شتائهم وصيفهم. وأما في حال إقامتهم في البلد ، فكما قال الله : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [العنكبوت : 67] ولهذا قال : { لإيلافِ قُرَيْشٍ } بدل من الأول ومفسر له. ولهذا قال : { إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ }
__________
(1) في م ، أ ، هـ : "الزينبي" وهو خطأ.
(2) زيادة من م ، أ.
(3) في أ : "أني فيهم".
(4) ورواه البيهقي في مناقب الشافعي (1/34) وهو في المستدرك (2/536) وقال الحاكم : "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ، وتعقبه الذهبي فقال : "فيه يعقوب بن محمد الزهري ضعيف ، وإبراهيم صاحب مناكير هذا أنكرها" وقد حسن الحافظ العراقي هذا الحديث. وللشيخ ناصر الدين الألباني مبحث حول هذا الحديث في السلسلة الصحيحة برقم (1944) ذهب إلى تحسينه ، والله أعلم.
(5) في م : "وهذا".

(8/491)


وقال ابن جرير : الصواب أن "اللام" لام التعجب ، كأنه يقول : اعجبوا لإيلاف قريش ونعمتي عليهم في ذلك. قال : وذلك لإجماع المسلمين على أنهما سورتان منفصلتان مستقلتان. (1)
ثم أرشدهم إلى شكر هذه النعمة العظيمة فقال : { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ } أي : فليوحدوه بالعبادة ، كما جعل لهم حرما آمنا وبيتا محرما ، كما قال تعالى : { إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [النمل : 91]
وقوله : { الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ } أي : هو رب البيت ، وهو " الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ " أي : تفضل عليهم بالأمن والرخص (2) فليفردوه بالعبادة وحده لا شريك له ، ولا يعبدوا من دونه صنمًا ولا ندا ولا وثنًا. ولهذا من استجاب لهذا الأمر جَمَع الله له بين أمن الدنيا وأمن الآخرة ، ومن عصاه سلبهما منه ، كما قال تعالى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } [النحل : 112 - 113]
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا عبد الله بن عمرو العَدَني ، حدثنا قَبِيصة ، حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ويل أمكم ، قريش ، لإيلاف قريش" (3) ثم قال :
حدثنا أبي ، حدثنا المؤَمَّل بن الفضل الحراني ، حدثنا عيسى - يعني ابن يونس - عن عُبَيد الله ابن أبي زياد ، عن شهر بن حوشب ، عن أسامة بن زيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف. ويحكم يا معشر قريش ، اعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمكم من جوع وآمنكم من خوف".
هكذا رأيته عن أسامة بن زيد ، وصوابه عن أسماء بنت يزيد بن السكن ، أم سلمة الأنصارية ، رضي الله عنها (4) فلعله وقع غلط في النسخة أو في أصل الرواية ، والله أعلم.
آخر تفسير سورة "لإيلاف قريش".
__________
(1) تفسير الطبري (30/198).
(2) في أ : "والترخص".
(3) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (24/177 ، 178) من طريق قبيصة بن عقبة ، عن سفيان ، به.
(4) وكذا في رواية الإمام أحمد في المسند (6/460) عن علي بن يحيى ، عن عيسى بن يونس ، عن عبد الله بن أبي زياد ، عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(8/492)


أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)

تفسير السورة التي يذكر فيها الماعون
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7) }
يقول تعالى : أرأيت - يا محمد - (1) الذي يكذب بالدين ؟ وهو : المعاد والجزاء والثواب ، { فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ } أي : هو الذي يقهر اليتيم ويظلمه حقه ، ولا يطعمه ولا يحسن إليه ، { وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } كما قال تعالى : { كَلا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } [الفجر : 17 ، 18] يعني : الفقير الذي لا شيء له يقوم بأوده وكفايته.
ثم قال : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ } قال ابن عباس ، وغيره : يعني المنافقين ، الذين يصلون في العلانية ولا يصلون في السر.
ولهذا قال : { لِلْمُصَلِّينَ } أي : الذين هم من أهل الصلاة وقد التزموا بها ، ثم هم عنها ساهون ، إما عن فعلها بالكلية ، كما قاله ابن عباس ، وإما عن فعلها في الوقت المقدر لها شرعا ، فيخرجها عن وقتها بالكلية ، كما قاله مسروق ، وأبو الضحى.
وقال عطاء بن دينار : والحمد لله الذي قال : { عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ } ولم يقل : في صلاتهم ساهون.
وإما عن وقتها الأول فيؤخرونها إلى آخره دائما أو غالبا. وإما عن أدائها بأركانها وشروطها على الوجه المأمور به. وإما عن الخشوع فيها والتدبر لمعانيها ، فاللفظ يشمل هذا كله ، ولكن من اتصف بشيء من ذلك قسط من هذه الآية. ومن اتصف بجميع ذلك ، فقد تم نصيبه منها ، وكمل له النفاق العملي. كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، يجلس يَرْقُب الشمس ، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا" (2) فهذا آخر صلاة العصر التي هي الوسطى ، كما ثبت به النص إلى آخر وقتها ، وهو وقت كراهة ، ثم قام إليها فنقرها نقر الغراب ، لم يطمئن ولا خشع فيها أيضا ؛ ولهذا قال : "لا يذكر الله فيها إلا قليلا ". ولعله إنما حمله على القيام إليها مراءاة الناس ، لا ابتغاء وجه
__________
(1) في م : "يا محمد أرأيت".
(2) صحيح مسلم برقم (622) ولم أقع عليه في صحيح البخاري ، ولم يعزه المزى له في تحفة الأشراف.

(8/493)


الله ، فهو إذًا لم يصل بالكلية. قال تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا } [النساء : 142]. وقال هاهنا : { الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ }
وقال الطبراني : حدثنا يحيى بن عبد الله بن عبدويه (1) البغدادي ، حدثني أبي ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن يونس ، عن الحسن ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن في جهنم لواديا (2) تستعيذ جهنم من ذلك الوادي في كل يوم أربعمائة مرة ، أعد ذلك الوادي للمرائين من أمة محمد : لحامل كتاب الله. وللمصدق في غير ذات الله ، وللحاج إلى بيت الله ، وللخارج في سبيل الله". (3)
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو نُعَيم ، حدثنا الأعمش ، عن عمرو بن مرة قال : كنا جلوسا عند أبي عبيدة فذكروا الرياء ، فقال رجل يكنى بأبي يزيد : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من سَمَّع الناس بعمله ، سَمَّع الله به سامعَ خلقه ، وحَقَّره وصَغَّره". (4)
ورواه أيضا عن غُنْدَر ويحيى القطان ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن رجل ، عن عبد الله ابن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره. (5)
ومما يتعلق بقوله تعالى : { الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ } أن من عمل عملا لله فاطلع عليه الناس ، فأعجبه ذلك ، أن هذا لا يعد رياء ، والدليل على ذلك ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا مخلد بن يزيد ، حدثنا سعيد بن بشير ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : كنت أصلي ، فدخل علي رجل ، فأعجبني ذلك ، فذكرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : "كتب لك أجران : أجر السر ، وأجر العلانية". (6)
قال أبو علي هارون بن معروف : بلغني أن ابن المبارك قال : نعم الحديثُ للمرائين.
وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، وسعيد بن بشير متوسط ، وروايته عن الأعمش عزيزة وقد رواه غيره عنه.
قال أبو يعلى أيضا : حدثنا محمد بن المثنى بن موسى ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أبو سِنان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رجل : يا رسول الله ، الرجل يعمل العمل يَسُرُّه ، فإذا اطُّلعَ عليه أعجبه. قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "له أجران : أجر السر
__________
(1) في م ، أ : "عبد ربه".
(2) في م ، أ : "لواد".
(3) المعجم الكبير (12/175) ، وقال المنذري في الترغيب والترهيب (1/ 67) : "رفع حديث ابن عباس غريب ، ولعله موقوف ، والله أعلم".
(4) المسند (2/212).
(5) المسند (2/162).
(6) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (4949) "مجمع البحرين" ، وقال الطبراني : "لم يروه عن سعيد إلا محمد بن معاذ ، ومحمد بن بكار". وقال الهيثمي في المجمع (10/290) : "رجاله ثقات". قلت : سعيد بن بشير ضعفه الأئمة.

(8/494)


وأجر العلانية". (1)
وقد رواه الترمذي عن محمد بن المثنى ، وابن ماجة عن بُنْدَار ، كلاهما عن أبي داود الطيالسي عن أبي سنان الشيباني (2) - واسمه : ضرار بن مرة. ثم قال الترمذي : غريب ، وقد رواه الأعمش وغيره. عن حبيب عن [النبي صلى الله عليه وسلم] (3) مرسلا.
وقد قال أبو جعفر بن جرير : حدثني أبو كُرَيْب ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن شيبان النحوي عن جابر الجعفي ، حدثني رجل ، عن أبي برزة الأسلمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية : { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ } قال : "الله أكبر ، هذا خير لكم من أن لو أعطي كل رجل منكم مثل جميع الدنيا ، هو الذي إن صلى لم يَرْجُ خير صلاته ، وإن تركها لم يخف ربه". (4)
فيه جابر الجعفي ، وهو ضعيف ، وشيخه مبهم لم يُسَم ، والله أعلم.
وقال ابن جرير أيضا : حدثني زكريا بن أبان المصري ، حدثنا عمرو بن طارق ، حدثنا عِكْرمِة بن إبراهيم ، حدثني عبد الملك بن عمير (5) عن مصعب بن سعد ، عن سعد بن أبي وقاص قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن : { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ } قال : "هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها". (6)
وتأخير الصلاة عن وقتها يحتمل تركها بالكلية ، أو صلاتها بعد وقتها شرعا ، أو تأخيرها عن أول الوقت [سهوا حتى ضاع] (7) الوقت.
وكذا رواه الحافظ أبو يعلى عن شيبان بن فَرُّوخ ، عن عكرمة بن إبراهيم ، به. ثم رواه عن أبي الربيع ، عن جابر ، عن عاصم ، عن مصعب ، عن أبيه موقوفًا (8) وهذا أصح إسنادًا ، وقد ضعف البيهقي (9) رفعه ، وصحح وقفه ، وكذلك الحاكم.
وقوله : { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } أي : لا أحسنوا عبادة ربهم ، ولا أحسنوا إلى خلقه حتى ولا بإعارة ما ينتفع به ويستعان به ، مع بقاء عينه ورجوعه إليهم. فهؤلاء لمنع الزكاة وأنواع القُرُبات أولى وأولى. وقد قال ابن أبي نجيح عن مجاهد : قال علي : الماعون : الزكاة. وكذا رواه السدي ، عن أبي صالح ، عن علي. وكذا روي من غير وجه عن ابن عمر. وبه يقول محمد بن الحنفية ، وسعيد بن جبير ، وعِكْرِمة ، ومجاهد ، وعطاء ، وعطية العوفي ، والزهري ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد.
__________
(1) الحديث في مسند الطيالسي برقم (2430).
(2) سنن الترمذي برقم (2385) ، وسنن ابن ماجة برقم (4226).
(3) في م ، أ ، هـ : "عن أبي صالح" ، والمثبت من تحفة الأحوذي ، مستفادا من هامش. ط الشعب.
(4) تفسير الطبري (30/202).
(5) في أ : "بن عمر".
(6) تفسير الطبري (30/202).
(7) زيادة من م ، أ.
(8) مسند أبي يعلى (2/63).
(9) السنن الكبرى (2/214).

(8/495)


وقال الحسن البصري : إن صلى راءى ، وإن فاتته لم يأس عليها ، ويمنع زكاة ماله وفي لفظ : صدقة ماله.
وقال زيد بن أسلم : هم المنافقون ظهرت الصلاة فصلوها ، وضَمنَت الزكاة فمنعوها.
وقال الأعمش وشعبة ، عن الحكم ، عن يحيى بن الجزار : أن أبا العبيدين سأل عبد الله بن مسعود عن الماعون ، فقال : هو ما يتعاوره الناس بينهم من الفأس ، والقدر ، [والدلو]. (1)
[وقال المسعودي ، عن سلمة بن كُهَيْل ، عن أبي العُبَيدين : أنه سُئِل ابنُ مسعود عن الماعون ، فقال : هو ما يتعاطاه الناس بينهم ، من الفأس والقدر] (2) والدلو ، وأشباه ذلك.
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن أبي العُبَيدين وسعد بن عياض ، عن عبد الله قال : كنا أصحاب رسول الله (3) صلى الله عليه وسلم نتحدث أن الماعون الدلو ، والفأس ، والقدر ، لا يستغنى عنهن.
وحدثنا خلاد بن أسلم ، أخبرنا النضر بن شُمَيْل ، أخبرنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : سمعت سعد بن عياض يحدث عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مثله. (4)
وقال الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الحارث بن سويد ، عن عبد الله أنه سئل عن الماعون ، فقال : ما يتعاوره الناس بينهم : الفأس والدلو وشبهه.
وقال ابن جرير : حدثنا عمرو بن علي الفلاس ، حدثنا أبو داود - هو الطيالسي - حدثنا أبو عَوانَة ، عن عاصم بن بَهْدَلة ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال : كنا مع نبينا صلى الله عليه وسلم ونحن نقول : الماعون : منع الدلو وأشباه ذلك. (5)
وقد رواه أبو داود والنسائي ، عن قتيبة ، عن أبي عوانة بإسناده ، نحوه (6) ولفظ النسائي عن عبد الله قال : كل معروف صدقة ، وكنا (7) نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عاريَّة الدلو والقدر.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله قال : الماعون : العَواري : القدر ، والميزان ، والدلو.
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } يعني : متاع البيت. وكذا قال مجاهد وإبراهيم النَّخعي ، وسعيد بن جبير ، وأبو مالك ، وغير واحد : إنها العاريَّة للأمتعة.
وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد (8) عن ابن عباس : { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } قال : لم يجئ أهلها بعد.
__________
(1) زيادة من م ، أ.
(2) زيادة من م ، أ.
(3) في م : "كنا أصحاب محمد".
(4) تفسير الطبري (30/205).
(5) تفسير الطبري (30 /206).
(6) سنن أبي داود برقم (1657) ، وسنن النسائي الكبرى برقم (11701).
(7) في م : "وكنا".
(8) في م : "ومجاهد".

(8/496)


وقال العوفي عن ابن عباس : { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } قال : اختلف الناس في ذلك ، فمنهم من قال : يمنعون الزكاة. ومنهم من قال : يمنعون الطاعة. ومنهم من قال : يمنعون العارية. رواه ابن جرير. ثم روي عن يعقوب بن إبراهيم ، عن ابن عُلَيَة ، عن ليث بن أبي سليم ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي : الماعون : منع الناس الفأس ، والقدر ، والدلو.
وقال عكرمة : رأس الماعون زكاة المال ، وأدناه.
المنخل والدلو ، والإبرة. رواه ابن أبى حاتم.
وهذا الذي قاله عكرمة حسن ؛ فإنه يشمل الأقوال كلها ، وترجع كلها إلى شيء واحد. وهو ترك المعاونة بمال أو منفعة. ولهذا قال محمد بن كعب : { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } قال : المعروف. ولهذا جاء في الحديث : " كل معروف صدقة".
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وكيع ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري : { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } قال : بلسان قريش : المال.
وروى هاهنا حديثا غريبا عجيبا في إسناده ومتنه فقال :
حدثنا أبي ، وأبو زُرْعَة قالا حدثنا قيس ابن حفص الدارمي ، حدثنا دلهم بن دهثم العجلي ، حدثنا عائذ بن ربيعة النَميري ، حدثني قرة بن دعموص النميري : أنهم وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، ما تعهد إلينا ؟ قال : "لا تمنعون الماعون". قالوا : يا رسول الله ، وما الماعون ؟ قال : "في الحَجَر ، وفي الحديدة ، وفي الماء". قالوا : فأي حديدة ؟ قال : "قدوركم النحاس ، وحديد الفأس الذي تمتهنون به". قالوا : وما الحجر ؟ قال : "قدوركم الحجارة". (1)
غريب جدا ، ورفعه منكر ، وفي إسناده من لا يعرف ، والله أعلم.
وقد ذكر ابنُ الأثير في الصحابة ترجمة "علي النميري" ، فقال : روى ابن قانع بسنده إلى عائذ ابن ربيعة بن قيس النميري ، عن علي بن فلان النميري : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "المسلم أخو المسلم. إذا لقيه حَيَّاه بالسلام ، ويرد عليه ما هو خير منه ، لا يمنع الماعون". قلت : يا رسول الله ، ما الماعون ؟ قال : "الحَجَر ، والحديد ، وأشباه ذلك". (2)
آخر تفسير سورة "الماعون".
__________
(1) ورواه ابن مردويه أيضا ، كما في الدر المنثور (644).
(2) أسد الغابة (3/624).

(8/497)


إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)

تفسير سورة الكوثر
وهي مدنية ، وقيل : مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ (3) }
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن فضيل ، عن المختار بن فُلْفُل ، عن أنس بن مالك قال : أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة ، فرفع رأسه مبتسما ، إما قال لهم وإما قالوا له : لم ضحكت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنه أنزلت عليَّ آنفا سورة". فقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } حتى ختمها ، قال : "هل تدرون ما الكوثر ؟ " ، قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : "هو نهر أعطانيه ربي ، عز وجل ، في الجنة ، عليه خير كثير ، تردُ عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد الكواكب ، يُخْتَلَج العبد منهم فأقول : يا رب ، إنه من أمتي. فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". (1)
هكذا رواه الإمام أحمد بهذا الإسناد الثلاثي ، وهذا السياق.
وقد ورد في صفة الحوض يوم القيامة أنه يَشْخَب فيه ميزابان من السماء عن نهر الكوثر ، وأن عليه آنية عددَ نجوم السماء. وقد روى هذا الحديث مسلم وأبو داود والنسائي ، من طريق محمد بن فضيل ، وعلي بن مُسْهِر ، كلاهما عن المختار بن فُلْفُل ، عن أنس. ولفظ مسلم قال : "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا في المسجد ، إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما ، قلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : "أنزلت علي آنفا سورة" ، فقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ } ثم قال : "أتدرون ما الكوثر ؟" قلنا : الله ورسوله أعلم. قال : "فإنه نهر وَعَدنيه ربي ، عز وجل ، عليه خير كثير ، هو حوض تَرِدُ عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد النجوم (2) فَيختلجُ العبد منهم ، فأقول : رب إنه من أمتي. فيقول : إنك لا تدري ما أحدث بعدك". (3)
وقد استدل به كثير من القراء على أن هذه السورة مدنية ، وكثير من الفقهاء على أن البسملة من السورة ، وأنها منزلة معها.
فأما قوله تعالى : { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } فقد تقدم في هذا الحديث أنه نهر في الجنة. وقد رواه الإمام أحمد من طريق أخرى ، عن أنس فقال : حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، أخبرنا ثابت ،
__________
(1) المسند (3/102)
(2) في م ، أ : "عدد نجوم السماء".
(3) صحيح مسلم برقم (400) وسنن أبي داود برقم (4747) وسنن النسائي الكبرى برقم (11702).

(8/498)


عن أنس أنه قرأ هذه الآية (1) { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أعطيتُ الكوثر ، فإذا هو نهر يجري ، ولم يُشق شقًا ، وإذا حافتاه قباب اللؤلؤ ، فضربت بيدي في تربته ، فإذا مسكه ذَفَرة ، وإذا حصاه اللؤلؤ" (2)
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن حميد ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "دخلت الجنة فإذا أنا بنهر ، حافتاه خيام اللؤلؤ ، فضربت بيدي إلى ما يجري فيه الماء ، فإذا مسك أذفر. قلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الكوثر الذي أعطاكه الله ، عز وجل". (3)
ورواه البخاري في صحيحه ، ومسلم ، من حديث شيبان بن عبد الرحمن ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك قال : لما عُرجَ بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال : "أتيتُ على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف (4) فقلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الكوثر". وهذا لفظ البخاري (5) رحمه الله.
وقال ابن جرير : حدثنا الربيع ، أخبرنا ابن وهب ، عن سليمان بن هلال ، عن شريك بن أبي نمر ، قال : سمعت أنس بن مالك يحدثنا قال : لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم ، مضى به جبريل في (6) السماء الدنيا ، فإذا هو بنهر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد ، فذهب يُشمَ تُرَابه ، فإذا هو مسك. قال : "يا جبريل ، ما هذا النهر ؟ قال : هو الكوثر الذي خَبَأ لك ربك". (7)
وقد تقدم [في] (8) حديث الإسراء في سورة "سبحان" ، من طريق شريك عن أنس [عن النبي صلى الله عليه وسلم] (9) وهو مخرج في الصحيحين. (10)
وقال سعيد ، عن قتادة ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "بينا أنا أسير في الجنة إذ عرض لي نهر ، حافتاه قباب اللؤلؤ مُجَوف ، فقال الملك الذي معه : أتدري ما هذا ؟ هذا الكوثر الذي أعطاك الله. وضرب بيده إلى أرضه ، فأخرج من طينه المسك" (11) وكذا رواه سليمان بن طِرْخان ، ومعمر وهَمَام وغيرهم ، عن قتادة ، به.
وقال ابن جرير : حدثنا أحمد بن أبي سُرَيج (12) حدثنا أبو أيوب العباسي ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، حدثني محمد بن عبد الله ، ابن أخي ابن شهاب ، عن أبيه ، عن أنس قال : سُئل رسول
__________
(1) في م : "هذه السورة".
(2) المسند (2/247).
(3) المسند (3/103).
(4) في م ، أ : "المجوفة".
(5) صحيح البخاري برقم (4946).
(6) في م : "إلى".
(7) تفسير الطبري (30/207).
(8) زيادة من م.
(9) زيادة من م.
(10) انظر : تفسير أول سورة الإسراء.
(11) رواه الطبري في تفسيره (30/208) عن بشر ، عن يزيد ، عن سعيد ، به.
(12) في أ : "شريح".

(8/499)


الله صلى الله عليه وسلم عن الكوثر ، فقال : "هو نهر أعطانيه الله في الجنة ، ترابه مسك ، [ماؤه] (1) أبيض من اللبن ، وأحلى من العسل ، ترده طير أعناقها مثل أعناق الجُزُر". فقال أبو بكر : يا رسول الله ، إنها لناعمة ؟ قال : "أكلها أنعم منها". (2)
وقال أحمد : حدثنا أبو سلمة الخزاعي ، حدثنا الليث ، عن يزيد بن الهاد ، عن عبد الوهاب ، عن عبد الله بن مسلم بن شهاب ، عن أنس ، أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما الكوثر ؟ قال : "نهر في الجنة أعطانيه ربي ، لهو أشد بياضًا من اللبن ، وأحلى من العسل ، فيه طيور أعناقها كأعناق الجزر". قال عمر : يا رسول الله ، إنها لناعمة ؟ قال : "أكلها أنعم منها يا عمر". (3)
رواه (4) ابن جرير ، من حديث الزهري ، عن أخيه عبد الله ، عن أنس : أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكوثر ، فذكر مثله سواء. (5)
وقال البخاري : حدثنا خالد بن يزيد الكاهلي ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عائشة قال : سألتها عن قوله تعالى : { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } قالت : نهر [عظيم] (6) أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم ، شاطئاه عليه در مجوف ، آنيته كعدد النجوم. (7)
ثم قال البخاري : رواه زكريا وأبو الأحوص ومطرف ، عن أبي إسحاق.
ورواه أحمد والنسائي ، من طريق مُطرّف ، به. (8)
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيب ، حدثنا وَكِيع ، عن سفيان ، وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عائشة قالت : الكوثر نهر في الجنة ، شاطئاه در مُجَوف. وقال إسرائيل : نهر في الجنة عليه من الآنية عدد نجوم السماء.
وحدثنا ابن حُمَيد ، حدثنا يعقوب القُمي (9) عن حفص بن حميد ، عن شَمِر بن عطية ، عن شقيق (10) أو مسروق قال : قلت لعائشة : يا أم المؤمنين ، حدثيني عن الكوثر. قالت : نهر في بطنان الجنة. قلت : وما بطنان الجنة ؟ قالت : وسطها ، حافتاه قصور اللؤلؤ والياقوت ، ترابه المسك ، وحصاؤه اللؤلؤ والياقوت.
وحدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع ، عن أبي جعفر الرازي ، عن ابن أبي نجيح ، عن عائشة
__________
(1) زيادة من أ.
(2) تفسير الطبري (30/209).
(3) المسند (3/220).
(4) في م : "ورواه".
(5) تفسير الطبري (30/209).
(6) زيادة من أ.
(7) صحيح البخاري برقم (4965).
(8) المسند (6/81) وسنن النسائي الكبرى برقم (11705).
(9) في أ : "العمى".
(10) في أ : "سفيان".

(8/500)


قالت : من أحب أن يسمع خرير الكوثر ، فَلْيَجعل أصبعيه في أذنيه. (1)
وهذا منقطع بين ابن أبي نجيح وعائشة ، وفي بعض الروايات : "عن رجل ، عنها". ومعنى هذا أنه يسمع نظير ذلك ، لا أنه يسمعه نفسه ، والله أعلم.
قال السهيلي : ورواه الدارقطني مرفوعا ، من طريق مالك بن مِغْوَل (2) عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم. (3)
ثم قال البخاري : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هُشَيم ، أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه قال في الكوثر : هو الخير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر : قلت لسعيد بن جبير : فإن ناسًا يَزْعُمون أنه نهر في الجنة ؟ فقال سعيد : النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه. (4)
ورواه أيضا من حديث هشيم ، عن أبي بشر وعطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : الكوثر : الخير الكثير. (5)
[وقال الثوري ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : الكوثر : الخير الكثير]. (6)
وهذا التفسير يعم النهر وغيره ؛ لأن الكوثر من الكثرة ، وهو الخير الكثير ، ومن ذلك النهر كما قال ابن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، ومحارب بن دِثَار ، والحسن بن أبي الحسن البصري. حتى قال مجاهد : هو الخير الكثير في الدنيا والآخرة.
وقال عكرمة : هو النبوة والقرآن ، وثواب الآخرة.
وقد صح عن ابن عباس أنه فسره بالنهر أيضا ، فقال ابن جرير :
حدثنا أبو كُرَيب ، حدثنا عمر بن عبيد ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : الكوثر : نهر في الجنة ، حافتاه ذهب وفضة ، يجري على الياقوت والدر ، ماؤه أبيض من الثلج وأحلى من العسل.
وروى العوفي ، عن ابن عباس ، نحو ذلك.
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا هشيم ، أخبرنا عطاء بن السائب ، عن محارب بن دِثار ، عن ابن عمر أنه قال : الكوثر نهر في الجنة ، حافتاه ذهب وفضة ، يجري على الدر
__________
(1) تفسير الطبري (30/207) ، ورواه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة برقم (67) من طريق محمد بن ربيعة ، عن أبي جعفر الرازي ، عن مجاهد ، عن عائشة مرفوعا.
(2) في م : "يزيد بن مغول".
(3) الروض الأنف للسهيلي (1/241).
(4) صحيح البخاري برقم (4966).
(5) صحيح البخاري برقم (6578).
(6) زيادة من تفسير الطبري (30/207).

(8/501)


والياقوت ، ماؤه أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل.
وكذا رواه الترمذي عن ابن حميد ، عن جرير ، عن عطاء بن السائب ، به مثله (1) موقوفا. وقد روي مرفوعا فقال الإمام أحمد :
حدثنا علي بن حفص ، حدثنا ورقاء قال... وقال عطاء [بن السائب] (2) عن محارب بن دِثار ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ، والماء يجري على اللؤلؤ ، وماؤه أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل".
وهكذا رواه الترمذي ، وابن ماجة ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، من طريق محمد بن فضيل ، عن عطاء بن السائب ، به مرفوعا (3) وقال الترمذي : حسن صحيح.
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُليَّة ، أخبرنا عطاء بن السائب قال : قال لي محارب بن دثار : ما قال سعيد بن جبير في الكوثر ؟ قلت : حَدثَنا عن ابن عباس أنه قال : هو الخير الكثير. فقال : صدق ، والله إنه للخير الكثير. ولكن حدثنا ابن عمر قال : لما نزلت : { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الكوثر نهر في الجنة ، حافتاه من ذهب ، يجري على الدر والياقوت". (4)
وقال ابن جرير : حدثني ابن البرقي ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير ، أخبرني حَرَام بن عثمان ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن أسامة بن زيد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى حمزة بن عبد المطلب يوما فلم يجده ، فسأل امرأته عنه - وكانت من بني النجار - فقالت : خرج يا نبي الله آنفا عامدًا نحوك ، فأظنه أخطأك في بعض أزقة بني النجار ، أولا تدخلُ يا رسول الله ؟ فدخل ، فقدمت إليه حيسا ، فأكل منه ، فقالت : يا رسول الله ، هنيئا لك ومريئا ، لقد جئتَ وأنا أريد أن آتيك فأهْنيك وأمْريك ؛ أخبرني أبو عمارة أنك أعطيت نهرا في الجنة يدعى الكوثر. فقال : "أجل ، وعرضه - يعني أرضه - ياقوت ومرجان ، وزبرجد ولؤلؤ". (5)
حَرَام بن عثمان ضعيف. ولكن هذا سياق حسن ، وقد صح أصل هذا ، بل قد تواتر من طريق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث ، وكذلك أحاديث الحوض [ولنذكرها هاهنا]. (6)
وهكذا رُوي عن أنس ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وغير واحدٍ من السلف : أن الكوثر : نهر في الجنة. وقال عطاء : هو حوض في الجنة.
وقوله : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } أي : كما أعطيناك الخير الكثير في الدنيا والآخرة ، ومن ذلك
__________
(1) تفسير الطبري (30/207) ولم يقع لي في سنن الترمذي من هذا الطريق ولا ذكره المزي في تحفة الأشراف.
(2) زيادة من م.
(3) المسند (2/158) وسنن الترمذي برقم (3361) وسنن ابن ماجة برقم (4334) وتفسير الطبري (30/210).
(4) تفسير الطبري (30/210).
(5) تفسير الطبري (30/210).
(6) زيادة من أ ، وكذا قال الحافظ ، ولم يقع في النسخ ذكر أحاديث الحوض ، وقد ذكرها الحافظ ابن كثير في كتابه (النهاية في الفتن والملاحم 1/374 - 412) ولولا خشية الإطالة لذكرناها هاهنا فلتراجع هناك.

(8/502)


النهرُ الذي تقدم صفته - فأخلص لربك صلاتك المكتوبة والنافلة ونَحْرَك ، فاعبده وحده لا شريك له ، وانحر على اسمه وحده لا شريك له. كما قال تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [الأنعام : 162 ، 163] قال ابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن : يعني بذلك نحر البُدْن ونحوها. وكذا قال قتادة ، ومحمد بن كعب القرظي ، والضحاك ، والربيع ، وعطاء الخراساني ، والحكم ، وإسماعيل (1) بن أبي خالد ، وغير واحد من السلف. وهذا بخلاف ما كان المشركون عليه من السجود لغير الله ، والذبح على غير اسمه ، كما قال تعالى : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } الآية [الأنعام : 121].
وقيل : المراد بقوله : { وَانْحَرْ } وضع اليد اليمنى على اليسرى تحت النحر. يروى هذا عن علي ، ولا يصح. وعن الشعبي مثله.
وعن أبي جعفر الباقر : { وَانْحَرْ } يعني : ارفع اليدين عند افتتاح الصلاة.
وقيل : { وَانْحَرْ } أي : استقبل بنحرك القبلة. ذكر هذه الأقوال الثلاثة ابن جرير.
وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثا منكرا جدا فقال : حدثنا وهب بن إبراهيم الفامي (2) - سنة خمس وخمسين ومائتين - حدثنا إسرائيل بن حاتم المروزي ، حدثنا مقاتل بن حيان ، عن الأصبغ بن نباتة ، عن علي بن أبي طالب قال : لما نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم : { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } قال رسول الله : "يا جبريل ، ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي ؟ " فقال : ليست بنحيرة ، ولكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة ، ارفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت ، وإذا رفعت رأسك من الركوع ، وإذا سجدت ، فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين في السموات السبع ، وإن لكل شيء زينة ، وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة.
وهكذا (3) رواه الحاكم في المستدرك ، من حديث إسرائيل بن حاتم ، به. (4)
وعن عطاء الخراساني : { وَانْحَرْ } أي : ارفع صلبك بعد الركوع واعتدل ، وأبرز نحرك ، يعني به الاعتدال. رواه ابن أبي حاتم.
[كل هذه الأقوال غريبة جدا] (5) والصحيح القول الأول ، أن المراد بالنحر ذبح المناسك ؛ ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العيد (6) ثم ينحر نسكه ويقول : "من صلى صلاتنا ، ونسك نسكنا ، فقد أصاب النسك. ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له". فقام أبو بردة بن نيار فقال : يا رسول
__________
(1) في م : "وسعيد".
(2) في أ : "العامي".
(3) في م : "وقد".
(4) المستدرك (2/537) ، ورواه من طريق البيهقي في السنن (2/75) ، ورواه ابن حبان في المجروحين (1/177) من طريق إسرائيل بن حاتم ، به. وقال ابن حبان : "هذا متن باطل إلا ذكر رفع اليدين فيه ، وهذا خبر رواه عمر بن صبح ، عن مقاتل بن حيان ، وعمر بن صبح يضع الحديث فطفر عليه إسرائيل بن حاتم فحدث به عن مقاتل".
(5) زيادة من م ، أ.
(6) في م : "يصلي يوم العيد".

(8/503)


الله ، إني نَسكتُ شاتي قبل الصلاة ، وعرفت أن اليوم يوم يشتهى فيه اللحم. قال : "شاتك شاة لحم". قال : فإن عندي عناقا هي أحب إليَّ من شاتين ، أفتجزئ عني ؟ قال : "تجزئك ، ولا تجزئ أحدا بعدك". (1)
قال أبو جعفر بن جرير : والصواب قول من قال : معنى ذلك : فاجعل صلاتك كلها لربك خالصا دون ما سواه من الأنداد والآلهة (2) وكذلك نحرك اجعله له دون الأوثان ؛ شكرًا له على ما أعطاك من الكرامة والخير ، الذي لا كِفَاء له ، وخصك به. (3)
وهذا الذي قاله في غاية الحسن ، وقد سبقه إلى هذا المعنى : محمد بن كعب القرظي ، وعطاء.
وقوله : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ } أي : إن مبغضك - يا محمد - ومبغض ما جئت به من الهدى والحق والبرهان الساطع والنور المبين ، هو الأبتر الأقل الأذل المنقطع ذكْرُه.
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة : نزلت في العاص بن وائل.
وقال محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان قال : كان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : دعوه فإنه رجل أبتر لا عقب له ، فإذا هلك انقطع ذكره. فأنزل الله هذه السورة.
وقال شَمِر بن عطية : نزلت في عقبة بن أبي مُعَيط.
وقال ابن عباس أيضا ، وعكرمة : نزلت في كعب بن الأشرف وجماعة من كفار قريش.
وقال البزار : حدثنا زياد بن يحيى الحَسَّاني ، حدثنا بن أبي عدي ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قدم كعب بن الأشرف مكة فقالت له قريش : أنت سيدهم ألا ترى إلى هذا المُصَنْبر (4) المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ، ونحن أهل الحجيج ، وأهل السدانة وأهل السقاية ؟ فقال : أنتم خير منه. قال : فنزلت : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ }
هكذا رواه البزار (5) وهو إسناد صحيح.
وعن (6) عطاء : نزلت في أبي لهب ، وذلك حين مات ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب أبو لهب إلى المشركين وقال : بُتِرَ محمد الليلة. فأنزل الله في ذلك : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ }
وعن ابن عباس : نزلت في أبي جهل. وعنه : { إِنَّ شَانِئَكَ } يعني : عدوك. وهذا يَعُمُّ جميعَ من اتصفَ بذلك ممن ذكر ، وغيرهم.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (983) من حديث البراء ، رضي الله عنه.
(2) في م : "والأولاد".
(3) تفسير الطبري (30/212).
(4) في م : "هذا الضبر".
(5) مسند البزار برقم (2293) "كشف الأستار" ووقع فيه : "حدثنا الحسن بن علي الواسطي ، حدثنا يحيى بن راشد ، عن داود فذكر مثله ، ورواه أيضا النسائي في السنن الكبرى برقم (11707).
(6) في م : "وقال".

(8/504)


وقال عكرمة : الأبتر : الفرد. وقال السُّدِّي : كانوا إذا مات ذكورُ الرجل قالوا : بُتر. فلما مات أبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : بتر محمد. فأنزل الله : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ }
وهذا يرجع إلى ما قلناه من أن الأبتر الذي إذا مات انقطع ذكره ، فتوهموا لجهلهم أنه إذا مات بنوه ينقطع ذكره ، وحاشا وكلا بل قد أبقى الله ذكره على رءوس الأشهاد ، وأوجب شرعه على رقاب العباد ، مستمرا على دوام الآباد ، إلى يوم الحشر والمعاد (1) صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم التناد.
آخر تفسير سورة "الكوثر" ، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) في م : "والتناد".

(8/505)


تفسير سورة قل يا أيها الكافرون
وهي مكية (1).
ثبت في صحيح مسلم ، عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهذه السورة ، وبـ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " في ركعتي الطواف. (2)
وفي صحيح مسلم ، من حديث أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في ركعتي الفجر.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مجاهد ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب ، بضعا وعشرين مرة - أو : بضع عشرة مرة - " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " و " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ". (3)
وقال أحمد أيضا : حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : رمقت النبي صلى الله عليه وسلم أربعا وعشرين - أو : خمسا وعشرين - مرة ، يقرأ في الركعتين قبل الفجر ، والركعتين بعد المغرب ب " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " و " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ". (4)
وقال أحمد : حدثنا أبو أحمد - هو محمد بن عبد الله بن الزبير الزبيري - حدثنا سفيان - هو الثوري - عن أبي إسحاق ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : رَمقتُ النبي صلى الله عليه وسلم شهرًا ، وكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر بـ " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " و " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ".
وكذا رواه الترمذي وابن ماجة ، من حديث أبي أحمد الزبيري (5) وأخرجه النسائي من وجه آخر ، عن أبي إسحاق ، به (6) وقال الترمذي : هذا حديث حسن.
وقد تقدم في الحديث أنها تعدل ربع القرآن ، و " إِذَا زُلْزِلَتِ " تعدل ربع القرآن.
وقال الإمام أحمد : حدثنا هاشم (7) بن القاسم ، حدثنا زهير ، حدثنا أبو إسحاق ، عن فروةَ ابن نَوفل - هو ابن معاوية - عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : "هل لك في ربيبة لنا تكفلها ؟ " قال : أراها زينب. قال : ثم جاء فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عنها ، قال : "ما فعلت الجارية ؟ " قال : تركتها عند أمها. قال : "فمجيء ما جاء بك ؟ " قال : جئت لتعلمني شيئًا أقوله عند منامي. قال : "اقرأ : " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " ثم نم على خاتمتها ، فإنها براءة من الشرك". تفرد به أحمد. (8)
__________
(1) بعدها في م : البسملة.
(2) صحيح مسلم برقم (1218) من حديث طويل وهو منسك جابر المشهور.
(3) المسند (2/24).
(4) المسند (2/99).
(5) المسند (2/94) وسنن الترمذي برقم (417) وسنن ابن ماجة برقم (1149).
(6) سنن النسائي (2/170).
(7) في أ : "هشيم".
(8) لم أقع عليه في المطبوع من المسند ، وذكره الحافظ ابن حجر في أطراف المسند (5/425).

(8/506)


قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)

وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن عَمرو القطراني ، حدثنا محمد بن الطفيل ، حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن جبلة بن حارثة - وهو أخو زيد بن حارثة - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا أويت إلى فراشك فاقرأ : " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " حتى تمر بآخرها ، فإنها براءة من الشرك" (1) [والله أعلم وهو حسبي ونعم الوكيل]. (2)
وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن فروة بن نوفل ، عن الحارث بن جبلة قال : قلت : يا رسول الله ، علمني شيئا أقوله عند منامي. قال : "إذا أخذت مضجعَك من الليل فاقرأ : " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " فإنها براءة من الشرك". (3)
وروى الطبراني من طريق شريك ، عن جابر (4) عن معقل الزبيدي ، عن [عباد أبي الأخضر عن خباب] (5) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه قرأ : " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " حتى يختمها (6).
بسم الله الرحمن الرحيم
{ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) }
هذه السورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون ، وهي آمرة بالإخلاص فيه ، فقوله : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } شمل كل كافر على وجه الأرض ، ولكن المواجهين (7) بهذا الخطاب هم كفارُ قريش.
وقيل : إنهم من جهلهم دَعَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة أوثانهم سنة ، ويعبدون معبوده سنة ، فأنزل الله هذه السورة ، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية ، فقال : { لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } يعني : من الأصنام والأنداد ، { وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } وهو الله وحده لا شريك له. ف "ما" هاهنا بمعنى "من".
ثم قال : { وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } أي : ولا أعبد عبادتكم ، أي : لا أسلكها ولا أقتدي بها ، وإنما أعبد الله على الوجه الذي يحبه ويرضاه ؛ ولهذا قال : { وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } أي : لا تقتدون بأوامر الله وشرعه في عبادته ، بل قد اخترعتم شيئًا من تلقاء أنفسكم ، كما قال : { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } [النجم : 23] فتبرأ منهم في جميع ما هم فيه ، فإن العابد لا بد له من معبود يعبده ، وعبادة (8)
__________
(1) المعجم الكبير (2/287) ، وقال الهيثمي في المجمع (10/121) : "رجاله وثقوا".
(2) زيادة من أ.
(3) لم أقع عليه في المطبوع من المسند ، وذكره الحافظ ابن حجر في أطراف المسند (2/220).
(4) وقع في المعجم الكبير : "عن شريك وجابر" مقرونا وهو خطأ ، والصواب ما أثبتناه.
(5) زيادة من المعجم الكبير (4/81).
(6) المعجم الكبير (4/81) ورواه البزار في مسنده برقم (3113) "كشف الأستار" ، وقال الهيثمي في المجمع (10/121) : "وفيه جابر الجعفي ، وهو ضعيف".
(7) في أ : "ولكن المواجهون".
(8) في م : "وعبادته".

(8/507)


يسلكها إليه ، فالرسول وأتباعه يعبدون الله بما شرعه ؛ ولهذا كان كلمة الإسلام "لا إله إلا الله محمد رسول الله" أي : لا معبود إلا الله ولا طريق إليه إلا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمشركون يعبدون غير الله عبادة لم يأذن بها الله ؛ ولهذا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } كما قال تعالى : { وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } [يونس : 41] وقال : { لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } [القصص : 55].
وقال البخاري : يقال : { لَكُمْ دِينَكُمْ } الكفر ، { وَلِيَ دِينِ } الإسلام. ولم يقل : "ديني" لأن الآيات بالنون ، فحذف الياء ، كما قال : { فَهُوَ يَهْدِينِ } [الشعراء : 78] و { يَشْفِينِ } [الشعراء : 80] وقال غيره : لا أعبد ما تعبدون الآن ، ولا أجيبكم فيما بقي من عمري ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، وهم الذين قال : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا } [المائدة : 64].
انتهى ما ذكره. (1)
ونقل ابن جرير عن بعض أهل العربية أن ذلك من باب التأكيد ، كقوله : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } [الشرح : 5 ، 6 ] وكقوله : { لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ } [التكاثر : 6 ، 7] وحكاه بعضهم - كابن الجوزي ، وغيره - عن ابن قتيبة ، فالله أعلم. فهذه ثلاثة أقوال : أولها ما ذكرناه أولا. الثاني : ما حكاه البخاري وغيره من المفسرين أن المراد : { لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } في الماضي ، { وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } في المستقبل. الثالث : أن ذلك تأكيد محض.
وثم قول رابع ، نصره أبو العباس بن تَيمية في بعض كتبه ، وهو أن المراد بقوله : { لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } نفى الفعل لأنها جملة فعلية ، { وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } نفى قبوله لذلك بالكلية ؛ لأن النفي بالجملة الاسمية آكد فكأنه نفى الفعل ، وكونه قابلا لذلك ومعناه نفي الوقوع ونفي الإمكان الشرعي أيضا. وهو قول حسن أيضا ، والله أعلم.
وقد استدل الإمام أبو عبد الله الشافعي وغيره بهذه الآية الكريمة : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } على أن الكفر كله ملة واحدة تورثه (2) اليهود من النصارى ، وبالعكس ؛ إذا كان بينهما نسب أو سبب يتوارث به ؛ لأن الأديان - ما عدا الإسلام - كلها كالشيء الواحد في البطلان. وذهب أحمد بن حنبل ومن وافقه إلى عدم توريث النصارى من اليهود وبالعكس ؛ لحديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يتوارث أهل ملتين شتى". (3)
آخر تفسير سورة "قل يا أيها الكافرون" ولله الحمد والمنة.
__________
(1) صحيح البخاري (8/733) "فتح".
(2) في م : "فورت".
(3) رواه أحمد في المسند (2/195) وأبو داود في السنن برقم (2911).

(8/508)


إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)

تفسير سورة إذا جاء نصر الله والفتح (1)
وهي مدنية.
قد تقدم أنها تعدل ربع القرآن ، و " إِذَا زُلْزِلَتِ " تعدل ربع القرآن.
وقال النسائي : أخبرنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ، أخبرنا جعفر ، عن أبي العُمَيس(ح) وأخبرنا محمد بن سليمان ، حدثنا جعفر بن عون ، حدثنا أبو العُمَيس ، عن عبد المجيد بن سهيل (2) عن عُبَيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : قال لي ابن عباس : يا ابن عتبة ، أتعلم آخر سورة من القرآن نزلت (3) ؟ قلت : نعم ، " إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ " قال : صدقت (4)
وروى الحافظ أبو بكر البزار والبيهقي ، من حديث موسى بن عبيدة الرّبذي (5) عن صدقة بن يَسَار ، عن ابن عمر قال : أنزلت هذه السورة : " إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ " على رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسط أيام التشريق ، فعرف أنه الوداع ، فأمر براحلته القصواء فَرحَلت ، ثم قام فخطب الناس ، فذكر خطبته المشهورة (6)
وقال الحافظ البيهقي : أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان ، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار ، حدثنا الأسفاطي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عباد بن العوام ، عن هلال بن خباب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : " إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ " دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة (7) وقال : "إنه قد نُعِيت إليّ نفسي" ، فبكت ثم ضحكت ، وقالت : أخبرني أنه نُعيت إليه نفسُه فبكيت ، ثم قال : "اصبري فإنك أول أهلي لحاقًا بي" فضحكت (8)
وقد رواه النسائي - كما سيأتي - بدون ذكر فاطمة.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3) }
قال البخاري : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عَوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : كان عمر يُدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وَجَد في نفسه ، فقال :
__________
(1) في م : "تفسير سورة النصر".
(2) في أ : "سهل".
(3) في م : "نزلت من القرآن".
(4) سنن النسائي الكبرى برقم (11713) ورواه مسلم في صحيحه برقم (3024) من طريق جعفر بن عون به.
(5) في أ : "الزبيري".
(6) سنن البيهقي الكبرى (5/152) ، وموسى بن عبيدة ضعيف.
(7) في أ : "فاطمة ابنته".
(8) دلائل النبوة للبيهقي (7/167).

(8/509)


لم يَْخل هذا معنا ولنا أبناء مثله ؟ فقال عمر : إنه ممن قد علمتم (1) فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم ، فما رُؤيتُ أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليُريهم فقال : ما تقولون في قول الله ، عز وجل : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } ؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نَحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفُتح علينا. وسكت بعضهم فلم يقل شيئًا ، فقال لي : أكذلك تقول يا ابن عباس ؟ فقلت : لا. فقال : ما تقول ؟ فقلت : هو أجلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له ، قال : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } فذلك علامة أجلك ، { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } فقال عمر بن الخطاب : لا أعلم منها إلا ما تقول. تفرد به البخاري (2)
وروى ابن جرير ، عن محمد بن حُمَيد ، عن مِهْران ، عن الثوري ، عن عاصم ، عن أبي رَزِين ، عن ابن عباس ، فذكر مثل هذه القصة ، أو نحوها (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن فُضَيل ، حدثنا عطاء ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نُعِيَت إليّ نفسي".. بأنه مقبوض في تلك السنة. تفرد به أحمد (4).
وروى العوفي ، عن ابن عباس ، مثله. وهكذا قال مجاهد ، وأبو العالية ، والضحاك ، وغير واحد : إنها أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نُعِي إليه.
وقال ابن جرير : حدثني إسماعيل بن موسى ، حدثنا الحسين بن عيسى الحنفي (5) عن مَعْمَر ، عن الزهري ، عن أبي حازم ، عن ابن عباس قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة إذ قال : "الله أكبر ، الله أكبر! جاء نصر الله والفتح ، جاء أهل اليمن". قيل : يا رسول الله ، وما أهل اليمن ؟ قال : "قوم رقيقة قلوبهم ، لينة طباعهم ، الإيمان يمان ، والفقه يمان ، والحكمة يمانية" (6)
ثم رواه عن ابن عبد الأعلى ، عن ابن ثور ، عن معمر ، عن عكرمة ، مرسلا.
وقال الطبراني : حدثنا زكريا بن يحيى ، حدثنا أبو كامل الجَحْدَريّ ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن هلال بن خَبَّاب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } حتى ختم السورة ، قال : نُعِيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه حين نزلت ، قال : فأخذ بأشد ما كان قط اجتهادًا في أمر الآخرة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك : "جاء الفتحُ ونصر الله ، وجاء أهل اليَمن". فقال رجل : يا رسول الله ، وما أهل اليمن ؟ قال : "قوم رقيقة قلوبهم ، لينة قلوبهم ، الإيمان يمان ، والفقه يَمان" (7).
__________
(1) في م : "ممن قد علمتم".
(2) صحيح البخاري برقم (4970).
(3) تفسير الطبري (30/215).
(4) المسند (1/217).
(5) في أ : "الثقفي".
(6) تفسير الطبري (30/215).
(7) المعجم الكبير (11/328).

(8/510)


وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكيع ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رَزين ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد نُعِيت إليه نفسه ، فقيل : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } السورة كلها (1).
حدثنا وَكيع ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رَزِين : أن عمر سأل ابن عباس عن هذه الآية : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } قال : لما نزلت نُعيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه (2)
وقال الطبراني : حدثنا إبراهيم بن أحمد بن عُمَر الوكيعي ، حدثنا أبي ، حدثنا جَعفر بن عون ، عن أبي العُمَيس ، عن أبي بكر بن أبي الجهم ، عن عُبَيد الله بن عَبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس قال : آخر سورة نزلت من القرآن جميعًا : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } (3).
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مُرّة ، عن أبي البَختُري الطائي (4) ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لما نزلت هذه السورة : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها ، فقال : "الناس حيز ، وأنا وأصحابي حيز". وقال : "لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية". فقال له مَرْوان : كذبت - وعنده رافع بن خَديج ، وزيد بن ثابت ، قاعدان معه على السرير - فقال أبو سعيد : لو شاء هذان لحدثاك ، ولكن هذا يخاف أن تنزعه عن عرافة قومه ، وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة. فرفع مروان عليه الدرة ليضربه ، فلما رأيا ذلك قالا صدق (5).
تفرد به أحمد ، وهذا الذي أنكره مروان على أبي سعيد ليس بمنكر ، فقد ثبت من رواية ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح : "لا هجرة ، ولكن جهاد ونية ، ولكن إذا استنفرتم فانفروا". أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما (6).
فالذي فسر به بعض الصحابة من جلساء عمر ، رضي الله عنهم أجمعين ، مِنْ أنه قد أمرنا إذا فتح الله علينا المدائن والحصون أن نحمد الله ونشكره ونسبحه ، يعني نصلي ونستغفره - معنى مليح صحيح ، وقد ثبت له شاهد من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وقت الضحى ثماني ركعات ، فقال قائلون : هي صلاة الضحى. وأجيبوا بأنه لم يكن يواظب عليها ، فكيف صلاها ذلك اليوم وقد كان مسافرًا لم يَنْو الإقامة بمكة ؟ ولهذا أقام فيها إلى آخر شهر رمضان قريبًا من تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة ويُفطر هو وجميع الجيش ، وكانوا نحوًا من عشرة آلاف. قال هؤلاء : وإنما كانت صلاة الفتح ، قالوا : فيستحب لأمير الجيش إذا فتح بلدًا أن يصلي فيه أول ما يدخله ثماني ركعات.
__________
(1) المسند (1/344).
(2) المسند (1/356).
(3) المعجم الكبير (10/369).
(4) في أ : "عن أبي البختري عن الطائي".
(5) المسند (3/22).
(6) صحيح البخاري برقم (1834 ، 1349) وصحيح مسلم برقم (1353).

(8/511)


وهكذا فعل سعد بن أبي وقاص يوم فتح المدائن ، ثم قال بعضهم : يصليها كلها بتسليمة واحدة. والصحيح أنه يسلم من كل ركعتين ، كما ورد في سنن أبي داود : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم يوم الفتح من كل ركعتين. وأما ما فسر به ابن عباس وعمر ، رضي الله عنهما ، من أن هذه السورة نُعِي فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه (1) الكريمة ، واعلم أنك إذا فتحت مكة - وهي قريتك التي أخرجتك - ودخل الناس في دين الله أفواجًا ، فقد فرغ شغلنا بك في الدنيا ، فتهيأ للقدوم علينا والوفود إلينا ، فالآخرة خير لك من الدنيا ، ولسوف يعطيك ربك فترضى ، ولهذا قال : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا }.
قال النسائي : أخبرنا عمرو بن منصور ، حدثنا محمد بن محبوب ، حدثنا أبو عوانة ، عن هلال ابن خباب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } إلى آخر السورة ، قال : نُعيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسُه حين أنزلت ، فأخذ في أشدّ ما كان اجتهادًا في أمر الآخرة ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك : "جاء الفتح ، وجاء نصر الله ، وجاء أهل اليمن". فقال رجل : يا رسول الله ، وما أهل اليمن ؟ قال : "قوم رقيقة قلوبهم ، لَيِّنة قلوبهم ، الإيمان يَمانٍ ، والحكمة يمانية ، والفقه يمان" (2).
وقال البخاري : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جَرير ، عن منصور ، عن أبي الضحَى ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي" يتأول القرآن.
وأخرجه بقية الجماعة إلا الترمذي ، من حديث منصور ، به (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن داود ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : قالت عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر في آخر أمره من قول : "سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه". وقال : "إن ربي كان أخبرني أني سأرى علامة في أمتي ، وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره ، إنه كان توابا ، فقد رأيتها : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا }
ورواه مسلم من طريق داود - وهو ابن أبي هند - به (4).
وقال ابن جرير : حدثنا أبو السائب ، حدثنا حفص ، حدثنا عاصم ، عن الشعبي ، عن أم سلمة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ، ولا يذهب ولا يجيء ، إلا قال : "سبحان الله وبحمده". فقلت : يا رسول الله ، إنك تكثر من سبحان الله وبحمده ، لا تذهب ولا تجيء ، ولا تقوم ولا تقعد إلا قلت : سبحان الله وبحمده ؟ قال : "إني أمرت بها" ، فقال :
__________
(1) في م "روحه".
(2) سنن النسائي الكبرى برقم (11712).
(3) صحيح البخاري برقم (4968) وصحيح مسلم برقم (484) وسنن أبي داود برقم (877) وسنن النسائي الكبرى برقم (11710) وسنن ابن ماجة برقم (889).
(4) المسند (6/35) وصحيح مسلم برقم (484).

(8/512)


{ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } إلى آخر السورة (1).
غريب ، وقد كتبنا حديث كفارة المجلس من جميع طرقه وألفاظه في جزء مُفرد ، فيكتب هاهنا (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عُبَيدة ، عن عبد الله قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } كان يكثر إذا قرأها - ورَكَعَ - أن يقول : "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الرحيم" ثلاثا (3).
تفرد به أحمد. ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه ، عن عمرو بن مُرّة ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، به.
والمراد بالفتح هاهنا فتح مكة قولا واحدًا ، فإن أحياء العرب كانت تَتَلَوّم بإسلامها فتح مكة ، يقولون : إن ظهر على قومه فهو نبي. فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجًا ، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيمانًا ، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام ، ولله الحمد والمنة. وقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة قال : لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت الأحياء تَتَلَوّمُ بإسلامها فتح مكة ، يقولون : دعوه وقومه ، فإن ظهر عليهم فهو نبي. الحديث (4) وقد حَرّرنا غزوة الفتح في كتابنا : السيرة ، فمن أراد فليراجعه هناك ، ولله الحمد والمنة.
وقال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا أبو إسحاق ، عن الأوزاعي ، حدثني أبو عمار ، حدثني جار لجابر بن عبد الله قال : قدمت من سفر فجاءني جابر بن عبد الله ، فسلم عليّ (5) ، فجعلت أحدّثهُ عن افتراق الناس وما أحدثوا ، فجعل جابر يبكي ، ثم قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الناس دخلوا في دين الله أفواجًا ، وسيخرجون منه أفواجًا" (6).
[آخر تفسير سورة "إذا جاء نصر الله والفتح" ولله الحمد والمنة] (7)
__________
(1) تفسير الطبري (30/216).
(2) سبق ذكر أحاديث كفارة المجلس وذكر طرقها في آخر تفسير سورة الصافات.
(3) المسند (1/388).
(4) صحيح البخاري برقم (4302).
(5) في م : "يسلم على".
(6) المسند (3/343).
(7) زيادة من أ.

(8/513)


تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)

تفسير سورة تبت
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) }
قال البخاري : حدثنا محمد بن سلام ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن عمرو بن مُرّة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء ، فصعد الجبل فنادى : "يا صباحاه". فاجتمعت إليه قريش ، فقال : "أرأيتم إن حَدثتكم أن العدوّ مُصبحكم أو مُمْسيكم ، أكنتم تصدقوني ؟ ". قالوا : نعم. قال : "فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد". فقال أبو لهب : ألهذا جمعتنا ؟ تبا لك. فأنزل الله : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } إلى آخرها (1).
وفي رواية : فقام ينفض يديه ، وهو يقول : تبا لك سائر اليوم. ألهذا جمعتنا ؟ فأنزل الله : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } (2).
الأول دعاء عليه ، والثاني خبر عنه. فأبو لهب هذا هو أحد أعمام رسول الله (3) صلى الله عليه وسلم واسمه : عبد العُزّى بن عبد المطلب ، وكنيته أبو عُتبة. وإنما سمي "أبا لهب" لإشراق وجهه ، وكان كثير الأذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم والبغضة له ، والازدراء به ، والتنقص له ولدينه..
قال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن أبي العباس ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه قال : أخبرني رجل - يقال له : ربيعة بن عباد ، من بني الديل ، وكان جاهليًا فأسلم - قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول : "يا أيها الناس ، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" والناس مجتمعون عليه ، ووراءه رجل وضيء الوجه أحولُ ذو غديرتين ، يقول : إنه صابئ كاذب. يتبعه حيث ذهب ، فسألت عنه فقالوا : هذا عمه أبو لهب (4).
ثم رواه عن سُرَيج ، عن ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، فذكره - قال أبو الزناد : قلت لربيعة : كنت يومئذ صغيرًا ؟ قال : لا والله إني يومئذ لأعقل أني أزفر القربة. تفرد به أحمد (5).
وقال محمد بن إسحاق : حدثني حُسَين بن عبد الله بن عُبيد الله بن عباس قال : سمعت ربيعة بن عباد الديلي يقول : إني لمع أبي رجل شاب ، أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع القبائل - ووراءه
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4972).
(2) صحيح البخاري برقم (1394 ، 4801 ، 3525).
(3) في م : "أعمام النبي".
(4) المسند (4/341).
(5) المسند (4/341).

(8/514)


رجل أحول وضيء ، ذو جُمَّة - يَقِفُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبيلة فيقول : "يا بني فلان ، إني رسول الله إليكم ، آمركم أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا ، وأن تصدقوني وتمنعوني حتى أنفِّذَ عن الله ما بعثني به". وإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه : يا بني فلان ، هذا يريد منكم أن تسلُخوا اللات والعزى ، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أُقَيْش ، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة ، فلا تسمعوا له ولا تتبعوه. فقلت لأبي : من هذا ؟ قال : عمه أبو لهب (1).
رواه أحمد أيضا ، والطبراني بهذا اللفظ (2).
فقوله تعالى : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } أي : خسرت وخابت ، وضل عمله وسعيه ، { وَتَبَّ } أي : وقد تب تحقق خسارته وهلاكه.
وقوله : { مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } قال ابن عباس وغيره : { وَمَا كَسَبَ } يعني : ولده. وَرُوي عن عائشة ، ومجاهد ، وعطاء ، والحسن ، وابن سيرين ، مثله.
وذكر عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا قومه إلى الإيمان ، قال أبو لهب : إذا كان ما يقول ابن أخي حقا ، فإني أفتدي نفسي يوم القيامة من العذاب بمالي وولدي ، فأنزل الله : { مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ }.
وقوله : { سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ } أي : ذات شرر ولهيب وإحراق شديد.
{ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } وكانت زوجته من سادات نساء قريش ، وهي : أم جميل ، واسمها أروى بنتُ حرب بن أمية ، وهي أخت أبي سفيان. وكانت عونًا لزوجها على كفره وجحوده وعناده ؛ فلهذا تكون يوم القيامة عَونًا عليه في عذابه في نار جهنم. ولهذا قال : { حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } يعني : تحمل الحطب فتلقي على زوجها ، ليزداد على ما هو فيه ، وهي مُهَيَّأة لذلك مستعدة له.
{ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } قال مجاهد ، وعروة : من مَسد النار.
وعن مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والثوري ، والسدي : { حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } كانت تمشي بالنميمة ، [واختاره ابن جرير ] (3).
وقال العوفي عن ابن عباس ، وعطية الجدلي ، والضحاك ، وابن زيد : كانت تضع الشوك في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واختاره ابن جرير.
قال ابن جرير : وقيل : كانت تعير النبي صلى الله عليه وسلم بالفقر ، وكانت تحتطب ، فعيرت بذلك.
كذا حكاه ، ولم يعزه إلى أحد. والصحيح الأول ، والله أعلم.
قال سعيد بن المسيب : كانت لها قلادة فاخرة فقالت : لأنفقنها في عداوة محمد ، يعني : فأعقبها الله بها حبلا في جيدها من مسد النار.
__________
(1) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/423).
(2) المسند (3/492) والمعجم الكبير (5/63).
(3) زيادة من م.

(8/515)


وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وكيع ، عن سليم (1) مولى الشعبي ، عن الشعبي قال : المسد : الليف.
وقال عروة بن الزبير : المسد : سلسلة ذرعها سبعون ذراعًا.
وعن الثوري : هو قلادة من نار ، طولها سبعون ذراعًا.
وقال الجوهري : المَسَدُ : الليف. والمَسَد أيضا : حبل من ليف أو خوص ، وقد يكون من جلود الإبل أو أوبارها ، ومسدت الحبل أمسدُهُ مَسْدًا : إذا أجْدتُ فَتله (2).
وقال مجاهد : { فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } أي : طوق من حديد ، ألا ترى أن العرب يسمون البَكْرة مَسَدًا ؟
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي وأبو زُرْعة قالا حدثنا عبد الله بن الزبير الحُمَيدي ، حدثنا سُفيان ، حدثنا الوليد بن كثير ، عن ابن تدرس ، عن أسماء بنت أبي بكر قالت : لما نزلت : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ، ولها ولولة ، وفي يدها فهر ، وهي تقول :
مُذَممًا أبَينَا ودينَه قَلَينا وَأمْرَه عَصَينا
ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ومعه أبو بكر ، فلما رآها أبو بكر قال : يا رسول الله ، قد أقبلت وأنا أخاف عليك أن تراك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنها لن تراني". وقرأ قرآنا اعتصم به ، كما قال تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا } [ الإسراء : 45 ]. فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا أبا بكر ، إني أخبرت أن صاحبك هجاني ؟ قال : لا ورب هذا البيت ما هجاك. فولت وهي تقول : قد علمت قريش أني ابنة سيدها. قال : وقال الوليد في حديثه أو غيره : فعثَرَت أم جميل في مِرْطها وهي تطوف بالبيت ، فقالت : تَعس مُذَمَّم. فقالت أم حكيم بنت عبد المطلب : إني لحصانُ فما أكلَّم ، وثَقَافُ فما أعلَّم ، وكلنا من بني العم ، وقريش بعد أعلم (3).
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إبراهيم بن سعيد وأحمد بن إسحاق قالا حدثنا أبو أحمد ، حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } جاءت امرأة أبي لهب ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ، ومعه أبو بكر. فقال له أبو بكر : لو تَنَحَّيت لا تُؤذيك بشيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنه سَيُحال بيني وبينها". فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر فقالت : يا أبا بكر ، هجانا صاحبك. فقال أبو بكر : لا ورب هذه البنية ما نَطَق بالشعر ولا يتفوه به. فقالت : إنك لمصدق ، فلما ولت قال أبو بكر ، رضي الله عنه : ما رأتك ؟ قال : "لا ما زال ملك يسترني حتى ولت".
__________
(1) في أ : "سليمان".
(2) الصحاح للجوهري ، مادة "مسد" (1/535).
(3) مسند الحميدي (1/153) ورواه أبو يعلى في مسنده (1/53) من طريق سفيان به ، وسبق تخريجه عند تفسير الآية : 45 من سورة الإسراء.

(8/516)


ثم قال البزار : لا نعلمه يُروَى بأحسنَ من هذا الإسناد ، عن أبي بكر ، رضي الله عنه (1).
وقد قال بعض أهل العلم في قوله تعالى : { فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } أي : في عنقها حبل في نار [جهنم] (2) تُرفَع به إلى شفيرها ، ثم يرمى بها إلى أسفلها ، ثم كذلك دائما.
قال أبو الخطاب بن دَحْية في كتابه التنوير (3) - وقد رَوَى ذلك - وعُبر بالمسد عن حبل الدلو ، كما قال أبو حنيفة الدينوري في كتاب "النبات" : كلّ مَسَد : رشاء ، وأنشد في ذلك :
وَبَكْرَةً ومِحْوَرًا صِرَارًا... وَمَسَدًا مِنْ أبق مُغَارًا...
قال : والأبقُ : القنَّبُ.
وقال الآخر :
يا مَسَدَ الخُوص تَعَوّذْ مني... إنْ تَكُ لَدْنًا لَيّنا فإني...
ما شئْتَ مِنْ أشْمَطَ مُقْسَئِنّ...
قال العلماء : وفي هذه السورة معجزة ظاهرة ودليل واضح على النبوة ، فإنه منذ نزل قوله تعالى : { سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } فأخبر عنهما بالشقاء وعدم الإيمان ، لم يقيض لهما أن يؤمنا ، ولا واحد منهما لا ظاهرًا ولا باطنًا ، لا مسرًا ولا معلنًا ، فكان هذا من أقوى الأدلة الباهرة على النبوة الظاهرة.
[آخر تفسير "تبت" ولله الحمد والمنة] (4)
__________
(1) مسند البزار برقم (2294) "كشف الأستار" ، ورواه أبو يعلى في مسنده (1/33) من طريق عبد السلام بن حرب به ، وقال الهيثمي في المجمع (7/144) : "فيه عطاء بن السائب وقد اختلط".
(2) زيادة من م ، أ.
(3) التنوير في مولد السراج المنير لابن دحية الكلبي ، عمله لملك إربل. انظر : وفيات الأعيان (3/122).
(4) زيادة من م ، أ.

(8/517)


تفسير سورة الإخلاص
وهي مكية.
ذكر سبب نزولها وفضيلتها (1)
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعد محمد بن مُيَسّر الصاغاني ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، حدثنا الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب : أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، انسب لنا ربك ، فأنزل الله : " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُو لَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ " (2).
وكذا رواه الترمذي ، وابن جرير ، عن أحمد بن منيع - زاد ابن جرير : ومحمود بن خِدَاش - عن أبي سعد محمد بن مُيَسّر به (3) - زاد ابن جرير والترمذي - قال : " الصَّمَدُ " الذي لم يلد ولم يولد ، لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت ، وليس شيء يموت إلا سيورث ، وإن الله جل جلاله لا يموت ولا يورث ، " وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ " ولم يكن له شبه (4) ولا عدل ، وليس كمثله شيء.
ورواه ابن أبي حاتم ، من حديث أبي سعد (5) محمد بن مُيَسّر ، به. ثم رواه الترمذي عن عبد ابن حميد ، عن عبيد الله بن موسى ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، فذكره مرسلا ولم يذكر "أخبرنا". ثم قال الترمذي : هذا أصح من حديث أبي سعد (6).
حديث آخر في معناه : قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا سُرَيج (7) بن يونس ، حدثنا إسماعيل بن مجالد ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر : أن أعرابيًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : انسب لنا ربك. فأنزل الله ، عز وجل : " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " إلى آخرها. إسناده مقارب (8).
وقد رواه ابن جرير عن محمد بن عوف ، عن سُرَيج (9) فذكره (10). وقد أرسله غير واحد من السلف.
وروى عُبيد بن إسحاق العطار ، عن قيس بن الربيع ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود قال : قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : انسب لنا ربك ، فنزلت هذه السورة : " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ "
__________
(1) في م ، أ : "وفضلها".
(2) المسند (5/133).
(3) سنن الترمذي برقم (3364) وتفسير الطبري (30/221 ، 223).
(4) في م ، أ : "له شبيه".
(5) في م ، أ : "سعيد".
(6) سنن الترمذي برقم (3365).
(7) في أ : "شريح".
(8) في م : "إسناده متقارب".
(9) في أ : "شريح".
(10) مسند أبي يعلى (4/38 ، 39) وتفسير الطبري (30/221) ، ومجالد ضعيف في روايته عن الشعبي عن جابر.

(8/518)


قال الطبراني : رواه الفريابي وغيره ، عن قيس ، عن أبي عاصم ، عن أبي وائل ، مرسلا (1).
ثم رَوَى الطبراني من حديث عبد الرحمن بن عثمان الطائفي ، عن الوازع بن نافع ، عن أبي سلمة ، عن أبي هُرَيرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لكل شيء نسبة ، ونسبة الله : " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ " والصمد ليس بأجوف] (2) (3).
حديث آخر في فضلها : قال البخاري : حدثنا محمد - هو الذُهليّ - حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب ، أخبرنا عمرو ، عن ابن أبي هلال : أن أبا الرجال مُحمد بن عبد الرحمن حَدثه ، عن أمه عَمْرَةَ بنت عبد الرحمن - وكانت في حِجْر عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم - عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سَريَّة ، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم ، فيختم ب " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : "سلوه : لأيّ شيء يصنع ذلك ؟". فسألوه ، فقال : لأنها صفة الرحمن ، وأنا أحب أن أقرأ بها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أخبروه أن الله تعالى يحبه".
هكذا رواه في كتاب "التوحيد" (4). ومنهم من يسقط ذكر "محمد الذّهلي". ويجعله من روايته عن أحمد بن صالح. وقد رواه مسلم والنسائي أيضًا من حديث عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، به (5).
حديث آخر : قال البخاري في كتاب الصلاة : "وقال عُبَيد الله (6) عن ثابت ، عن أنس قال : كان رجل من الأنصار يَؤمَهم في مسجد قُبَاء ، فكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح ب " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " حتى يَفرُغ منها ، ثم يقرأ سورة أخرى معها ، وكان يصنع ذلك في كل ركعة. فكلَّمه أصحابه فقالوا : إنك تفتتح بهذه السورة ثم لا ترى أنها تُجزئُك حتى تقرأ بالأخرى ، فإما أن تقرأ بها ، وإما أن تدعها وتَقرأ بأخرى. فقال : ما أنا بتاركها ، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت ، وإن كرهتم تركتكم. وكانوا يَرَونَ أنه من أفضلهم ، وكرهوا أن يَؤمهم غيره. فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر ، فقال : "يا فلان ، ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك ، وما حملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة ؟ ". قال : إني أحبها. قال : "حُبك إياها أدخلك الجنة" (7).
هكذا رواه البخاري تعليقًا مجزومًا به. وقد رواه أبو عيسى الترمذي في جامعه ، عن البخاري ، عن إسماعيل بن أبي أويس ، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن عُبَيد الله بن عمر ، فذكر بإسناده مثله سواء (8). ثم قال الترمذي : غريب من حديث عبيد الله ، عن ثابت. قال : وروى
__________
(1) ورواه الطيالسي عن قيس ، عن عاصم ، عن أبي وائل مرسلا ، ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (89).
(2) زيادة من أ.
(3) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3423) "مجمع البحرين" من طريق عبد الرحمن بن نافع ، عن علي بن ثابت ، عن الوازع ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة به ، وقال : "لا يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد ، تفرد به عبد الرحمن".
(4) صحيح البخاري برقم (7375).
(5) صحيح مسلم برقم (813) ، وسنن النسائي (2/170).
(6) في أ : "وقال عبد الله".
(7) صحيح البخاري برقم (774).
(8) سنن الترمذي برقم (2901).

(8/519)


مُبَارك بن فَضالة ، عن ثابت ، عن أنس ، أن رجلا قال : يا رسول الله ، إني أحب هذه السورة : " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " قال : "إن حُبَّك إياها أدخلك الجنة".
وهذا الذي علقه الترمذي قد رواه الإمام أحمد في مسنده متصلا فقال :
حدثنا أبو النضر ، حدثنا مبارك بن فضالة ، عن ثابت ، عن أنس قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني أحب هذه السورة : " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "حبك (1) إياها أدخلك الجنة" (2).
حديث في كونها تعدل ثلث القرآن : قال البخاري : حدثنا إسماعيل ، حدثني مالك ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صَعْصَعَة ، عن أبيه ، عن أبي سعيد. أن رجلا سمع رَجُلا يقرأ : " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " يرددها ، فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له ، وكأن الرجل يتقالّها ، فقال النبي (3) صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده ، إنها لتعدل ثلث القرآن". زاد إسماعيل بن جعفر ، عن مالك ، عن عبد الرحمن بن عبد الله ، عن أبيه ، عن أبي سعيد قال : أخبرني أخي قتادة بن النعمان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم (4).
وقد رواه البخاري أيضا عن عبد الله بن يوسف ، والقَعْنَبِيّ. ورواه أبو داود عن القعنبي ، والنسائي عن قتيبة ، كلهم عن مالك ، به (5). وحديث قتادة بن النعمان أسنده النسائي من طريقين ، عن إسماعيل بن جعفر ، عن مالك ، به (6).
حديث آخر : قال البخاري : حدثنا عُمَر بن حفص ، حدثنا أبي ، حدثنا الأعمش ، حدثنا إبراهيم والضحاك المَشْرِقيّ ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : "أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة ؟ ". فشق ذلك عليهم وقالوا : أينا يُطيق ذلك يا رسول الله ؟ فقال : "الله الواحد الصمد ثلث القرآن" (7).
تفرد بإخراجه البخاري من حديث إبراهيم بن يزيد النَّخعي والضحاك بن شُرَحبيل الهمداني المشرقي ، كلاهما عن أبي سعيد ، قال القَرَبرِيّ : سمعت أبا جعفر محمد بن أبي حاتم وراقُ أبي عبد الله قال : قال أبو عبد الله البخاري : عن إبراهيم مرسل ، وعن الضحاك مسند (8).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، عن الحارث بن يزيد ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري قال : بات قتادة بن النعمان يقرأ الليل كله ب " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ "
__________
(1) في م : "إن حبك".
(2) المسند (3/141).
(3) في م : "فقال رسول الله".
(4) صحيح البخاري برقم (7374).
(5) صحيح البخاري برقم (5013 ، 6643) وسنن أبي داود برقم (1461) وسنن النسائي (2/171).
(6) سنن النسائي الكبرى برقم (8029) وبرقم (10536).
(7) صحيح البخاري برقم (5015).
(8) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (9/60) : "والمراد أن رواية إبراهيم النخعي عن أبي سعيد منقطعة ، ورواية الضحاك عنه متصلة"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج6. تفسير القرآن العظيم{لابن كثير} والاخر بفضل الله

ج6. تفسير القرآن العظيم{لابن كثير} المؤلف : أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي [ 700 -774 هـ ] فذكر ذلك للنبي صلى الله ...