ج4. تفسير القرآن العظيم{لابن كثير}
المؤلف : أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي [ 700 -774 هـ ]
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
بذلك ،
أفهؤلاء يؤمنون بالآيات لو (1) رَأَوْها دون أولئك ؟ كلا بل { إِنَّ الَّذِينَ
حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ
آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 96 ، 97 ].
هذا كله ، وقد شاهدوا من الآيات الباهرات ، والحجج القاطعات ، والدلائل البينات ،
على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو أظهر وأجلى ، وأبهر وأقطع وأقهر ، مما
شُوهِدَ مع غيره من الأنبياء ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
قال ابن أبي حاتم ، رحمه الله : ذكر عن زيد بن الحباب ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا
الحارث بن زيد الحضرمي ، عن علي بن رباح اللخمي ، حدثني من شهد عبادة بن الصامت ،
يقول : كنا في المسجد ومعنا أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه ، يُقْرِئُ بعضنا بعضا
القرآن ، فجاء عبد الله بن أبي بن سلول ، ومعه نُمْرُقة وزِرْبِيّة ، فوضع واتكأ ،
وكان صبيحًا فصيحًا جدلا فقال : يا أبا بكر ، قل لمحمد يأتينا بآية كما جاء
الأولون ؟ جاء موسى بالألواح ، وجاء داود بالزبور ، وجاء صالح بالناقة ، وجاء عيسى
بالإنجيل وبالمائدة. فبكى أبو بكر ، رضي الله عنه ، فخرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، فقال أبو بكر : قوموا إلى رسول الله (2) صلى الله عليه وسلم نستغيث به من
هذا المنافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنه لا يقام لي ، إنما
يقام لله عز وجل". فقلنا : يا رسول الله ، إنا لقينا من هذا المنافق. فقال :
"إن (3) جبريل قال (4) لي : اخرج فأخبر بنعم الله التي أنعم بها عليك ،
وفضيلته التي فُضِّلت بها ، فبشرني أني بعثت إلى الأحمر والأسود ، وأمرني أن أنذر
الجن ، وآتاني كتابه وأنا أمّي ، وغفر ذنبي ما تقدم وما تأخر ، وذكر اسمي في
الأذان وأيدني (5) بالملائكة ، وآتاني النصر ، وجعل الرعب أمامي ، وآتاني الكوثر ،
وجعل حوضي من أعظم الحياض يوم القيامة ، ووعدني المقام المحمود والناس مهطعون
مقنعو (6) رءوسهم ، وجعلني في أول زمرة تخرج من الناس ، وأدخل في شفاعتي سبعين
ألفًا من أمتي الجنة بغير حساب وآتاني السلطان والملك ، وجعلني في أعلى غرفة في
الجنة في جنات النعيم (7) ، فليس فوقي أحد إلا الملائكة الذين يحملون العرش ، وأحل
لي (8) الغنائم (9) ، ولم تحل لأحد كان قبلنا". وهذا الحديث غريب جدًا.
{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا يُوحَى إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا
يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ
الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) }.
يقول تعالى رادِّا على من أنكر بعثة الرسل من البشر : { وَمَا أَرْسَلْنَا
قَبْلَكَ إِلا رِجَالا يُوحَى (10) إِلَيْهِمْ }
__________
(1) في ف : "ولو".
(2) في ف : "إلى رسوله".
(3) في ف : "أتى".
(4) في ف : "فقال".
(5) في أ : "وأمرني".
(6) في ف : "مقنعي".
(7) في ف ، أ : "عدن".
(8) في ف ، أ : "لي ولأمتي".
(9) في أ : "المغانم".
(10) في ف ، أ : "نوحي".
لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
أي : جميع
الرسل الذين تقدموا كانوا رجالا من البشر ، لم يكن فيهم أحد من الملائكة ، كما قال
في الآية الأخرى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا يُوحَى (1)
إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [ يوسف : 109 ] ، وقال تعالى : { قُلْ مَا
كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ } [ الأحقاف : 9 ] ، وقال تعالى حكاية عمن تقدم من
الأمم أنهم أنكروا ذلك فقالوا : { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } [ التغابن : 6 ] ؛
ولهذا قال تعالى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ }
أي : اسألوا أهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر الطوائف : هل كان الرسل
الذين أتوهم بشرًا أو ملائكة ؟ إنما كانوا بشرًا ، وذلك من تمام نِعمَ الله على
خلقه ؛ إذ بعث فيهم رسلا (2) منهم يتمكنون من تناول البلاغ منهم والأخذ عنهم.
وقوله : { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ } أي : بل قد
كانوا أجسادًا يأكلون الطعام ، كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي
الأسْوَاقِ } [ الفرقان : 20] أي : قد كانوا بشرا من البشر ، يأكلون ويشربون مثل
الناس ، ويدخلون الأسواق للتكسب والتجارة ، وليس ذلك بضار لهم ولا ناقص منهم شيئًا
، كما توهمه المشركون في قولهم : { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ
وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلا أُنزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ
نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنز أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا
وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا } [ الفرقان : 7
، 8 ].
وقوله : { وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ } أي : في الدنيا ، بل كانوا يعيشون ثم يموتون
، { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ } [ الأنبياء : 34 ] ،
وخاصتهم أنهم يوحى إليهم من الله عز وجل ، تنزل عليهم الملائكة عن الله بما يحكم
(3) في خلقه مما يأمر به وينهى عنه.
وقوله : { ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ } أي : الذي وعدهم ربهم : "ليهلكن
الظالمين" ، صدقهم الله وعده ففعل ذلك ؛ ولهذا قال : { فَأَنْجَيْنَاهُمْ
وَمَنْ نَشَاءُ } أي : أتباعهم من المؤمنين ، { وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ } أي
: المكذبين بما جاءت الرسل به.
{ لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10)
}
__________
(1) في ف ، أ : "نوحي".
(2) في ف ، أ : "رسولا" ، وهو خطأ.
(3) في ف : "يحكمه".
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
{ وَكَمْ
قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا
آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12)
لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ
(14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ
(15) }.
يقول تعالى منبهًا على شرف القرآن ، ومحرضًا لهم على معرفة قدره : { لَقَدْ
أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ } قال ابن عباس : شَرَفُكم.
وقال مجاهد : حديثكم. وقال الحسن : دينكم.
== وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)
{ وَإِنَّهُ
لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } [ الزخرف : 44 ].
وقوله : { وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً } هذه صيغة تكثير ،
كما قال { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ } [ الإسراء :
17].
وقال تعالى : { فَكَأَيِّنْ (1) مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ
فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ } [
الحج : 45]. وقوله : { وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ } أي : أمة أخرى
بعدهم.
{ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا } أي : تيقنوا أن العذاب واقع (2) بهم ، كما وعدهم
نبيهم ، { إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ } أي : يفرون هاربين.
{ لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ } هذا
تهكم بهم قدرًا أي : قيل لهم قدرًا : لا تركضوا هاربين من نزول العذاب ، وارجعوا
إلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور ، والمعيشة والمساكن الطيبة.
قال قتادة : استهزاء بهم.
{ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } أي : عما كنتم فيه من أداء شكر النعمة.
{ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } اعترفوا بذنوبهم حين لا
ينفعهم ذلك ، { فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ
} أي : ما (3) زالت تلك المقالة ، وهي الاعتراف بالظلم ، هِجيراهم حتى حصدناهم
حصدًا (4) وخمدت حركاتهم وأصواتهم خمودًا.
{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (16) لَوْ
أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا
فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا
هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ
وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ
(20) }.
يخبر تعالى أنه خلق السموات والأرض بالحق ، أي : بالعدل والقسط ، { لِيَجْزِيَ
الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى
} [ النجم : 31] ، وأنه لم يخلق ذلك عبثًا ولا لعبًا ، كما قال : { وَمَا
خَلَقْنَا السَّمَاءَ (5) وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } [ ص : 27]
وقوله تعالى : { لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ
لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ } قال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { لَوْ
أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا } يعني : من عندنا
، يقول : وما خلقنا جنة ولا نارًا ، ولا موتًا ، ولا بعثًا ، ولا حسابًا.
وقال الحسن ، وقتادة ، وغيرهما : { لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا } اللهو
: المرأة بلسان أهل اليمن.
__________
(1) في ف : "وكأين".
(2) في ف : "تيقنوا العذاب أنه واقع".
(3) في ف : "فما".
(4) في ف ، أ : "جعلناهم حصيدا خامدين".
(5) في ف ، أ : "السماوات".
(5/335)
وقال إبراهيم
النَّخعِي : { لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ } من الحور
العين.
وقال عكرمة والسدي : المراد باللهو هاهنا : الولد.
وهذا والذي قبله متلازمان ، وهو كقوله تعالى : { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ
يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ } [الزمر :
4] ، فنزه نفسه عن اتخاذ الولد مطلقًا ، لا سيما عما يقولون من الإفك والباطل ، من
اتخاذ عيسى ، أو العزير (1) أو الملائكة ، { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا } [ الإسراء : 43].
وقوله : { إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ } قال قتادة ، والسدي ، وإبراهيم النخعي ،
ومغيرة بن مِقْسَم ، أي : ما كنا فاعلين.
وقال مجاهد : كل شيء في القرآن "إن" فهو إنكار.
وقوله : { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ } أي : نبين الحق فيدحض
الباطل ؛ ولهذا قال : { فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } أي : ذاهب مضمحل ، {
وَلَكُمُ الْوَيْلُ } أي : أيها القاتلون : لله ولد ، { مِمَّا تَصِفُونَ } أي :
تقولون وتفترون.
ثم أخبر تعالى عن عبودية الملائكة له ، ودأبهم في طاعته ليلا ونهارًا ، فقال : {
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ } يعني : الملائكة ، {
لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } أي : لا يستنكفون عنها ، كما قال : { لَنْ
يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ
الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ
إِلَيْهِ جَمِيعًا } [ النساء : 172].
وقوله : { وَلا يَسْتَحْسِرُونَ } أي : لا يتعبون ولا يَملُّون.
{ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ } فهم دائبون في العمل ليلا
ونهارًا ، مطيعون قصدًا وعملا قادرون عليه ، كما قال تعالى : { لا يَعْصُونَ
اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن أبي دُلامة البغدادي ، أنبأنا عبد الوهاب بن
عطاء ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن صفوان بن مُحرِز ، عن حكيم بن حِزَام قال :
بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ، إذ قال لهم : "هل تسمعون ما
أسمع ؟" قالوا : ما نسمع من شيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إني لأسمع أطيط السماء ، وما تلام أن تئط ، وما فيها موضع شِبْر إلا وعليه
ملك ساجد أو قائم". غريب ولم يخرجوه (2).
ثم رواه ابن أبي حاتم من طريق يزيد بن زُرَيْع ، عن سعيد ، عن قتادة مرسلا.
وقال أبو إسحاق (3) ، عن حسان بن مخارق ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال :
جلست إلى كعب الأحبار وأنا غلام ، فقلت له : أرأيت قول الله [للملائكة] (4) {
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ }
__________
(1) في ف : "أو عزيز".
(2) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (3/201) والطحاوي في مشكل الآثار برقم (1134)
من طريق عبد الوهاب بن عطاء به ، وله شاهد من حديث أبي ذر الغفاري أخرجه الترمذي
في السنن برقم (2312) وقال : "هذا حديث حسن غريب".
(3) في هـ ، ف ، أ : "محمد بن إسحاق" والمثبت من الطبري 17/70.
(4) زيادة من ف ، أ.
(5/336)
أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
أما يشغلهم
عن التسبيح الكلام والرسالة والعمل ؟. فقال : فمن هذا الغلام ؟ فقالوا : من بني
عبد المطلب ، قال : فقبل رأسي ، ثم قال لي : يا بني ، إنه جعل لهم التسبيح ، كما
جعل لكم النفس ، أليس تتكلم وأنت تتنفس (1) وتمشي وأنت تتنفس ؟.
{ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ
فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ
عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) }
ينكر (2) تعالى على من اتخذ من دونه آلهة ، فقال : بل { اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ
الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ } أي : أهم يحيون الموتى وينشرونهم من الأرض ؟ أي : لا
يقدرون على شيء من ذلك. فكيف جعلوها لله ندًا وعبدوها معه.
ثم أخبر تعالى أنه لو كان في الوجود آلهة غيره لفسدت السموات الأرض ، فقال { لَوْ
كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ } أي : في السماء والأرض ، { لَفَسَدَتَا } ، كقوله تعالى
: { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا
لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ
اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } [ المؤمنون : 91] ، وقال هاهنا : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ
رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } أي : عما يقولون إن له ولدًا أو شريكًا ،
سبحانه وتعالى وتقدس وتنزه عن الذي يفترون ويأفكون علوًا كبيرًا.
وقوله : { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } أي : هو الحاكم الذي
لا معقب لحكمه ، ولا يعترض عليه أحد ، لعظمته وجلاله وكبريائه ، وعلوه وحكمته
وعدله ولطفه ، { وَهُمْ يُسْأَلُونَ } أي : وهو سائل خلقه عما يعملون ، كقوله : {
فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الحجر
: 92 ، 93] وهذا كقوله تعالى : { وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ } [
المؤمنون : 88].
{ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ
مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ
فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) }
__________
(1) في ف : "وأنت تمشي".
(2) في ف : "فينكر".
(5/337)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
{ وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ
إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) }
يقول تعالى : بل { اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ } يا محمد : { هَاتُوا
بُرْهَانَكُمْ } أي : دليلكم على ما تقولون ، { هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ } يعني :
القرآن ، { وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي } يعني : الكتب المتقدمة على خلاف ما تقولون
وتزعمون ، فكل كتاب أنزل على كل نبي أرسل ، ناطق بأنه لا إله إلا الله ، ولكن أنتم
أيها المشركون لا تعلمون الحق ، فأنتم معرضون عنه ؛ ولهذا قال : { وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا يُوحَى (1) إِلَيْهِ أَنَّهُ لا
إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } ، كما قال : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ
} [الزخرف : 45] ،
__________
(1) في ف ، أ : "نوحي".
(5/337)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
وقال : {
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ
وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36] ، فكل نبي بعثه الله يدعو إلى عبادة
الله وحده لا شريك له ، والفطرة شاهدة بذلك أيضا ، والمشركون لا برهان لهم ،
وحجتهم داحضة عند ربهم ، وعليهم غضب ، ولهم عذاب شديد.
{ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ
(26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ
مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى
وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ
مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
}.
يقول تعالى ردًا على من زعم أن له - تعالى وتقدس - ولدًا من الملائكة ، كمن قال
ذلك من العرب : إن الملائكة بنات الله ، فقال : { سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ
مُكْرَمُونَ } أي : الملائكة عباد الله مكرمون عنده ، في منازل عالية ومقامات
سامية ، وهم له في غاية الطاعة قولا وفعلا.
{ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } أي : لا يتقدمون
بين يديه بأمر ، ولا يخالفونه فيما أمر (1) به بل يبادرون إلى فعله ، وهو تعالى
عِلْمه محيط بهم ، فلا يخفى عليه منهم خافية ، { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَمَا خَلْفَهُمْ }
وقوله : { وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى } كقوله : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ
عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255] ، وقوله : { وَلا تَنْفَعُ
الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [سبأ : 23] ، في آيات كثيرة في
معنى ذلك.
{ وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ } أي : من خوفه ورهبته { مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ
مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ } أي : من ادعى منهم أنه إله من دون الله ،
أي : مع الله ، { فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }
أي : كل من قال ذلك ، وهذا شرط ، والشرط لا يلزم وقوعه ، كقوله : { قُلْ إِنْ
كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } [الزخرف : 81] ، وقوله
{ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر : 65].
{ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا
رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا
يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ
وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا
السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ
الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ (33) }.
يقول تعالى منبهًا على قدرته التامة ، وسلطانه العظيم في خلقه الأشياء ، وقهره
لجميع المخلوقات ، فقال : { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : الجاحدون
لإلهيته العابدون (2) معه غيره ، ألم يعلموا
__________
(1) في ف ، أ : "أمرهم".
(2) في أ : "العابدين".
(5/338)
أن الله هو
المستقل بالخلق ، المستبد بالتدبير ، فكيف يليق أن يعبد غيره أو يشرك به ما سواه ،
ألم (1) يروا { أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا } أي : كان الجميع
متصلا بعضه ببعض متلاصق متراكم ، بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر ، ففتق هذه من هذه.
فجعل السموات سبعًا ، والأرض (2) سبعًا ، وفصل بين سماء الدنيا والأرض بالهواء ،
فأمطرت السماء وأنبتت الأرض ؛ ولهذا قال : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ
شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ } أي : وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئًا فشيئًا
عيانًا ، وذلك دليل على وجود الصانع الفاعل المختار القادر على ما يشاء : فَفِي
كُلّ شيء لَهُ آيَة... تَدُلّ علَى أنَّه وَاحد...
قال سفيان الثوري ، عن أبيه ، عن عكرمة قال : سئل ابن عباس : الليل كان قبل أو
النهار ؟ فقال : أرأيتم السموات والأرض حين كانتا رتقًا ، هل كان بينهما إلا ظلمة
؟ ذلك لتعلموا أن الليل قبل النهار.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن أبي حمزة ، حدثنا حاتم ، عن
حمزة بن أبي محمد ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ؛ أن رجلا أتاه يسأله عن
السموات والأرض { كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } ؟. قال : اذهب إلى ذلك
الشيخ فاسأله ، ثم تعال فأخبرني بما قال لك. قال : فذهب إلى ابن عباس فسأله. فقال
ابن عباس : نعم ، كانت السموات رتقًا لا تمطر ، وكانت الأرض رتقًا لا تنبت.
فلما خلق للأرض أهلا فتق هذه بالمطر ، وفتق هذه بالنبات. فرجع الرجل إلى ابن عمر
فأخبره ، فقال ابن عمر : الآن قد علمت أن ابن عباس قد أوتي في القرآن علمًا ، صدق
- هكذا كانت. قال ابن عمر : قد كنت أقول : ما يعجبني جراءة ابن عباس على تفسير
القرآن ، فالآن قد علمت أنه قد أوتي في القرآن علمًا.
وقال عطية العَوْفي : كانت هذه رتقًا لا تمطر ، فأمطرت. وكانت هذه رتقًا لا تنبت ،
فأنبتت.
وقال إسماعيل بن أبي خالد : سألت أبا صالح الحنَفِي عن قوله : { أَنَّ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } ، قال : كانت السماء
واحدة ، ففتق منها سبع سماوات ، وكانت الأرض واحدة ففتق منها سبع أرضين.
وهكذا قال مجاهد ، وزاد : ولم تكن السماء والأرض متماستين.
وقال سعيد بن جبير : بل كانت السماء والأرض ملتزقتين ، فلما رفع السماء وأبرز منها
الأرض ، كان ذلك فتقهما الذي ذكر الله في كتابه. وقال الحسن ، وقتادة ، كانتا
جميعًا ، ففصل بينهما بهذا الهواء.
وقوله : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } أي : أصل كل الأحياء
منه.
__________
(1) في أ : "أولم"."
(2) في ف ، أ : "والأرضين".
(5/339)
وقال ابن
أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الجماهر (1) ، حدثنا سعيد بن بشير ، حدثنا قتادة
عن أبي ميمونة (2) ، عن أبي هريرة أنه قال : يا نبي الله إذا رأيتك قرت عيني ،
وطابت نفسي ، فأخبرني عن كل شيء ، قال : "كل شيء خلق من ماء".
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا همام ، عن قتادة ، عن أبي ميمونة ، عن أبي
هريرة قال : قلت : يا رسول الله ، إني إذا رأيتك طابت نفسي ، وقرت عيني ، فأنبئني
عن كل شيء. قال : "كل شيء خلق من ماء" قال : قلت : أنبئني عن أمر إذا
عملتُ به دخلت الجنة. قال : "أفْش السلام ، وأطعم الطعام ، وصِل الأرحام ،
وقم بالليل والناس نيام ، ثم ادخل الجنَّة بسلام" (3).
ورواه أيضا عبد الصمد وعفان وبَهْز ، عن همام (4). تفرد به أحمد ، وهذا إسناد على
شرط الصحيحين ، إلا أن أبا ميمونة من رجال السنن ، واسمه سليم ، والترمذي يصحح له.
وقد رواه سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة مرسلا والله (5) أعلم.
وقوله : { وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ } أي : جبالا أرسى الأرض بها وقرّرها
وثقلها ؛ لئلا تميد بالناس ، أي : تضطرب وتتحرك ، فلا يحصل لهم عليها قرار (6)
لأنها غامرة في الماء إلا مقدار الربع ، فإنه باد للهواء والشمس ، ليشاهد أهلها
السماء وما فيها من الآيات الباهرات ، والحكم والدلالات ؛ ولهذا قال : { أَنْ
تَمِيدَ بِهِمْ } أي : لئلا تميد بهم.
وقوله : { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا } أي : ثغرًا في الجبال ، يسلكون
فيها طرقًا من قطر إلى قطر ، وإقليم إلى إقليم ، كما هو المشاهد في الأرض ، يكون
الجبل حائلا بين هذه البلاد وهذه البلاد ، فيجعل الله فيه فجوة - ثغرة - ليسلك
الناس فيها من هاهنا إلى هاهنا ؛ ولهذا قال : { لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ }.
وقوله : { وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا } أي : على الأرض وهي كالقبة عليها ،
كما قال : { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ }
[الذاريات : 47] ، وقال : { وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا } [الشمس : 5] ، {
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا
وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ } [ق : 6] ، والبناء هو نصب القبة ، كما
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بُنِي الإسلام على خمس" أي : خمس
(7) دعائم ، وهذا لا يكون إلا في الخيام ، على ما (8) تعهده العرب.
{ مَّحْفُوظًا } أي : عاليًا محروسًا أن يُنال. وقال مجاهد : مرفوعا.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدَّشْتَكي
، حدثني
__________
(1) في ف ، أ : "الجماهير".
(2) في ف ، أ : "أبي ميمون".
(3) المسند (2/295) ورواه الحاكم في المستدرك (4/129) من طريق يزيد بن هارون
وصححه. ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (642) "موارد" من طريق أبي عامر
العقدي عن همام به.
(4) المسند (2/323 - 493) من طريق عبد الصمد ، (2/323) من طريق عفان ، (2/324) من
طريق بهز. وقال الهيثمي في المجمع (5/16) : "رجاله رجال الصحيح ، خلا أبي
ميمونة وهو ثقة".
(5) في ف : "فالله".
(6) في ف : "قرار عليها".
(7) في ف : "خمسة".
(8) في ف : " كما".
(5/340)
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
أبي ، عن
أبيه ، عن أشعث - يعني ابن إسحاق القُمِّي - عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن
جُبَيْر ، عن ابن عباس ، قال رجل : يا رسول الله ، ما هذه السماء ، قال :
"موج مكفوف عنكم" (1) إسناد غريب.
وقوله : { وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } ، كقوله : { وَكَأَيِّنْ مِنْ
آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا
مُعْرِضُونَ } [يوسف : 105] أي : لا يتفكرون فيما خلق الله فيها من الاتساع العظيم
، والارتفاع الباهر ، وما زينت به من الكواكب الثوابت والسيارات في ليلها ، وفي
نهارها (2) من هذه الشمس التي تقطع الفلك بكماله ، في يوم وليلة فتسير غاية لا
يعلم قدرها إلا الذي (3) قدرها وسخرها وسيرها.
وقد ذكر ابن أبي الدنيا ، رحمه الله ، في كتابه "التفكر والاعتبار" : أن
بعض عباد بني إسرائيل تعبد ثلاثين سنة ، وكان الرجل منهم إذا تعبد ثلاثين سنة
أظلته غمامة ، فلم ير ذلك الرجل شيئًا مما كان يرى لغيره ، فشكى ذلك إلى أمه ،
فقالت له : يا بني ، فلعلك أذنبت في مدة عبادتك هذه ، فقال : لا والله ما أعلم ،
قالت : فلعلك هممت ؟ قال : لا (4) ولا هممت. قالت : فلعلك رفعت بصرك إلى السماء ثم
رددته بغير فكر ؟ فقال : نعم ، كثيرًا. قالت : فمن هاهنا أتيت.
ثم قال منبهًا على بعض آياته : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ }
أي : هذا في ظلامه وسكونه ، وهذا بضيائه وأنسه ، يطول هذا تارة ثم يقصر أخرى ،
وعكسه الآخر. { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } هذه لها نور يخصها ، وفلك بذاته ، وزمان
على حدة ، وحركة وسير خاص ، وهذا بنور خاص آخر ، وفلك آخر ، وسير آخر ، وتقدير آخر
، { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40] ، أي : يدورون.
قال ابن عباس : يدورون كما يدور المغزل في الفلكة. وكذا قال مجاهد : فلا يدور
المغزل إلا بالفلكة ، ولا الفلكة إلا بالمغزل ، كذلك النجوم والشمس والقمر ، لا
يدورون إلا به ، ولا يدور إلا بهن ، كما قال تعالى : { فَالِقُ الإصْبَاحِ
وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ الأنعام : 96].
{ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ
الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ
وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) }.
يقول تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ } أي : يا محمد ، {
الْخُلْدَ } أي : في الدنيا بل { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ
رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ } [ الرحمن : 26 ، 27].
وقد استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر ، عليه السلام ، مات
وليس بحي إلى الآن ؛ لأنه بشر ، سواء كان وليًا أو نبيًا أو رسولا وقد قال تعالى :
{ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ }.
__________
(1) ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (539) من طريق أحمد بن القاسم عن أحمد بن عبد
الرحمن الدشتكي به.
(2) في ف ، أ : "النهار".
(3) في ف ، أ : "الله".
(4) في ف ، أ : "بل والله".
(5/341)
وقوله : {
أَفَإِنْ مِتَّ } أي : يا محمد ، { فَهُمُ الْخَالِدُونَ } ؟! أي : يؤملون أن
يعيشوا بعدك ، لا يكون هذا ، بل كل إلى فناء ؛ ولهذا قال : { كُلُّ نَفْسٍ
ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } ، وقد روي عن الشافعي ، رحمه الله ، أنه أنشد واستشهد بهذين
البيتين : تمنى رجال أن أموت وإن أمت فَتلْكَ سَبيل لَسْت فيهَا بأوْحد
فقُلْ للَّذي يَبْغي خلاف الذي مضى : تَهَيَّأ لأخْرى مثْلها فكَأن قد (1)
وقوله : { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } أي : نختبركم بالمصائب
تارة ، وبالنعم أخرى ، لننظر من يشكر ومن يكفر ، ومن يصبر ومن يقنط ، كما قال علي
بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { ونبلوكم } ، يقول : نبتليكم بالشر والخير فتنة ،
بالشدة والرخاء ، والصحة والسقم ، والغنى والفقر ، والحلال والحرام ، والطاعة
والمعصية والهدى والضلال..
وقوله : { وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } أي : فنجازيكم بأعمالكم.
__________
(1) البيتان ذكرهما البيهقي في مناقب الشافعي (2/62) والرازي في مناقب الشافعي
(ص119).
(5/342)
وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
{ وَإِذَا
رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي
يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ
الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) }.
يقول تعالى لنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه ، { وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا
} يعني : كفار قريش كأبي جهل وأشباهه { إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا } أي :
يستهزئون بك وينتقصونك ، يقولون : { أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ } يعنون
: أهذا الذي يسب آلهتكم ويسفه أحلامكم ، قال تعالى : { وَهُمْ بِذِكْرِ
الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ } أي : وهم كافرون بالله ، ومع هذا يستهزئون برسول
الله ، كما قال في الآية الأخرى : { وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا
هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا. إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ
آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ
الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا } [ الفرقان : 41 ، 42].
وقوله : { خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ } ، كما قال في الآية الأخرى : { وَكَانَ
(1) الإنْسَانُ عَجُولا } [الإسراء : 11] أي : في الأمور.
قال مجاهد : خلق الله آدم بعد كل شيء من آخر النهار ، من يوم خلق الخلائق فلما
أحيا الروح عينيه ولسانه ورأسه ، ولم يبلغ (2) أسفله قال : يا رب ، استعجل بخلقي
قبل غروب الشمس.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنَان ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا محمد بن
علقمة بن وقاص الليثي ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "خير يوم طلعت فيه
__________
(1) في ف : "وخلق".
(2) في ف : "تبلغ".
(5/342)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
الشمس يوم
الجمعة ، فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة ، وفيه أهبط منها ، وفيه تقوم الساعة ، وفيه
ساعة لا يوافقها مؤمن يصلي - وقبض أصابعه قَلَّلَها (1) - فسأل الله خيرًا ، إلا
أعطاه إياه". قال أبو سلمة : فقال عبد الله بن سلام : قد عرفت تلك الساعة ،
وهي آخر ساعات النهار من يوم الجمعة ، وهي التي خلق الله فيها آدم ، قال الله
تعالى : { خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا
تَسْتَعْجِلُونِ } (2).
والحكمة في ذكر عجلة الإنسان هاهنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول ، صلوات الله
[وسلامه] (3) عليه ، وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلت (4) ، فقال الله
تعالى : { خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ } ؛ لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه
لم يفلته ، يؤجل ثم يعجل ، وينظر ثم لا يؤخر ؛ ولهذا قال : { سَأُوْرِيكُمْ
آيَاتِي } أي : نقمي وحكمي واقتداري على من عصاني ، { فَلا تَسْتَعْجِلُونِ }.
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ
يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا
عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً
فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) }.
يخبر تعالى عن المشركين أنهم يستعجلون أيضًا بوقوع العذاب بهم ، تكذيبًا وجحودًا
وكفرًا وعنادًا واستبعادًا ، فقال : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
قال الله تعالى : { لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ
وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ } أي : لو تيقنوا أنها واقعة بهم لا
محالة لما استعجلوا ، به ولو يعلمون حين يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ،
{ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } [
الزمر : 16] ، { لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [
الأعراف : 41] ، وقال في هذه الآية : { حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ
النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ } وقال : { سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ
وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ } [إبراهيم : 50] ، فالعذاب محيط بهم من جميع
جهاتهم ، { وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ } أي : لا ناصر لهم كما قال : { وَمَا لَهُمْ
مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ } [الرعد : 34].
وقوله : { بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً } (5) أي : "تأتيهم النار بغتة" ،
أي : فجأة { فَتَبْهَتُهُمْ } أي : تذعرهم (6) فيستسلمون لها حائرين ، لا (7)
يدرون ما يصنعون ، { فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا } أي : ليس لهم حيلة في ذلك ، {
وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ } أي : ولا يؤخر عنهم ذلك ساعة واحدة.
__________
(1) في أ : "يقللها"
(2) أخرج مالك في الموطأ (1/108) من طريق يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أبي
سلمة عن أبي هريرة نحوه دون ذكر الآية وأخرج الشيخان أوله والله أعلم.
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في ف ، أ : "واستعجلت ذلك".
(5) في ف : "بغته فتبهتهم"
(6) في ف ، أ : "تدعوهم".
(7) في ف : "حائرون ولا".
(5/343)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
{ وَلَقَدِ
اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا
كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)
أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ
أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) }.
يقول تعالى مسليًا لرسوله [صلوات الله وسلامه عليه] (1) عما آذاه به المشركون من
الاستهزاء والتكذيب : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ
بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } يعني : من
العذاب الذي كانوا يستبعدون وقوعه ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ
مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ
نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ
الْمُرْسَلِينَ } [الأنعام : 34].
ثم ذكر تعالى نعمته على عبيده في حفظه لهم بالليل والنهار ، وكلاءته وحراسته لهم
بعينه التي لا تنام ، فقال : { قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
مِنَ الرَّحْمَنِ } ؟ أي : بدل الرحمن بمعني غيره كما قال الشاعر (2)
جَارية لَمْ تَلْبَس المُرقَّقا... وَلَم تَذق منَ البُقول الفُسْتُقا...
أي : لم تذق بدل البقول الفستق.
وقوله تعالى : { بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ } أي : لا يعترفون
(3) بنعمه عليهم وإحسانه إليهم ، بل يعرضون عن آياته وآلائه ، ثم قال { أَمْ
لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا } استفهام إنكار وتقريع وتوبيخ ، أي :
ألهم آلهة تمنعهم وتكلؤهم غيرنا ؟ ليس الأمر كما توهموا ولا كما (4) زعموا ؛ ولهذا
قال : { لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ } أي : هذه [الآلهة] (5) التي
استندوا إليها غير الله لا يستطيعون نصر أنفسهم.
وقوله : { وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ } قال العوفي ، عن ابن عباس : { وَلا هُمْ
مِنَّا يُصْحَبُونَ } أي : يجارون (6) وقال قتادة لا يصحبون [من الله] (7) بخير
وقال غيره : { وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ } يمنعون.
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) هو أبو نخيلة يعمر بن حزن ، والبيت في اللسان مادة (فسق) وصدره : دسته لم تأكل
المرققا
وقد حمل صاحب اللسان قوله بأنه ظن الفستق من البقول.
(3) في ف ، أ : "لا يعرفون".
(4) في ف ، أ : "ولا قد كما".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في ف ، أ : "يجازون".
(7) زيادة من ف.
(5/344)
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)
{ بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) }.
(5/345)
قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
{ قُلْ
إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا
يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ
لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ
الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ
مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
}.
يقول تعالى مخبرًا عن المشركين : إنما غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال ، أنهم
مُتّعوا في الحياة الدنيا ، ونعموا وطال عليهم العمر فيما هم فيه ، فاعتقدوا أنهم
على شيء.
ثم قال واعظًا لهم : { أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ
أَطْرَافِهَا } اختلف المفسرون في معناه ، وقد أسلفناه في سورة "الرعد"
، وأحسن ما فسر بقوله تعالى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ
الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الاحقاف : 27].
وقال الحسن البصري : يعني بذلك ظهور الإسلام على الكفر.
والمعنى : أفلا يعتبرون بنصر الله لأوليائه على أعدائه ، وإهلاكه الأمم المكذبة
والقرى الظالمة ، وإنجائه لعباده المؤمنين ؛ ولهذا قال : { أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ
} يعني : بل هم المغلوبون الأسفلون الأخسرون الأرذلون.
وقوله : { قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ } أي : إنما أنا مبلغ (1) عن
الله ما أنذركم (2) به من العذاب والنكال ، ليس ذلك إلا عما أوحاه الله إليّ ،
ولكن لا يجدي هذا عمن أعمى الله بصيرته ، وختم على سمعه وقلبه ؛ ولهذا قال : {
وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ }.
وقوله : { وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا
وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } أي : ولئن مس هؤلاء المكذبين أدنى شيء من
عذاب الله ، ليعترفن بذنوبهم ، وأنهم كانوا ظالمين أنفسهم في الدنيا.
وقوله : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ
نَفْسٌ شَيْئًا } أي : ونضع الموازين العدل ليوم القيامة. الأكثر على أنه إنما هو
ميزان واحد ، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه.
وقوله : { فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ
خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } كما قال تعالى : { وَلا
يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف : 49] ، وقال : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ
أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء : 40] ، وقال لقمان : { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ
تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي
السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ
خَبِيرٌ } [ لقمان : 16].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم :
"كلمتان خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان ، حبيبتان إلى الرحمن :
سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم" (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطَّالَقَاني ، حدثنا ابن المبارك ،
عن ليث بن سعد ، حدثني عامر بن يحيى ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، قال : سمعت عبد
الله بن عمرو بن العاص يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله
عز وجل يستخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر عليه تسعة
وتسعين سجلا كل سجل مد البصر ، ثم يقول أتنكر من هذا شيئًا ؟
__________
(1) في ف ، أ : "مبلغكم".
(2) في ف ، أ : "أنذرتكم".
(3) صحيح البخاري برقم (7563) وصحيح مسلم برقم (2694).
(5/345)
أظلمتك
كتبتي الحافظون ؟ قال : لا يا رب ، قال : أفلك عذر ، أو حسنة ؟" قال : فيبهت
الرجل فيقول : لا يا رب. فيقول : بلى ، إن لك عندنا حسنة واحدة ، لا ظلم اليوم
عليك. فيخرج له بطاقة فيها : "أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن (1) محمدًا عبده
ورسوله" فيقول : أحضروه ، فيقول : يا رب ، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟
فيقول : إنك لا تظلم ، قال : "فتوضع السجلات في كفة [والبطاقة في كفة]"
(2) ، قال : "فطاشت السجلات وثقلت البطاقة" قال : "ولا يثقل شيء
بسم الله الرحمن الرحيم" (3).
ورواه الترمذي وابن ماجه ، من حديث الليث بن سعد ، به ، (4) وقال الترمذي : حسن
غريب.
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن عمرو بن يحيى ، عن أبي
عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "توضع الموازين (5) يوم القيامة ، فيؤتى بالرجل ، فيوضع في كفة ،
فيوضع (6) ما أحصى عليه ، فتايل (7) به الميزان" قال : "فيبعث به إلى
النار" قال : فإذا أدبر به إذا (8) صائح من عند الرحمن عز وجل يقول : [لا
تعجلوا] (9) ، فإنه قد بقي له ، فيؤتى ببطاقة فيها "لا إله إلا الله"
فتوضع مع الرجل في كفة (10) حتى يميل به الميزان" (11).
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا أبو نوح قراد (12) أنبأنا ليث بن سعد ، عن مالك بن
أنس ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ؛ أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، جلس بين يديه ، فقال : يا رسول الله ، إن لي مملوكين ، يكذبونني ،
ويخونونني ، ويعصونني ، وأضربهم وأشتمهم ، فكيف أنا منهم ؟ فقال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم ، إن (13) كان
عقابك إياهم دون ذنوبهم ، كان فضلا لك [عليهم] (14) وإن كان عقابك إياهم بقدر
ذنوبهم ، كان كفافا لا لك ولا عليك ، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم ، اقتص لهم
منك الفضل الذي يبقى (15) قبلك". فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله صلى الله
عليه وسلم : ويهتف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما له أما يقرأ
كتاب الله ؟ : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا
تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا
بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } فقال الرجل : يا رسول الله ، ما أجد شيئًا خيرًا
من فراق هؤلاء - يعني عبيده - إني أشهدك أنهم أحرار كلهم (16).
__________
(1) في ف : "وأشهد أن".
(2) زيادة من ف ، والمسند.
(3) المسند (2/213).
(4) سنن الترمذي برقم (2639) وسنن ابن ماجه برقم (4300).
(5) في ف : "يوضع الميزان".
(6) في ف : "ويوضع".
(7) في ف : "فيمايل".
(8) في ف : "فإذا"
(9) زيادة من ف ، والمسند.
(10) في ف : "كفته".
(11) المسند (2/221).
(12) في ف ، أ : "مرارا".
(13) في ف : "فإن".
(14) زيادة من ف ، والمسند.
(15) في ف : "بقي".
(16) المسند (6/280).
(5/346)
وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)
{ وَلَقَدْ
آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ
(49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) }.
قد تقدم التنبيه على أن الله تعالى كثيرًا ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد ، صلوات
الله وسلامه عليهما ، وبين كتابيهما ؛ ولهذا قال : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى
وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ }. قال مجاهد : يعني : الكتاب. وقال أبو صالح : التوراة ،
وقال قتادة : التوراة ، حلالها وحرامها ، وما فرق الله بين الحق والباطل. وقال ابن
زيد : يعني : النصر.
وجامع القول في ذلك : أن الكتب السماوية تشتمل على التفرقة بين الحق والباطل ،
والهدى والضلال ، والغي والرشاد ، والحلال والحرام ، وعلى ما يحصل نورًا في القلوب
، وهداية وخوفًا وإنابة وخشية ؛ ولهذا قال : { الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا
لِلْمُتَّقِينَ } أي : [تذكيرًا] (1) لهم وعظة.
ثم وصفهم فقال : { الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ } كقوله { مَنْ
خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } [ ق : 33] ، وقوله : {
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ
كَبِيرٌ } [الملك : 12] ، { وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ } أي : خائفون
وجلون.
ثم قال تعالى : { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزلْنَاهُ } يعني : القرآن العظيم ،
الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، {
أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } أي : أفتنكرونه وهو في غاية [الجلاء] (2) والظهور
؟.
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ
(51) إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ
لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ
لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا
أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَبُّكُمْ
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ
الشَّاهِدِينَ (56) }.
يخبر تعالى عن خليله إبراهيم ، عليه السلام ، أنه آتاه رشده من قبل ، أي : من صغره
ألهمه الحق والحجة على قومه ، كما قال تعالى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا
إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } [الأنعام : 83] ، وما يذكر من الأخبار عنه (3) في
إدخال أبيه له في السرب ، وهو رضيع ، وأنه خرج به بعد أيام ، فنظر إلى الكوكب
والمخلوقات ، فتبصر فيها وما قصه كثير من المفسرين وغيرهم - فعامتها أحاديث بني
إسرائيل ، فما وافق منها الحق مما بأيدينا عن المعصوم قبلناه لموافقته الصحيح ،
وما خالف شيئًا من ذلك رددناه ، وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة لا نصدقه ولا نكذبه
، بل نجعله وفقًا ، وما كان من هذا الضرب منها فقد ترخص كثير من السلف في روايتها
، وكثير من ذلك ما لا فائدة فيه ، ولا حاصل له
__________
(1) زيادة من ف.
(2) زيادة من ف.
(3) في ف : "عنه من الأخبار".
(5/347)
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)
مما ينتفع
به في الدين. ولو كانت فيه فائدة تعود على المكلفين في دينهم لبينته هذه الشريعة
الكاملة الشاملة. والذي نسلكه (1) في هذا التفسير الإعراض عن كثير من الأحاديث
الإسرائيلية ، لما فيها من تضييع الزمان ، ولما اشتمل عليه كثير منها من الكذب
المروج عليهم ، فإنهم لا تفرقة (2) عندهم بين صحيحها وسقيمها كما حرره الأئمة
الحفاظ المتقنون من هذه الأمة.
والمقصود هاهنا : أن الله تعالى أخبر أنه قد آتى إبراهيم رشده ، من قبل ، أي : من
قبل ذلك ، وقوله : { وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } أي : وكان أهلا لذلك.
ثم قال : { إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي
أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } هذا هو الرشد الذي أوتيه من صغره ، الإنكار على قومه
في عبادة الأصنام من دون الله ، عز وجل ، فقال : { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ
الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } أي : معتكفون على عبادتها.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد الصباح ، حدثنا أبو معاوية الضرير ، حدثنا
سعد بن طريف ، عن الأصبغ بن نباته ، قال : مر عليّ ، على قوم يلعبون بالشطرنج ،
فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؟ لأن يمس أحدكم جمرًا حتى يطفأ خير
له من أن يمسها.
{ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ } : لم يكن لهم حجة سوى صنيع
آبائهم الضلال ؛ ولهذا قال : { لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ } أي : الكلام مع آبائكم الذين احتججتم بصنيعهم كالكلام معكم ، فأنتم وهم
في ضلال على غير الطريق المستقيم.
فلما سفه أحلامهم ، وضلل آباءهم ، واحتقر آلهتهم { قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ
أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ } يقولون (3) : هذا الكلام الصادر عنك تقوله لاعبًا
أو محقًا فيه ؟ فإنا لم نسمع به قبلك.
{ قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ } أي :
ربكم الذي لا إله غيره ، هو الذي خلق السموات [والأرض] (4) وما حوت من المخلوقات
الذي ابتدأ خلقهن ، وهو الخالق لجميع الأشياء { وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ
الشَّاهِدِينَ } أي : وأنا أشهد أنه لا إله غيره ، ولا رب سواه.
{ وَتَاللَّهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) }
__________
(1) في هـ : "يذكر" والمثبت من ف.
(2) في ف : "لا معرفة".
(3) في ف : "يقول".
(4) زيادة من ف.
(5/348)
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)
{ فَجَعَلَهُمْ
جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا
مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا
سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا
بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ
فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) }.
ثم أقسم الخليل قسمًا أسمعه بعض قومه ليكيدن أصنامهم ، أي : ليحرصن على أذاهم
وتكسيرهم بعد أن يولوا (1) مدبرين أي : إلى عيدهم. وكان لهم عيد يخرجون إليه.
__________
(1) في ف : "تولو".
(5/348)
قال السدي :
لما اقترب (1) وقت ذلك العيد قال أبوه : يا بني ، لو خرجت معنا إلى عيدنا لأعجبك
ديننا! فخرج معهم ، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إلى الأرض. وقال : إني سقيم ،
فجعلوا يمرون عليه وهو صريع ، فيقولون : مه! فيقول : إني سقيم ، فلما جاز عامتهم
وبقي ضعفاؤهم قال : { تَاللَّهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } فسمعه أولئك.
وقال أبو إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله قال : لما خرج قوم إبراهيم ، إلى
عيدهم مروا عليه فقالوا : يا إبراهيم ألا تخرج معنا ؟ قال : إني سقيم. وقد كان
بالأمس قال : { تَاللَّهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا
مُدْبِرِينَ } فسمعه ناس منهم.
وقوله : { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا } أي : حطامًا كسرها كلها { إِلا كَبِيرًا لَهُمْ
} يعني : إلا الصنم الكبير عندهم كما قال : { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا
بِالْيَمِينِ } [ الصافات : 93].
وقوله : { لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } ذكروا أنه وضع القدوم في يد كبيرهم
، لعلهم يعتقدون أنه هو الذي غَارَ لنفسه ، وأنف أن تعبد معه هذه الأصنام الصغار ،
فكسرها.
{ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ } أي :
حين رجعوا وشاهدوا ما فعله الخليل بأصنامهم من الإهانة والإذلال الدال على عدم
إلهيتها ، وعلى سخافة عقول عابديها { قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ
لَمِنَ الظَّالِمِينَ } أي : في صنيعه هذا.
{ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } أي : قال من
سمعه يحلف أنه ليكيدنهم : { سَمِعْنَا فَتًى } أي : شابًا { يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ
لَهُ إِبْرَاهِيمُ }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا جرير بن عبد
الحميد ، عن قابوس [عن أبيه] (2) ، عن ابن عباس قال : ما بعث الله نبيًا إلا شابًا
، ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب ، وتلا هذه الآية : { قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى
يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ }.
وقوله : { قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ } أي : على رءوس الأشهاد
في الملإ الأكبر بحضرة الناس كلهم ، وكان هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم أن يتبين
(3) في هذا المحفل العظيم كثرة جهلهم وقلة عقلهم (4) في عبادة هذه الأصنام التي لا
تدفع عن نفسها ضرًا ، ولا تملك (5) لها نصرًا ، فكيف يطلب منها شيء من ذلك ؟.
{ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ
فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } يعني : الذي تركه لم يكسره { فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ
كَانُوا يَنْطِقُونَ } وإنما أراد بهذا أن يبادروا من تلقاء أنفسهم ، فيعترفوا
أنهم لا ينطقون ، فإن هذا لا يصدر عن هذا الصنم ، لأنه جماد.
وفي الصحيحين من حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن إبراهيم ، عليه السلام ، لم يكذب غير ثلاث
: ثنتين في ذات الله (6) ، قوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } وقوله {
إِنِّي سَقِيمٌ } قال : "وبينا هو يسير في أرض جبار من الجبابرة ومعه
__________
(1) في ف : "قرب".
(2) زيادة من ف.
(3) في ف ، أ : "يبين".
(4) في ف : "عقولهم".
(5) في ف : "ولا تستطيع".
(6) في ف ، أ : "كتاب".
(5/349)
فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)
سارة ، إذ
نزل منزلا فأتى الجبار رجل ، فقال : إنه قد نزل بأرضك رجل معه امرأة أحسن الناس ،
فأرسل إليه فجاء ، فقال : ما هذه المرأة منك ؟ قال : هي أختي. قال : فاذهب فأرسل
بها إليّ ، فانطلق إلى سارة فقال : إن هذا الجبار (1) سألني عنك فأخبرته أنك أختي
فلا تكذبيني عنده ، فإنك أختي في كتاب الله ، وأنه ليس في الأرض مسلم غيري وغيرك ،
فانطلق بها إبراهيم ثم قام يصلي. فلما أن دخلت عليه فرآها أهوى إليها ، فتناولها ،
فأخذ أخذًا شديدًا ، فقال : ادعي الله لي ولا أضرك ، فدعت له فأرسل ، فأهوى إليها
، فتناولها فأخذ بمثلها أو أشد. ففعل ذلك الثالثة فأخذ ، [فذكر] (2) مثل المرتين
الأوليين (3) فقال ادعي الله فلا أضرك. فدعت ، له فأرسل ، ثم دعا أدنى حجابه ،
فقال : إنك لم تأتني بإنسان ، وإنما (4) أتيتني بشيطان ، أخرجها وأعطها هاجر ،
فأخرجت وأعطيت هاجر ، فأقبلت ، فلما أحس إبراهيم بمجيئها انفتل من صلاته ، قال (5)
: مَهْيَم ؟ قالت : كفى الله كيد الكافر الفاجر ، وأخدمني هاجر" قال محمد بن
سيرين (6) وكان (7) : أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث قال : فتلك أمكم يا بني ماء
السماء (8)
{ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)
ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65)
قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ
(66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
(67) }.
يقول تعالى مخبرًا (9) عن قوم إبراهيم حين قال لهم ما قال : { فَرَجَعُوا إِلَى
أَنْفُسِهِمْ } أي : بالملامة في عدم احترازهم وحراستهم لآلهتهم ، فقالوا : {
إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ } أي : في ترككم لها مهملة لا حافظ عندها ، {
ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ } أي : ثم أطرقوا في الأرض فقالوا : { لَقَدْ
عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ } قال قتادة : أدركت القوم حيرة سوء فقالوا : {
لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ }.
وقال السدي : { ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ } أي : في الفتنة.
وقال ابن زيد : أي في الرأي.
وقول قتادة أظهر في المعنى ؛ لأنهم إنما فعلوا ذلك حيرة وعجزًا ؛ ولهذا قالوا له :
{ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ } ، فكيف تقول لنا : سلوهم إن كانوا
ينطقون ، وأنت تعلم أنها لا تنطق فعندها قال لهم إبراهيم لما اعترفوا بذلك : {
أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ
} أي : إذا كانت لا تنطق (10) ، وهي لا تضر ولا تنفع ، فلم تعبدونها من دون الله.
{ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ }
__________
(1) في ف : "الجبار قد سألني".
(2) زيادة من ف ، والسنن.
(3) في ف ، أ : "الأولتين".
(4) في ف : "ولكنك".
(5) في ف : "وقال".
(6) في ف ، أ : "إدريس".
(7) في ف : "فكان".
(8) لم أجده في الصحيحين من طريق هشام بن حسان وإنما هو في السنن : فرواه أبو داود
في السنن برقم (2212) من طريق عبد الوهاب الثقفي عن هشام بن حسان. ورواه النسائي
في السنن الكبرى برقم (8374) من طريق أبي أسامة عن هشام بن حسان. وهو في الصحيحين
من طريق أيوب عن محمد بن سيرين ؛ صحيح البخاري برقم (5084) ، وصحيح مسلم برقم
(2371).
(9) في ف ، أ : "يخبر تعالى".
(10) في أ : "كان لا ينطق".
(5/350)
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
أي : أفلا
تتدبرون ما أنتم فيه من الضلال والكفر الغليظ ، الذي لا يروج إلا على جاهل ظالم
فاجر ؟ فأقام عليهم الحجة ، وألزمهم بها ؛ ولهذا قال تعالى : { وَتِلْكَ
حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } الآية [ الانعام : 83].
{ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)
قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا
بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ (70) }.
لما دَحَضت حجتهم ، وبان عجزهم ، وظهر الحق ، واندفع الباطل ، عدلوا إلى استعمال
جاه ملكهم ، فقالوا : { حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
فَاعِلِينَ } فجمعوا حطبًا كثيرًا جدًا - قال السدي : حتى إن كانت المرأة تمرض ،
فتنذر إن عوفيت أن تحمل حطبًا لحريق إبراهيم - ثم جعلوه في جَوْبة من الأرض ،
وأضرموها نارًا ، فكان لها شرر عظيم ولهب مرتفع ، لم توقد قط نار (1) مثلها ،
وجعلوا إبراهيم ، عليه السلام ، في كفة المنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس من
الأكراد - قال شُعَيب الجبائي : اسمه هيزن - فخسف الله به الأرض ، فهو يتجلجل فيها
إلى يوم القيامة ، فلما ألقوه قال : "حسبي الله ونعم الوكيل" ، كما رواه
البخاري ، عن ابن عباس أنه قال : "حسبي (2) الله ونعم الوكيل" قالها
إبراهيم حين ألقي في النار ، وقالها (3) محمد حين قالوا : { إِنَّ النَّاسَ قَدْ
جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ آل عمران : 173] (4).
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا ابن هشام ، حدثنا إسحاق (5) بن سليمان ، عن أبي جعفر
، عن عاصم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"لما ألقي إبراهيم ، عليه السلام ، في النار قال : اللهم ، إنك في السماء
واحد ، وأنا في الأرض واحد أعبدك" (6).
ويروى أنه لما جعلوا يوثقونه قال : لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد ، ولك الملك ،
لا شريك لك (7).
وقال شعيب الجبائي : كان عمره ست عشرة سنة. فالله أعلم.
وذكر بعض السلف أنه عرض له جبريل وهو في الهواء ، فقال : ألك حاجة ؟ فقال : أما
إليك فلا [وأما من الله فبلى] (8).
__________
(1) في ف ، "نار قط".
(2) في ف : "حسبنا".
(3) في ف : "وقال".
(4) صحيح البخاري برقم (4563)
(5) في ف ، أ : "أبو إسحاق".
(6) ورواه البزار في مسنده برقم (2349) "كشف الأستار" وأبو نعيم في
الحلية (1911) والخطيب في تاريخ بغداد (10/346) من طريق أبي هشام الرفاعي به. وقال
البزار : "لا نعلم رواه عن عاصم إلا أبا جعفر ، ولا عنه إلا إسحاق ، ولم
نسمعه إلا من أبي هشام" قلت : عاصم بن عمر بن حفص متكلم فيه.
(7) رواه الطبري في تفسيره كما في الدار المنثور (5/642) عن أرقم.
(8) زيادة من ف.
(5/351)
وقال سعيد
بن جبير - ويروى (1) عن ابن عباس أيضًا - قال : لما أُلقيَ إبراهيم جعل خازن المطر
يقول : متى أومر بالمطر فأرسله ؟ قال : فكان (2) أمر الله أسرع من أمره ، قال الله
: [عز وجل] (3) { يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ } قال :
لم (4) يبق نار في الأرض إلا طفئت.
وقال كعب الأحبار : لم ينتفع [أحد] (5) يومئذ بنار ، ولم تحرق النار من إبراهيم
سوى وثاقه.
وقال الثوري ، عن الأعمش ، عن شيخ ، عن علي بن أبي طالب : { قُلْنَا يَا نَارُ
كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ } [قال : بَرَدَتْ عليه حتى كادت
تقتله ، حتى قيل : { وَسَلامًا } ] (6) ، قال : لا تضرِّيه.
وقال ابن عباس ، وأبو العالية : لولا أن الله عز وجل قال : { وَسَلامًا } لآذى
إبراهيم بَرْدُها.
وقال جُوَيبر ، عن الضحاك : { كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ } قال
: صنعوا له حظيرة من حَطَب جَزْل ، وأشعلوا فيه النار من كل جانب ، فأصبح ولم
يصِبه منها شيء حتى أخمدها الله - قال : ويذكرون أن جبريل كان معه يمسح وجهه من
العرق ، فلم يُصِبْه منها شيء غيرُ ذلك.
وقال السدي : كان معه فيها ملك الظل.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا مِهْران ،
حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن المِنْهَال بن عمرو قال : أخبرت أن إبراهيم ألقي
في النار ، فقال : كان (7) فيها إما خمسين وإما أربعين ، قال : ما كنت أيامًا
وليالي قط أطيب عيشًا إذ كنت فيها ، وددت أن عيشي وحياتي كلها مثل عيشي إذ كنت
فيها.
وقال أبو زُرْعَة بن عمرو بن جرير ، عن أبي هريرة قال : إن أحسن [شيء] (8) قال أبو
إبراهيم - لما رفع عنه الطبق وهو في النار ، وجده يرش جبينه - قال عند ذلك : نعْمَ
الربّ ربك يا إبراهيم.
وقال قتادة : لم يأت يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار ، إلا الوَزَغ - وقال الزهري
: أمر النبي صلى الله عليه وسلم : بقتله وسماه فويسقًا (9).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب ، حدثني عمي ، حدثنا
جرير بن حازم ، أن نافعًا حدثه قال : حدثتني مولاة (10) الفاكه بن المغيرة
المخزومي قالت : دخلت على عائشة فرأيت في بيتها رمحا. فقلت : يا أم المؤمنين ، ما
تصنعين بهذا الرمح ؟ فقالت : نقتل به هذه الأوزاغ ، إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : "إن إبراهيم حين ألقي في النار ، لم يكن (11) في الأرض دابة إلا
تطفئ النار ، غير الوَزَغ ، فإنه كان ينفخ على إبراهيم" ، فأمرنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم بقتله (12).
__________
(1) في ف ، أ : "وروي".
(2) في ف : "وكان".
(3) زيادة من ف.
(4) في ف ، أ : "فلم".
(5) زيادة من ف.
(6) زيادة من ف.
(7) في ف : "فكان".
(8) زيادة من ف.
(9) جاء من حديث أم شريك : رواه البخاري برقم (3307) ومسلم في صحيحه برقم (2237).
(10) في ف ، أ : "حدثني مولاه".
(11) في ف : "تكن"
(12) ورواه أحمد في المسند (6/83 ، 109) وابن ماجه في السنن برقم (3231) من طريق
نافع عن سائبة مولاة الفاكه به.
(5/352)
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
وقوله : {
وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ } أي : المغلوبين الأسفلين
؛ لأنهم أرادوا بنبي الله كيدا ، فكادهم الله ونجاه من النار ، فغلبوا هنالك.
وقال عطية العوفي : لما ألقِيَ إبراهيم في النار ، جاء ملكهم لينظر إليه فطارت
شرارة فوقعت على إبهامه ، فأحرقته مثل الصوفة.
{ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا
لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلا
جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) }
(5/353)
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
{
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ
الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا
عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ
الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ
سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ
الصَّالِحِينَ (75) }.
يقول تعالى مخبرًا عن إبراهيم ، أنه سلمه الله من نار قومه ، وأخرجه من بين أظهرهم
مهاجرًا إلى بلاد الشام ، إلى الأرض المقدسة منها ، كما قال الربيع بن أنس ، عن
أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب في قوله : { إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا
فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } قال : الشام ، وما من ماء عذب إلا يخرج من تحت الصخرة.
وكذا قال أبو العالية أيضًا.
وقال قتادة : كان بأرض العراق ، فأنجاه الله إلى الشام ، [وكان يقال للشام : عماد
دار الهجرة ، وما نقص من الأرض زيد في الشام] (1) وما نقص من الشام زيد في فلسطين.
وكان يقال : هي أرض المحشر والمنشر ، وبها ينزل عيسى ابن مريم ، عليه السلام ،
وبها يهلك المسيح الدجال.
وقال كعب الأحبار في قوله : { إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا
لِلْعَالَمِينَ } إلى حران.
وقال السدي : انطلق إبراهيم ولوط قِبَل الشام ، فلقي إبراهيم سارة ، وهي ابنة ملك
حران ، وقد طعنت على قومها في دينهم ، فتزوجها على ألا يغيرها.
رواه ابن جرير ، وهو غريب [والمشهور أنها ابنة عمه ، وأنه خرج بها مهاجرًا من
بلاده] (2).
وقال العَوفي ، عن ابن عباس : إلى مكة ؛ ألا تسمع قوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ
وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ } [ آل
عمران : 96].
وقوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } قال عطاء ، ومجاهد
: عطية.
وقال ابن عباس ، وقتادة ، والحكم بن عُيينة : النافلة ولد الولد ، يعني : أن يعقوب
ولد إسحاق ، كما قال : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ
يَعْقُوبَ } [ هود : 71].
__________
(1) زيادة من ف.
(2) زيادة من ف.
(5/353)
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
وقال عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم : سأل واحدًا فقال : { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ }
[ الصافات : 100] ، فأعطاه الله إسحاق وزاده يعقوب نافلة.
{ وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ } أي : الجميع أهل خير وصلاح ، { وَجَعَلْنَاهُمْ
أَئِمَّةً } أي : يقتدي بهم ، { يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } أي : يدعون إلى الله
بإذنه ؛ ولهذا قال : { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ
الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ } من باب عطف الخاص على العام ، { وَكَانُوا
لَنَا عَابِدِينَ } أي : فاعلين لما يأمرون الناس به.
ثم عطف بذكر لوط - وهو لوط بن هاران بن آزر - كان قد آمن بإبراهيم ، واتبعه ،
وهاجر معه ، كما قال تعالى : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى
رَبِّي } [العنكبوت : 26] ، فآتاه الله حكمًا وعلمًا ، وأوحى إليه ، وجعله نبيًا ،
وبعثه إلى سَدُومَ وأعمالها ، فخالفوه وكذبوه ، فأهلكهم الله ودَمَّر عليهم ، كما
قص خبرهم في غير موضع من كتابه العزيز ؛ ولهذا قال : { وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ
الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ
سَوْءٍ فَاسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ
}.
{ وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ
وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ
فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) }.
يخبر تعالى عن استجابته لعبده ورسوله نوح ، عليه السلام ، حين دعا على قومه لما
كذبوه : { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ } [ القمر : 10] ، {
وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا.
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا
كَفَّارًا } [نوح : 26 ، 27] ، ولهذا قال هاهنا : { إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ (1) وَأَهْلَهُ } أي : الذين آمنوا به كما قال
: { وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ
مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ } [هود : 40].
وقوله : { مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } أي : من الشدة والتكذيب والأذى ، فإنه لبث
فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله عز وجل ، فلم يؤمن به منهم إلا
القليل ، وكانوا يقصدون لأذاه (2) ويتواصون قرنًا بعد قرن ، وجيلا بعد جيل على
خلافه.
وقوله : { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ } أي : ونجيناه وخلصناه منتصرًا من القوم
{ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ
فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } أي : أهلكهم الله بعامة ، ولم يُبْقِ على وجه
الأرض منهم أحدًا ؛ إذ (3) دعا عليهم نبيهم.
__________
(1) في ف ، أ : "ونجيناه".
(2) في ف : أذاه".
(3) في ف : "كما".
(5/354)
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)
{ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) }
(5/355)
وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
{ وَمِنَ
الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا
لَهُمْ حَافِظِينَ (82) }.
قال ابن إسحاق ، عن مُرّة ، عن ابن مسعود : كان ذلك الحرث كرمًا قد نَبَتَتْ
عناقيده. وكذا قال شُرَيْح.
قال ابن عباس : النَّفْشُ : الرعي.
وقال شُرَيح ، والزهري ، وقتادة : النَّفْشُ بالليل. زاد قتادة : والهَمْلُ
بالنهار.
قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب وهارون بن إدريسَ الأصم قالا حدثنا المحاربي ،
عن أشعت ، عن أبي إسحاق ، عن مُرّة ، عن ابن مسعود في قوله : { وَدَاوُدَ
وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ
الْقَوْمِ } قال : كرم قد أنبتت عناقيده ، فأفسدته. قال : فقضى داود بالغَنَم
لصاحب الكَرْم ، فقال سليمان : غيرُ هذا يا نبي الله! قال : وما ذاك ؟ قال : تدفع
الكرم إلى صاحب الغنم ، فيقوم عليه حتى يعود كما كان ، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم
فيُصيب منها حتى إذا كان الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه ، ودفعت الغنم إلى
صاحبها ، فذلك قوله : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ }.
وهكذا روى العَوْفي ، عن ابن عباس.
وقال حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، حدثنا (1) خليفة ، عن ابن عباس قال : فحكم
(2) داود بالغنم لأصحاب الحرث ، فخرج الرِّعاء معهم الكلاب ، فقال لهم سليمان :
كيف قضى بينكم ؟
فأخبروه ، فقال : لو وليت أمركم لقضيتُ بغير هذا! فأخبر بذلك داود ، فدعاه فقال :
كيف تقضي بينهم ؟ قال (3) أدفع الغنم إلى صاحب الحرث ، فيكون له أولادها وألبانها
وسلاؤها ومنافعها ويبذُر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثلَ حرثهم ، فإذا بلغ الحرث الذي
كان عليه أخذ أصحاب الحرث الحرثَ وردوا الغنم إلى أصحابها.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا خُدَيْج ، عن أبي
إسحاق ، عن مُرَّة ، عن مسروق قال : الحرث الذي نفشت فيه الغنم إنما كان كرما نفشت
فيه الغنم ، فلم تَدَع فيه ورقة ولا عنقودًا من عنب إلا أكلته ، فأتوا داود ،
فأعطاهم رقابها ، فقال سليمان : لا بل تؤخذ الغنم فيعطاها (4) أهلُ الكرم ، فيكون
لهم لبنها ونفعها ، ويعطى أهل الغنم الكرم فيصلحوه ويعمروه (5) حتى يعود كالذي كان
ليلة نَفَشت فيه الغنم ، ثم يُعطَى أهل الغنم غنمهم ، وأهل الكرم كرمهم.
__________
(1) في ف : "حدثني".
(2) في ف ، أ : "قضى".
(3) في ف : "فقال".
(4) في ف : "فتعطى".
(5) في ف : "فيعمره ويصلحوه".
(5/355)
وهكذا قال
شُرَيح ، ومُرَّة ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن زيد وغير واحد.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن أبي زياد ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا إسماعيل ، عن
عامر ، قال : جاء رجلان إلى شُرَيح ، فقال أحدهما : إن شاة هذا قطعت غزلا لي ،
فقال شريح : نهارًا أم ليلا ؟ فإن كان نهارًا فقد برئ صاحب الشاة ، وإن كان ليلا
ضَمِن ، ثم قرأ : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ
نَفَشَتْ فِيهِ } الآية.
وهذا الذي قاله شُرَيح شبيه بما رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، من
حديث الليث بن سعد ، عن الزهري ، عن حَرام بن مُحَيْصة (1) ؛ أن ناقة البراء بن
عازب دخلت حائطًا ، فأفسدت فيه ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل
الحوائط حفظها بالنهار ، وما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها (2). وقد عُلِّل
هذا الحديث ، وقد بسطنا الكلام عليه في كتاب "الأحكام" وبالله التوفيق.
وقوله : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } قال
ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن حميد ؛ أن إياس بن معاوية
لما استقضى أتاه الحسن فبكى ، قال (3) ما يبكيك ؟ قال (4) يا أبا سعيد ، بلغني أن
القضاة : رجل اجتهد فأخطأ ، فهو في النار ، ورجل مال به الهوى فهو في النار ، ورجل
اجتهد فأصاب فهو في الجنة. فقال الحسن البصري : إن فيما قص الله من نبأ داود
وسليمان ، عليهما السلام ، والأنبياء حكمًا يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم ، قال
الله تعالى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ
نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } فأثنى الله
على سليمان ولم يذم داود. ثم قال - يعني : الحسن - : إن الله اتخذ على الحكماء
ثلاثًا : لا يشترون به ثمنًا قليلا ولا يتبعون فيه الهوى ، ولا يخشون فيه أحدًا ،
ثم تلا { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ
النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
(5) ] } [ص : 26] وقال : { فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } [ المائدة : 44]
، وقال { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا } [ المائدة : 44].
قلت : أما الأنبياء ، عليهم السلام ، فكلهم معصومون مُؤيَّدون من الله عز وجل.
وهذا مما لا خلاف (6) فيه بين العلماء المحققين من السلف والخلف ، وأما من سواهم
فقد ثبت في صحيح البخاري ، عن عمرو بن العاص أنه قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ،
__________
(1) في ف : "عن حرام عن الزهري بن محيصة".
(2) المسند (5/435) وسنن أبي داود برقم (3570) وسنن ابن ماجه برقم (2332).
تنبيه : هذا الطريق إنما هو طريق ابن ماجه ، أما أحمد فرواه عن مالك وسفيان ومعمر
عن الزهري ، وأما أبو داود فرواه عن معمر والأوزعي عن الزهري.
(3) في ف ، أ : "فقال".
(4) في ف ، أ : "فقال"
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في ف : "ما لا اختلاف فيه".
(5/356)
وإذا اجتهد
فأخطأ (1) فله أجر" (2) فهذا الحديث يرد نصا ما توهمه "إياس" من أن
القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النار ، والله أعلم.
وفي السنن : "القضاة ثلاثة : قاض في الجنة ، وقاضيان في النار : رجل علم الحق
وقضى به فهو في الجنة ، ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار ، ورجل علم الحق
وقضى بخلافه ، فهو في النار (3).
وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن ما رواه الإمام أحمد في مسنده ، حيث قال :
حدثنا علي بن حَفْص ، أخبرنا وَرْقاء عن أبي الزِّنَاد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بينما امرأتان معهما ابنان لهما ،
جاء (4) الذئب فأخذ أحد الابنين ، فتحاكمتا إلى داود ، فقضى به للكبرى ، فخرجتا.
فدعاهما سليمان فقال : هاتوا السكين أشقه بينهما ، فقالت الصغرى : يرحمك الله هو
ابنها ، لا تَشُقه ، فقضى به للصغرى" (5).
وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما (6) وبوّب عليه النسائي في كتاب القضاء : (باب
الحاكم يوهم خلاف الحكم ليستعلم الحق) (7).
وهكذا القصة التي أوردها الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة "سليمان عليه
السلام" من تاريخه ، من طريق الحسن بن سفيان ، عن صفوان بن صالح ، عن الوليد
بن مسلم ، عن سعيد بن بشر ، عن قتادة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس - فذكر قصة مطولة
(8) ملخصها - : أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل ، راودها عن نفسها أربعة من
رؤسائهم ، فامتنعت على (9) كل منهم ، فاتفقوا فيما بينهم عليها ، فشهدوا عليها عند
داود ، عليه السلام ، أنها مَكَّنت من نفسها كلبًا لها ، قد عودته ذلك منها ، فأمر
برجمها. فلما كان عشية ذلك اليوم ، جلس سليمان ، واجتمع معه وِلْدانٌ ، مثله ،
فانتصب حاكمًا وتزيا أربعة منهم بزيّ أولئك ، وآخر بزيّ المرأة ، وشهدوا عليها
بأنها مكَنت من نفسها كلبًا ، فقال سليمان : فرقوا بينهم. فقال لأولهم : ما كان
لون الكلب ؟ فقال : أسود. فعزله ، واستدعى الآخر فسأله عن لونه ، فقال : أحمر.
وقال الآخر : أغبش. وقال الآخر : أبيض. فأمر بقتلهم ، فحكي ذلك لداود ، فاستدعى من
فوره بأولئك الأربعة ، فسألهم متفرقين عن لون ذلك الكلب ، فاختلفوا عليه ، فأمر
بقتلهم (10).
__________
(1) في ف : "وأخطأ".
(2) صحيح البخاري برقم (7352).
(3) سنن أبي داود برقم (3573) وسنن النسائي الكبرى برقم (5922) وسنن ابن ماجه برقم
(2315)
(4) في ف : "إذ جاء".
(5) المسند (2/322)
(6) في ف : "صحيحيهما".
(7) صحيح البخاري برقم (6769) وصحيح مسلم برقم (1720) وسنن النسائي الكبرى برقم
(5958) والباب فيه "التوسعة للحاكم في أن يقول للشيء الذي لا يفعله أفعل
ليستبين له الحق".
(8) في ف : "طويلة".
(9) في أ : "عن".
(10) تاريخ دمشق (7/565 "المخطوط")
(5/357)
وقوله : {
وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا
فَاعِلِينَ } : وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه الزبور ، وكان إذا تَرَنَّم به تقف
الطير في الهواء ، فتجاوبه ، وتَرد عليه الجبال تأويبًا ؛ ولهذا لمَّا مَرَّ النبي
صلى الله عليه وسلم على أبي موسى الأشعري ، وهو يتلو القرآن من الليل ، وكان له
صوت طيب [جدًا] (1). فوقف واستمع لقراءته ، وقال : "لقد أوتي هذا مزامير آل
داود". قال يا رسول الله ، لو علمت أنك تسمع (2) لحبرته لك تحبيرًا (3).
وقال أبو عثمان النهدي : ما سمعت صوت صَنْج ولا بربط ولا مزمار مثل صوت أبي موسى
رضي الله عنه ، ومع هذا قال : لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داود.
وقوله : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِيُحْصِنَكُمْ (4) مِنْ
بَأْسِكُمْ } يعني صنعة الدروع.
قال قتادة : إنما كانت الدروع قبله صفائح ، وهو أول من سردها حلَقًا. كما قال
تعالى : { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ. أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي
السَّرْدِ } [سبأ : 10 ، 11] أي : لا توسع الحلقة فتقلق (5) المسمار ، ولا تغلظ
المسمار فتَقَدّ الحَلْقة ؛ ولهذا قال : { لِيُحْصِنَكُمْ (6) مِنْ بَأْسِكُمْ }
يعني : في القتال ، { فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ } أي : نعم الله عليكم ، لما
ألهم به عبده داود ، فعلمه ذلك من أجلكم.
وقوله : { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً } أي : وسخرنا لسليمان الريح
العاصفة ، { تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } يعني
أرض الشام ، { وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } وذلك أنه كان له بساط من خشب
، يوضع عليه كل ما يحتاج إليه من أمور المملكة ، والخيل والجمال والخيام والجند ،
ثم يأمر الريح أن تحمله فتدخل تحته ، ثم تحمله فترفعه وتسير به ، وتظله الطير من
الحر ، إلى حيث يشاء من الأرض ، فينزل وتوضع آلاته وخشبه (7) ، قال الله تعالى : {
فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ } [ص : 36]
، وقال { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } [سبأ : 12].
قال ابن أبي حاتم : ذكر عن سفيان بن عيينة ، عن أبي سِنَان ، عن سعيد بن جبير قال
: كان يُوضَع لسليمان ستمائة ألف كرسي ، فيجلس مما يليه مؤمنو الإنس ، ثم يجلس من
ورائهم مؤمنو الجن ، ثم يأمر الطير فتظلهم ، ثم يأمر الريح فتحمله صلى الله عليه
وسلم (8).
وقال عبد الله بن عُبَيْد بن عمير : كان سليمان يأمر الريح ، فتجتَمع كالطَّود
العظيم ، كالجبل ، ثم يأمر بفراشه فيوضع على أعلى مكان منها ، ثم يدعو بفَرَس من
ذوات الأجنحة ، فترتفع (9) حتى تصعد (10) على فراشه ، ثم يأمر الريح فترتفع به كُل
شَرَف دون السماء ، وهو مطأطئ رأسه ، ما يلتفت يمينا ولا شمالا تعظيمًا لله عز وجل
، وشكرًا لما يعلم من صغر ما هو فيه في ملك الله
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف : "تستمع".
(3) سبق الحديث في فضائل القرآن.
(4) في ف ، أ : "لتحصنكم".
(5) في ف : "فتفلق".
(6) في ف ، أ : "لتحصنكم".
(7) في أ : "وحشمه"
(8) في أ : "فتحملهم عليه السلام".
(9) في ف ، أ : "فيرتفع".
(10) في ف ، أ : "يصعد".
(5/358)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
تعالى (1)
حتى تضعه (2). الريح حيث شاء أن تضعه (3)
وقوله : { وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ } أي : في الماء يستخرجون
اللآلئ [وغير ذلك. { وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ } أي : غير ذلك ، كما قال
تعالى : { وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * ] (4) وَآخَرِينَ
مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ }. [ص : 37 ، 38].
وقوله : { وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } (5) أي : يحرسه الله أن يناله أحد من
الشياطين بسوء ، بل كل في قبضته وتحت قهره لا يتجاسر أحد منهم على الدنو إليه
والقرب منه ، بل هو مُحَكَّم (6) فيهم ، إن شاء أطلق ، وإن شاء حبس منهم من يشاء ؛
ولهذا قال : { وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ }
{ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ
وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ
(84) }.
يذكر تعالى عن أيوب ، عليه السلام ، ما كان أصابه من البلاء ، في ماله وولده وجسده
(7) ، وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير ، وأولاد كثيرة ،
ومنازل مرضية. فابتلي في ذلك كله ، وذهب عن آخره ، ثم ابتلي في جسده - يقال :
بالجذام في سائر بدنه ، ولم يبق منه سليم سوى قلبه ولسانه ، يذكر بهما الله عز وجل
، حتى عافه الجليس ، وأفردَ في ناحية من البلد ، ولم يبق من الناس أحد (8) يحنو
عليه سوى زوجته ، كانت تقوم بأمره (9) ، ويقال : إنها احتاجت فصارت تخدم الناس من
أجله ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم
الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل" (10) وفي الحديث الآخر : "يبتلى الرجل
على قدر دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه" (11).
وقد كان نبي الله أيوب ، عليه السلام ، غاية في الصبر ، وبه يضرب المثل في ذلك.
وقال يزيد بن ميسرة : لما ابتلى الله أيوب ، عليه السلام ، بذهاب الأهل والمال
والولد ، ولم له يبق شيء ، أحسن الذكر ، ثم قال : أحمدك رب الأرباب ، الذي أحسنت
إلي ، أعطيتني المال والولد ، فلم يبق من قلبي شعبة ، إلا قد دخله ذلك ، فأخذت ذلك
كله مني ، وفرَّغت قلبي ، ليس يحول بيني وبينك شيء ، لو يعلم عدوي إبليس بالذي
صنعت ، حسدني. قال : فلقي إبليس من ذلك منكرًا.
قال : وقال أيوب ، عليه السلام : يا رب ، إنك أعطيتني المال والولد ، فلم يقم على
بابي أحد يشكوني لظلم ظلمته ، وأنت تعلم ذلك. وأنه كان يوطأ لي الفراش فأتركها
وأقول لنفسي :
__________
(1) في ف ، أ : "عز وجل".
(2) في ف : "يضعه".
(3) في ف ، أ : "حيث يشاء أن يضعه".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ف : "له".
(6) في ف ، أ : "يحكم".
(7) في ف : "وجسده وولده".
(8) في ف : "أحد من الناس".
(9) في ف : "بأوده".
(10) رواه أحمد في المسند (1/172) والترمذي في السنن برقم (2398) وابن ماجه في
السنن برقم (4023) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وقال الترمذي :
"هذا حديث حسن صحيح".
(11) هو جزء من الحديث المتقدم ، والله أعلم.
(5/359)
يا نفس ،
إنك لم تخلقي لوطء الفرش (1) ، ما تركت ذلك إلا ابتغاء وجهك. رواه ابن أبي حاتم.
وقد ذكر عن وهب بن منبه في خبره قصة طويلة ، ساقها ابن جرير وابن أبي حاتم بالسند
عنه ، وذكرها غير واحد من متأخري المفسرين ، وفيها غرابة تركناها لحال الطول (2).
وقد روى أنه مكث في البلاء مدة طويلة ، ثم اختلفوا في السبب المهيج له على هذا
الدعاء ، فقال الحسن وقتادة ، ابتلي أيوب ، عليه السلام ، سبع سنين وأشهرًا ، ملقى
على كُنَاسَة بني إسرائيل ، تختلف الدواب في جسده ففرج الله عنه ، وعَظَمَّ له
الأجر ، وأحسن عليه الثناء.
وقال وهب بن منبه : مكث في البلاء ثلاث سنين ، لا يزيد ولا ينقص.
وقال السدي : تساقط لحم أيوب حتى لم يبق إلا العصب والعظام ، فكانت امرأته تقوم
عليه وتأتيه بالزاد يكون فيه ، فقالت له امرأته لما طال وجعه : يا أيوب ، لو دعوت
ربك (3) يفرج عنك ؟ فقال : قد عشت سبعين سنة صحيحًا ، فهل (4) قليل لله أن أصبر له
سبعين سنة ؟ فجَزَعت من ذلك فخرجت ، فكانت تعمل للناس بأجر وتأتيه بما تصيب فتطعمه
، وإن إبليس انطلق إلى رجلين من فلسطين كانا صديقين له وأخوين ، فأتاهما فقال :
أخوكما أيوب أصابه من البلاء كذا وكذا ، فأتياه وزوراه واحملا معكما من خمر أرضكما
، فإنه إن شرب منه بَرَأ. فأتياه ، فلما نظرا إليه بكيا ، فقال : من أنتما ؟ فقالا
(5) : نحن فلان وفلان! فرحَّب بهما وقال : مرحبًا بمن لا يجفوني عند البلاء ،
فقالا يا أيوب ، لعلك كنت تُسر شيئًا وتظهر غيره ، فلذلك ابتلاك الله ؟ فرفع رأسه
إلى السماء ثم قال : هو يعلم ، ما أسررت شيئًا أظهرت غيره. ولكن ربي ابتلاني لينظر
أأصبر أم أجزع ، فقالا له : يا أيوب ، اشرب من خمرنا فإنك إن شربت منه بَرَأت. قال
: فغضب وقال جاءكما الخبيث فأمركما بهذا ؟ كلامكما وطعامكما وشرابكما عليّ حرام.
فقاما من عنده ، وخرجت امرأته تعمل للناس فخبزت لأهل بيت لهم صبي ، فجعلت لهم
قرصًا (6) ، وكان ابنهم نائمًا ، فكرهوا أن يوقظوه ، فوهبوه لها.
فأتت به إلى أيوب ، فأنكره وقال : ما كنت تأتيني بهذا ، فما بالك اليوم ؟ فأخبرته
الخبر. قال : فلعل الصبي قد استيقظ ، فطلب القرص فلم يجده فهو يبكي على أهله.
[فانطلقي به إليه. فأقبلت حتى بلغت درجة القوم ، فنطحتها شاة لهم ، فقالت : تعس
أيوب الخطاء! فلما صعدت وجدت الصبي قد استيقظ وهو يطلب القرص ، ويبكي على أهله]
(7) ، لا يقبل منهم شيئًا غيره ، فقالت : رحم الله أيوب فدفعت القرص إليه ورجعت.
ثم إن إبليس أتاها في صورة طبيب ، فقال لها : إن زوجك قد طال سُقمه ، فإن أراد أن
يبرأ فليأخذ ذبابًا فليذبحه باسم صنم بني فلان فإنه يبرأ ويتوب بعد ذلك. فقالت ذلك
لأيوب ، فقال : قد أتاك الخبيث. لله عليّ إن برأت أن أجلدك مائة جلدة. فخرجت تسعى
عليه ، فحظر عنها الرزق ، فجعلت لا تأتي أهل بيت فيريدونها ، فلما اشتد عليها ذلك
وخافت على أيوب
__________
(1) في ف : "الفراش".
(2) تفسير الطبري (1/42).
(3) في ف ، أ : "الله".
(4) في أ : "فهو".
(5) في ف ، أ : "قالا".
(6) في ف ، أ : "قرصة".
(7) زيادة من ف ، أ.
(5/360)
الجوع حلقت
من شعرها قرنًا فباعته من صبية من بنات الأشراف ، فأعطوها طعامًا طيبًا كثيرًا
فأتت به أيوب ، فلما رآه أنكره وقال : من أين لك هذا ؟ قالت : عملت لأناس
فأطعموني. فأكل منه ، فلما كان الغد خرجت فطلبت أن تعمل فلم تجد فحلقت أيضًا قرنًا
فباعته من تلك الجارية ، فأعطوها من ذلك الطعام ، فأتت به أيوب ، فقال : والله لا
أطعمه حتى أعلم من أين هو ؟ فوضعت خمارها ، فلما رأى رأسها محلوقًا جزع جزعًا
شديدًا ، فعند ذلك دعا ربه عز وجل : { أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، حدثنا أبو
عمران الجوني ، عن نَوْف البِكَالي ؛ أن الشيطان الذي عرج في أيوب كان يقال له :
"سوط" (1) ، قال : وكانت امرأة أيوب تقول : "ادع الله فيشفيك"
، فجعل لا يدعو ، حتى مر به نفر من بني إسرائيل ، فقال بعضهم لبعض : ما أصابه ما
أصابه إلا بذنب عظيم أصابه ، فعند ذلك قال : "رب إني مسني الضر وأنت أرحم
الراحمين".
وحدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا جرير بن حازم ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير
قال : كان لأيوب ، عليه السلام ، أخوان فجاءا يومًا ، فلم يستطيعا أن يدنوا منه ،
من ريحه ، فقاما من بعيد ، فقال أحدهما للآخر : لو كان الله علم من أيوب خيرًا ما
ابتلاه بهذا ؟ فجزع أيوب من قولهما جَزعا لم يجزع من شيء قط ، فقال : اللهم ، إن
كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعان (2) وأنا أعلم مكان جائع ، فصدقني. فصدق من
السماء وهما يسمعان. ثم قال : اللهم ، إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط ، وأنا
أعلم مكان عار ، فَصَدقني فصدق من السماء وهما يسمعان. اللهم (3) بعزتك ثم خر
ساجدًا ، ثم قال (4) اللهم بعزتك لا أرفع رأسي أبدًا حتى تكشف عني. فما رفع رأسه
حتى كشف عنه.
وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر مرفوعًا بنحو هذا فقال : أخبرنا يونس بن عبد
الأعلى ، أخبرنا ابن وهب أخبرني نافع بن يزيد ، عن عُقَيل ، عن الزهري ، عن أنس بن
مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن نبي الله أيوب لبث به
بلاؤه ثماني عشرة سنة ، فرفضه القريب والبعيد ، إلا رجلين من إخوانه ، كانا من أخص
إخوانه ، كانا (5) يغدوان إليه ويروحان ، فقال أحدهما لصاحبه : تَعَلَّم - والله -
لقد أذنب أيوب ذنبًا ما أذنبه أحد من العالمين. فقال له صاحبه : وما ذاك ؟ قال :
منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف (6) ما به. فلما راحا إليه لم يصبر الرجل
حتى ذكر ذلك له ، فقال أيوب ، عليه السلام : ما أدري ما تقول ، غير أن الله عز وجل
يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله ، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما
، كراهة أن يذكرا الله إلا في حق. قال : وكان يخرج في حاجته (7) ، فإذا قضاها
أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ ، فلما كان ذات يوم أبطأت عليه ، فأوحى إلى
__________
(1) في ف ، أ : "مبسوط".
(2) في ف : "شبعانا".
(3) في ف ، أ : "ثم قال : اتللهم".
(4) في ف : "فقال".
(5) في ف ، أ : "له".
(6) في ف : "فكشف".
(7) في ف : "حاجة".
(5/361)
أيوب في
مكانه : أن اركض برجلك ، هذا مغتسل بارد وشراب" (1).
رفع هذا الحديث غريب جدًا.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، أخبرنا علي
بن زيد ، عن يوسف بن مِهْران ، عن ابن عباس ، قال : وألبسه الله حلة من الجنة ،
فتنحى أيوب فجلس في ناحية ، وجاءت امرأته ، فلم تعرفه ، فقالت : يا عبد الله ، أين
ذهب المبتلى الذي كان هاهنا ؟ لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب ، فجعلت تكلمه ساعة ،
فقال : ويحك! أنا أيوب! قالت : أتسخر مني يا عبد الله ؟ فقال : ويحك! أنا أيوب ،
قد رد الله علي جسدي.
وبه قال ابن عباس : ورد عليه ماله وولده عيانا ، ومثلهم معهم.
وقال وهب بن منبه : أوحى الله إلى أيوب : قد رددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم ،
فاغتسل بهذا الماء ، فإن فيه شفاءك ، وقرب عن صاحبتك (2) قربانًا ، واستغفر لهم ،
فإنهم قد عصوني فيك. رواه ابن أبي حاتم.
[وقال] (3) أيضًا : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا عمرو بن مرزوق ، حدثنا همام ، عن
قتادة ، عن النضر ابن أنس ، عن بَشير (4) بن نَهِيك ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : "لما عافى الله أيوب ، أمطر عليه جرادًا من ذهب ، فجعل
يأخذ بيده ويجعله في ثوبه". قال : "فقيل له : يا أيوب ، أما تشبع ؟ قال
: يا رب ، ومن يشبع من رحمتك".
أصله في الصحيحين (5) ، وسيأتي في موضع آخر.
وقوله : { وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ } قد تقدم عن ابن عباس أنه
قال : ردوا عليه بأعيانهم. وكذا رواه العوفي ، عن ابن عباس أيضًا. وروي مثله عن
ابن مسعود ومجاهد ، وبه قال الحسن وقتادة.
وقد زعم بعضهم أن اسم زوجته رحمة ، فإن كان أخذ ذلك من سياق الآية فقد أبعد
النَّجْعَة ، وإن كان أخذه من نقل أهل الكتاب ، وصح ذلك عنهم ، فهو مما لا يصدق
ولا يكذب. وقد سماها ابن عساكر في تاريخه - رحمه الله تعالى - قال : ويقال : اسمها
ليا ابنة مِنَشَّا بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، قال : ويقال : ليا بنت
يعقوب ، عليه السلام ، زوجة أيوب كانت معه بأرض البَثَنيَّة.
وقال مجاهد : قيل له : يا أيوب ، إن أهلك لك في الجنة ، فإن شئت أتيناك بهم ، وإن
شئت
__________
(1) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (2091) "موارد" من طريق حرملة بن يحيى
عن ابن وهب بنحوه.
(2) في ف : "صحابتك".
(3) زيادة من أ.
(4) في ف : "بشر".
(5) ورواه الحاكم في المستدرك (2/582) من طرق عن عمرو بن مرزوق به ، وسيأتي أصل
الحديث في صحيح البخاري عند تفسير الآية : 42 من سورة ص.
(5/362)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
تركناهم لك
في الجنة ، وعوضناك مثلهم. قال : لا بل اتركهم لي في الجنة. فتُركوا له في الجنة
وعوض مثلهم في الدنيا.
وقال حماد بن زيد ، عن أبي عمران الجَوْني ، عن نَوف البِكَالي قال : أوتي أجرهم
في الآخرة ، وأعطي مثلهم في الدنيا. قال : فحدثت به مُطَرَّفا ، فقال : ما عرفت
وجهها قبل اليوم.
وهكذا روي عن قتادة ، والسدي ، وغير واحد من السلف ، والله أعلم.
وقوله : { رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا } أي : فعلنا به ذلك رحمة من الله به ، {
وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ } أي : وجعلناه في ذلك قدوة ، لئلا يظن أهل البلاء إنما
فعلنا بهم ذلك (1) لهوانهم علينا ، وليتأسوا به في الصبر على مقدورات الله
وابتلائه لعباده بما (2) يشاء ، وله الحكمة البالغة في ذلك.
{ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)
وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) }.
أما إسماعيل فالمراد به ابن إبراهيم الخليل ، عليهما السلام ، وقد تقدم ذكره في
سورة مريم ، وكذلك إدريس ، عليه السلام (3) وأما ذو الكفل فالظاهر من السياق أنه
ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبي. وقال آخرون : إنما كان رجلا صالحًا ، وكان ملكًا
عادلا وحكمًا مقسطًا ، وتوقف ابن جرير في ذلك ، فالله أعلم.
وقال ابن جُرَيج ، عن مجاهد في قوله : { وَذَا الْكِفْلِ } قال : رجل صالح غير نبي
، تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه ويقيمهم له ويقضي بينهم بالعدل ، ففعل ذلك ،
فَسُمي : ذا الكفل. وكذا روَى ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد أيضًا.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عفان ، حدثنا وُهَيب ، حدثنا داود ،
عن مجاهد قال : لما كبر اليسع قال : لو أني استخلفت رجلا على الناس يعمل عليهم في
حياتي ، حتى أنظر كيف يعمل ؟ فجمع الناس ، فقال : من يتقبل مني بثلاث : أستخلفه
يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ولا يغضب. قال : فقام رجل تزدريه العين ، فقال : أنا.
فقال : أنت تصوم النهار ، وتقوم الليل ، ولا تغضب ؟ قال : نعم ، قال : فردهم (4)
ذلك اليوم ، وقال مثلها في اليوم الآخر ، فسكت الناس ، وقام ذلك الرجل وقال (5)
أنا. فاستخلفه ، قال : وجعل إبليس يقول للشياطين : عليكم بفلان. فأعياهم ذلك (6) ،
قال : دعوني (7) وإياه ، فأتاه في صورة شيخ كبير فقير ، فأتاه حين أخذ مضجعه
للقائلة
__________
(1) في ف : "إنما فعل ذلك بهم".
(2) في ف : "فيما".
(3) انظر : تفسير الآيات : 54 - 57.
(4) في ف ، أ : "فيردهم".
(5) في ف : "فقال"
(6) في ف ، أ : "ذلك الرجل".
(7) في أ : "دعوني أنا وإياه".
(5/363)
- وكان لا
ينام الليل والنهار إلا تلك النومة - فدق الباب ، فقال : من هذا ؟ قال : شيخ كبير
مظلوم. قال : فقام ففتح الباب ، فجعل يقص عليه ، فقال : إن بيني وبين قومي خصومة ،
وإنهم ظلموني ، وفعلوا بي وفعلوا. وجعل يُطَول عليه حتى حضر الرواح وذهبت القائلة
، فقال (1) : إذا رحت فأتني آخذ لك بحقك. فانطلق ، وراح. فكان في مجلسه ، فجعل
ينظر هل يرى الشيخ ؟ فلم يره ، فقام يتبعه ، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس ،
وينتظره ولا (2) يراه ، فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه ، أتاه فدق الباب ، فقال
: من هذا ؟ قال (3) الشيخ الكبير المظلوم. ففتح له (4) فقال : ألم أقل لك إذا قعدت
فأتني ؟ قال : إنهم أخبث قوم ، إذا عرفوا (5) أنك قاعد قالوا : نحن نعطيك حقك.
وإذا قمت جحدوني. قال : فانطلق ، فإذا رحت فأتني. قال : ففاتته القائلة ، فراح
فجعل ينتظره (6) ولا يراه ، وشق عليه النعاس ، فقال لبعض أهله : لا تدعن أحدًا
يَقرب هذا الباب حتى أنام ، فإني قد شق عليّ النوم. فلما كان تلك الساعة أتاه (7)
فقال له الرجل : وراءك وراءك ؟ فقال : إني قد أتيته أمس ، فذكرت له أمري ، فقال :
لا والله لقد أمرنا ألا ندع أحدًا يقربه. فلما أعياه نظر فرأى كُوَّة في البيت ،
فتسور منها ، فإذا هو في البيت ، وإذا هو يدق الباب من داخل ، قال : فاستيقظ الرجل
فقال : يا فلان ، ألم آمرك ؟ فقال (8) أما من قبلي والله فلم تؤتَ ، فانظر من أين
أتيت ؟ قال : فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه ، وإذا الرجل معه في البيت ،
فعرفه ، فقال : أعدو الله ؟ قال : نعم ، أعييتني في كل شيء ، ففعلت ما تَرَى
لأغضبك. فسماه الله ذا الكفل ؛ لأنه تكفل بأمر فوفى به (9).
وهكذا رواه بن أبي حاتم ، من حديث زهير بن إسحاق ، عن داود ، عن مجاهد ، بمثله.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن
الأعمش ، عن مسلم ، قال : قال ابن عباس : كان قاض في بني إسرائيل ، فحضره الموت ،
فقال : من يقوم مقامي على ألا يغضب ؟ قال : فقال رجل : أنا. فسمي ذا الكفل. قال :
فكان (10) ليله جميعًا يصلي ، ثم يصبح صائمًا فيقضي بين الناس - قال : وله (11)
ساعة يقيلها - قال : فكان كذلك ، فأتاه الشيطان عند نومته ، فقال له أصحابه : ما
لك ؟ قال : إنسان مسكين ، له على رجل حق ، وقد غلبني عليه. قالوا : كما أنت حتى
يستيقظ - قال : وهو فوق نائم - قال : فجعل يصيح عمدا حتى يوقظه (12) ، قال : فسمع
، فقال : ما لك ؟ قال : إنسان مسكين ، له على رجل حق. قال : اذهب فقل له يعطيك.
قال : قد أبى. قال : اذهب أنت إليه. قال : فذهب ، ثم جاء من الغد ، فقال : ما لك ؟
قال : ذهبت إليه فلم يرفع بكلامك رأسًا. قال : اذهب إليه فقل له يعطيك حقك ، قال :
فذهب ، ثم جاء من الغد حين قال ، قال : فقال له أصحابه : اخرج ، فعل الله بك ،
تجيء كل يوم حين ينام ، لا
__________
(1) في ف : "وقال".
(2) في ف ، أ : "فلا".
(3) في ف : "فقال".
(4) في ف : "ففتح الباب".
(5) في ف ، أ : "اعترفوا".
(6) في ف : "ينتظر".
(7) في ف : "جاءه".
(8) في ت : "قال".
(9) تفسير الطبري (17/59).
(10) في ف : "فقال".
(11) في ف : "فله".
(12) في ف : "يغضبه".
(5/364)
تدعه ينام
؟. فجعل (1) يصيح : من أجل أني إنسان مسكين ، لو كنت غنيا ؟ قال : فسمع أيضًا ،
فقال : ما لك ؟ قال : ذهبت إليه فضربني. قال : امش حتى أجيء معك. قال : فهو ممسك
بيده ، فلما رآه ذهب معه نَثَر يده منه (2) فَفَر.
وهكذا روي عن عبد الله بن الحارث ، ومحمد بن قيس ، وابن حُجَيرة الأكبر ، وغيرهم
من السلف ، نحو من هذه القصة ، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الجماهر (3) ، أخبرنا سعيد بن بشير ،
حدثنا قتادة ، عن أبي كنانة بن الأخنس قال : سمعت الأشعري وهو يقول على هذا المنبر
: ما كان ذو الكفل بنبي ، ولكن كان - يعني : في بني إسرائيل - رجل صالح يصلي كل
يوم مائة صلاة ، فتكفل له ذو الكفل من بعده ، فكان يصلي كل يوم مائة صلاة ، فسمي
ذا الكفل.
وقد رواه ابن جرير من حديث عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة قال : "قال
أبو موسى الأشعري..." فذكره منقطعا (4) ، والله أعلم.
وقد روى الإمام أحمد حديثًا غريبًا فقال :
حدثنا أسباط بن محمد ، حدثنا الأعمش ، عن عبد الله بن عبد الله ، عن سعد (5) مولى
طلحة ، عن ابن عمر قال : سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لو لم أسمعه
إلا مرة أو مرتين - حتى عدّ سبع مرات - ولكن قد سمعته أكثر من ذلك ، قال :
"كان الكفل من بني إسرائيل ، لا يتورّع من ذنب عمله ، فأتته امرأة فأعطاها
ستين دينارا ، على أن يَطَأها ، فلما قعد منها (6) مَقعدَ الرجل من امرأته ،
أرعِدَت (7) وبكت ، فقال : ما يبكيك ؟ أكْرَهْتُك ؟ قالت : لا ولكن هذا عمل لم
أعمله قط ، وإنما حَمَلني عليه الحاجة. قال : فتفعلين هذا ولم تفعليه قط ؟ فَنزل
(8) فقال : اذهبي فالدنانير لك. ثم قال : "والله لا يَعصي الله الكفل أبدًا.
فمات من ليلته فأصبح مكتوبًا على بابه : قد غفر الله للكفل" (9).
هكذا وقع في هذه الرواية "الكفل" ، من غير إضافة ، فالله أعلم. وهذا
الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة (10) ، وإسناده غريب ، وعلى كل تقدير
فلفظ الحديث إن كان "الكفل" ، ولم يقل : "ذو الكفل" ، فلعله
رجل آخر ، والله أعلم.
__________
(1) في ف ، أ : "قال : فجعل".
(2) في أ : "منه فذهب".
(3) في ف ، أ : "أبو الجماهير".
(4) تفسير الطبري (17/60).
(5) في ف ، أ : "سعيد".
(6) في أ : "معها".
(7) في أ : "ارتعدت".
(8) في ف : "ثم نزل".
(9) المسند (2/23).
(10) قلت : بل أخرجه الترمذي في السنن برقم (2496) من طريق عبيد بن أسباط عن أبيه
به ، وقال : "هذا حديث حسن قد رواه شيبان وغير واحد عن الأعمش نحو هذا ورفعوه
وروى بعضهم عن الأعمش فلم يرفعه".
(5/365)
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
{ وَذَا
النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى
فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ
الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ
نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) }.
هذه القصة مذكورة هاهنا وفي سورة "الصافات" وفي سورة "ن" (1)
وذلك أن يونس بن مَتَّى ، عليه السلام ، بعثه الله إلى أهل قرية "نينوى"
، وهي قرية من أرض الموصل ، فدعاهم إلى الله ، فأبوا عليه وتمادوا على كفرهم ،
فخرج من بين أظهرهم مغاضبا لهم ، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث. فلما تحققوا منه ذلك ،
وعلموا أن النبي لا يكذب ، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم ، وفرقوا
بين الأمهات وأولادها ، ثم تضرعوا إلى الله عز وجل ، وجأروا (2) إليه ، ورغت الإبل
وفُضْلانها ، وخارت البقر وأولادها ، وثغت الغنم وحُمْلانها ، فرفع الله عنهم
العذاب ، قال الله تعالى : { فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا
إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ (3)
الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [يونس : 98].
وأما يونس ، عليه السلام ، فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة فَلَجَّجت بهم ، وخافوا
أن يغرقوا (4). فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه ، فوقعت القرعة على
يونس ، فأبوا (5) أن يلقوه ، ثم أعادوا القرعة فوقعت عليه أيضًا ، فأبوا ، ثم
أعادوها فوقعت عليه أيضًا ، قال الله تعالى : { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ
الْمُدْحَضِينَ } [ الصافات : 141] ، أي : وقعت عليه القرعة (6) ، فقام يونس ،
عليه السلام ، وتجرد من ثيابه ، ثم ألقى نفسه في البحر ، وقد أرسل الله ، سبحانه
وتعالى ، من البحر الأخضر - فيما قاله ابن مسعود - حوتًا يشق البحار ، حتى جاء
فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة ، فأوحى الله إلى ذلك الحوت ألا تأكل له
لحمًا ، ولا تهشم له عظما ؛ فإن يونس ليس لك رزقا ، وإنما بطنك له يكون سجنًا.
وقوله : { وَذَا النُّونِ } يعني : الحوت ، صحت الإضافة إليه بهذه النسبة.
وقوله : { إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا } : قال الضحاك : لقومه ، { فَظَنَّ أَنْ لَنْ
نَقْدِرَ عَلَيْهِ } [أي : نضيق عليه في بطن الحوت. يُروَى نحو هذا عن ابن عباس ،
ومجاهد ، والضحاك ، وغيرهم ، واختاره (7) ابن جرير ، واستشهد عليه بقوله تعالى : {
وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } [
الطلاق : 7].
وقال عطية العَوفي : { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ } (8) ، أي : نقضي
عليه ، كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير ، فإن العرب تقول : قدَر وقَدّر بمعنى واحد ،
وقال الشاعر :
__________
(1) سورة الصافات الآيات : (139 - 148) ، وسورة نون (القلم) الآيات : (48 - 50).
(2) في ت : "ولجؤوا".
(3) في ت : "العذاب".
(4) في ت ، ف : "تغرق بهم".
(5) في ت : "فأتوا".
(6) في ف : "فوقعت القرعة عليه".
(7) في ت : "واختارهم".
(8) زيادة من ت ، ف ، أ.
(5/366)
فَلا عَائد
ذَاكَ الزّمَانُ الذي مَضَى... تباركت ما تَقْدرْ يَكُنْ ، فَلَكَ الأمْرُ...
ومنه قوله تعالى : { فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } [القمر : 12]
، أي : قدر.
وقوله : { فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ
إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } قال ابن مسعود : ظلمة بطن الحوت ، وظلمة البحر
، وظلمة الليل. وكذا روي عن ابن عباس (1) ، وعمرو بن ميمون ، وسعيد بن جُبَير ،
ومحمد بن كعب ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة.
وقال سالم بن أبي الجعد : ظلمةُ حُوت في بطن حوت (2) ، في ظلمة البحر.
قال ابن مسعود ، وابنُ عباس وغيرهما : وذلك أنه ذهب به الحوتُ في البحار يَشُقُّها
، حتى انتهى به إلى قرار البحر ، فسمع (3) يونسُ تسبيح الحصى في قراره ، فعند ذلك
وهنالكَ قال : { لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ }
وقال عوف : لما صار يونس في بطن الحوت ، ظن أنه قد مات ، ثم حرك رجليه فلما تحركت
سجد مكانه ، ثم نادى : يا رب (4) ، اتخذت لك مسجدًا (5) في موضع ما اتخذه (6) أحد.
وقال سعيد بن أبي الحسن البصري : مكث في بطن الحوت أربعين يومًا. رواهما (7) ابن
جبير.
وقال محمد بن إسحاق بن يَسَار ، عمن حدثه ، عن عبد الله بن رافع - مولى أم سلمة -
سمعتُ أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما أراد الله
حَبْسَ يونس في بطن الحوت ، أوحى الله إلى الحوت أن خذه ، ولا تخدش لحما ولا تكسر
عظما ، فلما انتهى به إلى أسفل البحر ، سمع يونس حسًا ، فقال في نفسه : ما هذا ؟
فأوحى الله إليه ، وهو في بطن (8) الحوت : إن هذا تسبيح دواب البحر. قال :
فَسَبَّح وهو في بطن الحوت ، فسمع (9) الملائكة تسبيحه فقالوا : يا ربنا ، إنا
نسمع صوتًا ضعيفًا [بأرض غريبة] (10) قال : ذلك عبدي يونس ، عصاني فحبسته في بطن
الحوت في البحر. قالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة
عملٌ صالح ؟. قال : نعم". قال : "فشفعوا له عند ذلك ، فأمر الحوت فقذفه
في الساحل ، كما قال الله عز وجل : (11) { وَهُوَ سَقِيمٌ } [الصافات : 145].
ورواه ابن جرير (12) ، ورواه البزار في مسنده ، من طريق محمد بن إسحاق ، عن عبد
الله بن رافع ، عن أبي هريرة ، فذكره بنحوه ، ثم قال : لا نعلمه يروى عن النبي صلى
الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد (13) ، وروى ابن عبد الحق من حديث
شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سَلمَة (14) ،
__________
(1) في ف : "ابن مسعود".
(2) في ف ، أ : "حوت آخر".
(3) في ت ، أ : "حتى يسمع" ، وفي ف : "حتى سمع".
(4) في ت : "رب الحوت".
(5) في ت : "مسجد".
(6) في ف ، أ : "ما أخده".
(7) في ت : "رواها".
(8) في ف : "وهو ببطن".
(9) في ف ، أ : "فسمعت".
(10) زيادة من ف ، أ.
(11) في ت : "الله تعالى".
(12) تفسير الطبري (17/65).
(13) مسند البزار برقم (2254) "كشف الأستار".
(14) في ت ، ف : "مسلم".
(5/367)
عن علي
مرفوعًا : لا ينبغي لعبد أن يقول : " أنا (1) خير من يونس بن متى" ؛ سبح
لله في الظلمات (2).
وقد روي هذا الحديث بدون هذه الزيادة ، من حديث ابن عباس ، وابن مسعود ، وعبد الله
بن جعفر ، وسيأتي أسانيدها في سورة "ن" (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الرحمن بن أخي ابن وهب ،
حدثنا عمي : حدثني أبو صخر : أن يزيد الرقاشي حدثه قال : سمعت أنس بن مالك - ولا
أعلم إلا أن أنسا يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن يونس النبي ،
عليه السلام ، حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت ، قال :
"اللهم ، لا إله إلا أنت ، سبحانك ، إني كنت من الظالمين". فأقبلت هذه
الدعوة تحف بالعرش (4) ، فقالت الملائكة : يا رب ، صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة ؟
فقال : أما تعرفون ذاك (5) ؟ قالوا : لا يا رب (6) ، ومن هو ؟ قال : عبدي يونس.
قالوا : عبدك يونس الذي لم يزل يُرفَع له عَمَلٌ متقبل (7) ، ودعوة مجابة ؟. [قال
: نعم] (8). قالوا : يا رب ، أَوَلا (9) ترحم ما كان يصنع (10) في الرخاء فتنجيَه
من البلاء ؟ قال : بلى. فأمر الحوت فطرحه في العراء (11).
وقوله : { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ } أي : أخرجناه من
بطن الحوت ، وتلك الظلمات ، { وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } أي : إذا كانوا
في الشدائد ودَعَونا منيبين إلينا ، ولا سيما إذا دعوا بهذا الدعاء في حال البلاء
، فقد جاء الترغيب في الدعاء بها عن سيد الأنبياء ، قال الإمام أحمد :
حدثنا إسماعيل بن عُمَر ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق الهمداني ، حدثنا إبراهيم بن
محمد (12) ابن سعد ، حدثني والدي محمد عن أبيه سعد ، - وهو ابن أبي وقاص - قال :
مررت بعثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، في المسجد ، فسلمت عليه ، فملأ عينيه مني ثم
لم يَردُدْ عليّ السلام ، فأتيت عمر بن الخطاب فقلت : يا أمير المؤمنين ، هل حدث
في الإسلام شيء ؟ مرتين ، قال : لا وما ذاك ؟ قلت : لا إلا أني مررتُ بعثمان (13)
آنفا في المسجد ، فسلمت عليه ، فملأ عينيه مني ، ثم لم يَرْدُد (14) علي السلام.
قال : فأرسل عمر إلى عثمان فدعاه ، فقال : ما منعك ألا تكون رَدَدت على أخيك
__________
(1) في ف : "أنا عند الله خير".
(2) كذا (ابن عبد الحق) ، وأظنه تحريف عن عبد بن حميد ، إلا أني لا أجزم بذلك ،
وقد ذكره الهندي في كنز العمال (12/476) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن
مردويه وابن عساكر في تاريخه.
(3) كذا قال الحافظ ابن كثير ، وإنما ذكره هناك من حديث ابن مسعود وأبي هريرة رضي
الله عنهما.
فأما حديث ابن عباس : فرواه البخاري في صحيحه برقم (3395) ومسلم في صحيحه برقم
(2377).
وأما حديث عبد الله بن جعفر : فرواه أبو داود في السنن برقم (4670).
(4) في ت : "نحو العرش" وفي ف : "تحت العرش".
(5) في ف : "ذلك".
(6) في ت ، ف : "يا ربنا".
(7) في ت ، ف : "متقبلا".
(8) زيادة من ف ، أ.
(9) في ت ، ف ، أ : "أفلا".
(10) في ت ، ف : "يصنعه".
(11) ورواه ابن أبي الدنيات في الفرج بعد الشدة برقم (32) من طريق أحمد بن صالح عن
عبد الله بن وهب به.
(12) في ت : "محمد بن إبراهيم".
(13) في ف ، أ : "بعثمان بن عفان رضي الله عنه".
(14) في ت : "يرد".
(5/368)
السلام ؟
قال : ما فعلتُ. قال سعد : قلتُ : بلى (1) حتى حلفَ وحلفت ، قال : ثم إن عثمان
ذكرَ فقال : بلى ، وأستغفر الله وأتوب إليه ، إنك مررت بي آنفا وأنا أحدّث نفسي
بكلمة سمعتُها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا والله ما ذكرتها قط إلا تَغْشَى
بصري وقلبي غشَاوة. قال سعد : فأنا أنبئك بها ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذكر لنا [أول دعوة] (2) ثم جاء أعرابي فشغله ، حتى قَام رسولُ الله صلى الله عليه
وسلم فاتبعته ، فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله ضربت بقدمي الأرض ، فالتفت إليّ
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال : "من هذا ؟ أبو إسحاق ؟" قال : قلت
: نعم ، يا رسول الله. قال : "فمه ؟" قلت : لا والله ، إلا أنك ذكرتَ
لنا أول دعوة ، ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك. قال : "نعم ، دعوةُ ذي النون ، إذ
هو في بطن الحوت : { لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ
الظَّالِمِينَ } ، فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له".
ورواه الترمذي ، والنسائي في "اليوم والليلة" ، من حديث إبراهيم بن محمد
بن سعد ، عن أبيه ، عن سعد (3) ، به (4).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن كَثِير بن
زيد ، عن المطلب بن حنطب - قال أبو خالد : أحسبه عن مصعب ، يعني : ابن سعد - عن
سعد (5) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من دعا بدعاء يونس ،
استُجِيب (6) له". قال أبو سعيد : يريد به { وَكَذَلِكَ نُنْجِي
الْمُؤْمِنِينَ } (7).
وقال ابن جرير : حدثني عمران بن بَكَّار الكَلاعي ، حدثنا يحيى بن صالح ، حدثنا
أبو يحيى بن عبد الرحمن ، حدثني بِشْر بن منصور ، عن علي بن زيد ، عن سعيد بن
المسيب قال : سمعت سعد بن مالك - وهو ابن أبي وقاص - يقول : سمعت رسولَ الله صلى
الله عليه وسلم يقول : "اسم الله الذي إذا دُعي به أجاب ، وإذا سُئِل به أعطى
، دعوةُ يونس بن متى". قال : قلت (8) : يا رسول الله ، هي ليونس خاصة أم
لجماعة المسلمين ؟ قال : هي ليونس بن متى خاصة وللمؤمنين عامة ، إذا دعوا بها ، ألم
تسمع قول الله عز وجل : { : فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ
سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ
وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ }. فهو شرط من
الله لمن دعاه به" (9).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي سُرَيج ، حدثنا داود بن
المُحَبَّر بن قَحْذَم المقدسي ، عن كثير بن معبد قال : سألت الحسن ، قلت : يا أبا
سعيد ، اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ؟ قال : ابنَ أخي
، أما تقرأ القرآن ؟ قول الله : { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا }
__________
(1) في ف : "ويلي".
(2) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(3) في ت : "ابن سعيد".
(4) المسند (1/170) وسنن الترمذي برقم (3505) وسنن النسائي الكبرى برقم (10492).
(5) في ت : "عن سعيد".
(6) في ت : "استجبت".
(7) ورواه الحاكم في المستدرك (2/584) من طريق يحيى بن عبد الحميد ، وابن عدي في
الكامل (6/68) من طريق أبي هشام الرفاعي كلاهما عن أبي خالد الأحمر به.
(8) في ت ، ف : "فقلت".
(9) تفسير الطبري (17/65).
(5/369)
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
إلى قوله :
{ الْمُؤْمِنِينَ } ، ابن أخي ، هذا اسم الله الأعظم ، الذي إذا دُعي به أجاب ،
وإذا سئل به أعطى.
{ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ
الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا
لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا
رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) }.
يخبر تعالى عن عبده زكريا ، حين طلب أن يَهبَه الله ولدا ، يكون من بعده نبيًا.
وقد تقدمت القصة مبسوطة في أول سورة "مريم" وفي سورة "آل
عمران" أيضا ، وهاهنا أخصر منهما ؛ { إِذْ نَادَى رَبَّهُ } أي : خفية عن
قومه : { رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا } أي : لا ولدَ لي ولا وارثَ يقوم بعدي في
الناس ، { وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ } دعاء وثناء مناسب للمسألة.
قال الله تعالى : { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا
لَهُ زَوْجَهُ } أي : امرأته.
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير : كانت عاقرا لا تلد ، فولدت.
وقال عبد الرحمن بن مهدي (1) ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء : كان في لسانها طول
فأصلحها الله. وفي رواية : كان في خَلْقها شيء فأصلحها الله. وهكذا قال محمد بن كعب
، والسدّي. والأظهر من السياق الأول.
وقوله : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } أي : في عمل
القُرُبات وفعل الطاعات ، { وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } قال الثوري : {
رَغَبًا } فيما عندنا ، { وَرَهَبًا } مما عندنا ، { وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ }
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أي مصدقين بما أنزل الله. وقال مجاهد :
مؤمنين حقا. وقال أبو العالية : خائفين. وقال أبو سِنَان : الخشوع هو الخوف اللازم
للقلب ، لا يفارقه أبدًا. وعن مجاهد أيضًا { خَاشِعِينَ } أي : متواضعين. وقال
الحسن ، وقتادة ، والضحاك : { خَاشِعِينَ } أي : متذللين لله عز وجل. وكل هذه
الأقوال متقاربة. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد
الطَّنَافِسيّ ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق بن (2) عبد الله
القرشي ، عن عبد الله بن حكيم قال : خطبنا أبو بكر ، رضي الله عنه ، ثم قال : أما
بعد ، فإني أوصيكم بتقوى الله ، وتُثنُوا عليه بما هو له أهل ، وتخلطوا الرغبة
بالرهبة ، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة ، فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته ،
فقال : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا
وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ }.
__________
(1) في ت : "ابن منبه".
(2) في ت ، ف : "عن".
(5/370)
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)
{ وَالَّتِي
أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا
آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) }.
هكذا قَرَن تعالى (1) قصة مريم وابنها عيسى ، عليه السلام ، بقصة زكريا وابنه يحيى
، عليهما السلام ، فيذكر أولا قصة زكريا ، ثم يتبعها بقصة مريم ؛ لأن تلك مُوَطّئة
لهذه ، فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير قد طَعَن في السن ، ومن امرأة عجوز عاقر لم
تكن تلد في حال شبابها ، ثم يذكر قصة مريم وهي أعجب ، فإنها إيجاد ولد من أنثى بلا
ذكر. هكذا وقع في سورة "آل عمران" ، وفي سورة "مريم" ، وهاهنا
ذكر قصة زكريا ، ثم أتبعها بقصة مريم ، فقوله : { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا
} يعني : مريم ، عليها السلام ، كما قال في سورة التحريم : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ
عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا }
[التحريم : 12].
وقوله : { وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } أي : دلالة على أن
الله على كل شيء قدير ، وأنه يخلق ما يشاء ، و { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ
شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس : 82]. وهذا كقوله : {
وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ } [مريم : 21].
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عَمْرو بن علي ، حدثنا أبو عاصم الضحاك بن
مُخَلَّد (2) عن شَبِيب (3) - يعني ابن بشر (4) - عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في
قوله : { لِلْعَالَمِينَ } قال : العالمين : الجن والإنس.
{ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ
(92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ
يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا
لَهُ كَاتِبُونَ (94) }.
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جُبَيْر ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله :
{ إِنَّ (5) هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } يقول : دينكم دين واحد.
وقال الحسن البصري ؛ في (6) هذه الآية : بين لهم ما يتقون وما يأتون ثم قال : {
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي : سنتكم سنة واحدة. فقوله : {
إِنَّ هَذِهِ } إنّ واسمها ، و { أُمَّتُكُمْ } خبر إن ، أي : هذه شريعتكم التي
بينت لكم ووضحت لكم ، وقوله : { أُمَّةً وَاحِدَةً } نصب (7) على الحال ؛ ولهذا
قال : { وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } ، كَمَا قَالَ : { يَا أَيُّهَا
الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا
تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا
رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } [المؤمنون : 51 ، 52] ، وقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "نحن معشر الأنبياء أولاد عَلات ديننا واحد" ، يعني : أن المقصود
هو عبادة الله وحده لا شريك له بشرائع متنوعة لرسله ، كما قال تعالى : { لِكُلٍّ
جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } [المائدة : 48].
__________
(1) في ت : "يقرن الله تعالى" وفي ف ، أ : "يقرن تعالى".
(2) في ف : "عن مجلز".
(3) في ت ، ف ، أ : "شعيب".
(4) في ف : "بشير".
(5) في ت ، ف : "وإن".
(6) في ت : "من".
(7) في ت : "نصيب".
(5/371)
وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
وقوله : {
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } أي : اختلفت الأمم على رسلها ، فمن بين
مُصَدق لهم ومكذب ؛ ولهذا قال : { كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } أي : يوم القيامة
، فيجازَى كل بحسب عمله ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر ؛ ولهذا قال : { فَمَنْ
يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } أي : قلبه مصدق ، وعمل عملا صالحا
، { فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ } ، كقوله : { إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ
أَحْسَنَ عَمَلا } [الكهف : 30] أي : لا يُكْفَر سعيُه ، وهو عمله ، بل يُشْكَر ،
فلا يظلم مثقال ذرة ؛ ولهذا قال : { وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ } أي : يُكتب جميعُ
عمله ، فلا يَضيع عليه منه شيء.
{ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى
إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ
كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا
ظَالِمِينَ (97) }.
يقول تعالى : { وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ } قال ابن عباس : وجب ، يعني : قدرًا
مُقَدرًا (1) أن أهل كل (2) قرية (3) أهلكوا أنهم لا يرجعون إلى الدنيا قبل يوم
القيامة. هكذا صرح به ابن عباس ، وأبو جعفر الباقر ، وقتادة ، وغير واحد.
وفي رواية عن ابن عباس : { أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ } أي : لا يتوبون.
والقول الأول أظهر ، والله أعلم.
وقوله : { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ } : قد قدمنا أنهم من
سلالة آدم ، عليه السلام ، بل هم من نسل نوح أيضا (4) من أولاد يافث أبي الترك ،
والترك شرذمة منهم ، تركوا من وراء السد الذي بناه ذو القرنين.
وقال : { هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ
دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا. وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ
يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا } [الكهف : 98
، 99] ، وقال في هذه الآية الكريمة : { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ
وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ } أي : يسرعون في المشي إلى
الفساد.
والحَدَب : هو المرتفع من الأرض ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وأبو صالح ، والثوري
وغيرهم ، وهذه صفتهم في حال خروجهم ، كأن السامع مشاهد لذلك ، { وَلا يُنَبِّئُكَ
مِثْلُ خَبِيرٍ } [فاطر : 14] : هذا إخبار عالم ما كان وما يكون ، الذي يعلم غيب
السموات والأرض ، لا إله إلا هو.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن مثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن
عُبَيد الله بن أبي يزيد قال : رأى ابُن عباس صبيانا ينزو بعضهم على بعض ، يلعبون
، فقال ابن عباس : هكذا
__________
(1) في ت ، ف : "مقدورا".
(2) في ت ، ف : "إن كل أهل".
(3) في ت : "القرية".
(4) في ف ، أ : "عليه السلام".
(5/372)
يخرج يأجوج
ومأجوج (1).
وقد ورد ذكر خروجهم في أحاديث متعددة من السنة النبوية :
فالحديث الأول : قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، عن
عاصم بن عُمَر بن قتادة ، عن محمود بن لَبيد ، عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول : "يُفتَح يأجوجُ ومأجوجُ ، فيخرجون كما قال
الله عز وجل" : { [وَهُمْ ] (2) مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ } ، فيغشونَ
الناس ، وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم (3) ، ويضمون إليهم مواشيَهم ،
ويشربون مياه الأرض ، حتى إن بعضَهم ليمر بالنهر ، فيشربون ما فيه حتى يتركوه
يَبَسا ، حتى إن مَنْ بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول (4) : قد كان هاهنا ماء مرةً
حتى إذا لم يبقَ من الناس أحد إلا أحدٌ في حصن أو مدينة قال قائلهم : هؤلاء أهلُ
الأرض ، قد فرغنا منهم ، بقي أهلُ السماء. قال : "ثم يهزّ أحدهم حربته ، ثم
يرمي بها إلى السماء ، فترجع إليه مُخْتَضبَةً دما ؛ للبلاء والفتنة. فبينما هم
على ذلك إذ بعث الله عز وجل دودا في أعناقهم كنَغَف الجراد الذي يخرج في أعناقه ،
فيصبحون (5) موتى لا يُسمَع لهم حس ، فيقول المسلمون : ألا رجل يَشْري لنا نفسه ،
فينظر ما فعل هذا العدو ؟" قال : "فيتجرّد رجل منهم محتسبا نفسه ، قد أوطنها
على أنه مقتول ، فينزل فيجدهم موتى ، بعضهم على بعض ، فينادي : يا معشر المسلمين ،
ألا أبشروا ، إن الله عز وجل قد كفاكم عدوكم ، فيخرجون من مدائنهم وحصونهم
ويُسَرِّحون مواشيهم ، فما يكون لها رعي إلا لحومهم ، فَتَشْكر عنه كأحسن ما
شَكرَت عن شيء من النبات أصابته قط.
ورواه ابن ماجه ، من حديث يونس بن بُكَيْر ، عن ابن إسحاق ، به (6).
الحديث الثاني : قال [الإمام] (7) أحمد أيضا : حدثنا الوليد بن مسلم أبو العباس
الدمشقي ، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، حدثني يحيى بن جابر الطائي - قاضي
حمص - حدثني عبد الرحمن بن جُبَير بن نُفَير الحضرمي ، عن أبيه ، أنه سمع
النَّوّاس بن سمْعانَ الكلابي قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات
غَداة ، فخَفَض فيه ورَفَع ، حتى ظنناه في طائفة النخل ، [فلما رُحْنَا إليه عرف
ذلك في وجوهنا ، فسألناه فقلنا : يا رسول الله ، ذكرت الدجال الغداة ، فخفضت فيه
ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل] (8). فقال : "غير الدجال أخْوَفُني عليكم ،
فإن يخرج وأنا فيكم فأنا حَجِيجُه دونكم ، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه ،
والله خليفتي على كل مسلم : إنه شاب جَعْدُ قَطَط عينه
__________
(1) تفسير الطبري (17/70).
(2) زيادة من أ.
(3) في ت : "وحضرتهم".
(4) في ت : "فيقولون".
(5) في ت : "فيحصون".
(6) المسند (3/77) وسنن ابن ماجه برقم (4079) ، وقال البوصيري في الزوائد (3/260)
: "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".
(7) زيادة من ت ، ف ، أ.
(8) زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
(5/373)
طافية ،
وإنه يخرج خَلَةَ بين الشام والعراق ، فعاث يمينا وشمالا يا عباد الله
اثبتوا".
قلنا : يا رسول الله ، ما لبثه في الأرض ؟ قال : "أربعين يوما ، يوم كسنة ،
ويوم كشهر ، ويوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامكم".
قلنا : يا رسول الله ، فذاك اليوم الذي هو كسنة ، أتكفينا فيه صلاة يوم وليلة ؟
قال : "لا اقدروا له قدره".
قلنا : يا رسول الله ، فما إسراعه في الأرض ؟ قال : "كالغيث استدبرته
الريح". قال : "فيمر بالحي فيدعوهم فيستجيبون له ، فيأمر السماء فتمطر ،
والأرض فتنبت ، وتروح عليهم سارحتهم وهي أطول ما كانت ذُرَى ، وأمده خواصر ،
وأسبغه ضروعا. ويمر بالحي فيدعوهم فيردون عليه قولَه ، فتتبعه أموالهم ، فيصبحون
مُمْحلين ، ليس لهم من أموالهم. ويمر بالخَربة فيقول لها : أخرجي كنوزك ، فتتبعه
كنوزها كيعاسيب النحل". قال : "ويأمر برجل فيُقتَل ، فيضربه بالسيف فيقطعه
جَزْلتين رَمْيَةَ الغَرَض ، ثم يدعوه فيقبل إليه [يتهلل وجهه] (1).
فبينما هم على ذلك ، إذ بعث الله عز وجل المسيح ابن مريم ، فينزل عند المنارة (2)
البيضاء ، شرقي دمشق ، بين مَهْرُودَتَين واضعا يَدَه على أجنحة مَلَكين ، فيتبعه
فيدركه ، فيقتله عند باب لُدّ الشرقي".
قال : "فبينما هم كذلك ، إذ أوحى الله عز وجل إلى عيسى ابن مريم : أني قد
أخرجت عبادا من عبادي لا يَدَانِ لك بقتالهم ، فَحَوّز عبادي إلى الطور ، فيبعث
الله عز وجل يأجوج ومأجوج ، وهم كما قال الله : { مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ }
فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل ، فيرسل الله عليهم نَغَفًا في رقابهم ،
فيصبحون فَرْسى ، كموت نفس واحدة.
فيهبط عيسى وأصحابه ، فلا يجدون في الأرض بيتا إلا قد ملأه زَهَمُهم ونَتْنهُم ،
فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله ، فيرسل عليهم طيرًا كأعناق البُخْت ، فتحملهم
فتطرحهم حيث شاء الله".
قال ابن جابر (3) فحدثني عطاء بن يزيد السَّكْسَكيّ (4) ، عن كعب - أو غيره - قال
: فتطرحهم بالمَهْبِل. [قال ابن جابر : فقلت : يا أبا يزيد ، وأين المَهْبِل ؟]
(5) ، قال : مطلع الشمس.
قال : "ويرسل الله مطرًا لا يَكُنَّ (6) منه بيت مَدَر ولا وَبَر أربعين يوما
، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزّلَقَةِ ، ويقال للأرض : أنبتي ثمرتك ، ورُدي
بركتك". قال : "فيومئذ يأكل النفر من الرمانة ويستظلون بقحْفها ،
ويُبَارك في الرَسْل ، حتى إن اللَّقْحَةَ من الإبل لتكفي الفِئَامَ من الناس ،
واللقحة من البقر تكفي الفخذ ، والشاة من الغنم تكفي أهل البيت".
__________
(1) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(2) في ت : "المنازل".
(3) في ت : "جرير".
(4) في ت : "السلسلي".
(5) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(6) في ت : "يكون".
(5/374)
قال :
"فبينما هم على ذلك (1) ، إذ بعث الله عز وجل ريحا طيبة تحت آباطهم ، فتقبض
روح كل مسلم - أو قال : كل مؤمن - ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمير ،
وعليهم تقوم الساعة".
انفرد (2) بإخراجه مسلم دون البخاري ، فرواه مع بقية أهل السنن من طرق ، عن عبد
الرحمن بن يزيد بن جابر ، به (3) وقال الترمذي : حسن صحيح.
الحديث الثالث : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بشر ، حدثنا محمد بن عمرو ، عن
ابن حَرْمَلَة ، عن خالته قالت : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب
أصبعُه من لدغة عَقْرب ، فقال : "إنكم تقولون : "لا عدو (4) ، وإنكم لا
تزالون تقاتلون عدوًا ، حتى يأتي يأجوج ومأجوج عراض الوجوه ، صغار العيون ، صُهْبَ
الشّعاف ، من كل حَدَب ينسلون ، كأن وجوههم المَجَانّ المُطرَقة" (5).
وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث محمد بن عمرو ، عن خالد بن عبد الله بن حَرْمَلة
المدلجي ، عن خالة له ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله (6).
الحديث الرابع : قد تقدم في تفسير آخر سورة الأعراف من رواية الإمام أحمد ، عن
هُشَيْم ، عن العَوَّام ، عن جَبَلَة بن سُحَيْم ، عن مُؤثر بن عَفَازَةَ ، عن ابن
مسعود ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى
وعيسى ، عليهم السلام ، قال : فتذاكروا أمر الساعة ، فردوا أمرهم إلى إبراهيم ،
فقال : لا علم لي بها (7). فردوا أمرهم إلى موسى ، فقال : لا علم لي بها (8).
فردوا أمرهم إلى عيسى ، فقال : أما وَجْبَتها فلا يعلم بها أحد إلا الله ، وفيها
عهد إلي ربي أن الدجال خارج".
قال : "ومعي قضيبان ، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص" قال :
"فيهلكه الله إذا رآني ، حتى إن الحجر والشجر يقول : يا مسلم إن تحتي كافرًا
، فتعال فاقتله". قال : "فيهلكهم الله ، ثم يرجع الناس إلى بلادهم
وأوطانهم". قال : "فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حَدَب يَنسلون
، فيطؤون بلادهم ، لا (9) يأتون على شيء إلا أهلكوه ، ولا يمرون على ماء إلا
شربوه". قال : "ثم يرجع الناس إليّ يشكونهم ، فأدعو الله عليهم ،
فيهلكهم ويميتهم ، حتى تَجوى الأرض من نَتْن ريحهم ، وينزل الله المطر فيجترف
أجسادهم ، حتى يقذفهم في البحر. ففيما عهد إليّ ربي أن ذلك إذا كان كذلك ، أن الساعة
كالحامل المُتِمّ ، لا يدري أهلها متى تَفْجُؤهم بولادها ليلا أو نهارا".
ورواه ابن ماجه ، عن محمد بن بشار ، عن يزيد بن هارون ، عن العَوَّام بن حَوْشَب ،
به (10)
__________
(1) في ف : "هم كذلك".
(2) في ت : "وانفرد".
(3) المسند (4/181) وصحيح مسلم برقم (2137) وسنن أبي داود برقم (4321) وسنن
الترمذي برقم (2240) وسنن النسائي الكبرى برقم (10783) وسنن ابن ماجه برقم (4075).
(4) في ت ، ف ، أ : "لا عدو لكم".
(5) المسند (5/217).
(6) في ت ، أ : "مثله سواء".
(7) في ت : "فيها".
(8) في ت : "فيها".
(9) في ت ، ف : "ولا".
(10) المسند (1/375) وسنن ابن ماجه برقم (4081) وسبق عند تفسير الآية : 187 من
سورة الأعراف.
(5/375)
، نحوه وزاد
: "قال العَوَّام ، ووجد تصديق ذلك في كتاب الله عز وجل : { حَتَّى إِذَا
فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ }.
ورواه ابن جرير هاهنا من حديث جبلة ، به (1).
والأحاديث في هذا كثيرة جدا ، والآثار عن السلف كذلك.
وقد روى ابُن جرير وابن أبي حاتم ، من حديث مَعْمَر ، عن غير واحد ، عن حميد بن
هلال ، عن أبي الصَّيف قال : قال كعب : إذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج ، حفروا حتى
يسمع الذين يلونهم قرع فؤوسهم ، فإذا كان الليل قالوا : نجيء غدا فنخرج ، فيعيده
الله كما كان. فيجيئون من الغد فيجدونه قد أعاده الله كما كان ، فيحفرونه حتى يسمع
الذين يلونهم قرع فؤوسهم ، فإذا كان الليل ألقى الله على لسان رجل منهم يقول :
نجيء غدا فنخرج إن شاء الله. فيجيئون من الغد فيجدونه كما تركوه ، فيحفرون حتى
يخرجوا. فتمر الزمرة الأولى بالبحيرة ، فيشربون ماءها ، ثم تمر الزمرة الثانية
فيلحسون طينها ، ثم تمر الزمرة الثالثة فيقولون (2) : قد كان هاهنا مرة ماء ، ويفر
الناس منهم ، فلا يقوم لهم شيء. ثم يرمون بسهامهم إلى السماء فترجع إليهم
مُخَضَّبة بالدماء فيقولون : غلبنا أهل الأرض وأهل السماء. فيدعو عليهم عيسى ابن
مريم ، عليه السلام ، فيقول : "اللهم ، لا طاقة ولا يَدَين لنا بهم ،
فاكفناهم بما شئت" ، فيسلط الله عليهم دودا يقال له : النغف ، فيفرس (3)
رقابهم ، ويبعث الله عليهم طيرا تأخذهم بمناقيرها فتلقيهم في البحر ، ويبعث الله
عينا يقال لها : "الحياة" يطهر الله الأرض وينبتها ، حتى أن الرمانة
ليشبع منها السَّكْن". قيل : وما السَّكن يا كعب ؟ قال : أهل البيت - قال :
"فبينما الناس كذلك إذ أتاهم الصَّريخ أن ذا السُّويقَتَين يريده. قال :
فيبعث (4) عيسى ابن مريم طليعة سبعمائة ، أو بين السبعمائة والثمانمائة ، حتى إذا
كانوا ببعض الطريق بعث الله ريحا يمانية طيبة ، فيقبض فيها روح كل مؤمن ، ثم يبقى
عَجَاج (5) الناس ، فيتسافدون كما تَسَافَدُ البهائم ، فَمَثل الساعة كمثل رجل
يطيف حول فرسه ينتظرها متى تضع ؟ قال كعب : فمن تكلف بعد قولي هذا شيئا - أو بعد
علمي هذا شيئا - فهو المتكلف (6).
هذا من أحسن سياقات كعب الأحبار ، لما شهد له من صحيح الأخبار.
وقد ثبت في الحديث أن عيسى ابن مريم يحج البيت العتيق ، وقال الإمام أحمد : حدثنا
سليمان بن داود ، حدثنا عمران ، عن قتادة ، عن عبد الله بن أبي عُتبَةَ ، عن أبي
سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليُحَجَّنَّ هذا البيت ،
وليُعْتَمَرنّ بعد خروج يأجوج ومأجوج". انفرد بإخراجه البخاري (7).
__________
(1) تفسير الطبري (17/72).
(2) في ت : "فيقول".
(3) في ت : "فيفرش".
(4) في ت : "فيبعث الله عيسى".
(5) في ت ، ف : "عجاج من".
(6) تفسير الطبري (17/71).
(7) المسند (3/27) وصحيح البخاري برقم (1593).
(5/376)
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)
وقوله : {
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ } يعني : يوم القيامة ، إذا وُجدت هذه الأهوال
والزلازل والبلابل ، أزفت الساعة واقتربت ، فإذا كانت ووقعت قال الكافرون : {
هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } [القمر : 8]. ولهذا قال تعالى : { فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ
أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : من شدة ما يشاهدونه من الأمور العظام : { يَا
وَيْلَنَا } أي : يقولون : { يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا }
أي : في الدنيا ، { بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ } ، يعترفون بظلمهم لأنفسهم ، حيث لا
ينفعهم ذلك.
{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ
لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا
خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ
الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)
}.
(5/377)
لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
{ لا
يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102)
لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا
يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) }.
يقول تعالى مخاطبا لأهل مكة من مشركي قريش ، ومن دان بدينهم من عبدة الأصنام
والأوثان : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ }
، قال ابن عباس : أي وقودها ، يعني كقوله : { وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ
} [التحريم : 6].
وقال ابن عباس أيضا : { حَصَبُ جَهَنَّمَ } بمعنى : شجر جهنم. وفي رواية قال : {
حَصَبُ جَهَنَّمَ } يعني : حطب جهنم ، بالزنجية.
وقال مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة : حطبها. وهي كذلك في قراءة علي وعائشة - رضي الله
عنهما.
وقال الضحاك : { حَصَبُ جَهَنَّمَ } أي : ما يرمى به فيها.
وكذا قال غيره. والجميع قريب.
وقوله : { أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } أي : داخلون.
{ لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا } يعني : لو كانت هذه الأصنام
والأنداد التي اتخذتموها من دون الله آلهة صحيحة لما وردوا النار ، ولما دخلوها ،
{ وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ } أي : العابدون ومعبوداتهم ، كلهم فيها خالدون ، {
لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ } ، كَمَا قَالَ : { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ }
[هود : 106] ، والزفير : خروج أنفاسهم ، والشهيق : ولوج أنفاسهم ، { وَهُمْ فِيهَا
لا يَسْمَعُونَ }.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسيّ ، حدثنا ابن
فُضَيْل ، حدثنا عبد الرحمن - يعني : المسعودي - عن أبيه قال : قال ابن مسعود :
إذا بقي من يخلد في النار ، جُعلوا في توابيت من نار ، فيها مسامير من نار ، فلا
يَرَى أحد منهم أنه يعذب في النار غيره ، ثم تلا
(5/377)
عبد الله :
{ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ }.
ورواه ابن جرير ، من حديث حجاج بن محمد ، عن المسعودي ، عن يونس بن خَبّاب (1) ،
عن ابن مسعود فذكره.
وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى } : قال عكرمة :
الرحمة. وقال غيره : السعادة ، { أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } لما ذكر تعالى
أهل النار وعذابهم بسبب شركهم بالله ، عطف بذكر السعداء من المؤمنين بالله ورسُله
(2) ، وهم الذين سبقت لهم من الله السعادة ، وأسلفوا الأعمال الصالحة في الدنيا ،
كما قال : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [يونس : 26] : وقال {
هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ } [الرحمن : 60] ، فكما أحسنوا العمل في
الدنيا ، أحسن الله مآلهم وثوابهم ، فنجاهم من العذاب ، وحَصَل (3) لهم جزيل
الثواب ، فقال : { أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ. لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } أي
: حريقها في الأجساد.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن
سلمة ، عن أبيه ، عن الجريري (4) ، عن أبي عثمان : { لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا }
، قال : حيات على الصراط (5) تلسعهم ، فإذا لسعتهم قال : حَسَ حَسَ.
وقوله : { وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ } فسلمهم من المحذور
والمرهوب ، وحصل لهم المطلوب والمحبوب.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي سُرَيج ، حدثنا محمد بن الحسن
بن أبي يزيد الهمداني ، عن ليث بن أبي سليم ، عن ابن عم النعمان بن بشير ، عن
النعمان بن بشير قال - وسَمَرَ مع علي ذات ليلة ، فقرأ : { إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } قال : أنا
منهم ، وعمر منهم ، وعثمان منهم ، والزبير منهم ، وطلحة منهم ، وعبد الرحمن منهم -
أو قال : سعد منهم - قال : وأقيمت الصلاة فقام ، وأظنه يجر ثوبه ، وهو يقول : { لا
يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا }.
وقال شعبة ، عن أبي بشر ، عن يوسف المكي ، عن محمد بن حاطب (6) قال : سمعت عليا
يقول في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى } قال :
عثمان وأصحابه.
ورواه ابن أبي حاتم أيضا ، ورواه ابن جرير من حديث يوسف بن سعد - وليس بابن ماهك -
عن محمد بن حاطب ، عن علي ، فذكره ولفظه : عثمان منهم.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ
مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } : فأولئك أولياء الله يمرون
على الصراط مرًا هو أسرع من البرق ، ويبقى الكفار فيها جِثيًا.
__________
(1) في ت : "ابن حبان".
(2) في ت : "ورسوله".
(3) في ت : "وجعل".
(4) في ت ، ف ، أ : "عن أبي عثمان الجريري".
(5) في ت : "على الصراط المستقيم".
(6) في ت : "خاطب".
(5/378)
فهذا مطابق
لما ذكرناه ، وقال آخرون : بل نزلت استثناء من المعبودين ، وخرج منهم عزير والمسيح
، كما قال حجاج بن محمد الأعور ، عن ابن جريج وعثمان بن عطاء ، عن عطاء ، عن ابن
عباس : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } ، ثم
استثنى فقال : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى } فيقال (1) :
هم الملائكة ، وعيسى ، ونحو ذلك مما يعبد من دون الله عز وجل. وكذا قال عكرمة ،
والحسن ، وابن جريج (2).
وقال الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا
الْحُسْنَى } قال : نزلت في عيسى ابن مريم وعُزَير ، عليهما السلام.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الحسين بن عيسى بن مَيْسَرَة ، حدثنا أبو
زُهَير ، حدثنا سعد بن طَرِيف ، عن الأصبغ ، عن عَليّ في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى } قال : كل شيء يعبد من دون الله في النار إلا
الشمس والقمر وعيسى ابن مريم. إسناده ضعيف.
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } ، قال : عيسى
، وعُزَيْر ، والملائكة.
وقال الضحاك : عيسى ، ومريم ، والملائكة ، والشمس ، والقمر. وكذا روي عن سعيد بن
جُبَيْر ، وأبي صالح وغير واحد.
وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثا غريبًا جدا ، فقال : حدثنا الفضل بن يعقوب
الرُّخَّاني ، حدثنا سعيد بن مسلمة بن عبد الملك ، حدثنا الليث بن أبي سليم ، عن
مُغيث ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } قال : عيسى ،
وعُزَير ، والملائكة (3).
وذكر بعضهم قصة ابن الزِّبَعْرَى ومناظرةَ المشركين ، قال أبو بكر بن مَرْدُويه :
حدثنا محمد بن علي بن سهل ، حدثنا محمد بن حسن الأنماطي ، حدثنا إبراهيم بن محمد
بن عَرْعَرَةَ ، حدثنا يزيد بن أبي حكيم ، حدثنا الحكم - يعني : ابن أبان - عن
عكرمة ، عن ابن عباس قال : جاء عبد الله بن الزبعرى إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال : تزعم أن الله أنزل عليك هذه الآية : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } ، فقال ابن الزبعرى :
قد عُبدت الشمس والقمر والملائكة ، وعُزَير وعيسى ابن مريم ، كل هؤلاء في النار مع
آلهتنا ؟ فنزلت : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ
يَصِدُّونَ. وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا
جَدَلا (4) بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } ، ثم نزلت : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ
لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ }. رواه الحافظ أبو عبد
الله في كتابه "الأحاديث المختارة".
__________
(1) في ف : "فقال".
(2) في ت : "وابن ماجه وابن جريج".
(3) وفي إسناده سعيد بن مسلمة وشيخه ليث بن أبي سليم وهما ضعيفان.
(4) في ت : "مثلا".
(5/379)
وقال ابن
أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا قَبِيصة بن عقبة ، حدثنا سفيان - يعني : الثوري - عن
الأعمش ، عن أصحابه ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } قال المشركون :
فالملائكة (1) ، عُزَير ، وعيسى يُعْبَدون من دون الله ؟ فنزلت : { لَوْ كَانَ
هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا } ، الآلهة التي يعبدون ، { وَكُلٌّ فِيهَا
خَالِدُونَ }.
وروي عن أبي كُدَيْنَة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس مثل
ذلك ، وقال فنزلت : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى
أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ }.
وقال [الإمام] (2) محمد بن إسحاق بن يسار (3) ، رحمه الله ، في كتاب
"السيرة" : وجلس رسول الله - فيما بلغني - يومًا مع الوليد بن المغيرة
في المسجد ، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم ، وفي المسجد (4) غير واحد من رجال
قريش ، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر بن الحارث ، فكلمه رسول
الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ، وتلا عليه وعليهم { إِنَّكُمْ وَمَا
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } إلى
قوله : { وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ } (5) ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، وأقبل عبد الله بن الزبَعْرَى السهمي حتى جلس ، فقال الوليد بن المغيرة
لعبد الله بن الزبعرى : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفًا ولا
قعد ، وقد زعم محمد أنَّا وما نعبد (6) من آلهتنا هذه حصب جهنم. فقال عبد الله بن
الزبعرى : أما والله لو وجدته لَخَصمته ، فسلوا محمدًا : كل ما يُعْبَد (7) من دون
الله في جهنم مع من عَبَده ، فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيرًا ، والنصارى
تعبد عيسى ابن مريم ؟ فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس ، من قول عبد الله بن
الزبعرى ، ورأوا أنه قد احتج وخاصم.
فَذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : "كل مَنْ أحَبَّ أن يُعْبَدَ
من دون الله فهو مع من عبده ، إنهم إنما يعبدون الشياطين (8) ومن أمَرَتْهُم (9)
بعبادته. وأنزل الله : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى
أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ. لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا
اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ } أي : عيسى وعزير ومن عُبدوا من الأحبار
والرهبان ، الذين مضوا على طاعة الله ، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابًا
من دون الله. ونزل فيما يذكرون ، أنهم يعبدون الملائكة ، وأنهم بنات الله : {
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ. لا
يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } إلى قوله : { وَمَنْ
يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ
كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } [الأنبياء : 26 - 29] ، ونزل فيما ذُكر من أمر
عيسى ، وأنه يعبد من دون الله ، وعَجَب الوليد ومن حَضَره من حُجَّته وخصومته : {
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ.
وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ
هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ. إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ
مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي
الأرْضِ يَخْلُفُونَ. وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا }
[الزخرف : 57 - 61]
__________
(1) في ت : "والملائكة".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ت : "ابن بشار".
(4) في ف : "المجلس".
(5) في ت ، ف : "أنتم لها واردون. لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها
خالدون. لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون".
(6) في ت : "تعبدون".
(7) في ت : "يعبدون".
(8) في ت ، ف : "الشيطان".
(9) في ف : "أمرهم".
(5/380)
أي : ما
وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى وإبراء الأسقام ، فكَفى به دليلا على علم
الساعة ، يقول : { فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ
مُسْتَقِيمٌ } [الزخرف : 61] (1).
وهذا الذي قاله ابن الزبعرى خطأ كبير ؛ لأن الآية إنما نزلت خطابًا لأهل مكة في
عبادتهم الأصنام التي هي جماد لا تعقل ، ليكون ذلك تقريعًا وتوبيخًا لعابديها ؛
ولهذا قال : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ }
فكيف يورد على هذا المسيح والعزير (2) ونحوهما ، ممن (3) له عمل صالح ، ولم يَرْضَ
بعبادة من عبده. وعَوّل ابن جرير في تفسيره في الجواب على أن "ما" لما
لا يعقل عند العرب.
وقد أسلم عبد الله بن الزبعرى بعد ذلك ، وكان من الشعراء المشهورين. وكان يهاجي
المسلمين أولا ثم قال معتذرًا :
يا رَسُولَ المليك ، إنّ لساني... رَاتقٌ مَا فتَقْتُ إذْ أنَا بُورُ...
إذْ أجَاري الشَّيطَانَ في سَنَن الغَي... وَمَنْ مَالَ مَيْلَه مَثْبُور (4)
وقوله : { لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ } قيل المراد بذلك الموت. رواه عبد
الرزاق ، عن يحيى بن ربيعة عن عطاء.
وقيل : المراد بالفزع الأكبر : النفخة في الصور. قاله العَوْفي عن ابن عباس ، وأبو
سِنَان سعيد (5) ابن سنان الشيباني ، واختاره ابن جرير في تفسيره.
وقيل : حين يُؤْمَر بالعبد إلى النار. قاله الحسن البصري.
وقيل : حين تُطبق النار على أهلها. قاله سعيد بن جُبَيْر ، وابن جُرَيج.
وقيل : حين يُذبَح الموت بين الجنة والنار. قاله أبو بكر الهذلي (6) ، فيما رواه
ابن أبي حاتم ، عنه.
وقوله : { وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ
تُوعَدُونَ } ، يعني : تقول لهم الملائكة ، تبشرهم يوم معادهم إذا خرجوا من قبورهم
: { هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } أي : قابلوا (7) ما يسركم.
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (1/358) ، ورواه الطبري في تفسيره (17/76).
(2) في ف : "وعزير".
(3) في ت : "وممن".
(4) البيتين في السيرة النبوية لابن هشام (2/419).
(5) في ت ، ف ، أ : "سعد".
(6) في ف ، أ : "الهمداني".
(7) في ت : "فأملوا".
(5/381)
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
{ يَوْمَ
نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ
نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) }.
يقول تعالى : هذا كائن يوم القيامة ، { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ
السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } كما قال تعالى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ
وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ
بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الزمر : 67] وقد قال
البخاري :
حدثنا مُقَدم بن محمد ، حدثني عمي القاسم بن يحيى ، عن عُبَيد الله ، عن نافع ، عن
ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : "إن الله يقبض يوم
القيامة الأرضَين ، وتكون السموات بيمينه" (1).
انفرد به من هذا الوجه البخاري ، رحمه الله.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج الرَّقِّي ، حدثنا
محمد بن سلمة ، عن أبي الواصل (2) ، عن أبي المليح الأزدي (3) ، عن أبي الجوزاء
الأزدي ، عن ابن عباس قال : يطوي الله (4) السموات السبع بما فيها من الخليقة
والأرضين السبع بما فيها من الخليقة ، يطوي ذلك كله (5) بيمينه ، يكون ذلك كله في
يده بمنزلة خردلة.
وقوله : { كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } ، قيل : المراد بالسجل [الكتاب. وقيل :
المراد بالسجل] (6) هاهنا : مَلَك من الملائكة.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا يحيى بن
يمان ، حدثنا أبو الوفاء الأشجعي ، عن أبيه ، عن ابن عمر في قوله تعالى : { يَوْمَ
نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } ، قال : السجل : مَلَك ، فإذا
صعد بالاستغفار قال : اكتبها نورًا.
وهكذا رواه ابن جرير ، عن أبي كُرَيْب ، عن ابن يمان ، به.
قال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي جعفر (7) محمد بن علي بن الحسين أن السجل ملك.
وقال السدي في هذه الآية : السجل : مَلَك موكل بالصحف ، فإذا مات الإنسان رفع (8)
كتابُه إلى السجل فطواه ، ورفعه إلى يوم القيامة.
وقيل : المراد به اسم رجل صحابي ، كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي : قال
ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعة ، حدثنا نصر بن علي الجَهْضَميّ ، حدثنا نوح بن
قيس ، عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس : [ { يَوْمَ نَطْوِي
السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } ] (9) ، قال : السجل : هو الرجل.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (7412).
(2) في ت : "المواصل".
(3) في ت : "الأودي".
(4) في ت : "إليه".
(5) في ف : "كله ذلك".
(6) زيادة من ف.
(7) في ت : "أبي حفص".
(8) في ت : "دفع".
(9) زيادة من ف.
(5/382)
قال نوح :
وأخبرني يزيد بن كعب - هو العَوْذي - عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء عن ابن
عباس قال : السجل كاتب (1) للنبي صلى الله عليه وسلم.
وهكذا رواه أبو داود والنسائي عن قتيبة بن سعيد (2) ، عن نوح بن قيس ، عن يزيد بن
كعب ، عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، قال : السجل كاتب (3)
للنبي صلى الله عليه وسلم (4).
ورواه ابن جرير عن نصر بن علي الجهضمي ، كما تقدم. ورواه ابن عدي من رواية يحيى بن
عمرو بن مالك النُّكْريّ عن أبيه ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس قال : كان للنبي
(5) صلى الله عليه وسلم كاتب يسمى (6) السجل وهو قوله : { يَوْمَ نَطْوِي
السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } ، قال : كما يطوى السجل الكتاب ، كذلك
نطوي السماء ، ثم قال : وهو غير محفوظ (7).
وقال الخطيب البغدادي في تاريخه : أنبأنا أبو بكر البَرْقَاني ، أنبأنا محمد بن
محمد بن يعقوب الحجاجي ، أنبأنا أحمد بن الحسن الكرخي ، أن حمدان بن سعيد حدثهم ،
عن عبد الله بن نمير ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : السجلّ
: كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم (8).
وهذا منكر جدًا من حديث نافع عن ابن عمر ، لا يصح أصلا وكذلك ما تقدم عن ابن عباس
، من رواية أبي داود وغيره ، لا يصح أيضًا. وقد صرح جماعة من الحفاظ بوضعه - وإن
كان في سنن أبي داود - منهم شيخنا الحافظ الكبير أبو الحجاج المِزِّي ، فَسَح الله
في عمره ، ونَسَأ في أجله ، وختم له بصالح عمله ، وقد أفردت لهذا الحديث جزءًا على
حدة (9) ، ولله الحمد. وقد تصدى الإمام أبو جعفر بن جرير للإنكار على هذا الحديث ،
ورده أتم رد ، وقال : لا يُعَرف في الصحابة أحد (10) اسمه السجِل ، وكُتَّاب النبي
صلى الله عليه وسلم معروفون ، وليس فيهم أحد اسمه السجل ، وصَدَق رحمه الله في ذلك
، وهو من أقوى الأدلة على نَكَارة هذا الحديث. وأما مَنْ ذكر في أسماء الصحابة هذا
، فإنما اعتمد على هذا الحديث ، لا على غيره ، والله أعلم. والصحيح عن ابن عباس أن
السجل هي الصحيفة ، قاله علي بن أبي طلحة والعوفي ، عنه. ونص على ذلك مجاهد ،
وقتادة ، وغير واحد. واختاره ابن جرير ؛ لأنه المعروف في اللغة ، فعلى هذا يكون
معنى الكلام : { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } أي :
على [هذا] (11) الكتاب ، بمعنى المكتوب ، كقوله : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ
لِلْجَبِينِ } [الصافات : 103] ، أي : على الجبين ، وله نظائر في اللغة ، والله
أعلم.
وقوله : { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا
كُنَّا فَاعِلِينَ } يعني : هذا كائن لا محالة ، يوم يعيد الله الخلائق خلقًا جديدًا
، كما بدأهم هو القادر على إعادتهم (12) ، وذلك واجب الوقوع ، لأنه من
__________
(1) في ت : "كانت".
(2) في ت : "سعد".
(3) في ت : "كانت".
(4) سنن أبي داود برقم (2935) وسنن النسائي الكبرى برقم (11335).
(5) في ت : "كان لرسول الله".
(6) في ت : "كانت تسمى".
(7) الكامل (7/205).
(8) تاريخ بغداد (8/175).
(9) في أ : "حدته".
(10) في ف : "لا يعرف أحد في الصحابة".
(11) زيادة من ف ، أ.
(12) في ت : "إعادته".
(5/383)
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
جملة وعد
الله الذي لا يخلف ولا يبدل ، وهو القادر على ذلك. ولهذا قال : { إِنَّا كُنَّا
فَاعِلِينَ }.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع وابن جعفر المعنى (1) ، قالا (2) : حدثنا شعبة ،
عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : قام فينا رسول
الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال : "إنكم محشورون إلى الله عز وجل حفاة
عراة غُرْلا كما بدأنا أول خلق نعيده ، وعدًا علينا إنا كنا فاعلين" ؛ وذكر
تمام الحديث ، أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة. ورواه (3) البخاري عند هذه الآية
في كتابه (4).
وقد روى ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن عائشة عن النبي (5) صلى الله عليه وسلم ،
نحو ذلك.
وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ
} قال : نهلك كل شيء ، كما كان أول مرة.
{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ
يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ
عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) }.
يقول تعالى مخبرا عما حتمه وقضاه لعباده الصالحين ، من السعادة في الدنيا والآخرة
، ووراثة الأرض في الدنيا والآخرة ، كقوله تعالى : { إِنَّ الأرْضَ لِلَّهِ
يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الأعراف
: 128]. وقال : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ } [غافر : 51]. وقال : { وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي
الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ
دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ
أَمْنًا ] (6) } ، الآية [النور : 55].وأخبر تعالى أن هذا مكتوب مسطور في الكتب
الشرعية والقدرية فهو كائن لا محالة ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي
الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ } ، قال الأعمش : سألت سعيد بن جُبَير عن قوله
تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ } فقال الزبور
: التوراة ، والإنجيل ، والقرآن (7).
وقال مجاهد : الزبور : الكتاب.
وقال ابن عباس ، والشعبي ، والحسن ، وقتادة ، وغير واحد : الزبور : الذي أنزل على
داود ، والذكر : التوراة ، وعن ابن عباس : الزبور : القرآن.
وقال سعيد بن جُبَير : الذكر : الذي في السماء.
__________
(1) في هـ ، ت ، ف ، أ : "وابن جعفر ، وعفان المعنى" والمثبت من المسند.
(2) في ت : "قالوا".
(3) في ت : "وذكره" ، وفي ف ، أ : "ذكره".
(4) المسند (1/235) وصحيح البخاري برقم (4625) ، (4740) وصحيح مسلم برقم (2860).
(5) في ت ، ف : "عن رسول الله".
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) في أ : "الفرقان".
(5/384)
وقال مجاهد
: الزبور : الكتبُ بعد الذكر ، والذكر : أمّ الكتاب عند الله.
واختار ذلك ابن جرير رحمه الله (1) ، وكذا قال زيد بن أسلم : هو الكتاب الأول.
وقال الثوري : هو اللوح المحفوظ. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الزبور : الكتب
التي نزلت على الأنبياء ، والذكر : أم الكتاب الذي (2) يكتب فيه الأشياء قبل ذلك.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أخبر الله سبحانه (3) في التوراة والزبور
وسابق علمه قبل أن تكون السموات والأرض ، أن يُورثَ أمةَ محمد صلى الله عليه وسلم
الأرض ويدخلهم الجنة ، وهم الصالحون.
وقال مجاهد ، عن ابن عباس : { أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ }
قال : أرض الجنة. وكذا قال أبو العالية ، ومجاهد ، وسعيد بن جُبَير ، والشعبي ،
وقتادة ، والسدي ، وأبو صالح ، والربيع بن أنس ، والثوري [رحمهم الله تعالى] (4).
وقوله : { إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ } أي : إن في هذا القرآن
الذي أنزلناه على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم لبَلاغًا : لمَنْفعةَ وكفاية لقوم
عابدين ، وهم الذين عبدوا الله بما شرعه وأحبه ورضيه ، وآثروا طاعة الله على طاعة
الشيطان وشهوات أنفسهم.
وقوله [تعالى] (5) : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } : يخبر
تعالى أن الله جَعَل محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ، أي : أرسله رحمة
لهم كلّهم ، فمن قَبِل هذه الرحمةَ وشكَر هذه النعمةَ ، سَعد في الدنيا والآخرة ،
ومن رَدّها وجحدها خسر في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ
الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ (6) الْقَرَارُ } [إبراهيم : 28 ،
29] ، وقال الله تعالى في صفة القرآن : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى
وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ
عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [فصلت : 44].
وقال مسلم في صحيحه : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا مروان الفَزَاريّ ، عن يزيد بن
كَيْسَان ، عن ابن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قيل : يا رسول الله ، ادع على
المشركين ، قال : "إني لم أبعَثْ لَعَّانًا ، وإنما بُعثْتُ رحمة".
انفرد بإخراجه مسلم (7).
وفي الحديث الآخر : "إنما أنا رحمة مهداة". رواه عبد الله بن أبي عرابة
، وغيره ، عن وَكِيع ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة مرفوعا (8). قال
إبراهيم الحربي : وقد رواه غيره عن وكيع ،
__________
(1) تفسير الطبري (17/81).
(2) في ت : "أم الكتاب والذي".
(3) في ف : "الله تعالى".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) زيادة من ت ، وفي ف ، أ : "عز وجل".
(6) في ت ، ف ، أ : "فبئس".
(7) صحيح مسلم برقم (2559).
(8) رواه أبو الحسن السكري في "الفوائد المنتقاة" (157/2). كما في
السلسلة الصحيحة (1/803) للألباني - حدثنا عبد الله بن محمد ابن أسد ، حدثنا حاتم
بن منصور الشاشي قال : حدثنا عبد الله بن أبي عرابة الشاشي به. ورواه غيره متصلا :
فرواه عبد الله بن نصر الأصم عن وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا.
خرجه ابن عدي في الكامل (4/231) من طريق عمر بن سنان عن عبد الله بن نصر.
وقال : "هكذا حدثناه عمر بن سنان عن عبد الله بن نصر عن وكيع عن الأعمش ،
وهذا غير محفوظ عن وكيع عن الأعمش ، إنما يرويه مالك بن سعيد عن الأعمش ، وعبد
الله بن نصر هذا له غير ما ذكرت مما أنكرت عليه".
(5/385)
فلم يذكر
أبا هريرة (1). وكذا قال البخاري ، وقد سئل عن هذا الحديث ، فقال : كان عند حفص بن
غياث مرسلا.
قال الحافظ ابن عساكر : وقد رواه مالك بن سُعَير بن الْخِمْس ، عن الأعمش ، عن أبي
صالح ، عن أبي هريرة مرفوعا (2). ثم ساقه من طريق أبي بكر بن المقرئ وأبي أحمد
الحاكم ، كلاهما عن بكر بن محمد بن إبراهيم الصوفي : حدثنا إبراهيم بن سعيد
الجوهري ، عن أبي أسامة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس (3) بن أبي حازم ، عن
أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنما أنا رحمة
مهداة".
ثم أورده من طريق الصَّلْت بن مسعود ، عن سفيان بن عيينة ، عن مِسْعَر (4) ، عن
سعيد بن خالد ، عن رجل ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إن الله بعثني رحمة مهداة ، بُعثْتُ برفع قوم وخفض آخرين" (5).
قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن محمد بن نافع الطحان ، حدثنا أحمد بن
صالح قال : وجدت كتابًا بالمدينة عن عبد العزيز الدّراوردي وإبراهيم بن محمد بن
عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف ، عن محمد بن صالح التمار ، عن ابن [شهاب]
(6) عن محمد بن جُبَير بن مطعم ، عن أبيه قال : قال أبو جهل حين قدم [مكة] (7)
منصرفة عن حَمْزَة : يا معشر قريش ، إن محمدًا نزل يثرب وأرسل طلائعه ، وإنما يريد
أن يصيب منكم شيئا ، فاحذروا أن تمروا طريقَه أو تقاربوه (8) ، فإنه كالأسد الضاري
؛ إنه حَنِق عليكم ؛ لأنكم نفيتموه نفي القِرْدَان عن المناسم (9) ، والله إن له
لَسحْرَةً ، ما رأيته قط ولا أحدًا من أصحابه إلا رأيت معهم الشيطان ، وإنكم قد
عرفتم عداوة ابني قَيلَةَ - يعني : الأوس والخزرج - لهو عدو استعان بعدو ، فقال له
مطعم بن عدي : يا أبا الحكم ، والله ما رأيتُ أحدًا أصدقَ لسانًا ، ولا أصدق
موعدًا ، من أخيكم الذي طردتم ، وإذ فعلتم الذي فعلتم فكونوا أكف الناس عنه. قال
[أبو سفيان] (10) بن الحارث : كونوا أشدّ ما كنتم عليه ، إن (11) ابني قيلَةَ إن
ظفَرُوا بكم لم يرْقُبوا فيكم إلا ولا ذمة ، وإن أطعتموني ألجأتموهم خير كنابة ،
أو تخرجوا محمدًا
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/504) عن وكيع مرسلا ، ورواه ابن سعد في
الطبقات (1/182) عن وكيع مرسلا ، ورواه البيهقي في دلائل النبوة (1/157) من طريق
إبراهيم بن عبد الله عن وكيع مرسلا.
(2) ورواه البزار في مسنده برقم (2369) "كشف الأستار" والبيهقي في دلائل
النبوة (1/158) من طريق زياد بن يحيى عن مالك بن سعيد به ، وقال البزار : "لا
نعلم أحدا وصله إلا مالك بن سعيد ، وغيره يرسله".
(3) في ت ، أ : "حسن".
(4) في أ : "عن شعبة".
(5) وذكره السيوطي في الجامع الصغير ورمز له الألباني بالضعف.
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من أ.
(8) في ت : "أو تحاربوه".
(9) في أ : "الناس".
(10) زيادة من أ.
(11) في ت : "فإن".
(5/386)
من بين
ظهرانيهم ، فيكون وحيدا مطرودا ، وأما [ابنا قَيْلة فوالله ما هما] (1) وأهل
[دهلك] (2) في المذلة إلا سواء وسأكفيكم حدهم ، وقال :
سَأمْنَحُ جَانبًا منّي غَليظًا... عَلَى مَا كَانَ مِنْ قُرب وَبُعْد...
رجَالُ الخَزْرَجيَّة أهْلُ ذُل... إذا مَا كَانَ هَزْل بَعْدَ جد...
فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال : "والذي نفسي بيده ، لأقتلنهم
ولأصلبَنَّهم ولأهدينهم وهم كارهون ، إني رحمة بعثني الله ، ولا يَتَوفَّاني حتى
يظهر الله دينه ، لي خمسة أسماء : أنا محمد ، وأحمد ، وأنا الماحي الذي يمحي الله
بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب" (3).
وقال أحمد بن صالح : أرجو أن يكون الحديث صحيحًا.
وقال الإمامُ أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا زائدة ، حدثني عَمْرو بن قَيس ،
عن عمرو بن أبي قُرّة الكِنْديّ قال : كان حُذيفةُ بالمدائن ، فكان يذكر أشياء
قالها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء حذيفةُ إلى سَلْمان فقال سلمان : يا
حذيفةَ ، إنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم [كان يغضب فيقول ، ويرضى فيقول : لقد
علمت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم] (4) خطَب فقال : "أيما رجل من أمتي
سَبَبتُه [سَبَّةً] (5) في غَضَبي أو لعنته لعنةً ، فإنما أنا رجل من ولد آدم ،
أغضب كما يغضبون ، وإنما بعثني رحمةً للعالمين ، فاجعلها صلاة عليه يوم
القيامة".
ورواه أبو داود ، عن أحمد بن يونس ، عن زائدة (6).
فإن قيل : فأيّ رحمة حصلت لمن كَفَر به ؟ فالجواب ما رواه أبو جعفر بن جرير :
حدثنا إسحاق بن شاهين ، حدثنا إسحاق الأزرق ، عن المسعودي ، عن رجل يقال له : سعيد
، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً
لِلْعَالَمِينَ } قال : من آمن بالله واليوم الآخر ، كُتِبَ له الرحمة في الدنيا
والآخرة ، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عُوِفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف (7).
وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، من حديث المسعودي ، عن أبي سعد - وهو سعيد بن المرزبان
البقّال - عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، فذكره بنحوه ، والله أعلم.
وقد رواه أبو القاسمُ الطبراني عن عبدان بن أحمد ، عن عيسى بن يونس الرَمْلِي ، عن
أيوب ابن سُوَيد ، عن المسعودي ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جُبَير ، عن
ابن عباس : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } قال : من تبعه
كان له رحمة في الدنيا والآخرة ، ومن لم يتبعه عُوفِي مما كان يبتلى به سائر الأمم
من الخسف والقذف (8).
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) المعجم الكبير (2/123).
(4) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(5) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(6) المسند (5/437) وسنن أبي داود برقم (4659).
(7) تفسير الطبري (17/83).
(8) المعجم الكبير (12/23).
(5/387)
قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
{ قُلْ
إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ
أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ
مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ
فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ
وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112) }.
يقول تعالى آمرًا رسوله ، صلوات الله وسلامه عليه ، أن يقول للمشركين : { إِنَّمَا
يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }
أي : متبعون على ذلك ، مستسلمون منقادون (1) له.
{ فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي : تركوا ما دعوتهم إليه ، { فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى
سَوَاءٍ } أي : أعلمتكم أني حَرْب لكم ، كما أنكم حَرْبٌ لي ، بريء منكم كما أنكم
بُرآء مني ، كقوله : { وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ
أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } [يونس
: 41]. وقال { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ
عَلَى سَوَاءٍ } [الانفال : 58] : ليكن (2) علمك وعلمهم بنبذ العهود على السواء ،
وهكذا هاهنا ، { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ } أي :
أعلمتكم ببراءتي منكم ، وبراءتكم مني ؛ لعلمي بذلك.
وقوله : { وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ } أي : هو واقع
لا محالة ، ولكن لا علم لي بقربه ولا ببعده ، { إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ
الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } أي : إن الله يعلم الغيب جميعَه ، ويعلم
ما يظهره العباد وما يسرون ، يعلم الظواهر والضمائر ، ويعلم السر وأخفى ، ويعلم ما
العباد عاملون في أجهارهم وأسرارهم ، وسيجزيهم على ذلك ، على القليل والجليل.
وقوله : { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } أي :
وما أدري لعل هذا فتنة لكم ومتاع إلى حين.
قال ابن جرير : لعل تأخير ذلك (3) عنكم فتنة لكم ، ومتاع إلى أجل مسمى (4). وحكاه
عون ، عن ابن عباس ، والله أعلم.
{ قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ } أي : افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق.
قال قتادة : كان الأنبياء ، عليهم السلام ، يقولون : { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } [الأعراف : 89] ،
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك.
وعن مالك ، عن زيد بن أسلم : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شهد قتالا قال
: { رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ }.
وقوله : { وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } أي : على
ما يقولون ويفترون من الكذب ، ويتنوعون في مقامات التكذيب والإفك ، والله المستعان
عليكم في ذلك (5).
__________
(1) في ت : "متقاربين".
(2) في ت : "لكن".
(3) في أ : "هذا".
(4) تفسير الطبري (17/84).
(5) وقع في ت : "آخر تفسير "سورة الأنبياء" عليهم السلام ، ولله
الحمد والمنة ، عفا الله لمن نظر فيه ولكاتبه وللمسلمين أجمعين".
(5/388)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
تفسير سورة
الحج
[وهي مكية] (1).
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ
عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ
بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) }.
يقول تعالى آمرا عباده بتقواه ، ومخبرا لهم بما يستقبلون من أهوال يوم القيامة
وزلازلها وأحوالها. وقد اختلف المفسرون في زلزلة الساعة : هل هي بعد قيام الناس من
قبورهم يوم نشورهم إلى عَرصَات القيامة ؟ أو ذلك عبارة عن زلزلة الأرض قبل قيام
الناس من أجداثهم ؟ كما قال تعالى : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا.
وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا } [ الزلزلة : 1 ، 2 ] ، وقال تعالى : {
وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً * وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ
وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ } [ الحاقة : 14 ، 15 ] ، وقال تعالى : { إِذَا رُجَّتِ
الأرْضُ رَجًّا. وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا. فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا } [
الواقعة : 4 - 6 ].
فقال قائلون : هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا ، وأول أحوال الساعة.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بَشَّار ، حدثنا يحيى ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن
إبراهيم ، عن عَلْقَمَة في قوله : { إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ }
، قال : قبل الساعة.
ورواه ابن أبي حاتم من حديث الثوري ، عن منصور والأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ،
فذكره. قال : وروي عن الشعبي ، وإبراهيم ، وعُبَيْد بن عُمَيْر ، نحو ذلك.
وقال أبو كُدَيْنَةَ ، عن عطاء ، عن عامر الشعبي : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ } الآية ، قال : هذا في الدنيا قبل يوم القيامة.
وقد أورد الإمام أبو جعفر بن جرير مُسْتَنَدَ مَنْ قال ذلك في حديث الصُّور ، من
رواية إسماعيل ابن رافع قاضي أهل المدينة ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن رجل من
الأنصار ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن رجل ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض خلق الصُّور ،
فأعطاه إسرافيل ، فهو واضعه على فِيه ، شاخص ببصره إلى العَرش ، ينتظر متى
يؤمر". قال أبو هريرة : يا رسول الله ، وما الصور ؟
قال : "قرن" قال : فكيف هو ؟ قال : "قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات
، الأولى نفخة الفزع ،
__________
(1) زيادة من ت.
(5/389)
والثانية
نفخة الصَّعْق ، والثالثة نفخة (1) القيام لرب العالمين ، يأمر الله إسرافيل
بالنفخة الأولى فيقول : انفخ نفخة الفزع. فيفزعُ أهل السموات وأهل الأرض ، إلا من
شاء الله ، ويأمره فيمدها ويطولها ولا يفتر ، وهي التي يقول الله تعالى : { وَمَا
يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ } [ ص : 15 ] فَيُسير
الله الجبال ، فتكون سرابا وتُرج الأرض بأهلها رجا ، وهي التي يقول الله تعالى : {
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ. قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ
وَاجِفَةٌ } [ النازعات : 6 - 8 ] ، فتكون الأرض ، كالسفينة الموبقة (2) في البحر
، تضربها الأمواج تكفؤها بأهلها ، وكالقنديل المعلق بالعرش ترجحه الأرواح.
فيمتد الناس على ظهرها ، فتذهل المراضع ، وتضع الحوامل. ويشيب (3) الولدان ، وتطير
الشياطين هاربة ، حتى تأتي الأقطار ، فتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها ، فترجع ،
ويولي (4) الناس مدبرين ، ينادي بعضهم بعضا ، وهو الذي يقول الله تعالى : { يَوْمَ
التَّنَادِ (5) * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ
عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ غافر : 32 ، 33 ]
فبينما هم على ذلك إذ انصدعت الأرض من قطر إلى قطر ، فَرَأوا أمرا عظيما ، فأخذهم
لذلك من الكرب ما الله أعلم به ، ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل ، ثم خسف
شمسها وخُسفَ قمرها ، وانتثرت نجومها ، ثم كُشِطت عنهم" قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك" قال أبو هريرة : فمن
استثنى الله حين يقول : { فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ
إِلا مَنْ (6) شَاءَ اللَّهُ } [ النمل : 87 ] ؟ قال : أولئك الشهداء ، وإنما يصل
الفزع إلى الأحياء ، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون ، وقاهم الله شر ذلك اليوم
وآمنهم ، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه ، وهو الذي يقول الله : { يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ
* يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ
ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ
عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } (7).
وهذا الحديث قد رواه الطبراني ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وغير واحد (8) مطولا
جدًا.
والغرض منه أنه دل على أن هذه الزلزلة (9) كائنة قبل يوم الساعة ، وأضيفت إلى
الساعة لقربها منها ، كما يقال : أشراط الساعة ، ونحو ذلك ، والله أعلم.
وقال آخرون : بل ذلك هول وفزع وزلزال وبلبال ، كائن يوم القيامة في العرصات ، بعد
القيامة من القبور. واختار ذلك ابن جرير. واحتجوا بأحاديث :
الأول : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى ، عن هشام ، حدثنا (10) قتادة ، عن الحسن ،
عن عمران [ابن] (11) حُصَين ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في بعض
أسفاره ، وقد تفاوت بين أصحابه السير ، رفع بهاتين الآيتين صوته : { يَا أَيُّهَا
النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ
تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ
حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ
عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ }
__________
(1) في ت : "والنفخة الثالثة".
(2) في ت : "المرسية".
(3) في ت ، أ : "وتشيب".
(4) في ت : "وتولي".
(5) في ت : "التنادي".
(6) في ت : "ما".
(7) تفسير الطبري (17/85).
(8) حديث الصور سبق عند تفسير الآية 73 من سورة الأنعام.
(9) في ت : "الزلزلة له".
(10) في ت : "عن".
(11) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(5/390)
فلما سمع
أصحابه بذلك حَثْوا المُطي ، وعرفوا أنه عند قول يقوله ، فلما تأشهوا حوله قال :
" أتدرون أي يوم ذاك ؟ يوم ينادى آدم ، عليه السلام ، فيناديه ربه عز وجل ،
فيقول : يا آدم ، ابعث بعثك إلى النار فيقول : يا رب ، وما بعث النار ؟ فيقول : من
كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار ، وواحد في الجنة". قال فأبلس أصحابه
حتى ما أوضحوا بضاحكة ، فلما رأى ذلك قال : "أبشروا واعملوا ، فوالذي نفس
محمد بيده ، إنكم لمع (1) خَليقتين ما كانتا مع شيء قط إلا كثرتاه : يأجوج ومأجوج
، ومن هلك من بني آدم وبني إبليس" قال : فسُرّي عنهم ، ثم قال : اعملوا
وأبشروا ، فوالذي نفس محمد بيده ، ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير ،
أو الرقمة في ذراع الدابة".
وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما ، عن محمد بن بَشَّار ،
عن يحيى - وهو القَطَّان - عن هشام - وهو الدستوائي - عن قتادة ، به (2) بنحوه.
وقال الترمذي : حسن صحيح.
طريق أخرى لهذا الحديث : قال (3) الترمذي : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان بن
عيينة ، حدثنا ابن جُدعان ، عن الحسن ، عن عمران بن حُصَيْن ؛ أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : لما نزلت : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ (4) اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ
زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } إلى قوله : { وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ
شَدِيدٌ } ، قال : أنزلت عليه هذه ، وهو في سفر ، فقال : "أتدرون أي يوم ذلك
؟" فقالوا : الله ورسوله أعلم. قال : "ذلك يوم يقول الله لآدم : ابعث
بعث النار. قال : يا رب ، وما بعث النار ؟ قال : تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار ،
وواحد إلى الجنة" فأنشأ المسلمون يبكون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: "قاربوا وسَدِّدوا ، فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية"
قال : "فيؤخذ العدد من الجاهلية ، فإن تمت وإلا كُمّلت من المنافقين ، وما
مثلكم والأمم إلا كمثل الرَّقمة في ذراع الدابة ، أو كالشامة (5) في جنب
البعير" ثم قال : "إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة" فكبروا ثم
قال : "إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة" فكبروا ، ثم قال : "إني
لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة" فكبروا ، قال : ولا أدري أقال الثلثين أم لا
؟
وكذا رواه الإمام أحمد عن سفيان بن عُيَيْنَةَ (6) ، ثم قال الترمذي أيضا : هذا
حديث حسن صحيح.
وقد روي عن سعيد بن أبي عَرُوبة عن الحسن ، عن عمران بن الحصين. وقد رواه ابن أبي
حاتم من حديث سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن والعلاء بن زياد العدوي ،
عن عمران بن الحصين (7) ، فذكره.
__________
(1) في ت : "مع".
(2) المسند (4/435) وسنن الترمذي برقم (3169) وسنن النسائي الكبرى برقم (11340).
(3) في ت : "وقال".
(4) في ت : "يا أيها الذين آمنوا" وهو خطأ.
(5) في ت : "وكالشامة".
(6) سنن الترمذي برقم (3168) والمسند (4/432).
(7) في ت : "ابن حصين".
(5/391)
وهكذا روى
ابن جرير عن بُنْدَار ، عن غُنْدَر ، عن عوف ، عن الحسن قال : بلغني أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة العُسرة ومعه أصحابه بعد ما شارف المدينة قرأ
: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ
عَظِيمٌ } وذكر الحديث (1) ، فذكر نحو سياق ابن جُدْعَان ، فالله أعلم.
الحديث الثاني : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن الطَبَّاع ، حدثنا أبو
سفيان - [يعني] (2) المعمري - عن مَعْمَر ، عن قتادة ، عن أنس قال : نزلت : {
إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } وذكر - يعني : نحو سياق الحسن عن
عمران - غير أنه قال : "ومن هلك من كفرة الجن والإنس".
رواه ابن جرير بطوله ، من حديث معمر (3).
الحديث الثالث : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا
عباد - يعني : ابن العوام - حدثنا هلال بن خباب (4) ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال
: تلا (5) رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فذكر نحوه ، وقال فيه :
"إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة" ، ثم قال : "إني لأرجو أن
تكونوا ثلث أهل الجنة" ثم قال : "إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل
الجنة" ففرحوا ، وزاد أيضًا : "وإنما أنتم جزء من ألف جزء" (6).
الحديث الرابع : قال البخاري عند هذه الآية : حدثنا عمر بن حفص ، حدثنا أبي ،
حدثنا الأعمش ، حدثنا أبو صالح ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "يقول الله تعالى يوم القيامة : يا آدم ، فيقول : لبيك ربنا وسعديك.
فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار. قال : يا رب ، وما
بعث النار ؟ قال : من كل ألف - أراه قال - تسعمائة وتسعة وتسعين (7). فحينئذ تضع
الحامل حملها ، ويشيب الوليد ، { وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى
وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم ، قال
النبي صلى الله عليه وسلم : "من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين (8) ،
ومنكم واحد ، ثم أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض ، أو كالشعرة
البيضاء في جنب الثور الأسود ، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة". فكبرنا
، ثم قال : "ثلث أهل الجنة". فكبرنا ، ثم قال : "شطر أهل
الجنة" فكبرنا (9).
وقد رواه البخاري أيضا في غير هذا الموضع ، ومسلم ، والنسائي في تفسيره ، من طرق ،
عن الأعمش ، به (10).
__________
(1) تفسير الطبري (17/86).
(2) زيادة من أ.
(3) تفسير الطبري (17/87).
(4) في ت : "ابن حبان".
(5) في ت : "قال".
(6) ورواه البزار في مسنده برقم (2235) "كشف الأستار" حدثنا أبو بكر بن
إسحاق عن سعد بن سليمان به ، وقال : "لا نعلمه يروى عن ابن عباس إلا بهذا
الإسناد". وقال الهيثمي في المجمع (7/69) : "قلت في الصحيح بعضه ، رواه
البزار ورجاله رجال الصحيح غير هلال بن خباب وهو ثقة".
(7) في ت : "وتسعون".
(8) في ت : "وتسعون".
(9) صحيح البخاري برقم (4741).
(10) صحيح البخاري برقم (3348 ، 7483) وصحيح مسلم برقم (222) وسنن النسائي الكبرى
برقم (11339).
(5/392)
الحديث
الخامس : قال الإمام أحمد : حدثنا عمار (1) بن محمد - ابن أخت سفيان الثوري -
وعبيدة المعنى ، كلاهما عن إبراهيم بن مسلم ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله يبعث يوم القيامة مناديا
[ينادي] (2) : يا آدم ، إن الله يأمرك أن تبعث بعثًا من ذريتك إلى النار ، فيقول
آدم : يا رب ، من هم ؟ فيقال له : من كل مائة تسعة وتسعين". فقال رجل من
القوم : من هذا الناجي منا بعد هذا يا رسول الله ؟ قال (3) : "هل تدرون ما
أنتم في الناس إلا كالشامة في صدر البعير" (4).
انفرد بهذا السند وهذا السياق الإمام أحمد.
الحديث السادس : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى ، عن حاتم بن أبي صغيرة ، حدثنا ابن
أبي مُلَيْكَةَ ؛ أن القاسم بن محمد أخبره ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : "إنكم تحشرون يوم القيامة حُفاة عراة غرلا". قالت عائشة : يا
رسول الله ، الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال : "يا عائشة ، إن الأمر
أشد من أن يهمهم ذاك". أخرجاه في الصحيحين (5).
الحديث السابع : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن
خالد بن أبي عِمْران ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله ،
هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة ؟ قال : "يا عائشة ، أما عند ثلاث فلا أما
عند الميزان حتى يثقل أو يخف ، فلا. وأما عند تطاير الكتب فإما يعطى بيمينه أو
يعطى بشماله ، فلا. وحين يخرج عُنُق من النار فينطوي عليهم ، ويتغيظ عليهم ، ويقول
ذلك العنق : وكلت بثلاثة ، وكلت بثلاثة ، وكلت بثلاثة : وكلت بمن ادعى مع الله
إلها آخر ، ووكلت بمن لا يؤمن بيوم الحساب ، ووكلت بكل جبار عنيد" قال :
"فينطوي (6) عليهم ، ويرميهم في غمرات ، ولجهنم جسر أدق من الشعر وأحد من
السيف ، عليه كلاليب وحسك يأخُذْنَ من شاء الله ، والناس عليه كالطرف وكالبرق
وكالريح ، وكأجاويد الخيل والركاب ، والملائكة يقولون : رب ، سَلِّم ، سَلِّم.
فناج مسلم ، ومخدوش مسلم ، ومكَوّر (7) في النار على وجهه (8) " (9).
والأحاديث في أهوال يوم القيامة والآثار كثيرة جدا ، لها موضع آخر ، ولهذا قال
تعالى : { إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } أي : أمر كبير ، وخطب
جليل ، وطارق مفظع ، وحادث هائل ، وكائن عجيب.
والزلزال (10) : هو ما يحصل للنفوس من الفزع ، والرعب كما قال تعالى : { هُنَالِكَ
ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا } [ الأحزاب : 11 ].
__________
(1) في ت : "عمارة".
(2) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(3) في ت : "فقال".
(4) المسند (1/388).
(5) المسند (6/53) وصحيح البخاري برقم (6527) وصحيح مسلم برقم (2855).
(6) في ت : "وينطوي".
(7) في أ : "ومكبوب".
(8) في ت : "وجوههم".
(9) المسند (6/110).
(10) في ت : "والزلازل".
(5/393)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
ثم قال
تعالى : { يَوْمَ تَرَوْنَهَا } : هذا من باب ضمير الشأن ؛ ولهذا قال مفسرًا له :
{ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ } أي : تشتغل لهول ما ترى عن أحب
الناس إليها ، والتي هي أشفق الناس عليه ، تدهش عنه في حال إرضاعها له ؛ ولهذا قال
: { كُلُّ مُرْضِعَةٍ } ، ولم يقل : "مرضع" وقال : { عَمَّا أَرْضَعَتْ
} أي : عن رضيعها قبل فطامه.
وقوله : { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا } أي : قبل تمامه لشدة الهول ، {
وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى } وقرئ : "سَكْرَى" أي : من شدة الأمر الذي
[قد] (1) صاروا فيه قد دهشت عقولهم ، وغابت أذهانهم ، فمن رآهم حسب أنهم سُكارى ،
{ وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ }.
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ
شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ
وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) }.
يقول تعالى ذامًا لمن كذب بالبعث ، وأنكر قدرة الله على إحياء الموتى ، معرضا عما
أنزل الله على أنبيائه ، متبعًا في قوله وإنكاره وكفره كل شيطان مريد ، من الإنس
والجن ، وهذا حال أهل الضلال (2) والبدع ، المعرضين عن الحق ، المتبعين للباطل ،
يتركون ما أنزله الله على رسوله من الحق المبين ، ويتبعون أقوال رءوس الضلالة ،
الدعاة إلى البدع بالأهواء والآراء ، ولهذا قال في شأنهم وأشباههم : { وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } ، أي : علم صحيح ، { وَيَتَّبِعُ
كُلَّ شَيْطَانٍ. مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ } قال مجاهد : يعني الشيطان ، يعني :
كتب عليه كتابة قدرية { أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ } أي : اتبعه وقلده ، { فَأَنَّهُ
يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } أي : يضله في الدنيا ويقوده في
الآخرة إلى عذاب السعير ، وهو الحار المؤلم المزعج المقلق.
وقد قال السدي ، عن أبي مالك : نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث. وكذلك (3) قال
ابن جريج.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن سلم (4) البصري ، حدثنا عمرو بن المحرم أبو
قتادة ، حدثنا المعمر (5) ، حدثنا أبو كعب المكي قال : قال خبيث من خُبثاء قريش :
أخبرنا (6) عن ربكم ، من ذهب هو ، أو من فضة هو ، أو من نحاس هو ؟ فقعقعت السماء
قعقعة - والقعقعة في كلام العرب : الرعد - فإذا قِحْف رأسه ساقط بين يديه.
وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : جاء يهودي فقال : يا محمد ، أخبرنا عن ربك : من
أي شيء هو ؟ من در أم من ياقوت ؟ قال : فجاءت صاعقة فأخذته.
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت : "الضلالة".
(3) في ف : "وكذا".
(4) في ت ، ف : "ابن مسلم".
(5) في ت : "المعتمر".
(6) في ت : "حدثنا".
(5/394)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) }.
(5/395)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
{ ذَلِكَ
بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ
اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) }.
لما ذكر تعالى المخالف للبعث ، المنكر للمعاد ، ذكر تعالى الدليل على قدرته تعالى
على المعاد ، بما يشاهد من بدئه للخلق (1) ، فقال : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ
كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ } أي : في شك { مِنَ الْبَعْثِ } وهو المعاد وقيام الأرواح
والأجساد يوم القيامة { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ } أي : أصل بَرْئه
(2) لكم من تراب ، وهو الذي خلق منه آدم ، عليه السلام { ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } أي
: ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ، { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ
} ذلك أنه إذا استقرت النطفة في رحم المرأة ، مكثت أربعين يوما كذلك ، يضاف إليه
ما يجتمع إليها ، ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله ، فتمكث كذلك أربعين يوما ، ثم
تستحيل فتصير مضغة - قطعة من لحم لا شكل فيها ولا تخطيط - ثم يشرع في التشكيل
والتخطيط ، فيصور منها رأس ويدان ، وصدر وبطن ، وفخذان ورجلان ، وسائر الأعضاء.
فتارة تُسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط ، وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل
وتخطيط ؛ ولهذا قال تعالى : { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ
مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } أي : كما تشاهدونها ، { لِنُبَيِّنَ لَكُمْ
وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } أي : وتارة تستقر
في الرحم لا تلقيها المرأة ولا تسقطها ، كما قال مجاهد في قوله تعالى : {
مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } قال : هو السقط مخلوق وغير مخلوق. فإذا مضى
عليها أربعون يوما ، وهي مضغة ، أرسل الله تعالى إليها ملكا فنفخ (3) فيها الروح ،
وسواها كما يشاء الله عز وجل (4) ، من حسن وقبيح ، وذكر وأنثى ، وكتب رزقها وأجلها
، وشقي أو سعيد ، كما ثبت في الصحيحين ، من حديث الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن ابن
مسعود قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق - : "إن
خلق أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين ليلة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مُضغة
مثل ذلك ، ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات : بكتب عمله وأجله ورزقه ،
وشقي أو سعيد ، ثم ينفخ فيه الروح" (5).
وروى ابن جرير ، وابن أبي حاتم من حديث داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن علقمة ،
عن عبد الله قال : النطفة إذا استقرت في الرحم ، أخذها (6) ملك بكفه قال (7) : يا
رب ، مخلقة أو غير
__________
(1) في ت : "بما شاهد من بين يديه للخلق" ، وفي ف : "بما يشاهده من
بين يديه للخلق".
(2) في ت ، ف : "تربه".
(3) في أ : "فينفخ".
(4) في ف ، أ : "الله تعالى".
(5) صحيح البخاري برقم (6594) وصحيح مسلم برقم (2643).
(6) في هـ ، ت ، ف : "جاءها" ، والمثبت من الدر المنثور 3/345.
(7) في ت ، ف : "فقال".
(5/395)
مخلقة ؟ فإن
قيل : "غير مخلقة" لم تكن نسمة ، وقذفتها الأرحام دما. وإن قيل :
"مخلقة" ، قال : أي رب ، ذكر أو أنثى ؟ شقي أو سعيد ؟ ما الأجل ؟ وما
الأثر ؟ وبأي أرض يموت (1) ؟ قال : فيقال للنطفة : من ربك ؟ فتقول : الله. فيقال :
من رازقك ؟ فتقول : الله. فيقال له : اذهب إلى الكتاب ، فإنك ستجد فيه قصة هذه
النطفة. قال : فتخلق فتعيش في أجلها ، وتأكل رزقها ، وتطأ أثرها ، حتى إذا جاء
أجلها ماتت ، فدفنت في ذلك المكان ، ثم تلا عامر الشعبي : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ
ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ
وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } فإذا بلغت مضغة نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة ، فإن
كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دما ، وإن كانت مخلقة نكست في الخلق.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا سفيان ، عن
عمرو بن دينار ، عن أبي الطفيل ، عن حذيفة بن أسيد - يبلغ به النبي صلى الله عليه
وسلم - قال : "يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس
وأربعين ، فيقول : أي رب ، أشقي أم سعيد ؟ فيقول الله ، ويكتبان ، فيقول : أذكر أم
أنثى ؟ فيقول الله ويكتبان ، ويكتب عمله وأثره ورزقه وأجله ، ثم تطوى الصحف ، فلا
يزاد على ما فيها ولا ينتقص (2).
ورواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة ، ومن طرق أخر ، عن أبي الطُّفَيل ، بنحو معناه
(3).
وقوله : { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا } أي : ضعيفا في بدنه ، وسمعه وبصره وحواسه ،
وبطشه وعقله. ثم يعطيه الله القوة شيئا فشيئا ، ويلطف (4) به ، ويحنن عليه والديه
في آناء الليل وأطراف النهار ؛ ولهذا قال : { ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ } أي
: يتكامل (5) القوى ويتزايد ، ويصل إلى عنفوان الشباب وحسن المنظر.
{ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى } ، أي : في حال شبابه وقواه ، { وَمِنْكُمْ مَنْ
يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ } ، وهو الشيخوخة والهَرَم وضعف القوة والعقل
والفهم ، وتناقص الأحوال من الخَرَف (6) وضعف الفكر ؛ ولهذا قال : { لِكَيْلا (7)
يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا } ، كما قال تعالى : { اللَّهُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ
مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ
الْقَدِيرُ } [ الروم : 54 ].
وقد قال الحافظ أبو يعلى [أحمد] (8) بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده : حدثنا
منصور بن أبي مزاحم (9) ، حدثنا خالد الزيات ، حدثني داود أبو سليمان ، عن عبد
الله بن عبد الرحمن بن معمر ابن حزم الأنصاري ، عن أنس بن مالك - رفع الحديث - قال
: "المولود حتى يبلغ الحنث ، ما عمل من حسنة ، كتبت لوالده أو لوالدته (10)
وما عمل من سيئة لم تكتب عليه ولا على والديه ، فإذا بلغ الحنث جرى الله عليه
القلم أمر الملكان اللذان معه أن يحفظا وأن يشددا ، فإذا بلغ أربعين سنة في
__________
(1) في ف : "تموت".
(2) في ف : "ولا ينقص".
(3) صحيح مسلم برقم (2644).
(4) في أ : "ويتلطف".
(5) في ت : "تتكامل".
(6) في ت ، ف ، أ : "من الحزن".
(7) في ت : "لا".
(8) زيادة من ت ، ف ، أ.
(9) في أ : "ابن أبي عاصم".
(10) في ت ، ف : "لوالديه".
(5/396)
الإسلام
أمنه الله من البلايا الثلاث : الجنون ، والجذام ، والبرص. فإذا بلغ الخمسين ، خفف
الله حسابه. فإذا بلغ ستين رزقه الله الإنابة إليه بما يحب ، فإذا بلغ السبعين
أحبه أهل السماء ، فإذا بلغ الثمانين كتب الله حسناته وتجاوز عن سيئاته ، فإذا بلغ
التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وشفعه في أهل بيته ، وكان أسير
الله في أرضه ، فإذا بلغ أرذل العمر { لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ
شَيْئًا } كتب الله له مثل ما كان يعمل في صحته من الخير ، فإذا عمل سيئة لم تكتب
عليه" (1).
هذا حديث غريب جدا ، وفيه نكارة شديدة. ومع هذا قد رواه الإمام أحمد بن حنبل في
مسنده مرفوعا وموقوفا فقال :
حدثنا أبو النضر ، حدثنا الفرج ، حدثنا محمد بن عامر ، عن محمد بن عبد الله
العامري (2) ، عن عمرو بن جعفر ، عن أنس قال : إذا بلغ الرجل المسلم أربعين سنة ،
أمنه الله من أنواع البلايا ، من الجنون والجذام والبرص (3) ، فإذا بلغ الخمسين
لَيَّن الله حسابه ، وإذا بلغ الستين رزقه الله إنابة يحبه عليها ، وإذا بلغ
السبعين أحبه الله ، وأحبه أهل السماء ، وإذا بلغ الثمانين تقبل الله حسناته ،
ومحا عنه سيئاته ، وإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وسمي
أسير الله في الأرض ، وشفع في أهله (4).
ثم قال : حدثنا هاشم ، حدثنا الفرج ، حدثني محمد بن عبد الله العامري ، عن محمد بن
عبد الله بن عمرو بن عثمان ، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، عن النبي صلى الله
عليه وسلم ، مثله (5).
ورواه الإمام أحمد أيضا : حدثنا أنس بن عياض ، حدثني يوسف بن أبي ذرة (6) الأنصاري
، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضَّمْري ، عن أنس بن مالك ؛ أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : "ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة ، إلا صرف الله عنه
ثلاثة أنواع من البلاء : الجنون والجذام والبرص (7)..... وذكر تمام الحديث ، كما
تقدم سواء (8).
ورواه الحافظ أبو بكر البزار ، عن عبد الله بن شبيب ، عن أبي شيبة ، عن عبد الله
بن عبد الملك (9) ، عن أبي قتادة العُذْري ، عن ابن أخي الزهري ، عن عمه ، عن أنس
بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من عبد يعمر في
الإسلام أربعين سنة ، إلا صرف الله عنه أنواعا من البلاء : الجنون والجذام والبرص
، فإذا بلغ خمسين سنة لين الله له الحساب ، فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة
إليه بما يحب ، فإذا بلغ سبعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وسمي أسير
الله ، وأحبه أهل السماء (10) ، فإذا بلغ الثمانين تقبل الله منه حسناته وتجاوز عن
سيئاته ، فإذا بلغ التسعين غَفَر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وسُمي أسير الله
في أرضه ، وشفع في أهل بيته" (11).
__________
(1) مسند أبي يعلى (6/352).
(2) في ت ، ف : "العاملي".
(3) في ف : "البرص والجذام".
(4) المسند (2/89).
(5) المسند (2/89)
(6) في هـ ، ت ، ف : "أبي بردة" ، والتصويب من كتب الرجال.
(7) في ت : "أو الجذام أو البرص".
(8) المسند (3/217) وفي إسناده يوسف بن أبي ذرة وهو ضعيف.
(9) في ت : "عبد الله بن مالك".
(10) في أ : "السموات".
(11) مسند البزار برقم (3588) "كشف الأستار".
(5/397)
وقوله : {
وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً } : هذا دليل آخر على قدرته تعالى على إحياء الموتى ،
كما يحيي الأرض الميتة الهامدة ، وهي القحلَة التي لا نبت فيها ولا شيء (1).
وقال قتادة : غبراء متهشمة. وقال السدي : ميتة.
{ فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ
كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } أي : فإذا أنزل الله عليها المطر { اهْتَزَّتْ } أي :
تحركت وحييت بعد موتها ، { وَرَبَتْ } أي : ارتفعت لما سكن فيها الثرى ، ثم أنبتت
ما فيها من الألوان والفنون ، من ثمار وزروع ، وأشتات النباتات في اختلاف ألوانها
وطعومها ، وروائحها وأشكالها ومنافعها ؛ ولهذا قال تعالى : { وَأَنْبَتَتْ مِنْ
كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } أي : حسن المنظر طيب الريح.
وقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ } أي : الخالق المدبر الفعال لما
يشاء ، { وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى } [أي : كما أحيا الأرض الميتة وأنبت منها
هذه الأنواع ؛ { إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى } ] (2) ، {
إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ فصلت : 39 ] فـ { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا
أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82].
{ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا } أي : كائنة لا شك فيها ولا مرية
، { وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ } أي : يعيدهم بعد ما صاروا في
قبورهم رمما ، ويوجدهم بعد العدم ، كما قال تعالى : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا
وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا
الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. الَّذِي
جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ
تُوقِدُونَ } [ يس : 78 - 80 ] والآيات في هذا كثيرة (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا بَهز (4) ، حدثنا حماد بن سلمة قال : أنبأنا يعلى عن
عطاء ، عن وكيع بن حُدُس (5) ، عن عمه أبي رَزين العقيلي - واسمه لَقِيط بن عامر
(6) - أنه قال : يا رسول الله ، أكلنا يرى ربه عز وجل يوم القيامة ؟ وما آية ذلك
في خلقه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أليس كلكم ينظر إلى القمر
مُخْليا به ؟ " قلنا : بلى. قال : "فالله أعظم". قال : قلت : يا
رسول الله ، كيف يحيي الله الموتى ، وما آية ذلك في خلقه ؟ قال : "أما مررت
بوادي أهلك محلا (7) " قال : بلى. قال : "ثم مررت به يهتز خضرا ؟".
قال : بلى. قال : "فكذلك يحيي الله الموتى ، وذلك آيته في خلقه".
ورواه أبو داود وابن ماجه ، من حديث حماد بن سلمة ، به (8).
ثم رواه الإمام أحمد أيضا : حدثنا علي بن إسحاق ، أنبأنا ابن المبارك ، أنبأنا عبد
الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن سليمان بن موسى ، عن أبي رَزين العُقَيْلي قال : أتيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، كيف يحيي الله الموتى ؟ قال :
"أمررت بأرض من أرضك مُجْدبةً ، ثم مررت بها
__________
(1) في ت : "التي لا ينبت فيهات شيئا".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ت : "لكثيرة".
(4) في ت : "يزيد".
(5) في ت : "عدس" ، وفي ف ، أ : "عدي".
(6) في ت : "ليث بن أبي عامر".
(7) في أ : "ممحلا".
(8) المسند (4/11) وسنن أبي داود برقم (4731) وسنن ابن ماجه برقم (180).
(5/398)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
مخصبة
؟" قال : نعم. قال : "كذلك النشور" (1).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عُبَيس (2) بن مرحوم ، حدثنا بُكَيْر بن
أبي السُّمَيْط ، عن قتادة ، عن أبي الحجاج ، عن معاذ بن جبل قال : من علم أن الله
هو الحق المبين ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور - دخل
الجنة. [والله أعلم] (3).
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا
كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي
الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ
بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (10) }.
لما ذكر تعالى حال الضلال الجهال المقلّدين في قوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ } ،
ذكر في هذه حال الدعاة إلى الضلال من رءوس الكفر والبدع ، فقال : { وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ
مُنِيرٍ } أي : بلا عقل صحيح ، ولا نقل صحيح صريح ، بل بمجرد الرأي والهوى.
وقوله : { ثَانِيَ عِطْفِهِ } قال ابن عباس وغيره : مستكبرًا عن الحق إذا دعي
إليه. وقال مجاهد ، وقتادة ، ومالك عن زيد بن أسلم : { ثَانِيَ عِطْفِهِ } أي :
لاوي عنقه ، وهي رقبته ، يعني : يعرض عما يدعى إليه من الحق رقَبَته استكبارًا ،
كقوله تعالى : { وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ
مُبِينٍ. فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } [ الذاريات : 38
، 39 ] ، وقال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ
اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا
} [ النساء : 61 ] ، وقال : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ
لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ
مُسْتَكْبِرُونَ } [ المنافقون : 5 ] : وقال لقمان لابنه : { وَلا تُصَعِّرْ
خَدَّكَ لِلنَّاسِ } [ لقمان : 18 ] أي : تميله عنهم استكبارًا عليهم ، وقال تعالى
: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ
يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [
لقمان : 7 ].
وقوله : { لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } : قال بعضهم : هذه لام العاقبة ؛ لأنه
قد لا يقصد ذلك ، ويحتمل أن تكون لام التعليل. ثم إما أن يكون المراد بها
المعاندين (4) ، أو يكون المراد بها أن هذا الفاعل لهذا إنما جبلناه على هذا الخلق
الذي يجعله ممن يضل عن سبيل الله.
ثم قال تعالى : { لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } وهو الإهانة والذل ، كما أنه لما
استكبر عن آيات الله لَقَّاه الله المذلة في الدنيا ، وعاقبه فيها قبل الآخرة ؛
لأنها أكبر هَمّه ومبلغ علمه ، { وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ
الْحَرِيقِ. ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ }
__________
(1) المسند (4/11)
(2) في ف ، أ : "عيسى".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في ت ، ف : "المعاندون".
(5/399)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
أي : يقال
له هذا تقريعًا وتوبيخا ، { وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِِ } كقوله
تعالى : { خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ. ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ
رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ. ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ.
إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ } [ الدخان : 47 - 50 ].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن الصبّاح ، حدثنا يزيد بن هارون ،
أنبأنا هشام ، عن الحسن قال : بلغني أن أحدهم يُحرق في اليوم سبعين ألف مرة.
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ
اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ
الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ
دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ
الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ
الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) }.
قال مجاهد ، وقتادة ، وغيرهما : { عَلَى حَرْفٍ } : على شك (1).
وقال غيرهم : على طرف. ومنه حرف الجبل ، أي : طرفه ، أي : دخل في الدين على طرف ،
فإن وجد ما يحبه استقر ، وإلا انشمر.
وقال البخاري : حدثنا إبراهيم بن الحارث ، حدثنا يحيى بن أبي بُكَيْر (2) ، حدثنا
إسرائيل ، عن أبي حَصِين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } قال : كان الرجل يَقدم المدينة ، فإن ولدت امرأته
غلاما ، ونُتِجَت خيلُه ، قال : هذا دين صالح. وإن لم تلد امرأته ، ولم تُنتَج (3)
خيله قال : هذا دين سوء (4).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، حدثني أبي
، عن أبيه ، عن أشعث بن إسحاق القُمِّي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن
جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : كان ناس من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم
فيُسْلِمون ، فإذا رجعوا إلى بلادهم ، فإن وجدوا عام غَيث وعام خصب وعام ولاد حسن
، قالوا : "إن ديننا هذا لصالح ، فتمَسَّكُوا به". وإن وجدوا عام جُدوبة
وعام ولاد سَوء وعام قحط ، قالوا : "ما في ديننا هذا خير". فأنزل الله
على نبيه : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ
أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى
وَجْهِهِ }.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : كان أحدهم إذا قَدم المدينة ، وهي أرض وبيئة (5) ،
فإن صح بها جسمه ، ونُتِجت فرسه مهرًا حسنا ، وولدت امرأته غلامًا ، رضي به واطمأن
إليه ، وقال : "ما أصبت منذ كنتُ على ديني هذا إلا خيرا". وإن أصابته
فتنة - والفتنة : البلاء - أي : وإن أصابه وجع المدينة ،
__________
(1) في ت : "على شدة".
(2) في ف : "ابن أبي بكر".
(3) في ت ، ف : "ينتج".
(4) صحيح البخاري برقم (4742).
(5) في هـ ، ت : "وهم أرض دونه" والمثبت من ف ، أ.
(5/400)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)
وولدت
امرأته جارية ، وتأخرت عنه الصدقة ، أتاه الشيطان فقال : والله ما أصبت منذ كنت
على دينك هذا إلا شرًا. وذلك الفتنة.
وهكذا ذكر قتادة ، والضحاك ، وابن جُريج ، وغير واحد من السلف ، في تفسير هذه
الآية.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو المنافق ، إن صلحت له دنياه أقام على العبادة
، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت ، انقلب فلا يقيم على العبادة إلا لِمَا صلح من
دنياه ، فإن (1) أصابته فتنة أو شدة أو اختبار أو ضيق ، ترك دينه ورجع إلى الكفر.
وقال مجاهد في قوله : { انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ } أي : ارتد كافرًا.
وقوله : { خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ } أي : فلا هو حَصَل من الدنيا على شيء ،
وأما الآخرة فقد كفر بالله العظيم ، فهو فيها في غاية الشقاء والإهانة ؛ ولهذا قال
: { ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } أي : هذه هي الخسارة العظيمة ، والصفقة
الخاسرة.
وقوله : { يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ } أي
: من الأصنام والأنداد ، يستغيث بها ويستنصرها ويسترزقها ، وهي لا تنفعه ولا تضره
، { ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ. يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ
نَفْعِهِ } أي : ضرره في الدنيا قبل الآخرة أقرب من نفعه فيها ، وأما في الآخرة
فضرره محقق متيقن.
وقوله : { لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } : قال مجاهد : يعني الوثن
، يعني : بئس هذا الذي دعا به من دون الله مولى ، يعني : وليًا وناصرًا ، {
وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } وهو المخالط والمعاشر.
واختار ابن جرير أن المراد : لبئس ابن العم والصاحب من يعبد [الله] (2) على حرف ،
{ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ
عَلَى وَجْهِهِ }
وقول مجاهد : إن المراد به الوثن ، أولى وأقرب إلى سياق الكلام ، والله أعلم.
{ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) }.
لما ذكر أهل الضلالة الأشقياء ، عطف بذكر الأبرار السعداء ، من الذين آمنوا
بقلوبهم ، وصدّقوا إيمانهم بأفعالهم ، فعملوا الصالحات من جميع أنواع القربات ،
[وتركوا المنكرات] (3) فأورثهم ذلك سكنى الدرجات العاليات ، في روضات الجنات.
ولما ذكر أنه أضل أولئك ، وهدى هؤلاء ، قال : { إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا
يُرِيدُ }
__________
(1) في ت ، ف ، أ : "فإذا".
(2) زيادة من ت ، ف ، أ.
(3) زيادة من ف ، أ.
(5/401)
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
{ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) }
(5/402)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
{
وَكَذَلِكَ أَنزلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ
(16) }.
قال ابن عباس : من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلى الله عليه وسلم في الدنيا
والآخرة ، { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ } أي : بحبل { إِلَى السَّمَاءِ } أي : سماء
بيته ، { ثُمَّ ليَقْطَعْ } يقول : ثم ليختنق به. وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، وعطاء
، وأبو الجوزاء ، وقتادة ، وغيرهم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { فَلْيَمْدُدْ (1) بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ }
أي : ليتوصل إلى بلوغ السماء ، فإن النصر إنما يأتي محمدًا من السماء ، { ثُمَّ
لِيَقْطَعْ } ذلك عنه ، إن قدر على ذلك.
وقول ابن عباس وأصحابه أولى وأظهر في المعنى ، وأبلغ في التهكم ؛ فإن المعنى : من
ظن أن الله ليس بناصر محمدًا وكتابه ودينه ، فليذهب فليقتل نفسه ، إن كان ذلك
غائظه ، فإن الله ناصره لا محالة ، قال الله تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ
رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ
الأشْهَادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ
اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ غافر : 51 ، 52] ؛ ولهذا قال : {
فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ }
قال السدي : يعني : مِنْ شأن محمد (2) صلى الله عليه وسلم.
وقال عطاء الخراساني : فلينظر هل يشفي ذلك ما يجد في صدره من الغيظ.
وقوله : { وَكَذَلِكَ أَنزلْنَاهُ } أي : القرآن { آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أي :
واضحات في لفظها ومعناها ، حجةً من الله على الناس { وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ
يُرِيدُ } أي : يضل من يشاء ، ويهدي من يشاء ، وله الحكمة التامة والحجة (3)
القاطعة في ذلك ، { لا (4) يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [
الأنبياء : 23 ] ، أما هو فلحكمته ورحمته وعدله ، وعلمه وقهره وعظمته ، لا معقب
لحكمه ، وهو سريع الحساب.
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى
وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) }.
يخبر تعالى عن أهل هذه الأديان المختلفة من المؤمنين ، ومن سواهم من اليهود
والصابئين - وقد قدمنا في سورة "البقرة" التعريف بهم ، واختلافَ الناس
فيهم - والنصارى والمجوس ، والذين أشركوا فعبدوا غير الله معه ؛ فإنه تعالى {
يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ، ويحكم بينهم بالعدل (5) ، فيدخل من
آمن به الجنة ، ومن كفر به (6) النار ، فإنه تعالى شهيد على أفعالهم ، حفيظ
لأقوالهم ، عليم بسرائرهم ، وما تُكِن ضمائرهم.
__________
(1) في ت : "وليمدد".
(2) في ت : "محمدا".
(3) في ت : "وله الحجة".
(4) في ت : "ولا".
(5) في ت : "بالعذاب".
(6) في ت ، أ : "إلى".
(5/402)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
{ أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ
وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ
اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) }.
يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له ، فإنه يسجد (1) لعظمته كل شيء
طوعا وكرها وسجود [كل شيء مما] (2) يختص به ، كما قال : { أَوَلَمْ يَرَوْا (3)
إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ
وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ } [ النحل : 48 ]. وقال هاهنا
: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي
الأرْضِ } أي : من الملائكة في أقطار السموات ، والحيوانات في جميع الجهات ، من
الإنس والجن والدواب والطير ، { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [
الإسراء : 44 ].
وقوله : { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ } : إنما ذكر هذه على التنصيص ؛
لأنها قد عُبدت من دون الله ، فبين أنها تسجد لخالقها ، وأنها مربوبة مسخرة { لا
تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ
إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ فصلت : 37 ].
وفي الصحيحين عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: "أتدري أين تذهب هذه الشمس ؟". قلت : الله ورسوله أعلم. قال :
"فإنها تذهب فتسجد تحت العرش ، ثم تستأمر فيوشك أن يقال لها : ارجعي من حيث
جئت" (4).
وفي المسند وسنن أبي داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، في حديث الكسوف : "إن
الشمس والقمر خَلْقان من خَلْق الله ، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ،
ولكن الله عز وجل إذا تَجَلى لشيء من خلقه خشع (5) له" (6).
وقال أبو العالية : ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر ، إلا يقع لله ساجدًا حين
يغيب ، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له ، فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه.
وأما الجبال والشجر فسجودهما بفَيء ظلالهما (7) عن اليمين والشمائل : وعن ابن عباس
قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله ، إني رأيتني الليلة وأنا نائم ، كأني أصلي خلف
شجرة ، فسجدتُ فسجَدَت الشجرة لسجودي ، فسمعتُها وهي تقول : اللهم ، اكتب لي بها
عندك أجرًا ، وضع عني بها وزرًا ، واجعلها لي عندك ذخرًا ، وتقبلها مني كما
تقبلتها من عبدك داود. قال ابن عباس : فقرأ
__________
(1) في ت : "سجد".
(2) زيادة من ف.
(3) في ت : "يرى".
(4) صحيح البخاري برقم (4803) وصحيح مسلم برقم (159).
(5) في ف ، أ : "خضع".
(6) المسند (4/267) وسنن أبي داود برقم (1177) وسنن النسائي (14113) وسنن ابن ماجه
برقم (1262).
(7) في ت : "فسجودها على ظلالها".
(5/403)
النبي (1)
صلى الله عليه وسلم سجدة ثم سَجَد ، فسمعته وهو يقولُ مثلَ ما أخبره الرجل عن قول
الشجرة.
رواه الترمذي ، وابن ماجه ، وابن حبّان في صحيحه (2).
وقوله : { وَالدَّوَابُّ } أي : الحيوانات كلها.
وقد جاء في الحديث عن الإمام أحمد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ
ظهور الدواب (3) منابر (4) فرب مركوبة خير (5) وأكثر ذكرًا لله من راكبها.
وقوله : { وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ } أي : يسجد لله طوعا مختارًا متعبدًا بذلك ، {
وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ } أي : ممن امتنع وأبى واستكبر ، { وَمَنْ
يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ }.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن شيبان الرملي ، حدثنا القداح ، عن جعفر بن محمد
، عن أبيه ، عن علي قال : قيل لعلي : إن هاهنا رجلا يتكلم في المشيئة. فقال له علي
: يا عبد الله ، خلقك الله كما يشاء أو كما شئت (6) ؟ قال : بل كما شاء. قال :
فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت ؟ قال : بل إذا شاء. قال : فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت ؟
قال : بل إذا شاء. قال : فيدخلك حيث شئت أو حيث يشاء ؟ قال : بل حيث يشاء. قال :
والله لو قلت غير ذلك لضربتُ الذي فيه عيناك بالسيف.
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا قرأ ابنُ آدم
السجدة اعتزل (7) الشيطان يبكي يقول : يا ويله. أمر ابن آدم بالسجود فسجد ، فله
الجنة ، وأمِرتُ بالسجود فأبيتُ ، فلي النار" رواه مسلم (8).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم وأبو عبد الرحمن المقرئ قالا
حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا مَشْرَح بن هاعان (9) أبو مُصعب المعافري قال : سمعت
عقبة بن عامر يقول : قلت يا رسول الله ، أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين
؟ قال : "نعم ، فمن لم يسجد بهما فلا يقرأهما".
ورواه أبو داود والترمذي ، من حديث عبد الله بن لهيعة ، به (10). وقال الترمذي :
"ليس بقوي (11) " وفي هذا نظر ؛ فإن ابن لَهِيعة قد صَرح فيه بالسماع ،
وأكثر ما نَقَموا عليه تدليسه.
__________
(1) في ت : "رسول الله".
(2) سنن الترمذي برقم (579) وسنن ابن ماجه برقم (1053) وقال الترمذي : "هذا
حديث غريب من حديث ابن عباس لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
(3) في ف ، أ : "الحيوانات".
(4) ورواه أبو داود في السنن برقم (2567) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) في ف : "خيرا".
(6) في ت ، ف : "لما يشاء أو لما شئت".
(7) في ف : "فاعتزل".
(8) صحيح مسلم برقم (81).
(9) في أ : "عاهان".
(10) المسند (4/151) وسنن أبي داود برقم (1402) وسنن الترمذي برقم (578).
(11) في ف : "ليس هو بقوي".
(5/404)
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)
وقد قال أبو
داود في المراسيل : حدثنا أحمد بن عمرو بن السَّرح ، أنبأنا ابن وَهْب ، أخبرني
معاوية بن صالح ، عن عامر بن جَشِب (1) ، عن خالد بن مَعْدان ؛ أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : "فُضِّلت سورة الحج على القرآن بسجدتين".
ثم قال أبو داود : وقد أسندَ هذا ، يعني : من غير هذا الوجه ، ولا يصح (2).
وقال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي : حدثنا ابن أبي داود ، حدثنا يزيد بن عبد الله ،
حدثنا الوليد ، حدثنا أبو عمرو ، حدثنا حفص بن عنان ، حدثني نافع ، حدثني أبو
الجهم : أن عمر سجد سجدتين في الحج ، وهو بالجابية ، وقال : إن هذه فضلت بسجدتين
(3).
وروى أبو داود وابن ماجه ، من حديث الحارث بن سعيد العُتَقيّ ، عن عبد الله بن
مُنَين ، عن عمرو بن العاص ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة
في القرآن ، منها ثلاث في المُفَصّل ، وفي سورة الحج سجدتان (4). فهذه (5) شواهد
يَشُدّ بعضها بعضا.
{ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ
لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ
حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا
فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) }.
ثبت في الصحيحين ، من (6) حديث أبي مِجْلَز ، عن قيس بن عُبَاد ، عن أبي ذر ؛ أنه
كان يقسم قسما أن هذه الآية : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } نزلت
في حمزة وصاحِبَيه ، وعتبةَ وصاحبيه ، يوم برزوا في بدر (7).
لفظ البخاري عند تفسيرها ، ثم قال البخاري :
حدثنا الحجاج بن مِنْهَال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، سمعت أبي ، حدثنا أبو
مِجْلز عن قيس بن عُبَاد ، عن علي بن أبي طالب أنه قال : أنا أول من يَجثُو بين
يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة. قال قيس : وفيهم نزلت : { هَذَانِ خَصْمَانِ
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } ، قال : هم الذين بارزوا يوم بدر : عليّ وحمزة وعبيدة
، وشيبة ابن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. انفرد به البخاري (8).
وقال سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة في قوله : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا
فِي رَبِّهِمْ } قال : اختصم المسلمون وأهل الكتاب ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل
نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم. فنحن أولى بالله
__________
(1) في ف ، أ : "جيب".
(2) المراسيل برقم (78).
(3) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (2/317) من طريق نافع عن رجل من أهل مصر أنه
صلى مع عمر بن الخطاب فذكر مثله.
(4) سنن أبي داود برقم (1401) وسنن ابن ماجه برقم (1057).
(5) في ف : "فهو".
(6) في ت : "عن".
(7) صحيح البخاري برقم (4743) وصحيح مسلم برقم (3033).
(8) صحيح البخاري برقم (4744).
(5/405)
منكم. وقال
المسلمون : كتابنا يقضي على الكتب كلها ، ونبينا خاتم الأنبياء ، فنحن أولى بالله
منكم. فأفلج الله الإسلامَ على من ناوأه ، وأنزل : { هَذَانِ خَصْمَانِ
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ }. وكذا روى العَوفي ، عن ابن عباس.
وقال شعبة ، عن قتادة في قوله : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ }
قال : مُصدق ومكذب.
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد في هذه الآية : مثل الكافر والمؤمن اختصما في
البعث. وقال - في رواية : هو وعطاء في هذه الآية - : هم المؤمنون والكافرون.
وقال عكرمة : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } قال : هي الجنة
والنار ، قالت النار : اجعلني للعقوبة ، وقالت الجنة : اجعلني للرحمة.
وقولُ مجاهد وعطاء : إن المراد بهذه الكافرون والمؤمنون ، يشمل الأقوال كلها ،
وينتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها ؛ فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله ، والكافرون
يريدون إطفاء نور الإيمان وخذلانَ الحق وظهور الباطل. وهذا اختيار ابن جرير ، وهو
حَسَن ؛ ولهذا قال : { فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ
} أي : فصلت لهم مقطعات من نار.
قال سعيد بن جبير : من نحاس وهو أشد الأشياء حرارة إذا حمي.
{ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ. يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ
وَالْجُلُودُ } أي : إذا صب على رءوسهم الحميم ، وهو الماء الحار في غاية الحرارة.
وقال سعيد [بن جبير] (1) هو النحاس المذاب ، أذاب ما في بطونهم من الشحم والأمعاء.
قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم. وكذلك تذوب (2) جلودهم ، وقال
ابن عباس وسعيد : تساقط.
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن المثنى ، حدثنا إبراهيم أبو إسحاق الطالَقاني ،
حدثنا ابن المبارك عن سعيد بن زيد (3) ، عن أبي السَّمْح ، عن ابن (4) حُجَيرة ،
عن أبي هُرَيرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الحميم ليُصَب على
رءوسهم ، فينفُد الجمجمةَ حتى يخلص إلى جوفه ، فيسلت (5) ما في جوفه ، حتى يبلغ
قدميه ، وهو الصهر ، ثم يعاد كما كان".
ورواه الترمذي من حديث ابن المبارك (6) ، وقال : حسن صحيح. وهكذا رواه ابن أبي
حاتم ، عن أبيه ، عن أبي نعيم ، عن ابن المبارك ، به ثم قال ابن أبي حاتم :
حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن أبي الحَوَاريّ ، سمعت عبد الله ابن
السُّرِّيّ قال : يأتيه الملك يحمل الإناء بِكَلْبتين من حرارته ، فإذا أدناه من
وجهه تكرهه ، قال : فيرفع مِقْمَعَة معه فيضرب
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف : "يذوب".
(3) في ت ، ف : "زيد".
(4) في ت : "أبي".
(5) في أ : "فيسلت".
(6) تفسير الطبري (17/100) وسنن الترمذي برقم (2582).
(5/406)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)
بها رأسه ،
فَيُفرغ (1) دماغه ، ثم يُفرغ (2) الإناء من دماغه ، فيصل إلى جوفه من دماغه ،
فذلك قوله : { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ }
وقوله : { وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } ، قال الإمام أحمد :
حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا دَرَّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي
سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لو أن مِقْمَعا مِن حَديد
وُضِع في (3) الأرض ، فاجتمع له الثقلان ما أقَلُّوه من الأرض" (4).
وقال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا (5) دَرَّاج ،
عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"لو ضُرب الجبلُ بمِقْمَع من حديد ، لتفتت ثم عاد كما كان ، ولو أن دلوا من
غَسَّاق يُهَرَاق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا" (6).
وقال ابن عباس في قوله : { وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } قال : يضربون بها ،
فيقع كل عضو على حياله ، فيدعون (7) بالثبور.
وقوله : { كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا
فِيهَا } : قال الأعمش ، عن أبي ظِبْيان ، عن سلمان قال : النار سوداء مظلمة ، لا
يضيء لهبها ولا جمرها ، ثم قرأ : { كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا
مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا }
وقال زيد بن أسلم في هذه الآية : { كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا
مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا } قال : بلغني أن أهل النار في النار لا يتنفسون.
وقال الفُضيل (8) بن عياض : والله ما طمعوا في الخروج ، إن الأرجل لمقيدة ، وإن
الأيدي لموثقة ، ولكن يرفعهم لهبها ، وتردهم (9) مقامعها.
وقوله : { وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } كقوله { وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ
النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } [ السجدة : 20 ] ومعنى الكلام :
أنهم يهانون بالعذاب قولا وفعلا.
{ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ
وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) }.
__________
(1) في ت ، ف : "فيقرع".
(2) في ت : "يقرع".
(3) في ت : "على".
(4) المسند (3/29).
(5) في ت ، ف : "عن".
(6) المسند (3/83) ودراج عن أبي الهيثم ضعيف.
(7) في ت ، ف : "فيدعو".
(8) في ت : "الفضل".
(9) في ف : "ويردهم".
(5/407)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
{ وَهُدُوا
إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) }.
لما أخبر تعالى عن حال أهل النار ، عياذًا بالله من حالهم ، وما هم فيه من العذاب
والنَّكال
(5/407)
والحريق
والأغلال ، وما أعد لهم من الثياب من النار ، ذكر حال أهل الجنة - نسأل الله من
فضله وكرمه أن يدخلنا الجنة - فقال : { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي :
تتخَرّق في أكنافها وأرجائها وجوانبها ، وتحت أشجارها وقصورها ، يصرفونها حيث
شاءوا وأين شاءوا ، { يُحَلَّوْنَ فِيهَا } من الحلية ، { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ
أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا } أي : في أيديهم ، كما قال النبي صلى الله
عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : "تبلغ الحِلْيَة من المؤمن حيث يبلغ
الوُضُوء" (1).
وقال كعب الأحبار : إن في الجنة ملكًا لو شئت أن أسميه لسميتُه ، يصوغ لأهل الجنة
الحلي منذ خلقه الله إلى يوم القيامة ، لو أبرز قُلْب منها - أي : سوار منها - لرد
شعاع الشمس ، كما ترد (2) الشمس نور القمر.
وقوله : { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } : في مقابلة ثياب أهل النار التي فصلت
لهم ، لباس هؤلاء من الحرير ، إستبرقه وسُنْدُسه ، كما قال : { عَالِيَهُمْ
ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ
وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا. إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً
وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا } [ الإنسان : 21 ، 22 ] ، وفي الصحيح : "لا
تلبسوا الحرير ولا الديباج في الدنيا ، فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في
الآخرة" (3).
قال عبد الله بن الزبير : ومن لم يلبس الحرير في الآخرة ، لم يدخل الجنة ، قال
الله تعالى : { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ }
وقوله : { وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ } كقوله { وَأُدْخِلَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ } [
إبراهيم : 23] ، وقوله : { وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ
بَابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } [ الرعد :
23 ، 24 ] ، وقوله : { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلا
قِيلا سَلامًا سَلامًا } [ الواقعة : 25 ، 26 ] ، فهدوا إلى المكان الذي يسمعون
فيه الكلام الطيب ، { وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا } [ الفرقان : 75
] ، لا كما يهان أهل النار بالكلام الذي يُرَوّعون به (4) ويقرعون به ، يقال لهم :
{ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ }
وقوله : { وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } أي : إلى المكان الذي يحمدون فيه
ربهم ، على ما أحسن إليهم وأنعم به وأسداه إليهم ، كما جاء في الصحيح : "إنهم
يلهمون التسبيح والتحميد ، كما يلهمون النَّفَسَ".
وقد قال بعض المفسرين في قوله : { وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ } أي
: القرآن. وقيل : لا إله إلا الله. وقيل : الأذكار المشروعة ، { وَهُدُوا إِلَى
صِرَاطِ الْحَمِيدِ } أي : الطريق المستقيم في الدنيا. وكل هذا لا ينافي ما ذكرناه
، والله أعلم.
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه برقم (246) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) في ف : "يرد".
(3) الحديث في صحيح البخاري برقم (5426) وصحيح مسلم برقم (2067) من حديث حذيفة رضي
الله عنه.
(4) في ت : "يوبخون فيه" ، وفي ف ، أ : "يوبخون به".
(5/408)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
{ إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ
فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) }.
يقول تعالى منكرًا على الكفار في صَدّهم المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام ، وقضاء
مناسكهم فيه ، ودعواهم أنهم أولياؤه : { وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ
أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [
الأنفال : 34 ].
وفي هذه الآية دليل [على] (1) أنها مدنية ، كما قال في سورة "البقرة" :
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ
كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ } [ البقرة : 217 ] ، وقال :
هاهنا : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أي : ومن صفتهم مع كفرهم أنهم يصدون عن سبيل الله
والمسجد الحرام ، أي : ويصدون عن المسجد الحرام من أراده من المؤمنين الذين هم أحق
الناس به في نفس الأمر ، وهذا التركيب في هذه الآية كقوله تعالى : { الَّذِينَ
آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ
تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [ الرعد : 28 ] أي : ومن صفتهم أنهم تطمئن قلوبهم بذكر
الله.
وقوله : { الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ }
[أي : يمنعون الناس عن الوصول إلى المسجد الحرام ، وقد جعله الله شرعا سواء ، لا
فرق فيه بين المقيم فيه والنائي عنه البعيد الدار منه ، { سَوَاءً الْعَاكِفُ
فِيهِ وَالْبَادِ } ] (2) ومن ذلك استواء الناس في رباع مكة وسكناها ، كما قال علي
بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } قال
: ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام.
وقال مجاهد [في قوله] (3) : { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } : أهل مكة
وغيرهم فيه سواء في المنازل. وكذا قال أبو صالح ، وعبد الرحمن بن سابط ، وعبد
الرحمن بن زيد [بن أسلم] (4).
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : سواء فيه أهله وغير أهله.
وهذه المسألة اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن راهَويه بمسجد الخِيف ، وأحمد بن حنبل
حاضر (5) أيضًا ، فذهب الشافعي ، رحمه الله (6) إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر
، واحتج بحديث الزهري ، عن علي بن الحُسَين ، عن عمرو بن عثمان ، عن أسامة بن زيد
قال : قلت : يا رسول الله ، أتنزل غدًا في دارك (7) بمكة ؟ فقال : "وهل ترك
لنا عَقيل من رباع". ثم قال : "لا يرث الكافر المسلم ، ولا المسلم الكافر".
وهذا الحديث مُخَرّج في الصحيحين (8) [وبما ثبت أن عمر بن الخطاب اشترى من صفوان
بن أمية دارا بمكة ، فجعلها سجنا بأربعة آلاف درهم. وبه قال طاوس ، وعمرو بن
دينار.
وذهب إسحاق بن راهَويه إلا أنها تورث ولا تؤجر. وهو مذهب طائفة من السلف ، ونص
عليه
__________
(1) زيادة من ت.
(2) زيادة من ف.
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في ت : "حاضرا".
(6) في ف : "رضي الله عنه" ، وفي أ : "رضي الله تعالى عنه".
(7) في ف : "بدارك".
(8) صحيح البخاري برقم (6764) وصحيح مسلم برقم (1614) من حديث أسامة بن زيد رضي
الله عنه.
(5/409)
مجاهد وعطاء
، واحتج إسحاق بن راهَويه بما رواه ابن ماجه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن عيسى
ابن يونس ، عن عُمَر بن سعيد بن أبي حُسَين (1) ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن
علقمة بن نَضْلة قال : تُوُفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ، وما
تدعى رباع مكة إلا] (2) السوائب ، من احتاج سكن ، ومن استغنى أسكن (3).
وقال عبد الرزاق ابن مجاهد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو أنه قال : لا يحل بيع
دور مكة ولا كراؤها.
وقال أيضًا عن ابن جريج : كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم ، وأخبرني أن عمر بن
الخطاب كان ينهي عن تُبوّب دور مكة ؛ لأن ينزل الحاج في عَرَصاتها ، فكان أول من
بَوّب داره سُهَيل بن عمرو ، فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك ، فقال : أنظرني يا
أمير المؤمنين ، إني كنت امرأ تاجرا ، فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري قال :
فذلك إذًا.
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن منصور ، عن مجاهد ؛ أن عمر بن الخطاب قال : يا
أهل مكة ، لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث يشاء (4).
قال : وأخبرنا مَعْمر ، عمن سمع عطاء يقول [في قوله] (5) : { سَوَاءً الْعَاكِفُ
فِيهِ وَالْبَادِ } ، قال : ينزلون حيث شاءوا.
وروى الدارقطني من حديث ابن أبي نَجِيح ، عن عبد الله بن عمرو موقوفا (6) من أكل
كراء بيوت مكة أكل نارا (7).
"وتوسط الإمام أحمد [فيما نقله صالح ابنه] (8) فقال : تملك وتورث ولا تؤجر ،
جمعا بين الأدلة ، والله أعلم.
وقوله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ
أَلِيمٍ } قال بعض المفسرين من أهل العربية : الباء هاهنا زائدة ، كقوله : {
تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ } [ المؤمنون : 20 ] أي : تُنْبِتُ الدهن ، وكذا قوله : {
وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ (9) } تقديره إلحادًا ، وكما قال الأعشى :
ضَمنَتْ برزق عيالنا أرْماحُنا... بين المَرَاجِل ، والصّريحَ الأجرد (10)
وقال الآخر :
بوَاد يَمانِ يُنْبتُ الشَّثّ صَدْرُهُ... وَأسْفَله بالمَرْخ والشَّبَهَان...
__________
(1) في ت : "جبير" ، وفي ف ، أ : "حيوة".
(2) زيادة من ت ، ف ، أ.
(3) سنن ابن ماجه برقم (3107) وهو مرسل.
(4) في ت ، ف : "شاء".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في ف ، أ : "مرفوعا".
(7) سنن الدارقطني (2/300)
(8) زيادة من ف ، أ.
(9) في ف ، أ : "بإلحاد بظلم".
(10) البيت في تفسير الطبري (17/103) غير منسوب.
(5/410)
والأجود أنه
ضمن الفعل هاهنا معنى "يَهُمّ" ، ولهذا (1) عداه بالباء ، فقال : {
وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } أي : يَهُمّ فيه بأمر فظيع من المعاصي
الكبار.
وقوله : { بِظُلْمٍ } أي : عامدا قاصدا أنه ظلم ليس بمتأول ، كما قال ابن جريج (2)
، عن ابن عباس : هو [التعمد] (3).
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { بِظُلْمٍ } بشرك.
وقال مجاهد : أن يعبد فيه غير الله. وكذا قال قتادة ، وغير واحد.
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس : { بِظُلْمٍ } هو أن تَستحلَ من الحرم ما حَرّم الله
عليك من لسان أو قتل ، فتظلم من لا يظلمك ، وتقتل من لا يقتلك ، فإذا فَعَلَ ذلك
فقد وجب [له] (4) العذاب الأليم.
وقال مجاهد : { بِظُلْمٍ } : يعمل فيه عملا سيئا.
وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقَب البادي فيه الشر ، إذا كان عازما عليه ، وإن لم
يوقعه ، كما قال ابن أبي حاتم في تفسيره :
حدثنا أحمد بن سِنَان ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا شعبة ، عن السُّدِّي : أنه
سمع مُرَّة يحدث عن عبد الله - يعني ابن مسعود - في قوله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ
بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } قال : لو أن رَجُلا أراد فيه بإلحاد بظلم ، وهو بعَدَن
أبينَ ، أذاقه (5) الله من العذاب الأليم.
قال شعبة : هو رفعه لنا ، وأنا لا أرفعه لكم. قال يزيد : هو قد رفعه ، ورواه أحمد
، عن يزيد بن هارون ، به (6).
[قلت : هذا الإسناد] (7) صحيح على شرط البخاري ، ووقفه أشبه من رفعه ؛ ولهذا صَمم
شعبة على وَقْفه من كلام ابن مسعود. وكذلك رواه أسباط ، وسفيان الثوري ، عن السدي
، عن مُرة ، عن ابن مسعود موقوفا ، والله أعلم.
وقال الثوري ، عن السدي ، عن مُرَّة ، عن عبد الله قال : ما من رجل يهم بسيئة
فتكتب عليه ، ولو أن رجلا بعَدَن أبينَ هَمّ أن يقتل رجلا بهذا البيت ، لأذاقه
الله من العذاب الأليم. وكذا قال الضحاك بن مُزاحم.
وقال سفيان [الثوري] (8) ، عن منصور ، عن مجاهد "إلحاد فيه" ، لا والله
، وبلى والله. وروي عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو ، مثله.
__________
(1) في ف : "ولذا".
(2) في ت : "جرير".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في ت ، ف ، أ : "لأذاقه".
(6) المسند (1/428)
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) زيادة من ف.
(5/411)
وقال سعيد
بن جُبَير : شتم الخادم ظلم فما فوقَه.
وقال سفيان الثوري ، عن عبد الله بن عطاء ، عن ميمون بن مِهْرَان ، عن ابن عباس في
قوله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } قال : تجارة الأمير فيه.
وعن ابن عمر : بيع الطعام [بمكة] (1) إلحاد.
وقال حبيب (2) بن أبي ثابت : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } قال :
المحتكر بمكة. وكذا قال غير واحد.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن إسحاق الجوهري ، أنبأنا أبو
عاصم ، عن جعفر بن يحيى ، عن عمه عمارة بن ثوبان ، حدثني موسى بن باذان ، عن يعلى
بن أمية ؛ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : "احتكار الطعام بمكة
إلحاد" (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر (4) ،
حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثني عطاء بن دينار ، حدثني سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس
في قول الله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } قال : نزلت في عبد
الله بن أنيس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع رجلين ، أحدهما مهاجر
والآخر من الأنصار ، فافتخروا في الأنساب ، فغضب عبد الله بن أنيس ، فقتل
الأنصاريّ ، ثم ارتد عن الإسلام ، وهَرَب إلى مكة ، فنزلت فيه : { وَمَنْ يُرِدْ
فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } يعني : من لجأ إلى الحرم بإلحاد يعني بميل عن
الإسلام.
وهذه الآثار ، وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد ، ولكنْ هُو أعم من ذلك ، بل
فيها تنبيه على ما هو أغلظ منها ، ولهذا لما هم أصحاب الفيل على تخريب البيت أرسل
الله عليهم طيرًا أبابيل { تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ
كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } [ الفيل : 4 ، 5 ] ، أي : دمَّرهم وجعلهم عبرة ونكالا لكل من
أراده بسوء ؛ ولذلك ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"يغزو هذا البيت جيش ، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خُسِف بأولهم
وآخرهم" الحديث (5).
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن كُنَاسة ، حدثنا إسحاق بن سعيد ، عن أبيه قال :
أتى عبدُ الله بن عمر عبدَ الله بن الزبير ، فقال : يا ابن الزبير ، إياك والإلحاد
في حَرَم الله ، فإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إنه
سيلحدُ فيه رجل من قريش ، لو تُوزَن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت" ، فانظر لا
تكن هو (6).
وقال أيضا [في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص] (7) : حدثنا هاشم ، حدثنا إسحاق بن
سعيد ،
__________
(1) زيادة من ت ، ف ، أ.
(2) في ت : "جندب".
(3) ورواه أبو داود في السنن برقم (2020) ، والفاكهي في تاريخ مكة برقم (1771) من
طريق أبي عاصم به.
(4) في ت ، ف : "بكر".
(5) رواه البخاري في صحيحه برقم (2118) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(6) المسند (2/136)
(7) زيادة من ف ، أ.
(5/412)
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
حدثنا سعيد
بن عمرو قال : أتى عبدُ الله بن عمرو ابنَ الزبير ، وهو جالس في الحِجْر فقال : يا
بن الزبير ، إياك والإلحادَ في الحرم ، فإني أشهد لسَمعتُ رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول : "يحلها ويحل به رجل من قريش ، ولو وُزنت ذنوبه بذنوب الثقلين
لوزنتها". قال : فانظر لا تكن (1) هو (2).
ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذين الوجهين.
{ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا
وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ
يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) }.
هذا فيه تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله ، وأشرك به من قريش ، في البقعة التي
أسسّتْ من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ، فذكر تعالى أنه بَوأ
إبراهيم مكانَ البيت ، أي : أرشده إليه ، وسلمه له ، وأذن له في بنائه.
واستدل به كثير ممن قال : "إن إبراهيم ، عليه السلام ، هو أول من بنى البيت
العتيق ، وأنه لم يبن قبله" ، كما ثبت في الصحيح (3) عن أبي ذر قلت : يا رسول
الله ، أي مسجد وُضعَ أول ؟ قال : "المسجد الحرام". قلت : ثم أي ؟ قال :
"بيت المقدس". قلت كم بينهما ؟ قال : "أربعون سنة" (4).
وقد قال الله تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ
مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ. فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيم
} الآية [ آل عمران : 96 ، 97 ] ، وقال تعالى : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [ البقرة : 125 ].
وقد قدمنا ذكر ما ورد في بناء البيت من الصحاح والآثار ، بما أغنى عن إعادته هاهنا
(5).
وقال تعالى هاهنا : { أَنْ لا تُشْرِكْ بِي } أي : ابْنه على اسمي وحدي ، {
وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } قال مجاهد وقتادة : من الشرك ، { لِلطَّائِفِينَ
وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } أي : اجعله خالصا لهؤلاء الذين يعبدون
الله وحده لا شريك له.
فالطائف به معروف ، وهو أخص العبادات عند البيت ، فإنه لا يفعل ببقعة من الأرض
سواها ، { وَالْقَائِمِينَ } أي : في الصلاة ؛ ولهذا قال : { وَالرُّكَّعِ
السُّجُودِ } فقرن الطواف بالصلاة ؛ لأنهما لا يشرعان إلا مختصين بالبيت ، فالطواف
عنده ، والصلاة إليه في غالب الأحوال ، إلا ما استثني من الصلاة عند اشتباه القبلة
وفي الحرب ، وفي النافلة في السفر ، والله أعلم.
__________
(1) في ت : "لا يكون" وفي ف : "لا تكون".
(2) المسند (21912).
(3) في ف : "الصحيحين".
(4) صحيح البخاري برقم (3366) وصحيح مسلم برقم (520)
(5) انظر تفسير الآية : 125 من سورة البقرة.
(5/413)
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
وقوله : {
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ } أي : ناد في الناس داعيا لهم إلى الحج إلى
هذا البيت الذي أمرناك ببنائه. فَذُكر أنه قال : يا رب ، وكيف أبلغ الناس وصوتي لا
ينفذهم ؟ فقيل : ناد وعلينا البلاغ.
فقام على مقامه ، وقيل : على الحجر ، وقيل : على الصفا ، وقيل : على أبي قُبَيس ،
وقال : يا أيها الناس ، إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه ، فيقال : إن الجبال تواضعت
حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض ، وأسمَعَ مَن في الأرحام والأصلاب ، وأجابه كل شيء
سمعه من حَجَر ومَدَر وشجر ، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة : "لبيك
اللهم لبيك".
هذا مضمون ما روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جُبَير ، وغير واحد من
السلف ، والله أعلم.
أوردها ابن جَرير ، وابن أبي حاتم مُطَوّلة (1) (2).
وقوله : { يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ
عَمِيقٍ } قد يَستدلّ بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الحج ماشيا ، لمن قدر
عليه ، أفضلُ من الحج راكبا ؛ لأنه قدمهم في الذكر ، فدل على الاهتمام بهم وقوة
هممهم وشدة عزمهم ، والذي عليه الأكثرون أن الحج راكبا أفضل ؛ اقتداء برسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فإنه حج راكبا مع كمال قوته ، عليه السلام.
وقوله : { يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ } يعني : طريق ، كما قال : { وَجَعَلْنَا
فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا } [ الأنبياء : 31 ].
وقوله : { عَمِيقٍ } أي : بعيد. قاله مجاهد ، وعطاء ، والسدي ، وقتادة ، ومقاتل بن
حيان ، والثوري ، وغير واحد.
وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن إبراهيم ، حيث قال في دعائه : { فَاجْعَلْ
أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } [ إبراهيم : 37 ] فليس أحد من أهل
الإسلام إلا وهو يحن إلى رؤية الكعبة والطواف ، فالناس يقصدونها من سائر الجهات
والأقطار.
{ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا
وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا
نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) }.
قال ابن عباس : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } قال : منافع الدنيا والآخرة ؛
أما منافع الآخرة فرضوان الله ، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البُدْن
والربح (3) والتجارات. وكذا قال مجاهد ، وغير واحد : إنها منافع الدنيا والآخرة ،
كقوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ } [
البقرة : 198 ].
__________
(1) في ف : "بطوله".
(2) تفسير الطبري (17/106).
(3) في ت ، ف ، أ : "والذبائح".
(5/414)
وقوله : {
وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ [ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ] (1) عَلَى مَا
رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ } قال شعبة [وهُشَيْم] (2) عن [أبي بشر عن
سعيد] (3) عن ابن عباس : الأيام المعلومات : أيام العشر ، وعلقه البخاري عنه بصيغة
الجزم به (4). ويروى مثله عن أبي موسى الأشعري ، ومجاهد ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ،
والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، وإبراهيم النَّخعي. وهو مذهب
الشافعي ، والمشهور عن أحمد بن حنبل.
وقال البخاري : حدثنا محمد بن عَرْعَرَة ، حدثنا شعبة ، عن سليمان ، عن مسلم
البَطِين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"ما العمل في أيام أفضل منها في هذه" قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله ؟
قال : "ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجل ، يخرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع
بشيء".
ورواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه (5). وقال الترمذي : حديث
حسن غريب صحيح. وفي الباب عن ابن عمر ، وأبي هريرة ، وعبد الله بن عمرو ، وجابر.
قلت : وقد تقصيت هذه الطرق ، وأفردت لها جزءًا على حدته (6) ، فمن ذلك ما قال
الإمام أحمد : حدثنا عَفَّان ، أنبأنا أبو عَوَانة ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن
مجاهد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من أيام
أعظم عند الله ولا أحب إليه العملُ فيهن ، من هذه الأيام العشر ، فأكثروا فيهم من
التهليل والتكبير والتحميد" (7) وروي من وجه آخر ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ،
بنحوه (8). وقال البخاري : وكان ابن عمر ، وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام
العشر ، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما (9).
وقد روى أحمد عن جابر مرفوعا : أن هذا هو العشر الذي أقسم الله به في قوله : {
وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ } [ الفجر : 1 ، 2 ] (10).
وقال بعض السلف : إنه المراد بقوله : { وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ } [ الأعراف :
142 ].
وفي سنن أبي داود : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم هذا العشر (11).
وهذا العشر مشتمل على يوم عرفة الذي ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة قال : سئل رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة ، فقال : "أحتسب على الله أن يكفر
السنة الماضية والآتية" (12).
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) صحيح البخاري (2/457) "فتح".
(5) صحيح البخاري برقم (969) وسنن أبي داود برقم (2438) وسنن الترمذي برقم (757)
وسنن ابن ماجه برقم (1727).
(6) سماه : "الأحاديث الواردة في فضل الأيام العشرة من ذي الحجة".
(7) المسند (2/75).
(8) رواه أبو عوانة - كما في إرواء الغليل (39813) عن الحافظ ابن حجر - من طريق
موسى بن أبي عائشة عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(9) صحيح البخاري (2/457) "فتح".
(10) المسند (3/327).
(11) سنن أبي داود برقم (2437).
(12) صحيح مسلم برقم (1162) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
(5/415)
ويشتمل على
يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر ، وقد ورد في حديث أنه أفضل الأيام عند الله
(1).
وبالجملة ، فهذا العشر قد قيل : إنه أفضل أيام السنة ، كما نطق به الحديث ، ففضله
كثير على عشر رمضان الأخير ؛ لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك ، من صيام وصلاة
وصدقة وغيره ، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه.
وقيل : ذاك أفضل لاشتماله على ليلة القدر ، التي هي خير من ألف شهر.
وتوسط آخرون فقالوا : أيام هذا أفضل ، وليالي ذاك أفضل. وبهذا يجتمع شمل الأدلة ،
والله أعلم.
قول ثان في الأيام المعلومات : قال الحكم ، عن مِقْسَم ، عن ابن عباس : الأيام
المعلومات : يوم النحر وثلاثة أيام بعده. ويروى هذا عن ابن عمر ، وإبراهيم
النَّخَعي ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل في رواية عنه.
قول ثالث : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن المديني ، حدثنا يحيى بن
سعيد ، حدثنا ابن عَجْلان ، حدثني نافع ؛ أن ابن عمر كان يقول : الأيام المعلومات
والمعدودات هن جميعهن أربعة أيام ، فالأيام المعلومات يوم النحر ويومان بعده ،
والأيام المعدودات ثلاثة أيام يوم النحر.
هذا إسناد صحيح إليه ، وقاله (2) السدي : وهو مذهب الإمام مالك بن أنس ، ويعضد هذا
القول والذي قبله قوله تعالى : { عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ
} يعني به : ذكر الله عند ذبحها.
قول رابع : إنها يوم عرفة ، ويوم النحر ، ويوم آخر بعده. وهو مذهب أبي حنيفة.
وقال ابن وهب : حدثني (3) ابن زيد بن أسلم ، عن أبيه أنه قال : المعلومات يوم عرفة
، ويوم النحر ، وأيام التشريق.
وقوله : { عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ } يعني : الإبل والبقر
والغنم ، كما فصلها تعالى في سورة الأنعام وأنها { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } الآية
[ الأنعام : 143 ].
وقوله { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } استدل بهذه الآية
من ذهب إلى وجوب الأكل من الأضاحي وهو قول غريب ، والذي عليه الأكثرون أنه من باب
الرخصة أو الاستحباب ، كما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نحر هديه أمر
من كل بدنة ببضعة فتطبخ ، فأكل من لحمها ، وحسا من مرقها (4).
وقال عبد الله بن وهب : [قال لي مالك : أحب أن يأكل من أضحيته ؛ لأن الله يقول : {
فَكُلُوا مِنْهَا } : قال ابن وهب] (5) وسألت الليث ، فقال لي مثل ذلك.
__________
(1) رواه أحمد في المسند (4/350) وأبو داود في السنن برقم (1765) من حديث عبد الله
بن قرط رضي الله عنه.
(2) في ت : "وقال".
(3) في ت ، ف : "وقال ابن وهب وحدثني".
(4) رواه مسلم في صحيحه برقم (1218) من حديث جابر رضي الله عنه.
(5) زيادة من ف ، أ.
(5/416)
وقال سفيان
الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم : { فَكُلُوا مِنْهَا } قال : كان المشركون لا
يأكلون من ذبائحهم فرخص للمسلمين ، فمن شاء أكل ، ومن شاء لم يأكل. وروي عن مجاهد
، وعطاء نحو ذلك.
قال هُشَيْم ، عن حُصَين ، عن مجاهد في قوله { فَكُلُوا مِنْهَا } : هي كقوله : {
وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } [ المائدة : 2 ] ، { فَإِذَا قُضِيَتِ (1)
الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ } [ الجمعة : 10 ].
وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره ، واستدل من نصر القول بأن الأضاحي يتصدق منها
بالنصف بقوله في هذه الآية : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ
الْفَقِيرَ } ، فجزأها نصفين : نصف للمضحي ، ونصف للفقراء.
والقول الآخر : أنها تجزأ ثلاثة أجزاء : ثلث له ، وثلث يهديه ، وثلث يتصدق به ؛
لقوله في الآية الأخرى : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ
وَالْمُعْتَرَّ } [ الحج : 36 ] وسيأتي الكلام عليها عندها ، إن شاء الله ، وبه
الثقة.
وقوله : { الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } ، قال عكرمة : هو المضطر الذي عليه البؤس ،
[والفقير] (2) المتعفف.
وقال مجاهد : هو الذي لا يبسط يده. وقال قتادة : هو الزّمِن. وقال مقاتل بن حيان :
هو الضرير.
وقوله : { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } : قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس :
هو وضع [الإحرام] (3) من حلق الرأس ولبس الثياب وقص الأظفار ، ونحو ذلك. وهكذا روى
عطاء ومجاهد ، عنه. وكذا قال عكرمة ، ومحمد بن كعب القُرَظي.
وقال عكرمة ، عن ابن عباس : { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } قال : التفث :
المناسك.
وقوله : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } ، قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني
: نحر ما نذر من أمر البُدن.
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } : (4) نذر الحج
والهدي وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحج.
وقال إبراهيم بن مَيْسَرَة ، عن مجاهد : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } قال :
الذبائح.
وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } كل نذر إلى أجل.
وقال عكرمة : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } ، قال : [ حجهم.
وكذا روى الإمام ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان في
قوله : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } قال : ] (5) نذر الحج ، فكل من دخل الحج فعليه
من العمل فيه : الطواف بالبيت
__________
(1) في ت : "قضيتم".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) زيادة من ت ، ف ، أ.
(5) زيادة من ت ، ف ، أ".
(5/417)
وبين الصفا
والمروة ، وعرفة ، والمزدلفة ، ورمي الجمار ، على ما أمروا به. وروي عن مالك نحو
هذا.
وقوله : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } : قال مجاهد : يعني : الطواف
الواجب يوم النحر.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن أبي
حمزة قال : قال لي ابن عباس : أتقرأ سورة الحج ؟ يقول (1) الله : {
وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } ، فإن آخر المناسك الطواف بالبيت.
قلت : وهكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه لما رجع إلى منى يوم النحر
بدأ يرمي الجمرة ، فرماها بسبع حصيات ، ثم نحر هديه ، وحلق رأسه ، ثم أفاض فطاف
بالبيت. وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت
الطواف ، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (2).
وقوله : { بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } : فيه مستدل لمن ذهب إلى أنه يجب الطواف من
وراء الحجر ؛ لأنه من أصل (3) البيت الذي بناه إبراهيم ، وإن كانت قريش قد أخرجوه
من البيت ، حين قصرت بهم النفقة ؛ ولهذا طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء
الحِجْر ، وأخبر أن الحجر من البيت ، ولم يستلم الركنين الشاميين ؛ لأنهما لم
يتمما على قواعد إبراهيم العتيقة ؛ ولهذا قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر العَدَني ، حدثنا سفيان ، عن هشام بن حُجْر ، عن
رجل ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ
الْعَتِيقِ } ، طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه (4).
وقال قتادة ، عن الحسن البصري في قوله : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ
الْعَتِيقِ } [قال] (5) : لأنه أول بيت وضع للناس. وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم.
وعن عكرمة أنه قال : إنما سمي البيت العتيق ؛ لأنه أعتق يوم الغرق زمان نوح.
وقال خَصِيف : إنما سمي البيت العتيق ؛ لأنه لم يظهر عليه جبار قط.
وقال ابن أبي نَجِيح وليث عن مجاهد : أعتق من الجبابرة أن يسلطوا عليه. وكذا قال
قتادة.
وقال حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن بن مسلم ، عن مجاهد : لأنه لم يُرِده أحد
بسوء إلا هلك.
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الزهري ، عن ابن الزبير قال : إنما سمي البيت
العتيق ؛ لأن الله أعتقه من الجبابرة (6).
وقال الترمذي : حدثنا محمد بن إسماعيل وغير واحد ، حدثنا عبد الله بن صالح ،
أخبرني
__________
(1) في ت : "فيقول".
(2) صحيح البخاري برقم (329) وصحيح مسلم برقم (1328) من حديث ابن عباس رضي الله
عنهما.
(3) في أ : "داخل".
(4) ورواه ابن مردوية في تفسيره كما في الدر المنثور (6/41).
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) تفسير عبد الرزاق (2/32).
(5/418)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
الليث ، عن
عبد الرحمن بن خالد ، عن ابن شهاب ، عن محمد بن عروة ، عن عبد الله بن الزبير قال
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنما سمي البيت العتيق ؛ لأنه لم يظهر
عليه جبار".
وكذا رواه ابن جرير ، عن محمد بن سهل النجاري (1) ، عن عبد الله بن صالح ، به (2).
وقال : إن كان صحيحًا وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، ثم رواه من وجه آخر عن
الزهري ، مرسلا (3).
{ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ
وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) }
__________
(1) في ف : "المحاربي".
(2) سنن الترمذي برقم (3170) وفيه "هذا حديث حسن صحيح" وأظنه خطأ.
(3) صحيح البخاري برقم (2654) وصحيح مسلم برقم (87).
(5/419)
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
{ حُنَفَاءَ
لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ
مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ
سَحِيقٍ (31) }.
يقول تعالى : هذا الذي أمرنا به من الطاعات في أداء المناسك ، وما لفاعلها من
الثواب الجزيل.
{ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ } أي : ومن يجتنب معاصيه ومحارمه ويكون
ارتكابها عظيما في نفسه ، { فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ } أي : فله على ذلك
خير كثير وثواب جزيل ، فكما على فعل الطاعات ثواب جزيل وأجر كبير ، وكذلك على ترك المحرمات
و[اجتناب] (1) المحظورات.
قال ابن جريج : قال مجاهد في قوله : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ
} قال : الحرمة : مكة والحج والعمرة ، وما نهى الله عنه من معاصيه كلها. وكذا قال
ابن زيد.
وقوله : { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } أي :
أحللنا (2) لكم جميع الأنعام ، وما جعل الله من بحيرة ، ولا سائبة ، ولا وصيلة ،
ولا حام.
وقوله : { إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } أي : من تحريم { الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ
وَلَحْمُ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ
وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ [إِلا
مَا ذَكَّيْتُمْ] (3) } الآية [ المائدة : 3 ] ، قال ذلك ابن جرير ، وحكاه عن
قتادة.
وقوله : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ
} : "من" هاهنا لبيان الجنس ، أي : اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان. وقرن
الشرك بالله (4) بقول الزور ، كقوله : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ
الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ
الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ
تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 ] ، ومنه شهادة
الزور. وفي الصحيحين عن أبي بَكْرَة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟" قلنا : بلى ، يا رسول الله. قال : "الإشراك
بالله وعقوق الوالدين - وكان متكئا فجلس ، فقال : - ألا وقول الزور ، ألا وشهادة
الزور". فما زال يكررها ، حتى قلنا : ليته سكت (5).
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت : "أحلت".
(3) زيادة من ت ، ف ، أ.
(4) في أ : "به".
(5) صحيح البخاري برقم (2654) وصحيح مسلم برقم (87).
(5/419)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
وقال الإمام
أحمد : حدثنا مروان بن معاوية الفزاري ، أنبأنا سفيان بن زياد ، عن فاتك بن فضالة
، عن أيمن بن خريم قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا فقال : "يا
أيها الناس ، عدلت شهادة الزور إشراكا بالله" ثلاثا ، ثم قرأ : {
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ }
وهكذا رواه الترمذي ، عن أحمد بن منيع ، عن مروان بن معاوية ، به (1) ثم قال :
"غريب ، إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد. وقد اختلف عنه في رواية هذا
الحديث ، ولا نعرف لأيمن بن خريم سماعا من النبي صلى الله عليه وسلم".
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا سفيان العُصْفُرِيّ ، عن أبيه
، عن حبيب ابن النعمان الأسدي ، عن خريم بن فاتك (2) الأسدي قال : صلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم الصبح ، فلما انصرف قام قائما فقال : "عدلت شهادة الزور
الإشراك بالله ، عز وجل" ، ثم تلا هذه الآية : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ
مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ
مُشْرِكِينَ بِهِ } (3).
وقال سفيان الثوري ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن وائل بن ربيعة ، عن ابن مسعود أنه
قال : تعدل شهادة الزور بالشرك بالله ، ثم قرأ هذه الآية (4).
وقوله : { حُنَفَاءَ لِلَّهِ } أي : مخلصين له الدين ، منحرفين عن الباطل قصدا إلى
الحق ؛ ولهذا قال { غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ }
ثم ضرب للمشرك مثلا في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى فقال : { وَمَنْ يُشْرِكْ
بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ } أي : سقط منها ، { فَتَخْطَفُهُ
الطَّيْرُ } ، أي : تقطعه الطيور في الهواء ، { أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي
مَكَانٍ سَحِيقٍ } أي : بعيد مهلك لمن هوى فيه ؛ ولهذا جاء في حديث البراء :
"إن الكافر إذا توفته ملائكة الموت ، وصعدوا بروحه إلى السماء ، فلا تفتح له
أبواب السماء ، بل تطرح روحه طرحا من هناك". ثم قرأ هذه الآية ، وقد تقدم
الحديث في سورة "إبراهيم" (5) بحروفه وألفاظه وطرقه.
وقد ضرب [الله] (6) تعالى للمشرك مثلا آخر في سورة "الأنعام" ، وهو قوله
: { قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا
وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي
اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ
إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [وَأُمِرْنَا
لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ] (7) } [ الأنعام : 71 ].
{ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ
(32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى
الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) }.
__________
(1) المسند (4/178) وسنن الترمذي برقم (2299).
(2) في ت : "مقاتل".
(3) المسند (4/321).
(4) تفسير الطبري (17/112).
(5) انظر تفسير الآية : 27
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من ف ، أ ، وفي الأصل : "الآية".
(5/420)
يقول تعالى
: هذا { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ } أي : أوامره ، { فَإِنَّهَا مِنْ
تَقْوَى الْقُلُوبِ } ومن ذلك تعظيم الهدايا والبدن ، كما قال الحكم ، عن مقْسَم ،
عن ابن عباس : تعظيمها : استسمانها واستحسانها.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشجّ ، حدثنا حفص بن غياث ، عن ابن أبي ليلى
، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ
شَعَائِرَ اللَّهِ } قال : الاستسمان والاستحسان والاستعظام.
وقال أبو أمامة بن سهل : كنا نسمن الأضحية بالمدينة ، وكان المسلمون يُسمّنون.
رواه البخاري (1).
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "دم عفراءَ أحبّ إلى
الله من دم سَوداوين". رواه أحمد ، وابن ماجه (2).
قالوا : والعفراء هي البيضاء بياضًا ليس بناصع ، فالبيضاء أفضل من غيرها ، وغيرها
يجزئ أيضا ؛ لما ثبت في صحيح البخاري ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ضحى بكبشين أملحين أقرنين (3).
وعن أبي سعيد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش أقرن فَحيل (4) يأكل في
سواد ، وينظر في سواد ، ويمشي في سواد.
رواه أهل السنن ، وصححه الترمذي (5) ، أي : بكبش أسود (6) في هذه الأماكن.
وفي سنن ابن ماجه ، عن أبي رافع : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين
عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوءين (7). قيل : هما الخَصِيَان. وقيل : اللذان
رُضَّ خُصْياهما ، ولم يقطعهما (8) ، والله أعلم.
وكذا روى أبو داود وابن ماجه عن جابر : ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين
أقرنين أملحين موجوءين [والموجوءين قيل : هما الخصيين] (9) (10).
وعن علي رضي الله عنه ، قال : أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف
العين والأذن ، وألا نضحي بمقابَلَة ، ولا مدابَرَة ، ولا شَرْقاء ، ولا خَرْقاء.
رواه أحمد ، وأهل السنن ، وصححه الترمذي (11).
ولهم عنه ، قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نُضحي (12) بأعضب القرن
والأذن (13).
__________
(1) صحيح البخاري (10/9) "فتح" معلقا.
(2) المسند (2/417) ولم يقع لي في سنن ابن ماجه.
(3) صحيح البخاري برقم (5558).
(4) في ف : "فحل".
(5) سنن أبي داود برقم (2796) وسنن الترمذي برقم (1496) وسنن النسائي (7/221) وسنن
ابن ماجه برقم (3128).
(6) في أ : "فيه نكتة سوداء".
(7) لم يقع في سنن ابن ماجه من حديث أبي رافع وإنما من حديث عائشة وأبي هريرة برقم
(3122) وحديث أبي رافع رواه أحمد في المسند (6/8).
(8) في ت : "ولم يقطعها"
(9) زيادة من من ت ، ف ، أ.
(10) سنن أبي داود برقم (2795).
(11) المسند (1/80) ، وسنن أبي داود برقم (2804) وسنن الترمذي برقم (1498) وسنن
النسائي (7/217) وسنن ابن ماجه برقم (3142).
(12) في ت : "يضحي".
(13) المسند (1/83) وسنن أبي داود برقم (2805) وسنن الترمذي برقم (1504) وسنن
النسائي (7/217) وسنن ابن ماجه برقم (3145).
(5/421)
وقال سعيد
بن المسيب : العضب : النصْف فأكثر.
وقال بعض أهل اللغة : إن كُسر قرنها الأعلى فهي قصماء ، فأما العَضْب فهو كسر
الأسفل ، وعضب الأذن قطع بعضها.
وعند الشافعي أن التضحية بذلك مجزئة ، لكن تكره.
وقال [الإمام] (1) أحمد : لا تجزئ الأضحية بأعضب القرن والأذن ؛ لهذا الحديث.
وقال مالك : إن كان الدم يسيل من القرن لم يجزئ ، وإلا أجزأ ، والله أعلم.
وأما المقابلة : فهي التي قطع مقدم أذنها ، والمدابرة : من مؤخر أذنها. والشرقاء :
هي التي قطعت أذنها طولا قاله الشافعي. والخرقاء : هي التي خَرَقت السّمَةُ أذنها
خرقا مُدَوّرًا ، والله أعلم.
وعن البراء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أربع لا تجوز في
الأضاحي : العوراء البيّن عَوَرها ، والمريضة البين مَرَضها ، والعرجاء البين
ظَلَعها (2) ، والكسيرة التي لا تُنقِي".
رواه أحمد ، وأهل السنن ، وصححه الترمذي (3).
وهذه العيوب تنقص اللحم ، لضعفها وعجزها عن استكمال الرعي ؛ لأن الشاء يسبقونها
إلى المرعى ، فلهذا لا تجزئ التضحية (4) بها عند الشافعي وغيره من الأئمة ، كما هو
ظاهر الحديث.
واختلف قول الشافعي في المريضة مرضًا يسيرًا ، على قولين.
وروى أبو داود ، عن عُتبة بن عبد السّلَمي ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى
عن المُصْفَرَةِ ، والمستأصَلَة ، والبَخْقاء ، والمشيَّعة ، والكسراء (5) (6).
فالمصفرة قيل : الهزيلة. وقيل : المستأصلة الأذنُ. والمستأصلة : المكسورة القرن.
والبخقاء : هي العوراء. والمشيعة : هي التي لا تزال تُشَيَّع خَلفَ الغنم ، ولا
تَتْبَع لضعفها. والكسراء : العرجاء.
فهذه العيوب كلها مانعة [من الإجزاء ، فإن طرأ العيب] (7) بعد تعيين الأضحية فإنه
لا يضر عيبه عند الشافعي خلافا لأبي حنيفة.
وقد روى الإمامُ أحمد ، عن أبي سعيد قال : اشتريت كبشا أضحي به ، فعدا الذئب فأخذ
الألية. فسألت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : "ضَحِّ به" (8) ولهذا
[جاء] (9) في الحديث : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين
والأذن. أي : أن تكون
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت ، أ : "عرجها".
(3) المسند (4/284) وسنن أبي داود برقم (2802) وسنن الترمذي برقم (1497) وسنن
النسائي (7/215) وسنن ابن ماجه برقم (3144).
(4) في أ : "الأضحية".
(5) في أ : "الكسرة".
(6) سنن أبي داود برقم (2803).
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) المسند (3/32).
(9) زيادة من أ.
(5/422)
الهدية أو
الأضحية سمينة حسنة ثمينة ، كما رواه الإمام أحمد وأبو داود ، عن عبد الله بن عمر
قال : أهدى عمر نَجيبًا ، فأعطى بها ثلاثمائة دينار ، فأتى النبي صلى الله عليه
وسلم فقال : يا رسول الله ، إني أهديت نجيبًا ، فأعطِيتُ بها ثلاثمائة دينار ،
أفأبيعها وأشتري بثمنها بدْنًا ؟ قال : "لا انحرها إياها" (1).
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : البدن من شعائر الله.
وقال محمد بن أبي موسى : الوقوف ومزدلفة والجمار والرمي والبدن والحلق : من شعائر
الله.
وقال ابن عمر : أعظم الشعائر البيت.
قوله : { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } أي : لكم في البدن منافع ، من لبنها ، وصوفها
وأوبارها وأشعارها ، وركوبها.
{ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } : قال مِقْسَم ، عن ابن عباس [في قوله] (2) : { لَكُمْ
فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } قال : ما لم يسم بدنا.
وقال مجاهد في قوله : { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } ، قال :
الركوب واللبن والولد ، فإذا سُمّيت بَدنَةً أو هَديًا ، ذهب ذلك كله. وكذا قال
عطاء ، والضحاك ، وقتادة ، [ومقاتل] (3) وعطاء الخراساني ، وغيرهم.
وقال آخرون : بل له أن ينتفع بها وإن كانت هديا ، إذا احتاج إلى ذلك ، كما ثبت في
الصحيحين عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدَنَةً ، قال :
"اركبها". قال : إنها بَدنَة. قال : "اركبها ، ويحك" ، في
الثانية أو الثالثة (4).
وفي رواية لمسلم ، عن جابر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
"اركبها بالمعروف إذا ألجئتَ إليها" (5).
وقال شعبة ، عن زهير بن أبي ثابت الأعمى ، عن المغيرة بن حَذْف ، عن علي ؛ أنه رأى
رجلا يسوق بدنة ومعها ولدها ، فقال : لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها ، فإذا
كان يوم النحر فاذبحها وولدَها.
وقوله : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } أي : مَحِل الهدي
وانتهاؤه إلى البيت العتيق ، وهو الكعبة ، كما قال تعالى : { هَدْيًا بَالِغَ
الْكَعْبَةِ } [ المائدة : 95 ] ، وقال { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ
مَحِلَّهُ } [ الفتح : 25].
وقد تقدم الكلام على معنى "البيت العتيق" قريبا ، ولله الحمد (6).
وقال ابن جُرَيْج ، عن عطاء : كان ابن عباس يقول : كل من طاف بالبيت ، فقد حل ،
قال الله تعالى : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ }
__________
(1) المسند (2/145) وسنن أبي داود برقم (1756).
(2) زيادة من ت ، ف ، أ.
(3) زيادة من ت ، ف ، أ.
(4) صحيح البخاري برقم (1690) وصحيح مسلم برقم (1323).
(5) صحيح مسلم برقم (1323).
(6) في ت : "والله أعلم".
(5/423)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
{ وَلِكُلِّ
أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ
مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا
وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ
قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) }.
يخبر تعالى أنه لم يَزَل ذبحُ المناسك وإراقةُ الدماء على اسم الله مشروعًا في
جميع الملل.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا }
قال : عيدًا.
وقال عكرمة : ذبحا. وقال زيد بن أسلم في قوله : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا
مَنْسَكًا } ، إنها مكة ، لم يجعل الله لأمة قط منسكا غيرها.
[وقوله] (1) : { لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ
الأنْعَامِ } ، كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بكبشين أملحين أقرنين ، فسمَّى وكبر ، ووضع رجله على صِفَاحهما (2).
وقال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا سَلام بن مسكين ، عن
عائذ الله المجاشعي ، عن أبي داود - وهو نُفَيْع بن الحارث - عن زيد بن أرقم قال :
قلت - أو : قالوا - : يا رسول الله ، ما هذه الأضاحي ؟ قال : "سنة أبيكم
إبراهيم". قالوا : ما لنا منها ؟ قال : "بكل شعرة حسنة" قالوا :
فالصوف ؟ قال : "بكل شعرة من الصوف حسنة".
وأخرجه الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد ابن ماجه في سننه ، من حديث سلام بن
مسكين ، به (3).
وقوله : { فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا } أي : معبودكم واحد ،
وإن تَنوّعَت شرائع الأنبياء ونَسخَ بعضها بعضًا ، فالجميع يدعون إلى عبادة الله
وحده ، لا شريك له ، { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي
(4) إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } (5) [ الأنبياء : 25].
ولهذا قال : { فَلَهُ أَسْلِمُوا } أي : أخلصوا واستسلموا لحُكْمه وطاعته.
{ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ } : قال مجاهد : المطمئنين ، وقال الضحاك ، وقتادة :
المتواضعين. وقال السدي : الوجلين. وقال عمرو بن أوس (6) : المخبتون (7) : الذين
لا يَظلمون ، وإذا ظُلموا لم ينتصروا.
وقال الثوري : { وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ } قال : المطمئنين الراضين بقضاء الله ،
المستسلمين له.
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) صحيح البخاري برقم (5558) وصحيح مسلم برقم (1966).
(3) المسند (4/368).
(4) في ت ، أ : "يوحى".
(5) في ت : "فاعبدوني".
(6) في ت ، ف ، أ : "إدريس".
(7) في ت : "المختبتين".
(5/424)
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
وأحسن ما
يفسّر بما بعده وهو قوله : { الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
} أي : خافت منه قلوبُهم ، { وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ } أي : من
المصائب.
قال الحسن البصري : والله لتصبرنّ أو لتهلكنّ.
{ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ } : قرأ الجمهور بالإضافة. السبعةَ ، وبقيةَ العشرة
أيضا. وقرأ ابن (1) السَّمَيْقَع : "والمقيمينَ الصلاة" بالنصب.
وقال الحسن البصري : { وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ } ، وإنما حذفت النون هاهنا تخفيفا
، ولو حذفت للإضافة لوجب خفض الصلاة ، ولكن على سبيل التخفيف فنصبت.
أي : المؤدين حق الله فيما أوجب عليهم من أداء فرائضه ، { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ } أي : وينفقون ما آتاهم الله من طيب الرزق على أهليهم وأرقائهم
وقراباتهم ، وفقرائهم ومحاويجهم ، ويحسنون إلى خلق الله مع محافظتهم على حدود
الله. وهذه بخلاف صفات المنافقين ، فإنهم بالعكس من هذا كله ، كما تقدم تفسيره في
سورة "براءة" [فلله الحمد والمنة] (2) (3).
{ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ
فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا
مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) }.
يقول تعالى ممتنا على عباده فيما خلق لهم من البدن ، وجعلها من شعائره ، وهو أنه
جعلها تهدى إلى بيته الحرام ، بل هي أفضل ما يهدى [إلى بيته الحرام] (4) ، كما قال
تعالى : { لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا
الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ [وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ
فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا] (5) } الآية : [ المائدة : 2 ].
قال ابن جُرَيج : قال عطاء في قوله : { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ
شَعَائِرِ اللَّهِ } ، قال : البقرة ، والبعير. وكذا رُوي عن ابن عمر ، وسعيد بن
المسيب ، والحسن البصري. وقال مجاهد : إنما البدن من الإبل.
قلت : أما إطلاق البَدَنة على البعير فمتفق عليه ، واختلفوا في صحة إطلاق البدنة
على البقرة ، على قولين ، أصحهما أنه يطلق عليها ذلك شرعا كما صح في الحديث.
ثم جمهور العلماء على أنه تُجزئ البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة ، كما ثبت به
الحديث عند مسلم ، من رواية جابر بن عبد الله [وغيره] (6) ، قال : أمرنا رسولُ
الله صلى الله عليه وسلم أن نشتركَ في الأضاحي ،
__________
(1) في ت : "أبو".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) انظر تفسير الآية : 67.
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من أ.
(5/425)
البدنةُ عن
سبعة ، والبقرة عن سبعة (1).
[وقال إسحاق بنُ رَاهَويه وغيره : بل تُجزئ البقرة عن سبعة ، والبعير عن عشرة]
(2). وقد ورد به حديث في مسند الإمام أحمد ، وسنن النسائي ، وغيرهما (3) ، فالله
أعلم.
وقوله : { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } ، أي : ثواب في الدار الآخرة.
وعن سليمان بن يزيد الكعبي ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال : "ما عَمِل ابن آدم يوم النحر عملا أحبّ إلى
الله من هِرَاقه دم ، وإنه لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها ، وإن
الدم ليقع من الله بمكان ، قبل أن يقع على الأرض ، فطِيبُوا بها نفسا". رواه
ابن ماجه ، والترمذي وحَسنه (4).
وقال سفيان الثوري : كان أبو حاتم (5) يستدين ويسوق البُدْن ، فقيل له : تستدين
وتسوق البدن ؟ فقال : إني سمعت الله يقول : { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ }
وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما أنفقت الوَرقَ في
شيء أفضلَ من نحيرة في يوم عيد". رواه الدارقطني في سننه (6).
وقال مجاهد : { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } قال : أجر ومنافع.
وقال إبراهيم النَّخَعِيّ : يركبها ويحلبها إذا احتاج إليها.
وقوله : { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ } وعن [المطلب بن عبد
الله بن حنطب ، عن] (7) جابر ابن عبد الله قال : صليتُ مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم عيدَ الأضحى ، فلما انصرف أتى بكبش فذبحه ، فقال : "بسم الله والله أكبر
، اللهم هذا عني وعمن لم يُضَحِّ من أمتي".
رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي (8).
وقال محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن ابن عباس ، عن جابر قال : ضحّى رسول
الله صلى الله عليه وسلم بكبشين في يوم عيد ، فقال حين وجههما : "وجهت وجهي
للذي فطر السموات والأرض حنيفًا مسلمًا ، وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونسكي
ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له ، وبذلك أمرت ، وأنا أول المسلمين ،
اللهم منك ولك ، وعن محمد وأمته". ثم سمى الله وكبر
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1318).
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) المسند (1/275) وسنن النسائي (7/222) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال :
"كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فحضر النحر فاشتركنا في البعير
عن عشرة والبقرة عن سبعة".
(4) سنن الترمذي برقم (1493) وسنن ابن ماجه برقم (3126).
(5) في أ : "أبو حازم".
(6) سنن الدارقطني (4/282) من طريق إبراهيم بن يزيد عن عمرو بن دينار عن طاوس عن
ابن عباس.
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) المسند (3/356) وسنن أبي داود برقم (2810) وسنن الترمذي برقم (1521) وقال
الترمذي : "هذا حديث غريب من هذا الوجه".
(5/426)
وذبح (1).
وعن علي بن الحسين ، عن أبي رافع ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحى
اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين ، فإذا صلى وخطب الناس أتى (2) بأحدهما وهو قائم
في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية (3) ، ثم يقول : "اللهم هذا عن أمتي جميعها ،
مَنْ شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ". ثم يُؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه ، ثم
يقول : "هذا عن محمد وآل محمد" فيُطعمها جميعًا المساكين ، [ويأكل] (4)
هو وأهله منهما.
رواه أحمد ، وابن ماجه (5).
وقال الأعمش ، عن أبي ظِبْيَان ، عن ابن عباس في قوله : { فَاذْكُرُوا اسْمَ
اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ } ، قال : قيام على ثلاث قوائم ، معقولة يدُها اليسرى
، يقول : "بسم الله والله أكبر (6) ، اللهم منك ولك". وكذلك روى مجاهد ،
وعلي بن أبي طلحة ، والعَوْفي ، عن ابن عباس ، نحو هذا.
وقال ليث. عن مجاهد : إذا عُقلت رجلها اليسرى قامت على ثلاث. ورَوَى ابن أبي
نَجِيح ، عنه ، نحوه (7).
وقال الضحاك : تُعقل رجل (8) واحدة فتكون على ثلاث.
وفي الصحيحين عن ابن عمر : أنه أتى على رجل قد أناخ بَدَنته وهو ينحرها ، فقال :
ابعثها قيامًا مقيدة سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم (9).
وعن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه كانوا ينحَرون البُدْن
معقولةَ اليسرى ، قائمة على ما بقي من قوائمها. رواه أبو داود (10).
وقال ابن لَهِيعة : حدثني عطاء بن دينار ، أن سالم بن عبد الله قال لسليمان بن عبد
الملك : قفْ من شقها الأيمن ، وانْحَر من شقها الأيسر.
وفي صحيح مسلم ، عن جابر ، في صفة حجة الوَدَاع ، قال فيه : فنحر رسولُ الله صلى
الله عليه وسلم بيده ثلاثًا وستين بَدَنة ، جعل (11) يَطعَنُها بحَربة في يده
(12).
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة قال : في حرف ابن مسعود :
"صوافن" ، أي : مُعقَّلة (13) قياما (14).
__________
(1) تقدم تخريج الحديث عند تفسير الآية : 162 من سورة "الأنعام".
(2) في ت : "أمر".
(3) في ت ، أ : "بالمدينة".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) المسند (6/8) وتقدم الحديث في هذه السورة.
(6) في ف ، أ : "والله أكبر ، لا إله إلا الله".
(7) في أ : "نحو هذا".
(8) في ت ، ف : "يعقل يدا".
(9) صحيح البخاري برقم (1713) وصحيح مسلم برقم (1320).
(10) سنن أبي داود برقم (1767).
(11) في ت : "وجعل".
(12) صحيح مسلم برقم (1218).
(13) في ت ، أ : "معلقة".
(14) تفسير عبد الرزاق (2/33).
(5/427)
وقال سفيان
الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد : مَن قرأها "صوافن" قال : معقولة. ومن
قرأها { صَوَافَّ } قال : تصف بين يديها.
وقال طاوس ، والحسن ، وغيرهما : "فاذكروا اسم الله عليها صوافي" يعني :
خالصة لله عز وجل. وكذا رواه مالك ، عن الزهري.
وقال عبد الرحمن بن زيد : "صوافيَ" : ليس فيها شرك كشرك الجاهلية
لأصنامهم.
وقوله : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } قال : ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : يعني
: سقطت إلى الأرض.
وهو رواية عن ابن عباس ، وكذا قال مقاتل بن حيان.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } يعني : نحرت.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } يعني : ماتت.
وهذا القول هو مُرَادُ ابن عباس ومجاهد ، فإنه لا يجوز الأكل من البَدَنة (1) إذا
نُحرت حتى تموت وتَبْرد حركتها. وقد جاء في حديث مرفوع : "ولا تُعجِلُوا
النفوسَ أن تَزْهَق" (2). وقد رواه الثوري في جامعه ، عن أيوب ، عن يحيى ابن
أبي كثير ، عن فَرافصَة الحنفي ، عن عمر بن الخطاب ؛ أنه قال ذلك (3) ويؤيده حديث
شَدّاد بن أوس في صحيح مسلم : "إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم
فأحسنوا القِتْلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح (4) ولْيُحدَّ أحدكم شَفْرَته ،
ولْيُرِحْ ذَبِيحته" (5).
وعن أبي واقد الليثي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما قُطع من
البهيمة وهي حية ، فهو ميتة".
رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وصححه (6).
وقوله : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ َ } قال بعض
السلف (7) : قوله : { فَكُلُوا مِنْهَا } أمر إباحة.
وقال مالك : يستحب ذلك. وقال غيره : يَجِبُ. وهو وَجْه لبعض الشافعية. واختلف في
المراد بالقانع والمعتر ، فقال العوفي ، عن ابن عباس : القانع : المستغني بما
أعطيته ، وهو في بيته. والمعترّ : الذي يتعرض لك ، ويُلمّ بك أن تعطيه من اللحم ،
ولا يسأل. وكذا قال مجاهد ، ومحمد بن كعب القُرَظِيّ.
__________
(1) في ت : "البدن".
(2) رواه الدارقطني في السنن (4/283) من طريق سعيد بن سلام العطار عن عبد الله بن
بديل عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا وسعيد بن سلام العطار
كذبه أحمد وابن نمير ، وضعف البيهقي هذا الحديث في السنن الكبرى (9/278).
(3) ومن طريقه رواه البيهقي في السنن الكبرى (9/278).
(4) في ت : "الذبحة".
(5) صحيح مسلم برقم (1955).
(6) المسند (5/218) وسنن أبي داود برقم (2858) وسنن الترمذي برقم (1480).
(7) في أ : "الناس".
(5/428)
وقال علي بن
أبي طلحة ، عن ابن عباس : القانع : المتعفف. والمعتر : السائل. وهذا قولُ قتادة ،
وإبراهيم النَّخَعي ، ومجاهد في رواية عنه.
وقال ابن عباس ، وزيد بن أسلم وعِكْرِمَة (1) ، والحسن البصري ، وابن الكلبي ،
ومُقَاتِل بن حَيَّان ، ومالك بن أنس : القانع : هو الذي يَقْنع إليك ويسألك.
والمعتر : الذي يعتريك ، يتضرع ولا يسألك. وهذا لفظ الحسن.
وقال سعيد بن جبير : القانع : هو السائل ، ثم قال : أما سمعت قول الشَّمَّاخ.
لَمَالُ المَرْءِ يُصْلِحُه فَيُغْني... مَفَاقِرَه (2) ، أَعَفُّ مِنَ القُنُوع
(3)
قال : يعني من السؤال ، وبه قال ابن زيد.
وقال زيد بن أسلم : القانع : المسكين الذي يطوف. والمعتر : الصديق والضعيف (4)
الذي يزور. وهو رواية عن عبد الله (5) بن زيد أيضا.
وعن مجاهد أيضا : القانع : جارك الغني [الذي يبصر ما يدخل بيتك] (6) والمعتر :
الذي يعتريك (7) من الناس.
وعنه : أن القانع : هو الطامع. والمعتر : هو الذي يَعْتَر بالبُدْن من غني أو
فقير.
وعن عكرمة نحوه ، وعنه القانع : أهل مكة.
واختار ابنُ جرير أنّ القانع : هو السائل ؛ لأنه من أقنع بيده إذا رفعها للسؤال ،
والمعتر من الاعترار ، وهو : الذي يتعرض لأكل اللحم.
وقد احتج بهذه الآية الكريمة مَن ذهب من العلماء إلى أن الأضحية تُجزَّأ ثلاثة
أجزاء : فثلث لصاحبها يأكله [منها] (8) ، وثلث يهديه لأصحابه ، وثلث يتصدق به على
الفقراء ؛ لأنه تعالى قال : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ
وَالْمُعْتَرَّ }. وفي الحديث الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس
: "إني كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ، فكلوا وادخروا ما بدا
لكم" (9) وفي رواية : "فكلوا وادخروا وتصدقوا". وفي رواية :
"فكلوا وأطعموا وتصدقوا" (10).
والقول الثاني : إن المضحي يأكل النصف ويتصدق بالنصف ، لقوله في الآية المتقدمة :
{ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } [الحج : 28] ، ولقوله في
الحديث : "فكلوا وادخروا وتصدقوا".
فإن أكل الكل فقيل (11) : لا يضمن شيئا. وبه قال ابن سُرَيج من الشافعية.
__________
(1) في ف ، أ : "وعكرمة وزيد بن أسلم".
(2) في ت : "مفاقه".
(3) البيت في ديوانه (ص221) أ.هـ مستفادا من حاشية الشعب.
(4) في ت : "والضيف".
(5) في أ : "عن أبيه عبد الرحمن".
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) في أ : "يعتزل".
(8) زيادة من ت ، ف ، أ.
(9) صحيح مسلم برقم (977) من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه
(10) رواه مالك في الموطأ (2/484) من حديث جابر رضي الله عنه.
(11) في ت ، ف ، أ. "فقد فقيل".
(5/429)
وقال بعضهم
: يضمنها كلها بمثلها أو قيمتها. وقيل : يضمن نصفها. وقيل : ثلثها. وقيل : أدنى
جزء منها. وهو المشهور من مذهب الشافعي.
وأما الجلود ، ففي مسند أحمد عن قتادة ابن النعمان في حديث الأضاحي : "فكلوا
وتصدقوا ، واستمتعوا بجلودها ، ولا تبيعوها" (1).
ومن العلماء من رخص [في ذلك] (2) ، ومنهم من قال : يقاسم الفقراء ثمنها ، والله
أعلم.
[مسألة] (3).
عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أول ما نبدأ
(4) به في يومنا هذا أن نصلي ، ثم نرجع فننحر. فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ، ومن
ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم [عجله] (5) لأهله ، ليس من النسك في شيء" أخرجاه
(6).
فلهذا قال الشافعي وجماعة من العلماء : إن أول وقت الأضحى إذا طلعت الشمس يوم
النحر ، ومضى قدر صلاة العيد والخطبتين. زاد أحمد : وأن يذبح الإمام بعد ذلك ، لما
جاء في صحيح مسلم : وألا تذبحوا حتى يذبح الإمام" (7).
وقال أبو حنيفة : أما أهل السواد من القرى ونحوهم (8) ، فلهم أن يذبحوا بعد طلوع
الفجر ، إذ لا صلاة عيد (9) عنده لهم. وأما أهل الأمصار فلا يذبحوا حتى يصلي
الإمام ، والله أعلم.
ثم قيل : لا يشرع الذبح إلا يوم النحر وحده. وقيل : يوم النحر لأهل الأمصار ،
لتيسر (10) الأضاحي عندهم ، وأما أهل القرى فيوم النحر وأيام التشريق بعده ، وبه
قال سعيد بن جبير. وقيل : يوم النحر ، ويوم بعده للجميع. وقيل : ويومان بعده ، وبه
قال أحمد. وقيل : يوم النحر وثلاثة أيام التشريق بعده ، وبه قال الشافعي ؛ لحديث
جبير بن مطعم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "وأيام التشريق كلها
ذبح". رواه أحمد وابن حبان (11).
وقيل : إن وقت الذبح يمتد إلى آخر ذي الحجة ، وبه قال إبراهيم النَّخَعِيّ ، وأبو
سلمة بن عبد الرحمن. وهو قول غريب.
وقوله : { كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } : يقول تعالى
: من أجل هذا { سَخَّرْنَاهَا لَكُم } أي : ذللناها لكم ، أي : جعلناها منقادة لكم
خاضعة ، إن شئتم ركبتم ، وإن شئتم حلبتم ، وإن شئتم ذبحتم ، كما قال تعالى : {
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا
فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ. وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا
يَأْكُلُونَ. وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ } [ يس :
71 - 73 ] ،
__________
(1) المسند (4/15).
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في ت : "يبدأ
(5) زيادة من ت ، ف ، أ ، والبخاري ، وفي هـ : "يبديه".
(6) صحيح البخاري برقم (5545) وصحيح مسلم برقم (1961).
(7) لم يقع لي في مسلم هذا اللفظ وينظر صحيح مسلم (3/1551).
(8) في ف : "وغيرها".
(9) في أ : "عيد تشرع".
(10) في ف : "لتيسر".
(11) المسند (4/82).
(5/430)
لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
وقال في هذه
الآية الكريمة : { كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
{ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى
مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ
وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) }.
يقول تعالى : إنما شرع لكم نحر هذه الهدايا والضحايا ، لتذكروه عند ذبحها ، فإنه
الخالق الرازق (1) لا أنه يناله شيء من لحومها ولا دمائها ، فإنه تعالى هو الغني
عما سواه.
وقد كانوا في جاهليتهم إذا ذبحوها لآلهتهم وضعوا عليها من لحوم قرابتنهم ، ونضحوا
عليها من دمائها ، فقال تعالى : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا
دِمَاؤُهَا }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن أبي حماد ، حدثنا
إبراهيم بن المختار ، عن ابن جريج قال : كان أهل الجاهلية ينضحون البيت بلحوم
الإبل ودمائها ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : فنحن أحق أن ننضح ،
فأنزل الله : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ
التَّقْوَى مِنْكُمْ } أي : يتقبل ذلك ويجزي عليه.
كما جاء في الصحيح : "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم (2) ، ولكن
ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" (3) وما جاء في الحديث : "إن الصدقة تقع في
يد الرحمن قبل أن تقع في يد السائل ، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على
الأرض" كما تقدم الحديث. رواه (4) ابن ماجه ، والترمذي وحَسّنه عن عائشة
مرفوعا. فمعناه : أنه سيق لتحقيق القبول من الله لمن أخلص في عمله ، وليس له معنى
يتبادر عند العلماء المحققين سوى هذا ، والله أعلم.
وقال وَكِيع ، عن [يحيى] (5) بن مسلم أبي الضحاك : سألت عامرًا الشعبي عن جلود
الأضاحي ، فقال : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا } ، إن شئت
فبع ، وإن شئت فأمسك ، وإن شئت فتصدق.
وقوله : { كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ } أي : من أجل ذلك سخر (6) لكم البُدن ، {
لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } أي : لتعظموه كما هداكم لدينه وشرعه
وما يحبه ، وما يرضاه ، ونهاكم عن فعل ما يكرهه ويأباه.
وقوله : { وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ } أي : وبشر يا محمد المحسنين ، أي : في عملهم
، القائمين بحدود الله ، المتبعين ما شَرَع لهم ، المصدقين الرسولَ فيما أبلغهم
وجاءهم به من عند ربه عز وجل.
[مسألة] (7).
وقد ذهب أبو حنيفة ومالك والثوري إلى القول (8) بوجوب الأضحية على من ملك نصابا ،
وزاد
__________
(1) في ت ، ف : "الرزاق".
(2) في ت ، ف : "ألوانكم".
(3) صحيح مسلم برقم (2564).
(4) في ت : "ورواه".
(5) زيادة من ت.
(6) في ت ، ف : "سخرناها".
(7) زيادة من ف.
(8) في ت : "بالقول".
(5/431)
أبو حنيفة
اشتراط الإقامة أيضًا. واحتج لهم بما رواه أحمد وابن ماجه بإسناد رجاله كلهم ثقات
، عن أبي هريرة مرفوعا : "من وجد سَعَة فلم يُضَحِّ ، فلا يقربن
مُصَلانا" (1) على أن فيه غرابة ، واستنكره أحمد بن حنبل (2).
وقال ابن عمر : أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين يضحي. رواه الترمذي
(3).
وقال الشافعي ، وأحمد : لا تجب الأضحية ، بل هي مستحبة ؛ لما جاء في الحديث :
"ليس في المال حق سوى الزكاة" (4). وقد تقدم أنه ، عليه السلام (5) ضحى
عن أمته فأسقط ذلك وجوبها عنهم.
وقال أبو سَريحةَ : كنت جارًا لأبي بكر وعمر ، فكانا لا يضحيان خشية أن يقتدي
الناس بهما.
وقال بعض الناس : الأضحية سنة كفاية ، إذا قام بها واحد من أهل دار أو محلة ، سقطت
عن الباقين ؛ لأن المقصود إظهار الشعار.
وقد روى الإمام أحمد ، وأهل السنن - وحسنه الترمذي - عن مِخْنَف بن سليم ؛ أنه سمع
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعرفات : "على كل أهل بيت في كل عام أضحاة
وعَتِيرة ، هل تدرون ما العتيرة ؟ هي (6) التي تدعونها الرَّجبية". وقد تكلم
في إسناده (7).
وقال أبو أيوب : كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة
الواحدة عنه وعن أهل بيته ، يأكلون ويطعمون [حتى تباهي] (8) الناس فصار كما ترى.
رواه الترمذي وصححه ، وابن ماجه (9).
وكان عبد الله بن هشام يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله. رواه البخاري.
وأما مقدار سِنّ الأضحية ، فقد روى مسلم عن جابر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : "لا تذبحوا إلا مُسِنَّة ، إلا أن يعسر عليكم ، فتذبحوا جذعة من
الضأن" (10).
__________
(1) المسند (2/321) وسنن ابن ماجه برقم (3123).
(2) في إسناده عبد الله بن عياش ، قال البوصيري في الزوائد (3/50) : "وإن روى
له مسلم فإنما روى له في المتابعات والشواهد فقد ضعفه أبو داود والنسائي ، وقال
أبو حاتم ، وابن يونس : منكر الحديث وذكره ابن حبان في الثقات". ثم نقل عن
البيهقي أنه بلغه عن الترمذي : أن الصحيح عن أبي هريرة موقوف أ. هـ.
ويمكن أن يجاب بأن هذا الحديث لا يدل على الوجوب ، كما في حديث : "من أكل
الثوم فلا يقربن مصلانا" ذكر ذلك ابن الجوزي وهناك لا يلزم استنكاره.
(3) سنن الترمذي برقم (1507) وحسنه.
(4) رواه ابن ماجه في السنن برقم (1789) من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها.
(5) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(6) في ف ، أ : "قال : هي".
(7) المسند (4/125) وسنن أبي داود برقم (2788) وسنن الترمذي برقم (1518) وسنن
النسائي (7/167) وسنن ابن ماجه برقم (3125).
(8) زيادة من ت ، ف.
(9) سنن الترمذي برقم (1505) وسنن ابن ماجه برقم (3147).
(10) صحيح مسلم برقم (1963).
(5/432)
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
ومن هاهنا
ذهب الزهري إلى أن الجذَعَ لا يجزئ. وقابله الأوزاعي فذهب إلى أن الجَذَع يجزئ من
كل جنس ، وهما غريبان. وقال الجمهور : إنما يجزئ الثَّني من الإبل والبقر والمعز ،
والجذع من الضأن ، فأما الثني من الإبل : فهو الذي له خمس سنين ، ودخل في السادسة.
ومن البقر : ما له [سنتان] (1) ودخل في [الثالثة] (2) ، وقيل : [ما له] (3) ثلاث
[ودخل في] (4) الرابعة. ومن المعز : ما له سنتان. وأما الجذع من الضأن فقيل : ما له
سنة ، وقيل : عشرة أشهر ، وقيل : ثمانية أشهر ، وقيل : ستة أشهر ، وهو أقل ما قيل
في سِنِّه ، وما دونه فهو حَمَل ، والفرق بينهما : أن الحمل شعر ظهره قائم ،
والجذَع شعر ظهره نائم ، قد انعدل صدْعين ، والله أعلم.
{ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ
خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) }.
يخبر تعالى أنه يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه شر الأشرار وكيد
الفجار ، ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم ، كما قال تعالى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ
عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ] وقال : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ
حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ
قَدْرًا } [ الطلاق : 3 ].
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } أي : لا يحب من
عباده من اتصف بهذا ، وهو الخيانة في العهود والمواثيق ، لا يفي بما قال. والكفر
(5) : الجحد للنعم ، فلا يعترف بها.
__________
(1) زيادة من ف.
(2) زيادة من ف.
(3) زيادة من ف.
(4) زيادة من ف.
(5) في ت : "والكفور".
(5/433)
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
{ أُذِنَ
لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ
لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ
يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ
اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ
لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) }.
قال العَوفي ، عن ابن عباس : نزلت في محمد وأصحابه حين أخرجوا من مكة.
وقال غير واحد من السلف (1) هذه أول آية نزلت في الجهاد ، واستدل بهذه الآية بعضهم
على أن السورة مدنية ، وقاله مجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وغير واحد.
وقال ابن جرير : حدثني يحيى بن داود الواسطي : حدثنا إسحاق بن يوسف ، عن سفيان ،
عن الأعمش ، عن مسلم - هو البَطِين - عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس قال : لما
أخرج (2) النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم. إنا لله
وإنا إليه راجعون ، ليهلكُن. قال ابن عباس : فأنزل الله عز وجل : { أُذِنَ
لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ
لَقَدِيرٌ } ، قال أبو بكر ، رضي الله تعالى عنه : فعرفت أنه سيكون قتال.
__________
(1) في ف ، أ : "وقال مجاهد والضحاك وقتادة".
(2) في ت ، ف : "خرج".
(5/433)
ورواه
الإمام أحمد ، عن إسحاق بن يوسف الأزرق ، به (1) وزاد : قال ابن عباس : وهي أول
آية نزلت في القتال.
ورواه الترمذي ، والنسائي في التفسير من سننيهما ، وابن أبي حاتم (2) من حديث
إسحاق بن يوسف - زاد الترمذي : ووَكِيع ، كلاهما عن سفيان الثوري ، به. وقال
الترمذي : حديث حسن ، وقد رواه غير واحد ، عن الثوري ، وليس فيه ابن عباس (3).
وقوله : { وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } أي : هو قادر على نصر
عباده المؤمنين من غير قتال ، ولكن هو يريد من عباده أن يبلوا (4) جهدهم في طاعته
، كما قال : { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى
إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا
فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ
لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ. سَيَهْدِيهِمْ
وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } [ محمد : 4 -
6 ] ، وقال تعالى : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ (5)
وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ.
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ التوبة : 14 ، 15 ] ، وقال : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ
خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ التوبة : 16 ] ، { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا
الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ [ اللَّهُ ] (6) الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ
وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 142 ] ، وقال : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ
أَخْبَارَكُمْ } [ محمد : 31 ].
والآيات في هذا كثيرة ؛ ولهذا قال ابن عباس في قوله : { وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى
نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } وقد فعل.
وإنما شرع [الله] (7) تعالى الجهاد في الوقت الأليق به ؛ لأنهم لما كانوا بمكة كان
المشركون أكثر عددًا ، فلو أمرَ المسلمين ، وهم أقل من العشر ، بقتال الباقين (8)
لشَقَّ عليهم ؛ ولهذا لما بايع أهلُ يثرب ليلة العقبة رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، وكانوا نيفا وثمانين ، قالوا : يا رسول الله ، ألا نميل على أهل الوادي -
يعنون أهل مِنَى - ليالي مِنى فنقتلهم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"إني لم أومر بهذا". فلما بَغَى المشركون ، وأخرجوا النبي صلى الله عليه
وسلم من بين أظهرهم ، وهموا بقتله ، وشردوا أصحابه شَذرَ مَذَر ، فذهب (9) منهم
طائفة إلى الحبشة ، وآخرون إلى المدينة. فلما استقروا بالمدينة ، ووافاهم رسولُ
الله صلى الله عليه وسلم ، واجتمعوا عليه ، وقاموا بنصره وصارت لهم دار إسلام
ومَعْقلا يلجؤون إليه - شرع الله جهاد الأعداء ، فكانت هذه الآية أول ما نزل في
ذلك ، فقال تعالى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا
وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ
دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقّ }
__________
(1) زيادة من ف.
(2) في ت : "ماجه".
(3) سنن الترمذي برقم (3171) وسنن النسائي الكبرى برقم (11345).
(4) في ت ، أ : "يبذلوا".
(5) في ت : "بأيديهم".
(6) زيادة من ت ، ف ، أ.
(7) تفسير الطبري (17/123) والمسند (1/216).
(8) في ت : "المنافقين".
(9) في ف : "فذهبت".
(5/434)
قال
العَوْفي ، عن ابن عباس : أخرجوا من مكة إلى المدينة بغير حق ، يعني : محمدًا
وأصحابه.
{ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } أي : ما كان لهم إلى قومهم إساءة ، ولا
كان لهم ذنب إلا أنهم عبدوا الله (1) وحده لا شريك له. وهذا استثناء منقطع بالنسبة
إلى ما في نفس الأمر ، وأما عند المشركين فهو أكبر الذنوب ، كما قال تعالى : {
يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ } [
الممتحنة : 1 ] ، وقال تعالى في قصة أصحاب الأخدود : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ
إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ البروج : 8 ]. ولهذا
لما كان المسلمون يرتجزون في بناء الخندق ، ويقولون : لا هُمّ (2) لَولا أنتَ ما
اهتَدَينا... وَلا تَصَدّقَْنا وَلا صَلَّينَا...
فَأنزلَنْ سَكينَةً عَلَينَا... وَثَبّت الأقْدَامَ إنْ لاقَينَا...
إنّ الألَى قد بَغَوا عَلَينَا... إذَا أرَادوا فتْنَةً أبَيْنَا (3)
فيوافقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقول معهم آخر كل قافية ، فإذا قالوا :
"إذا أرادوا فتنة أبينا" ، يقول : "أبينا" ، يمد بها صوته.
ثم قال تعالى : { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } أي :
لولا أنه يدفع عن قوم بقوم ، ويكشفُ شَرّ أناس عن غيرهم ، بما يخلقه ويقدره من
الأسباب ، لفسدت الأرض ، وأهلك القوي الضعيف.
{ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ } وهي المعابد الصغار للرهبان ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ،
وأبو العالية ، وعكرمة ، والضحاك ، وغيرهم.
وقال قتادة : هي معابد الصابئين. وفي رواية عنه : صوامع المجوس.
وقال مقاتل بن حَيَّان : هي البيوت التي على الطرق.
{ وَبِيَعٌ } : وهي أوسع منها ، وأكثر عابدين فيها. وهي للنصارى أيضًا. قاله أبو
العالية ، وقتادة ، والضحاك ، وابن (4) صخر ، ومقاتل بن حيان ، وخُصَيف ، وغيرهم.
وحكى ابن جبير عن مجاهد وغيره : أنها كنائس اليهود. وحكى السدي ، عمن حَدّثه ، عن
ابن عباس : أنها كنائس اليهود ، ومجاهد إنما قال : هي الكنائس ، والله أعلم.
وقوله : { وَصَلَوَاتٌ } : قال العوفي ، عن ابن عباس : الصلوات : الكنائس. وكذا
قال عكرمة ، والضحاك ، وقتادة : إنها كنائس اليهود. وهم يسمونها صَلُوتا.
وحكى السدي ، عمن حدثه ، عن ابن عباس : أنها كنائس النصارى.
__________
(1) في ف ، أ : "وحد الله".
(2) في أ : "والله".
(3) الأبيات لعامر بن الأكوع كما في صحيح مسلم برقم (1803).
(4) في أ : "أبو".
(5/435)
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
وقال أبو
العالية ، وغيره : الصلوات : معابد الصابئين.
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : الصلوات : مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام
بالطرق. وأما المساجد فهي للمسلمين.
وقوله : { يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } فقد قيل : الضمير في قوله : {
يُذْكَرَ فِيهَا } عائد إلى المساجد ؛ لأنها أقرب المذكورات.
وقال الضحاك : الجميع يذكر فيها اسم الله كثيرا.
وقال ابن جرير : الصوابُ : لهدمت صوامع الرهبان وبِيعُ النصارى وصلوات اليهود ،
وهي كنائسهم ، ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيرا ؛ لأن هذا هو
المستعمل المعروف في كلام العرب.
وقال بعض العلماء : هذا تَرَقٍّ من الأقل إلى الأكثر إلى أن ينتهي إلى المساجد ،
وهي أكثر عُمَّارا وأكثر عبادا ، وهم ذوو القصد الصحيح.
وقوله : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ } كقوله (1) تعالى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ
أَقْدَامَكُمْ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ }
[ محمد : 7 ، 8 ].
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } وَصَف نفسه بالقوة والعزة ، فبقوته
خلق كل شيء فقدره تقديرا ، وبعزته لا يقهره قاهر ، ولا يغلبه غالب ، بل كل شيء
ذليل لديه ، فقير إليه. ومن كان القويّ العزيز ناصرَه فهو المنصور ، وعدوه هو
المقهور ، قال الله تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا
الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ
الْغَالِبُونَ } [ الصافات : 171 - 173 ] وقال [الله] (2) تعالى : { كَتَبَ
اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة
: 21 ].
{ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ
عَاقِبَةُ الأمُورِ (41) }.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الربيع الزَّهْرَاني ، حدثنا حماد بن
زيد ، عن أيوب وهشام ، عن محمد قال : قال عثمان بن عفان : فينا نزلت : { الَّذِينَ
إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ } ، فأخرجنا من ديارنا بغير
حق ، إلا أن قلنا : "ربنا الله" ، ثم مُكنّا في الأرض ، فأقمنا الصلاة ،
وآتينا الزكاة ، وأمرنا بالمعروف ، ونهينا عن المنكر ، ولله عاقبة الأمور ، فهي لي
ولأصحابي.
__________
(1) في ت : "لقوله".
(2) زيادة من ت.
(5/436)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
وقال أبو
العالية : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الصباح بن سوادة الكندي : سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو يقول : {
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ } الآية ، ثم قال : إلا أنها ليست على
الوالي وحده ، ولكنها على الوالي والمولى عليه ، ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من
ذَلكم ، وبما للوالي عليكم منه ؟ إن لكم على الوالي من ذلكم أن يؤاخذكم بحقوق الله
عليكم ، وأن يأخذ لبعضكم من بعض ، وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع ، وإن عليكم
من ذلك الطاعة غير المبزوزة ولا المستكرهة ، ولا المخالف سرها علانيتها.
وقال عطية العوفي : هذه الآية كقوله : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ [ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ] (1) } [ النور : 55 ].
وقوله : { وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ } ، كقوله تعالى { وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ } [ القصص : 83 ].
وقال زيد بن أسلم : { وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ } : وعند الله ثواب ما صنعوا.
{ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ
وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ
وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ
نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ
خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ
يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ
الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) }.
يقول تعالى مسليا نبيَّه محمدا صلى الله عليه وسلم في تكذيب من خالفه من قومه : {
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } إلى أن قال (2) :
{ وَكُذِّبَ مُوسَى } أي : مع ما جاء به من الآيات البينات والدلائل الواضحات.
{ فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ } أي : أنظرتهم وأخرتهم ، { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ
كَانَ نَكِيرِ } أي : فكيف كان إنكاري عليهم ، ومعاقبتي لهم ؟!
ذكر بعض السلف أنه كان بين قول فرعون لقومه : { أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى } [
النازعات : 24 ] ، وبين إهلاك الله له أربعون سنة.
وفي الصحيحين عن أبي موسى ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن
الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه ، ثم قرأ : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ
رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }
[ هود : 102 ] (3).
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ف ، أ : "وعاد وثمود. وقوم إبراهيم وقوم لوط. وأصحاب مدين".
(3) صحيح البخاري برقم (4686) وصحيح مسلم برقم (2583).
(5/437)
ثم قال
تعالى : { فَكَأَيِّنْ (1) مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } أي : كم من قرية
أهلكتها { وَهِيَ ظَالِمَةٌ } ] (2) أي : مكذبة لرسولها ، { فَهِيَ خَاوِيَةٌ
عَلَى عُرُوشِهَا } قال الضحاك : سقوفها ، أي : قد خربت منازلها وتعطلت حواضرها.
{ وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ } أي : لا يستقى منها ، ولا يَرِدُها أحد بعد كثرة وارديها
والازدحام عليها.
{ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ } قال عكرمة : يعني المُبَيّض بالجص.
وروي عن علي بن أبي طالب ، ومجاهد ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وأبي المَلِيح ،
والضحاك ، نحو ذلك.
وقال آخرون : هو المُنيف المرتفع.
وقال آخرون : الشديد المنيع الحصين.
وكل هذه الأقوال متقاربة ، ولا منافاة بينها ، فإنه لم يَحْمِ أهله شدة بنائه ولا
ارتفاعه ، ولا إحكامه ولا حصانته ، عن حلول بأس الله بهم ، كما قال تعالى : {
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ
مُشَيَّدَةٍ } [ النساء : 78 ].
وقوله : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ } أي : بأبدانهم وبفكرهم أيضا ، وذلك
كاف ، كما قال ابن أبي الدنيا في كتاب "التفكر والاعتبار" :
حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا سَيَّار ، حدثنا (3) جعفر ، حدثنا مالك بن دينار
قال : أوحى الله تعالى إلى موسى ، عليه السلام ، أن يا موسى ، اتخذ نعلين من حديد
وعصا ، ثم سِحْ في الأرض ، واطلب الآثار والعبر ، حتى تتخرق النعلان (4) وتكسر
العصا.
وقال ابن أبي الدنيا : قال بعض الحكماء : أحْيِ قلبك بالمواعظ ، ونَوِّره بالفِكْر
، ومَوِّته بالزهد ، وقَوِّه باليقين ، وذَلِّلْهُ بالموت (5) ، وقرِّره بالفناء
(6) ، وبَصِّره فجائع (7) الدنيا ، وحَذِّره صولةَ (8) الدهر وفحش تَقَلُّب الأيام
، واعرض عليه أخبار الماضين ، وذكره ما أصاب (9) من كان قبله ، وسِرْ في ديارهم
وآثارهم ، وانظر ما فعلوا ، وأين حَلُّوا ، وعَمَّ انقلبوا.
أي : فانظروا (10) ما حل بالأمم المكذبة من النقم والنكال (11) { فَتَكُونَ لَهُمْ
قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } أي : فيعتبرون بها ، {
فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي
الصُّدُورِ } أي : ليس العمى عمى البصر ، وإنما العمى عمى البصيرة ، وإن كانت
القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر ، ولا تدري ما الخبر. وما أحسن ما
قاله بعض الشعراء في هذا المعنى - وهو أبو محمد عبد الله بن محمد بن سارة (12)
الأندلسي الشَّنْتَريني ، وقد كانت وفاته سنة سبع عشرة وخمسمائة :
__________
(1) في ت ، ف : "وكأين".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ت ، ف : "ابن".
(4) في ت ، ف : "تخرق النعال".
(5) في ت ، ف : "بالقرب".
(6) في ت ، ف : "وتدبره بالثناء".
(7) في ت ، ف ، أ : "بمجامع".
(8) في ف : "بصولة".
(9) في ت ، أ : "وذكره بأم كتاب".
(10) في ت ، ف : "فينظروا".
(11) زيادة من ت ، ف ، أ.
(12) في ت ، ف ، أ : "ابن حبان".
(5/438)
يا مَن
يُصيخُ إلى دَاعي الشَقَاء ، وقَد... نَادَى به الناعيَان : الشيبُ والكبَرُ...
إن كُنتَ لا تَسْمَع الذكْرَى ، ففيم تُرَى... في رَأسك الوَاعيان : السمعُ
والبَصَرُ?...
ليسَ الأصَمّ ولا الأعمَى سوَى رَجُل... لم يَهْده الهَاديان : العَينُ
والأثَرُ...
لا الدّهر يَبْقَى وَلا الدنيا ، وَلا الفَلَك الـ... أعلى ولا النَّيّران :
الشَّمْسُ وَالقَمَرُ...
لَيَرْحَلَنّ عَن الدنيا ، وَإن كَرِها (1) فرَاقها ، الثاويان : البَدْو
والحَضَرُ...
__________
(1) في ت ، ف ، أ : "كرهن".
(5/439)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
{
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ
يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ
الْمَصِيرُ (48) }.
يقول تعالى لنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه (1) : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذَابِ } أي : هؤلاء الكفار الملحدون المكذبون (2) بالله وكتابه ورسوله
واليوم الآخر ، كما قال [الله] (3) تعالى : { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ
كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ
السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] ، { وَقَالُوا
رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } [ ص : 16 ].
وقوله : { وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ } أي : الذي قد وَعَد ، من إقامة
الساعة والانتقام من أعدائه ، والإكرام لأوليائه.
قال الأصمعي : كنت عند أبي عمرو بن العلاء ، فجاء عمرو بن عبيد ، فقال : يا أبا
عمرو ، وهل يخلف الله الميعاد ؟ فقال : لا. فذكر آية وعيد ، فقال له : أمن (4)
العجم أنت ؟ إن العرب تَعدُ الرجوع عن الوعد لؤما ، وعن الإيعاد كرما ، أومَا
سمعتَ قول الشاعر (5) :
لا يُرْهِبُ ابنَ العم منى (6) سَطْوَتي... ولا أخْتَتِي (7) من سَطْوة
المُتَهَدّد...
فإنّي وَإن أوْعَدْتُه أوْ وَعَدْتُه... لَمُخْلِفُ إيعَادي ومُنْجزُ مَوْعدي...
وقوله : { وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } أي
: هو تعالى لا يَعجَل ، فإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حكمه
، لعلمه بأنه على الانتقام قادر ، وأنه لا يفوته شيء ، وإن أجَّلَ وأنظَر وأملى ؛
ولهذا قال بعد هذا : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ
ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عَرَفة ، حدثني عبدة بن سليمان ، عن محمد بن
عمرو ، عن
__________
(1) في ف ، أ : "عليه وسلامه".
(2) في ت ، ف : "الملحدين المكذبين".
(3) زيادة من ف.
(4) في ت ، ف ، أ : "من".
(5) هو عامر بن الطفيل والبيت في اللسان مادة (ختأ) ، (وعد).
(6) في ت ، ف ، أ : "والجار".
(7) في ت ، ف ، أ : "ينثني".
(5/439)
أبي سلمة ،
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يدخل فقراء المسلمين
الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم ، خمسمائة عام".
ورواه الترمذي والنسائي ، من حديث الثوري ، عن محمد بن عمرو ، به (1). وقال
الترمذي : حسن صحيح. وقد رواه ابن جرير ، عن أبي هريرة موقوفا (2) ، فقال :
حدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّةَ ، حدثنا سعيد الجُرَيري ، عن أبي نَضْرَة ، عن
سُمَيْر بن نهار قال : قال أبو هريرة : يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء
بمقدار نصف يوم. قلت : وما نصف يوم ؟ قال : أوَما تقرأ القرآن ؟. قلت : بلى. قال :
{ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } (3).
وقال أبو داود في آخر كتاب الملاحم من سننه : حدثنا عمرو بن عثمان ، حدثنا أبو
المغيرة ، حدثنا صفوان ، عن شُرَيح بن (4) عُبَيد ، عن سعد بن أبي وَقاص ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إني لأرجو ألا تَعْجِزَ أمتي عند ربها ،
أن يؤخرهم نصف يوم". قيل لسعد : وما نصف يوم ؟ قال : خمسمائة سنة (5).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنَان (6) ، حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِيّ ، عن
إسرائيل ، عن سِمَاك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ
كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } قال : من الأيام التي خلق الله فيها السموات
والأرض.
رواه ابن جرير ، عن ابن بَشّار (7) ، عن ابن مهدي (8). وبه قال مجاهد ، وعكرمة ،
ونص عليه أحمد بن حنبل في كتاب "الردّ على الجهمية".
وقال مجاهد : هذه الآية كقوله : { يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى
الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ
مِمَّا تَعُدُّونَ } [ السجدة : 5 ].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عارم - محمد بن الفضل - حدثنا حماد بن زيد
، عن يحيى بن عَتِيق ، عن محمد بن سيرين ، عن رجل من أهل الكتاب أسلمَ قال : إن
الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام ، { وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ
كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } وجعل أجل الدنيا ستة أيام ، وجعل الساعة في
اليوم السابع ، { وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا
تَعُدُّونَ } ، فقد مضت الستة الأيام ، وأنتم في اليوم السابع. فمثل ذلك كمثل
الحامل إذا دخلت شهرها ، في أية لحظة ولدت كان تماما.
__________
(1) سنن الترمذي برقم (2354) وسنن النسائي الكبرى برقم (11348) أي أن النصف يوم
خمسمائه عام.
(2) في ت : "مرفوعا".
(3) تفسير الطبري (17/129).
(4) في ت : "عن".
(5) سنن أبي داود برقم (4350).
(6) في ف ، أ : "شيبان".
(7) في ت : "يسار".
(8) تفسير الطبري (17/129).
(5/440)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)
{ قُلْ يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
(51) }.
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حين طلب منه الكفار وُقُوعَ العذاب ،
واستعجلوه به : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ
مُبِينٌ } أي : إنما أرسلني الله إليكم نذيرًا لكم بين يدي عذاب شديد ، وليس إلي
من حسابكم من شيء ، أمركم إلى الله ، إن شاء عجل لكم العذاب ، وإن شاء أخره عنكم ،
وإن شاء تاب على من يتوب إليه ، وإن شاء أضل من كتب عليه الشقاوة ، وهو الفعال لما
يشاء ويريد ويختار ، [و] (1) { لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
} [ الرعد : 41 ] و { إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. فَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي : آمنت قلوبهم وصدقوا إيمانهم بأعمالهم ، { لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } أي : مغفرة لما سلف من سيئاتهم ، ومجازاة حَسَنةٌ
على القليل من حسناتهم.
[و] (2) قال محمد بن كعب القُرَظِيّ : إذا سمعتَ الله تعالى يقول : { وَرِزْقٌ
كَرِيمٌ } فهو الجنة.
وقوله : { وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } : قال مجاهد :
يُثَبّطون الناس عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم. وكذا قال عبد الله بن الزبير
: مثبطين.
وقال ابن عباس : { مُعَاجِزِينَ } : مراغمين.
{ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } : وهي النار الحارة الموجعة الشديد عذابها
ونكالها ، أجارنا الله منها.
قال الله تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ } [ النحل : 88
].
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى
أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي
الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ
آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) }.
قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغَرَانيق ، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة
إلى أرض الحبشة ، ظَنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا. ولكنها من طرق كلها مرسلة ،
ولم أرها مسندة من وجه صحيح ، والله أعلم.
__________
(1) زيادة من ف.
(2) زيادة من ت.
(5/441)
قال ابن أبي
حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا شعبة ، عن أبي بِشْر ، عن
سعيد بن جُبَيْر ، قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة "النجم"
فلما بلغ هذا الموضع : { أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ
الثَّالِثَةَ الأخْرَى } قال : فألقى الشيطان على لسانه : "تلك الغَرَانيق
العلى. وإن شفاعتهن (1) ترتجى". قالوا : ما ذكر آلهَتنا بخير قبل اليوم.
فسجَدَ وسجدوا ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ
مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ [ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ
اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ] (2) }
رواه ابن جرير ، عن بُنْدَار ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، به نحوه (3) ، وهو مرسل ،
وقد رواه البزار في مسنده ، عن يوسف بن حماد ، عن أمية بن خالد ، عن شعبة ، عن أبي
بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - فيما أحسب ، الشك في الحديث - أن النبي صلى
الله عليه وسلم قرأ بمكة سورة "النجم" ، حتى انتهى إلى : {
أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى } ، وذكر بقيته. ثم قال البزار : لا (4) يروى
متصلا إلا بهذا الإسناد ، تفرد بوصله أمية بن خالد ، وهو ثقة مشهور. وإنما يُروى
هذا من طريق الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس (5).
ثم رواه ابن أبي حاتم ، عن أبي العالية ، وعن السدي ، مرسلا. وكذا رواه ابن جرير ،
عن محمد بن كعب القرظي ، ومحمد بن قيس ، مرسلا أيضا (6).
وقال قتادة : كان النبي صلى الله عليه وسلم [يصلي] (7) عند المقام إذ نَعَس ،
فألقى الشيطان على لسانه "وإن شفاعتها لترتجى. وإنها لمع الغرانيق
العلى" ، فحفظها المشركون. وأجرى الشيطان أن نبي الله قد قرأها ، فزَلَّت بها
ألسنتهم ، فأنزل الله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ [ وَلا
نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى ] (8) } الآية ، فدَحَرَ الله الشيطان.
ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي ، حدثنا محمد بن إسحاق
المُسَيَّبِي ، حدثنا محمد بن فُلَيْح ، عن موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب قال :
أنزلت سورة النجم ، وكان المشركون يقولون : لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير
أقررناه وأصحابه ، ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر
آلهتنا من الشتم والشر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما ناله
وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم ، وأحزنه ضلالهم ، فكان (9) يتمنى هُداهم ، فلما أنزل
الله سورة
__________
(1) في ت ، ف : "شفاعتهم".
(2) زيادة من ف ، أ وفي ت : "الآية".
(3) تفسير الطبري (17/133).
(4) في ف ، أ : "لا نعلمه".
(5) مسند البزار برقم (2263) "كشف الأستار".
(6) تفسير الطبري (17/131).
(7) زيادة من أ.
(8) زيادة من ف ، أ.
(9) في ف : "وكان".
(5/442)
"النجم"
قال : { أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى.
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى } ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله
الطواغيت ، فقال : "وإنهن لهن الغرانيق العلى. وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى
(1) ". وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته ، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل
مشرك بمكة ، وزلت بها ألسنتهم ، وتباشروا بها ، وقالوا : إن محمدا ، قد رجع إلى
دينه الأول ، ودين قومه. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم [آخر النجم] (2) ،
سجد وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك. غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا ،
فرفع على (3) كفه ترابا فسجد عليه. فعجب الفريقان كلاهما (4) من جماعتهم في السجود
، لسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم
على غير إيمان ولا يقين - ولم يكن المسلمون سمعوا الآية التي (5) ألقى الشيطان في
مسامع المشركين - فاطمأنت أنفسهم لما ألقى الشيطانُ في أمنية رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، وحدثهم به الشيطان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرأها في
السورة ، فسجدوا لتعظيم آلهتهم. ففشت تلك الكلمة في الناس ، وأظهرها الشيطان ، حتى
بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين ، عثمان بن مظعون وأصحابه ، وتحدثوا أن أهل
مكة قد أسلموا كلهم ، وصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبلغهم سجود الوليد
بن المغيرة على التراب على كفه ، وحُدِّثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة فأقبلوا
سراعا وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان ، وأحكم الله آياته ، وحفظه (6) من الفرية ،
وقال [تعالى] (7) : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ
إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ
مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي
شِقَاقٍ بَعِيدٍ } ، فلما بين الله قضاءه ، وبرأه من سجع الشيطان ، انقلب المشركون
بضلالهم (8) وعداوتهم المسلمين ، واشتدوا عليهم. وهذا أيضًا مرسل.
وفي تفسير ابن جرير عن الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ،
نحوه (9). وقد رواه الإمام (10) أبو بكر البيهقي في كتابه "دلائل
النبوة" فلم يَجُزْ به موسى بن عقبة ، ساقه في مغازيه بنحوه ، قال : وقد
روينا عن ابن إسحاق هذه القصة.
قلت : وقد ذكرها محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا ، وكلها مرسلات ومنقطعات ،
فالله أعلم. وقد ساقها البغوي في تفسيره مجموعة من كلام ابن عباس ، ومحمد بن كعب
القُرَظِيّ ، وغيرهما بنحو من ذلك ، ثم سأل هاهنا سؤالا كيف وقع مثل هذا مع العصمة
المضمونة من الله لرسوله ، صلوات الله وسلامه عليه ؟ ثم حكى أجوبة عن الناس ، من
ألطفها : أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك ، فتوهموا أنه صدر عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وليس كذلك في نفس الأمر ، بل إنما
__________
(1) في أ : "ترجى".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ت ، أ : "ملء".
(4) في ت : "الفريقان منهما كلاهما".
(5) في أ : "الذي".
(6) في ت ، أ : "وحفظه الله".
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) في ف : "بضلالتهم".
(9) تفسير الطبري (17/133).
(10) في أ : "الحافظ".
(5/443)
كان من صنيع
الشيطان لا من رسول الرحمن صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم (1).
وهكذا تنوعت أجوبة المتكلمين عن هذا بتقدير صحته. وقد تعرض القاضي عياض ، رحمه
الله ، في كتاب "الشفاء" لهذا ، وأجاب بما حاصله (2).
__________
(1) معالم التنزيل للبغوي (5/394).
(2) كذا في جميع النسخ وكلام القاضي عياض في الشفاء (2/107) أذكره مختصرا له ، قال
رحمه الله :
"فاعلم ، أكرمك الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين : أحدهما :
في توهين أصله. والثانى : على تسليمه.
أما المأخذ الأول : فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة
بسند سليم متصل.. وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب
المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم.
وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال : لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء
والتفسير ، وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته ، واضطراب رواياته ، وانقطاع إسناده
، واختلاف كلماته ، فقائل يقول : إنه فى الصلاة ، وآخر يقول : قالها في نادي قومه
حين أنزلت عليه السورة ، وآخر يقول : قالها وقد أصابته سنة ، وآخر بقول : بل حدث
نفسه فسها ، وآخر يقول : إن الشيطان قالها على لسانه وإن النبي صلى الله عليه وسلم
لما عرضها على جبريل قال : ما هكذا أقرأتك ، وآخر يقول : بل أعلمهم الشيطان أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأها فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال :
"والله ما هكذا أنزلت".
إلى غير ذلك من اختلاف الرواة.
ومن حكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى
صاحب ، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية.
والمرفوع فيه حديث شعبة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : فيما
أحسب - الشك في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بمكة وذكر القصة.
قال أبو بكر البزار : هذا لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل
يجوز ذكره إلا هذا ، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد ، وغيره يرسله عن سعيد بن
جبير ، وإنما يعرف عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس.
فقد بين لك أبو بكر ، رحمه الله ، أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا ، وفيه
من الضعف ما نبه عليه مع وقوع الشك فيه كما ذكرناه الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه.
أما حديث الكلبي فمما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه ، كما أشار
إليه البزار ، رحمه الله.
والذي منه في الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ "والنجم" وهو
بمكة فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس هذا توهينه من طريق النقل.
أما من جهة المعنى ، فقد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم ،
ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة ، إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير
الله وهو كفر أو يتسور عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه
ويعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أن من القرأن ما ليس منه حتى ينبهه جبريل - عليه
السلام - ، وذلك كله ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم.
أو يقول ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمدا وذلك كفر ، أو سهوا وهو
معصوم من هذا كله.
ووجه ثان : هو استحالة هذه القصة نظرا وعرفا ، وذلك أن هذا الكلام لو كان كما روى
لكان بعيد الالتئام ، متناقض الأقسام ، ممتزج المدح بالذم ، متخاذل التأليف والنظم
، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين
ممن يخفى عليه ذلك.
وهذا لا يخفى على أدنى متأمل فكيف بمن رجح حلمه ، واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح
الكلام علمه!!
ووجه ثالث : أنه قد علم من عادة المنافقين ، ومعاندي المشركين ، وضعفة القلوب ،
والجهلة من المسلمين ، نفورهم لأول وهلة ، وتخليط العدو على النبي صلى الله عليه
وسلم لأقل فتنة ، وتعيرهم المسلمين والشماتة بهم الفينة بعد الفينة وارتداد من في
قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة...
ولم يحك أحد في هذه القصة شيئا سوى هذه الرواية الضعيفة.
ووجه رابع : ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت " وإن كادوا ليفتنونك..
" الآيتين.
وهاتان الآيتان تردان الخبر الذي رووه ؛ لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه ،
حتى يفتري وأنه لولا أن ثبته لكاد يركن إليهم.
فمضمون هذا ومفهومه : أن الله تعالى عصمه من أن يفتري ، وثبته حتى لم يركن اليهم
قليلا فكيف كثيرا وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح
آلهتهم وأنه قال صلى الله عليه وسلم : افتريت على الله وقلت ما لم يقل وهذا ضد
مفهوم الآية وهي تضعف الحديث لو صح ، فكيف ولا صحة له ، وهذا مثل قوله تعالى في
الآية الأخرى : " ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما
يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء ".
وأما المأخذ الثاني : فهو مبني على تسليم الحديث لو صح. وقد أعاذنا الله من صحته ،
ولكن على كل حال فقد أجاب عن ذلك أئمة المسلمين بأجوبة منها الغث والسمين.
ثم ذكر الأجوبة على ذلك (2/111 - 114) وممن أنكرها الإمام ابن خزيمة وقال :
"هذا من وضع الزنادقة" وهذا هو الصواب.
للاستزادة : انظر : الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير ص - 314 لمحمد أبي
شهبة ، ونصب المجانيق لإبطال قصة الغرانيق لمحمد ناصر الدين الألباني.
(5/444)
وقوله : {
إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } ، هذا فيه تسلية له
، صلوات الله وسلامه عليه (1) ، أي : لا يَهيدنّك ذلك ، فقد أصاب مثل هذا من قبلك
من المرسلين والأنبياء.
قال البخاري : قال ابن عباس : { فِي أُمْنِيَّتِهِ } إذا حدث ألقى الشيطان في
حديثه ، فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { إِذَا تَمَنَّى [ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ } ، يقول : إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه.
وقال مجاهد : { إِذَا تَمَنَّى } (2) ] يعني : إذا قال.
ويقال : { أُمْنِيَّتِهِ } : قراءته ، { إِلا أَمَانِيَّ } [ البقرة : 78 ] ،
يقولون ولا يكتبون.
قال البغوي : وأكثر المفسرين قالوا : معنى قوله : { تَمَنَّى } أي : تلا وقرأ كتاب
الله ، { أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } أي : في تلاوته ، قال الشاعر
في عثمان حين قتل :
تَمَنّى كتَابَ الله أوّل لَيْلة... وآخرَها لاقَى حمَامَ المَقَادرِ (3)
وقال الضحاك : { إِذَا تَمَنَّى } : إذا تلا.
قال ابن جرير : هذا القول أشبه بتأويل الكلام.
وقوله : { فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ } ، حقيقة النسخ لغة :
الإزالة والرفع.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أي فيبطل الله - سبحانه وتعالى - ما ألقى
الشيطان.
وقال الضحاك : نسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان ، وأحكم الله آياته.
وقوله : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ (4) } ، [أي : بما يكون من الأمور والحوادث ، لا تخفى
عليه خافية] (5) ، { حَكِيمٌ } أي : في تقديره وخلقه وأمره ، له الحكمة التامة
والحجة البالغة ؛ ولهذا قال : { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً
لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي : شك وشرك وكفر ونفاق ، كالمشركين حين
فرحوا بذلك ، واعتقدوا أنه صحيح ، وإنما كان من الشيطان.
__________
(1) في ف ، أ : "عليه وسلامه".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) البيت في اللسان ، مادة (منى) غير منسوب.
(4) في ف ، أ : "عليم حكيم".
(5) زيادة من ت.
(5/445)
وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
قال ابن
جريج : { لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } هم : المنافقون { وَالْقَاسِيَةِ
قُلُوبُهُمْ } : المشركون.
وقال مقاتل بن حيان : هم [الكافرون] (1) اليهود.
{ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } أي : في ضلال ومخالفة وعناد بعيد
، أي : من الحق والصواب.
{ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
فَيُؤْمِنُوا بِهِ } أي : وليعلم الذين أوتوا العلم النافع الذي يفرقون به بين الحق
والباطل ، المؤمنون بالله ورسوله ، أن ما أوحيناه إليك هو الحق من ربك ، الذي
أنزله بعلمه وحفظه وحرسه أن يختلط به غيره ، بل هو كتاب حكيم ، { لا يَأْتِيهِ
الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ
} [ فصلت : 42 ].
وقوله : { فَيُؤْمِنُوا بِهِ } أي : يصدقوه وينقادوا له ، { فَتُخْبِتَ لَهُ
قُلُوبُهُمْ } أي : تخضع وتذل ، { وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا
إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي : في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فيرشدهم إلى
الحق واتباعه ، ويوفقهم لمخالفة الباطل واجتنابه ، وفي الآخرة يهديهم [إلى] (2)
الصراط المستقيم ، الموصل إلى درجات الجنات ، ويزحزحهم عن العذاب الأليم والدركات.
{ وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ
السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) }
__________
(1) زيادة من ت.
(2) زيادة من أ.
(5/446)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)
{ الْمُلْكُ
يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) }.
يقول تعالى مخبرًا عن الكفار : أنهم لا يزالون في مرية ، أي : في شك وريب من هذا
القرآن ، قاله ابن جريج ، واختاره ابن جرير.
وقال سعيد بن جبير ، وابن زيد : { مِنْهُ } أي : مما ألقى الشيطان.
{ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً } : قال مجاهد : فجأة. وقال قتادة : {
بَغْتَةً } ، بغت [القوم] (1) أمر الله ، وما أخذ الله قومًا قط إلا عند سكرتهم
وغرتهم ونعمتهم ، فلا تغتروا بالله ، إنه لا يغتر بالله (2) إلا القوم الفاسقون.
وقوله : { أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } : قال مجاهد : قال أبي بن
كعب : هو يوم بدر ، وكذا قال عكرمة ، وسعيد بن جبير ، وقتادة وغير واحد. واختاره
ابن جرير.
وقال عكرمة ، ومجاهد [في رواية عنهما] (3) : هو يوم القيامة لا ليلة له. وكذا قال
الضحاك ، والحسن البصري.
وهذا القول هو الصحيح ، وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به ، لكن هذا هو المراد
؛ ولهذا
__________
(1) في ت : "اليوم" والمثبت من ف ، أ.
(2) في أ : "فلا يغتر به".
(3) زيادة من ت ، ف ، أ.
(5/446)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
قال : {
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } ، كقوله { مَالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ } [ الفاتحة : 4 ] وقوله : { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ
وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا } [ الفرقان : 26 ].
{ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } ، أي : آمنت قلوبهم ، وصدقوا
بالله ورسوله ، وعملوا بمقتضى ما علموا ، وتوافق قلوبهم وأقوالهم وأعمالهم (1).
{ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ }. أي : لهم النعيم المقيم ، الذي لا يحول ولا يزول ولا
يبيد.
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } أي : كفرت قلوبهم بالحق ،
وجحدوا به (2) وكذبوا به ، وخالفوا الرسل ، واستكبروا عن اتباعهم { فَأُولَئِكَ
لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } أي : مقابلة استكبارهم وإعراضهم (3) عن الحق ، كقوله
تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ
جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] أي : صاغرين.
{ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا
لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ
لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ
بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) }.
يخبر تعالى عمن خرج مهاجرًا في سبيل الله ابتغاء مرضاته ، وطلبا لما عنده ، وترك
الأوطان والأهلين والخِلان ، وفارق بلاده في الله ورسوله ، ونصرة لدين الله {
ثُمَّ قُتِلُوا } أي : في الجهاد { أَوْ مَاتُوا } أي : حتف أنفهم (4) ، أي : من
غير قتال على فرشهم ، فقد حصلوا على الأجر الجزيل ، والثناء الجميل ، كما قال
تعالى { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [ النساء :
100 ].
وقوله : { لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا } أي : ليُجْريَن عليهم (5)
من فضله ورزقه من الجنة ما تقر به أعينهم ، { وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ. لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ } أي : الجنة. كما قال
تعالى : { فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ
وَجَنَّةُ نَعِيمٍ } [ الواقعة : 88 ، 89 ] فأخبر أنه يحصل له الراحة والرزق وجنة
نعيم ، كما قال هاهنا : { لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا } ، ثم قال :
{ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ } أي : بمن
يهاجر ويجاهد في سبيله ، وبمن يستحق ذلك ، { حَلِيمٌ } أي : يحلم ويصفح ويغفر لهم
الذنوب ويكفرها عنهم بهجرتهم إليه ، وتوكلهم عليه. فأما من قتل في سبيل الله من
مهاجر أو غير مهاجر ، فإنه حي عند ربه يرزق ، كما قال تعالى : { وَلا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ
رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آل عمران : 169 ] ، والأحاديث في هذا كثيرة ، كما تقدم
(6) وأما من تُوُفي
__________
(1) في أ : "وأفعالهم".
(2) في أ : "وجحدته".
(3) في أ : "وإبائهم".
(4) في أ : "أنفسهم".
(5) في أ : "ليجزيهم عليه".
(6) في أ : "مر".
(5/447)
في سبيل
الله من مهاجر أو غير مهاجر ، فقد تضمنت هذه الآية الكريمة مع الأحاديث الصحيحة
إجراء الرزق عليه ، وعظيم إحسان الله إليه.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا المسيَّب بن واضح ، حدثنا ابن المبارك ، عن
عبد الرحمن بن شُرَيْح ، عن ابن (1) الحارث - يعني : عبد الكريم - عن ابن عقبة -
يعني : أبا عبيدة بن عقبة - قال : حدثنا (2) شُرَحْبِيل بن السِّمْط : طال رباطنا
وإقامتنا على حصن بأرض الروم ، فمر بي سلمان - يعني : الفارسي - رضي الله عنه ،
فقال : إني سمعت رسول الله يقول : "من مات مرابطًا ، أجرى الله عليه مثل ذلك
الأجر ، وأجرى عليه الرزق ، وأمن (3) من الفَتَّانين" واقرءوا إن شئتم : {
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا
لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ
حَلِيمٌ }
وقال أيضا : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا زيد بن بشر ، أخبرني همام ، أنه سمع أبا قبيل
وربيعة بن سيف المعافري يقولان : كنا برودس ، ومعنا فَضَالة بن عبيد الأنصاري -
صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم - فمر بجنازتين ، إحداهما قتيل والأخرى متوفى ،
فمال الناس على القتيل ، فقال فضالة : ما لي (4) أرى الناس مالوا مع هذا ، وتركوا
هذا ؟! فقالوا : هذا قتيل في سبيل الله تعالى. فقال : والله ما أبالي من أي
حُفرتيهما بُعثت ، اسمعوا كتاب الله : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا [ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا
وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ] (5) }
وقال أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا عبدة بن سليمان ، أنبأنا ابن المبارك ، أنبأنا ابن
لَهِيعة ، حدثنا سلامان بن عامر الشعباني ، أن عبد الرحمن بن جَحْدَم الخولاني
حدثه : أنه حضر فضالة بن عبيد في البحر مع جنازتين ، أحدهما أصيب بمنجنيق والآخر
توفي ، فجلس فضالة بن عبيد عند قبر المتوفى ، فقيل له : تركت الشهيد فلم تجلس عنده
؟ فقال : ما أبالي من أي حفرتيهما بعثتُ ، إن الله يقول : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا [ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ
رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. لَيُدْخِلَنَّهُمْ
مُدْخَلا ] (6) يَرْضَوْنَهُ } فما تبتغي (7) أيها العبد إذا أدخلت مدخلا ترضاه
ورزقت رزقًا حسنًا ، والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت.
ورواه ابن جرير ، عن يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب ، أخبرني عبد الرحمن بن
شُرَيْح ، عن سلامان بن عامر قال : كان فضالة برودس أميرًا على الأرباع ، فخرج
بجنازتي رجلين ، أحدهما قتيل (8) والآخر متوفى... فذكر نحو ما تقدم (9).
__________
(1) في أ : "أبي".
(2) في أ : "قال".
(3) في أ : "وأومن".
(4) في أ : "ما".
(5) زيادة من ف ، أ وفي هـ ، ت : "حتى آخر الآية".
(6) زيادة من ف ، وفي ت : "إلى قوله".
(7) في أ : "ينبغي".
(8) في أ : "قتل".
(9) تفسير الطبري (17/136).
(5/448)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)
وقوله : {
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ
لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ } ، ذكر (1) مقاتل بن حيان وابن جريج أنها نزلت في سرية
من الصحابة ، لقوا جمعًا من المشركين في شهر محرم ، فناشدهم المسلمون لئلا
يقاتلوهم في الشهر الحرام ، فأبى المشركون إلا قتالهم وبغوا عليهم ، فقاتلهم
المسلمون ، فنصرهم الله عليهم ، [و] (2) { إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ }
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ
فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ
الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ
هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) }.
يقول تعالى منبها على أنه الخالق المتصرف في خلقه بما يشاء ، كما قال : { قُلِ
اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ
مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ
الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ
[ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ
وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ]
(3) } [ آل عمران : 26 ، 27 ] ومعنى إيلاجه الليل في النهار ، والنهار في الليل :
إدخاله من هذا في هذا ، ومن هذا في هذا ، فتارة يطول الليل ويقصر النهار ، كما في
الشتاء ، وتارة يطول النهار ويقصر الليل ، كما في الصيف.
وقوله : { وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } أي : سميع بأقوال عباده ، بصير بهم ،
لا يخفى عليه منهم خافية في أحوالهم وحركاتهم وسكناتهم.
ولما بين أنه المتصرف في الوجود ، الحاكم الذي لا معقب لحكمه ، قال : { ذَلِكَ
بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ } أي : الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له ؛
لأنه ذو السلطان العظيم ، الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وكل شيء فقير إليه
، ذليل لديه ، { وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ } أي : من
الأصنام والأنداد والأوثان ، وكل ما عبد من دونه تعالى فهو باطل ؛ لأنه لا يملك
ضرًا ولا نفعًا.
وقوله : { وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } ، كما قال : { وَهُوَ
الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [ البقرة : 255 ] ، وقال : { الْكَبِيرُ (4) الْمُتَعَالِ
} [ الرعد : 9 ] فكل شيء تحت قهره وسلطانه وعظمته ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه ؛
لأنه العظيم الذي لا أعظم منه ، العلي الذي لا أعلى منه ، الكبير الذي لا أكبر منه
، تعالى وتقدس وتنزه ، وعز وجل عما يقول الظالمون [المعتدون] (5) علوا كبيرا.
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ
مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا
فِي الأرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) }
__________
(1) في أ : "قال".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من ف ، أ : وفي ت : "الآية".
(4) في ت ، ف : "وهو الكبير".
(5) زيادة من أ.
(5/449)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) }.
(5/449)
وهذا أيضا
من الدلالة على قدرته وعظيم سلطانه ، فإنه يرسل (1) الرياح ، فتثير سحابا ، فيمطر
على الأرض الجُرُز التي (2) لا نبات فيها ، وهي هامدة يابسة سوداء قحلة ، {
فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } [ الحج : 5].
وقوله : { فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً } ، الفاء هاهنا للتعقيب ، وتعقيب كل
شيء بحسبه ، كما قال : { خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ
مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا } [ المؤمنون : 14 ] ، وقد ثبت في
الصحيحين : "أن بين كل شيئين أربعين يوما" ومع هذا هو معقب (3) بالفاء ،
وهكذا هاهنا قال : { فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً } أي : خضراء بعد يبسها
ومُحُولها (4).
وقد ذكر عن بعض أهل (5) الحجاز : أنها تصبح عقب المطر خضراء ، فالله أعلم.
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } أي : عليم بما في أرجاء الأرض وأقطارها
وأجزائها من الحب وإن صغر ، لا يخفى عليه خافية ، فيوصل إلى كل منه قسطه من الماء
فينبته به ، كما قال لقمان : { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ
مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ
يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [ لقمان : 16 ] ، وقال : {
أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
} [ النمل : 25 ] ، وقال تعالى : { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا
وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ
مُبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] ، وقال { وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ
ذَرَّةٍ } الآية [ يونس : 61 ] ؛ ولهذا قال أمية بن [أبي] (6) الصلت - أو : زيد بن
عمرو بن نُفيل - في قصيدته :
وَقُولا لَه : مَن يُنْبِتُ الحبَّ في الثَّرَى... فَيُصبحَ منْهُ البَقْلُ
يَهْتَزُّ رَابيَا?...
ويُخْرجُ منْهُ حَبَّه في رُؤُوسه... فَفي ذَاك آيات لمَنْ كَانَ وَاعيا (7)
وقوله : { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } أي : ملكه جميع الأشياء ، وهو غني عما سواه ، وكل شيء
فقير إليه ، عبد لديه.
وقوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ } أي : من
حيوان ، وجماد ، وزروع ، وثمار. كما قال : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } [ الجاثية : 13 ] أي : من إحسانه وفضله
وامتنانه ، { وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ } أي : بتسخيره
وتسييره ، أي : في البحر العَجَاج ، وتلاطم الأمواج ، تجري الفلك بأهلها (8) بريح
طيبة ، ورفق وتؤدة ، فيحملون فيها ما شاءوا من تجائر وبضائع
__________
(1) في أ : "وأنه مرسل".
(2) في أ : "الذي".
(3) في أ : "تعقيب".
(4) في أ : "وقحوطا".
(5) في هـ ت : "أرض" والمثبت من ف ، أ.
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/228).
(8) في أ : "بأمرها".
(5/450)
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)
ومنافع ، من
بلد إلى بلد ، وقطر إلى قطر ، ويأتون بما عند أولئك إلى هؤلاء ، كما ذهبوا بما عند
هؤلاء إلى أولئك ، مما يحتاجون إليه ، ويطلبونه ويريدونه ، { وَيُمْسِكُ
السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ } أي : لو شاء لأذن للسماء
فسقطت على الأرض ، فهلك من فيها ، ولكن من لطفه ورحمته وقدرته يمسك السماء أن تقع
على الأرض إلا بإذنه ؛ ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ
} أي : مع ظلمهم ، كما قال في الآية الأخرى : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ
لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } [ الرعد : 6
].
وقوله : { وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ
الإنْسَانَ لَكَفُورٌ } ، كقوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ
أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ } [ البقرة : 28 ] ، وقوله : { قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ } [
الجاثية : 26 ] ، وقوله : { قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ
وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } [ غافر : 11 ] ومعنى الكلام : كيف تجعلون [مع] (1)
الله أندادا وتعبدون معه غيره ، وهو المستقل بالخلق والرزق والتصرف ، { وَهُوَ
الَّذِي أَحْيَاكُمْ } أي : خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئًا يذكر ، فأوجدكم { ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } أي : يوم القيامة ، { إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ
} أي : جحود.
{ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي
الأمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ
جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) }.
يخبر تعالى أنه جعل لكل قوم (2) منسكا.
قال ابن جرير : يعني : لكل أمة نبي منسكا. قال : وأصل المنسك في كلام العرب : هو
الموضع الذي يعتاده الإنسان ، ويتردد إليه ، إما لخير أو شر. قال : ولهذا سميت
مناسك الحج بذلك ، لترداد الناس إليها وعكوفهم عليها (3).
فإن كان كما قال من أن المراد : { لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا } فيكون
المراد بقوله : { فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ } أي : هؤلاء المشركون. وإن كان
المراد : "لكل أمة جعلنا منسكا جعلا قدريا - كما قال : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ
هُوَ مُوَلِّيهَا } [ البقرة : 148 ] ولهذا قال هاهنا : { هُمْ نَاسِكُوهُ } أي :
فاعلوه - فالضمير هاهنا عائد على هؤلاء الذين لهم مناسك وطرائق ، أي : هؤلاء إنما
يفعلون هذا عن قدر الله وإرادته ، فلا تتأثر بمنازعتهم لك ، ولا يصرفك ذلك عما أنت
عليه من الحق ؛ ولهذا قال : { وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى
مُسْتَقِيمٍ } أي : طريق واضح مستقيم موصل إلى المقصود.
وهذه كقوله : { وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزلَتْ
إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ } [ القصص : 87 ].
__________
(1) زيادة من ت ، ف.
(2) في ت : "أمة".
(3) تفسير الطبري (17/138).
(5/451)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
وقوله : {
وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } ، كقوله : {
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ
مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } [ يونس : 41 ].
وقوله : { اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } تهديد شديد ، ووعيد أكيد ، كقوله
: { هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ } [ الأحقاف : 8 ] ؛ ولهذا قال : { اللَّهُ (1) يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }
وهذه كقوله : { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ
لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ
أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا
وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [ الشورى : 15 ].
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّ
ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) }.
يخبر تعالى عن كمال علمه بخلقه ، وأنه محيط بما في السموات وما في الأرض ، فلا
يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، وأنه
تعالى علم الكائنات كلها قبل وجودها ، وكتب ذلك في كتابه اللوح المحفوظ ، كما ثبت
في صحيح مسلم ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إن الله قدّر مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان
عرشه على الماء" (2).
وفي السنن ، من حديث جماعة من الصحابة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"أول ما خلق الله القلم ، قال له : اكتب ، قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو
كائن. فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة" (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا ابن بُكَيْر ، حدثني ابن لَهِيعة ،
حدثني عطاء بن دينار ، حدثني سعيد بن جُبَيْر قال : قال ابن عباس : خلق الله اللوح
المحفوظ مَسِيرَة مائة عام ، وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق - وهو على العرش تبارك
وتعالى - : اكتب. قال القلم : وما أكتب ؟ قال : علمي في خلقي إلى يوم تقوم الساعة.
فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة. فذلك قوله تعالى للنبي صلى
الله عليه وسلم : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ
وَالأرْضِ }
وهذا من تمام علمه تعالى أنه علم الأشياء قبل كونها ، وقدرها وكتبها أيضًا ، فما
العباد عاملون قد علمه تعالى قبل ذلك ، على الوجه الذي يفعلونه ، فيعلم قبل الخلق
أن هذا يطيع باختياره ، وهذا يعصي باختياره ، وكتب ذلك عنده ، وأحاط بكل شيء علما
، وهو سهل عليه ، يسير لديه ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ
ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }
__________
(1) في ت : "والله" وهو خطأ.
(2) صحيح مسلم برقم (2653) بلفظ "كتب الله مقادير الخلائق".
(3) جاء من حديث عبادة بن الصامت : أخرجه أبو داود في السنن برقم (4700) والترمذي
في السنن برقم (3319) وقال الترمذي : "هذا حديث حسن غريب". وجاء من حديث
ابن عباس : رواه البيهقي في الأسماء والصفات (ص 378).
(5/452)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
{
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ
لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى
عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا
قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) }.
يقول تعالى مخبرا عن المشركين فيما جهلوا وكفروا ، وعبدوا من دون الله ما لم ينزل
به سلطانا ، يعني : حجة وبرهانا ، كقوله : { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا
آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا
يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [ المؤمنون : 117 ]. ولهذا قال هاهنا : { مَا لَمْ
يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ } أي : ولا علم لهم فيما
اختلقوه وائتفكوه ، وإنما هو أمر تلقوه عن آبائهم وأسلافهم ، بلا دليل ولا حجة ،
وأصله مما سول لهم الشيطان وزينه لهم ؛ ولهذا توعدهم تعالى بقوله : { وَمَا
لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } أي : من ناصر ينصرهم من الله ، فيما يحل بهم من
العذاب والنكال.
ثم قال : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } أي : وإذا ذكرت لهم
آيات القرآن والحجج والدلائل الواضحات على توحيد الله ، وأنه لا إله إلا هو ، وأن
رسله الكرام حق وصدق ، { يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ
آيَاتِنَا } أي : يكادون يبادرون الذين يحتجون عليهم بالدلائل الصحيحة من القرآن ،
ويبسطون إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء! { قُلْ } أي : يا محمد لهؤلاء. {
أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا (1) } أي : النار وعذابها ونكالها أشد وأشق وأطم وأعظم مما تخوفون به
أولياء الله المؤمنين في الدنيا ، وعذاب الآخرة على صنيعكم هذا أعظم مما تنالون
منهم ، إن نلتم بزعمكم وإرادتكم.
وقوله : { وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي : وبئس النار منزلا ومقيلا ومرجعا وموئلا
ومقاما ، { إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } [ الفرقان : 66 ].
__________
(1) في ت ، ف ، أ : "كفروا وبئس المصير".
(5/453)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
{ يَا
أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ
يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ
وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ
عَزِيزٌ (74) }.
يقول تعالى منبها على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها : { يَا أَيُّهَا
النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ } أي : لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به ، {
فَاسْتَمِعُوا لَهُ } أي : أنصتوا وتفهموا ، { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ } أي : لو اجتمع
جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد على أن يقدروا
(5/453)
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
على خلق
ذباب واحد ما قدروا على ذلك. كما قال الإمام أحمد.
حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا شَرِيك ، عن عمارة بن القعقاع ، عن أبي زُرْعة ، عن
أبي هريرة - رفع الحديث - قال : "ومن أظلم ممن خلق [خلقا] (1) كخلقي ؟
فليخلقوا مثل خلقي ذَرّة ، أو ذبابة ، أو حَبَّة" (2).
وأخرجه صاحبا الصحيح ، من طريق عُمَارة ، عن أبي زُرْعةَ ، عن أبي هريرة ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله عز وجل : "ومن أظلم ممن ذهب يخلق
كخلقي ؟ فليخلقوا ذرة ، فليخلقوا شعيرة" (3).
ثم قال تعالى أيضا : { وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ
مِنْهُ } أي : هم عاجزون عن خلق ذباب واحد ، بل أبلغ من ذلك عاجزون عن مقاومته
والانتصار منه ، لو سلبها شيئًا من الذي عليها من الطيب ، ثم أرادت أن تستنقذه منه
لما قدرت على ذلك. هذا والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها ولهذا [قال : {
ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } ] (4).
قال ابن عباس : الطالب : الصنم ، والمطلوب : الذباب. واختاره ابن جرير ، وهو ظاهر
السياق. وقال السدي وغيره : الطالب : العابد ، والمطلوب : الصنم.
ثم قال : { مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } أي : ما عرفوا قدر الله وعظمته
حين عبدوا معه غيره ، من هذه (5) التي لا تقاوم الذباب لضعفها وعجزها ، { إِنَّ
اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } أي : هو القوي الذي بقدرته وقوته خلق كل شيء ، {
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [
الروم : 27 ] ، { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ. إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ
وَيُعِيدُ } [ البروج : 12 ، 13 ] ، { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو
الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [ الذاريات : 58 ].
وقوله : { عَزِيزٌ } أي : قد عز (6) كل شيء فقهره وغلبه ، فلا يمانع ولا يغالب ،
لعظمته وسلطانه ، وهو الواحد القهار.
{ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى
اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (76) }.
يخبر تعالى أنه يختار من الملائكة رسلا فيما يشاء من شرعه وقَدَره ، ومن الناس
لإبلاغ رسالاته ، { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } أي : سميع لأقوال عباده ،
بصير بهم ، عليم بمن يستحق ذلك منهم ، كما قال : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ
يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ].
وقوله : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ
تُرْجَعُ الأمُورُ } أي : يعلم ما يفعل برسله فيما
__________
(1) زيادة من ت ، ف ، والمسند.
(2) المسند (2/391)
(3) صحيح البخاري برقم (5953) وصحيح مسلم برقم (2111).
(4) زيادة ، ت ، ف.
(5) في أ : "هذا الذي".
(6) في ف : "قدر".
(5/454)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
أرسلهم به ،
فلا يخفى عليه من أمورهم شيء ، كما قال : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى
غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا
رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ ] (1) وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ
عَدَدًا } [ الجن : 26 - 28 ] ، فهو سبحانه رقيب عليهم ، شهيد على ما يقال لهم ،
حافظ لهم ، ناصر لجنابهم ؛ { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ
مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ النَّاسِ } الآية [ المائدة : 67 ].
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ
وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ
حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ
قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا
بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) }.
اختلف الأئمة ، رحمهم الله ، في هذه السجدة الثانية من سورة الحج : هل هي مشروع
السجودُ فيها أم لا ؟ على قولين. وقد قدمنا عند الأولى حديث عقبة بن عامر عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "فُضلت سورة الحج بسجدتين ، فمن لم يسجدهما فلا
يقرأهما".
وقوله : { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } أي : بأموالكم وألسنتكم
وأنفسكم ، كما قال تعالى : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102
].
وقوله : { هُوَ اجْتَبَاكُمْ } أي : يا هذه الأمة ، الله اصطفاكم واختاركم على
سائر الأمم ، وفضلكم وشرفكم وخصكم بأكرم رسول ، وأكمل شرع.
{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } أي : ما كلفكم ما لا تطيقون
، وما ألزمكم بشيء فَشَقَ عليكم إلا جعل الله لكم فرجا ومخرجا ، فالصلاة - التي هي
أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين - تجب في الحَضَر أربعًا وفي السفر تُقْصَر إلى
ثِنْتَين ، وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة ، كما ورد به الحديث ، وتُصَلى رجالا
وركبانا ، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها. وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة
وغيرها ، والقيام فيها يسقط بعذر المرض ، فيصليها المريض جالسا ، فإن لم يستطع
فعلى جنبه ، إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات ، في سائر الفرائض والواجبات ؛ ولهذا
قال ، عليه السلام (2) : "بُعِثْتُ بالحنِيفيَّة السَّمحة" (3) وقال
لمعاذ وأبي موسى ، حين بعثهما أميرَين إلى اليمن : "بَشِّرا ولا
__________
(1) زيادة من ف ، أ. وفي ت : "إلى قوله".
(2) في ت : "عليه الصلاة والسلام" ، وفي ف ، أ : "صلى الله عليه
وسلم".
(3) رواه أحمد في مسنده (5/266) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.
(5/455)
تنفرا ،
ويَسِّرا ولا تُعسِّرَا" (1). والأحاديث في هذا كثيرة ؛ ولهذا قال ابن عباس
في قوله : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } يعني : من ضيق.
وقوله : { مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } : قال ابن جرير : نصب على تقدير : {
وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } أي : من ضيق ، بل وَسَّعه
عليكم كملة أبيكم إبراهيم. [قال : ويحتمل أنه منصوب على تقدير : الزموا ملة أبيكم
إبراهيم] (2).
قلت : وهذا المعنى في هذه الآية كقوله : { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } الآية [
الأنعام : 161 ].
وقوله : { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا } قال الإمام
عبد الله بن المبارك ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله : { هُوَ
سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } قال : الله عز وجل. وكذا قال مجاهد ،
وعطاء ، والضحاك ، والسدي ، وقتادة ، ومقاتل بن حَيَّان.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ }
يعني : إبراهيم ، وذلك لقوله : { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكََ } [ البقرة : 128 ].
قال ابن جرير : وهذا لا وجه له ؛ لأنه من المعلوم أن إبراهيم لم يسمّ هذه الأمة في
القرآن مسلمين ، وقد قال الله تعالى : { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ
قَبْلُ وَفِي هَذَا } قال مجاهد : الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة
وفي الذكر ، { وَفِي هَذَا } يعني : القرآن. وكذا قال غيره.
قلت : وهذا هو الصواب ؛ لأنه تعالى قال : { هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ، ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول ،
صلوات الله وسلامه عليه ، بأنه ملة أبيهم إبراهيم الخليل ، ثم ذكر منته تعالى على
هذه الأمة بما نَوّه به من ذكرها والثناء عليها في سالف الدهر وقديم الزمان ، في
كتب الأنبياء ، يتلى على الأحبار والرهبان ، فقال : { هُوَ سَمَّاكُمُ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } أي : من قبل هذا القرآن { وَفِي هَذَا } ، وقد قال
النسائي عند تفسير هذه الآية :
أنبأنا هشام بن عمار ، حدثنا محمد بن شُعَيب ، أنبأنا معاوية بن سلام (3) أن أخاه
زيد بن سلام أخبره ، عن أبي سلام أنه أخبره قال : أخبرني الحارث الأشعري ، عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال : "من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جِثيّ
جهنم". قال رجل : يا رسول الله ، وإن صام وصلى ؟ قال : "نعم ، وإن صام
وصلى ، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله" (4).
وقد قدمنا هذا الحديث بطوله عند تفسير قوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا
رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
} من سورة البقرة [ الآية : 21] ؛ ولهذا قال : { لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا
عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ }
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (3038) ومسلم في صحيحه برقم (1732).
(2) زيادة من ت ، ف.
(3) في ت : "سالم".
(4) سنن النسائي الكبرى برقم (11349).
(5/456)
أي : إنما
جعلناكم هكذا أمة وسطا عُدولا (1) خيارا ، مشهودا بعدالتكم عند جميع الأمم ،
لتكونوا يوم القيامة { شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } لأن جميع الأمم معترفة يومئذ
بسيادتها وفضلها (2) على كل أمة سواها ؛ فلهذا تقبل شهادتهم عليهم يوم القيامة ،
في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم ، والرسول يشهد على هذه الأمة أنه بلغها ذلك. وقد
تقدم الكلام على هذا عند قوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا
لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }
[ البقرة : 143 ] ، وذكرنا حديث نوح وأمته بما أغنى عن إعادته.
وقوله : { فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } أي : قابلوا هذه النعمة
العظيمة بالقيام بشكرها ، وأدوا حق الله عليكم في أداء ما افترض ، وطاعة ما أوجب ،
وترك ما حرم. ومن أهم ذلك إقامُ الصلاة وإيتاءُ الزكاة ، وهو الإحسان إلى خلق الله
، بما أوجب ، للفقير على الغني ، من إخراج جزء نزر من ماله في السَّنة للضعفاء
والمحاويج ، كما تقدم بيانه وتفصيله في آية الزكاة من سورة "التوبة"
(3).
وقوله : { وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ } أي : اعتضدوا بالله (4) ، واستعينوا به ،
وتوكلوا (5) عليه ، وتَأيَّدوا به ، { هُوَ مَوْلاكُمْ } أي : حافظكم وناصركم
ومُظفركُم على أعدائكم ، { فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } يعني :
[نعم] (6) الولي ونعم الناصر من الأعداء.
قال وُهَيْب بن الورد : يقول الله تعالى : ابن آدم ، اذكرني إذا غضبتَ أذكرك إذا
غضبتُ ، فلا أمحقك فيمن أمحق ، وإذا ظُلمتَ فاصبر ، وارض بنصرتي ، فإن نصرتي لك
خير من نصرتك لنفسك. رواه ابن أبي حاتم.
والله تعالى أعلم وله الحمد والمنة ، والثناء الحسن والنعمة ، وأسأله التوفيق
والعصمة ، في سائر الأفعال والأقوال.
هذا آخر تفسير سورة "الحج" ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
وشرف وكرم ، ورضي الله تعالى عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين (7).
__________
(1) في أ : "عدلا".
(2) في أ : "بسيادتهم وفضلهم".
(3) انظر تفسير الآية : 60 من سورة التوبة.
(4) في أ : "به".
(5) في أ : "اتكلوا".
(6) زيادة من ت.
(7) في ت : "وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، وحسبنا الله ونعم
الوكيل".
(5/457)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
تفسير سورة
المؤمنون (1)
مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ
فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلا عَلَى
أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)
فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ
هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى
صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ
الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) }.
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرني يونس بن سُلَيْم قال : أملى عليَّ
يونس بن يزيد (2) الأيلي ، عن ابن شهاب ، عن عُرْوَة بن الزبير ، عن عبد الرحمن بن
عَبْدٍ القاريّ قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : كان إذا نزل على رسول الله صلى
الله عليه وسلم الوحيُ ، يسمع عند وجهه كدَوِيّ النحل فَمَكثنا ساعة ، فاستقبل
القبلة ورفع يديه ، فقال : "اللهم ، زدنا ولا تَنْقُصْنا ، وأكرمنا ولا
تُهِنَّا ، وأعطنا ولا تحرمنا ، وآثِرْنا ولا تؤثر [علينا ، وارض عنا] (3) وأرضِنا"
، ثم قال : "لقد أنزلت علي عشر آيات ، من أقامهن دخل الجنة" ، ثم قرأ :
{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } حتى ختم العَشْر.
وكذا روى (4) الترمذي في تفسيره ، والنسائي في الصلاة ، من حديث عبد الرزاق ، به
(5).
وقال الترمذي : منكر ، لا نعرف أحدا رواه غير يونس بن سليم ، ويونس لا نعرفه.
وقال النسائي في تفسيره : أنبأنا قُتَيْبَةَ بن سعيد ، حدثنا جعفر ، عن أبي عمران
عن يزيد بن بابَنُوس قال : قلنا لعائشة : يا أم المؤمنين ، كيف كان (6) خُلُق رسول
الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ،
فقرأت : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } حتى انتهت إلى : { وَالَّذِينَ هُمْ
عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } ، قالت : هكذا كان خُلُق رسول الله صلى الله
عليه وسلم. (7)
وقد رُوي عن كعب الأحبار ، ومجاهد ، وأبي العالية ، وغيرهم : لَمَّا خلق الله جنة
عدن ،
__________
(1) في ف : "المؤمنين".
(2) في أ : "زيد".
(3) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(4) في أ : "رواه".
(5) المسند (1/34) وسنن الترمذي برقم (3173) وسنن النسائي الكبرى برقم (1439).
(6) في أ : "حال".
(7) سنن النسائي الكبرى برقم (11350).
(5/359)
وغرسها بيده
، نظر إليها وقال لها. تكلمي. فقالت : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } ، قال كعب
الأحبار : لِمَا أعدَّ لهم فيها من الكرامة. وقال أبو العالية : فأنزل الله ذلك في
كتابه.
وقد رُوي ذلك عن أبي سعيد الخدري مرفوعا ، فقال أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن
المُثَنَّى ، حدثنا المغيرة بن سلمة ، حدثنا وُهَيْب ، عن الجُرَيْري ، عن أبي
نَضْرَة ، عن أبي سعيد قال : خلق الله الجنة ، لَبِنَةً من ذهب ولبنة من فضة ،
وغرسها ، وقال لها : تكلمي. فقالت : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } ، فدخلتها
الملائكة فقالت : طوبى لك ، منزلَ الملوك!. (1)
ثم قال (2) : وحدثنا بِشْر بن آدم ، وحدثنا يونس بن عبيد الله العُمَري ، حدثنا
عَدِي بن الفضل ، حدثنا الجُرَيْرِي ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : "خلق الله الجنة ، لَبِنَةً من ذهب ولبنة من فضة ،
وملاطها (3) المسك". قال أبو بكر : ورأيت في موضع آخر في (4) هذا الحديث :
"حائط الجنة ، لبنة ذهب ولبنة فضة ، ومِلاطُها المسك. فقال لها : تكلمي.
فقالت : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } فقالت الملائكة : طوبى لك ، منزل
الملوك!".
ثم قال البزار : لا نعلم أحدًا رفعه إلا عَدِيّ بن الفضل ، وليس هو بالحافظ ، وهو
شيخ متقدم الموت (5).
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا هشام بن خالد ،
حدثنا بَقِيَّة ، عن ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : قال النبي صلى
الله عليه وسلم : "لمّا خلق الله جنة عَدْن ، خلق فيها ما لا عين رأت ، [ولا
أذن سمعت] (6) ، ولا خطر على قلب بشر. ثم قال لها : تكلمي. فقالت : { قَدْ
أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } (7).
بَقِيًّة : عن الحجازيين ضعيف.
وقال الطبراني : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا مِنْجَابُ بن الحارث ،
حدثنا حماد ابن عيسى العبسي ، عن إسماعيل السُّدِّيّ ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس
- يرفعه - : "لما خلق الله جنة عَدْن بيده ، ودَلَّى فيها ثمارها ، وشق فيها
أنهارها ، ثم نظر إليها فقال : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ }. قال : وعزتي (8)
لا يجاورني فيك بخيل" (9).
__________
(1) مسند البزار برقم (3507) "كشف الأستار". تنبيه : وقع في مسند البزار
سنده هكذا : "حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا حجاج بن المنهال ، حدثنا حماد بن
سلمة عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد.
(2) في أ : "وقال".
(3) في أ : "بلاطها".
(4) في أ : "من".
(5) مسند البزار برقم (3508) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع
(10/397) : "رجال الموقوف رجال الصحيح".
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) المعجم الكبير (11/184).
(8) في أ : "وعزتي وجلالي".
(9) المعجم الأوسط برقم (4861) "مجمع البحرين" ، وأبي صالح ضعيف.
(5/460)
وقال أبو
بكر بن أبي الدنيا : حدثنا محمد بن المثنى البَزَّار ، حدثنا محمد بن زياد الكلبي
، حدثنا يعيش بن حسين ، عن سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قَتادة ، عن أنس ، رضي الله
عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خلق الله جنة عدن بيده ،
لبنة من دُرَّة بيضاء ، ولبنة من ياقوتة حمراء ، ولبنة من زَبَرْجَدَةَ خضراء ،
ملاطُها المسك ، وحَصْباؤها اللؤلؤ ، وحَشِيشها الزعفران ، ثم قال لها : انطقي.
قالت : (1) { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } فقال الله : وعزتي ، وجلالي لا
يجاورني فيك بخيل". ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَمَنْ يُوقَ
شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (2) [الحشر : 9] فقوله تعالى :
{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } أي : قد فازوا وسُعِدُوا وحَصَلوا على الفلاح ،
وهم المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف.
{ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } " قال علي بن أبي طلحة ، عن
ابن عباس : { خَاشِعُونَ } : خائفون ساكنون. وكذا روي عن مجاهد ، والحسن ، وقتادة
، والزهري (3).
وعن علي بن أبي طالب ، رَضِي الله عنه : الخشوعُ : خشوعُ القلبِ. وكذا قال إبراهيم
النخعي.
وقال الحسن البصري : كان خشوعهم في قلوبهم ، فغضوا بذلك أبصارهم ، وخفضوا الجناح.
وقال محمد بن سيرين : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم إلى
السماء في الصلاة ، فلما نزلت هذه الآية : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ.
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم.
[و] (4) قال ابن سيرين : وكانوا يقولون : لا يجاوز بصره مُصَلاه ، فإن كان قد
اعتاد النظر فَلْيُغْمِضْ. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
ثم رَوَى (5) ابن جرير عنه ، وعن عطاء بن أبي رَبَاح أيضًا مرسلا أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ، حتى نزلت هذه الآية.
والخشوع في الصلاة إنما يحصل بمن فَرَّغ قلبه لها ، واشتغل بها عما عداها ، وآثرها
على غيرها ، وحينئذ تكون راحة له وقُرَّة عين ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم
، في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي ، عن أنس ، عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال : "حُبِّبَ إليَّ الطِّيب والنساء ، وجعلت قرة عيني في
الصلاة" (6).
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا مِسْعَر ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن سالم
بن أبي الجَعْد ،
__________
(1) في أ : "فقالت".
(2) صفة الجنة لابن أبي الدنيا برقم (20) وفي إسناده محمد بن زياد الكلبي ، قال
ابن معين : لا شيء.
تنبيه : وقع في صفة الجنة : "حدثنا محمد بن زياد الكلبي حدثنا بشر بن
الحسين" وفي النهاية في الفتن والملاحم لابن كثير (2/279) "نفيس بن ضين
".
(3) في ف ، أ : "والزهري وقتادة".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ : "ورواه".
(6) المسند (3/128) وسنن النسائي (6117).
(5/461)
عن رجل من
أسلَم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يا بلال ، أرحنا
بالصلاة" (1).
وقال الإمام أحمد أيضًا ؛ حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي ، حدثنا إسرائيل ، عن عثمان
بن المغيرة ، عن سالم ابن أبي الجعد ، أن محمد بن الحنفية قال : دخلت مع أبي على
صهر لنا من الأنصار ، فحَضَرت الصلاة ، فقال : يا جارية ، ائتني بوَضُوء لعلي أصلي
فأستريح. فرآنا (2) أنكرنا عليه ذلك (3) ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول : "قم يا بلال ، فأرحنا بالصلاة" (4).
وقال (5) : { وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } أي : عن الباطل ، وهو
يشمل : الشرك - كما قاله بعضهم - والمعاصي - كما قاله آخرون - وما لا فائدة فيه من
الأقوال والأفعال ، كما قال تعالى : { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا
كِرَامًا } [الفرقان : 72].
قال قتادة : أتاهم والله من أمر الله ما وقَذَهم عن ذلك.
وقوله : { وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } : الأكثرون على أن المراد
بالزكاة هاهنا زكاة الأموال ، مع أن هذه [الآية] (6) مكية ، وإنما فرضت الزكاة
بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة. والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات
النَّصَب والمقادير الخاصة ، وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجبًا بمكة ، كما
قال تعالى في سورة الأنعام ، وهي مكية : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ }
[الأنعام : 141].
وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة هاهنا : زكاة النفس من الشرك والدنس ، كقوله : {
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [الشمس : 9 ، 10] ،
وكقوله : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [فصلت
: 6 ، 7] ، على أحد القولين في تفسيرها.
وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مرادا ، وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال ؛ فإنه من جملة
زكاة النفوس ، والمؤمن الكامل هو الذي يتعاطى هذا وهذا ، والله أعلم.
وقوله : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ
أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى
وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } أي : والذين قد حفظوا فروجهم من
الحرام ، فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنا أو لواط ، ولا يقربون سوى أزواجهم
التي أحلها الله لهم ، وما ملكت أيمانهم من السراري ، ومن تعاطى ما أحله الله له
فلا لوم عليه ولا حرج ؛ ولهذا (7) قال : { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ
ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ } أي : غير الأزواج والإماء ، { فَأُولَئِكَ هُمُ
الْعَادُونَ } أي : المعتدون.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بَشَّار ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا سعيد ، عن
قتادة ، أن امرأة
__________
(1) المسند (5/364).
(2) في ف ، أ : "فرأى أنا".
(3) في ف : "ذلك عليه".
(4) المسند (5/371).
(5) في أ : "وقوله".
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) في ف : "فلهذا".
(5/462)
اتخذت
مملوكها ، وقالت : تأَوّلْت آية من كتاب الله : { أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ
} [قال] (1) : فأُتي بها عمر ابن الخطاب ، فقال له ناس من أصحاب النبي (2) صلى
الله عليه وسلم : تأولت آية من كتاب الله على غير وجهها. قال : فَغرب (3) العبد
وجزّ رأسه : وقال : أنت بعده حرام على كل مسلم. هذا أثر غريب منقطع ، ذكره (4) ابن
جرير في أول تفسير سورة المائدة (5) ، وهو هاهنا أليق ، وإنما حرمها على الرجال
معاملة لها بنقيض قصدها ، والله أعلم.
وقد استدل الإمام الشافعي ، رحمه الله ، ومن وافقه على تحريم الاستمناء باليد بهذه
الآية الكريمة { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلا عَلَى
أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } قال : فهذا الصنيع خارج عن هذين
القسمين ، وقد قال : { فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْعَادُونَ } وقد استأنسوا بحديث رواه الإمام الحسن بن عَرَفَةَ في جزئه المشهور
حيث قال :
حدثني علي بن ثابت الجَزَريّ ، عن مسلمة بن جعفر ، عن حسان بن حميد (6) ، عن أنس
بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "سبعة لا ينظر الله إليهم يوم
القيامة ، ولا يزكيهم ، ولا يجمعهم مع العاملين ، ويدخلهم النار أول الداخلين ،
إلا أن يتوبوا ، فمن تاب تاب الله عليه : ناكح يده (7) ، والفاعل ، والمفعول به ،
ومدمن (8) الخمر ، والضارب والديه حتى يستغيثا ، والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه ،
والناكح حليلة جاره" (9).
هذا حديث غريب ، وإسناده فيه من لا يعرف ؛ لجهالته ، والله أعلم.
وقوله : { وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } أي : إذا
اؤتمنوا لم يخونوا ، بل يؤدونها إلى أهلها ، وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك ،
لا كصفات المنافقين الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : "آية
المنافق ثلاث : إذا حَدَّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان".
وقوله : { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } أي : يواظبون عليها
في مواقيتها ، كما قال ابن مسعود : سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول
الله ، أيّ العمل أحب إلى الله ؟ قال : "الصلاة على وقتها". قلت : ثم
أيّ ؟ قال : "بِرُّ الوالدين". قلت : ثم أي ؟ قال : "الجهاد في
سبيل الله".
أخرجاه في الصحيحين (10). وفي مستدرك الحاكم قال : "الصلاة في أول
وقتها" (11).
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ : "رسول الله".
(3) في ف ، أ : "فضرب" وهو الصحيح.
(4) في أ : "ذكرها".
(5) تفسير الطبري (9/586) ط - المعارف.
(6) في ف ، أ : "أحمد".
(7) في ف ، أ : "الناكح يده".
(8) في ف ، أ : "المدمن".
(9) جزء الحسن بن عرفة برقم (41).
(10) صحيح البخاري برقم (5970) وصحيح مسلم برقم (85).
(11) المستدرك (1/188) وقال الحاكم : "فقد صحت هذه اللفظة باتفاق الثقتين
بندار بن بشار ، والحسن بن مكرم على روايتهما عن عثمان بن عمرو ، وهو صحيح على شرط
الشيخين ولم يخرجاه".
(5/463)
وقال ابن
مسعود ، ومسروق في قوله : { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ }
يعني : مواقيت الصلاة. وكذا قال أبو الضُّحَى ، وعلقمة بن قيس ، وسعيد بن جبير ،
وعكرمة.
وقال قتادة : على مواقيتها وركوعها وسجودها.
وقد افتتح الله ذكر هذه الصفات الحميدة بالصلاة ، واختتمها بالصلاة ، فدل على
أفضليتها ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "استقيموا ولن تحصوا ،
واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" (1).
ولَما وَصَفَهم [الله] (2) تعالى بالقيام بهذه الصفات الحميدة والأفعال الرشيدة
قال : { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ }
وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا سألتم الله
الجنة فاسألوه الفردوس ، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ، ومنه تفجر أنهار الجنة ،
وفوقه عرش الرحمن" (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنَان ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن
أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: "ما منكم من أحد إلا وله منزلان : منزل في الجنة ومنزل في النار ، فإن مات
فدخل النار وَرثَ أهل الجنة منزله ، فذلك قوله : { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ }
(4).
وقال ابن جُرَيْج ، عن لَيْث ، عن مجاهد : { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ } قال :
ما من عبد إلا وله منزلان : منزل في الجنة ، ومنزل في النار ، فأما المؤمن فيُبنَى
بيته الذي في الجنة ، ويُهدّم بيته الذي في النار (5) ، وأما الكافر فيُهْدَم بيته
الذي في الجنة ، ويُبنى بيته الذي في النار. وروي عن سعيد بن جُبَيْر نحو ذلك.
فالمؤمنون يرثون منازل الكفار ؛ لأنهم [كلهم] (6) خلقوا لعبادة الله تعالى (7) ،
فلما قام هؤلاء المؤمنون بما وجب عليهم من العبادة ، وترَكَ أولئك ما أمرُوا به
مما خُلقوا له - أحرزَ هؤلاء نصيب
__________
(1) جاء من حديث ثوبان : رواه ابن ماجه في السنن برقم (277) من طريق سفيان عن
منصور عن ابن أبي الجعد عنه به وفيه انقطاع. ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص :
رواه ابن ماجه في السنن برقم (278) من طريق المعتمر عن ليث عن مجاهد عنه به ، وليث
بن أبي سليم ضعيف. ومن حديث أبي أمامة : رواه ابن ماجه في السنن برقم (279) من
طريق إسحاق بن أسيد عن أبي حفص الدمشقي عنه به ، وضعفه البوصيري في الزوائد.
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) البخاري في صحيحه برقم (2790) ، (7423) عن أبي هريرة ، ولم يعزه صاحب التحفة
إلى غير البخاري.
(4) ورواه ابن ماجه في السنن برقم (4341) عن أبي بكر بن أبي شيبة وأحمد بن سنان ،
كلاهما عن أبي معاوية به. وقال البوصيري في الزوائد (3/327) : "هذا إسناد
صحيح على شرط الشيخين".
(5) في ف ، أ : "فيهدم بيته الذي في النار ، ويبنى بيته الذي في الجنة".
(6) زيادة من أ.
(7) في ف ، أ : "وحده لا شريك له".
(5/464)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
أولئك لو
كانوا أطاعوا ربهم عز وجل ، بل أبلغ من هذا أيضًا ، وهو ما ثبت في صحيح مسلم ، عن
أبي بُردَةَ (1) ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يجيء يوم
القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال ، فيغفرها الله لهم ، ويضَعُها على
اليهود والنصارى" (2).
وفي لفظ له : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا كان يوم القيامة
دَفَعَ الله لكل مسلم يهوديًّا أو نصرانيًّا ، فيقال (3) : هذا فَكَاكُكَ من
النار". فاستحلف عُمر بن عبد العزيز أبا بُردَةَ بالله الذي لا إله إلا هو ،
ثلاث مرات ، أن أباه حَدَّثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فحلف له
(4). قلت : وهذه الآية كقوله تعالى : { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ
عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا } [مريم : 63] ، وكقوله : { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ
الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الزخرف : 73]. وقد قال
مجاهد ، وسعيد بن جُبَيْر : الجنة بالرومية هي الفردوس.
وقال بعض السلف : لا يسمى البستان فردوسًا إلا إذا كان فيه عنب ، فالله أعلم (5).
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ
نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً
فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا
الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ
أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15)
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) }.
يقول تعالى مخبرًا عن ابتداء خلق الإنسان من سلالة من طين ، وهو آدم ، عليه السلام
، خلقه الله من صلصال من حمأ مسنون.
وقال الأعمش ، عن المِنْهال بن عمرو ، عن أبي يحيى ، عن ابن عباس : { مِنْ
سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ } قال : صَفوةُ الماء.
وقال مجاهد : { مِنْ سُلالَةٍ } أي : من منيّ آدم.
قال ابن جرير : وإنما سمي آدم طينًا لأنه مخلوق منه.
وقال قتادة : استُلّ آدمُ من الطين. وهذا أظهر في المعنى ، وأقرب إلى السياق ، فإن
آدم ، عليه السلام ، خلق من طين لازب ، وهو الصلصال من الحمأ المسنون ، وذلك مخلوق
من التراب ، كما قال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ
ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ } [الروم : 20].
__________
(1) في ف ، أ : "بردة بن أبي موسى".
(2) صحيح مسلم برقم (2767).
(3) في ف ، أ : "فيقول".
(4) صحيح مسلم برقم (2767).
(5) في ف ، أ : "والله أعلم.
(5/465)
وقال الإمام
أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا عَوْف ، حدثنا قَسَامة بن زُهَيْر ، عن أبي
موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من
جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قَدْر الأرض ، جاء منهم الأحمر والأسود والأبيض ،
وبين ذلك ، والخبيث والطيب ، وبين ذلك".
وقد رواه أبو داود والترمذي ، من طرق ، عن عوف الأعرابي ، به نحوه (1). وقال
الترمذي : حسن صحيح.
{ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً } : هذا الضمير عائد على جنس الإنسان ، كما قال في
الآية الأخرى : { وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ
مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ } [السجدة : 7 ، 8] أي : ضعيف ، كما قال : {
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ } (2)
، يعني : الرحمُ مُعَد لذلك مهيأ له ، { إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا
فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ } [المرسلات : 22 ، 23] ، أي : [إلى] (3) مدة معلومة وأجل
معين حتى استحكم وتنَقَّل من حال إلى حال ، وصفة إلى صفة ؛ ولهذا قال هاهنا : {
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً } أي : ثم صَيَّرنا النطفة ، وهي الماء
الدافق الذي يخرج من صلب الرجل - وهو ظهره - وترائب المرأة - وهي عظام صدرها ما
بين الترقوة إلى الثندوة - فصارت علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة. قال عكرمة :
وهي دم.
{ فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً } : وهي قطعة كالبَضعة من اللحم ، لا شكل فيها
ولا تخطيط ، { فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا } يعني : شكلناها ذات رأس ويدين
ورجلين بعظامها وعصبها وعروقها.
وقرأ آخرون : { فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا (4) }.
قال ابن عباس : وهو عظم الصلب.
وفي الصحيح ، من حديث أبي الزِّنَاد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "كل جسد ابن آدم يبلى إلا عَجْبُ الذَّنَب ، منه
خلق ومنه (5) يركب" (6).
{ فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا } أي : وجعلنا على ذلك ما يستره ويشده ويقويه ،
{ ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } أي : ثم نفخنا فيه الروح ، فتحرك وصار {
خَلْقًا آخَرَ } ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ
الْخَالِقِينَ }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا جعفر بن مُسافر ، حدثنا يحيى بن
حسان ، حدثنا النضر - يعني : ابن كثير ، مولى بني هاشم - حدثنا زيد بن علي ، عن
أبيه ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : إذا أتمت النطفة أربعة أشهر ،
بُعِث إليها مَلك فنفخ فيها الروح في
__________
(1) المسند (4/400) وسنن أبي داود برقم (4693) وسنن الترمذي برقم (2955).
(2) في أ : "فجعلناه نطفة" وهو خطأ.
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في ف ، أ : "النطفة عظاما".
(5) في أ : "وفيه".
(6) صحيح البخاري برقم (4935) وصحيح مسلم برقم (2955) من حديث أبي هريرة رضي الله
عنه.
(5/466)
الظلمات
الثلاث ، فذلك قوله : { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } يعني : نفخنا فيه
الروح (1).
ورُوي عن أبي سعيد الخدري أنه نَفْخُ الروح.
قال ابن عباس : { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } يعني به : الروح (2). وكذا
قال مجاهد ، وعكرمة ، والشعبي ، والحسن ، وأبو العالية ، والضحاك ، والربيع بن أنس
، والسدي ، وابنُ زيد ، واختاره ابنُ جرير (3).
وقال العَوْفِيّ ، عن ابن عباس : { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } يعني :
ننقله من حال إلى حال ، إلى أن خرج طفلا ثم نشأ صغيرًا ، ثم احتلم ، ثم صار شابًّا
، ثم كهلا ثم شيخًا ، ثم هرما.
وعن قتادة ، والضحاك نحو ذلك. ولا منافاة ، فإنه من ابتداء (4) نفخ الروح [فيه]
(5) شَرَع في هذه التنقلات والأحوال. والله أعلم.
قال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن
عبد الله - هو ابن مسعود - قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الصادق
المصدوق : "إن أحدكم ليُجمع خَلقُه في بطن أمه أربعين يومًا ، ثم يكون علقة
مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ، ويؤمر
بأربع كلمات : رزقه ، وأجله ، وعمله ، وهل هو شقي أو سعيد ، فوالذي لا إله غيره ،
إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه
الكتاب ، فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن الرجل (6) ليعمل بعمل أهل النار ،
حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيختم له بعمل أهل الجنة
فيدخلها".
أخرجاه من حديث سليمانَ بن مِهْرَان الأعمش (7).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنَان ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن
خَيْثَمَة قال : قال عبد الله (8) - يعني : ابن مسعود - إن النطفة إذا وقعت في
الرحم ، طارت في كل شعر وظفر ، فتمكث أربعين يوما ، ثم تتحدّر (9) في الرحم فتكون
علقة.
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا حسين بن الحسن ، حدثنا أبو كُدَيْنة ، عن عطاء بن
السائب ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن عبد الله قال : مَرَّ يهوديّ
برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث أصحابه ، فقالت قريش : يا يهودي ، إن هذا
يَزعمُ أنه نبي. فقال : لأسألنه عن شيء لا يعلمه إلا نبي. قال : فجاءه حتى جلس ،
فقال : يا محمد ، مِمَّ يخلق الإنسان ؟ فقال : "يا يهودي ، من كلٍّ
__________
(1) في ف : "يعني به الروح".
(2) في ف : "يعني نفخنا فيه الروح".
(3) تفسير الطبري (8 - 81).
(4) في ف : "ابتدأ".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في ف : "أحدكم".
(7) المسند (1/382) وصحيح البخاري برقم (6594) وصحيح مسلم برقم (2643).
(8) في ف : "عن خيثمة عن عبد الله قال : قال".
(9) في ف ، أ : "تنحدر".
(5/467)
يُخْلَقُ ،
من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة ، فأما نطفة الرجل فنطفة غليظة منها العظم والعَصَب
، وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم والدم" فقام اليهودي فقال : هكذا
كان يقول من قبلك. (1)
وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن عمرو ، عن أبي الطُّفَيْل ، حُذَيْفَة بن
أُسَيْد الغفاري قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "يدخل
المَلك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين ليلة ، فيقول : يا رب ، ماذا ؟
أشقي أم سعيد ؟ أذكر أم أنثى ؟ فيقول الله ، فيكتبان (2). فيقولان : ماذا ؟ أذكر
أم أنثى ؟ فيقول الله عز وجل ، فيكتبان ويُكْتَبُ عمله ، وأثره ، ومصيبته ، ورزقه
، ثم تطوى الصحيفة ، فلا يُزاد على ما فيها ولا ينقص".
وقد رواه مسلم في صحيحه ، من حديث سفيان بن عيينة ، عن عمرو - وهو ابن دينار - به
(3) نحوه. ومن طُرَق أخرَى ، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة ، عن حذيفة بن أسيد أبي
سريحة (4) الغفاري بنحوه ، والله أعلم (5).
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أحمد بن عبدة ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا
عبيد الله بن أبي بكر ، عن أنس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن
الله وكّل بالرحم مَلكًا فيقول : أي رب ، نطفة. أيْ رب ، علقة (6) أي رب ، مضغة.
فإذا أراد الله خلقها قال : يا رب ، ذكر أو أنثى ؟ شقي أو سعيد ؟ فما الرزق والأجل
؟" قال : "فذلك يكتب في بطن أمه".
أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد به (7).
وقوله : { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } يعني : حين ذكر قدرته
ولطفه في خلق هذه النطفة من حال إلى حال ، وشكل إلى شكل ، حتى تصورت إلى ما صارت
إليه من الإنسان السَّوِيّ الكامل الخلق ، قال : { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ
الْخَالِقِينَ }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا حماد بن سلمة ،
حدثنا علي بن زيد ، عن أنس ، قال : قال عمر - يعني : ابن الخطاب رضي الله عنه - :
وافقت ربي ووافقني في أربع : نزلت هذه الآية : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ
مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ } الآية ، قلت (8) أنا : فتبارك الله أحسن الخالقين.
فنزلت : { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }
__________
(1) المسند (1/465).
(2) في ف : "ويكتبان".
(3) المسند (4/6) وصحيح مسلم برقم (2644).
(4) في أ : "سريح".
(5) صحيح مسلم برقم (2645).
(6) في ف : "فحلقه".
(7) صحيح البخاري برقم (318) وصحيح مسلم برقم (2646).
(8) في ف ، أ : "الآية ، فلما نزلت قلت".
(5/468)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
وقال أيضًا
: حدثنا أبي ، حدثنا آدم بن أبي إياس ، حدثنا شَيْبَان ، عن جابر الجُعْفِي ، عن
عامر الشعبي ، عن زيد بن ثابت الأنصاري قال : أملى عليَّ رسولُ الله هذه الآية : {
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ } إلى قوله : { خَلْقًا
آخَرَ } ، فقال معاذ : { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } ، فضحك
رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له معاذ : مم ضحكت يا رسول الله ؟ قال :
"بها ختمت { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } (1).
جابر بن يزيد الجُعْفِي ضعيف جدًّا ، وفي خبره هذا نَكَارة شَديدة ، وذلك أن هذه
السورة مكية ، وزيد بن ثابت إنما كتب الوحي بالمدينة ، وكذلك (2) إسلام معاذ بن
جبل إنما كان بالمدينة أيضًا ، فالله أعلم (3).
وقوله : { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ } يعني : بعد هذه النشأة
الأولى من العدم تَصيرون إلى الموت ، { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
تُبْعَثُونَ } يعني : النشأة الآخرة ، { ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ
الآخِرَةَ } [العنكبوت : 20] يعني : يوم المعاد ، وقيام الأرواح والأجساد ، فيحاسب
الخلائق ، ويوفي كل عامل عمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ
غَافِلِينَ (17) }.
لما ذكر تعالى خَلْق الإنسان ، عطف بذكر خلق السموات السبع ، وكثيرًا ما يذكر
تعالى خلق السموات والأرض (4) مع خلق الإنسان ، كما قال تعالى : { لَخَلْقُ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [غافر : 57]. وهكذا في
أول { الم } السجدة ، التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها [في] (5)
صبيحة يوم الجمعة ، في أولها خَلْقُ السموات والأرض ، ثم بيان خلق الإنسان من
سلالة من طين ، وفيها أمر المعاد والجزاء ، وغير ذلك من المقاصد.
فقوله : { سَبْعَ طَرَائِقَ } : قال مجاهد : يعني السموات السبع ، وهذه كقوله
تعالى : { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ }
[الإسراء : 44] ، { أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ
طِبَاقًا } [نوح : 15] ، { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ
الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا
} [الطلاق : 12]. وهكذا قال هاهنا : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ
طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ } أي : ويعلم ما يلج في الأرض
وما يخرج منها ،
__________
(1) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3367) "مجمع البحرين" عن أبي
زرعة عن آدم بن إياس به وجابر الجعفي ضعيف.
(2) في ف ، أ : "وكذا".
(3) في ف ، أ : "والله أعلم".
(4) في أ : "السبع".
(5) زيادة من ف ، أ.
(5/469)
وما ينزل من السماء وما يعرُج فيها ، وهو معكم أينما كنتم ، والله بما تعملون بصير. وهو - سبحانه - لا يَحجبُ عنه سماء سماء ، ولا أرض أرضًا ، ولا جبل إلا يعلم ما في وَعْره ، ولا بحر إلا يعلم ما في قَعْره ، يعلم عدد ما في الجبال والتلال والرمال ، والبحار والقفار والأشجار ، { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [الأنعام : 59].
(5/470)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
{
وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرْضِ وَإِنَّا
عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ
نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
(19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ
لِلآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا
فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21)
وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) }.
يذكر تعالى نعمه على عبيده (1) التي لا تعدّ ولا تحصى ، في إنزاله القَطْر من
السماء { بِقَدَرٍ } أي : بحسب الحاجة ، لا كثيرًا فيفسد الأرض والعمران ، ولا
قليلا فلا يكفي الزروع والثمار ، بل بقدر الحاجة إليه من السقي والشرب والانتفاع
به ، حتى إن الأراضي التي تحتاج ماء كثيرًا لزرعها ولا تحتمل دِمْنتها إنزال المطر
عليها ، يسوق إليها الماء من بلاد أخرى ، كما في أرض مصر ، ويقال لها :
"الأرض الجرُز" ، يسوق الله إليها ماء النيل معه طين أحمر يجترفه من
بلاد الحبشة في زمان أمطارها ، فيأتي الماء يحمل طينًا (2) أحمر ، فيسقي أرض مصر ،
ويقر الطين على أرضهم ليزدرعوا فيه ، لأن أرضهم سباخ يغلب عليها الرمال ، فسبحان
اللطيف الخبير الرحيم الغفور.
وقوله : { فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرْضِ } أي : جعلنا الماء إذا نزل من السحاب يخلد
في الأرض ، وجعلنا (3) في الأرض قابليَّة له ، تشربه ويتغذى به ما فيها من الحب
والنوى.
وقوله : { وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } أي : لو شئنا ألا تمطر
لفعلنا ، ولو شئنا لصرفناه عنكم إلى السباخ والبراري [والبحار] (4) والقفار لفعلنا
، ولو شئنا لجعلناه أجاجًا لا ينتفع به لشُرب ولا لسقي لفعلنا ، ولو شئنا لجعلناه
لا ينزل في الأرض ، بل ينجَرّ على وجهها لفعلنا. ولو شئنا لجعلناه إذا نزل فيها
يغور إلى مَدَى لا تصلون إليه ولا تنتفعون به لفعلنا. ولكن بلطفه ورحمته ينزل عليكم
الماء من السحاب عذبًا فراتًا زلالا فيسكنه في الأرض ويَسْلُكُه ينابيع في الأرض ،
فيفتح (5) العيون والأنهار ، فيسقي (6) به الزروع والثمار ، وتشربون منه ودوابكم
وأنعامكم ، وتغتسلون (7) منه وتتطهرون
__________
(1) في ف ، أ : "عبده".
(2) في ف : "الطين".
(3) في ف ، أ : "وجعل".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ف : "فيفجر".
(6) في ف ، أ : "ويسقي".
(7) في ف : "ويغتسلون وتغتسلون".
(5/470)
وتتنظفون ،
فله الحمد والمنة.
وقوله : { فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } يعني :
فأخرجنا لكم بما أنزلنا من الماء { جَنَّاتٍ } أي : بساتين وحدائق ذات بهجة ، أي :
ذات منظر حسن.
وقوله : { مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } أي : فيها نخيل وأعناب. وهذا ما كان يألف
أهل الحجاز ، ولا فرق بين الشيء وبين نظيره ، وكذلك في حق كل أهل إقليم ، عندهم من
الثمار من نعمة الله عليهم ما يَعْجِزُون عن القيام بشكره.
وقوله : { لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ } أي : من جميع الثمار ، كما قال : {
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِنْ
كُلِّ الثَّمَرَاتِ } [النحل : 11].
وقوله : { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } كأنه معطوف على شيء مقدر ، تقديره : تنظرون إلى
حسنه ونضجه ، ومنه تأكلون.
وقوله : { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ } يعني : الزيتونة. والطور :
هو الجبل. وقال بعضهم : إنما يسمى طورا إذا كان فيه شجر ، فإن عَرى عنها سمي
جَبَلا لا طورًا ، والله أعلم. وطور سيناء : هو طور سينين ، وهو الجبل الذي كَلَّم
[الله] (1) عليه موسى بن عمران ، عليه السلام ، وما حوله من الجبال التي فيها شجر
الزيتون.
وقوله : { تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ } : قال بعضهم : الباء زائدة ، وتقديره : تنبت
الدهن ، كما في قول العرب : ألقى فلان بيده ، أي : يده. وأما على قول من يُضَمِّن
الفعل فتقديره : تخرج بالدهن ، أو (2) تأتي بالدهن ؛ ولهذا قال : { وَصِبْغٍ } أي
: أدْم ، قاله قتادة. { لِلآكِلِينَ } أي : فيها ما ينتفع به من الدهن والاصطباغ ،
كما قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، عن عبد الله بن عيسى ، عن عطاء الشامي ، عن
أبي أسَيْد - واسمه مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري - قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "كلوا الزيت وادهنوا به (3) ؛ فإنه من شجرة مباركة"
(4).
وقال عبد بن حُمَيد في مسنده وتفسيره : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن
زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"ائتدموا بالزيت وادهنوا به ، فإنه يخرج من شجرة مباركة".
ورواه الترمذي وابن ماجه من غير وجه ، عن عبد الرزاق (5). قال الترمذي : ولا يعرف
إلا من
__________
(1) زيادة من ف ، وفي أ : "والله تعالى".
(2) في ف ، أ : "أي".
(3) في أ : "بالزيت".
(4) المسند (3/497).
(5) المنتخب لعبد بن حميد برقم (13) وسنن الترمذي برقم (1851) وسنن ابن ماجه برقم
(3319).
(5/471)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)
حديثه ،
وكان يضطرب فيه ، فربما ذكر فيه عمر (1) وربما لم يذكره.
قال (2) أبو القاسم الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا أبي ،
حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثني الصَّعْب بن حكيم بن شريك بن نملة ، عن أبيه عن جده
، قال : ضِفْت عمرَ بن الخطاب ليلة عاشوراء (3) ، فأطعمني (4) من رأس بعير بارد ،
وأطعمنا زيتًا ، وقال : هذا الزيت المبارك الذي قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم
(5).
وقوله : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي
بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ } : يذكر تعالى ما جعل لخلقه في
الأنعام من المنافع ، وذلك أنهم يشربون من ألبانها الخارجة من بين فرْث ودم ،
ويأكلون من حملانها ، ويلبسون من أصوافها وأوبارها وأشعارها ، ويركبون ظهورها
ويحملونها (6) الأحمال الثقال إلى البلاد النائية عنهم ، كما قال تعالى : {
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ
الأنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } [النحل : 7] ، وقال تعالى : {
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا
فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ. وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا
يَأْكُلُونَ. وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ } [يس :
71 - 73].
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا
اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلأ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ
يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأنزلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا
بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ
فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) }.
يخبر تعالى عن نوح ، عليه السلام ، حين بعثه (7) إلى قومه ، لينذرهم عذاب الله وبأسه
الشديد ، وانتقامه ممن أشرك به وخالف أمره وكذب رسله ، { فَقَالَ يَا قَوْمِ
اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ } أي : ألا
تخافون من الله في إشراككم به ؟!
فقال الملأ - وهم السادة والأكابر منهم - : { مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ
يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ } يعنون : يترفع عليكم ويتعاظم بدعوى (8)
النبوة ، وهو بشر مثلكم. فكيف أوحي إليه دونكم ؟ { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأنزلَ
مَلائِكَةً } أي : لو أراد أن يبعث نبيًّا ، لبعث مَلَكًا من عنده ولم يكن بشرًا!
{ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا } أي : ببعثة البشر في آبائنا الأولين. يعنون (9) بهذا
أسلافهم وأجدادهم والأمم (10) الماضية.
__________
(1) في أ : "عمرو".
(2) في ف ، أ : "وقال".
(3) في ف : "ضفت ليلة عمر بن الخطاب".
(4) في ف : فأطعمني "عودا". وفي أ : "عسورا".
(5) المعجم الكبير (1/74) والصعب بن حكيم لا يعرف كما قال الذهبي.
(6) في ف : "ويحملون".
(7) في ف ، أ : "بعثه الله".
(8) في ف ، أ : "بدعوة".
(9) في ف : "يعني".
(10) في ف ، أ : "الدهور".
(5/472)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
وقوله : {
إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ } أي : مجنون فيما يزعمه ، من أن الله أرسله
إليكم ، واختصه من بينكم بالوحي { فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ } أي : انتظروا
به ريب المنون ، واصبروا عليه مدة حتى تستريحوا منه.
{ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ
اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ
التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا
مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ
ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) }
(5/473)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
{ فَإِذَا
اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنزلْنِي
مُنزلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ
وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) }.
يقول تعالى مخبرًا عن نوح ، عليه السلام ، أنه دعا ربه يستنصره على قومه ، كما قال
تعالى مخبرا [عنه] (1) في الآية الأخرى : { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ
فَانْتَصِرْ } [القمر : 10] ، وقال هاهنا : { [قَالَ] (2) رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا
كَذَّبُونِ } فعند ذلك أمره الله تعالى بصنعة السفينة وإحكامها وإتقانها ، وأن
يحمل فيها من كل زوجين اثنين ، أي : ذكرًا وأنثى من كل صنف من الحيوانات والنباتات
والثمار ، وغير ذلك ، وأن يحمل فيها أهله { إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ }
أي : سبق فيه القول من الله بالهلاك ، وهم الذين لم يؤمنوا به من أهله ، كابنه
وزوجته ، والله أعلم.
وقوله : { وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ } أي :
عند معاينة إنزال المطر العظيم ، لا تأخذنك رأفة بقومك ، وشفقة عليهم ، وطَمَع في
تأخيرهم لعلهم يؤمنون ، فإني قد قضيت أنهم مغرقون على ما هم عليه من الكفر
والطغيان. وقد تقدمت القصة مبسوطة في سورة "هود" (3) بما يغني عن إعادة
ذلك هاهنا.
وقوله : { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } ، كَمَا
قَالَ : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ.
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا
اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا
كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } [الزخرف : 12
- 14]. وقد امتثل نوح ، عليه السلام ، هذا ، كما قال تعالى : { وَقَالَ ارْكَبُوا
فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } [هود : 41]. فذَكَر اللهَ تعالى
عند ابتداء سيره وعند انتهائه ، وقال تعالى : { وَقُلْ رَبِّ أَنزلْنِي مُنزلا
مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزلِينَ }.
وقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ } أي : إن في هذا الصنيع - وهو إنجاء المؤمنين
وإهلاك الكافرين -
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) زيادة من أ.
(3) انظر تفسير الآيات : 25 - 48.
(5/473)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
{ لآيَاتٍ }
أي : لحججًا (1) ودلالات واضحات على صدق الأنبياء فيما جاءوا به عن الله تعالى ،
وأنه تعالى فاعل لما يشاء ، وقادر على كل شيء ، عليم بكل شيء.
وقوله : { وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } أي : لمختبرين للعباد بإرسال المرسلين.
{ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ
رَسُولا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا
تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا
تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا
لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا
وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)
إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ
بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا
نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39)
قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ
بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) }.
يخبر تعالى أنه أنشأ بعد قوم نوح قرنًا آخرين (2) - قيل : المراد بهم عاد ، فإنهم
كانوا مستخلفين بعدهم. وقيل : المراد بهؤلاء ثمود ؛ لقوله : { فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ } - وأنه تعالى أرسل فيهم رسولا منهم ، فدعاهم إلى عبادة
الله وحده لا شريك له. فكذبوه وخالفوه ، وأبوا من اتباعه لكونه بشرًا مثلهم ،
واستنكفوا عن اتباع رسول بشري ، فكذبوا بلقاء الله في القيامة ، وأنكروا المعاد
الجثماني ، وقالوا { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا
وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ. هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ } أي :
بعيد بعيد ذلك.
{ إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } أي : فيما جاءكم (3) به
من الرسالة والنذارة والإخبار بالمعاد. { وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ. قَالَ
رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ } أي : استفتح عليهم الرسول واستنصَرَ ربَّه
عليهم ، فأجاب دعاءه ، { قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ } أي :
بمخالفتك وعنادك فيما جئتهم به ،
{ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ } أي : وكانوا يستحقون ذلك من الله
لكفرهم وطغيانهم.
والظاهر أنه اجتمع عليهم صيحة مع الريح الصَّرْصر العاصف القويّ الباردة ، {
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى (4) إِلا
مَسَاكِنُهُمْ } [الأحقاف : 25].
وقوله : { فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً } أي : صرعى هَلْكى كغثاء السيل ، وهو الشيء
الحقير التافه الهالك الذي
__________
(1) في ف ، أ : "لحجج".
(2) في ف ، أ : "آخر".
(3) في ف ، أ "جاء".
(4) في ف ، أ : "ترى".
(5/474)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ (42)
لا ينتفع
بشيء منه. { فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } ، كقوله (1) : { وَمَا
ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ } [الزخرف : 76] أي : بكفرهم
وعنادهم ومخالفة رسول الله ، فليحذر السامعون أن يكذبوا رسولهم.
{ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) }
__________
(1) في ف : "كقولهم".
(5/475)
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
{ مَا
تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا
رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا
بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ
(44) }.
يقول تعالى : { ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ } أي : أمما
وخلائق ، { مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } يعني (1)
: بل يُؤْخَذون (2) حَسَب ما قدر لهم تعالى في كتابه المحفوظ وعلمه قبل كونهم ،
أمة بعد أمة ، وقرنا بعد قرن ، وجيلا بعد جيل ، وخَلفًا بعد سلف.
{ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى } : قال ابن عباس : يعني يتبع بعضهم بعضًا.
وهذه كقوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا
اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ
حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ } [النحل : 36] ، وقوله : { كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً
رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ } يعني : جمهورهم وأكثرهم ، كقوله تعالى : { يَا حَسْرَةً
عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
} [يس : 30].
وقوله : { فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا } أي : أهلكناهم ، كقوله : { وَكَمْ
أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ } [الإسراء : 17].
{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } أي : أخبارًا وأحاديث للناس ، كقوله : {
فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } [الآية] (3) [سبأ
: 19] [ { فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } ] (4).
{ ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ
(45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ
(46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ
(47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا
مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) }.
يخبر تعالى أنه بعث رسوله موسى ، عليه السلام ، وأخاه هارون إلى فرعون وملئه ،
بالآيات والحجج الدامغات ، والبراهين القاطعات ، وأن فرعون وقومه استكبروا عن
اتباعهما ، والانقياد لأمرهما ، لكونهما بَشرين كما أنكرت الأمم الماضية بعثة
الرسل من البشر ، تشابهت قلوبهم ، فأهلك الله فرعون وملأه ، وأغرقهم في يوم واحد
أجمعين ، وأنزل على موسى الكتاب - وهو التوراة - فيها أحكامه وأوامره ونواهيه ،
وذلك بعد ما قصم الله فرعون والقبط ، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر ؛ وبعد أن
__________
(1) في ف ، أ : "بل".
(2) في ف ، أ : "يوجدون".
(3) زيادة من ف. وفي هـ : (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون).
(4) زيادة من ف.
(5/475)
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
أنزل الله
التوراة لم يهلك أمة بعامة ، بل أمر المؤمنين بقتال الكافرين ، كما قال تعالى : {
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ
الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }
[القصص : 43].
ثم قال تعالى :
{ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ
ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) }.
يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله عيسى ابن مريم ، عليهما السلام ، أنه جعلهما آية
للناس : أي حجة قاطعة على قدرته على ما يشاء ، فإنه خلق آدم من غير أب ولا أم ،
وخلق حواء من ذكر بلا أنثى ، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر ، وخلق بقية الناس من ذكر
وأنثى.
وقوله : { وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } قال الضحاك ،
عن ابن عباس : الربوة : المكان المرتفع من الأرض ، وهو أحسن ما يكون فيه النبات.
وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وقتادة.
قال ابن عباس : وقوله : { ذَاتِ قَرَارٍ } يقول : ذات خصب { وَمَعِينٍ } يعني :
ماء ظاهرًا (1).
وقال مجاهد : ربوة مستوية.
وقال سعيد بن جبير : { ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } : استوى الماء فيها. وقال مجاهد
، وقتادة : { وَمَعِينٍ } : الماء الجاري.
ثم اختلف المفسرون في مكان هذه الربوة في أيّ أرض [الله] (2) هي ؟ فقال عبد الرحمن
بن زيد بن أسلم : ليس الربى إلا بمصر. والماء حين يرسل (3) يكون الربى عليها القرى
، ولولا الربى غرقت القرى.
وروي عن وهب بن مُنَبِّه نحو هذا ، وهو بعيد جدًّا.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا سفيان ، عن
يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى : { وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى
رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } ، قال : هي دمشق (4).
قال : ورُوي عن عبد الله بن سلام ، والحسن ، وزيد بن أسلم ، وخالد بن مَعْدان نحو
ذلك.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وَكِيع ، عن إسرائيل ، عن
سِمَاك ، عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس : { ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } قال : أنهار
دمشق.
__________
(1) في ف : "طاهرا".
(2) زيادة من ف.
(3) في ف : "يسيل".
(4) في أ : "الدمشق".
(5/476)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
وقال ليث بن
أبي سليم ، عن مجاهد : { وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ [ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ
] (1) } ، قال : عيسى ابن مريم وأمه ، حين أويا إلى غوطة دمشق وما حولها.
وقال عبد الرزاق ، عن بشر بن رافع ، عن أبي عبد الله ابن عم أبي هريرة ، قال :
سمعت أبا هريرة يقول : في قوله (2) : { : إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ
} قال : هي الرملة من فلسطين.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفرْيابي ، حدثنا
رَوّاد (3) بن الجراح ، حدثنا عباد بن عباد الخواص أبو عتبة ، حدثنا السيباني (4)
، عن ابن (5) وَعْلَة ، عن كُرَيْب السَّحولي ، عن مُرَّة البَهْزِي قال : سمعت
النبي صلى الله عليه وسلم يقول لرجل : "إنك ميت (6) بالربوة" فمات
بالرملة. (7) وهذا حديث غريب جدًّا.
وأقرب الأقوال في ذلك ما رواه العَوْفِيّ ، عن ابن عباس في قوله : {
وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } ، قال : المعين الماء
الجاري ، وهو النهر الذي قال الله تعالى : { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ
سَرِيًّا } [مريم : 24].
وكذا قال الضحاك ، وقتادة : { إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } : هو بيت
المقدس. فهذا والله أعلم هو الأظهر ؛ لأنه المذكور في الآية الأخرى. والقرآن يفسر
بعضه بعضا. وهو أولى ما يفسر به ، ثم الأحاديث الصحيحة ، ثم الآثار.
{ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي
بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً
وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا
كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى
حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55)
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ (56) }.
يأمر تعالى عباده المرسلين ، عليهم الصلاة والسلام أجمعين ، بالأكل من الحلال ،
والقيام بالصالح من الأعمال ، فدل هذا على أن الحلال عَون على العمل الصالح ، فقام
الأنبياء ، عليهم السلام ، بهذا أتم القيام. وجمعوا بين كل خير ، قولا وعملا
ودلالة ونصحًا ، فجزاهم الله عن العباد خيرًا.
قال الحسن البصري في قوله : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ }
قال : أما والله ما أُمِرُوا بأصفركم ولا أحمركم ، ولا حلوكم ولا حامضكم ، ولكن
قال : انتهوا إلى الحلال منه.
وقال سعيد بن جبير ، والضحاك : { كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ } يعني : الحلال.
__________
(1) زيادة من ف.
(2) في ف : "في قول الله".
(3) في ف : "داود".
(4) في ف ، أ : "الشيباني" وهو الصحيح.
(5) في ف ، أ : "أبي" وهو الصحيح.
(6) في ف ، أ : "تموت".
(7) فيه عباد بن عباد له مناكير.
(5/477)
وقال أبو
إسحاق السَّبِيعي ، عن أبي مَيْسَرَةَ بن شُرَحْبِيل : كان عيسى ابن مريم يأكل من
غزل أمه.
وفي الصحيح : "ما من نبي إلا رعى الغنم". قالوا : وأنت يا رسول الله ؟
قال : "نعم ، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة" (1).
وفي الصحيح : أن داود ، عليه السلام ، كان يأكل من كسب يده (2).
وفي الصحيحين : "إن أحب الصيام إلى الله صيام داود ، وأحب القيام إلى الله
قيام داود ، كان (3) ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه وينام سُدسَه ، وكان يصوم يومًا
ويفطر يومًا ، ولا يَفر إذا لاقى" (4).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع ، حدثنا أبو بكر
بن أبي مريم ، عن ضَمْرَة بن حبيب ، أن أم عبد الله ، أخت (5) شداد بن (6) أوس
بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم ، وذلك في أول
النهار وشدة الحر ، فرد إليها رسولها : أنَّى كانت لك الشاة ؟ فقالت : اشتريتها من
مالي ، فشرب منه ، فلما كان الغد أتته أم عبد الله أخت (7) شداد فقالت : يا رسول
الله (8) ، بعثتُ إليك بلبن مَرثيةً (9) لك من طول النهار وشدة الحر ، فرددت إليَّ
الرسول فيه ؟. فقال لها : "بذلك أمرت الرسل ، ألا تأكل إلا طيبا ، ولا تعمل
إلا صالحا" (10).
وقد ثبت في صحيح مسلم ، وجامع الترمذي ، ومسند الإمام أحمد - واللفظ له - من حديث
فُضَيْل بن مرزوق ، عن عَدِيّ بن ثابت ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، رضي الله
عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أيها الناس ، إنَّ الله
طَيِّبٌ لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : {
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي
بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }. وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا
مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [البقرة : 172]. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أَشْعَثَ
أَغْبَرَ ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغُذِّي بالحرام ، يمد يديه
إلى السماء : يا رب ، يا رب ، فأنَّى يستجاب لذلك" (11).
وقال الترمذي : حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث فُضيل بن مرزوق.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (2262) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) صحيح البخاري برقم (2073) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) في ف : "وكان".
(4) صحيح البخاري برقم (1131) وصحيح مسلم برقم (1159) من حديث عبد الله بن عمرو
رضي الله عنهما.
(5) في أ : "بنت".
(6) في ف : "بنت".
(7) في ف ، أ : "بنت".
(8) في ف : "يا رسول الله صلى الله عليك" ، وفي أ : "يا رسول الله
صلى الله عليه وسلم".
(9) في ف : "مرئته".
(10) ورواه الحاكم في المستدرك (4/125) من طريق المعافي بن عمران عن أبي بكر بن
أبي مريم به نحوه ، وقال : "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وتعقبه
الذهبي : "قلت : وابن أبي مريم واه".
(11) صحيح مسلم برقم (1015) وسنن الترمذي برقم (2989) والمسند (6/159).
(5/478)
وقوله : {
وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي (1) : دينكم - يا معشر
الأنبياء - دين واحد ، وملة واحدة ، وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له ؛
ولهذا قال : { وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } ، وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة
"الأنبياء" ، وأن قوله : { أُمَّةً وَاحِدَةً } منصوب على الحال.
وقوله : { فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا } أي : الأمم الذين بُعث
إليهم الأنبياء ، { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } أي : يفرحون بما هم
فيه من الضلال ؛ لأنهم يحسبون أنهم مهتدون ؛ ولهذا قال متهددًا لهم ومتواعدًا : {
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ } أي : في غيهم وضلالهم { حَتَّى حِينٍ } أي : إلى
حين حينهم وهلاكهم ، كما قال تعالى : { فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ
رُوَيْدًا } [الطارق : 17] ، وقال تعالى : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا
وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [الحجر : 3].
وقوله : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ *
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } يعني : أيظن هؤلاء
المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد لكرامتهم علينا ومعزتهم عندنا ؟! كلا
ليس الأمر كما يزعمون في قولهم : { نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا
نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [سبأ : 35] ، لقد أخطؤوا في ذلك وخاب رجاؤهم ، بل إنما
نفعل بهم ذلك استدراجًا وإنظارًا وإملاء ؛ ولهذا قال : { بَل لا يَشْعُرُونَ } ،
كما قال تعالى : { فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ
أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [التوبة : 55] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا
نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا } [آل عمران : 178] ، وقال تعالى : {
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا
يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } [القلم : 44 ، 45] ، وقال
: { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا *
وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ
* كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا } [المدثر : 11 - 16] وقال تعالى : {
وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى
إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا
عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } [سبأ : 37] والآيات في هذا كثيرة.
قال (2) قتادة في قوله : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ
وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } قال : مُكِرَ
والله بالقوم في أموالهم وأولادهم ، يا ابن آدم ، فلا تعتبر الناس بأموالهم
وأولادهم ، ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد [بن عُبَيْد ، حدثنا أبان بن إسحاق ، عن الصباح بن
محمد ، عن مرة الهمداني ، حدثنا عبد الله] (3) بن مسعود رضي الله عنه ، قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله قَسَم بينكم أخلاقكم ، كما قسم
بينكم أرزاقكم ، وإن الله يُعطي الدنيا من يُحِبّ ومن لا يحب ، ولا يعطي الدِّين
إلا لمن أحب ، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه ، والذي نفسي بيده ، لا يسلم (4) عبد
حتى يسلم قلبه ولسانه ، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه - قالوا : وما بوائقه يا
نبي الله ؟ قال : غشمه وظلمه -
__________
(1) في ف ، أ : "وإن".
(2) في أ : "وقال".
(3) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(4) في ف : "يؤمن".
(5/479)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59)
ولا يكسب
عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ، ولا يتصدق به فيقبل (1) منه ، ولا
يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار ، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ، ولكن
يمحو السيئ بالحسن ، إن الخبيث لا يمحو الخبيث" (2).
{ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ
هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا
يُشْرِكُونَ (59) }
__________
(1) في ف : "منه ليتقبل" وفي أ : "فيتقبل".
(2) المسند (1/387).
(5/480)
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
{
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى
رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا
سَابِقُونَ (61) }.
يقول تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ } أي :
هم مع (1) إحسانهم وإيمانهم وعملهم الصالح ، مشفقون من الله خائفون منه ، وجلون من
مكره بهم ، كما قال الحسن البصري : إن المؤمن جمع إحسانا وشفقة ، وإن المنافق جمع
إساءة وأمنًا.
{ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ } أي : يؤمنون بآياته الكونية
والشرعية ، كقوله تعالى إخبارًا عن مريم ، عليها السلام : { وَصَدَّقَتْ
بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ } [التحريم : 12] ، أي : أيقنت أن ما كان فإنما
هو عن قدر الله وقضائه ، وما شرعه الله فهو إن كان أمرًا فمما يحبه ويرضاه ، وإن
كان نهيًا (2) فهو مما يكرهه ويأباه ، وإن كان خيرًا فهو حق ، كما قال الله تعالى
: { وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ } أي : لا يعبدون معه غيره ، بل
يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله أحدًا صمدًا ، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا ،
وأنه لا نظير له ولا كفء له.
وقوله : { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ
إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } أي : يعطون العطاء (3) وهم خائفون (4) ألا يتقبل
منهم ، لخوفهم (5) أن يكونوا قد قصروا في القيام بشروط الإعطاء. وهذا من باب
الإشفاق والاحتياط ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا مالك بن مِغْوَل ، حدثنا عبد الرحمن بن سعيد بن وهب ،
عن عائشة ؛ أنها قالت : يا رسول الله ، { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا
وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } ، هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر ، وهو يخاف الله عز
وجل ؟ قال : "لا يا بنت أبي بكر ، يا بنت الصديق ، ولكنه الذي يصلي ويصوم
ويتصدق ، وهو يخاف الله عز وجل".
وهكذا رواه الترمذي وابن أبي حاتم ، من حديث مالك بن مِغْوَل ، به بنحوه (6). وقال
: "لا يا بنت الصديق ، ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون ، وهم يخافون ألا
يقبل منهم ، { أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } قال الترمذي : ورُوي هذا
الحديث من حديث عبد الرحمن بن سعيد ، عن
__________
(1) في ف : "في" وفي أ : "من".
(2) في ف : "منهيا".
(3) في ف : "العطاء فيه".
(4) في أ : "خائفون وجلون".
(5) في ف : "تخوفهم".
(6) المسند (6/159) وسنن الترمذي برقم (3175).
(5/480)
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
أبي حازم ،
عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا (1).
وهكذا قال ابن عباس ، ومحمد بن كعب القرظي ، والحسن البصري في تفسير هذه الآية.
وقد قرأ آخرون هذه الآية : "والذين يأتون ما أتوا وقلوبهم وجلة" أي :
يفعلون ما يفعلون وهم خائفون ، وروي هذا مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قرأ كذلك.
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا صخر بن جُوَيْرِية ، حدثنا إسماعيل المكي ،
حدثني أبو خلف مولى بني جُمَح : أنه دخل مع عُبَيد بن عُمَيْر على (2) عائشة ، رضي
الله عنها ، فقالت : مرحبًا بأبي عاصم ، ما يمنعك أن تزورنا - أو : تُلِمّ بنا ؟ -
فقال : أخشى أن أمُلَّك. فقالت : ما كنت لتفعل ؟ قال : جئت لأسأل (3) عن آية في
كتاب الله عز وجل ، كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ؟ قالت : أيَّة
آية ؟ فقال : { الَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا } أو { الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا
آتَوْا } ؟ فقالت : أيتهما (4) أحب إليك ؟ فقلت : والذي نفسي بيده ، لإحداهما أحب
إلي من الدنيا جميعًا (5) - أو : الدنيا وما فيها - قالت : وما هي ؟ فقلت : {
الَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا } فقالت : أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كذلك كان يقرؤها ، وكذلك أنزلت ، ولكن الهجاء حرف (6).
إسماعيل بن مسلم المكي ، وهو ضعيف.
والمعنى على القراءة الأولى - وهي قراءة الجمهور : السبعة وغيرهم - أظهر ؛ لأنه
قال : { أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } ،
فجعلهم من السابقين. ولو كان المعنى على القراءة الأخرى لأوشك ألا يكونوا من
السابقين ، بل من المقتصدين أو المقصرين ، والله تعالى أعلم.
{ وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ
أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا
مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ
إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ
فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا
تَهْجُرُونَ (67) }.
يقول تعالى مخبرًا عن عدله في شرعه على عباده في الدنيا : أنه لا يكلف نفسًا إلا
وسعها ، أي : إلا ما تطيق حمله والقيام به ، وأنه يوم القيامة يحاسبهم بأعمالهم
التي كتبها عليهم في كتاب مسطور لا يضيع منه شيء ؛ ولهذا قال : { وَلَدَيْنَا
كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ } يعني : كتاب الأعمال ، { وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ }
أي : لا يبخسون من الخير شيئا ، وأما السيئات فيعفو ويصفح عن كثير منها لعباده
المؤمنين.
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3175).
(2) في أ : "إلى".
(3) في ف : "لأسألك".
(4) في أ : "أيتها".
(5) في ف : "جميعها".
(6) المسند (6/95).
(5/481)
ثم قال منكرًا
على الكفار والمشركين من قريش : { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ } أي : غفلة
وضلالة { مِنْ هَذَا } أي : القرآن الذي أنزله [الله تعالى] (1) على رسوله صلى
الله عليه وسلم.
وقوله : { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } : قال
الحكم (2) بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ } أي : سيئة
من دون ذلك ، يعني : الشرك ، { هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } قال : لا بد أن يعملوها.
كذا روي عن مجاهد ، والحسن ، وغير واحد.
وقال آخرون : { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } أي
: قد كتب عليهم أعمال سيئة لا بد أن يعملوها قبل موتهم لا محالة ، لتحق عليهم كلمة
العذاب. ورُوِي نَحو هذا عن مقاتل بن حيَّان والسُّدِّيّ ، وعبد الرحمن بن زيد بن
أسلم. وهو ظاهر قوي حسن. وقد قدمنا في حديث ابن مسعود : "فوالذي لا إله غيره
، إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه
الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار ، فيدخلها".
وقوله : { حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ
يَجْأَرُونَ } يعني : حتى إذا جاء مترفيهم - وهم السعداء المنعمون في الدنيا - عذابُ
الله وبأسه ونقمته بهم { إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ } أي : يصرخون ويستغيثون ، كما
قال تعالى : { وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ
قَلِيلا. إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا. وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ
وَعَذَابًا أَلِيمًا } [المزمل : 11 - 13] ، وقال تعالى : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ
قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } [ص : 3].
وقوله : { لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ } أي : لا
نجيركم (3) مما حل بكم ، سواء جأرتم أو سكتُّم ، لا محيد ولا مناص ولا وَزَرَ لزم
الأمر ووجب العذاب.
ثم ذكر أكبر ذنوبهم فقال : { قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ
عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ } أي : إذا دعيتم أبيتم ، وإن (4) طُلبتم امتنعتم
؛ { ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ
بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } [غافر : 12].
وقوله : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ } : في تفسيره قولان ،
أحدهما : أن مستكبرين حال منهم حين نكوصهم عن الحق وإبائهم إياه ، استكبارًا عليه
واحتقارًا له ولأهله ، فعلى هذا الضمير في { بِهِ } فيه ثلاثة أقوال :
أحدهما (5) : أنه الحرم بمكة ، ذموا لأنهم كانوا يسمرون بالهُجْر (6) من الكلام.
والثاني : أنه (7) ضمير القرآن ، كانوا يسمرون ويذكرون القرآن بالهجر من الكلام :
"إنه سحر ، إنه شعر ، إنه كهانة" إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ : "الحكيم".
(3) في أ : "يجيركم".
(4) في ف ، أ : "وإذا".
(5) في أ : "أحدها".
(6) في أ : "الهجر".
(7) في أ : "هو".
(5/482)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
والثالث :
أنه محمد صلى الله عليه وسلم ، كانوا يذكرونه في سمرهم بالأقوال الفاسدة ، ويضربون
له الأمثال الباطلة ، من أنه شاعر ، أو كاهن ، أو ساحر ، أو كذاب ، أو مجنون. وكل
ذلك باطل ، بل هو عبد الله ورسوله ، الذي أظهره الله عليهم ، وأخرجهم من (1) الحرم
صاغرين أذلاء.
وقيل : المراد بقوله : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ } أي : بالبيت ، يفتخرون به
ويعتقدون أنهم (2) أولياؤه ، وليسوا (3) بهم ، كما قال النسائي في التفسير (4) من
سننه :
أخبرنا أحمد بن سليمان ، أخبرنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن عبد الأعلى ، أنه سمع
سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس أنه قال : إنما كره السمر حين نزلت هذه الآية : {
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ } ، فقال : مستكبرين بالبيت ، يقولون :
نحن أهله ، { سَامِرًا } قال : يتكبرون [ويسمرون فيه ، ولا] (5) يعمرونه ،
ويهجرونه (6).
وقد أطنب ابن أبي حاتم هاهنا بما ذا (7) حاصله.
{ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ
الأوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ
كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ
وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ
ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ
وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ
لَنَاكِبُونَ (74) }
__________
(1) في أ : "إلى".
(2) في أ : "وتعتقدون أنكم".
(3) في ف : "وليسم" وفي أ : "ولستم".
(4) في ف ، أ : "تفسيره".
(5) زيادة من ف.
(6) سنن النسائي الكبرى برقم (11351).
(7) في أ : "هذا".
(5/483)
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)
{ وَلَوْ
رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ
يَعْمَهُونَ (75) }.
يقول تعالى منكرًا على المشركين في عدم تفهمهم للقرآن العظيم ، وتدبرهم له
وإعراضهم عنه ، مع أنهم قد خصوا بهذا الكتاب الذي لم ينزل الله على رسول أكمل منه
ولا أشرف ، لا سيما وآباؤهم الذين ماتوا في الجاهلية ، حيث لم يبلغهم كتاب ولا
أتاهم نذير ، فكان اللائق بهؤلاء أن يقابلوا النعمة التي أسداها الله إليهم
بقبولها ، والقيام بشكرها وتفهمها ، والعمل بمقتضاها آناء الليل وأطراف النهار ،
كما فعله النجباء منهم ممن أسلم واتبع الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، ورضي
عنهم.
وقال قتادة : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ } إذًا والله يجدون (1) في القرآن
زاجرًا عن معصية الله لو تدبره القوم وعقلوه ، ولكنهم أخذوا بما تشابه ، فهلكوا
عند ذلك.
__________
(1) في ف ، أ : "تجدون".
(5/483)
ثم قال
منكرا على الكافرين من قريش : { أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ
مُنْكِرُونَ } أي : أَفَهُمْ (1) لا يعرفون محمدًا وصدقه وأمانته وصيانته التي نشأ
بها فيهم ، أفيقدرون (2) على إنكار ذلك والمباهتة فيه ؟ ولهذا قال جعفر بن أبي
طالب ، رضي الله عنه ، للنجاشي ملك الحبشة : أيها الملك ، إن الله بعث إلينا رسولا
نعرف نسبه وصدقه وأمانته. وهكذا قال المغيرة بن شعبة لنائب كسرى حين بارزهم وكذلك
قال أبو سفيان صخر بن حرب لملك الروم هرقل ، حين سأله وأصحابه عن صفات النبي صلى
الله عليه وسلم ونسبه وصدقه وأمانته ، وكانوا بعد كفارًا لم يسلموا ، ومع هذا ما
أمكنهم إلا الصدق فاعترفوا بذلك.
وقوله : { أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ } يحكي قول المشركين عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه تقوَّل (3) القرآن ، أي : افتراه من عنده ، أو أن به جنونا لا يدري
ما يقول. وأخبر عنهم أن قلوبهم لا تؤمن به ، وهم يعلمون بطلان ما يقولونه في
القرآن ، فإنه قد أتاهم من كلام الله ما لا يُطاق ولا يُدافع ، وقد تحداهم وجميع
أهل الأرض أن يأتوا بمثله ، فما استطاعوا ولا يستطيعون أبد الآبدين ؛ ولهذا قال :
{ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } يحتمل أن تكون
هذه جملة حالية ، أي : في حال كراهة (4) أكثرهم للحق ، ويحتمل أن تكون خبرية
مستأنفة ، والله أعلم.
وقال قتادة : ذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لقي رجلا فقال له :
"أسلم" فقال الرجل : إنك لتدعوني إلى أمر أنا له كاره. فقال نبي الله
صلى الله عليه وسلم : "وإن كنت كارها". وذُكِر لنا أنه لقي رجلا فقال له
: "أسلم" فَتَصَعَّده (5) ذلك وكبر عليه ، فقال له نبي الله :
"أرأيت لو كنتَ في طريق وَعْر وَعْث ، فلقيت رجلا تعرف وجهه ، وتعرف نسبه ،
فدعاك إلى طريق واسع سهل ، أكنت متبعه (6) ؟" قال : نعم. فقال : "فوالذي
(7) نفس محمد بيده ، إنك لفي أوعر من ذلك الطريق لو قد كنت عليه ، وإني لأدعوك إلى
أسهل من ذلك لو دعيت إليه". وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لقي
رجلا فقال له : "أسلم" فَتَصَعَّدَه ذلك ، فقال له نبي الله صلى الله
عليه وسلم : "أرأيت فتييك ، أحدهما إذا حدثك صدقك ، وإذا (8) ائتمنته أدى
إليك أهو أحب إليك ، أم فتاك الذي إذا حدثك كذبك وإذا (9) ائتمنته خانك ؟".
قال : بل فتاي الذي إذا حدثني صدقني ، وإذا ائتمنته أدى إلي. فقال النبي (10) صلى
الله عليه وسلم : "كذاكم أنتم عند ربكم".
وقوله : { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ
وَالأرْضُ (11) وَمَنْ فِيهِنَّ } قال مجاهد ، وأبو صالح والسدي : الحق هو الله عز
وجل ، والمراد : لو أجابهم الله إلى ما في أنفسهم من الهوى ، وشرع الأمور على وفق
ذلك { لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ (12) وَمَنْ فِيهِنَّ } أي : لفساد
أهوائهم واختلافها ، كما أخبر عنهم في قولهم : { لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ
عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } ثم قال : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ
رَحْمَةَ رَبِّكَ } [الزخرف : 31 ، 32] وقال تعالى : { قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ
خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفَاقِ وَكَانَ
الإنْسَانُ قَتُورًا } [الإسراء : 100] وقال : { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ
الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا } [النساء : 53] ،
__________
(1) في ف : "هم" وفي أ : "أهم".
(2) في ف ، أ : "أفتقدرون".
(3) في أ : "يقول".
(4) في ف : "كراهته".
(5) في ف ، أ : "فصعد".
(6) في ف : "تتبعه".
(7) في ف : "والذي".
(8) في ف : "وإن".
(9) في ف : "وإن".
(10) في ف : "نبي الله".
(11) في ف : "الأرض والسموات".
(12) في ف : "الأرض والسموات".
(5/484)
ففي هذا كله
تبيين عجز العباد واختلاف آرائهم وأهوائهم ، وأنه تعالى هو الكامل في جميع صفاته
وأقواله وأفعاله ، وشرعه وقدره ، وتدبيره لخلقه (1) تعالى وتقدس ، فلا إله غيره ،
ولا رب سواه.
ثم قال : { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ } يعني : القرآن ، { فَهُمْ عَنْ
ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ }.
وقوله : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا } : قال الحسن : أجرا. وقال قتادة : جعلا {
فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ } أي أنت لا تسألهم أجرة ولا جعلا ولا شيئا على دعوتك
إياهم إلى الهدى ، بل أنت في ذلك تحتسب عند الله جزيل ثوابه ، كما قال : { قُلْ
مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ }
[سبأ : 47] ، وقال : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا
مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } [ص : 86] ، وقال : { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ
أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } [الشورى : 23] ، وقال تعالى : {
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا
الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ } [يس
: 20 ، 21].
وقوله : { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَإِنَّ الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ } قال الإمام أحمد :
حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد بن جُدْعَان ، عن يوسف بن
مِهْران ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه - فيما يرى النائم
- ملكان ، فقعد أحدهما عند رجليه ، والآخر عند رأسه ، فقال الذي عند رجليه للذي
عند رأسه : اضرب مَثَل هذا ومثل أمته. فقال : إن مَثَلَه ومثل أمته ، كمثل قوم
سُفْر انتهوا إلى رأس مَفَازة ، فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا
ما يرجعون به ، فبينا (2) هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة ، فقال : أرأيتم إن
وردت بكم رياضا معشبة ، وحياضا رواء تتبعوني ؟ فقالوا : نعم. قال : فانطلق ،
فأوردهم رياضا معشبة وحياضا رواء ، فأكلوا وشربوا وسمنوا فقال لهم : ألم ألفكم على
تلك الحال ، فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء أن تتبعوني ؟ قالوا
(3) : بلى ، قال : فإن بين أيديكم رياضا أعشب من هذه ، وحياضا هي أروى من هذه ،
فاتبعوني. قال : فقالت طائفة : صدق والله ، لنتبعه. وقالت طائفة : قد رضينا بهذا
نقيم عليه (4).
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا زهير ، حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا يعقوب بن
عبد الله الأشعري ، حدثنا حفص بن حميد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن عمر بن
الخطاب ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني ممسك
بحجزكم : هَلُمَّ عن النار ، هلم عن النار ، وتغلبوني وتقاحمون فيها تَقَاحُم
الفراش والجنادب ، فأوشك أن أرسل حجزكم وأنا فَرَطكم على الحوض ، فتردون علي معا
وأشتاتا ، أعرفكم بسيماكم وأسمائكم ، كما يعرف الرجل الغريب من الإبل في إبله ،
فيُذْهَب بكم ذات اليمين وذات الشمال ، فأناشد فيكم رب العالمين : أي رب ، قومي ،
أي رب أمتي.
__________
(1) في ف : "بخلقه".
(2) في أ : "فبينما".
(3) في أ : "فقالوا".
(4) المسند (1/267).
(5/485)
فيقال : يا
محمد ، إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، إنهم كانوا يمشون بعدك القهقرى على أعقابهم ،
فلأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ، ينادي : يا محمد ، يا محمد.
فأقول : لا أملك لك شيئا. قد بلغت ، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل بعيرا له
رُغَاء ، ينادي : يا محمد ، يا محمد. فأقول : لا أملك (1) شيئا ، قد بلغت ،
ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرسا لها حمحمة ، فينادي : يا محمد ، يا محمد
، فأقول : لا أملك لك شيئا ، قد بلغت ، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل سقاء
من أدم ، ينادي : يا محمد ، يا محمد : فأقول : لا أملك لك شيئا قد بلغت" (2).
وقال علي بن المديني : هذا حديث حسن الإسناد ، إلا أن حفص بن حميد مجهول ، لا أعلم
روى عنه غير يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي.
قلت : بل قد روى عنه أيضا أشعث بن إسحاق ، وقال فيه يحيى بن معين : صالح. ووثقه
النسائي وابن حبان.
وقوله : { وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ
لَنَاكِبُونَ } أي : لعادلون جائرون منحرفون. تقول العرب : نكب فلان عن الطريق :
إذا زاغ عنها.
وقوله : { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي
طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } : يخبر تعالى عن غلظهم (3) في كفرهم بأنه لو أراح
عللهم وأفهمهم القرآن ، لما انقادوا له ولاستمروا على كفرهم وعنادهم وطغيانهم ،
كما قال تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ
أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } [الأنفال : 23] ، وقال : { وَلَوْ
تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا
نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدَا لَهُمْ
مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ
وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا
نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } [الأنعام : 27 - 29] ، فهذا من باب علمه تعالى بما لا
يكون ، لو كان كيف يكون (4).
[و] (5) قال الضحاك ، عن ابن عباس : كل ما فيه "لو" ، فهو مما لا يكون
أبدا.
__________
(1) في ف ، أ : "لا أملك لك".
(2) ورواه البزار في مسنده برقم (900) وابن عبد البر في التمهيد (2/300) من طريق
مالك بن إسماعيل عن يعقوب بن عبد الله الأشعري به نحوه. وقال الهيثمي في المجمع
(3/85) : "رواه أبو يعلى في الكبير والبزار إلا أنه قال : يحمل قشعا مكان
سقاء. ورجال الجميع ثقات".
(3) في أ : "غلطهم".
(4) في ف ، أ : "ولو كان كيف كان يكون".
(5) زيادة في ف ، أ.
(5/486)
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
{ وَلَقَدْ
أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ
(76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ
فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ
وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ
وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ
الأوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ
هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (83) }.
يقول تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ } أي : ابتليناهم بالمصائب
والشدائد ، { فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } أي : فما ردهم
ذلك عما كانوا فيه من الكفر والمخالفة ، بل استمروا على ضلالهم وغيهم. { فَمَا
اسْتَكَانُوا } أي : ما خشعوا ، { وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } أي : ما دعوا ، كما قال
تعالى : { فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ
قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأنعام :
43].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن حمزة المروزي ، حدثنا
علي ابن الحسين ، حدثنا أبي ، عن يزيد - يعني : النحوي - عن عكرمة ، عن ابن عباس ،
أنه قال : جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، أنشدك
الله والرحم ، فقد أكلنا العلهز - يعني : الوبر والدم - فأنزل الله : { وَلَقَدْ
أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ
}
وهكذا رواه النسائي عن محمد بن عقيل ، عن علي بن الحسين ، عن أبيه ، به (1). وأصل
هذا الحديث في الصحيحين : أن (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش حين
استعصوا فقال : "اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف" (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا سلمة بن شَبِيب ، حدثنا عبد الله
بن إبراهيم بن عمر بن كَيْسان ، عن (4) وهب بن عمر بن كيسان قال : حُبِس وهب بن
مُنَبِّه ، فقال له رجل من الأبناء : ألا أنشدك بيتا من شعر يا أبا عبد الله ؟
فقال وهب : نحن في طرف من عذاب الله ، والله تعالى يقول : { وَلَقَدْ
أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ
} قال : وصام وهب ثلاثا متواصلة ، فقيل له : ما هذا الصوم يا أبا عبد الله ؟ قال :
أَحَدَث لنا فأحدثنا. يعني : أحدث لنا الحبس ، فأحدثنا زيادة عبادة.
وقوله : { حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا
هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } أي : حتى إذا جاءهم أمر الله وجاءتهم الساعة بغتة وأخذهم
من عقاب الله ما لم يكونوا يحتسبون ، فعند ذلك أبْلَسُوا (5) من كل خير ، وأيسوا
من كل راحة ، وانقطعت آمالهم ورجاؤهم.
ثم ذكر تعالى نعمته على عباده في أن جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة ، وهي العقول
والفهوم ، التي يدركون (6) بها الأشياء ، ويعتبرون بما في الكون من الآيات الدالة
على وحدانية الله تعالى ، وأنه الفاعل المختار لما يشاء.
__________
(1) سنن النسائي الكبرى برقم (11352).
(2) في ف ، أ : "عن".
(3) صحيح البخاري برقم (4693) وصحيح مسلم برقم (2798) من حديث ابن مسعود رضي الله
عنه.
(4) في ف ، أ : "حدثني".
(5) في أ : "أيسوا".
(6) في ف : "تدركون"
(5/487)
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
وقوله : {
قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ } أي : وما أقل شكركم لله على ما أنعم به عليكم ، كقوله :
{ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف : 103].
ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة وسلطانه القاهر ، في بَرْئة الخليقة وذرئه لهم في
سائر أقطار الأرض ، على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وصفاتهم ، ثم يوم القيامة يجمع
الأولين منهم والآخرين لميقات يوم معلوم ، فلا يترك منهم صغيرا ولا كبيرا ، ولا
ذكرا ولا أنثى ، ولا جليلا ولا حقيرا ، إلا أعاده كما بدأه ؛ ولهذا قال : { وَهُوَ
الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي : يحيي الرمم ويميت الأمم ، { وَلَهُ اخْتِلافُ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أي : وعن أمره تسخير الليل والنهار ، كل منهما يطلب
الآخر طلبا حثيثا ، يتعاقبان لا يفتران ، ولا يفترقان بزمان غيرهما ، كقوله تعالى
: { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ
النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [يس : 40].
وقوله : { أَفَلا تَعْقِلُونَ } أي : أفليس لكم عقول تدلكم على العزيز العليم ،
الذي قد قهر كل شيء ، وعز كل شيء ، وخضع له كل شيء.
ثم قال مخبرا عن منكري البعث ، الذين أشبهوا من قبلهم من المكذبين : { بَلْ
قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأوَّلُونَ. قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا
وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } يعني يستبعدون وقوع ذلك بعد صيرورتهم إلى
البلى ، { لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا
أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } يعنون : [أن] (1) الإعادة محال ، إنما يخبر بها من
تلقاها عن كتب الأولين واختلاقهم. وهذا الإنكار والتكذيب منهم كقوله تعالى إخبارا
عنهم : { أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً. قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ
خَاسِرَةٌ. فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ. فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ }
[النازعات : 11 - 14] ، وقال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا
خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا
وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا
الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس : 77 -
79].
{ قُلْ لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ
لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ
وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ
(87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ
عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى
تُسْحَرُونَ (89) }
__________
(1) زيادة من أ.
(5/488)
بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)
{ بَلْ
أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) }.
يقرر تعالى وحدانيته ، واستقلاله بالخلق والتصرف والملك ، ليرشد إلى أنه الذي لا
إله إلا هو ، ولا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له ؛ ولهذا قال لرسوله محمد
صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين العابدين معه غيره ، المعترفين له بالربوبية
، وأنه لا شريك له فيها ، ومع هذا فقد أشركوا معه في
(5/488)
الإلهية ،
فعبدوا غيره معه ، مع اعترافهم أن الذين عبدوهم لا يخلقون شيئًا ، ولا يملكون
شيئًا ، ولا يستبدّون بشيء ، بل اعتقدوا أنهم يقربونهم إليه زلفى : { مَا (1)
نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [الزمر : 3] ، فقال :
{ قُلْ لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا } أي : من مالكها الذي خلقها ومن (2) فيها من
الحيوانات والنباتات والثمرات ، وسائر صنوف المخلوقات { إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } أي : فيعترفون لك بأن ذلك لله وحده لا شريك
له ، فإذا كان ذلك (3) { قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [أي : لا تذكرون] (4) أنه لا
تنبغي (5) العبادة إلا للخالق الرازق (6) لا لغيره.
{ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } أي :
من هو خالق العالم العُلْوي بما فيه من الكواكب النيّرات ، والملائكة الخاضعين له
في سائر الأقطار منها والجهات ، ومن هو رب العرش العظيم ، يعني : الذي هو سقف المخلوقات
، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال : "شأن الله أعظم من ذلك ، إن (7) عرشه على سمواته هكذا" وأشار بيده
مثل القبة (8).
وفي الحديث الآخر : "ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في
الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وإن الكرسي بما فيه بالنسبة إلى العرش كتلك
الحلقة في تلك الفلاة" (9).
ولهذا قال بعض السلف : إن مسافة ما بين قطري العرش من جانب إلى جانب مسيرة خمسين
ألف سنة ، [وارتفاعه عن الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة] (10).
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : إنما سمي عرشًا لارتفاعه.
وقال الأعمش عن كعب الأحبار : إن السموات والأرض في العرش ، كالقنديل المعلق بين
السماء والأرض.
وقال مجاهد : ما السموات والأرض في العرش إلا كحلقة في أرض فَلاة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا العلاء بن سالم ، حدثنا وَكِيع ، حدثنا (11) سفيان
الثوري ، عن عمار الدُّهني (12) ، عن مسلم البَطِين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن
عباس قال : العرش لا يقدر أحد قدره. وفي رواية : إلا الله عز وجل (13).
وقال بعض السلف : العرش من ياقوتة حمراء.
ولهذا قال هاهنا : { وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } يعني : الكبير : وقال في آخر
السورة : { رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ }
__________
(1) في أ : "إنما" وهو خطأ
(2) في ف ، أ : "وما".
(3) في ف ، أ : "كذلك".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في أ : "يليق".
(6) في ف : "الرزاق".
(7) في ف : "لأن".
(8) سنن أبي داود برقم (4726) عن حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه.
(9) رواه الطبري في تفسيره (5/399) من طريق ابن وهب عن ابن زيد عن أبيه عن أبي ذر
رضي الله عنه ، وقد سبق من رواية ابن مردوية عند تفسير الآية : 2 من سورة الرعد.
(10) زيادة من أ.
(11) في أ : "عن".
(12) في أ : "الذهبي".
(13) ورواه ابن أبي شيبة في صفة العرش (ق 114) والحاكم في المستدرك (2/282) من
طريق الضحاك بن مخلد عن سفيان عن عمار الذهني به ، وقال الحاكم : "صحيح على
شرط الشيخين ولم يخرجاه" وأقره الذهبي.
(5/489)
أي : الحسن
البهي. فقد جمع العرش بين العظمة في الاتساع والعلو ، والحسن الباهر ؛ ولهذا قال
من قال : إنه من ياقوتة حمراء.
وقال ابن مسعود : إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار ، نور (1) العرش من نور وجهه.
وقوله : { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ } أي : إذا كنتم تعترفون
(2) بأنه رب السموات ورب العرش العظيم ، أفلا تخافون عقابه وتحذرون عذابه ، في
عبادتكم معه غيره وإشراككم به ؟
قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا القرشي في كتاب "التفكر
والاعتبار" : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا عبد الله (3) بن جعفر ، أخبرني
عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما
يحدث عن امرأة كانت في الجاهلية على رأس جبل ، معها ابن لها يرعى غنما ، فقال لها
ابنها : يا أماه ، من خلقك ؟ قالت : الله. قال : فمن خلق أبي ؟ قالت : الله. قال :
فمن خلقني ؟ قالت : الله. قال : فمن خلق السماء ؟ قالت : الله. قال : فمن خلق
الأرض ؟ قالت : الله. قال : فمن خلق الجبل ؟ قالت : الله. قال : فمن خلق هذه الغنم
؟ قالت : الله. قال : فإني أسمع لله شأنا ثم ألقى نفسه من الجبل فتقطع.
قال ابن عمر : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يحدثنا هذا الحديث.
قال عبد الله بن دينار : كان (4) ابن عمر كثيرًا ما يحدثنا بهذا الحديث.
قلت : في إسناده عبد الله (5) بن جعفر المديني ، والد الإمام علي بن المديني ، وقد
تكلموا فيه ، فالله أعلم (6).
{ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } أي : بيده الملك ، { مَا مِنْ
دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } [هود : 56] ، أي : متصرف فيها. وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا والذي نفسي بيده" ، وكان إذا
اجتهد في اليمين قال (7) : " لا ومقلب القلوب" ، فهو سبحانه الخالق
المالك المتصرف ، { وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ } كانت العرب إذا كان السيد فيهم فأجار أحدًا ، لا يُخْفَر في جواره ،
وليس لمن دونه أن يجير عليه ، لئلا يفتات عليه ، ولهذا قال الله : { وَهُوَ
يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ } أي : وهو السيد العظيم الذي لا أعظم منه ، الذي
له الخلق والأمر ، ولا معقب لحكمه ، الذي لا يمانع ولا يخالف ، وما شاء (8) كان ،
وما لم يشأ لم يكن ، وقال الله : { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ
يُسْأَلُونَ } [الأنبياء : 23] ، أي : لا يسئل عما يفعل ؛ لعظمته وكبريائه ، وقهره
وغلبته ، وعزته وحكمته (9) ، والخلق كلهم يُسألون عن
__________
(1) في أ : "فوق".
(2) في أ : "تعرفون".
(3) في ف ، أ : "عبيد الله".
(4) في ف : "وكان".
(5) في أ : "عبيد الله".
(6) ورواه ابن عدي في الكامل (4/178) من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل عن عبد الله بن
جعفر به ، وقال : "غير محفوظ لا يحدث به عن ابن دينار غير عبد الله بن
جعفر" وعبد الله بن جعفر المديني ضعيف عند الأئمة.
(7) في أ : "يقول".
(8) في ف ، أ : "وما شاء الله".
(9) في ف ، أ : "وحكمته وعدله".
(5/490)
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
أعمالهم ،
كما قال تعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا
يَعْمَلُونَ } [الحجر : 92 ، 93].
وقوله : { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } أي : سيعترفون أن السيد العظيم الذي يجير ولا
يجار عليه ، هو الله تعالى ، وحده لا شريك له { قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } أي :
فكيف تذهب عقولكم في عبادتكم معه غيره مع اعترافكم وعلمكم بذلك.
ثم قال تعالى : { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ } ، وهو الإعلام بأنه لا إله إلا
الله ، وأقمنا الأدلة الصحيحة الواضحة القاطعة على ذلك ، { وَإِنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ } أي : في عبادتهم مع الله غيره ، ولا دليل لهم على ذلك ، كما قال في
آخر السورة : { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا
حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } ، فالمشركون لا
يفعلون ذلك [عن دليل قادهم إلى ما هم فيه من الإفك والضلال ، وإنما يفعلون ذلك]
(1) اتباعا لآبائهم وأسلافهم الحيارى الجهال ، كما قالوا : { إِنَّا وَجَدْنَا
آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } [الزخرف : 23].
{ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا
لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ
اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى
عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) }.
ينزه تعالى نفسه عن أن يكون له ولد أو شريك في الملك ، فقال : { مَا اتَّخَذَ
اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ
بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } أي : لو قُدِّر تعدد الآلهة ،
لانفرد كل منهم بما يخلق ، فما كان ينتظم الوجود. والمشاهد أن الوجود منتظم متسق ،
كل من العالم العلوي والسفلي مرتبط بعضه ببعض ، في غاية الكمال ، { مَا تَرَى فِي
خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ } [الملك : 3] ثم لكان كل منهم يطلب قهر الآخر
وخلافه ، فيعلو بعضهم على بعض. والمتكلمون ذكروا هذا المعنى وعبروا عنه بدليل
التمانع ، وهو أنه لو فرض صانعان فصاعدا ، فأراد واحد تحريك جسم وأراد الآخر سكونه
، فإن لم يحصل مراد كل واحد منهما كانا عاجزين ، والواجب لا يكون عاجزًا ، ويمتنع
اجتماع مراديهما للتضاد. وما جاء هذا المحال إلا من فرض التعدد ، فيكون محالا فأما
إن حصل مراد أحدهما دون الآخر ، كان الغالب هو الواجب ، والآخر المغلوب ممكنًا ؛
لأنه لا يليق بصفة الواجب أن يكون مقهورا ؛ ولهذا قال : { وَلَعَلا بَعْضُهُمْ
عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } أي : عما يقول الظالمون
المعتدون في دعواهم الولد أو الشريك علوا كبيرا.
{ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } أي : يعلم ما يغيب عن المخلوقات وما
يشاهدونه ، { فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : تقدس وتنزه وتعالى وعز وجل
[عما يقول الظالمون والجاحدون] (2).
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) زيادة من ف ، أ.
(5/491)
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
{ قُلْ
رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ
(95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا
يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) }.
يقول تعالى آمرًا [نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم] (1) أن يدعو هذا الدعاء عند
حلول النقم : { رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ } أي : إن عاقبتهم - وإني
شاهدُ ذلك - فلا تجعلني فيهم ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي -
وصححه - : "وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون" (2).
وقوله : { وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ } أي : لو
شئنا لأريناك ما نحل (3) بهم من النقم والبلاء والمحن.
ثم قال مرشدًا له إلى التِّرْياق النافع في مخالطة الناس ، وهو الإحسان إلى من
يسيء ، ليستجلب خاطره ، فتعود عداوته صداقة وبغضه محبة ، فقال : { ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ } ، وهذا كما قال في الآية الأخرى : {
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ
كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا
يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [فصلت : 34 ، 35] : أي ما يلهم هذه الوصية
أو الخصلة (4) أو الصفة { إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا } أي : على أذى الناس ،
فعاملوهم بالجميل مع إسدائهم إليهم القبيح ، { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ
عَظِيمٍ } أي : في الدنيا والآخرة.
وقوله : { وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ } : أمره أن
يستعيذ من الشياطين ، لأنهم لا تنفع (5) معهم الحيل ، ولا ينقادون بالمعروف.
وقد قدمنا عند الاستعاذة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : "أعوذ
بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، من هَمْزه ونَفْخه ونَفْثه" (6).
وقوله : { وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } أي : في شيء من أمري ؛ ولهذا
أمر بذكر الله في ابتداء الأمور - وذلك مطردة للشياطين (7) - عند الأكل والجماع والذبح
، وغير ذلك من الأمور ؛ ولهذا روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يقول : "اللهم إني أعوذ بك من الهَرَم ، وأعوذ بك من الهَدْم ومن الغرق ،
وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت" (8).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن عمرو بن شعيب ، عن
أبيه ،
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) المسند (5/243) وسنن الترمذي برقم (3235) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه ،
وقال : "هذا حديث حسن صحيح ، سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال : هذا
حديث حسن صحيح"
(3) في ف ، أ : "ما يحل".
(4) في ف : "الخصلة أو الوصية".
(5) في ف ، أ : "لا ينفع".
(6) انظر الاستعاذة عند تفسير سورة الفاتحة.
(7) في ف : "للشيطان".
(8) سنن أبي داود برقم (1552).
(5/492)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
عن جده قال
: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا كلمات يقولهن عند النوم ، من الفزع :
"بسم الله ، أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ، ومن شر عباده ، ومن
همزات الشياطين وأن يحضرون" قال : فكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من
ولده أن يقولها عند نومه ، ومن كان منهم صغيرا لا يعقل أن يحفظها ، كتبها له ،
فعلقها في عنقه.
ورواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، من حديث محمد بن إسحاق (1) ، وقال الترمذي
: حسن غريب.
{ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي
أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ
وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) }.
يخبر تعالى عن حال المحتضر عند الموت ، من الكافرين أو المفرطين في أمر الله تعالى
، وقيلهم عند ذلك ، وسؤالهم الرجعة إلى الدنيا ، ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته
؛ ولهذا قال : { رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ
كَلا } كما قال تعالى : { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ
قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ
نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [المنافقون
: 10 ، 11] ، وقال تعالى : { وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ
فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ
دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ
مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ } [إبراهيم : 44] ، وقال تعالى : { يَوْمَ يَأْتِي
تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا
بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ
فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } [الأعراف : 53] ، وقال تعالى : {
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا
أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ }
[السجدة : 12] ، وقال تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ
فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ
رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [الأنعام : 27
، 28] ، وقال تعالى : { وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ
يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ } [الشورى : 44] ، وقال تعالى : {
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ
فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ذَلِكُمْ
بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ
تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } [غافر : 11 ، 12] ، وقال
تعالى : { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا
غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ
مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ
نَصِيرٍ } [فاطر : 37] ، فذكر تعالى أنهم يسألون الرجعة ، فلا يجابون ، عند
الاحتضار ، ويوم النشور ووقت العرض على الجبار ، وحين يعرضون على النار ، وهم في
غمرات عذاب الجحيم.
وقوله : هاهنا : { كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا } : كلا حرف ردع وزجر ،
أي : لا نجيبه إلى ما طلب ولا نقبل منه.
__________
(1) المسند (2/181) وسنن أبي داود برقم (3893) وسنن الترمذي برقم (3528) والنسائي
في السنن الكبرى برقم (10601).
(5/493)
وقوله : {
كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا } : قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أي
لا بد أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم.
ويحتمل أن يكون ذلك علة لقوله : "كلا" ، أي : لأنها كلمة ، أي : سؤاله
الرجوع ليعمل صالحا هو كلام منه ، وقول لا عمل معه ، ولو رد لما عمل صالحا ، ولكان
يكذب في مقالته هذه ، كما قال تعالى : { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا
عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }
وقال محمد بن كعب القرظي : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ
ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ } قال : فيقول الجبار : {
كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا }.
وقال عمر بن عبد الله مولى غُفْرَة : إذا سمعت الله يقول : { كَلا } فإنما يقول :
كذب.
(1)
وقال قتادة في قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ } : قال :
كان العلاء بن زياد يقول : لينزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت ، فاستقال ربه
فأقاله ، فليعمل بطاعة الله عز وجل.
وقال قتادة : والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة ، ولكن تمنى أن يرجع
فيعمل بطاعة الله ، فانظروا أمنية الكافر المفرط فاعملوا بها ، ولا قوة إلا بالله.
وعن محمد بن كعب القرظي نحوه.
وقال محمد بن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن يوسف ، حدثنا فضيل - يعني :
ابن عياض - عن لَيْث ، عن طلحة بن مُصَرِّف ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال :
إذا وضع - يعني : الكافر - في قبره ، فيرى مقعده من النار. قال : فيقول : رب ،
ارجعون أتوب وأعمل صالحا. قال : فيقال : قد عُمِّرت ما كنت مُعَمَّرا. قال : فيضيق
عليه قبره ، قال : فهو كالمنهوش ، ينام ويفزع ، تهوي (2) إليه هَوَامّ الأرض
وحياتها وعقاربها.
وقال أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن علي ، حدثني سلمة بن تمام ، حدثنا علي بن
زيد (3). عن سعيد بن المسيب ، عن عائشة ، أنها قالت : ويل لأهل المعاصي من أهل
القبور!! تدخل (4) عليهم في قبورهم حيات سود - أو : دُهُم - حية عند رأسه ، وحية
عند رجليه ، يقرصانه حتى يلتقيا (5) في وسطه ، فذلك العذاب في البرزخ الذي قال
الله تعالى : { وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }
وقال أبو صالح وغيره في قوله تعالى : { وَمِنْ وَرَائِهِمْ } يعني : أمامهم.
وقال مجاهد : البرزخ : الحاجز ما بين الدنيا والآخرة.
وقال محمد بن كعب : البرزخ : ما بين الدنيا والآخرة. ليسوا (6) مع أهل الدنيا
يأكلون ويشربون ، ولا مع أهل الآخرة يجازون بأعمالهم.
وقال أبو صخر : البرزخ : المقابر ، لا هم في الدنيا ، ولا هم في الآخرة ، فهم
مقيمون إلى يوم
__________
(1) في ف : "كذبت".
(2) في ف ، أ : "ويهوي".
(3) في أ : "يزيد".
(4) في ف ، أ : "يدخل".
(5) في ف : "تقرصانه حتى تلتقيا".
(6) في ف ، أ : "ليس".
(5/494)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
يبعثون.
وفي قوله : { وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ } : تهديد لهؤلاء المحتضرين من الظلمة
بعذاب البرزخ ، كما قال : { مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ } [الجاثية : 10] وقال {
وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } [إبراهيم : 17].
وقوله : { إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي : يستمر به العذاب إلى يوم البعث ، كما
جاء في الحديث : "فلا يزال معذبا فيها" (1) ، أي : في الأرض.
{ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا
يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ
وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) }.
يخبر تعالى أنه إذا نفخ في الصور نفخة النشور ، وقام الناس من القبور ، { فَلا
أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ } أي : لا تنفع الأنساب يومئذ ، ولا يرثي والد لولده ، ولا
يلوي عليه ، قال الله تعالى : { وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا. يُبَصَّرُونَهُمْ
} [المعارج : 10 ، 11] أي : لا يسأل القريب قريبه وهو يبصره ، ولو كان عليه من
الأوزار ما قد أثقل ظهره ، وهو كان أعز الناس عليه - كان - في الدنيا ، ما التفت
إليه ولا حمل عنه وزن جناح بعوضة ، قال الله تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ
مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [عبس : 34 - 37].
وقال ابن مسعود : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ثم نادى مناد :
ألا من كان له مظلمة فليجئ فليأخذ حقه : قال : فيفرح (2) المرء أن يكون له الحق
على والده أو ولده أو زوجته وإن كان صغيرا; ومصداق ذلك في كتاب الله : { فَإِذَا
نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ }
رواه ابن أبي حاتم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد - مولى بني هاشم - حدثنا عبد الله بن جعفر ،
حدثتنا أم بكر بنت المِسْوَر بن مَخْرَمَة ، عن عُبَيْد الله بن أبي رافع ، عن
المِسْوَر - هو ابن مَخْرَمَة - رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : فاطمة بَضْعَةٌ مني ، يَقْبِضُني ما يقبضها ، ويَبْسُطني ما يبسطها (3) وإن
الأنساب تنقطع (4) يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري". (5)
هذا الحديث له أصل في الصحيحين عن المسور أن (6) رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
: "فاطمة بضعة مني ،
__________
(1) رواه الترمذي في السنن برقم (1071) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وقال : "حديث
حسن غريب".
(2) في أ : "فيفرح والله".
(3) في أ : "يفيضني ما يفيضها وينشطني ما ينشطها".
(4) في أ : "منقطع".
(5) المسند (4/323).
(6) في ف ، أ : "عن".
(5/495)
يريبني ما
رابها ، ويؤذيني ما آذاها" (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر ، حدثنا زهير ، عن عبد الله بن محمد ، عن حمزة
بن أبي سعيد الخدري ، عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على
هذا المنبر : "ما بال رجال يقولون : إن رحم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا
تنفع قومه ؟ بلى ، والله إن رحمي موصولة في الدنيا والآخرة ، وإني - أيها الناس -
فرط لكم ، إذا (2) جئتم" قال رجل : يا رسول الله ، أنا فلان بن فلان ، [ وقال
أخوه : أنا فلان ابن فلان] (3) فأقول لهم : "أما النسب فقد عرفت ، ولكنكم
أحدثتم بعدي وارتددتم القهقري". (4)
وقد ذكرنا في مسند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (5) من طرق متعددة عنه ، رضي الله
عنه : أنه لما تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب ، رضي الله عنهما ، قال : أما -
والله - ما بي إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "كل سبَبٍ
ونَسب فإنه منقطع يوم القيامة ، إلا سببي ونسبي".
رواه (6) الطبراني ، والبزار والهيثم بن كليب ، والبيهقي ، والحافظ الضياء في
"المختارة" (7) وذكرنا أنه أصدقها أربعين ألفا ؛ إعظاما وإكراما ، رضي
الله عنه ؛ فقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي العاص بن الربيع - زوج زينب بنت
رسول الله صلى الله عليه وسلم - من طريق أبي القاسم البغوي : حدثنا سليمان بن عمر
بن الأقطع ، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام ، عن إبراهيم بن يزيد ، عن محمد ابن عباد
بن جعفر ، سمعت ابن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كل نسب
وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري" (8). وروي فيها من طريق عمار بن سيف
، عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو مرفوعا : "سألت ربي عز
وجل ألا أتزوج إلى أحد من أمتي ، ولا يتزوج إلي أحد منهم ، إلا كان معي في الجنة ،
فأعطاني ذلك" (9). ومن حديث عمار بن سيف ، عن إسماعيل ، عن عبد الله بن عمرو.
وقوله : { فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي :
من رجحت حسناته على سيئاته ولو بواحدة ، قاله ابن عباس.
{ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : الذين فازوا فنجوا من النار وأدخلوا
الجنة.
وقال ابن عباس : أولئك الذين فازوا بما طلبوا ، ونجوا من شر ما منه هربوا.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (3714) وصحيح مسلم برقم (2449).
(2) في ف ، أ : "فإذا".
(3) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(4) المسند (3/18).
(5) مسند عمر بن الخطاب لابن كثير (1/389).
(6) في أ : "ورواه الحافظ".
(7) المعجم الكبير (3/45) ومسند البزار برقم (2445) "كشف الأستار" وسنن
البيهقي الكبرى (7/64) والمختارة للمقدسي برقم (281).
(8) تاريخ دمشق (19/119 "المخطوط") ورواه علي بن سعيد عن سليمان بن عمر
الرقي عن إبراهيم بن عبد السلام عن إبراهيم بن يزيد عن محمد بن عباد بن جعفر عن
عبد الله بن الزبير مرفوعا ، وأخرجه الطبراني في الأوسط برقم (3963).
(9) تاريخ دمشق (19/119 "المخطوط") ورواه الطبراني في الأوسط برقم
(3961) "مجمع البحرين" من طريق يزيد بن الكميت عن عمار بن سيف به. قال
الحافظ ابن حجر في الفتح (7/85) : "إسناده واه" وفي الباب عن ابن أبي
أوفى رضي الله عنه.
(5/496)
{ وَمَنْ
خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } أي : ثقلت سيئاته على حسناته ، { فَأُولَئِكَ الَّذِينَ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } أي : خابوا وهلكوا ، وباؤوا بالصفقة (1) الخاسرة.
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث ، حدثنا داود بن
المُحَبَّر ، حدثنا صالح المُرِّيّ ، عن ثابت البُناني وجعفر بن زيد ومنصور بن
زاذان ، عن أنس بن مالك يرفعه قال : "إن لله ملكا موكلا بالميزان ، فيؤتى
بابن آدم ، فيوقف بين كفتي الميزان ، فإن ثقل ميزانه نادى ملك بصوت يسمع الخلائق :
سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا ، وإن خف ميزانه نادى ملك بصوت يسمع الخلائق :
شقي فلان شقاوة لا (2) يسعد بعدها أبدًا" (3).
إسناده ضعيف ، فإن داود بن المُحَبَّر متروك.
ولهذا قال : "في جهنم خالدون" أي : ماكثون ، دائمون مقيمون لا يظعنون.
{ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ } ، كما قال تعالى : { وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ
النَّارُ } [إبراهيم : 50] ، وقال { لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا
يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ
يُنْصَرُونَ } [الأنبياء : 39].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا فَرْوَة بن أبي المغراء (4) ، حدثنا محمد
بن سلمان الأصبهاني ، عن أبي سِنَان ضِرَار بن مُرَّة ، عن عبد الله بن أبي الهذيل
، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن جهنم لما سيق [إليها]
(5) أهلها يلقاهم (6) لهبها ، ثم تلفحهم لفحة ، فلم يبق لحم إلا سقط على
العرقوب". (7)
وقال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى الفَزَّاز ، حدثنا الخضر بن علي بن
يونس القطان ، حدثنا عمر بن أبي الحارث بن الخضر القَطَّان ، حدثنا سعد بن سعيد
(8) المقبري ، عن أخيه ، عن أبيه ، عن أبي الدرداء ، رضي الله عنه ، قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى : { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ
} قال : "تلفحهم لفحة ، فتسيل لحومهم على أعقابهم" (9).
وقوله : { وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني
عابسون.
وقال الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود : { وَهُمْ
فِيهَا كَالِحُونَ } قال : ألم تر إلى الرأس المُشَيَّط الذي قد بدا أسنانه
وقَلَصت شفتاه.
وقال الإمام أحمد ، رحمه الله : أخبرنا علي بن إسحاق ، أخبرنا عبد الله - هو ابن
المبارك ، رحمه
__________
(1) في أ : "وفازوا بالصفة".
(2) في ف : "فلا".
(3) ورواه أبو نعيم في الحلية كما في تخريج الإحياء (4098) وقال : "تفرد به
داود بن المحبر".
(4) في أ : "أبي الفراء".
(5) زيادة من ف.
(6) في ف : "تلقيهم".
(7) ورواه أبو نعيم في الحلية (4/363) وقال : "لم يروه مرفوعا متصلا عن أبي
سنان عن عبد الله إلا محمد بن سليمان الأصبهاني ، ورواه ابن عيينة وابن فضيل وجرير
عن أبي سنان فأوقفه ابن فضيل على أبي هريرة".
(8) في ف ، أ : "سعيد بن أبي سعيد".
(9) ورواه الضياء المقدسي في صفة النار كما في الدر المنثور (6/117) من حديث أبي
الدرداء رضي الله عنه.
(5/497)
الله -
أخبرنا سعيد بن يزيد ، عن أبي السَّمْح ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخُدْري ،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } ، قال :
"تَشْويه النار فَتَقَلَّصُ شفته العليا حتى تبلغ وَسَطَ رأسه ، وتسترخي شفته
السفلى حتى تَضْرب سُرَّته".
ورواه الترمذي ، عن سُوَيْد بن نصر (1) عن عبد الله بن المبارك ، به (2) وقال :
حسن غريب.
__________
(1) في أ : "نصير".
(2) المسند (3/88) وسنن الترمذي برقم (3176).
(5/498)
أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
{ أَلَمْ
تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا
رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) }.
هذا تقريع من الله تعالى لأهل النار ، وتوبيخ لهم على ما ارتكبوا من الكفر والمآثم
والمحارم والعظائم ، التي أوبقتهم في ذلك ، فقال : { أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي
تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } أي : قد أرسلت إليكم الرسل ،
وأنزلت الكتب ، وأزلت (1) شُبَهكم ، ولم يبق لكم حجة تدلون بها كما قال : { لِئَلا
يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [النساء : 165] ،
وقال : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [الإسراء : 15] ،
وقال : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ
يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ. قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا
مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ. وَقَالُوا
لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ.
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ } [الملك : 8 - 11] ،
ولهذا قالوا : { رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا
ضَالِّينَ } أي : قد قامت علينا الحجة ، ولكن كنا أشقى من أن ننقاد لها ونتبعها ،
فَضَلَلْنَا عنها ولم نُرْزَقْهَا.
ثم قالوا : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ }
أي : رُدَّنا إلى الدار الدنيا ، فإن عدنا إلى ما سلف منا ، فنحن ظالمون مستحقون
للعقوبة ، كما قالوا : { فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ
سَبِيلٍ. ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ
يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } [غافر : 11
، 12] أي : لا سبيل إلى الخروج ؛ لأنكم كنتم تشركون بالله إذا وحده المؤمنون.
{ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ
عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ
خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ
ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ
بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) }.
هذا جواب من الله تعالى للكفار إذا سألوا الخروج من النار والرجعة إلى هذه الدار
(2) ، يقول : { اخْسَئُوا فِيهَا } أي : امكثوا فيها صاغرين مُهانين أذلاء. { وَلا
تُكَلِّمُونِ } أي : لا تعودوا إلى سؤالكم هذا ، فإنه لا جواب لكم عندي.
__________
(1) في أ : "وأرخت".
(2) في أ : "الدنيا".
(5/498)
قال
العَوْفِي ، عن ابن عباس : { اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } قال : هذا قول
الرحمن حين انقطع كلامهم منه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عَبْدَة بن سليمان المروزي ، حدثنا عبد
الله بن المبارك ، عن سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة ، عن أبي أيوب ، عن عبد
الله بن عمرو قال : إن أهل جهنم يدعون مالكا ، فلا يجيبهم أربعين عاما ، ثم يردّ
عليهم : إنكم ماكثون. قال : هانت دعوتهم - والله (1) - على مالك ورب مالك. ثم
يدعون ربهم فيقولون : { رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا
ضَالِّينَ. رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ }
قال : فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين ، ثم يرد عليهم : { اخْسَئُوا فِيهَا وَلا
تُكَلِّمُونِ } قال : والله ما نَبَس (2) القوم بعدها بكلمة واحدة ، وما هو إلا
الزفير والشهيق في نار جهنم. قال : فشبهت أصواتهم بأصوات الحمير ، أولها زفير
وآخرها شهيق.
وقال أيضا : حدثنا أحمد بن سِنَان ، حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي ، حدثنا سفيان ،
عن سَلَمة بن كُهَيْل ، حدثنا أبو الزَّعْرَاء قال : قال عبد الله بن مسعود : إذا
أراد الله ألا يخرج منهم أحدًا - يعني : من جهنم - غير وجوههم وألوانهم ، فيجيء
الرجل من المؤمنين ، فيشفع فيقول : يا رب (3). فيقول : من عرف أحدًا فليخرجه.
فيجيء الرجل فينظر فلا يعرف أحدًا فيقول : أنا فلان. فيقول : ما أعرفك.
، قال : فعند ذلك يقول : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا
ظَالِمُونَ } ، فعند ذلك يقول : { اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ }. وإذا (4)
قال ذلك ، أطبقت عليهم فلا (5) يخرج منهم بَشَر.
ثم قال تعالى مذكرًا لهم بذنوبهم في الدنيا ، وما كانوا يستهزئون بعباده المؤمنين
وأوليائه ، فقال : { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا
آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ *
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا } أي : فسخرتم منهم في دعائهم إياي وتضرعهم إليّ ،
{ حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي } أي : حملكم بغضهم على أن نَسِيتم معاملتي {
وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ } أي : من صنيعهم وعبادتهم ، كما قال تعالى : {
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا
مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } [المطففين : 29 ، 30] أي : يلمزونهم استهزاء.
ثم أخبر عما جازى به أولياءه وعباده الصالحين ، فقال : { إِنِّي جَزَيْتُهُمُ
الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا } أي : على أذاكم لهم واستهزائكم منهم ، { أَنَّهُمْ
هُمُ الْفَائِزُونَ } أي : جعلتهم هم الفائزين (6) بالسعادة والسلامة والجنة ،
الناجين (7) من النار.
__________
(1) في ف ، أ : "والله دعوتهم".
(2) في ف : "فوالله ما يبس".
(3) في ف ، أ : "يا رب يا رب".
(4) في ف ، أ : "فإذا".
(5) في ف ، أ : "فلم".
(6) في ف : "الفائزون".
(7) في ف : "الناجون".
(5/499)
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
{ قَالَ
كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ
بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا
لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ
عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ
الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) }.
يقول تعالى منبها لهم على ما أضاعوه في عمرهم القصير في الدنيا من طاعة الله تعالى
وعبادته وحده ، ولو صَبَروا في مدة الدنيا القصيرة لفازوا كما فاز أولياؤه المتقون
، { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ } أي : كم كانت إقامتكم في
الدنيا ؟ { قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ
} أي : الحاسبين
{ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا } أي : مدة يسيرة على كل تقدير { لَوْ
أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : لما آثرتم الفاني على الباقي ، ولما
تَصَرَّفتم لأنفسكم هذا التصرف السّيئ ، ولا استحققتم من الله سخطه في تلك المدة
اليسيرة ، ولو أنكم صبرتم على طاعة الله وعبادته (1) - كما فعل المؤمنون - لفزتم
كما فازوا.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن الوَزير ، حدثنا الوليد ، حدثنا
صفوان ، عن أيفع بن عبد الكَلاعي ؛ أنه سمعه يخطب الناس فقال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، قال : يا
أهل الجنة ، كم لبثتم في الأرض عدد سنين ؟ قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم. قال :
لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم : رحمتي ورضواني وجنتي ، امكثوا فيها خالدين
مخلدين ؟ ثم يقول : يا أهل النار ، كم لبثتم في الأرض عدد سنين ؟ قالوا : لبثنا
يومًا أو بعض يوم. فيقول : بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم : ناري وسخطي ، امكثوا
فيها خالدين مخلدين" (2).
وقوله : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا } أي : أفظننتم أنكم
مخلوقون عبثا بلا قصد ولا إرادة منكم ولا حكمة لنا ، { وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا
تُرْجَعُونَ } أي : لا تعودون في الدار الآخرة ، كما قال : { أَيَحْسَبُ
الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } [القيامة : 36] ، يعني هملا (3).
وقوله : { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } أي : تقدَّس أن يخلق شيئا عبثا
، فإنه الملك الحق المنزه عن ذلك ، { لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ
الْكَرِيمِ } ، فذكر العرش ؛ لأنه سقف جميع المخلوقات ، ووصفه بأنه كريم ، أي :
حسن المنظر بهي الشكل ، كما قال تعالى : { فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
كَرِيمٍ } [لقمان : 10].
قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسيّ ،
حدثنا إسحاق بن سليمان - شيخ من أهل العراق - أنبأنا شعيب بن صفوان ، عن رجل من آل
سعيد بن العاص قال :
__________
(1) في ف : "على عبادته وطاعته".
(2) ورواه ابن الأثير في أسد الغابة (1/187) بإسناده إلى الحكم بن موسى عن الوليد
عن صفوان به.
(3) في أ : "مهملا".
(5/500)
كان آخر
خطبة خطب عمر بن عبد العزيز أن حمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، فإنكم لم
تخلقوا عبثا ، ولن (1) تتركوا سدى ، وإن لكم معادا ينزل الله فيه للحكم بينكم
والفصل بينكم ، فخاب وخسر مَن خرج من رحمة الله ، وحرم جنة عرضها السموات والأرض ،
ألم تعلموا أنه لا يأمن غدا إلا من حذر هذا اليوم وخافه ، وباع نافدا بباق ،
وقليلا بكثير ، وخوفا بأمان ، ألا ترون أنكم من أصلاب الهالكين ، وسيكون من بعدكم
الباقين ، حتى تردون (2) إلى خير الوارثين ؟ ثم إنكم في كل يوم تُشَيّعون غاديا
ورائحا إلى الله عز وجل ، قد قضى نحبه ، وانقضى أجله ، حتى تغيبوه في صَدْع من
الأرض ، في بطن صدع غير ممهد ولا موسد ، قد فارق الأحباب وباشر التراب ، وواجه
الحساب ، مُرْتَهَن بعمله ، غني عما ترك ، فقير إلى ما قدم. فاتقوا الله عباد الله
قبل انقضاء مواثيقه ، ونزول الموت بكم ثم جعل طرف ردائه على وجهه ، فبكى وأبكى من
حوله.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يحيى بن نصر (3) الخَوْلاني ، حدثنا ابن وَهْب ، أخبرني
ابن لَهِيعَة ، عن أبي هُبَيْرَةَ عن حَنَش (4) بن عبد الله ؛ أن رجلا مصابًا مرَّ
به عبد الله بن مسعود ، فقرأ في أذنه هذه الآية : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا
خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ
الْمَلِكُ الْحَقُّ } ، حتى ختم السورة فَبَرَأ ، [فذكر ذلك لرسول الله صلى الله
عليه وسلم] (5) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بماذا قرأت في أذنه
؟" فأخبره ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده ، لو
أن رجلا مُوقنا قرأها على جَبَل لزال".
وروى أبو (6) نُعَيم من طريق خالد بن نزار ، عن سفيان بن عيينة ، عن محمد بن
المُنْكَدر ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن أبيه قال : بعثنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم في سَرَِّية ، وأمرنا أن نقول إذا نحن أمسينا وأصبحنا : {
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا
تُرْجَعُونَ } ، قال : فقرأناها فغنمنا وسلمنا (7).
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا إسحاق بن وهب العلاف الواسطي ، حدثنا أبو
المُسَيَّب سلمة بن سلام ، حدثنا بكر بن خُنَيْس (8) ، عن نَهْشَل بن سعيد ، عن
الضحّاك بن مُزَاحِم ، عن عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا في السفن : بسم الله الملك الحق ، {
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الزمر : 67] ، { بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا
إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [هود : 41]. (9)
__________
(1) في ف : "ولم".
(2) في ف : "حين تردوا".
(3) في أ : "نصير".
(4) في ف : "حسن".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في ف : "ابن".
(7) معرفة الصحابة لأبي نعيم برقم (726).
(8) في ف : "حبيش".
(9) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (12/124) وفي كتاب الدعاء برقم (804) من طرق
عن عبد الحميد الهلالي ، عن نهشل به ، وقال الهيثمي في المجمع (10/132) :
"نهشل بن سعيد متروك".
(5/501)
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
{ وَمَنْ
يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ
عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ
وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) }.
يقول تعالى متوعدا من أشرك به غيره ، وعَبَدَ معه سواه ، ومخبرًا أن من أشرك بالله
{ لا بُرْهَانَ لَهُ } أي : لا دليل له على قوله - فقال : { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ
اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } ، وهذه جملة معترضة ، وجواب الشرط
في قوله : { فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ } أي : الله يحاسبه على ذلك.
ثم أخبر : { إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } أي : لديه يوم القيامة ، لا فلاح
لهم ولا نجاة.
قال قتادة : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل : "ما تعبد
؟" قال : أعبد الله ، وكذا وكذا - حتى عدّ أصناما ، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "فأيّهم إذا أصابك ضُرٌّ فدعوتَه ، كشفه عنك ؟". قال : الله
عز وجل. قال : ["فأيّهم إذا كانت لك حاجة فدعوتَه أعطاكها ؟" قال : الله
عز وجل. قال] (1) : "فما يحملك على أن تعبد هؤلاء معه ؟" قال : أردت
شكره بعبادة هؤلاء معه أم حسبت أن يغلب عليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"تعلمون ولا يعلمون" قال (2) الرجل بعد ما أسلم : لقيت رجلا خصمني.
هذا مرسل من هذا الوجه ، وقد روى أبو عيسى الترمذي في جامعه مسندًا عن عمران بن
الحُصَيْن ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ذلك (3).
وقوله : { وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } هذا
إرشاد من الله إلى هذا الدعاء ، فالغَفْرُ - إذا أطلِق - معناه محو الذنب وستره عن
الناس ، والرحمة معناها : أن يسدده ويوفقه في الأقوال والأفعال.
آخر تفسير سورة المؤمنون.
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في أ : "فقال".
(3) سنن الترمذي برقم (3483) وقال : "هذا حديث غريب".
(5/502)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
سورة النور
وهي مدنية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ سُورَةٌ أَنزلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ
عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) }
يقول تعالى : هذه { سُورَةٌ أَنزلْنَاهَا } فيه تنبيه على (1) الاعتناء بها ولا
ينفى ما عداها.
{ وفرضناها } قال مجاهد وقتادة : أيْ بيّنا الحلال والحرام والأمر والنهي ،
والحدود.
وقال البخاري : ومن قرأ "فَرَضْناها" يقول : فَرَضْنا عليكم وعلى من
بعدكم.
{ وَأَنزلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أي : مفسَّرات واضحَات ، { لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ }.
ثم قال تعالى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مِائَةَ جَلْدَةٍ } هذه الآية الكريمة فيها حكم الزاني في الحد ، وللعلماء فيه
تفصيل ونزاع ؛ فإن الزاني لا يخلو إما أن يكون بكرًا ، وهو الذي لم يتزوج ، أو
محصنا ، وهو الذي قد وَطِئَ في نكاح صحيح ، وهو حر بالغ عاقل. فأما إذا كان بكرًا
لم يتزوج ، فإن حدَّه مائة جلدة (2) كما في الآية ويزاد على ذلك أن يُغرّب عاما
[عن بلده] (3) عند جمهور العلماء ، خلافا لأبي حنيفة ، رحمه الله ؛ فإن عنده أن
التغريبَ إلى رأي الإمام ، إن شاء غَرَّب وإن شاء لم يغرِّب.
وحجة الجمهور في ذلك ما ثبت في الصحيحين ، من رواية الزهري ، عن عُبَيْد الله بن
عبد الله بن عُتبة بن مسعود ، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجُهَنيّ ، في
الأعرابيين اللذين أتيا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما : يا رسول
الله ، إن ابني كان عَسِيفا - يعني أجيرا - على هذا فزنى بامرأته ، فافتديت [ابني[
(4) منه بمائة شاة وَوَليدَة ، فسألت أهل العلم ، فأخبروني أن (5) على ابني جلد
مائة وتغريبَ عام ، وأن على امرأة هذا الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"والذي نفسي بيده ، لأقضين بينكما بكتاب الله : الوليدة والغنم رَدٌّ عليك ،
وعلى ابنك جَلْدُ مائة وتغريبُ عام. واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا
، فإن اعترفت فارجمها". فغدا عليها فاعترفت ، فرجمها (6).
ففي هذا دلالة على تغريب الزاني مع جلد مائة إذا كان بكرا لم يتزوج ، فأما إن كان
محصنا فإنه يرجم ، كما قال الإمام مالك :
__________
(1) في أ : "إلى".
(2) في ف ، أ : "جلد مائة".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) زيادة من ف ، أ ، وصحيحي البخاري ومسلم.
(5) في أ : "إنما".
(6) صحيح البخاري برقم (2314 ، 6633) وصحيح مسلم برقم (1697).
(6/5)
حدثني ابن
شهاب ، أخبرنا (1) عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، أن ابن عباس أخبره أن
عمر ، رضي الله عنه ، قام فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس ،
فإن (2) الله بعث محمدًا بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان فيما أنزل عليه آية
الرجم ، فقرأناها وَوَعَيْناها ، وَرَجمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَرَجمْنا
بعده ، فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل : لا نجد آية الرجم في كتاب الله ،
فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله ، فالرجم في كتاب الله حق على من زنى ، إذا أحصن
، من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة ، أو الحبل ، أو الاعتراف.
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك مطولا (3) وهذا (4) قطعة منه ، فيها مقصودنا
هاهنا.
وروى الإمام أحمد ، عن هُشَيْم ، عن الزهري ، عن عُبَيد الله بن عبد الله ، عن ابن
عباس : حدثني عبد الرحمن بن عوف ؛ أن عمر بن الخطاب خطب الناس فسمعته يقول : ألا
وَإنّ أناسا (5) يقولون : ما بالُ الرجم ؟ في كتاب الله الجلدُ. وقد رَجَم رسول
الله صلى الله عليه وسلم ورَجمَنا بعده. ولولا أن يقول قائلون - أو يتكلم (6)
متكلمون - أن عمر زاد في كتاب الله ما ليس منه (7) لأثبتها كما نزلت.
وأخرجه النسائي ، من حديث عُبَيْد الله بن عبد الله ، به (8).
وقد روى أحمد (9) أيضًا ، عن هُشَيْم ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مِهْران ، عن
ابن عباس قال : خطب عمر بن الخطاب فذكر الرجم فقال : لا تُخْدَعُن (10) عنه ؛ فإنه
حَدٌّ من حدود الله ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورَجمَنا بعده ، ولولا
أن يقول قائلون : زاد عمر في كتاب الله ما ليس فيه ، لكتبت في ناحية من المصحف :
وشهد عمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن عوف ، وفلان وفلان : أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قد رجم ورجمنا بعده. ألا وإنه سيكون من بعدكم قوم يكذبون بالرجم
وبالدجال (11) وبالشفاعة وبعذاب القبر ، وبقوم يخرجون من النار بعدما امتُحِشُوا
(12).
وروى أحمد (13) أيضا ، عن يحيى القَطَّان ، عن يحيى الأنصاري ، عن سعيد بن
المسيَّب ، عن عمر بن الخطاب (14) : إياكم أن تهَلكوا عن آية الرجم.
الحديث رواه الترمذي ، من حديث سعيد ، عن عُمَر ، وقال : صحيح (15).
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عُبَيْد الله بن عمر القواريري ، حدثنا يزيد
بن زُرَيْع ، حدثنا ابن (16) عَوْن ، عن محمد - هو ابن سِيرِين - قال : نُبِّئتُ
عن كَثِير بن الصلت قال : كنا عند
__________
(1) في ف : "عن".
(2) في ف : "إن".
(3) الموطأ (2/822) وصحيح البخاري برقم (6829 ، 6830) وصحيح مسلم برقم (1691) وهو
عندهما بهذا السياق من حديث ابن شهاب الزهري.
(4) في ف ، أ : "وهذه".
(5) في ف : "ناسا".
(6) في ف : "ويتكلم".
(7) في أ : "فيه".
(8) المسند (1/29) والنسائي في السنن الكبرى (7154).
(9) في ف ، أ : "الإمام أحمد".
(10) في أ : "لا تحيد عنه".
(11) في ف : "والدجال".
(12) المسند (1/23).
(13) في ف ، أ : "الإمام أحمد".
(14) في ف ، أ : "عمر رضي الله عنه".
(15) المسند (1/36) وسنن الترمذي برقم (1431).
(16) في ف : "أبو".
(6/6)
مروان وفينا
زيد ، فقال زيد : كنا نقرأ : "والشيخ والشيخة فارجموهما (1) البتة". قال
مروان : ألا كتبتَها في المصحف ؟ قال : ذكرنا ذلك وفينا عمر بن الخطاب ، فقال :
أنا أشفيكم من ذلك.قال : قلنا : فكيف ؟ قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه
وسلم ، قال : فذكر كذا وكذا ، وذكر الرجم ، فقال : يا رسول الله ، أكْتِبْني آية
الرجم : قال : "لا أستطيع الآن". هذا أو نحو (2) ذلك.
وقد رواه النسائي ، عن محمد بن المثنى ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن
يونس بن جُبَير ، عن كَثِير بن الصَّلْت ، عن زيد بن ثابت ، به (3).
وهذه طرق كلها متعددة (4) ودالة على أن آية الرجم كانت مكتوبة فنسخ تلاوتها ، وبقي
حكمها معمولا به ، ولله الحمد (5).
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم هذه المرأة ، وهي زوجة الرجل الذي
استأجر الأجير لما زَنَت مع الأجير. ورجم النبي (6) صلى الله عليه وسلم ماعزًا
والغامِدِيَّة. وكل هؤلاء لم يُنقَل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جَلدهم
قبل الرجم. وإنما وردت الأحاديث الصِّحَاح المتعددة الطرق والألفاظ ، بالاقتصار
على رجمهم ، وليس فيها ذكر الجلد ؛ ولهذا كان هذا مذهب جمهور العلماء ، وإليه ذهب
أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، رحمهم الله. وذهب الإمام أحمد ، رحمه الله ، إلى
أنه يجب أن يجمع على الزاني المحصَن بين (7) الجلد للآية والرجم للسنة ، كما روي ،
عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أنه لما أتي بشُرَاحة (8) وكانت
قد زنت وهي مُحْصَنَةٌ ، فجلدها يوم الخميس ، ورجمها يوم الجمعة ، ثم قال :
جلدتهُا بكتاب الله ، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روى الإمام أحمد ومسلم ، وأهل السنن الأربعة ، من حديث قتادة ، عن الحسن ، عن
حِطَّان (9) بن عبد الله الرَّقَاشِيّ ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا البِكْر
بالبِكْر ، جَلْد مائة وتغريب سنة (10) والثيب بالثيب ، جلد مائة والرجم"
(11).
وقوله : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } أي : في حكم
الله. لا ترجموهما وترأفوا بهما في شرع الله ، وليس المنهي عنه (12) الرأفة
الطبيعية [ألا تكون حاصلة] (13) على ترك الحد ، [وإنما هي الرأفة التي تحمل الحاكم
على ترك الحد] (14) فلا (15) يجوز ذلك.
قال مجاهد : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } قال :
إقامة الحدود إذا رُفعت إلى السلطان ، فتقام ولا تعطل. وكذا رُوي عن سعيد بن
جُبَيْر ، وعَطَاء بن أبي رَبَاح. وقد جاء في الحديث :
__________
(1) في ف ، أ : "والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما".
(2) في ف : "أو نحوه".
(3) النسائي في السنن الكبرى برقم (7148).
(4) في ف ، أ : "متعاضدة".
(5) في ف ، أ : "والله أعلم".
(6) في ف ، أ : "رسول الله"
(7) في أ : "من".
(8) في أ : "بسراجة".
(9) في أ : "عطاء".
(10) في أ : "عام"
(11) المسند (5/317) وصحيح مسلم برقم (1690) وسنن أبي داود برقم (4416) وسنن
الترمذي برقم (1434) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11092) وسنن ابن ماجه برقم
(2550).
(12) في ف : "النهي عن"
(13) زيادة من ف ، أ
(14) زيادة من ف ، أ
(15) في ف : "فإنه لا".
(6/7)
"تعافَوُا
الحدود فيما بينكم ، فما بلغني من حَدٍّ فقد وَجَب" (1). وفي الحديث الآخر :
"لَحَدٌّ يقام في الأرض ، خير لأهلها من أن يُمطَروا أربعين صباحا" (2).
وقيل : المراد : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } فلا
تقيموا الحد كما ينبغي ، من شدة الضرب الزاجر عن المأثم ، وليس المراد الضرب
المبرِّح.
قال عامر الشعبي : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } قال
: رحمة (3) في شدة الضرب. وقال عطاء : ضرب ليس بالمبرِّح. وقال سعيد بن أبي
عَرُوُبة ، عن حماد بن أبي سليمان : يجلد (4) القاذف وعليه ثيابه ، والزاني تخلع
ثيابه ، ثم تلا { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } فقلت :
هذا في الحكم ؟ قال : هذا في الحكم والجلد - يعني في إقامة الحد ، وفي شدة الضرب.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأوْدِيّ (5) حدثنا وَكيع ، عن نافع
، [عن] (6) ابن عمرو ، عن (7) ابن أبي مُلَيْكَة ، عن عبيد الله (8) بن عبد الله
بن عمر : أن جارية لابن عمر زنت ، فضرب رجليها - قال نافع : أراه قال : وظهرها -
قال : قلت : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } قال : يا
بني ، ورأيتَني أخَذَتْني بها رأفة ؟ إن الله لم يأمرني أن أقتلها ، ولا أن أجعل
جَلدها في رأسها ، وقد أوجعت حيث ضربت (9).
وقوله : { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي :
فافعلوا ذلك : أقيموا الحدود على من زنى ، وشددوا عليه الضرب ، ولكن ليس مبرِّحا ؛
ليرتدع هو ومن يصنع مثله بذلك. وقد جاء في المسند عن بعض الصحابة أنه قال : يا
رسول الله ، إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها ، فقال : "ولك في ذلك أجر"
(10).
وقوله : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } : هذا فيه
تنكيل للزانيين إذا جُلِدا بحضرة الناس ، فإن ذلك يكون أبلغ في زجرهما ، وأنجع في
ردعهما ، فإن في ذلك تقريعًا وتوبيخا وفضيحة إذا كان الناس حضورا.
قال الحسن البصري في قوله : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ } يعني : علانية.
ثم قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } الطائفة : الرجل فما فوقه.
وقال مجاهد : الطائفة : رجل إلى الألف. وكذا قال عكرمة ؛ ولهذا قال أحمد : إن
الطائفة تصدُق على واحد.
وقال عطاء بن أبي رباح : اثنان. وبه قال إسحاق بن رَاهَويه. وكذا قال سعيد بن جبير
: { طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قال : يعني : رجلين فصاعدا.
__________
(1) رواه أبو داود في السنن برقم (4376) والنسائي في السنن (8/70) من حديث عمرو بن
شعيب ، عن أبيه ، عن جده.
(2) المسند (2/362) والنسائي في السنن (8/75) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(3) في ف ، أ : "رحمة الله".
(4) في أ : "نجلد".
(5) في ف : "الأزدي" وفي أ : "الأرزمي".
(6) زيادة من جـ ، أ.
(7) في ف ، أ : "وعن".
(8) في ف ، أ : "عبد الله".
(9) ورواه الطبري في تفسيره (18/52) من طريق نافع ، عن ابن عمر فذكره.
(10) المسند (3/436) من حديث قرة المزني ، رضي الله عنه.
(6/8)
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
وقال الزهري
: ثلاث نفر فصاعدا.
وقال عبد الرزاق : حدثني ابن وَهْب ، عن الإمام مالك في قوله : { وَلْيَشْهَدْ
عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قال : الطائفة : أربعة نفر فصاعدا ؛
لأنه لا يكون شهادة في الزنى دون أربعة شهداء فصاعدًا. وبه قال الشافعي.
وقال ربيعة : خمسة. وقال الحسن البصري : عشرة. وقال قتادة : أمر الله أن يشهد
عذابهما طائفة من المؤمنين ، أي : نفر من المسلمين ؛ ليكون ذلك موعظة وعبرة
ونكالا.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عثمان ، حدثنا بَقِيَّةُ قال :
سمعت نصر بن علقمة في قوله : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ } قال : ليس ذلك للفضيحة ، إنما ذلك ليدعى اللهُ تعالى لهما
بالتوبة والرحمة.
{ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا
يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
}
هذا خَبَر من الله تعالى بأن الزاني لا يَطأ إلا زانية أو مشركة. أي : لا يطاوعه
على مراده من الزنى إلا زانية عاصية أو مشركة ، لا ترى حرمة ذلك ، وكذلك : {
الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ } أي : عاص بزناه ، { أَوْ مُشْرِكٌ } لا
يعتقد تحريمه.
قال سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي عَمَرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، رضي
الله عنهما : { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } قال : ليس
هذا بالنكاح ، إنما هو الجماع ، لا يزني بها إلا زانٍ أو مشرك.
وهذا إسناد صحيح عنه ، وقد رُوي عنه من غير وجه أيضا. وقد رُوي عن مجاهد ، وعكرمة
، وسعيد بن جبير ، وعُرْوَة بن الزبير ، والضحاك ، ومكحول ، ومُقَاتِل بن حَيَّان
، وغير واحد ، نحوُ ذلك.
وقوله تعالى : { وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } أي : تعاطيه والتزويج
بالبغايا ، أو تزويج العفائف بالفجار من الرجال.
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا قَيْس ، عن أبي حُصَين ، عن سعيد بن جُبَيْرٍ ، عن
ابن عباس : { وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } قال : حَّرم الله الزنى على
المؤمنين.
وقال قتادة ، ومقاتل بن حَيّان : حرم الله على المؤمنين نكاح البغايا ، وتَقَدّم
في ذلك فقال : { وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }
وهذه الآية كقوله تعالى : { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ
أَخْدَانٍ } [النساء : 25] وقوله { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا
مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } الآية [المائدة : 5] ومن هاهنا ذهب الإمام أحمد بن حنبل ،
رحمه الله ، إلى أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغي ما دامت
(6/9)
كذلك حتى
تستتاب ، فإن تابت صح العقد عليها وإلا فلا وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة
العفيفة بالرجل الفاجر المسافح ، حتى يتوب توبة صحيحة ؛ لقوله تعالى : { وَحُرِّمَ
ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }
وقال الإمام أحمد : حدثنا عارم (1) ، حدثنا مُعْتَمِر بن سليمان قال : قال أبي :
حدثنا الحضرمي ، عن القاسم بن محمد ، عن عبد الله بن عَمْرو ، رضي الله عنهما ، أن
رجلا من المسلمين استأذنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها :
"أم مهزول" كانت تسافح ، وتشترط له أن تنفق عليه - قال : فاستأذن رسول
الله صلى الله عليه وسلم - أو : ذكر له أمرها - قال : فقرأ عليه رسول (2) الله صلى
الله عليه وسلم : { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً
وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ } (3).
وقال النسائي : أخبرنا عمرو بن علي ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن
الحضرمي ، عن القاسم بن محمد ، عن عبد الله بن عمرو قال : كانت امرأة يقال لها :
"أم مهزول" وكانت تسافح ، فأراد رجل من أصحاب رسول (4) الله صلى الله
عليه وسلم أن يتزوجها ، فأنزل الله عز وجل : { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا
زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ
مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } (5).
[و] (6) قال الترمذي : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا روح بن عُبَادة بن عُبَيد الله
بن الأخنس ، أخبرني عمرو بن شُعَيب عن أبيه ، عن جده قال : كان رجل يقال له
"مَرْثَد بن أبي مرثد" وكان رجلا يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم
المدينة. قال : وكانت امرأةٌ بَغي (7) بمكة يقال لها "عَنَاق" ، وكانت
صديقة له ، وأنه واعد (8) رجلا من أسارى مكة يحمله. قال : فجئت حتى انتهيتُ إلى ظل
حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة ، قال : فجاءت "عناق" فأبصرت سواد ظلي
تحت الحائط ، فلما انتهت إليّ عرفتني (9) ، فقالت : مَرْثَد ؟ فقلت : مرثد فقالت :
مرحبًا وأهلا هلم فبت عندنا الليلة. قال : فقلت (10) يا عناق ، حرم الله الزنى.
فقالت (11) يا أهل الخيام ، هذا الرجل يحمل أسراكم. قال : فتبعني ثمانية ودخلت
الحَندمة (12) فانتهيت إلى غار - أو كهف فدخلت فيه (13) فجاءوا حتى قاموا على رأسي
فبالوا ، فظل بولهم على رأسي ، فأعماهم الله عني - قال : ثم رجعوا ، فرجعت إلى
صاحبي فحملته ، وكان رجلا ثقيلا حتى انتهيت إلى الإذخَر ، ففككت عنه أكبُله ، (14)
فجعلت أحمله ويعِينني ، حتى أتيت به (15) المدينة ، فأتيت رسولَ الله صلى الله
عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، أنكح عناقا ؟ أنكح عناقا ؟ - مرتين - فأمسك رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يرد علي شيئا ، حتى نزلت { الزَّانِي لا يَنْكِحُ
إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ
مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "يا مرثد ، { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً
[وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ] } (16)
__________
(1) في ف ، أ : "عارم بن الفضل".
(2) في ف ، أ : "نبي".
(3) المسند (2/159).
(4) في ف : "النبي".
(5) النسائي في السنن الكبرى برقم (11359).
(6) زيادة في ف ، أ.
(7) في أ : "تغني".
(8) في ف : "وعد"
(9) في ف ، أ : "عرفت".
(10) في ف : "قلت".
(11) في ف : "قالت".
(12) في ف ، أ : "الحديقة".
(13) في أ : "به".
(14) في أ : "أكليلة".
(15) في ف : "قدمت".
(16) زيادة من ف ، أ.
(6/10)
فلا
تنكحها" ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقد رواه أبو داود والنسائي ، في كتاب النكاح من سننهما (1) من حديث عبيد الله بن
الأخنس ، به (2).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مُسَدَّد أبو الحسن ، حدثنا عبد الوارث ،
عن حبيب المعلم ، حدثني عمرو بن شعيب ، عن سعيد المَقْبُرِيّ ، عن أبي هريرة ، رضي
الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا ينكح الزاني
المجلود إلا مثله".
وهكذا أخرجه أبو داود في سننه ، عن مسدد وأبي معمر - عبد الله بن عمرو - كلاهما ،
عن عبد الوارث ، به (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر
بن الخطاب ، عن أخيه عمر بن محمد ، عن عبد الله بن يسار - مولى ابن عمر - قال :
أشهد لسمعت سالما يقول : قال عبد الله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"ثلاثة لا يدخلون الجنة ، ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه ،
والمرأة المترجلة - المتشبهة بالرجال - والديوث. وثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم
القيامة : العاق لوالديه ، ومُدْمِن الخمر ، والمنَّان بما أعطى".
ورواه النسائي ، عن عمرو بن علي الفلاس ، عن يزيد بن زُرَيع ، عن عُمَر بن محمد
العُمَري ، عن عبد الله بن يسار ، به (4).
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، حدثنا الوليد بن كثير ، عن
قَطَن بن وهب ، عن عُوَيْمر بن الأجدع ، عمن حدثه ، عن سالم بن عبد الله بن عمر
قال : حدثني عبد الله بن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ثلاثة
حرم الله عليهم الجنة : مدمن الخمر ، والعاق ، والدَّيُّوث الذي يقر في أهله
الخبث" (5).
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده : حدثنا شعبة ، حدثني رجل - من آل سهل بن حُنَيْف
- ، عن محمد بن عَمَّار ، عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: "لا يدخل الجنة دَيُّوث" (6).
يستشهد به لما قبله من الأحاديث.
وقال ابن ماجه : حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا سَلام بن سَوَّار ، حدثنا كَثِير بن
سُلَيم ، عن الضحاك بن مُزَاحِم : سمعت أنس بن مالك يقول : سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم [يقول] (7) " من أراد أن يلقى الله طاهرًا مُطَهَّرًا ،
فليتزوج الحرائر".
__________
(1) في ف : "سننيهما"
(2) سنن الترمذي برقم (3177) وسنن أبي داود برقم (2051) وسنن النسائي (6/66).
(3) سنن أبي داود برقم (2052).
(4) المسند (2/134) وسنن النسائي (8/80).
(5) المسند (2/69) وقال الهيثمي في المجمع (8/147) : "فيه راوٍ لم يسم".
(6) مسند الطيالسي برقم (642).
(7) زيادة من ف ، أ.
(6/11)
في إسناده
ضعف (1).
قال الإمام أبو نصر إسماعيل بن حَمَّاد الجوهري في كتاب "الصحاح في اللغة :
" الدَّيُّوث القُنذُع وهو الذي لا غَيرَةَ له (2).
فأما الحديث الذي رواه الإمام أبو عبد الرحمن النسائي في كتاب "النكاح"
من (3) سننه : أخبرنا محمد بن إسماعيل بن عُلَيَّة ، عن يزيد بن هارون ، عن حماد
بن سلمة وغيره ، عن هارون ابن رئاب ، عن عبد الله بن عُبَيد بن عمير - وعبد الكريم
، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، عن ابن عباس - عبدُ الكريم رفعه إلى ابن عباس ،
وهارون لم يرفعه - قالا جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن عندي
امرأة [هي] (4) من أحبِّ الناس إلي (5) وهي لا تمنع يد لامِس قال :
"طلقها". قال : لا صبر لي عنها قال : "استمتع بها" ، ثم قال
النسائي : هذا الحديث غير ثابت ، وعبد الكريم ليس بالقوي ، وهارون أثبت منه ، وقد
أرسل الحديث وهو ثقة ، وحديثه أولى بالصواب من حديث عبد الكريم. (6).
قلت : وهو ابن أبي المخارق البصري المؤدب تابعي ضعيف الحديث ، وقد خالفه هارون بن
رئاب ، وهو تابعي ثقة من رجال مسلم ، فحديثه المرسل أولى كما قال النسائي. لكن قد
رواه النسائي في كتاب "الطلاق" ، عن إسحاق بن راهويه ، عن النضر بن
شمَُيل (7) عن حماد بن سلمة ، عن هارون بن رئاب ، عن عبد الله بن عُبَيد بن عمير ،
عن ابن عباس مسندا ، فذكره بهذا الإسناد ، رجاله على شرط مسلم ، إلا أن النسائي
بعد روايته له قال : "وهذا خطأ ، والصواب مرسل" (8) ورواه غير النضر على
الصواب.
وقد رواه النسائي أيضا وأبو داود ، عن الحسين بن حُرَيث ، أخبرنا الفضل بن موسى ،
أخبرنا الحسين بن واقد ، عن عُمَارة بن أبي حفصة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. وهذا إسناد جيد (9).
وقد اختلف الناس في هذا الحديث ما بين مُضَعِّف له ، كما تقدَّم ، عن النسائي ،
وكما قال الإمام أحمد : هو حديث منكر.
وقال ابن قتيبة : إنما أراد أنها سخية لا تمنع سائلا. وحكاه النسائي في سننه ، عن
بعضهم فقال : وقيل : "سخية تعطي" ، ورُدّ هذا بأنه لو كان المراد لقال :
لا تَرُدّ يد ملتمس.
__________
(1) سنن ابن ماجه برقم (1862) ووجه ضعف إسناده ؛ لأن فيه كثير بن سليم ، وهو ضعيف
، وسلام هو ابن سليمان بن سوار المدائني ، قال ابن عدي : "عنده مناكير"
وقال العقيلي : "في حديثه مناكير" قال ذلك البوصيري في مصباح الزجاجة
(2/73).
(2) الصحاح (1/282).
(3) في ف ، أ : "في.
(4) زيادة من ف ، أ ، والنسائي.
(5) في ف : "لي".
(6) سنن النسائي (6/67)
(7) في ف ، أ : "إسماعيل".
(8) سنن النسائي (6/170).
(9) سنن النسائي (6/169).
(6/12)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
وقيل :
المراد أن سجيتها لا تَرُدّ يد لامس ، لا أن المراد أن هذا واقع منها ، وأنها تفعل
الفاحشة ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأذن في مصاحبة من هذه صفتها. فإن
زوجها - والحالة هذه - يكون دَيّوثا ، وقد تقدم الوعيد على ذلك. ولكن لما كانت
سجيتها هكذا ليس فيها ممانعة ولا مخالفة لمن أرادها لو خلا بها أحد ، أمره رسولُ
صلى الله عليه وسلم بفراقها. فلما ذكر أنه يحبها أباح له البقاء معها ؛ لأن محبته
لها محققة ، ووقوع الفاحشة منها متوهم (1) فلا يُصَار إلى الضرر العاجل لتوهم
الآجل ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قالوا : فأما إذا حصلت توبة فإنه يحل التزويج ، كما قال الإمام أبو محمد بن أبي
حاتم رحمه الله :
حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا أبو خالد ، عن ابن أبي ذئب ، قال : سمعت [شعبة]
(2) - مولى ابن عباس ، رضي الله عنه - قال : سمعت ابن عباس وسأله رجل قال (3) :
إني كنت ألم بامرأة آتي منها ما حَرّم الله عز وجل عليّ ، فرزق الله عز وجل من ذلك
توبة ، فأردت أن أتزوجها ، فقال أناس : إن الزاني لا ينكح إلا زانية. فقال ابن عباس
: ليس هذا في هذا ، انكحها فما كان من إثم فعلي.
وقد ادعى طائفة آخرون من العلماء أن هذه الآية منسوخة ، قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد ابن المسيب.
قال : ذُكر عنده { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً
وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } قال : كان يقال :
نسختها [الآية] (4) التي بعدها : { وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ } [النور :
32] قال : كان يقال الأيامى من المسلمين.
وهكذا رواه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب "الناسخ والمنسوخ"
له ، عن سعيد بن المسيب. ونص على ذلك أيضا الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس
الشافعي ، رحمه الله.
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً
أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ
ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) }
هذه الآية الكريمة فيها بيان حكم جلد القاذف للمحصنة ، وهي الحرة البالغة العفيفة
، فإذا كان المقذوف رجلا فكذلك يجلد قاذفه أيضًا ، ليس في هذا نزاع بين العلماء.
فأما إن أقام القاذف بينة على صحة ما قاله ، رُدّ عنه الحد ؛ ولهذا قال تعالى : {
ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً
وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } ،
فأوجب على القاذف إذا لم يقم بينة على
__________
(1) في أ : "يتوهم".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في أ : "فقال".
(4) زيادة من ف ، أ.
(6/13)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
صحة ما قاله
ثلاثة أحكام :
أحدها : أن يجلد ثمانين جلدة.
الثاني : أنه (1) ترد شهادته دائما.
الثالث : أن يكون فاسقًا ليس بعدل ، لا عند الله ولا عند الناس.
ثم قال تعالى : { إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ، اختلف العلماء في هذا الاستثناء : هل يعود إلى الجملة
الأخيرة فقط فترفع التوبة الفسق فقط ، ويبقى مردود الشهادة دائما وإن تاب ، أو
يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة ؟ وأما الجلد فقد ذهب وانقضى ، سواء تاب أو
أصر ، ولا حكم له بعد ذلك بلا خلاف - فذهب الإمام مالك والشافعي وأحمد بن حنبل إلى
أنه إذا تاب قبلت شهادته ، وارتفع عنه حكم الفسق. ونص عليه سعيد بن المسيب - سيد
التابعين - وجماعة من السلف أيضًا.
وقال الإمام أبو حنيفة : إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فقط ، فيرتفع
الفسق بالتوبة ، ويبقى مردود الشهادة أبدًا. وممن ذهب إليه من السلف القاضي -
شُرَيح ، وإبراهيم النَّخَعِيّ ، وسعيد بن جُبَيْر ، ومكحول ، وعبد الرحمن بن زيد
بن أسلم (2).
وقال الشعبي والضحاك : لا تقبل شهادته وإن تاب ، إلا أن يعترف على نفسه بأنه قد
قال البهتان ، فحينئذ تقبل شهادته ، والله أعلم.
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا
أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ
لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ
كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ
أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ
أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا
فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) }
هذه الآية الكريمة فيها فَرَج للأزواج وزيادة مخرج ، إذا قذف أحدهم زوجته وتعسر
عليه إقامة البينة ، أن يلاعنها ، كما أمر الله عز وجل (3) وهو أن يحضرها إلى
الإمام ، فيدعي عليها بما رماها به ، فيحلفه الحاكم أربع شهادات بالله في مقابلة
أربعة شهداء ، { إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } أي : فيما رماها به من الزنى ، {
وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ }
فإذا قال ذلك ، بانت منه بنفس هذا اللعان عند الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء ،
وحرمت عليه أبدًا ، ويعطيها مهرها ، ويتوجه عليها حد الزنى ، ولا يدرأ عنها العذاب
إلا أن تلاعن ، فتشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، أي : فيما رماها به ،
{ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ }
ولهذا قال : { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ }
__________
(1) في ف : "أن".
(2) في ف : "جابر".
(3) في أ : "الله تعالى".
(6/14)
يعني : الحد
، { أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ
وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ }
فخصها بالغضب ، كما أن الغالب أن الرجل لا ا فضيحة أهله ورميها بالزنى إلا وهو
صادق معذور ، وهي تعلم صدقه فيما رماها به. ولهذا كانت الخامسة في حقها أن غضب
الله عليها. والمغضوب عليه هو الذي يعلم الحق ثم يحيد عنه.
ثم ذكر تعالى لطفه بخلقه ، ورأفته بهم ، وشرعه (1) لهم الفرج والمخرج من شدة ما
يكون فيه من الضيق ، فقال : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ }
أي : لحرجتم (2) ولشق عليكم كثير من أموركم ، { وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ } [أي]
(3) : على عباده - وإن كان ذلك بعد الحلف والأيمان المغلظة - { حَكِيمٌ } فيما
يشرعه (4) ويأمر به وفيما ينهى عنه.
وقد وردت الأحاديث بمقتضى العمل بهذه الآية ، وذكر سبب نزولها ، وفيمن نزلت فيه من
الصحابة ، فقال الإمام أحمد :
حدثنا يزيد ، أخبرنا عَبَّاد بن منصور ، عن عكْرمَة ، عن ابن عباس قال : لما نزلت
: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً
أَبَدًا } ، قال سعد بن عبادة - وهو سيد الأنصار - : هكذا أنزلت يا رسول الله ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" : يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول
سيدكم ؟" قالوا : يا رسول الله ، لا تَلُمه فإنه رجل غيور ، والله ما تزوج
امرأة قَطّ [إلا بكرًا ، وما طلق امرأة له قط] (5) فاجترأ رجل منا أن يتزوجها ، من
شدة غيرته. فقال سعد : والله - يا رسول الله - إني لأعلم أنها حق وأنها من الله ،
ولكني قد تعجَبت أني لو وجدت لَكاعًا قد تَفَخَّذها رجل ، لم يكن لي أن أهيّجه ولا
أحركه حتى آتي بأربعة شهداء ، فوالله لا آتي بهم حتى يقضي حاجته. قال : فما لبثوا
إلا يسيرًا حتى جاء هلال بن أمية - وهو أحد الثلاثة الذين تِيبَ عليهم - فجاء من
أرضه عشاء ، فوجد عند أهله رجلا فرأى بعينيه ، وسمع بأذنيه ، فلم يُهَيّجه حتى
أصبح ، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني جئت أهلي
عشاء ، فوجدتُ عندها رجلا فرأيت بعيني ، وسمعت بأذني. فَكَرِهَ رسولُ الله صلى
الله عليه وسلم ما جاء به ، واشتدّ عليه ، واجتمعت الأنصار فقالوا (6) : قد
ابتلينا بما قال سعد بن عبادة ، الآن يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلالَ بن
أمية ، ويبْطل شهادته في المسلمين (7). فقال هلال : والله إني لأرجو أن يجعل الله
لي منها مخرجًا. وقال هلال : يا رسول الله ، إني قد أرى ما اشتد عليك مما (8) جئت
به ، والله يعلم إني لصادق. فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر
بضربه ، إذ أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي - وكان إذا نزل عليه
الوحي عرفوا ذلك ، في تَرَبُّد وجهه (9). يعني : فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي -
فنزلت : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ
إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ } (10) الآية ، فَسُرّي عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقال : "أبشر يا هلال ، قد جعل الله لك فرجًا
ومخرجًا". فقال هلال : قد كنت أرجو ذلك من ربي ، عز وجل. فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "أرسلوا إليها".
__________
(1) في ف ، أ : "في شرعه".
(2) في ف : "خرجتم".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في أ : "فيما شرعه".
(5) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(6) في ف : "فقالت".
(7) في هـ : "ويبطل شهادته في الناس" والمثبت من ف ، أ ، والمسند.
(8) في ف : "فيما".
(9) في أ : "جلده".
(10) في ف ، أ : (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله).
(6/15)
فأرسلوا
إليها ، فجاءت ، فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما ، وذكرهما وأخبرهما
أن عذابَ الآخرة أشدّ من عذاب الدنيا. فقال هلال : والله - يا رسول الله - لقد
صَدَقتُ عليها. فقالت : كذب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لاعنوا بينهما".
فقيل لهلال : اشهد. فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، فلما كان في
الخامسة قيل له : يا هلال ، اتق الله ، فإن عذاب الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة ،
وإن هذه الموجبةُ التي توجب عليك العذاب. فقال : والله لا يعذبني الله عليها ، كما
لم يجلدني عليها. فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ثم قيل
[لها : اشهدي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، فلما كانت الخامسة قيل] (1)
لها : اتقي الله ، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وإن هذه الموجبةُ التي
توجب عليك العذاب. فتلكأت ساعة ، ثم قالت : والله لا أفضح قومي فشهدت في الخامسة
أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما
، وقضى ألا يدعى ولدها لأب ولا يرمى ولدها ، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد ،
وقضى ألا [بيت لها عليه ولا] (2) قوت لها ، من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ،
ولا مُتَوَفى عنها. وقال : "إن جاءت به أصَيْهِب أرَيسح حَمْش الساقين فهو
لهلال ، وإن جاءت به أورق جَعدًا جَمَاليًّا خَدلَّج الساقين سابغ الأليتين ، فهو
الذي رميت به" فجاءت به أورق جعدا جماليًّا خدلج الساقين سابغ الأليتين ،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن".
قال عكرمة : فكان بعد ذلك أميرًا على مصر ، وكان يدعى لأمه ولا يدعى لأب.
ورواه أبو داود عن الحسن بن عليّ ، عن يزيد (3) بن هارون ، به نحوه مختصرًا (4).
ولهذا الحديث شواهد كثيرة في الصحاح وغيرها من وجوه كثيرة. فمنها ما قال البخاري :
حدثني محمد بن بَشَّار ، حدثنا ابن أبي عَدِيّ ، عن هشام بن حسان ، حدثني
عِكْرِمَة ، عن ابن عباس ؛ أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه
وسلم بشَرِيك بن سَحْماء ، فقال رسول الله (5) صلى الله عليه وسلم : " البينة
أو حَدُّ في ظهرك" فقال : يا رسول الله ، إذا أري (6) أحدنا على امرأته رجلا
ينطلقُ يلتمس البينة ؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "البينة وإلا
حدّ في ظهرك". فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، ولينزلن (7) الله ما
يُبرئ ظهري (8) من الحد. فنزل جبريل ، وأنزل (9) عليه : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
أَزْوَاجَهُمْ } ، فقرأ حتى بلغ : { إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } فانصرف النبي
صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما ، فجاء هلال فشهد ، والنبي صلى الله عليه وسلم
يقول : "الله يشهد أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب" ؟ ثم قامت فشهدت ،
فلما كانت عند الخامسة وَقَّفُوها وقالوا : إنها مُوجبة. قال ابن عباس : فتلكأت
ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم. فمضت ، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : "أبْصِرُوها ، فإن جاءت به أكحلَ العينين ، سابغ
الأليتين ، خَدَلَّج الساقين ، فهو لشَرِيك بن سَحْمَاءَ". فجاءت به كذلك ،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لولا ما مضى من كتاب الله ، لكان لي ولها
شأن".
__________
(1) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(2) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(3) في ف : "زيد".
(4) المسند (1/238) وسنن أبي داود برقم (2256).
(5) [في ف ، أ : "النبي".
(6) في ف ، أ : "رأى".
(7) في ف : "ولينزل".
(8) في ف : "ما يطهرني".
(9) في ف : "فأنزل".
(6/16)
انفرد به
البخاري من هذا الوجه (1) وقد رواه من غير وجه ، عن ابن عباس وغيره.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الزيادي (2) حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا
صالح - وهو ابن عمر - حدثنا عاصم - يعني : ابن كُلَيْب - ، عن أبيه ، حدثني ابن
عباس قال : جاء رجل إلى رسول الله ، فرمى امرأته برجل ، فكره ذلك رسولُ الله صلى
الله عليه وسلم ، فلم يزل يُرَدّده حتى أنزل الله : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ [إِلا أَنْفُسُهُمْ ] } (3) [فقرأ] (4) حتى فرغ من
الآيتين ، فأرسل إليهما فدعاهما ، فقال : "إن الله ، عَزّ وجل ، قد أنزل
فيكما". فدعا الرجل فقرأ عليه ، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. ثم
أمر به فأمسك على فيه فوعظه ، فقال له : "كل شيء أهون عليه من لعنة
الله". ثم أرسله فقال : { لَعْنتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ
الْكَاذِبِينَ } ثم دعاها بها ، فقرأ عليها ، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن
الكاذبين ، ثم أمر بها فأمسك على فيها فوعظها ، وقال : "ويحك. كل شيء أهون من
غضب الله". ثم أرسلها ، فقالت : { غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ
الصَّادِقِينَ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما والله لأقضينّ
بينكما قضاء فصلا". قال : فولدت ، فما رأيت مولودًا بالمدينة أكثر غاشية منه
، فقال : "إن جاءت به لكذا وكذا فهو كذا ، وإن جاءت به لكذا وكذا فهو
لكذا". فجاءت به يشبه الذي قُذفت به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان قال :
سمعت سعيد بن جُبَير قال : سُئلْتُ عن المتلاعنين أيفرّق بينهما - في إمارة ابن
الزبير ؟ فما دَرَيتُ ما أقول ، فقمت من مكاني إلى منزل ابن عمر فقلتُ : أبا عبد
الرحمن ، المتلاعنان أيفرق بينهما ؟ فقال : سبحان الله ، إن أول من سأل عن ذلك
فلان بن فلان فقال : يا رسول الله ، أرأيت الرجل يرى امرأته على فاحشة فإن
تَكَلَّم تكلم بأمر عظيم ، وإن سكت سكت على مثل ذلك. فسكت فلم يجبه ، فلما كان بعد
ذلك أتاه فقال : الذي سألتك عنه قد ابتُليت به. فأنزل الله عز وجل هذه الآيات (5)
في سورة النور : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } حتى بلغ : { أَنَّ
غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ }. فبدأ بالرجل فوعظه
وذكَّره ، وأخبره أن عذاب الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة ، فقال : والذي بعثك بالحق
ما كَذَبْتُك. ثم ثنى بالمرأة فوعظها وذَكَّرها ، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من
عذاب الآخرة ، فقالت : والذي بعثك بالحق (6) إنه لكاذب. قال : فبدأ بالرجل ، فشهد
أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من
الكاذبين. ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، والخامسة أن
غضب الله عليها إن كان من الصادقين ، ثم فَرَّقَ بينهما.
رواه النسائي في التفسير ، من حديث عبد الملك بن أبي سليمان ، به (7) وأخرجاه في
الصحيحين من حديث سعيد بن جبير ، عن ابن عباس (8).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن حماد ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن الأعمش ، عن
إبراهيم ، عن
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4747)
(2) في أ : "الرمادي".
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في أ : "الآية".
(6) زيادة من ف ، أ. في ف ، أ : "والذي بعثك بالحق ما كذبتك".
(7) المسند (2/19) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11357).
(8) صحيح البخاري برقم (5312) وصحيح مسلم برقم (1493).
(6/17)
علقمة ، عن
عبد الله قال : كنَّا جلوسًا عشية الجمعة في المسجد ، فقال رجل من الأنصار : أحدنا
إذا رأى مع امرأته رجلا فقتله قتلتموه ، وإن تكلم جلدتموه ، وإن سكت سكت عن غيظ ؟
والله لَئن أصبحت صالحًا لأسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال : فسأله. فقال
: يا رسول الله ، إن أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلا فقتله قتلتموه ، وإن تكلم
جلدتموه ، وإن سكت سكت على غيظ ؟ اللهم احكم. قال : فأنزل آية اللعان ، فكان ذلك
الرجل أول من ابتلي به.
انفرد بإخراجه مسلم ، فرواه من طُرُق ، عن سليمان بن مِهْران الأعمش ، به (1).
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا أبو كامل : حدثنا إبراهيم بن سعد ، حدثنا ابن شهاب
، عن سهل بن سعد ، قال : جاء عُوَيْمر إلى عاصم بن عَدِيّ فقال : سَلْ رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أرأيت رجلا وجد رجلا مع امرأته فقتله ، أيقتل به أم كيف يصنع
؟ فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعابَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم
المسائل. قال : فلقيه عُوَيمر فقال : ما صنعْتَ ؟ قال : ما صنعت! إنك لم تأتني
بخير ؛ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاب المسائل فقال عُوَيمر : والله
لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فَلأسألنه. فأتاه فوجده قد أنزل عليه فيهما.
قال : فدعا بهما فَلاعَن بينهما. قال عُوَيمر : لئن انطلقتُ بها يا رسول الله لقد
كذبت عليها. قال : ففارقها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت سنة
المتلاعنين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أبصروها ، فإن جاءت به
أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين ، فلا أراه إلا قد صدق ، وإن جاءت به أحيمر كأنه
وَحَرَة فلا أراه إلا كاذبًا". فجاءت به على النعت المكروه.
أخرجاه في الصحيحين وبقية الجماعة إلا الترمذي ، من طرق ، عن الزهري ، به (2).
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إسحاق بن الضيف ، حدثنا النضر بن شُمَيْل ،
حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبيه ، عن زيد (3) بن يُثَيْع ، عن حذيفة ، رضي الله
عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : "لو رأيت مع أم
رومان رجلا ما كنت فاعلا به ؟ قال : كنت والله فاعلا به شرًا. قال : "فأنتَ
يا عمر ؟". قال : كنتُ والله فاعلا كنت أقول : لعن الله الأعجز ، وإنه خبيث.
قال : فنزلت : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ
شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ }
ثم قال : لا نعلم أحدًا أسنده إلا النَّضر بن شُميْل ، عن يونس بن أبي إسحاق ، ثم
رواه من حديث الثوري عن [أبي] (4) أبي إسحاق ، عن زيد بن يُثَيْع مرسلا فالله أعلم
(5).
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا مسلم بن أبي مسلم الجَرْمي ، حدثنا مُخَلَّدُ بن
الحسين ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : لأول
لعان كان في الإسلام أن شَرِيكَ بن سَحْمَاء قذَفه هلال بن أمية بامرأته ، فرفعه
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"أربعة شهود وإلا فَحَدٌّ في ظهرك" ، فقال : يا رسول الله ، إن الله
يعلم إني لصادق ، ولينزلن الله عليك ما يبرئ به ظهري من الجلد. فأنزل الله آية
اللعان : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ
إِلا أَنْفُسُهُمْ } إلى آخر الآية. قال : فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال :
"اشهد بالله إنك لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنى" فشهد بذلك أربع
__________
(1) المسند (1/421) وصحيح مسلم برقم (1495).
(2) المسند (5/334) وصحيح البخاري برقم (4745) وصحيح مسلم برقم (1492) وسنن أبي
داود برقم (2245) وسنن النسائي (6/143) وسنن ابن ماجه برقم (2066).
(3) في أ : "يزيد".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) مسند البزار برقم (2237) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع
(7/74) : "رجاله ثقات".
(6/18)
شهادات ، ثم
قال له في الخامسة : "ولعنة الله عليك إن كنتَ من الكاذبين فيما رميتها به من
الزنى" ، ففعل. ثم دعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "قومي
فاشهدي بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماك به من الزنى". فشهدت بذلك أربع
شهادات ، ثم قال لها في الخامسة : "وغَضب الله عليك إن كان من الصادقين فيما
رماك به من الزنى" ، فقالت : فلما كانت الرابعة أو الخامسة سكتت سكتة ، حتى
ظنوا أنها ستعترف ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم. فمضت على القول ، ففرَّق
رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، وقال : "انظروه ، فإن جاءت به جَعْدًا
حَمْشَ الساقين ، فهو لشَرِيك بن سَحْماء ، وإن جاءت به أبيض سبطا فَضيء (1)
العينين فهو لهلال بن أمية". فجاءت به آدَمَ جَعَدًا حَمْش الساقين ، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لولا ما نزل فيهما من كتاب الله ، لكان لي
ولها شأن" (2).
__________
(1) في أ : "قضي قصير".
(2) مسند أبي يعلى (5/207) ورواه مسلم في صحيحه برقم (1496) من طريق هشام ، عن
محمد ، به
(6/19)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
{ إِنَّ
الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ
هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ
وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) }
هذه العشر الآيات كلها نزلت في شأن عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، حين رماها
أهل الإفك والبهتان من المنافقين بما قالوه من الكذب البحت والفرية التي غار الله
تعالى (1) لها ولنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه ، فأنزل [الله عز وجل] (2) براءتها
صيانة لعرض الرسول ، عليه أفضل الصلاة والسلام (3) فقال : { إِنَّ الَّذِينَ
جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ } أي : جماعة منكم ، يعني : ما هو واحد ولا اثنان بل
جماعة ، فكان المقدَّم في هذه اللعنة (4) عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين ،
فإنه كان يجمعه ويستوشيه ، حتى دخل ذلك في أذهان بعض المسلمين ، فتكلموا به ،
وَجوّزه آخرون منهم ، وبقي الأمر كذلك قريبًا من شهر ، حتى نزل القرآن ، وسياق ذلك
في الأحاديث الصحيحة.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري قال : أخبرني
سعيد بن المسَيَّب ، وعُرْوَة بن الزبير ، وعلقمة بن وقاص ، وعُبَيد الله بن عبد
الله بن عتبة بن مسعود ، عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، حين قال
لها أهل الإفك ما قالوا ، فبرأها الله ، وكلّهم قد حدثني بطائفة من حديثها ،
وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصًا ، وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث
الذي حدثني ، وبعض حديثهم يصدق بعضًا : ذكروا أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه
وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سَفَرًا أقرع بين
نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه ، قالت عائشة
: فأقرع بيننا في غزوة غزاها ، فخرج فيها سهمي ، وخرجت مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، وذلك بعدما أنزل الحجابُ ، فأنا أحْمَل في هَودَجي وأنزل فيه مسيرنا ، حتى
إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غَزْوه وقفل ودنونا من المدينة ، آذن
ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل ، فمشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني
أقبلت إلى الرحل فلمست صدري ، فإذا عقْد من جَزْع ظَفار قد انقطع ، فرجعت فالتمست
عقدي ، فحَبَسني ابتغاؤه. وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فحملوا هودجي فرحلوه
على بعيري الذي كنت أركب - وهم يحسبون أني فيه - قالت : وكان النساء إذ ذاك خفافا
لم يُهَلَبْهُنَّ ولم يغشهن اللحمُ ، إنما يأكلن العُلقْة من الطعام. فلم يستنكر
القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا
،
__________
(1) في أ : "جل شأنه".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في أ : "صلى الله عليه وسلم"
(4) في أ : "العصبة".
(6/19)
ووجدت عقدي
بعدما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب ، فتيممت منزلي الذي كنت
فيه ، وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إليّ. فبينا أنا جالسة في منزلي ، غلبتني
عيني فنمت - وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذّكْوَانَي قد عَرَس من وراء الجيش
- فادّلج فأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني فعرفني حين رآني. وقد
كان يراني قبل أن يُضْرَب عليّ الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخَمَّرت
وجهي بجلبابي ، والله ما كلمني كلمة ، ولا سمعت منه كلمة غيرَ استرجاعه ، حتى أناخ
راحلته ، فَوْطئ على يَدها فركبتُها ، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش
بعدما نزلوا مُوغرين في نحر الظهيرة. فهلك من هلك في شأني ، وكان الذي تولى كِبْره
عبد الله بن أبي بن سلول. فَقَدمتُ المدينة فاشتكيت حين قدمنا شهرا ، والناس
يُفيضُون في قول أهل الإفك ، ولا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يَريبني في وجعي أني لا
أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللُّطْف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما
يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ، ثم يقول : " كيف تِيكُم ؟"
فذلك يَرِيبني ولا أشعر بالشر ، حتى خرجت بعدما نَقِهْت وخَرَجَت معي أم مِسطْح
قبل المناصع - وهو مُتَبَرَّزُنا - ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن
نَتَّخذَ الكُنُف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه ، وكنا
نتأذى بالكُنُف أن نتخذها في بيوتنا. فانطلقت أنا وأم مسْطَح - وهي ابنة أبي رُهْم
بن المطلب بن عبد مناف ، وأمها ابنة صخر بن عامر ، خالة أبي بكر الصديق ، وابنها
مسْطَح بن أثاثة بن عَبَّاد بن المطلب - فأقبلت أنا وابنة أبي رهم قِبَلَ بيتي حين
فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسْطح في مِرْطها فقالت : "تَعس مسْطح". فقلت
لها : بئسما قلت ، تسبين رجلا [قد (1) ] شهد (2) بدرا ؟ قالت : أي هَنْتاه ، ألم
(3) تسمعي ما قال ؟ قلت : وماذا قال ؟ فأخبرتني (4) بقول أهل الإفك ، فازددتُ
مرضًا إلى (5) مرضي. فلما رجعتُ إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم
فسلم ، ثم قال : "كيف تِيكُم ؟" قلت : أتأذن لي أن آتي أبويّ ؟ - قالت :
وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبَلهما - فأذنَ لي رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، فجئت أبوي فقلت لأمي : يا أمَّتاه ، ما يتحدث الناس ؟ فقالت : أيْ بُنَية
(6) هَوِّني عليك ، فوالله لقلما كانت (7) امرأة قَطّ وضيئة ، عند رجل يحبها ،
ولها ضرائر إلا أكثرن عليها. قالت : فقلتُ : سبحان الله أوقد تحدث الناس بهذا ؟
قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت ، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، ثم أصبحت
أبكي. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلِيّا (8) وأسامة بن زيد حين استلبث
الوحيُ ، يستشيرهما في فراق أهله ، قالت : فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله ، وبالذي يعلم في نفسه له من الود ،
فقال : يا رسول الله ، هم أهلك ، ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي بن أبي طالب فقال :
لم يُضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وإن تسأل الجارية تصدُقك الخبر. قالت
(9) : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بَريرة ، فقال : "أيْ بَرِيرة ، هل
رأيت من شيء يَريبك من عائشة ؟" فقالت له بريرة : والذي بعثك بالحق إنْ رأيت
عليها أمرا قَطّ أغمصُه عليها ، أكثر من أنها جارية حديثة السن ، تنام عن عجين
أهلها ، فتأتي الداجن فتأكله ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد
الله بن أبي بن سَلُول. قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر
: "يا معشر المسلمين مَنْ يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي ، فوالله
ما علمت على أهلي إلا خيرًا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرًا ، وما كان
يدخل على أهلي إلا معي". فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال : أنا أعذرك منه يا
رسول الله ، إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج ، أمرتنا
ففعلنا أمرك. قالت : فقام سعد بن عبادة - وهو سيد الخزرج ، وكان رجلا صالحا ، ولكن
احتملته الحمية - فقال لسعد ابن معاذ : لعمر الله لا تقتله (10) ولا تقدر على
قتله. فقام أُسَيد بن حُضير _ وهو ابن عم سعد بن معاذ - فقال لسعد بن عبادة :
كذبت! لعمر الله (11) لنقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فتثاور الحيان
الأوس والخزرج حتى هَمّوا أن يقتتلوا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم [قائم على
المنبر. فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم] (12) يُخَفّضهم حتى سكتوا وسكت
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : وبكيت يومي ذلك ، لا يرقأ لي دمع ، ولا
أكتحل بنوم ، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي. قالت : فبينما هما جالسان عندي
وأنا أبكي ، استأذَنَت عليَّ امرأة من الأنصار ، فأذنتُ لها ، فجلست تبكي معي ،
فبينا نحن على ذلك (13) إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس -
قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل [لي] (14) ما قيل ، وقد لبث شهرًا لا يُوحَى إليه في
شأني شيء - قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ، ثم قال : أما بعد
يا عائشة ، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت
ألْمَمْت بذنب فاستغفري الله ثم توبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب ،
تاب الله عليه. قالت : فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قَلَص دمعي
حتى ما أحس منه قطرة ، فقلت (15) لأبي : أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال : والله ما أدري ما أقول للرسول. فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله.فقالت :
والله ما أدري ما أقول لرسول الله. قالت : فقلت - وأنا جارية حديثة السن ، لا أحفظ
(16) كثيرا من القرآن - : [إني] (17) والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا ، حتى
استقر (18) في أنفسكم وصدقتم به ، ولَئَن (19) قلت لكم إني بريئة - والله يعلم إني
بريئة - لا تصدقوني [بذلك. ولئن اعترفت لكم بأمر والله عز وجل يعلم أني بريئة
تصدقوني] (20) ، وإني والله ما أجد لي (21) ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف : {
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [يوسف : 18].
قالت : ثم تحولت فاضطجعت على فراشي ، قالت : وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة ،
وأن الله مُبَرِّئي ببراءتي ، ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى ،
ولشأني كان أحقرَ في نفسي من أن يتكلم الله فِيَّ بأمر يُتلى. ولكن كنت أرجو أن
يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤْيا يبرّئني الله بها. قالت : فوالله
ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجلسه ، ولا خرج من أهل البيت أحد ، حتى
أنزل الله على نبيه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي ، حتى إنه لينحدر
منه مثل الجُمَان من العرق في اليوم الشاتي ، من ثِقَل القول الذي أنزل عليه. قالت
(22) : فلما سُرّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك ، كان أول كلمة تكلم
بها أن قال : "أبشري يا عائشة ، أما الله (23) فقد بَرّأك (24). فقالت لي أمي
: قومي إليه. فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز وجل ، هو الذي أنزل
براءتي (25) وأنزل الله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ
مِنْكُمْ } عشر آيات. فأنزل الله هذه الآيات في براءتي قالت : فقال أبو بكر ، رضي
الله عنه - وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره - : والله لا أنفق عليه شيئًا
أبدا بعد الذي قال لعائشة. فأنزل الله عز وجل : { وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ
مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ } إلى قوله { أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ
} [النور : 22] فقال أبو بكر (26) : والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فَرجّع إلى
مِسْطَح النفقة التي كان ينفق عليه. وقال : لا أنزعها منه أبدًا.
قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينبَ بنت جحش - زوجَ النبي
صلى الله عليه وسلم - ، عن أمري : يا زينب ، ما علمت ، أوما رأيت [أو ما بلغك]
(27) ؟ فقالت يا رسول الله ، أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمتُ إلا خيرًا. قالت
عائشة : وهي التي كانت تُسَاميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (28) ، فعصمها
الله تعالى بالورع.وطَفِقَت أختها حَمنة بنت جحش تحارب لها ، فهلكت فيمن هلك.
قال ابن شهاب : فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط.
أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ، من حديث الزهري (29). وهكذا رواه ابن إسحاق ،
عن الزهري كذلك ، قال : وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن
عائشة. وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ، عن عمرة ،
عن عائشة (30) بنحو (31) ما تقدم ، والله أعلم (32).
ثم قال البخاري : وقال أبو أسامة ، عن هشام بن عُرْوة قال : أخبَرَني أبي ، عن
عائشة رضي الله عنها ، قالت : لما ذُكرَ من شأني الذي ذُكر وما عَلمتُ به ، قام
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيَّ خطيبا ، فتشهد فَحَمِدَ الله وأثنى عليه بما
هو أهله ، ثم قال : "أما بعد ، أشيروا عَلَيّ في أناس أبَنُوا أهلي ، وَايمُ
الله ما علمت على أهلي من سوء (33) ، وأبَنُوهم بمَن والله ما علمتُ عليه من سوء
قطّ ، ولا يدخل بيتي قط إلا وأنا حاضر ، ولا غبت في سفر إلا غاب معي". فقام
سعد بن معاذ الأنصاري فقال : ائذن يا رسول الله أن نضرب أعناقهم ، فقام رجل من
الخزرج - وكانت أمّ حسان [بن ثابت] (34) من رهط ذلك الرجل - فقال : كذبت ، أما
والله لو كانوا من الأوس ما أحببتَ أن تُضرب أعناقهم. حتى كاد أن يكون بين الأوس
والخزرج شَرٌّ في المسجد ، وما عَلمتُ. فلما كان مساء ذلك اليوم ، خرجت لبعض حاجتي
ومعي أم مسطح ، فعَثَرتْ فقالت : تَعس مسطح ، فقلت : أيْ أمّ ، أتسبين ابنك ؟
وسكتت ، ثم عَثَرت الثانية فقالت : تَعس مسطح. فقلت لها : أيْ أمّ ، تسبين ابنك ؟
ثم عَثَرت الثالثة فقالت : تَعس مسْطح. فانتهرتها فقالت : والله ما أسبه إلا فيك ،
فقلت : في أيّ شأني ؟ قالت : فَبَقَرت لي الحديث. فقلت : وقد كان هذا ؟ قالت : نعم
والله. فرجعتُ إلى بيتي كأن الذي خرجت له لا أجد منه قليلا ولا كثيرًا ، ووُعكت ،
وقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أرسلني إلى بيت أبي. فأرسل معي الغلام ،
فدخلتُ الدار ، فوجدت أم رومان في السّفل ، وأبا بكر فوق البيت يقرأ ، فقالت [لي]
(35) أمي : ما جاء بك يا بنية ؟ فأخبرتها ، وذكرتُ لها الحديث ، وإذا هو لم يبلغ
منها مثل ما بلغ مني ، [فقالت : يا بنية ، خَفِّضي عليك الشأن ؛ فإنه - والله -
لَقَلَّما كانت امرأة
__________
(1) زيادة من ف ، أ : والمسند.
(2) في أ : "شاهد".
(3) في ف : "أولم".
(4) في ف ، أ : "وماذا قال ؟ قالت : فأخبرتني".
(5) في أ : "على".
(6) في ف ، أ : "يا بنية".
(7) في ف : "ما كانت".
(8) في المسند : "علي بن أبي طالب"
(9) في ف : "قال".
(10) في ف : "لعمر والله لنقتلنه".
(11) في ف : "والله".
(12) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(13) في ف ، أ : "كذلك".
(14) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(15) في ف ، أ : "قلت".
(16) في ف ، أ : "لا أقرأ".
(17) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(18) في ف ، أ : "استقرت".
(19) في ف : "وإن".
(20) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(21) في ف : "والله إني لا أجد لي".
(22) في ف : "ذلك".
(23) في ف ، أ : "والله".
(24) في ف ، أ : "فقد برأك الله".
(25) في أ : "هو الذي برأني.
(26) في ف ، أ : "فقال أبو بكر : أي والله".
(27) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(28) في ف ، أ : "رسول الله".
(29) المسند (6/194) وصحيح البخاري برقم (4750) وصحيح مسلم برقم (2770).
(30) في ف ، أ : "عمرة ، أخبرني أبي ، عن عائشة".
(31) في ف : "نحو".
(32) رواه ابن هشام في السيرة (2/297) من طريق ابن إسحاق ، ورواه الحافظ ابن ديزيل
في جزئه برقم (2) من طريق أبي أويس ، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم
الأنصاري ، عن عمرة ، عن عائشة.
(33) في ف ، أ : "ما علمت على أهلي إلا خيرا ، أو ما علمت على أهلي من
سوء".
(34) زيادة من ف ، أ ، والبخاري.
(35) في ف ، أ : "فقالت لي أمي".
(6/20)
حسناء ، عند
رجل يحبها ، لها ضرائر إلا حَسَدنها ، وقيل فيها وإذا هو لم يبلغ منها ما بلغ مني
، فقلت : وقد عَلِم به أبي ؟ قالت : نعم. قلت : ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم ؟
قالت : نعم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم] (1).فاستَعْبَرْتُ وبكيت ، فسمعَ أبو
بكر صوتي ، وهو فوق البيت يقرأ ، فنزل فقال لأمي : ما شأنها ؟ قالت : بلغها الذي
ذُكر من شأنها. ففاضت عيناه وقال (2) : أقسمت عليك - أيْ بُنَيّة - إلا رجعت إلى
بيتك فَرَجعتُ ، ولقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي ، فسأل عني خادمي (3)
فقالت : لا والله ما علمت عليها عيبا ، إلا أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل
خَميرها - أو : عجينها - وانتهرها بعض أصحابه فقال : اصدُقي رَسُولَ الله صلى الله
عليه وسلم حتى أسقطوا لها به ، فقالت : سبحان الله. والله ما علمت عليها إلا ما
يعلم الصائغ على تبْر الذهب الأحمر. وبلغ الأمر ذلك الرجلَ الذي قيل له ، فقال :
سبحان الله. والله ما كَشَفت كَنَف أنثى قط - قالت عائشة : فقتل شهيدا في سبيل
الله - قالت : وأصبح أبواي عندي ، فلم يزالا حتى دخل علي رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقد صَلّى العصر ، ثم دخل وقد اكتنفَني أبواي ، عن يميني وعن شمالي ، فحمد
الله وأثنى عليه ، ثم قال : "أما بعد يا عائشة ، إن كنت قارفت سُوءًا أو
ظَلَمت فتوبي إلى الله ، فإن الله يقبل التوبة عن عباده". قالت : وقد جاءت
امرأة من الأنصار ، فهي (4) جالسة بالباب ، فقلت : ألا تستحي من هذه المرأة أن
تذكر شيئًا ؟ فوعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالتفت إلى أبي ، فقلت له :
أجبْه. قال : فماذا أقول ؟ فالتفتُ إلى أمي فقلت : أجيبيه. قالت : أقول ماذا ؟
فلما لم يجيباه ، تَشَّهدتُ فحمدتُ الله وأثنيت عليه بما هو أهله ، ثم قلت : أما
بعد ، فَوَالله لَئن قلت لكم إني لم أفعل - والله عز وجل يشهد إني لصادقة - ما ذاك
بنافعي عندكم ، لقد تكلمتم به ، وأشْربته قلوبكم ، وإن قلت : إني قد فعلت - والله
يعلم أني لم أفعل - لتقولُنَ : قد باءت به على نفسها ، وإني - والله - ما أجد لي
ولكم مثلا - والتمستُ اسم يعقوب فلم أقدر عليه - إلا أبا يوسف حين قال : {
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [يوسف : 18] ،
وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من ساعته ، فسكتنا ، فَرُفع عنه وإني
لأتبين السرور في وجهه ، وهو يمسح جبينه ويقول : "أبشري يا عائشة ، فقد أنزل
الله براءتك" قالت : وكنت (5) أشد ما كنتُ غضبًا ، فقال لي أبواي : قومي
[إليه] (6) فقلت : لا والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمدكما ، ولكن أحمد الله
الذي أنزل براءتي ، لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غَيَّرتموه ، وكانت عائشة تقول :
أما زينب بنت جحش فقد عصمها الله بدينها ، فلم تقل إلا خيرًا. وأما أختها حَمنة
بنت جحش ، فهلكت فيمن هلك. وكان الذي يتكلم به (7) مسطح وحسان بن ثابت. وأما المنافق
عبد الله بن أبي بن سلول فهو الذي [كان] (8) يستوشيه ويجمعه ، وهو الذي تولى
كِبْرَه منهم هو وحمنة. قالت : وحلف أبو بكر ألا ينفع مسطحًا بنافعة أبدًا ، فأنزل
الله : { وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ } إلى آخر الآية ،
يعني : أبا بكر ، { وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ
} يعني : مسطحا ، إلى قوله : { أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [النور : 22]. فقال أبو بكر : بلى والله يا رَبّنا ،
إنا لنُحِبّ أن تغفر لنا وعاد له بما كان يصنع.
هكذا رواه البخاري من هذا الوجه مُعَلَّقا بصيغة الجزم (9) عن أبي أسامة حماد بن
أسامة [أحد
__________
(1) زيادة من ف ، أ ، والبخاري.
(2) في ف : "فقال".
(3) في ف ، أ : "خادمتي".
(4) في ف : "وهي".
(5) في ف : "فكنت".
(6) زيادة من ف ، أ ، والبخاري.
(7) في ف : "فيه".
(8) زيادة من ف ، أ ، والبخاري.
(9) صحيح البخاري برقم (4757).
(6/23)
الأئمة
الثقات. وقد رواه ابن جرير في تفسيره ، عن سفيان بن وَكيع ، عن أبي أسامة] (1) به
مطولا مثله أو نحوه. (2) ورواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج ، عن أبي أسامة ،
ببعضه.
وقال الإمام أحمد : حَدَثنا هُشَيْم ، أخبرنا عمر (3) بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن
عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : لما نزل عُذْري من السماء ، جاءني النبي صلى الله
عليه وسلم فأخبرني بذلك ، فقلت : نَحمدُ الله لا نَحمدك (4).
وقال الإمام أحمد : حدثني ابن أبي عَدِيّ ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي
بكر ، عن عَمْرَةَ ، عن عائشة قالت : لما نزل عُذْري قام رسول الله صلى الله عليه
وسلم فذكر ذلك ، وتلا القرآن ، فلما نزل أَمَر برجلين وامرأة فَضُربوا حدهم (5).
وأخرجه أهل السنن الأربعة ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن. ووقع عند أبي داود
تسميتهم : حسان بن ثابت ، ومِسْطح بن أثاثة ، وحَمْنة بنت جحش.
فهذه طرق متعددة ، عن أم المؤمنين عائشة ، رضي الله عنها ، في المسانيد والصحاح
والسنن وغيرها (6).
وقد رُوي من حديث أمها أمّ رومان ، رضي الله عنها ، فقال الإمام أحمد :
حدثنا علي بن عاصم ، أخبرنا حُصَين ، عن أبي وائل ، عن مسروق ، عن أم رومان قالت :
بينا أنا عند عائشة ، إذ دخلت عليها (7) امرأة من الأنصار فقالت : فعل الله -
بابنها - وفعل. فقالت عائشة : ولم ؟ قالت : إنه كان فيمن حَدَّث الحديث. قالت
عائشة : وأي حديث ؟ قالت : كذا وكذا. قالت : وقد بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه
وسلم ؟ قالت : نعم ، وبلغ أبا بكر ؟ قالت : نعم ، فخرت عائشة ، رضي الله عنها ،
مغشيا عليها ، فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض. قالت : فقمت فدثرتها ، قالت : وجاء
النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "ما شأن هذه ؟" قلت : يا رسول الله ،
أخذتها حمى بنافض. قال : فلعله في حديث تُحُدِّث به". قالت : فاستوت له عائشة
قاعدة فقالت : والله لئن حلفت لكم لا تصدقوني ، ولئن اعتذرت إليكم لا تُعذرُوني ،
فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وبنيه { وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ }
[يوسف : 18] قالت : وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عذرها ، فرجع
رسول الله صلى الله عليه وسلم معه أبو بكر ، [فدخل فقال : "يا عائشة ، إن
الله تعالى قد أنزل عذرك". فقالت : بحمد الله لا بحمدك. فقال لها أبو بكر :
تقولين هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم. قالت : فكان فيمن حدث هذا
الحديث رجل كان يعوله أبو بكر] (8) فحلف أبو بكر ألا يصله ، فأنزل الله : { وَلا
يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ } إلى آخر الآية[النور : 22] ،
قال أبو بكر : بلى ، فوصله.
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) تفسير الطبري (18/74) ورواه الحافظ ابن ديزيل في جزئه برقم (1) من طريق
إسماعيل بن أبي أويس ، عن أبيه ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة مثله.
(3) في أ : "عمرو".
(4) المسند (6/30).
(5) المسند (6/35) وسنن أبي داود برقم (4474) وسنن الترمذي برقم (3181) والنسائي
في السنن الكبرى برقم (7351) وسنن ابن ماجه برقم (2567).
(6) في ف : "وغيرهم".
(7) في ف : "علينا".
(8) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(6/24)
تفرد به
البخاري دون مسلم ، من طريق حُصَين (1) وقد رواه البخاري ، عن موسى بن إسماعيل ،
عن أبي عَوَانة - وعن محمد بن سلام - ، عن محمد بن فضيل ، كلاهما عن حصين ، به (2)
وفي لفظ أبي عوانة : حدثتني أم رومان. وهذا صريح في سماع مسروق منها ، وقد أنكر
ذلك جماعة من الحفاظ ، منهم الخطيب البغدادي ، وذلك لما ذكره أهل التاريخ أنها
ماتت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الخطيب : وقد كان مسروق يرسله فيقول :
"سئلت أم رومان" ، ويسوقه ، فلعل بعضهم كتب "سُئلت" بألف ،
فاعتقد الراوي أنها "سَألت" ، فظنه متصلا. قال الخطيب : "وقد رواه
البخاري كذلك ، ولم تظهر (3) له علته". كذا قال ، والله أعلم.
فقوله : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ } أي : بالكذب والبهت والافتراء ، {
عُصْبَةٌ } أي : جماعة منكم ، { لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ } أي : يا آل أبي
بكر { بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } أي : في الدنيا والآخرة ، لسان صدق في الدنيا
ورفعة منازل في الآخرة ، وإظهار شرف لهم باعتناء الله بعائشة أم المؤمنين ، حيث
أنزل الله تعالى براءتها في القرآن العظيم الذي { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت : 42]
ولهذا لما دخل عليها ابن عباس ، رضي الله عنه (4) وهي في سياق الموت ، قال لها :
أبشري فإنك زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يحبك ، ولم يتزوج بكرًا غيرك
، وأنزل (5) براءتك من السماء (6).
وقال ابن جرير في تفسيره : حدثني محمد بن عثمان الواسطي ، حدثنا جعفر بن عون ، عن
المعلى بن عرفان ، عن محمد بن عبد الله بن جَحْش قال : تفاخَرَت عائشةُ وزينبُ ،
رضي الله عنهما ، فقالت زينب : أنا التي نزل تزوُّجي [من السماء] (7) قال : وقالت
عائشة : أنا التي نزل عُذري في كتابه ، حين حملني ابن المعطل على الراحلة. فقالت
لها زينب : يا عائشة ، ما قلت حين ركبتيها ؟ قالت : قلت : حسبي الله ونعم الوكيل.
قالت : قلت كلمة المؤمنين (8).
وقوله : { لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ } أي : لكل من
تكلم في هذه القضية ورَمَى أم المؤمنين عائشة ، رضي الله عنها ، بشيء من الفاحشة ،
نصيب عظيم من العذاب.
{ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ } (9) قيل : ابتدأ به. وقيل : الذي كان يجمعه
ويستوشيه ويذيعه ويشيعه ، { لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي : على ذلك.
ثم الأكثرون على أن المراد بذلك إنما هو عبد الله بن أبي بن سَلُول - قبحه الله
ولعنه - وهو الذي تقدم النص عليه في الحديث ، وقال ذلك مجاهد وغير واحد.
وقيل : بل المراد به حسان بن ثابت ، وهو قول غريب ، ولولا أنه وقع في صحيح البخاري
ما
__________
(1) المسند (6/367) وصحيح البخاري برقم (4751).
(2) صحيح البخاري برقم (4143) من رواية موسى بن إسماعيل ، وبرقم (3388) من رواية
محمد بن سلام.
(3) في ف : "يظهر".
(4) في ف : "عنها".
(5) في ف : "ونزلت".
(6) رواه البخاري في صحيحه برقم (4753).
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) تفسير الطبري (18/70).
(9) في ف ، أ : "كبره منهم".
(6/25)
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
قد يدل على
ذلك لما كان لإيراده كبير فائدة ، فإنه من الصحابة الذين كان لهم فضائل ومناقب
ومآثر ، وأحسن محاسنه أنه كان يَذُب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [بشعره] (1)
، وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هاجهم وجبريل معك"
وقال الأعمش ، عن أبي الضُّحَى ، عن مسروق قال : كنتُ عندَ عائشة ، رضي الله عنها
، فدخل حسان بن ثابت ، فأمرت فألقي له وسادة ، فلما خرج قلت لعائشة : ما تصنعين
بهذا ؟ يعني : يدخل عليك - وفي رواية قيل لها : أتأذنين لهذا يدخل عليك ، وقد قال
الله : { وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ؟ قالت :
وأيُّ عذاب أشدّ من العمى - وكان قد ذهب بصره - لعل الله أن يجعل ذلك هو العذاب
العظيم. ثم قالت : إنه كان يُنافحُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية أنه أنشدها عندما دخل عليها [شعرا] (2) يمتدحها به ، فقال :
حَصَان رَزَانٌ ما تُزَنّ (3) بريبة... وتُصْبح غَرْثَى من لُحوم الغَوَافل...
فقالت : أما أنت فلست كذلك. وفي رواية : لكنك لست كذلك (4).
وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن قَزْعَة ، حدثنا سلمة بن علقمة ، حدثنا داود ، عن
عامر ، عن عائشة أنها قالت : ما سمعت بشيء أحسن من شعر حسان ، ولا تمثلت به إلا
رجوت له الجنة ، قوله لأبي سفيان - يعني ابن [الحارث] (5) بن عبد المطلب - :
هَجَوتَ مُحَمَّدا فَأجبتُ (6) عنه... وَعندَ الله في ذاك الجزاءُ...
فَإنَ أبي وَوَالده وعِرْضي... لعرْضِ مُحَمَّد منكم وقاءُ...
أَتَشْتُمُه ، ولستَ لَه بكُفءٍ?... فَشَرُّكُمَا لخَيْركُمَا الفدَاءُ...
لِسَانِي صَارمٌ لا عَيْبَ فِيه... وَبَحْرِي لا تُكَدِّرُه الدِّلاءُ...
فقيل : يا أم المؤمنين ، أليس هذا لغوا ؟ قالت : لا إنما اللغو ما قيل عند النساء.
قيل : أليس الله يقول { وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ
عَظِيمٌ } ، قالت : أليس قد أصابه [عذاب] (7) عظيم ؟ [أليس] (8) قد ذهب بصره
وكُنِّع بالسيف ؟ تعني : الضربة التي ضربه إياها (9) صفوان بن المعطل [السلمي]
(10) ، حين بلغه عنه أنه يتكلم في ذلك ، فعلاه بالسيف ، وكاد أن يقتله (11).
{ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ
بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جَاءُوا
عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ
عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) }
هذا تأديب من الله للمؤمنين في قضية (12) عائشة ، رضي الله عنها ، حين أفاض بعضهم
في
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ف : "ما ترن".
(4) صحيح البخاري برقم (4146) حدثني بشر بن خالد ، عن محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن
الأعمش ، به.
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في ف : "وأجبت".
(7) زيادة من ف ، أ ، والطبري.
(8) زيادة من ف ، أ ، والطبري.
(9) في ف : "ضربها إياه".
(10) زيادة من ف ، أ.
(11) تفسير الطبري (18/69).
(12) في ف : "قصة".
(6/26)
ذلك الكلام
السيئ ، وما ذكر من شأن الإفك ، فقال : { لَوْلا } بمعنى : هلا { إِذْ
سَمِعْتُمُوهُ } أي : ذلك الكلام ، أي : الذي رميت به أم المؤمنين { ظَنَّ
الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا } أي : قاسوا ذلك الكلام
على أنفسهم ، فإن كان لا يليق بهم فأم المؤمنين أولى بالبراءة منه بطريق الأولى
والأحرى.
وقد قيل : إنها نزلت في أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته ، رضي الله عنهما ،
كما قال الإمام محمد بن إسحاق بن يَسَار ، عن أبيه ، عن بعض رجال بني النجار ؛ أن
أبا أيوب خالدَ بن زيد قالت له امرأته أم أيوب : يا أبا أيوب ، أما تسمع ما يقول
الناس في عائشة ، رضي الله عنها ؟ قال : نعم ، وذلك الكذب. أكنتِ فاعلة ذلك يا أم
أيوب ؟ قالت : لا والله ما كنتُ لأفعله. قال : فعائشة والله خير منك. قال : فلما
نزل القرآن ذكر الله ، عز وجل ، مَنْ قال في الفاحشة ما قال من أهل الإفك : {
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ } [النور : 11] وذلك حسان
وأصحابه ، الذين قالوا ما قالوا ، ثم قال : { لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ
الْمُؤْمِنُونَ } (1) الآية ، أي : كما قال أبو أيوب وصاحبته (2).
وقال محمد بن عمر الواقدي : حدثني ابن أبي حبيبة (3) عن داود بن الحصين ، عن أبي
سفيان ، عن أفلح مولى أبي أيوب ، أن أم أيوب قالت لأبي أيوب : ألا تسمع (4) ما
يقول الناس في عائشة ؟ قال : بلى ، وذلك الكذب ، أفكنت يا أم أيوب [فاعلة ذلك] (5)
؟ قالت : لا والله. قال : فعائشة والله خير منك. فلما نزل القرآن ، وذكر أهل الإفك
، قال الله عز وجل : { لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ } يعني :
أبا أيوب حين قال لأم أيوب ما قال.
ويقال : إنما قالها أبي بن كعب.
وقوله : { ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا } أي :
هَلا ظنوا الخير ، فإن أم المؤمنين أهله وأولى به ، هذا ما يتعلق بالباطن ، {
وَقَالُوا } أي : بألسنتهم { هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ } أي : كذب ظاهر على أم
المؤمنين ، فإن الذي وقع لم يكن ريبة ، وذلك أن مجيء أم المؤمنين راكبة جَهْرَة
على راحلة صفوان بن المعطل في وقت الظهيرة ، والجيش بكماله يشاهدون ذلك ، ورسول
الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ، لو كان هذا الأمر فيه ريبة لم يكن هكذا (6)
جَهْرَة ، ولا كانا يُقدمان على مثل ذلك على رؤوس الأشهاد ، بل كان يكون هذا - لو
قُدر - خفية مستورا ، فتعيَّن أن ما جاء به أهل الإفك مما رَمَوا به أم المؤمنين
هو الكذب البحت ، والقول الزور ، والرّعُونة الفاحشة [الفاجرة] (7) والصفقة
الخاسرة.
قال الله تعالى : { لَوْلا } أي : هلا { جَاءُوا عَلَيْهِ } أي : على ما قالوه {
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } يشهدون على صحة ما جاءوا به { فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا
بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } أي : في حكم الله
كَذَبَةٌ فاجرون (8).
__________
(1) في ف ، أ : "ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا".
(2) رواه الطبري في تفسيره (18/77).
(3) في ف ، أ : "حبيب".
(4) في ف : "تستمع".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في ف : "هذا".
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) في ف : "فجرة".
(6/27)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
{ وَلَوْلا
فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ
فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ
بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ
وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) }
يقول [الله] (1) : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } أيها الخائضون في شأن عائشة ، بأن قبل توبتكم وإنابتكم
إليه في الدنيا ، وعفا عنكم لإيمانكم بالنسبة إلى الدار الآخرة ، { لَمَسَّكُمْ
فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ } ، من قضية الإفك ، { عَذَابٌ عَظِيمٌ }. وهذا فيمن
عنده إيمان رزقه الله بسببه التوبة إليه ، كمِسْطَح ، وحسان ، وحَمْنةَ بنت جحش ،
أخت زينبَ بنت جحش. فأما من خاض فيه من المنافقين كعبد الله بن أبي بن سلول
وأضرابه ، فليس أولئك مرادين في هذه الآية ؛ لأنه ليس عندهم من الإيمان والعمل
الصالح ما يعادل هذا ولا ما يعارضه. وهكذا شأن ما يرد من الوعيد على فعل معين ،
يكون مطلقًا مشروطا بعدم التوبة ، أو ما يقابله من عَمَل صالح يوازنُه أو يَرجح
عليه.
ثم قال تعالى : { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ } قال مجاهد ، وسعيد بن
جبير : أي : يرويه بعضكم عن بعض ، يقول هذا : سمعته من فلان ، وقال فلان كذا ،
وذكر بعضهم كذا.
وقرأ آخرون " إِذْ تَلقُونَه بِأَلْسِنَتِكُمْ ". وفي صحيح البخاري عن
عائشة : أنها كانت تقرؤها كذلك (2) وتقول : هو مِنْ وَلَق القول. يعني : الكذب
الذي يستمر صاحبه عليه (3) ، تقول العرب : وَلَق فلان في السير : إذا استمر فيه
(4) ، والقراءة الأولى أشهر ، وعليها الجمهور ، ولكن الثانية مَرْويَّة عن أم
المؤمنين عائشة.
قال ابن أبي حاتم : حدَّثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا أبو أسامة ، عن نافع بن عمر
(5) ، عن ابن أبي مليكة ، [عن عائشة أنها كانت تقرأ : " إِذْ تَلقُونَه
" وتقول : إنما هو وَلَق القول - والوَلَق : الكذب. قال ابن أبي مليكة (6) ]
: هي أعلم به من غيرها.
وقوله : { وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } أي :
تقولون ما لا تعلمون.
ثم قال تعالى : { وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } أي :
تقولون ما تقولون في شأن أم المؤمنين ، وتحسبون ذلك يسيرا [سهلا] (7) ولو لم تكن
زوجة النبي صلى الله عليه وسلم لما كان هَيِّنا ، فكيف وهي زوجة النبي الأمي ،
خاتم الأنبياء وسيد المرسلين ، فعظيم عند الله أن يقال في زوجة رسوله ما قيل! الله
يغار لهذا ، وهو سبحانه وتعالى ، لا يُقَدِّر على زوجة نبي من أنبيائه ذلك ، حاشا
وكَلا ولما [لم يكن ذلك] (8) فكيف يكون هذا في سيدة نساء الأنبياء ، وزوجة سيد ولد
آدم على الإطلاق في الدنيا والآخرة ؟! ولهذا قال تعالى { وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا
وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } ، وفي الصحيحين :
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) صحيح البخاري برقم (4144 ، 4752).
(3) في ف : "فيه".
(4) صحيح البخاري برقم (4144).
(5) في ف ، أ : "نافع ، عن ابن عمر".
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) زيادة من ف ، أ.
(6/28)
وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)
إن الرجل
ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله ، لا يدري ما تَبْلُغ ، يهوي بها في النار أبْعَد ما
بين السماء والأرض" وفي رواية : "لا يلقي لها بالا" (1).
{ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ
بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا
لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ
الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) }
هذا تأديب آخر بعد الأول : الآمر بالظن خيرا أي : إذا ذكر ما لا يليق من القول في
شأن الخيرة (2) فأولى ينبغي الظن بهم خيرا ، وألا يشعر نفسه سوى ذلك ، ثم إن عَلِق
بنفسه شيء من ذلك - وسوسةً أو خيالا - فلا ينبغي أن يتكلم به ، فإن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : "إن الله تجاوز لأمتي عما حدَّثت به أنفسها (3) ما لم
تقل أو تعمل" أخرجاه في الصحيحين (4).
وقال الله تعالى : { وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ
نَتَكَلَّمَ بِهَذَا } أي : ما ينبغي لنا أن نتفوه بهذا الكلام ولا نذكره لأحد {
سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } أي : سبحان الله أن يقال هذا الكلام على
(5) زوجة [نبيه و] (6) رسوله وحليلة خليله.
ثم قال تعالى : { يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا } أي :
ينهاكم الله متوعِّدًا أن يقع منكم ما يشبه هذا أبدًا ، أي : فيما يستقبل. فلهذا
قال : { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي : إن كنتم تؤمنون بالله وشرعه ، وتعظمون
رسوله صلى الله عليه وسلم ، فأما من كان متصفا بالكفر فذاك له حكم آخر.
ثم قال : { وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ } أي : يوضح لكم الأحكام الشرعية
والحِكَمَ القَدَريّة ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : عليم بما يصلح عباده ،
حكيم في شَرْعه وقَدَره.
{ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا
لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ
لا تَعْلَمُونَ (19) }
وهذا تأديب ثالث لمن سمع شيئا من الكلام السيئ ، فقام بذهنه منه شيء ، وتكلم به ،
فلا يكثر منه ويشيعه ويذيعه ، فقد قال تعالى (7) : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ
أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا } أي : يختارون ظهور الكلام عنهم
بالقبيح ، { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا } أي : بالحد ، وفي الآخرة
بالعذاب ، { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } أي : فردوا الأمور
إليه تَرْشُدُوا.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا ميمون بن أبي محمد المَرَئيّ ،
حدثنا محمد بن عَبّاد المخزومي ، عن ثَوْبَان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"لا تُؤذوا عِبادَ الله ولا تُعيِّروهم ، ولا تطلبوا
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6478) وصحيح مسلم برقم (2988) من حديث أبي هريرة ، رضي
الله عنه.
(2) في أ : "الحرة".
(3) في ف : "نفسها".
(4) صحيح البخاري برقم (5269) وصحيح مسلم برقم (127) من حديث أبي هريرة ، رضي الله
عنه.
(5) في ف : "عن".
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) في ف ، أ : "قال الله تعالى".
(6/29)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)
عوراتهم ،
فإنه من طلب عورة أخيه المسلم ، طلب الله عورته ، حتى يفضحه في بيته" (1).
{ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ
رَحِيمٌ (20) }
__________
(1) المسند (5/279).
(6/30)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
{ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ
يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا
مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) }
يقول تعالى : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ
رَءُوفٌ رَحِيمٌ } أي : لولا هذا لكان أمر آخر ، ولكنه تعالى رؤوف بعباده ، رحيم
بهم. فتاب على من تاب إليه من هذه [القضية] (1) وطَهَّر من طَهَّر منهم بالحد الذي
أقيم عليه.
ثم قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ
} يعني : طرائقه ومسالكه وما يأمر به ، { وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ
فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } : هذا تنفير وتحذير من ذلك ،
بأفصح العبارة وأوجزها وأبلغها وأحسنها.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } : عمله. وقال
عكرمة : نزغاته. وقال قتادة : كل معصية فهي من خطوات الشيطان. وقال أبو مِجْلَز :
النذور في المعاصي من خطوات الشيطان.
وقال مسروق : سأل رجل ابن مسعود فقال : إني حرمت أن آكل طعامًا ؟ فقال : هذا من
نزعات الشيطان ، كَفِّر عن يمينك ، وكُل.
وقال الشعبي في رجل نَذَر ذَبْح ولده : هذا من نزغات الشيطان ، وأفتاه أن يذبح
كبشًا.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا حسان بن عبد الله المصري ، حدثنا السريّ بن
يحيى ، عن سليمان التيمي ، عن أبي رافع قال : غضبت عليَّ امرأتي فقالت : هي يومًا
يهودية ، ويومًا نصرانية ، وكل مملوك لها حر ، إن لم تطلق امرأتك. فأتيت عبد الله
بن عمر فقال : إنما هذه من نزغات الشيطان. وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة ، وهي
يومئذ أفقه امرأة بالمدينة ، وأتيت عاصم بن عمر ، فقال مثل ذلك.
ثم قال تعالى : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا
مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } أي : لولا هو يرزق من يشاء التوبة والرجوع إليه ،
ويزكي النفوس من شركها وفجورها ودسها وما فيها من أخلاق رديئة ، كل بحسبه ، لما
حصل أحد لنفسه زكاة ولا خيرا { وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } أي : من
خلقه ، ويضل من يشاء ويرديه في مهالك الضلال والغي.
وقوله : { وَاللَّهُ سَمِيعٌ } أي : سميع لأقوال عباده (2) { عليم } بهم ، مَنْ
يستحق منهم الهدى والضلال.
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف : "العباد".
(6/30)
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
{ وَلا
يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى
وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا
وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (22) }
يقول تعالى : { وَلا يَأْتَلِ } من الأليَّة ، [وهي : الحلف] (1) أي : لا يحلف {
أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ } أي : الطَّول والصدقة والإحسان { وَالسَّعَة } أي :
الجِدَةَ { أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي : لا تحلفوا ألا تصلوا قراباتكم المساكين والمهاجرين.
وهذه (2) في غاية الترفق والعطف على صلة الأرحام ؛ ولهذا قال : { وَلْيَعْفُوا
وَلْيَصْفَحُوا } أي : عما تقدم منهم من الإساءة والأذى ، وهذا من حلمه تعالى
وكرمه ولطفه بخلقه مع ظلمهم لأنفسهم.
وهذه الآية نزلت في الصدِّيق ، حين حلف ألا ينفع مِسْطَح بن أثاثة بنافعة بعدما
قال في عائشة ما قال ، كما تقدم في الحديث. فلما أنزل الله براءةَ أم المؤمنين
عائشة ، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت ، وتاب الله على مَن كان تكلم من المؤمنين
في ذلك ، وأقيم الحد على مَن أقيم عليه (3) - شَرَع تبارك وتعالى ، وله الفضل
والمنة ، يعطفُ الصدِّيق على قريبه ونسيبه ، وهو مِسْطَح بن أثاثة ، فإنه كان ابن
خالة الصديق ، وكان مسكينًا لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر ، رضي الله عنه ،
وكان من المهاجرين في سبيل الله ، وقد وَلَق وَلْقَة (4) تاب الله عليه منها ،
وضُرب الحد عليها. وكان الصديق ، رضي الله عنه ، معروفًا بالمعروف ، له الفضل
والأيادي على الأقارب والأجانب. فلما نزلت هذه الآية إلى قوله : { أَلا تُحِبُّونَ
أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : فإن الجزاء من جنس
العمل ، فكما تغفر (5) عن المذنب إليك نغفر (6) لك ، وكما تصفح نصفح (7) عنك. فعند
ذلك قال الصديق : بلى ، والله إنا نحب - يا ربنا - أن تغفر لنا. ثم رَجَع إلى مسطح
ما كان يصله من النفقة ، وقال : والله لا أنزعها منه أبدًا ، في مقابلة ما كان قال
: والله لا (8) أنفعه بنافعة أبدًا ، فلهذا كان الصدّيق هو الصديق [رضي الله عنه
وعن بنته] (9).
{ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا
فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ
هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) }
هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات - خُرِّج مخرج الغالب -
المؤمنات.
فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة ، ولا سيما التي كانت سبب النزول
، وهي عائشة بنت الصديق ، رضي الله عنهما.
وقد أجمع العلماء ، رحمهم الله ، قاطبة على أن مَنْ سَبَّها بعد هذا ورماها بما
رماها به [بعد هذا
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف : "وهذا".
(3) في ف ، أ : "من أقيم الحد عليه".
(4) في ف : "زلق زلقة".
(5) في ف : "يغفر".
(6) في ف : "يغفر".
(7) في ف : "يصفح".
(8) في ف : "ما".
(9) زيادة من ف ، أ.
(6/31)
الذي ذكر]
(1) في هذه الآية ، فإنه كافر ؛ لأنه معاند للقرآن. وفي بقية أمهات المؤمنين قولان
: أصحهما أنهن كهي ، والله أعلم.
وقوله تعالى : { لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
كقوله : { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا } [الأحزاب : 57] (2).
وقد ذهب بعضهم إلى أنها خاصة بعائشة ، فقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عبد الله بن خِرَاش ، عن العَوَّام ، عن سعيد بن
جبير ، عن ابن عباس : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ
الْمُؤْمِنَاتِ } [قال] (3) : نزلت في عائشة خاصة.
وكذا قال [سعيد بن جبير و] (4) مقاتل بن حيان ، وقد ذكره ابن جرير عن عائشة فقال :
حدثنا أحمد بن عَبْدَة الضَّبِّي ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن
أبيه قال : قالت عائشة : رُميت بما رميت به وأنا غافلة ، فبلغني بعد ذلك. قالت :
فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عندي (5) إذ أوحي ، (6) إليه. قالت :
وكان إذا أوحي إليه أخذه كهيئة السُّبات ، وإنه أوحي إليه وهو جالس عندي ، ثم
استوى جالسا يمسح على وجهه ، وقال : "يا عائشة أبشري". قالت : قلت : بحمد
الله لا بحمدك. فقرأ : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ
الْمُؤْمِنَاتِ } ، حتى قرأ : (7) { أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ }
[النور : 26] (8).
هكذا أورده ، وليس فيه أن الحكم خاص بها ، وإنما فيه أنها سبب النزول دون غيرها ،
وإن كان الحكم يعمها كغيرها ، ولعله مراد ابن عباس ومن قال كقوله ، والله أعلم.
وقال الضحاك ، وأبو الجوزاء ، وسلمة بن نُبَيْط : المراد بها أزواج النبيّ خاصة ،
دون غيرهن من النساء.
وقال العَوْفِيّ ، عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } الآية : يعني أزواج النبي صلى الله
عليه وسلم ، رماهن أهل النفاق ، فأوجب الله لهم اللعنة والغضب ، وباؤوا بسخط من
الله ، فكان (9) ذلك في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ثم نزل بعد ذلك : {
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
} إلى قوله : { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ، فأنزل الله الجلد والتوبة ،
فالتوبة تقبل ، والشهادة تُرَدّ.
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا العوام بن
حوشب ، عن شيخ (10) من بني أسد ، عن ابن عباس - قال : فسر سورة النور ، فلما أتى
على هذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ
الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا } الآية - قال : في شأن عائشة ، وأزواج النبي صلى الله
عليه وسلم ، وهي مبهمة ، وليست لهم توبة ، ثم قرأ : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } إلى قوله : { إِلا
الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا } الآية [النور : 4 ، 5] ، قال
: فجعل
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف : "والآخرة ولهم عذاب مهين" وهو خطأ.
(3) زيادة في ف ، أ.
(4) زيادة في ف ، أ.
(5) في ف ، أ. "عندي جالس".
(6) في ف ، أ. "أوحى الله تعالى إليه".
(7) في ف ، أ : "بلغ".
(8) تفسير الطبري (18/82).
(9) في ف : "وكان".
(10) في ف ، أ : "العوام بن حوشب عن حوشب عن شيخ".
(6/32)
لهؤلاء توبة
ولم يجعل لمن قذف أولئك توبة ، قال : فهمّ بعضُ القوم أن يقوم إليه فيقبل رأسه ،
من حسن ما فسَّر به سورة النور (1).
فقوله : "وهي مبهمة" ، أي : عامة في تحريم قذف كل محصنة ، ولَعْنته في
الدنيا والآخرة.
وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هذا في عائشة ، ومن صنع مثل هذا أيضًا اليوم
في المسلمات ، فله ما قال الله ، عز وجل ، ولكن عائشة كانت إمامَ ذلك.
وقد اختار ابن جرير عمومها ، وهو الصحيح ، ويعضد العموم (2) ما رواه ابن أبي حاتم
:
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن - ابن أخي ابن وهب - حدثنا عمي ، حدثنا سليمان بن بلال ،
عن ثور بن زيد ، عن أبي الغَيث (3) عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : "اجتنبوا السبع الموبقات". قيل : يا رسول الله ، وما هن ؟
قال : "الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل
الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات
المؤمنات".
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث سليمان بن بلال ، به (4).
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عَمْرو بن خالد الحَذَّاء
الحراني ، حدثني أبي ، (ح) وحدثنا أبو شُعَيب الحراني ، حدثنا جدي أحمد بن أبي
شُعَيب ، حدثنا موسى بن أعين ، عن ليث ، عن أبي إسحاق ، عن صِلَة بن زُفَر ، عن
حذيفة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "قذف المحصنة يهدم عمل مائة
سنة" (5).
وقوله { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ
بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا أبو يحيى الرازي ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن
مُطَرِّف ، عن المِنْهَال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إنهم - يعني :
المشركين - إذا رَأوا أنه لا يدخلُ الجنةَ إلا أهل الصلاة ، قالوا : تعالوا حتى
نجحد. فيجحدون فيختم [الله] (6) على أفواههم ، وتشهد أيديهم وأرجلهم ، ولا يكتمون
الله حديثًا.
وقال ابن جرير ، وابن أبي حاتم أيضًا : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب
، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن دَرَّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول
الله صلى عليه وسلم قال : "إذا كان يوم القيامة ، عُرف الكافر بعمله ، فيجحد
ويخاصم ، فيقال له : هؤلاء جيرانك يشهدون عليك. فيقول : كذبوا. فيقول : أهلك
وعشيرتك. فيقول : كذبوا ، فيقول : احلفوا. فيحلفون ، ثم يُصمِتهم الله ، فتشهد
عليهم أيديهم وألسنتهم ، ثم يدخلهم النار" (7).
وقال ابن أبي حاتم أيضًا : حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن أبي شيبة الكوفي
، حدثنا
__________
(1) تفسير الطبري (18/83).
(2) في ف ، أ : "الصحيح".
(3) في أ : "المغيب".
(4) صحيح البخاري برقم (2766) وصحيح مسلم برقم (89).
(5) المعجم الكبير للطبراني (3/196) وقال الهيثمي في المجمع (6/279) : "وفيه
ليث بن أبي سليم وهو ضعيف وقد يحسن حديثه ، وبقية رجاله رجال الصحيح".
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) تفسير الطبري (18/105) ورواه أبو يعلى في مسنده برقم (1392) من طريق ابن لهيعة
، عن دراج عن أبي الهيثم به ، ودراج عن أبي الهيثم ضعيف.
(6/33)
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
مِنْجَاب بن
الحارث التميمي (1) حدثنا أبو عامر الأسَدِيَ ، حدثنا سفيان ، عن عبيد المُكْتب ،
عن فُضَيل بن عمرو الفُقَيمي ، عن الشعبي ، عن أنس بن مالك قال : كنا عند النبي
صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نَوَاجذُه ، ثم قال : "أتدرون (2) مِمَّ
أضحك ؟" قلنا : الله ورسوله أعلم. قال : "من مجادلة العبد ربه يوم
القيامة ، يقول : يا رب ، ألم تُجِرْني من الظلم ؟ فيقول : بلى. فيقول : لا أجيز
عليَّ شاهدًا إلا من نفسي. فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا ، وبالكرام عليك
شهودا (3) فيختم على فيه ، ويقال لأركانه : انطقي فتنطق بعمله ، ثم يخلى بينه وبين
الكلام ، فيقول : بُعدًا لَكُنّ وسُحْقًا ، فعنكُنَّ كنتُ أناضل".
وقد رواه مسلم والنسائي جميعا ، عن أبي بكر بن أبي النضر ، عن أبيه ، عن عُبَيد
الله (4) الأشجعي ، عن سفيان الثوري ، به (5) ثم قال النسائي : لا أعلم أحدا روى
هذا الحديث عن سفيان الثوري غير (6) الأشجعي ، وهو حديث غريب ، والله أعلم. هكذا
قال.
وقال قتادة : ابن آدم ، والله إن عليك لَشُهودًا غيرَ متهمة من بدنك ، فراقبهم
واتق الله في سرك (7) وعلانيتك ، فإنه لا يخفى عليه خافية ، والظلمة عنده ضوء (8)
والسر عنده علانية ، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن ، فليفعل ولا قوة إلا
بالله.
وقوله : { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ } قال ابن عباس : {
دِينَهُمُ } أي : حسابهم ، وكل ما في القرآن { دِينَهُمُ } أي : حسابهم. وكذا قال
غير واحد.
ثم إن قراءة الجمهور بنصب { الْحَقَّ } على أنه صفة لدينهم ، وقرأ مجاهد بالرفع ،
على أنه نعت الجلالة. وقرأها بعض السلف في مصحف أبي بن كعب : "يومئذ يوفيهم
الله الحقّ دينهم" (9).
وقوله : { وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } أي : وعده
ووعيده وحسابه هو العدل ، الذي لا جور فيه.
{ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ
لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا
يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) }
قال ابن عباس : الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال
للخبيثات من القول. والطيبات من القول ، للطيبين من الرجال ، والطيبون من الرجال
للطيبات من القول. قال : ونزلت في عائشة وأهل الإفك.
وهكذا رُوي عن مجاهد ، وعطاء ، وسعيد بن جُبَير ، والشعبي ، والحسن بن أبي الحسن
البصري ، وحبيب بن أبي ثابت ، والضحاك. واختاره ابن جرير ، ووجَّهَهُ بأن الكلام
القبيح أولى بأهل القبح من الناس ، والكلام الطيب أولى بالطيبين من الناس ، فما
نسبه أهل النفاق إلى عائشة هم
__________
(1) في ف : "التيمي".
(2) في ف : "تدرون".
(3) في ف ، أ : "شهيدا".
(4) في أ : "عبد الله".
(5) صحيح مسلم برقم (2969).
(6) في أ : "إلا".
(7) في أ : "سرائرك".
(8) في ف : "ضياء".
(9) في أ : "يوفيهم الله دينهم الحق".
(6/34)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
أولى به ،
وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم ؛ ولهذا قال : { أُولَئِكَ (1) مُبَرَّءُونَ
مِمَّا يَقُولُونَ }.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ،
والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء ، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال ،
والطيبون من الرجال للطيبات من النساء.
وهذا - أيضًا - يرجع إلى ما قاله أولئك باللازم ، أي : ما كان الله ليجعل عائشة
زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهي طيبة ؛ لأنه أطيب من كل طيب من البشر
، ولو كانت خبيثة لما صلحت له ، لا شرعا ولا قدرا ؛ ولهذا قال : { أُولَئِكَ
مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ } أي : هم بُعَداء عما يقوله أهل الإفك والعدوان ،
{ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ } أي : بسبب ما قيل فيهم من الكذب ، { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } أي
: عند الله في جنات النعيم. وفيه وعد بأن تكون زوجة النبيّ صلى الله عليه وسلم في
الجنة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن مسلم ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا عبد السلام بن
حرب ، عن يزيد بن عبد الرحمن ، عن الحكم ، عن يحيى بن الجزار قال : جاء أسير (2)
بن جابر إلى عبد الله فقال : لقد سمعت الوليد بن عقبة تكلم بكلام أعجبني. فقال عبد
الله : إن الرجل المؤمن يكون في قلبه الكلمة غير طيبة (3) تتجلجل في صدره ما تستقر
حتى يلفظها ، فيسمعها (4) رجل عنده يَتُلّها فيضمها إليه. وإن الرجل الفاجر يكون
في قلبه الكلمة الطيبة تتجلجل في صدره ما تستقر حتى يلفظها ، فيسمعها (5) الرجل
الذي عنده يَتُلُّها (6) فيضمها إليه ، ثم قرأ عبد الله : { الْخَبِيثَاتُ
لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ
وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ }.
ويشبه هذا ما رواه الإمام أحمد في المسند مرفوعا : "مثل الذي يسمع الحكمة ثم
لا يُحدِّث إلا بشرِّ ما سمع ، كمثل رجل جاء إلى صاحب غنم ، فقال : أجْزِرني شاة.
فقال : اذهب فَخُذ بأذُن أيها شئتَ. فذهب فأخذ بأذن كَلْب الغنم" (7) وفي
الحديث الآخر : "الحكمة (8) ضالة المؤمن حيث وجدها أخذها" (9).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ
حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) }
__________
(1) في ف ، أ : "فأولئك" وهو خطأ".
(2) في ف ، أ : "أسيد".
(3) في أ : "طائل".
(4) في أ : "فسمعها".
(5) في أ : "فسمعها".
(6) في أ : "مثلها".
(7) المسند (2/353) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(8) في أ : "الكلمة".
(9) رواه الترمذي في السنن برقم (2687) وابن ماجه في السنن برقم (4169) من طريق
عبد الله بن نمير ، عن إبراهيم بن الفضل ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، رضي
الله عنه. وقال الترمذي : "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ،
وإبراهيم ابن الفضل المدني المخزومي ، يضعف في الحديث من قبل حفظه".
(6/35)
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
{ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) }
(6/35)
هذه آداب
شرعية ، أدّب الله بها عباده المؤمنين ، وذلك في الاستئذان أمر الله المؤمنين ألا
يدخلوا بيوتًا غير بيوتهم حتى يستأنسوا ، أي : يستأذنوا قبل الدخول ويسلموا بعده.
وينبغي أن يستأذن ثلاثًا ، فإن أذن له ، وإلا انصرف ، كما ثبت (1) في الصحيح : أن
أبا موسى حين استأذن على عمر ثلاثًا ، فلم يؤذن له ، انصرف. ثم قال عمر : ألم أسمع
صوت عبد الله بن قيس يستأذن ؟ ائذنوا له. فطلبوه فوجدوه قد ذهب ، فلما جاء بعد ذلك
قال : ما رَجَعَك ؟ قال : إني استأذنت ثلاثًا فلم يؤذن لي ، وإني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول : "إذا استأذن أحدكم ثلاثًا ، فلم يؤذن له ،
فلينصرف". فقال : لَتَأتِيَنَّ على هذا ببينة وإلا أوجعتك ضربًا. فذهب إلى
ملأ من الأنصار ، فذكر لهم ما قال عمر ، فقالوا : لا يشهد (2) لك إلا أصغرنا. فقام
معه أبو سعيد الخُدْريّ فأخبر عمر بذلك ، فقال : ألهاني عنه الصَّفْق بالأسواق
(3).
وقال الإمام أحمد : حَدَّثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر عن ثابت ، عن أنس - أو :
غيره (4) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن على سعد بن عبادة فقال :
"السلام عليك ورحمة الله". فقال سعد : وعليك السلام ورحمة الله ولم يسمع
النبي صلى الله عليه وسلم حتى سلم ثلاثًا. ورد عليه (5) سعد ثلاثًا ولم يُسْمعه.
فرجع النبي صلى الله عليه وسلم ، واتبعه سعد فقال : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي
، ما سلمتَ تسليمة إلا وهي بأذني ، ولقد رَدَدْت عليك ولم أُسْمِعك ، وأردتُ أن
أستكثر من سلامك ومن البركة. ثم أدخله البيت ، فقرَّب إليه زَبيبًا ، فأكل نبي
الله. فلما فرغ قال : "أكل طعامكم الأبرار ، وصَلَّت عليكم الملائكة ، وأفطر
عندكم الصائمون" (6).
وقد رَوَى أبو داود والنسائي ، من حديث أبي عمرو الأوزاعي : سمعت يحيى بن أبي كثير
يقول : حدثني محمد بن عبد الرحمن بن سعد (7) بن زرارة ، عن قيس بن سعد - هو ابن
عبادة - قال : زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا ، فقال :
"السلام عليكم ورحمة الله". فردّ سعد ردًا خفيًا (8) ، قال قيس : فقلت :
ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ذَرْه (9) يكثر علينا من السلام.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "السلام عليكم ورحمة الله". فرد
سعد رَدًا خفيًا (10) ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " السلام
عليكم ورحمة الله" ثم رَجَع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتبعه سعد فقال
: يا رسول الله ، إني كنت أسمع تسليمك ، وأرد عليك ردّا خفيًا (11) ، لتكثر علينا
من السلام. قال : فانصرف معه [رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر له سعد بغسل ،
فاغتسل ، ثم ناوله ملْحَفَة مصبوغة] (12) بزعفران - أو : وَرس - فاشتمل بها ، ثم
رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وهو يقول : "اللهم اجعل صلاتك ورحمتك
على آل سعد بن عبادة". قال : ثم أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطعام
، فلما أراد الانصراف قرّب إليه سعد حمارًا قد وَطَّأ عليه بقطيفة ، فركب رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال سعد : يا قيس ، اصحب رسول
__________
(1) في أ : "وثبت".
(2) في أ : "لا نشهد".
(3) صحيح البخاري برقم (6245) وصحيح مسلم برقم (2153).
(4) في أ : "وغيره".
(5) في أ : "على".
(6) المسند (3/138).
(7) في أ : "أسعد".
(8) في أ : "خفيفا".
(9) في أ : "ودعه".
(10) في أ : "خفيفا".
(11) في أ : "خفيفا".
(12) زيادة من أ ، وأبي داود.
(6/36)
الله صلى
الله عليه وسلم. قال قيس : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اركب".
فأبيت ، فقال : "إما أن تركب وإما أن تنصرف". قال : فانصرفت.
وقد روي هذا من وجه آخر (1) فهو حديث جيد قويّ ، والله أعلم.
ثم ليُعْلمْ أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل ألا يقف تلقاء الباب بوجهه ، ولكن
ليَكن (2) البابُ ، عن يمينه أو يساره ؛ لما رواه أبو داود : حدثنا مُؤَمَّل بن
الفضل الحراني - في آخرين - قالوا : حدثنا بَقيَّة ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن ،
عن عبد الله بن بُسْر (3) قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم
، لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ، ويقول :
"السلام عليكم ، السلام عليكم". وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور.
تَفَرد به أبو داود (4).
وقال أبو داود أيضًا : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ، (ح) قال أبو داود :
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا حفص ، عن الأعمش ، عن طلحة ، عن هُزَيل قال :
جاء رجل - قال عثمان : سعد - فوقف على باب النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن ، فقام
على الباب - قال عثمان : مستقبل الباب - فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :
"هكذا عنك - أو : هكذا - فإنما الاستئذان من النظر" (5).
وقد رواه أبو داود الطيالسي ، عن سفيان الثوري ، عن الأعمش عن طلحة بن مُصَرّف ،
عن رجل ، عن سعد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم. رواه أبو داود من حديثه (6).
وفي الصحيحين ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لو أن امرأ اطلع
عليك بغير إذن فَخَذَفته بحصاة ، ففقأت عينه ، ما كان عليك من جناح" (7).
وأخرج الجماعة من حديث شعبة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر قال : أتيتُ النبي صلى
الله عليه وسلم في دَين كان على أبي ، فدققت الباب ، فقال : "من ذا" ؟
قلت : أنا. قال : "أنا ، أنا" كأنه كرهه (8).
وإنما كره ذلك لأن هذه اللفظة لا يُعرَف صاحبها حتى يُفصح باسمه أو كنيته التي هو
مشهور بها ، وإلا فكل أحد يُعبِّر عن نفسه بـ"أنا" ، فلا يحصل بها
المقصود من الاستئذان ، الذي هو الاستئناس المأمور به في الآية.
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس : الاستئناس : الاستئذان. وكذا قال غيرُ واحد.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بَشَّار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي
بِشْر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في هذه الآية : { لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا
غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا } (9)
__________
(1) سنن أبي داود برقم (5185) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10157) ، (50159) من
طريق عبد الله ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن عبد الرحمن بن
ثوبان : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سعد بن عبادة زائرا ، فذكر الحديث.
(2) في أ : "ليكون".
(3) في أ : "بشر".
(4) سنن أبي داود برقم (5186).
(5) سنن أبي داود برقم (5174).
(6) سنن أبي داود برقم (5175).
(7) صحيح البخاري برقم (6902) وصحيح مسلم برقم (2158).
(8) صحيح البخاري برقم (6250) وصحيح مسلم برقم (2155) وسنن أبي داود برقم (5187)
وسنن الترمذي برقم (2711) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10160) وسنن ابن ماجه
برقم (3709).
(9) في ف ، أ زيادة : "على أهلها".
(6/37)
قال : إنما
هي خطأ من الكاتب ، "حَتَّى تَسْتَأذنُوا وَتُسَلِّمُوا".
وهكذا رواه (1) هُشَيم ، عن أبي بشر - وهو جعفر بن إياس - به. وروى معاذ بن سليمان
، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، بمثله ، وزاد : وكان ابن عباس يقرأ :
"حَتَّى تَسْتَأذنُوا وَتُسَلِّمُوا" ، وكان يقرأ على قراءة أبي بن كعب
رضي الله عنه.
وهذا غريب جدًّا عن ابن عباس.
وقال هُشَيْم (2) أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم قال : في مصحف ابن مسعود : "حتى
تسلموا على أهلها وتستأذنوا". وهذا أيضًا رواية عن ابن عباس ، وهو اختيار ابن
جرير.
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا رَوْح ، حدثنا ابن جُرَيْج ، أخبرني عمرو بن أبي
سفيان : أن عمرو بن أبي صفوان أخبره ، أن كَلَدَةَ بن الحنبل أخبره ، أن صفوان بن
أمية بعثه في الفتح بِلبَأ وجَدَايَة وضَغَابيس ، والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى
الوادي. قال : فدخلتُ عليه ولم أسلم ولم أستأذن. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
"ارجع فقل : السلام عليكم ، أأدخل ؟" وذلك بعدما أسلم صفوان.
ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث ابن جريج ، به (3) وقال الترمذي : حسن
غريب ، لا نعرفه إلا من حديثه.
وقال أبو داود : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو الأحوَص ، عن منصور ، عن
رِبْعي قال : حدثنا (4) رجل من بني عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم ،
وهو في بيته ، فقال : أألج ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه : "اخرج
إلى هذا فعلِّمه الاستئذان ، فقل له : قل : السلام عليكم ، أأدخل ؟" فسمعه
الرجل فقال : السلام عليكم ، أأدخل ؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخل
(5).
وقال هُشَيْم : أخبرنا منصور ، عن ابن سِيرِين - وأخبرنا يونس بن عبيد ، عن عَمْرو
بن سعيد الثقفي - أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أألج - أو :
أنلج ؟ - فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأمة له ، يقال لها روضة : "قومي إلى
هذا فعلميه ، فإنه لا يحسن يستأذن ، فقولي له يقول : السلام عليكم ، أأدخل".
فسمعها الرجل ، فقالها ، فقال : "ادخل" (6).
وقال الترمذي : حدثنا الفضل بن الصباح ، حدثنا سعيد بن زكريا ، عن عَنْبَسَة بن
عبد الرحمن ، عن محمد بن زاذان ، عن محمد بن المنْكَدِر ، عن جابر بن عبد الله قال
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "السلام قبل الكلام" (7).
ثم قال الترمذي : عنبسة ضعيف الحديث ذاهب ، ومحمد بن زاذان مُنكَر الحديث.
وقال هُشَيْم : قال مغيرة : قال مجاهد : جاء ابن عمر من حاجة ، وقد آذاه الرمضاء ،
فأتى فُسْطَاط امرأة من قريش ، فقال : السلام عليكم ، أأدخل ؟ قالت : ادخل بسلام.
فأعاد ، فأعادت ،
__________
(1) في أ : "روى".
(2) في أ : "سفيان".
(3) المسند (3/414).
(4) في أ : "جاء".
(5) سنن أبي داود برقم (5177).
(6) رواه الطبري في تفسيره (18/87).
(7) سنن الترمذي برقم (2699).
(6/38)
وهو يُرَاوح
بين قدميه ، قال : قولي : ادخل. قالت : ادخل ، فدخل (1).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو نعيم الأحول ، حدثنا خالد
بن إياس ، حدثتني جدتي أم إياس قالت : كنت في أربع نسوة نستأذن [على عائشة] (2)
فقلت : ندخل ؟ قالت : لا قلن (3) لصاحبتكن : تستأذن. فقالت : السلام عليكم ، أندخل
؟ قالت : ادخلوا ، ثم قالت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا
بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا
} [الآية] (4).
وقال هُشَيْم : أخبرنا أشعث بن سَوَّار ، عن كُرْدُوس ، عن ابن مسعود قال : عليكم
أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم. قال أشعث ، عن عدي بن ثابت : إن امرأة من
الأنصار قالت : يا رسول الله ، إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني
أحد عليها ، والد ولا ولد ، وإنه لا يزال يدخل عليَّ رجل من أهلي ، وأنا على تلك
الحال ؟ قال : فنزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا
غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } (5).
وقال ابن جريج : سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس ، رضي الله عنه ، قال :
ثلاث آيات جَحَدها الناس : قال الله : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ } [الحجرات : 13] ، قال : ويقولون : إن أكرمهم عند الله أعظمهم بيتًا.
قال : والإذن كله قد جحده الناس. قال : قلت : أستأذن على أخواتي أيتام في حجري ،
معي في بيت واحد ؟ قال : نعم. فرددت ليرخِّص (6) لي ، فأبى. قال : تحب أن تراها
عريانة ؟ قلت : لا. قال : فاستأذن. قال : فراجعته أيضًا ، فقال : أتحب أن تطيع
الله ؟ قلت : نعم. قال : فاستأذن.
قال ابن جُرَيْج : وأخبرني ابن طاوس عن أبيه قال : ما من امرأة أكره إلي أن أرى
عريتها من ذات محرم. قال : وكان يشدد في ذلك.
وقال ابن جريج ، عن الزهري : سمعت هُزَيل بن شُرَحْبِيل الأوْدِيّ الأعمى ، أنه
سمع ابن مسعود يقول : عليكم الإذن على أمهاتكم.
وقال ابن جريج : قلت لعطاء : أيستأذن الرجل على امرأته ؟ قال : لا.
وهذا محمول على عدم الوجوب ، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به ،
لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها.
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا القاسم ، [قال] (7) حدثنا الحسين ، حدثنا محمد بن
حازم ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن يحيى بن الجزار ، عن ابن أخي زينب -
امرأة عبد الله بن مسعود - ، عن زينب ، رضي الله عنها ، قالت : كان عبد الله إذا
جاء من حاجة فانتهى إلى الباب ، تنحنح وبزق ؛ كراهية (8) أن يهجُم منا على أمر
يكرهه (9). إسناد صحيح.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنَان الواسطي ، حدثنا عبد الله بن نُمَيْر ،
حدثنا
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره (18/87).
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في هـ ، أ : "قلت" ، والمثبت من ف.
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) رواه الطبري في تفسيره (18/87).
(6) في أ : "علي لمن خضرني".
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) في ف : "كراهة".
(9) تفسير الطبري (18/88).
(6/39)
الأعمش ، عن
عمرو بن مُرَّة ، عن أبي هُبَيْرة (1) قال : كان عبد الله إذا دخل الدار استأنس -
تكلم ورفع صوته.
[و] (2) قال مجاهد : { حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا } قال : تنحنحوا - أو (3)
تَنَخَّموا.
وعن الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله ، أنه قال : إذا دخل الرجل بيته ، استحب له
أن يتنحنح ، أو يحرك نعليه.
ولهذا جاء في الصحيح ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه نَهَى أن يطرق الرجل
أهلَه طُروقًا - وفي رواية : ليلا يَتَخوَّنهم (4).
وفي الحديث الآخر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة نهارًا ، فأناخ
بظاهرها ، وقال : "انتظروا حتى تدخل عشاء - يعني : آخر النهار - حتى تمتشط
الشَّعثَة وتستحدّ المُغَيبة" (5).
وقال ابن أبي حاتم : حدَّثنا أبي ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد الرحمن
(6) بن سليمان ، عن واصل بن السائب ، حدَّثني أبو سَوْرة ابن أخي أبي أيوب ، عن
أبي أيوب قال : قلت : يا رسول الله ، هذا السلام ، فما الاستئناس ؟ قال :
"يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة ، ويتنحنح فَيؤذنُ أهل البيت".
هذا حديث غريب (7).
وقال قتادة في قوله : { حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا } قال : هو الاستئذان. [قال : وكان
يقال : الاستئذان] (8) ثلاث ، فمن لم يؤذن له فيهن ، فليرجع. أما الأولى : فليسمع
(9) الحي ، وأما الثانية : فليأخذوا حذرهم ، وأما الثالثة : فإن شاءوا أذنوا وإن
شاءوا رَدّوا. ولا تَقِفَنَّ على باب قوم ردوك عن بابهم ؛ فإن للناس حاجات ولهم
أشغال ، والله أولى بالعذر.
وقال مقاتل بن حيَّان في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا
بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا
} كان الرجل في الجاهلية إذا لقي صاحبه ، لا يسلم عليه ، ويقول : حُيِّيتَ صباحًا
وحييت مساء ، وكان ذلك تحية القوم بينهم. وكان أحدهم ينطلق إلى صاحبه فلا يستأذن
حتى يقتحم ، ويقول : "قد دخلتُ". فيشق ذلك على الرجل ، ولعله يكون مع
أهله ، فغَيَّر الله ذلك كله ، في ستر وعفة ، وجعله نقيًا نزهًا من الدنس والقذر
والدرَن ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ
بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا }.
__________
(1) في ف ، أ : "عبيدة".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في أ : "و".
(4) صحيح البخاري برقم (5243 ، 5244) وصحيح مسلم برقم (715) من حديث جابر ، رضي
الله عنه.
(5) رواه البخاري في صحيحه برقم (5247) من حديث جابر ، رضي الله عنه.
(6) في هـ : "عبد الرحيم".
(7) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (8/607) ومن طريقه ابن ماجه في السنن برقم (3707)
ورواه الطبراني في المعجم الكبير (4/178) ، حدثنا عبيد بن غنام ، عن أبي بكر بن
أبي شيبة ، به. قال البوصيري في الزوائد (3/171) : "هذا إسناد ضعيف".
(8) زيادة من ف ، أ.
(9) في ف ، أ : "فليستمع".
(6/40)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
وهذا الذي
قاله مقاتل حسن ؛ ولهذا قال : { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ } يعني : الاستئذان خير
لكم ، بمعنى : هو خير للطرفين (1) : للمستأذن ولأهل البيت ، {. لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ }.
وقوله : { فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ
لَكُمْ } ، وذلك لما فيه من التصرف في ملك الغير بغير إذنه ، فإن شاء أذن ، وإن
شاء لم يأذن { وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ }
أي : إذا رَدُّوكم من الباب قبل الإذن أو بعده { فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ
} أي : رجوعكم (2) أزكى لكم وأطهر { وَاللهُ بِمَا تَعْملُونَ عَلِيم }.
وقال قتادة : قال بعض المهاجرين : لقد طلبتُ عمري كلَّه هذه الآية فما أدركتها :
أن أستأذنَ على بعض إخواني ، فيقول لي : "ارجع" ، فأرجع وأنا مغتبط (3)
[لقوله] (4) ، { وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }.
وقال سعيد بن جبير : { وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا } أي : لا تقفوا
على أبواب الناس.
وقوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ
فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } هذه
الآية الكريمة أخصُّ من التي (5) قبلها ، وذلك أنها تقتضي جواز الدخول إلى البيوت
التي ليس فيها أحد ، إذا كان له (6) فيها متاع ، بغير إذن ، كالبيت المعد للضيف ،
إذا أذن له فيه أول مرة ، كفى.
قال ابن جريج : قال ابن عباس : { لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ } ،
ثم نسخ واستثني فقال { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ
مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ } : وكذا روي عن عكرمة ، والحسن البصري.
وقال آخرون : هي بيوت التجار ، كالخانات (7) ومنازل الأسفار ، وبيوت مكة ، وغير
ذلك. واختار ذلك ابن جرير ، وحكاه ، عن جماعة. والأول أظهر ، والله أعلم.
وقال مالك عن زيد بن أسلم : هي بيوت الشَّعر.
{ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ
ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) }.
هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم ، فلا
ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه (8) ، وأن يغضوا (9) أبصارهم عن المحارم ،
فإن اتفق أن وقع البصر على مُحرَّم من غير قصد ، فليصرف بصره عنه سريعًا ، كما
رواه مسلم في صحيحه ، من حديث يونس بن عُبَيد ، عن عمرو بن سعيد ، عن أبي زُرْعَة
بن عمرو بن جرير ، عن جده جرير بن عبد الله البجلي ، رضي الله عنه ، قال : سألت
النبي صلى الله عليه وسلم ، عن نظرة الفجأة ، فأمرني أن أصرفَ بَصَري.
وكذا رواه الإمام أحمد ، عن هُشَيْم ، عن يونس بن عبيد ، به. ورواه أبو داود
والترمذي
__________
(1) في ف ، أ : "من الطرفين".
(2) في أ : "رجعوكم".
(3) في أ : "متغيط".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في أ : "الذي".
(6) في ف ، أ : "لكم".
(7) في أ : "في الخانات".
(8) في ف : "إليهم".
(9) في ف : "يغمصوا".
(6/41)
والنسائي ،
من حديثه أيضًا (1). وقال الترمذي : حسن صحيح. وفي رواية لبعضهم : فقال :
"أطرقْ بصرك" ، يعني : انظر إلى الأرض. والصرف أعم ؛ فإنه قد يكون إلى
الأرض ، وإلى (2) جهة أخرى ، والله أعلم.
وقال أبو داود : حدثنا إسماعيل بن موسى الفَزَاري ، حدثنا شَريك ، عن أبي ربيعة
الإيادي ، عن عبد الله بن بُرَيْدة ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم لعلي : "يا علي ، لا تتبع النظرة النظرةَ ، فإن لك الأولى وليس لك
الآخرة"
ورواه الترمذي من حديث شريك (3) ، وقال : غريب ، لا نعرفه إلا من حديثه.
وفي الصحيح عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إياكم
والجلوس على الطرقات". قالوا : يا رسول الله ، لا بد لنا من مجالسنا ، نتحدث
فيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أبيتم ، فأعطوا الطريق
حقَّه". قالوا : وما حقّ الطريق يا رسول الله ؟ قال : "غَضُّ البصر ،
وكَفُّ الأذى ، وردّ السلام ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر" (4).
وقال أبو القاسم البغوي : حدثنا طالوت بن عباد ، حدثنا فضل (5) بن جبير : سمعت أبا
أمامة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "اكفلوا لي بِستّ
أكفل لكم بالجنة : إذا حدَّث أحدكم فلا يكذب ، وإذا اؤتمن فلا يَخُن ، وإذا وَعَد
فلا يخلف. وغُضُّوا أبصاركم ، وكُفُّوا أيديكم ، واحفظوا فروجكم" (6).
وفي صحيح البخاري : "من يكفل (7) لي ما بين لَحْيَيه وما بين رجليه ، أكفل له
الجنة" (8).
وقال عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمَر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة قال : كل
ما عُصي الله به ، فهو كبيرة. وقد ذكر الطَّرْفين فقال : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ }.
ولما كان النظر داعية إلى فساد القلب ، كما قال بعض السلف : "النظر سهام سم
إلى القلب" ؛ ولذلك أمر الله بحفظ الفروج كما أمر بحفظ الأبصار التي هي بواعث
إلى ذلك ، فقال : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ
وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ }. وحفظُ الفَرج تارةً يكون بمنعه من الزنى ، كما قال {
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } [المعارج : 29 ، 30]
وتارة يكون بحفظه من النظر إليه ، كما جاء في الحديث في مسند أحمد (9) والسنن :
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2159) والمسند (4/361) وسنن أبي داود برقم (2148) وسنن
الترمذي برقم (2776) والنسائي في السنن الكبرى برقم (9233).
(2) في أ : "أو إلى".
(3) سنن أبي داود برقم (2149) وسنن الترمذي برقم (2777).
(4) صحيح البخاري برقم (2465) وصحيح مسلم برقم (2121) من حديث أبي سعيد الخدري ،
رضي الله عنه.
(5) في هـ : "فضال".
(6) رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (7/392) من طريق أبي القاسم البغوي ، به.
ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/314) وابن حبان في المجروحين (2/204) من طريق
فضال بن جبير. ويقال : ابن زبير ، به. وقال ابن حبان : "فضال بن جبير لا يحل
الاحتجاج به".
(7) في أ : "كفل".
(8) صحيح البخاري برقم (6474) من حديث سهل بن سعد ، رضي الله عنه.
(9) في أ : "المسند".
(6/42)
احفظ عورتك
، إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك" (1).
{ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } أي : أطهر لقلوبهم وأنقى لدينهم ، كما قيل : "مَنْ
حفظ بصره ، أورثه الله نورًا في بصيرته". ويروى : "في قلبه".
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عتاب ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، أخبرنا يحيى بن
أيوب ، عن عُبَيْد الله بن زَحْر ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ،
رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما من مسلم ينظر إلى
محاسن امرأة [أوّل مَرّة] (2) ثم يَغُضّ بصره ، إلا أخلف الله له عبادة يجد
حلاوتها" (3).
ورُوي هذا مرفوعًا عن ابن عمر ، وحذيفة ، وعائشة ، رضي الله عنهم (4) ولكن في
إسنادها ضعف ، إلا أنها في الترغيب ، ومثله يتسامح فيه.
وفي الطبراني من طريق عبيد الله بن زَحْر ، ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي
أمامة مرفوعا : "لَتغضُنَّ أبصاركم ، ولتحفظن فروجكم ، ولتقيمُنّ وجوهكم - أو
: لتكسفن وجوهكم" (5).
وقال الطبراني : حدثنا أحمد بن زهير التُّسْتُري قال : قرأنا على محمد بن حفص بن
عمر الضرير المقرئ ، حدثنا يحيى بن أبي بُكَيْر ، حدثنا هُرَيْم بن سفيان ، عن عبد
الرحمن بن إسحاق ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود ،
رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن النظر سهم من
سهام إبليس مسموم ، من تركه مخافتي ، أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه" (6).
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } ، كما قال تعالى : {
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } [غافر : 19].
وفي الصحيح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "كُتِبَ على ابن آدم حَظّه من الزنى ، أدرَكَ ذلك لا محالة. فَزنى
العينين : النظر. وزنى اللسان : النطقُ. وزنى الأذنين : الاستماع. وزنى اليدين :
البطش. وزنى الرجلين : الخطى. والنفس تمَنّى وتشتهي ، والفرج يُصَدِّق ذلك أو
يُكذبه".
__________
(1) المسند (5/ 3 ، 4) وسنن أبي داود برقم (4017) وسنن ابن ماجه برقم (1920) من
حديث معاوية بن حيدة ، رضي الله عنه.
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) المسند (5/264). وفي إسناده عبيد الله بن زحر ، قال ابن حبان : "يروي
الموضوعات عن الأثبات وإذا روى عن علي بن يزيد أتى بالطامات ، وإذا اجتمع في إسناد
خبر عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد والقاسم أبو عبد الرحمن ، لم يكن ذلك الخبر إلا
مما عملته أيديهم".
(4) أما حديث حذيفة ، فرواه الحاكم في المستدرك (4/314) من طريق إسحاق القرشي ، عن
هشيم ، عن عبد الرحمن ، عن إسحاق ، عن محارب ، عن صلة بن زفر ، عن حذيفة ، رضي
الله عنه ، وصححه الحاكم ، وتعقبه الذهبي. قلت : إسحاق واه وعبد الرحمن هو الواسطي
ضعفوه. وأما حديث ابن عمر ، فرواه أبو نعيم في الحلية (6/101) من طريق أبي اليمان
، عن أبي المهدي ، عن أبي الزاهرية ، عن كثير بن مرة ، عن ابن عمر ، رضي الله
عنهما ، وإسناده ضعيف جدا.
(5) المعجم الكبير (8/246) وعبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد والقاسم ضعفاء.
(6) المعجم الكبير (10/214) وقال الهيثمي في المجمع (8/63) : "وفيه عبد
الرحمن بن إسحاق الواسطي وهو ضعيف".
(6/43)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
رواه
البخاري تعليقًا ، ومسلم مسندًا من وجه آخر (1) بنحو ما تقدم.
وقد قال كثير من السلف : إنهم كانوا ينهَون أن يحدَّ الرجل بَصَره (2) إلى الأمرد.
وقد شَدَّد كثير من أئمة الصوفية في ذلك ، وحَرَّمه طائفة من أهل العلم ، لما فيه
من الافتتان ، وشَدّد آخرون في ذلك كثيرًا جدًا.
وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا أبو سعيد المدني (3) ، حدثنا عمر بن سهل المازني ،
حدثني عمر بن محمد بن صُهْبَان ، حدثني صفوان بن سليم ، عن أبي هريرة ، رضي الله
عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كل عين باكية (4) يوم
القيامة ، إلا عينًا غَضّت عن محارم الله ، وعينًا سهِرت في سبيل الله ، وعينًا
يخرج منها مثل رأس الذباب ، من خشية الله ، عز وجل" (5).
{ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ
فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ
بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا
لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ
أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي
إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ
الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ
بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى
اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) }
هذا (6) أمْرٌ من الله تعالى للنساء المؤمنات ، وغَيْرَة (7) منه لأزواجهنّ ،
عباده المؤمنين ، وتمييز لهن عن صفة نساء الجاهلية وفعال المشركات. وكان سبب نزول
هذه الآية ما ذكره مقاتل بن حيَّان قال : بلغنا - والله أعلم - أن جابر بن عبد
الله الأنصاري حَدَّث : أن "أسماء بنت مُرْشدَة" كانت في محل لها في بني
حارثة ، فجعل النساء يدخلن عليها غير مُتَأزّرات فيبدو ما في أرجلهن من الخلاخل ،
وتبدو صدورهن وذوائبهن ، فقالت أسماء : ما أقبح هذا. فأنزل الله : { وَقُلْ
لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ }
الآية.
فقوله تعالى : { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } أي :
عما حَرَّم الله عليهن من النظر إلى غير أزواجهن. ولهذا ذهب [كثير من العلماء] (8)
إلى أنه : لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الأجانب بشهوة ولا بغير شهوة أصلا. واحتج
كثير منهم بما رواه أبو داود والترمذي ، من حديث الزهري ، عن نبهان - مولى أم سلمة
- أنه حدثه : أن أم سلمة حَدَّثته : أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
وميمونة ، قالت : فبينما نحن عنده أقبل ابنُ أمّ مكتوم ، فدخل عليه ، وذلك بعدما
أُمِرْنا بالحجاب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "احتجبا منه"
فقلت : يا رسول الله ، أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا ؟
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6343) وصحيح مسلم برقم (2657).
(2) في أ : "نظره".
(3) في أ : "المقبري".
(4) في أ : "زانية".
(5) ورواه أبو نعيم في الحلية (3/163) من طريق داود بن عطاء ، عن عمر بن صهبان ،
عن صفوان ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، به. فلا أدري أسقط أبو سلمة من إسناد ابن
أبي الدنيا أم لا ؟ وعمر بن صهبان منكر الحديث اتفق الأئمة على تضعيفه.
(6) في ف ، أ : "وهذا".
(7) في أ : "وعزة".
(8) زيادة من ف ، أ.
(6/44)
فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "أو عمياوان (1) أنتما ؟ ألستما تبصرانه"
(2).
ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.
وذهب آخرون من العلماء إلى جواز نظرهن إلى الأجانب بغير شهوة ، كما ثبت في الصحيح
: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل ينظر إلى الحبشة وهم يلعبون بحرابهم يوم
العيد في المسجد ، وعائشة أم المؤمنين تنظر إليهم من ورائه ، وهو يسترها منهم حتى
مَلَّت ورجعت (3).
وقوله : { وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } قال سعيد بن جُبَيْر : ، عن الفواحش. وقال
قتادة وسفيان : عما لا يحل لهن. وقال مقاتل : ، عن الزنى. وقال أبو العالية : كل
آية نزلت في القرآن يذكر فيها حفظ الفروج ، فهو من الزنى ، إلا هذه الآية : {
وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } ألا يراها أحد.
وقال (4) : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } أي : لا
يُظهرْنَ شيئا من الزينة للأجانب ، إلا ما لا يمكن إخفاؤه.
وقال ابن مسعود : كالرداء والثياب. يعني : على ما كان يتعاناه نساء العرب ، من
المِقْنعة التي تُجَلِّل ثيابها ، وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج عليها فيه ؛
لأن هذا لا يمكن إخفاؤه. [ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها ، وما لا يمكن
إخفاؤه. وقال] (5) بقول ابن مسعود : الحسن ، وابن سيرين ، وأبو الجوزاء ، وإبراهيم
النَّخَعي ، وغيرهم.
وقال الأعمش ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ
إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } قال : وجهها وكفيها والخاتم. ورُوي عن ابن عمر ، وعطاء
، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وأبي الشعثاء ، والضحاك ، وإبراهيم النَّخَعي ، وغيرهم
- نحوُ ذلك. وهذا يحتمل أن يكون تفسيرًا للزينة التي نهين عن إبدائها ، كما قال
أبو إسحاق السَّبيعي ، عن أبي الأحْوَص ، عن عبد الله قال في قوله : { وَلا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } : الزينة القُرْط والدُّمْلُج والخلخال والقلادة. وفي
رواية عنه بهذا الإسناد قال : الزينة زينتان : فزينة لا يراها إلا الزوج : الخاتم
والسوار ، [وزينة يراها الأجانب ، وهي] (6) الظاهر من الثياب.
وقال الزهري : [لا يبدو] (7) لهؤلاء الذين سَمَّى الله ممن لا يحل له إلا الأسورة
والأخمرة والأقرطة من غير حسر ، وأما عامة الناس فلا يبدو منها إلا الخواتم.
وقال مالك ، عن الزهري : { إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } الخاتم والخلخال.
ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفين ، وهذا هو
المشهور عند الجمهور ، ويستأنس له بالحديث الذي رواه أبو داود في سننه :
حدثنا يعقوب بن كعب الإنطاكي ومُؤَمَّل بن الفضل الحَرَّاني قالا حدثنا الوليد ،
عن سعيد بن بَشِير ، عن قتادة ، عن خالد بن دُرَيك ، عن عائشة ، رضي الله عنها ؛
أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق ، فأعرض
عنها وقال : "يا أسماء ، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم
__________
(1) في أ : "أفعمياوان".
(2) سنن أبي داود برقم (4112) وسنن الترمذي برقم (2778).
(3) صحيح البخاري برقم (454).
(4) في أ : "وقوله".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) زيادة من ف ، أ.
(6/45)
يصلح أن
يُرَى منها إلا هذا" وأشار إلى وجهه وكفيه (1).
لكن قال أبو داود وأبو حاتم الرازي : هذا مرسل ؛ خالد بن دُرَيك لم يسمع من عائشة
، فالله أعلم.
وقوله : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } يعني : المقانع يعمل
لها صَنفات ضاربات على صدور النساء ، لتواري ما تحتها من صدرها وترائبها ؛ ليخالفن
شعارَ نساء أهل الجاهلية ، فإنهن لم يكن يفعلن ذلك ، بل كانت المرأة تمر بين
الرجال مسفحة بصدرها ، لا يواريه شيء ، وربما أظهرت (2) عنقها وذوائب شعرها وأقرطة
آذانها. فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن ، كما قال الله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ
يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا
يُؤْذَيْنَ } [ الأحزاب : 59]. وقال في هذه الآية الكريمة : { وَلْيَضْرِبْنَ
بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } والخُمُر : جمع خِمار ، وهو ما يُخَمر به ، أي
: يغطى به الرأس ، وهي التي تسميها الناس المقانع.
قال سعيد بن جبير : { وَلْيَضْرِبْن } : وليشددن { بِخُمُرِهِنَّ عَلَى
جُيُوبِهِنَّ } يعني : على النحر والصدر ، فلا يرى منه شيء.
وقال البخاري : وقال أحمد بن شَبِيب (3) : حدَّثنا أبي ، عن يونس ، عن (4) ابن
شِهَاب ، عن عُرْوَةَ ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : يرحم الله نساء
المهاجرات الأول ، لما أنزل الله : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى
جُيُوبِهِنَّ } شقَقْنَ مُرُوطهن فاختمرن به (5) (6).
وقال أيضا : حدثنا أبو نُعَيم ، حدثنا إبراهيم بن نافع ، عن الحسن بن مسلم ، عن
صَفيّة بنت شيبة ؛ أن عائشة ، رضي الله عنها ، كانت تقول (7) : لما نزلت هذه الآية
: { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } : أخذن أزرهن فَشَقَقنها
من قبل الحواشي ، فاختمرن بها (8).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، حدثني الزنجيّ
بن خالد ، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم ، عن صفية بنت شيبة قالت : بينا نحن
عند عائشة ، قالت : فذكرنا نساء قريش وفضلهن. فقالت عائشة ، رضي الله عنها : إن
لنساء قريش لفضلا وإني - والله - وما رأيت أفضلَ من نساء الأنصار أشدّ تصديقًا
بكتاب الله ، ولا إيمانًا بالتنزيل. لقد أنزلت سورة النور : { وَلْيَضْرِبْنَ
بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } ، انقلب إليهن رجالهن يتلون عليهن ما أنزل
الله إليهم فيها ، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته ، وعلى كل ذي قرابة (9) ،
فما منهن امرأة إلا قامت إلى مِرْطها المُرَحَّل فاعتجرت به ، تصديقًا وإيمانًا
بما أنزل الله من كتابه ، فأصبحْنَ وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح
معتجرات ، كأن على رؤوسهن الغربان.
__________
(1) سنن أبي داود برقم (4104).
(2) في ف : "ظهرت".
(3) في هـ : "حدثنا أحمد بن شبيب" وفي ف ، أ : "حدثنا أحمد بن شبيب
قال" والمثبت من البخاري.
(4) في ف ، أ : "قال".
(5) في ف : "بها" وفي أ : "بهن".
(6) صحيح البخاري برقم (4758).
(7) في هـ ، ف : "رضي الله عنها قالت : لما" ، والمثبت من البخاري.
(8) صحيح البخاري برقم (4759).
(9) في ف : "قرابته".
(6/46)
ورواه أبو
داود من غير وجه ، عن صفية بنت شيبة ، به (1).
وقال ابن جرير : حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أن قُرَّةَ بن عبد الرحمن أخبره ،
عن ابن شهاب ، عن عُرْوَة ، عن عائشة ؛ أنها قالت : يرحم الله النساء المهاجرات
الأوَل ، لما أنزل الله : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ }
شَقّقن أكثَف مروطهن فاختمرن به. ورواه أبو داود من حديث ابن وهب ، به (2).
وقوله : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ } يعني : أزواجهن ،
{ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ
أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ
بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ } كل هؤلاء محارم المرأة يجوز لها أن تظهر عليهم بزينتها ،
ولكن من غير اقتصاد وتبهرج (3).
وقال ابن المنذر : حدثنا موسى - يعني : ابن هارون - حدثنا أبو بكر - يعني ابن أبي
شيبة - حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا داود ، عن الشعبي وعِكْرمَة في
هذه الآية : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ
آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ } - حتى فرغ منها قال : لم يذكر العم ولا
الخال ؛ لأنهما ينعَتان (4) لأبنائهما ، ولا تضع خمارها عند العم والخال فأما
الزوج فإنما ذلك كله من أجله ، فتتصنع له ما لا يكون بحضرة غيره.
وقوله : { أَوْ نِسَائِهِنَّ } يعني : تُظهر زينتها أيضًا للنساء المسلمات دون
نساء أهل الذمة ؛ لئلا تصفهن لرجالهن ، وذلك - وإن كان محذورًا في جميع النساء -
إلا أنه في نساء أهل الذمة أشدّ ، فإنهن لا يمنعهن من ذلك مانع ، وأما المسلمة
فإنها تعلم أن ذلك حرام فتنزجر عنه. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"لا تباشر المرأةَ المرأةَ ، تنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها". أخرجاه في
الصحيحين ، عن ابن مسعود (5).
وقال سعيد بن منصور في سننه : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن هشام بن الغاز ، ، عن
عبادة بن نُسَيّ ، عن أبيه ، عن الحارث بن قيس قال : كتب أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب إلى أبي عبيدة : أما بعد ، فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن
الحمامات مع نساء أهل الشرك ، فانْهَ مَنْ قِبَلَك فلا (6) يحل لامرأة تؤمن بالله
واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها (7).
وقال مجاهد في قوله : { أَوْ نِسَائِهِنَّ } قال : نساؤهن المسلمات ، ليس المشركات
من نسائهن ، وليس للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي المشركة.
وروى عَبد في تفسيره (8) عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : { أَوْ
نِسَائِهِنَّ } ، قال : هن المسلمات لا تبديه ليهودية ولا نصرانية ، وهو النَّحْر
والقُرْط والوٍشَاح ، وما لا يحل أن يراه إلا محرم.
__________
(1) سنن أبي داود برقم (4100 ، 4101).
(2) تفسير الطبري (18/94) وسنن أبي داود برقم (4102).
(3) في أ : "بهرج".
(4) في أ : "يتبعان".
(5) صحيح البخاري برقم (5241).
(6) في ف ، أ : "فإنه لا".
(7) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (7/95) من طريق سعيد بن منصور ، به.
(8) في ف : "تفسير".
(6/47)
وروى سعيد :
حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد قال : لا تضع المسلمة خمارها عند مشركة ؛ لأن الله
تعالى يقول : { أَوْ نِسَائِهِنَّ } فليست (1) من نسائهن.
وعن مكحول وعبادة بن نُسَيّ : أنهما كرها أن تقبل النصرانيةُ واليهودية والمجوسية
المسلمة.
فأما ما رواه ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو عمير ، حدثنا
ضَمْرَة قال : قال ابن عطاء ، عن أبيه : ولما قدم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
بيت المقدس ، كان قَوَابل نسائهم اليهوديات والنصرانيات فهذا - إن صح - مَحمولٌ
على حال الضرورة ، أو أن ذلك من باب الامتهان ، ثم إنه ليس فيه كشف عورة ولا بد ،
والله أعلم.
وقوله : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } قال ابن جُرَيج (2) : يعني : من
نساء المشركين ، فيجوز لها أن تظهر [زينتها لها وإن كانت مشركة ؛ لأنها أمتها.
وإليه ذهب سعيد بن المسيَّب. وقال الأكثرون : بل يجوز لها أن تظهر] (3) على رقيقها
من الرجال والنساء ، واستدلوا بالحديث الذي رواه أبو داود :
حدثنا محمد بن عيسى ، حدثنا أبو جميع سالم بن دينار ، عن ثابت ، عن أنس ، أن النبي
(4) صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها. قال : وعلى فاطمة ثوب إذا
قَنَّعت به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها ، فلما رأى
النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال : "إنه ليس عليك بأس ، إنما هو أبوك
وغلامك" (5).
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه [في] (6) ترجمة حُدَيْج الخَصِيّ - مولى
معاوية - أن عبد الله بن مَسْعَدَة الفزاري كان أسود شديد الأدمة ، وأنه قد كان
النبي صلى الله عليه وسلم وهبه لابنته فاطمة ، فربته ثم أعتقته ، ثم قد كان بعد
ذلك كله مع معاوية أيام صفين ، وكان من أشد الناس على عليّ بن أبي طالب ، رضي الله
عنه (7).
وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان بن عُيَيْنَة ، عن الزهري ، عن نَبْهَان ، عن أم
سلمة ، ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا كان لإحداكن
مُكَاتَب ، وكان له ما يؤدي ، فلتحتجب منه".
ورواه أبو داود ، عن مُسَدَّد ، عن سفيان ، به (8).
وقوله : { أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ } يعني :
كالأجراء والأتباع الذين ليسوا بأكفاء ، وهم مع ذلك في عقولهم وَله وخَوَث (9) ،
ولا همَّ لهم إلى النساء ولا يشتهونهن.
قال ابن عباس : هو المغفل الذي لا شهوة له.
وقال مجاهد : هو الأبْلَه.
وقال عكرمة : هو المخَنَّث الذي لا يقوم زُبُّه. وكذلك قال غير واحد من السلف.
وفي الصحيح من حديث الزهري ، عن عُرْوَةَ ، عن عائشة ؛ أن مخنثًا كان يدخل على أهل
__________
(1) في ف : "فليس" ، وفي أ : "فلسن".
(2) في أ : "جرير".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في ف : "نبي الله".
(5) سنن أبي داود برقم (4106).
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) تاريخ دمشق (4/278 "المخطوط").
(8) المسند (6/289) وسنن أبي داود برقم (3928).
(9) في ف ، أ : "وحوب".
(6/48)
رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يعدّونه من غير أولي الإربة ، فدخل النبيّ صلى الله
عليه وسلم وهو ينَعت امرأة : يقول إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع ، وإذا أدبرت أدبرت
بثمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا ، لا
يدخلَنّ عليكُنَ" فأخرجه ، فكان بالبيداء يدخل يوم كل جمعة يستطعم (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا هشام بن عُرْوَةَ ، عن أبيه ، عن
زينب بنت أبي سلمة ، عن أم سلمة قالت : دخل عليها [رسول الله صلى الله عليه وسلم]
(2) وعندها مخنث ، وعندها [أخوها] (3) عبد الله بن أبي أمية [والمخنث يقول لعبد
الله : يا عبد الله بن أبي أمية] (4) إن فتح الله عليكم الطائف غدًا ، فعليك بابنة
غيلان ، فإنها تقبل بأربع وتدبر (5) بثمان. قال : فسمعه رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال لأم سلمة : "لا يدخلن هذا عليك".
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث هشام بن عروة ، به (6).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عروة بن
الزبير ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى
الله عليه وسلم مخنث ، وكانوا يَعُدّونه من غير أولي الإربة ، فدخل النبي صلى الله
عليه وسلم يوما وهو عند بعض نسائه ، وهو ينعت امرأة. فقال : إنها إذا أقبلت أقبلت
بأربع ، وإذا أدبرت أدبرت بثمان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "ألا أرى
هذا يعلم ما هاهنا ؟ لا يدخلَنَّ عليكم هذا" فحجبوه.
ورواه مسلم ، وأبو داود ، والنسائي من طريق عبد الرزاق ، به (7).
وقوله : { أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ }
يعني : لصغرهم لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهنّ من كلامهن (8) الرخيم ، وتعطفهن
في المشية وحركاتهن ، فإذا كان الطفل صغيرًا لا يفهم ذلك ، فلا بأس بدخوله على
النساء.فأما إن كان مراهقا أو قريبا منه ، بحيث يعرف ذلك ويدريه ، ويفرق بين
الشوهاء والحسناء ، فلا يمكن من الدخول على النساء. وقد ثبت في الصحيحين ، عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إياكم والدخول على النساء". قالوا :
يا رسول الله ، أفرأيت الحَمْو ؟ قال : "الحَمْو الموت".
وقوله : { وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ
زِينَتِهِنَّ } كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت (9) تمشي في الطريق وفي رجلها
خلخال صامت - لا يسمع صوته - ضربت برجلها الأرض ، فيعلم الرجال طنينه ، فنهى الله
المؤمنات عن مثل ذلك. وكذلك إذا كان شيء من زينتها مستورًا ، فتحركت بحركة لتظهر
(10) ما هو خفي ، دخل في هذا النهي ؛ لقوله تعالى : { وَلا يَضْرِبْنَ
بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } : ومن ذلك أيضا
أنها تنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها ليَشْتَمَّ (11) الرجال طيبها ،
فقد قال أبو عيسى الترمذي :
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2181) وزيادة : "فأخرجه ، فكان بالبيداء يدخل كل يوم
جمعة.... الحديث" أخرجها أبو داود في السنن برقم (4109) من طريق الزهري ، به
، وليست في صحيح مسلم.
(2) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(3) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(4) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(5) في ف ، أ : "وتذهب".
(6) المسند (6/290) وصحيح البخاري برقم (5887) وصحيح مسلم برقم (2180).
(7) المسند (6/152) وصحيح مسلم برقم (2181) وسنن أبي داود برقم (4108) والنسائي في
السنن الكبرى (9247).
(8) في ف : "كلامهم".
(9) في ف : "كانت المرأة إذا كانت في الجاهلية".
(10) في ف : "ليظهر".
(11) في أ : "ليشم".
(6/49)
حدثنا محمد
بن بشار ، حدثنا يحيى بن سعيد القَّطَّان ، عن ثابت بن عُمَارة الحنفي ، عن
غُنَيْم بن قيس ، عن أبي موسى رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"كل عين زانية ، والمرأة إذا استعطرت فمرَّت بالمجلس فهي كذا وكذا" يعني
زانية (1).
قال : وفي الباب ، عن أبي هريرة ، وهذا حسن صحيح.
رواه أبو داود والنسائي ، من حديث ثابت بن عمارة ، (2) به.
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا سفيان ، عن عاصم بن (3) عبيد الله ،
عن عبيد مولى أبي رُهْم ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : لقيتْه امرأة وجد
منها ريح الطيب ، ولذيلها إعصار فقال : يا أمة الجبار ، جئت من المسجد ؟ قالت :
نعم. قال لها : [وله] (4) تَطَيَّبتِ ؟ قالت : نعم. قال : إني سمعت حبي أبا القاسم
(5) صلى الله عليه وسلم يقول : "لا يقبل الله صلاة امرأة تَطَيبت لهذا المسجد
، حتى ترجع فتغتسل غُسلها من الجنابة".
ورواه ابن ماجه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن سفيان - هو ابن عيينة - (6) به.
وروى الترمذي أيضًا من حديث موسى بن عُبَيدة ، عن أيوب بن خالد ، عن ميمونة بنت
سعد ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الرافلة في الزينة في غير
أهلها ، كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها" (7).
ومن ذلك أيضا أنهن يُنهَين عن المشي في وسط الطريق ؛ لما فيه من التبرج. قال أبو
داود :
حدثنا القَعْنَبِيّ ، حدثنا عبد العزيز - يعني : ابن محمد - عن (8) أبي اليمان ،
عن شداد بن أبي عمرو بن حماس ، عن أبيه ، عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري ، عن أبيه
: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد - وقد اختلط
الرجال مع النساء في الطريق - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء :
"استأخرن ، فإنه ليس لكن أن تَحْققْن (9) الطريق ، عليكن بحافات الطريق"
، فكانت المرأة تلصق بالجدار ، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار ، من لصوقها به (10).
وقوله : { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ } أي : افعلوا ما آمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الجليلة ،
واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة ، فإن الفَلاح كل
الفَلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله ، وترك ما نهيا (11) عنه ، والله تعالى هو
المستعان [وعليه التكلان] (12).
__________
(1) سنن الترمذي برقم (2786).
(2) سنن أبي داود برقم (4173) وسنن النسائي (8/153).
(3) في ف : "عن".
(4) زيادة من ف ، أ ، وأبي داود.
(5) في ف : "رسول الله".
(6) سنن أبي داود برقم (4174) وسنن ابن ماجه برقم (4002).
(7) سنن الترمذي برقم (1167) وقال الترمذي : "وهذا حديث لا نعرفه إلا من حديث
موسى بن عبيدة ، وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث من قبل حفظه وهو صدوق ، وقد رواه
بعضهم عن موسى بن عبيدة ولم يرفعه".
(8) في ف : "ابن".
(9) في ف : "تحتضن" ، وفي أ : "تختص".
(10) سنن أبي داود برقم (5272).
(11) في أ : "ما نهاه".
(12) زيادة من ف ، أ.
(6/50)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
{
وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ
إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى
يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا
وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ
عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلا
مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) }
اشتملت هذه الآيات الكريمات المبينة على جمل من الأحكام المحكمة ، والأوامر
المبرمة ، فقوله تعالى : { وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ
عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } : هذا أمر بالتزويج. وقد ذهب طائفة من العلماء إلى
وجوبه ، على كل من قَدَر عليه. واحتجوا بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم : "يا
معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج ،
ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء". أخرجاه من حديث ابن مسعود (1).
وجاء في السنن - من غير وجه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"تَزَوَّجوا ، توالدوا ، تناسلوا ، فإني مُبَاهٍ بكم الأمم يوم القيامة"
(2) وفي رواية : "حتى بالسقط".
الأيامى : جمع أيِّم ، ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها ، وللرجل الذي لا زوجة
له. وسواء كان قد تزوج ثم فارق ، أو لم يتزوج واحد منهما ، حكاه الجوهري عن أهل
اللغة ، يقال : رجل أيّم وامرأة أيّم أيضا.
وقوله تعالى : { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } ، قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : رغبهم الله في
التزويج ، وأمر به الأحرار والعبيد ، ووعدهم عليه الغنى ، فقال : { إِنْ يَكُونُوا
فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ }.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمود بن خالد الأزرق ، حدثنا عمر بن عبد
الواحد ، عن سعيد - يعني : ابن عبد العزيز - قال : بلغني أن أبا بكر الصديق ، رضي
الله عنه ، قال : أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ، ينجز [لكم] (3) ما وعدكم
من الغنى ، قال : { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ }.
وعن ابن مسعود : التمسوا الغنى في النكاح ، يقول الله تعالى : { إِنْ يَكُونُوا
فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } رواه (4) ابن جرير ، وذكر البغوي عن
عمر بنحوه.
وعن الليث ، عن محمد بن عَجْلان ، عن سعيد المقْبُرِي ، عن أبي هريرة ، رضي الله
عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثلاثة حَقٌّ على الله
عَوْنهم : الناكح يريد العفاف ، والمكاتَب يريد الأداء ، والغازي في سبيل
الله". رواه الإمام أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه (5)
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5066) وصحيح مسلم برقم (1400).
(2) سنن أبي داود برقم (2050) وسنن النسائي (6/65).
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في ف ، أ : "ورواه".
(5) المسند (2/251) وسنن الترمذي برقم (1655) وسنن النسائي (6/61) وسنن ابن ماجه
برقم (2518).
(6/51)
وقد زوَّج
رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي لم يجد إلا إزاره (1) ، ولم يقدر على
خاتم من حديد ، ومع هذا فزوّجه بتلك المرأة ، وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما يحفظه
من القرآن.
والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه [وإياها] (2) ما فيه كفاية له ولها.
فأما ما يورده كثير من الناس على أنه حديث : "تزوجوا فقراء يغنكم الله"
، فلا أصل له ، ولم أره بإسناد قوي ولا ضعيف إلى الآن ، وفي القرآن غنية عنه ،
وكذا (3) هذا الحديث الذي أوردناه. ولله الحمد.
وقوله تعالى : { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحًا حتى يغنيهم الله من فضله }. هذا
أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجًا [بالتعفف] (4) عن الحرام ، كما قال - عليه
الصلاة والسلام (5) - : "يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ،
فإنه أغَضُّ للبصر ، وأحْصَنُ للفرج. ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له
وِجَاء".
وهذه (6) الآية مطلقة ، والتي في سورة النساء أخص منها ، وهي قوله تعالى : {
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ
الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ
الْمُؤْمِنَاتِ } ، إلى أن قال : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ
وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } [النساء : 25] أي صبركم عن تزويج الإماء خير ؛
لأن الولد يجيء رقيقا ، { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }.
قال عكرمة في قوله : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا } قال :
هو الرجل يرى المرأة فكأنه يشتهي ، فإن كانت له امرأة فليذهب إليها وليقض (7)
حاجته منها ، وإن لم يكن له امرأة فلينظر في ملكوت السموات [والأرض] (8) حتى يغنيه
الله.
وقوله : { وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } هذا أمر من الله تعالى للسادة
إذا طلب منهم عبيدهم الكتابة أن يكاتبوا (9) ، بشرط أن يكون للعبد حيلة وكسب يؤدي
إلى سيِّده المال الذي شارطه على أدائه. وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الأمر
أمرُ إرشاد واستحباب ، لا أمر تحتم وإيجاب ، بل السيد مخير ، إذا طلب منه عبده
الكتابة إن شاء كاتبه ، وإن شاء لم يكاتبه.
وقال الثوري ، عن جابر ، عن الشعبي : إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه.
وقال ابن وهب ، عن إسماعيل بن عياش ، عن رجل ، عن عطاء بن أبي رَبَاح : إن يشأ
يكاتبه وإن لم يشأ لم يكاتبه (10) ، وكذا قال مُقاتل بن حَيَّان ، والحسن البصري.
وذهب آخرون إلى أنه يجب على السيد إذا طلب منه عبدُه ذلك ، أن يجيبه إلى ما طلب ؛
أخذًا بظاهر هذا الأمر :
قال البخاري : وقال روح ، عن ابن جُرَيْج قلت لعطاء : [أواجب عليّ إذا علمت له
مالا أن أكاتبه ؟ قال : ما أراه إلا واجبًا. وقال عمرو بن دينار : قلت لعطاء] (11)
، أتأثُرُه عن أحد ؟ قال : لا. ثم أخبرني أن موسى بن أنس أخبره ، أن سيرين سأل
أنسًا المكاتبةَ - وكان كثير المال ، فأبى.
__________
(1) في أ : "الإزارة".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ف : "وكذلك".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ف : "صلى الله عليه وسلم".
(6) في ف : "فهذه".
(7) في ف : "فليقض".
(8) زيادة من ف ، أ.
(9) في ف : "يكاتبوهم".
(10) في ف ، أ : "إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه".
(11) زيادة من ف ، أ ، والبخاري.
(6/52)
فانطلق إلى
عمر بن الخطاب فقال : كاتبه. فأبى ، فضربه بالدّرة ، ويتلو عمر ، رضي الله عنه : {
فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } (1) ، فكاتبه (2)
هكذا ذكره البخاري تعليقا (3). ورواه عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج قال : قلت
لعطاء : أواجب عليّ إذا علمت له مالا أن أكاتبه ؟ قال : ما أراه إلا واجبًا. وقال
عمرو (4) بن دينار ، قال : قلت لعطاء : أتأثره عن أحد ؟ قال : لا (5)
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بَشَّار ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا سعيد ، عن
قتادة ، عن أنس بن مالك : أن سيرين أراد أن يكاتبه ، فتلكأ عليه ، فقال له عمر :
لتكاتِبَنَّه. إسناد صحيح (6).
وقال سعيد بن منصور : حدثنا هُشَيْم بن جُوَيْبِر ، عن الضحاك قال : هي عَزْمة.
وهذا هو القول القديم من قولي الشافعي ، رحمه الله ، وذهب في الجديد إلى أنه لا
يجب ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (7) لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا بطيب من
نفسه" (8).
وقال ابن وهب : قال مالك : الأمر عندنا أنْ ليس على سيد العبد أن يكاتبه إذا سأله
ذلك ، ولم أسمع أحدًا من الأئمة أكره أحدًا على أن يكاتب عبده. قال مالك : وإنما
ذلك أمر من الله ، وإذن منه للناس ، وليس بواجب.
وكذا قال الثوري ، وأبو حنيفة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم. واختار ابن
جرير قول الوجوب لظاهر الآية.
وقوله : { إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } ، قال بعضهم : أمانة. وقال بعضهم :
صدقا. [وقال بعضهم : مالا] (9) وقال بعضهم : حيلة وكسبا.
وروى أبو داود في كتاب المراسيل ، عن يحيى بن أبي كثير قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } قال :
"إن علمتم فيهم حرفة ، ولا ترسلوهم كَلا (10) على الناس".
وقوله : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } اختلف المفسرون فيه ،
فقال قائلون : معناه اطرحوا لهم من الكتابة بعضها ، ثم قال بعضهم : مقدار الربع.
وقيل : الثلث. وقيل : النصف. وقيل : جزء من الكتابة من غير واحد.
وقال آخرون : بل المراد من قوله : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي
آتَاكُمْ } هو النصيب الذي فرض الله لهم من أموال الزكوات. وهذا قول الحسن ، وعبد
الرحمن بن زيد بن أسلم ، وأبيه ، ومقاتل بن حيان. واختاره ابن جرير.
__________
(1) في ف : "وكاتبوهم" وهو خطأ.
(2) صحيح البخاري (5/184) "فتح".
(3) في أ : "معلقا".
(4) في أ : "عمر".
(5) ورواه الطبري في تفسيره (18/98) من طريق عبد الرزاق به.
(6) تفسير الطبري (18/98).
(7) في ف : "صلى الله عليه وسلم".
(8) رواه أحمد في مسنده (5/72) من حديث عم أبي حرة الرقاشي ، وفي (5/425) من حديث
أبي حميد الساعدي ، وفي (3/423) من حديث عمرو بن يثربي.
(9) زيادة من ف ، أ.
(10) في ف ، أ : "كلايا".
(6/53)
وقال
إبراهيم النَّخَعِيّ في قوله : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ
} قال : حَثَّ الناس عليه (1) مولاه وغيره. وكذلك قال بُرَيْدة بن الحُصَيب
الأسلمي ، وقتادة.
وقال ابن عباس : أمر الله المؤمنين أن يعينوا في الرقاب. وقد تقدَّمَ في الحديث ،
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ثلاثة حق على الله عونهم" :
فذكر منهم المكاتَب يريد الأداء ، والقول الأول أشهر.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا وَكِيع ، عن ابن شَبِيب ، عن
عكرمة ، عن ابن عباس ، عن عمر ؛ أنه كاتب عبدًا له ، يكنى أبا أمية ، فجاء بنجمه
حين حل ، فقال : يا أبا أمية ، اذهب فاستعن به في مكاتبتك. قال : يا أمير المؤمنين
، لو تركتَه حتى يكون من آخر نجم ؟ قال : أخاف ألا أدرك ذلك. ثم قرأ : { فَكَاتِبُوهُمْ
إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ
} قال عكرمة : كان (2) أول نجم أدّي في الإسلام.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا هارون بن المغيرة ، عن عنبسَةَ ، عن سالم
الأفطس ، عن سعيد بن جبير قال : كان ابن عمر إذا كاتب مكاتَبه لم يضع عنه شيئا من
أول نجومه ، مخافة أن يعجز فترجع إليه صدقته. ولكنه إذا كان في آخر مكاتبته ، وضع
عنه ما أحب (3).
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي
آتَاكُمْ } قال : يعني : ضعوا عنهم من مكاتبتهم. وكذلك قال مجاهد ، وعطاء ،
والقاسم بن أبي بَزَّة ، وعبد الكريم بن مالك الجَزَريّ ، والسدي.
وقال محمد بن سيرين في قوله : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ }
: كان يعجبهم أن يدع الرجل لمكاتَبه طائفة من مكاتبته.
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا الفضل بن شاذان المقرئ ، أخبرنا إبراهيم بن موسى ،
أخبرنا هشام بن يوسف ، عن ابن جُرَيْج ، أخبرني عطاء بن السائب : أن عبد الله بن
جندب أخبره ، عن علي ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"ربع الكتابة" (4).
وهذا حديث غريب ، ورفعه منكر ، والأشبه أنه موقوف على عليّ ، رضي الله عنه ، كما
رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي ، رحمه الله (5).
وقوله : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ
تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } الآية : كان أهل الجاهلية
إذا كان لأحدهم أمة ، أرسلها تزني ، وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كلّ وقت. فلما
جاء الإسلام ، نهى الله المسلمين (6) عن ذلك.
وكان سبب نزول هذه الآية الكريمة - فيما ذكره غير واحد من المفسرين ، من السلف
والخلف - في شأن عبد الله بن أبي بن سلول [المنافق] (7) فإنه كان له إماء ، فكان
يكرههن على البِغاء طلبا لخَراجهن ، ورغبة في أولادهن ، ورئاسة منه فيما يزعم
[قبحه الله ولعنه] (8)
__________
(1) في ف ، أ : "على".
(2) في ف ، أ : "فكان".
(3) تفسير الطبري (18/101).
(4) ورواه عبد الرزاق في المصنف برقم (15589) من طريق ابن جريج ، به. وقال :
"قال ابن جريج : وأخبرني غير واحد ، عن عطاء بن السائب أنه كان يحدث بهذا
الحديث ، لا يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم".
(5) ورواه عبد الرزاق في مصنفه برقم (15590) من طريق معمر ، عن عطاء بن السائب ،
عن أبي عبد الرحمن السلمي ، به.
(6) في ف ، أ : "المؤمنين".
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) زيادة من ف ، أ.
(6/54)
[ذكر الآثار
(1) الواردة في ذلك] (2)
قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزَّار ، رحمه الله ، في مسنده :
حدثنا أحمد بن داود الواسطي ، حدثنا أبو عمرو اللخمي - يعني : محمد بن الحجاج -
حدثنا محمد ابن إسحاق ، عن الزهري قال : كانت جارية لعبد الله بن أبي ابن سلول ،
يقال لها : معاذة ، يكرهها على الزنى ، فلما جاء الإسلام نزلت : { وَلا تُكْرِهُوا
فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } إلى قوله : { فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ
إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (3)
وقال الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر في هذه الآية : { وَلا تُكْرِهُوا
فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } قال : نزلت في أمة لعبد الله بن أبي بن سلول
يقال لها : مُسَيْكَة ، كان يكرهها على الفجور - وكانت لا بأس بها - فتأبى. فأنزل
الله ، عز وجل ، هذه الآية إلى قوله { وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ
بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (4).
وروى النسائي ، من حديث ابن جُرَيْج ، عن أبي الزبير ، عن جابر نحوه (5)
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا علي بن سعيد ، حدثنا
الأعمش ، حدثني أبو سفيان ، عن جابر قال : كان لعبد الله بن أُبَيٍّ ابنِ سلولَ
جارية يقال لها : مسيكة ، وكان يكرهها على البغاء ، فأنزل الله : { وَلا
تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } ، إلى قوله : { وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ
فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ }.
صرح الأعمش بالسماع من أبي سفيان طلحة بن نافع ، فدل على بطلان قول من قال :
"لم يسمع منه ، إنما هو صحيفة" حكاه البزار.
قال أبو داود الطيالسي ، عن سليمان بن معاذ ، عن سِمَاك ، عن عِكْرِمة ، عن ابن
عباس ؛ أن جارية لعبد الله بن أبي كانت تزني في الجاهلية ، فولدت أولادًا من الزنى
، فقال لها : ما لك لا تزنين ؟ قالت (6) لا والله لا أزني. فضربها ، فأنزل الله عز
وجل : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا
} (7)
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري : أن رجلا من قريش أُسر يوم بدر ،
وكان عند عبد الله بن أُبَيّ أسيرًا ، وكانت لعبد الله بن أُبيّ جارية يقال لها :
معاذة ، وكان القرشي الأسير يريدها على نفسها ، وكانت مسلمة (8). وكانت تمتنع منه
لإسلامها ، وكان عبد الله بن أبي يكرهها على ذلك ويضربها ، رجاء أن تحمل للقرشي ،
فيطلب فداء ولده ، فقال تبارك وتعالى : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى
الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } (9)
__________
(1) في أ : "الأحاديث".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) مسند البزار برقم (2240) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع
(7/83) : "فيه محمد بن الحجاج اللخمي وهو كذاب".
(4) رواه الطبري في تفسيره (18/103) من طريق الأعمش ، به.
(5) النسائي في السنن الكبرى برقم (11365) من طريق ابن جريج ، عن أبي الزبير ، به.
(6) في ف : "فقالت".
(7) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (11/284) من طريق أبي داود الطيالسي ، به.
(8) في أ : "تسلم".
(9) تفسير عبد الرزاق (2/50).
(6/55)
وقال السدي
: أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين ، وكانت له
جارية تدعى معاذة ، وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها ، إرادة الثواب منه
والكرامة له. فأقبلت الجارية إلى أبي بكر ، رضي الله عنه فشكت إليه ذلك ، فذكره
أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأمره بقبضها. فصاح عبد الله بن أبي : من
يَعْذُرني من محمد ، يغلبنا على مملوكتنا ؟ فأنزل الله فيهم هذا.
وقال مُقَاتِل بن حَيَّان : بلغنا - والله أعلم - أن هذه الآية نزلت في رجلين كانا
يكرهان أمتين لهما ، إحداهما اسمها مُسَيْكَة ، وكانت للأنصاريّ ، وكانت أميمة أم
مسيكة لعبد الله بن أبي ، وكانت معاذة وأروى بتلك المنزلة ، فأتت مسيكة وأمها
النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكرتا ذلك له ، فأنزل الله في ذلك { وَلا تُكْرِهُوا
فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } يعني : الزنى.
وقوله : { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } هذا خرج مخرج الغالب ، فلا مفهوم له.وقوله :
{ لِتَبْتَغُوا عَرَضَ [الْحَيَاةِ] الدُّنْيَا } (1) أي : من خَرَاجهن ومهورهن
وأولادهن. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن كسب الحجَّام ، ومهر البَغيّ
وحُلْوان الكاهن (2) - وفي رواية : "مهر البغي خبيث ، وكسب الحجَّام خبيث ،
وثمن الكلب خبيث" (3)
وقوله : { وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ
غَفُورٌ رَحِيمٌ } [أي : لهن ، كما تقدم في الحديث عن جابر.
وقال ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس : فإن فعلتم فإن الله لهن غفور رحيم] (4) وإثمهن
على من أكرههن : وكذا قال مجاهد ، وعطاء الخراساني ، والأعمش ، وقتادة.
وقال أبو عبيد : حدثني إسحاق الأزرق ، عن عَوْف ، عن الحسن في هذه الآية : {
فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } قال : لهن والله.
لهن والله.
وعن الزهري قال : غفور لهن ما أُكْرهْن عليه.
وعن زيد بن أسلم قال : غفور رحيم للمكرهات.
حكاهن ابن المنذر في تفسيره بأسانيده.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا يحيى بن عبد الله ، حدثني ابن
لَهِيعَة ، حدثني عطاء ، عن سعيد بن جُبَيْر قال : في قراءة عبد الله بن مسعود :
"فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ لَهُنَّ غَفُورٌ (5)
رَّحِيمٌ" وإثمهن على من أكرههن.
وفي الحديث المرفوع ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "رُفِع عن
أمَّتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه". (6)
__________
(1) زيادة من ف ، أ. وهو الصواب.
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (2237) ومسلم في صحيحه برقم (1567) من حديث أبي
مسعود الأنصاري رضي الله عنه : "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن
الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن" وأما كسب الحجام ، فروى ابن ماجه في السنن
برقم (2165) من حديث عقبة بن عمرو : "نهى النبي صلى الله عليه وسلم ، عن كسب
الحجام".
(3) رواه أحمد في مسنده (3/464) من حديث رافع بن خديج ، رضي الله عنه.
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ف : "غفور لهن".
(6) رواه ابن ماجه في السنن برقم (2043) وقد سبق الكلام عليه في سورة الأعراف.
(6/56)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
ولما فصل
تعالى (1) هذه الأحكام وبَيَّنها قال : { وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ
مُبَيِّنَاتٍ } يعني : القرآن فيه آيات واضحات مفسرات ، { وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ
خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ } أي : خبرا عن الأمم الماضية ، وما حلَّ بهم في مخالفتهم
أوامرَ الله تعالى (2) ، كما قال تعالى : { فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا
لِلآخِرِينَ } [الزخرف : 56]
{ وَمَوْعِظَةً } أي : زاجرًا عن ارتكاب المآثم والمحارم { لِلْمُتَّقِينَ } أي :
لمن اتقى الله وخافه.
قال علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، في صفة القرآن : فيه حكم ما بينكم ، وخبر ما
قبلكم ، ونبأ ما بعدكم ، وهو الفَصْل ليس بالهَزْل ، مَنْ تركه من جَبَّار قَصَمَه
الله ، ومن ابتغى الهدى من (3) غيره أضله الله.
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا
مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ
يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ
يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ
يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) }
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { اللَّهُ نُورُ السَّموَاتِ وَالأرْضِ }
يقول : هادي أهل السموات والأرض.
وقال ابن جُرَيْج : قال مجاهد وابن عباس في قوله : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ
وَالأرْضِ } يدبر الأمر فيهما ، نجومهما وشمسهما وقمرهما.
وقال ابن جرير : حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرَقِّي ، حدثنا وهب بن راشد ، عن
فَرْقَد ، عن أنس بن مالك قال : إن إلهي يقول : نوري هداي.
واختار هذا القول ابن جرير ، رحمه الله.
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب في
قول الله تعالى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } قال : هو المؤمن الذي
جعل [الله] (4) الإيمان والقرآن في صدره ، فضرب الله مثله فقال : { اللَّهُ نُورُ
السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } فبدأ بنور نفسه ، ثم ذكر نور المؤمن فقال : مثل نور من
آمن به. قال : فكان أُبي بن كعب يقرؤها : "مثل نور من آمن به (5) فهو المؤمن
جعل الإيمان والقرآن في صدره.
وهكذا قال (6) سعيد بن جُبير ، وقيس بن سعد ، عن ابن عباس أنه قرأها كذلك :
"نور من آمن بالله".
وقرأ بعضهم : "اللَّهُ نَوَّر السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ" ".
وعن الضحاك : "اللَّهُ نَوَّر السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ ".
__________
(1) في ف ، أ : "ولما فصل تبارك وتعالى".
(2) في ف ، أ : "عز وجل".
(3) في أ : "في".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في أ : "بالله".
(6) في ف : "روى".
(6/57)
وقال السدي
في قوله : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } : فبنوره أضاءت السموات
والأرض.
وفي الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق في السيرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال في دعائه يوم آذاه أهل الطائف : "أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له
الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن يحل بي غَضبك أو ينزل بي سَخَطُك ،
لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك (1) " (2).
وفي الصحيحين ، عن ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه سلم إذا قام من الليل
يقول : "اللهم لك الحمد ، أنت قَيّم السموات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد ،
أنت نور السموات والأرض ومن فيهن" الحديث (3).
وعن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار ، نور العرش
من نور وجهه.
وقوله : { مَثَلُ نُورِهِ } في هذا الضمير قولان :
أحدهما : أنه عائد إلى الله ، عز وجل ، أي : مثل هداه في قلب المؤمن ، قاله ابن
عباس { كمشكاة }.
والثاني : أن الضمير عائد إلى المؤمن الذي دل عليه سياق الكلام : تقديره : مثل نور
المؤمن الذي في قلبه ، كمشكاة. فشبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى ، وما
يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه ، كما قال تعالى : { أَفَمَنْ كَانَ
عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } [هود : 17] ، فشبه قلب
(4) المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهري ، وما يستهديه من
القرآن والشرع بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل ، الذي لا كدر فيه ولا انحراف.
فقوله (5) : { كَمِشْكَاةٍ } : قال ابن عباس ، ومجاهد ، ومحمد بن كعب ، وغير واحد
: هو موضع الفتيلة من القنديل. هذا هو المشهور ؛ ولهذا قال بعده : { فِيهَا
مِصْبَاحٌ } ، وهو الذُّبالة التي تضيء.
وقال العوفي ، عن ابن عباس [في] (6) قوله : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ
وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } : وذلك أن اليهود قالوا
لمحمد صلى الله عليه وسلم : كيف يخلص نور الله من دون السماء ؟ فضرب الله مثل ذلك
لنوره ، فقال : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ }.
والمشكاة : كوَّة في البيت - قال : وهو مثل ضَرَبه الله لطاعته (7). فسمَّى الله
طاعَتَه نُورًا ، ثم سَمَاها أنواعا شَتَّى.
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : الكوة بلُغة الحبشة. وزاد غيره فقال : المشكاة :
الكوة التي لا منفذ لها. وعن مجاهد : المشكاة : الحدائد التي يعلق بها القنديل.
والقول الأول أولى ، وهو : أن المشكاة هي موضع الفَتيلة من القنديل ؛ ولهذا قال :
{ فِيهَا مِصْبَاحٌ } وهو النور الذي في الذُّبالة.
__________
(1) في ف ، أ : "بالله".
(2) رواه ابن هشام في السيرة النبوية (1/420) ، عن ابن إسحاق.
(3) صحيح البخاري برقم (1120) وصحيح مسلم برقم (769).
(4) في ف ، أ : "القلب".
(5) في أ : "وقوله".
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) في ف : "لأهل طاعته".
(6/58)
قال أبيً بن
كعب : المصباح : النور ، وهو القرآن والإيمان الذي في صدره.
وقال السُّدِّي : هو السراج.
{ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } أي : هذا الضوء مشرق في زجاجة صافية.
قال أبيّ بن كعب وغير واحد : وهي نظير قلب المؤمن. { الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا
كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } : قرأ بعضهم بضم الدال من غير همزة ، من الدّر ، أي : كأنها
كوكب من دُرّ.
وقرأ آخرون : "دِرّيء" و"دُرِّيء" بكسر الدال وضمها مع الهمز
، من الدَرْء وهو الدفع ؛ وذلك أن النجم إذا رُمي به يكون أشدّ استنارة من سائر
الأحوال ، والعرب تسمي ما لا يعرف من الكواكب دراريّ.
قال أبيّ بن كعب : كوكب مضيء. وقال قتادة : مضيء مبين ضخم. { يُوقَدُ (1) مِنْ
شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ } أي : يستمد من زيت زيتون شجرة مباركة { زيتونة } بدل أو
عطف بيان { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } أي : ليست في شرقي بقعتها فلا تصل
إليها الشمس من أول النهار ، ولا في غربيها فيتقلّص عنها الفيء قبل الغروب ، بل هي
في مكان وسط ، تَفْرَعه (2) الشمس من أول النهار إلى آخره ، فيجيء زيتها معتدلا
صافيا مشرقا.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار قال : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن
سعد ، أخبرنا عمرو بن أبي قيس ، عن سِمَاك بن حرب ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في
قوله : { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : شجرة بالصحراء ، لا
يظلها جبل ولا شجر ولا كهف ، ولا يواريها شيء ، وهو أجود لزيتها.
وقال يحيى بن سعيد القَطَّان ، عن عمران بن حُدَيْر ، عن عكرمة ، في قوله : { لا
شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : هي بصحراء ، وذلك أصفى لزينتها.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو نُعَيْم ، حدثنا عُمَر بن فَرُّوخ ، عن
حبيب بن الزبير ، عن عكرمة - وسأله رجل عن : { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا
غَرْبِيَّةٍ } قال (3) تلك [زيتونة] (4) بأرض فلاة ، إذا أشرقت الشمس أشرقت عليها
، وإذا غربت غربت عليها فذاك أصفى ما يكون من الزيت.
وقال مجاهد في قوله : { [ زَيْتُونَةٍ ] لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } (5)
قال : ليست بشرقية ، لا تصيبها الشمس إذا غربت ، ولا غربية لا تصيبها الشمس إذا
طلعت ، [ولكنها شرقية وغربية ، تصيبها إذا طلعت] (6) وإذا غربت.
وقال سعيد بن جُبَيْر في قوله { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ
يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ } قال : هو أجود الزيت. قال : إذا طلعت الشمس أصابتها
من صوب المشرق ، فإذا أخذت في الغروب أصابتها الشمس ، فالشمس تصيبها بالغداة
والعَشِيّ ، فتلك لا تعد شرقية ولا غربية.
وقال السدي [في] (7) قوله : { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } يقول
: ليست بشرقية يحوزها
__________
(1) في ف ، أ : "توقد".
(2) في هـ ، أ : "تقصرها" والمثبت من ف.
(3) في ف ، أ : "فقال".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) زيادة من ف ، أ.
(6/59)
المشرق ،
ولا غربية يحوزها المغرب دون المشرق ، ولكنها على رأس جبل ، أو في صحراء ، تصيبها
الشمس النهارَ كلَّه.
وقيل : المراد بقوله : { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } أنها في
وسط الشجر ، وليست بادية للمشرق ولا للمغرب.
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أُبي بن كعب ، في
قول الله تعالى : { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : فهي
خضراء ناعمة ، لا تصيبها الشمس على أي حال كانت ، لا إذا طلعت ولا إذا غربت. قال :
فكذلك هذا المؤمن ، قد أجير من أن يصيبه شيء من الفتن ، وقد ابتلي بها فيثبته الله
فيها ، فهو بين أربع خلال : إن قال صَدَق ، وإن حكم عدل ، وإن ابتلي صبر ، وإن
أعطي شكر ، فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا مُسَدَّد قال : حدثنا أبو
عَوَانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في قوله : { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ
وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : هي وسط الشجر ، لا تصيبها الشمس شرقا ولا غربا.
وقال عطية العوفي : { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : هي شجرة في موضع من
الشجر ، يرى ظل ثمرها في ورقها ، وهذه من الشجر لا تطلع عليها الشمس ولا تغرب.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا عبد الرحمن الدَّشْتَكِي ، حدثنا
عمرو بن أبي قيس ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، في
قوله تعالى : { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } ليست شرقية ليس فيها غرب ، ولا
غربية ليس فيها شرق ، ولكنها شرقية غربية.
وقال محمد بن كعب القُرَظي : { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : هي
القبْلية.
وقال زيد بن أسلم : { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : الشام.
وقال الحسن البصري : لو كانت هذه الشجرة في الأرض لكانت شرقية أو غربية ، ولكنه
مثل ضربه الله لنوره.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { توقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ } قال : رجل صالح
{ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : لا يهودي ولا نصراني.
وأولى هذه الأقوال القولُ الأول ، وهو أنها في مستوى من الأرض ، في مكان فسيح بارز
ظاهر ضاح للشمس ، تَفْرعه من أول النهار إلى آخره ، ليكون ذلك أصفى لزينتها وألطف
، كما قال غير واحد ممن تقدم ؛ ولهذا قال : { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ
لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني : لضوء إشراق
الزيت.
وقوله : { نُورٌ عَلَى نُورٍ } قال العوفي ، عن ابن عباس : يعني بذلك إيمان العبد
وعمله.
وقال مجاهد ، والسدي : يعني نور النار ونور الزيت.
وقال أبي بن كعب : { نُورٌ عَلَى نُورٍ } فهو يتقلب في خمسة من النور ، فكلامه نور
، وعمله نور ، ومدخله نور ، ومخرجه نور ، ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة.
وقال شِمْر بن عَطية : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال : حدثني عن قول الله : {
يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ }
(6/60)
قال : يكاد
محمد يبين للناس ، وإن (1) لم يتكلم ، أنه نبي ، كما يكاد ذلك الزيت أن يضيء.
وقال السُّدِّي في قوله : { نُورٌ عَلَى نُورٍ } قال : نور النار ونور الزيت ، حين
اجتمعا أضاءا ، ولا يضيء واحد بغير صاحبه [كذلك نور القرآن ونور الإيمان حين
اجتمعا ، فلا يكون واحد منهما إلا بصاحبه] (2)
وقوله : { يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ } أي : يرشد الله إلى هدايته من
يختاره ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد :
حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني
ربيعة بن يزيد ، عن عبد الله [بن] (3) الديلمي ، عن عبد الله بن عمرو ، سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله خلق خلقه في ظلمة ، ثم ألقى عليهم
من نوره يومئذ ، فمن أصاب يومئذ من نوره اهتدى ، ومن أخطأه ضل. فلذلك أقول : جفَّ
القلم على علم الله عز وجل" (4)
طريق أخرى عنه : قال البزار : حدثنا أيوب (5) بن سُوَيْد ، عن يحيى بن أبي عمرو
الشَّيباني ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
: "إن الله خلق خلقه في ظلمة ، فألقى عليهم نورًا من نوره ، فمن أصابه من ذلك
النور اهتدى ، ومن أخطأه (6) ضل.[ورواه البزار ، عن عبد الله بن عمرو من طريق آخر
، بلفظه وحروفه] (7) (8).
وقوله تعالى : { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ } لما ذكر تعالى هذا مثلا لنور هداه في قلب المؤمن ، ختم الآية
بقوله : { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ } أي : هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الإضلال.
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر : حدثنا أبو معاوية - يعني (9) شيبان - ، عن
ليث ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن أبي البَخْتَري ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "القلوب أربعة : قلب أجرد فيه مثل السراج يُزهرُ ،
وقلب أغلف مربوط على غلافه ، وقلب منكوس ، وقلب مُصْفَح : فأما القلب الأجرد فقلب
المؤمن ، سراجه فيه نوره. وأما القلب الأغلف فقلب الكافر. وأما القلب المنكوس فقلب
[المنافق] (10) عَرَفَ ثم أنكر. وأما القلب المُصْفَح فقلب فيه إيمان ونفاق ، ومثل
الإيمان فيه كمثل البقلة يَمُدّها الماء الطيب ، ومثل النفاق فيه كمثل القُرحة
يَمُدَّها القيح والدم ، فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه". إسناده جيد
(11) ولم يخرجوه.
__________
(1) في ف ، أ : "ولو".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(4) المسند (2/176).
(5) في ف ، أ : "قال البزار : حدثنا شهاب بن عثمان حدثنا أيوب".
(6) في ف ، أ : "أخطأ".
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) مسند البزار برقم (2145) "كشف الأستار" ورواه أحمد في مسنده (2/197)
من طريق محمد بن مهاجر ، عن عروة بن رويم ، عن ابن الديلمي ، عن عبد الله بن عمرو
، به.
(9) في هـ : "حدثنا" والمثبت من ف ، أ ، والمسند.
(10) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(11) المسند (3/17).
(6/61)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36)
{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) }
(6/62)
رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
{ رِجَالٌ
لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ
وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ
وَالأبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ
مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) }
لما ضرب الله تعالى [مثل] (1) قلب المؤمن ، وما فيه من الهدى والعلم ، بالمصباح في
الزجاجة الصافية المتوقّد من زيت طيب ، وذلك كالقنديل ، ذكر محلها وهي المساجد ،
التي هي أحب البقاع إلى الله تعالى من الأرض ، وهي بيوته التي يعبد فيها ويُوَحّد
، فقال : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ } أي : أمر الله تعالى
برفعها ، أي : بتطهيرها من الدنس واللغو ، والأفعال والأقوال التي لا تليق فيها ،
كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية الكريمة : { فِي بُيُوتٍ
أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ } قال : نهى الله سبحانه عن اللغو فيها. وكذا قال
عكرمة ، وأبو صالح ، والضحاك ، ونافع بن جبير ، وأبو بكر بن سليمان بن أبي حَثْمة
(2) وسفيان بن حسين ، وغيرهم من علماء المفسرين. (3)
وقال قتادة : هي هذه المساجد ، أمر الله ، سبحانه ، ببنائها ورفعها ، وأمر
بعمارتها وتطهيرها. وقد ذكر لنا أن كعبًا كان يقول : إن في التوراة مكتوبًا :
" ألا إن بيوتي في الأرض المساجد ، وإنه من توضأ فأحسن وضوءه ، ثم زارني في
بيتي أكرمته ، وحَقّ على المَزُور كرامةُ الزائر". رواه عبد الرحمن بن أبي
حاتم في تفسيره.
وقد وردت أحاديث كثيرة في بناء المساجد ، واحترامها وتوقيرها ، وتطييبها وتبخيرها.
وذلك له محل مفرد يذكر فيه ، وقد كتبت في ذلك جزءًا على حدَة ، ولله الحمد والمنة.
ونحن بعون الله تعالى نذكر (4) هاهنا طرفا من ذلك ، إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة
وعليه التكلان :
فعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، قال : سمعتُ رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول : "من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله ، بنى الله له مثله في
الجنة". أخرجاه في الصحيحين (5).
وروى ابن ماجه ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "من بنى مسجدا يذكر فيه اسم الله ، بنى الله له بيتا في
الجنة" (6).
وللنسائي عن عمرو بن عَبَسَة (7) مثله (8). والأحاديث في هذا كثيرة جدا.
وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد
في الدور ، وأن تنظف
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف ، أ : "خيثمة".
(3) في ف ، أ : "التفسير".
(4) في ف : "سنذكر".
(5) صحيح البخاري برقم (450) وصحيح مسلم برقم (533).
(6) سنن ابن ماجه برقم (735) من طريق الوليد بن أبي الوليد عن عثمان بن عبد الله
عن عمر. وقال البوصيري في الزوائد (1/260) : "هذا إسناد مرسل ، عثمان بن عبد
الله بن سراقة روى عن عمر وهو جده لأمه ، ولم يسمع منه. قاله المزي".
(7) في أ : "عنبسة".
(8) سنن النسائي (2/31).
(6/62)
وتطيب (1).
رواه أحمد وأهل السنن إلا النسائي. ولأحمد وأبي داود ، عن سَمُرة بن جُنْدب نحوه.
(2)
وقال البخاري : قال عمر : ابن للناس ما يكنهم ، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس
(3).
وروى ابن ماجه عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما ساء عملُ
قوم قطّ إلا زخرفوا مساجدهم". (4) وفي إسناده ضعف.
وروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "ما أمِرْتُ بتشييد المساجد". قال ابن عباس : لَتُزَخرفُنّها كما
زَخْرَفت اليهود والنصارى (5)
وعن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تقوم
الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد". رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا
الترمذي (6)
وعن بُرَيْدَةَ أن رَجُلا أنشدَ في المسجد ، فقال : من دعا إلى الجمل الأحمر ؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا وجدت ، إنما بُنِيت المساجد لما بنيت
له". رواه مسلم. (7)
وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن
البيع والابتياع ، وعن تناشد الأشعار في المساجد. رواه أحمد وأهل السنن (8) ، وقال
الترمذي : حسن.
وعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه سلم : قال : "إذا
رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد ، فقولوا : لا أربح الله تجارتك. وإذا رأيتم من
يَنشُد ضالة في المسجد ، فقولوا : لا رَدَّ الله عليك". رواه الترمذي ، وقال
: حسن غريب. (9)
وقد روى ابن ماجه وغيره ، من حديث ابن عمر مرفوعًا ، قال : "خصال لا تنبغي في
المسجد : لا يُتَّخذُ طريقًا ، ولا يُشْهَرُ فيه سلاح ، ولا يُنبَض فيه بقوس ، ولا
ينثر فيه نبل ، ولا يُمرّ فيه بلحم نِيء : ولا يُضرَبُ فيه حَدٌّ ، ولا يُقْتَص
فيه من أحد ، ولا يُتَّخذ سوقًا" (10).
وعن واثلة بن الأسقع ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "جَنِّبوا
المساجد صبيانكم ومجانينكم ، وشراءكم وبيعكم ، وخصوماتكم ورفع أصواتكم ، وإقامة
حدودكم وسل سيوفكم ، واتخذوا على أبوابها المطاهر ، وجَمّروها في الجُمَع".
__________
(1) المسند (6/279) وسنن أبي داود برقم (455) وسنن الترمذي برقم (594) وسنن ابن
ماجه برقم (759).
(2) المسند (5/17) وسنن أبي داود برقم (456).
(3) صحيح البخاري (1/539) "فتح".
(4) سنن ابن ماجه برقم (741) من طريق جبارة بن المغلس عن عبد الكريم بن عبد الرحمن
عن عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب ، به. قال البوصيري في الزوائد (1/262) :
"هذا إسناد فيه جبارة بن المغلس وقد اتهم".
(5) سنن أبي داود برقم (448).
(6) المسند (3/134) وسنن أبي داود برقم (449) وسنن النسائي (2/32) وسنن ابن ماجه
برقم (739).
(7) صحيح مسلم برقم (569).
(8) المسند (2/179) وسنن أبي داود برقم (1079) وسنن الترمذي برقم (322) وسنن
النسائي (2/47) وسنن ابن ماجه برقم (749).
(9) سنن الترمذي برقم (3121).
(10) سنن ابن ماجه برقم (748) وقال البوصيري في الزوائد (1/264) : "هذا إسناد
فيه زيد بن جبيرة. قال ابن عبد البر : أجمعوا على أنه ضعيف".
(6/63)
ورواه ابن
ماجه أيضًا (1) وفي إسنادهما (2) ضعف.
أما أنه "لا يتخذ طريقًا" فقد كره بعض العلماء المرور فيه إلا لحاجة إذا
وَجَد مندوحة عنه. وفي الأثر : "إن الملائكة لتتعجب من الرجل يمر بالمسجد لا
يصلي فيه".
وأما أنه "لا يشهر فيه بسلاح (3). ولا ينبض فيه بقوس ، ولا ينثر فيه نبل (4).
فلما يخشى من إصابة بعض الناس به ، لكثرة المصلين فيه ؛ ولهذا أمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا مر أحد بسهام أن يقبض على نصالها ؛ لئلا يؤذي أحدًا ، كما ثبت
في الصحيح (5).
وأما النهي عن المرور باللحم النيء فيه ، فَلِما يخشى من تقاطر الدم منه ، كما
نهيت الحائض عن المرور فيه إذا خافت التلويث.
وأما أنه "لا يضرب فيه حد ولا يقتص" ، فلما يخشى من إيجاد نجاسة فيه من
المضروب أو المقطوع.
وأما أنه "لا يتخذ سوقًا" ، فلما تقدم من النهي عن البيع والشراء فيه ،
فإنه إنما بني لذكر الله والصلاة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام ، (6) لذلك
الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد : "إن المساجد لم تبن لهذا ، إنما بنيت
لذكر الله والصلاة فيها". ثم أمر بسَجْل من ماء ، فأهريق على بوله (7).
وفي الحديث الثاني : "جَنِّبوا مساجدكم صبيانكم" ، وذلك لأنهم يلعبون
فيه ولا يناسبهم ، وقد كان عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، إذا رأى صبيانًا يلعبون
في المسجد (8) ، ضربهم بالمِخْفَقَة - وهي الدِّرَّة - وكان يَعُسّ (9) المسجد بعد
العشاء ، فلا يترك فيه أحدًا.
"ومجانينكم" يعني : لأجل ضعف عقولهم ، وسَخْر الناس بهم ، فيؤدي إلى
(10) اللعب فيها ، ولما يخشى من تقذيرهم المسجد ، ونحو ذلك.
"وبيعكم وشراءكم" كما تقدم.
"وخصوماتكم" يعني : التحاكم والحكم فيه ؛ ولهذا نص كثير من العلماء على
أن الحاكم لا ينتصب لفصل الأقضية في المسجد ، بل يكون في موضع غيره ؛ لما فيه من
كثرة الحكومات والتشاجر والعياط (11) الذي لا يناسبه ؛ ولهذا قال بعده :
"ورفع أصواتكم".
وقال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا الجُعَيْد
(12) بن عبد الرحمن قال : حدثني (13) يزيد بن خُصَيفَة (14) ، عن السائب بن يَزيدَ
الكنْديِّ قال : كنت قائمًا في المسجد ، فحصبني رجل ، فنظرت فإذا عمر (15) بن
الخطاب ، فقال : اذهب فأتني بهذين. فجئته بهما ، فقال : من أنتما ؟ أو : من أين
أنتما ؟ قالا من أهل الطائف. قال : لو كنتما من أهل
__________
(1) سنن ابن ماجه برقم (750) وقال البوصيري في الزوائد (1/265) : "هذا إسناد
ضعيف ، أبو سعيد هو محمد بن سعيد المصلوب ، قال أحمد : عمدا كان يضع الحديث ، ثم
قال : والحارث بن نبهان ضعيف".
(2) في ف ، أ : "إسناده".
(3) في أ : "السلام".
(4) في ف : "بنبل".
(5) رواه مسلم في صحيحه برقم (2615) من حديث أبي موسى الأشعري.
(6) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(7) رواه مسلم في صحيحه برقم (284) من حديث أنس بن مالك ، رضي الله عنه.
(8) في ف : "فيه".
(9) في ف ، أ : "يفتش".
(10) في أ : "على".
(11) في أ : "والغياظ".
(12) في ف ، أ : "الجعد".
(13) في ف ، أ : "عن".
(14) في ف ، أ : "حفصة".
(15) في ف ، أ : "فإذا هو عمر".
(6/64)
البلد
لأوجعتكما : ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
وقال النسائي : حدثنا سُوَيْد بن نصر ، عن عبد الله بن المبارك ، عن شعبة ، عن سعد
بن إبراهيم ، عن أبيه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال : سمع عمر صوت رجل في
المسجد فقال : أتدري أين أنت ؟ وهذا أيضًا صحيح. (2)
وقوله : "وإقامة حدودكم ، وسل سيوفكم" : تقدما. (3)
وقوله : "واتخذوا على أبوابها المطاهر" يعني : المراحيض التي يستعان بها
على الوضوء وقضاء الحاجة. وقد كانت قريبًا من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
آبار (4) يستقون منها ، فيشربون ويتطهرون ، ويتوضؤون وغير ذلك.
وقوله : "وجمِّروها في الجُمَع" يعني : بخروها في أيام الجُمَع لكثرة
اجتماع الناس يومئذ.
وقد قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عبيد الله ، حدثنا عبد الرحمن (5) بن
مهدي ، عن عبد الله بن عمر ، عن نافع عن ابن عمر ؛ أن عمر كان يُجَمِّر مسجد رسول
الله صلى الله عليه وسلم كل جمعة. إسناده حسن لا بأس به (6) والله أعلم.
وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "صلاة الرجل
في الجماعة تُضَعَّف على صلاته في بيته وفي سوقه ، خمسًا وعشرين ضعفًا. وذلك أنه
إذا توضأ فأحسن وضوءه (7) ثم خرج إلى المسجد ، لا يخرجه إلا الصلاة ، لم يَخطُ
خَطوة إلا رُفع له بها درجة ، وحطّ عنه بها خطيئة ، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي
عليه ما دام في مُصَلاه : اللهم صل عليه ، اللهم ارحمه ، ولا يزال في صلاة ما
انتظر الصلاة" (8)
وعند الدارقطني مرفوعًا : "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" (9).
وفي السنن : "بشِّر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم
القيامة" (10).
والمستحب لمن دخل المسجد أن يبدأ برجله اليمنى ، وأن يقول كما ثبت في صحيح البخاري
عن عبد الله بن عَمرو (11) رضي الله عنه (12) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
كان إذا دخل المسجد قال :
__________
(1) صحيح البخاري برقم (470).
(2) وذكره المزي في تحفة الأشراف (8/4) وعزاه للنسائي في السنن الكبرى في المواعظ.
(3) في أ : "تقدم".
(4) في أ : "أباريق".
(5) في أ : "عبد الله".
(6) مسند أبي يعلى (1/170).
(7) في ف ، أ : "الوضوء".
(8) صحيح البخاري برقم (647) وصحيح مسلم برقم (649) من حديث أبي هريرة ، رضي الله
عنه.
(9) سنن الدارقطني (1/420) من طريق سليمان بن داود اليمامي عن يحيى بن أبي كثير عن
أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا ، به. وقد رواه الحاكم في المستدرك (1/246) والبيهقي
في السنن الكبرى (3/57) من طريق سليمان بن داود ، به. وسليمان بن داود مجمع على
تضعيفه. ومن حديث جابر ، رواه الدارقطني أيضا في السنن (1/420) من طريق محمد بن
مسكين عن عبد الله بن بكير عن محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر مرفوعا ،
به. وقال أبو الطيب في التعليق : "فيه محمد بن مسكين ، قال الذهبي : لا يعرف
وخبره منكر. وقال البخاري : في إسناد حديثه نظر".
(10) رواه أبو داود في السنن برقم (561) والترمذي في السنن برقم (223) من حديث
بريدة بن الحصيب ، رضي الله عنه ، وقال الترمذي : "هذا حديث غريب من هذا
الوجه مرفوع ، وهو صحيح مسند وموقوف إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم
يسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم".
(11) في أ : "عمر".
(12) في ف ، أ : "عنهما".
(6/65)
أعوذ بالله
العظيم ، وبوجهه الكريم ، وسلطانه القديم ، من الشيطان الرجيم" [قال : أقط ؟
قال : نعم] (1). قال : فإذا قال ذلك قال الشيطان : حُفظ مني سائر اليوم (2).
وروى مسلم بسنده عن أبي حميد - أو : أبي أسَيْد - قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "إذا دخل أحدكم المسجد فليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، وإذا
خرج فليقل : اللهم إني أسألك من فضلك".
ورواه النسائي عنهما ، عن النبي (3) صلى الله عليه وسلم [مثله] (4) (5).
وعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إذا دخل أحدكم المسجد ، فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل : اللهم
افتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل : اللهم
اعصمني من الشيطان الرجيم".
ورواه ابن ماجه ، وابن خزيمة وابن حِبَّان في صحيحيهما (6).
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا لَيْث بن أبي سليم ، عن عبد
الله بن حسن (7). عن أمه فاطمة بنت حسين ، عن جدتها فاطمة بنت رسول الله صلى الله
عليه وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد
وسلم ، ثم قال : "اللهم ، اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك". وإذا
خرج صلى على محمد وسلم ثم قال : "اللهم ، اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب
فضلك".
ورواه الترمذي وابن ماجه (8) ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن وإسناده ليس بمتصل ؛
لأن فاطمة بنت الحسين الصغرى لم تدرك فاطمة الكبرى.
فهذا الذي ذكرناه ، مع ما تركناه من الأحاديث الواردة في ذلك لحال الطول (9). كله
داخل في قوله تعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ }.
وقوله : { وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } أي : اسم الله ، كقوله : { يَا بَنِي آدَمَ
خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [الأعراف : 31] ، وقوله { وَأَقِيمُوا
وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }
[الأعراف : 29] ، وقوله { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ
اللَّهِ أَحَدًا } [الجن : 18].
قال ابن عباس : { وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } يعني : يتلى فيها كتابه.
وقوله : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } أي : في البُكَرات
والعَشِيَّات. والآصال : جمع أصيل ،
__________
(1) زيادة من أ.
(2) لم أجده في صحيح البخاري ، وقد ذكره المزي في تحفة الأشراف وابن الأثير في
جامع الأصول ولم يعزواه إلا لأبي داود في السنن برقم (466).
(3) في ف ، أ : "رسول الله".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) صحيح مسلم برقم (713) وسنن النسائي (2/53).
(6) سنن ابن ماجه برقم (773) وصحيح ابن خزيمة برقم (452) وصحيح ابن حبان برقم
(2048) "الإحسان" كلهم من طريق أبي بكر الحنفي عن الضحاك بن عثمان عن
المقبري عن أبي هريرة ، به. وقال البوصيري في الزوائد (1/97) : "هذا إسناد
صحيح ورجاله ثقات".
(7) في أ : "حسين".
(8) المسند (6/282) وسنن الترمذي برقم (314) وسنن ابن ماجه برقم (771).
(9) في ف ، أ : "لجافي القول".
(6/66)
وهو آخر
النهار.
وقال سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس : كل تسبيح في القرآن هو الصلاة.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني بالغدو : صلاة الغداة ، ويعني بالآصال
: صلاة العصر ، وهما أول ما افترض الله من الصلاة ، فأحب أن يَذْكُرهما وأن
يُذَكِّر بهما عباده.
وكذا قال الحسن ، والضحاك : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ }
يعني : الصلاة.
ومن قرأ من القَرَأَة (1) " يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ
وَالآصَالِ" - بفتح الباء من "يُسبح" على أنه مبني لما لم يسم
فاعله - وقف (2) على قوله : { والآصَال } وقفًا تامًا ، وابتدأ بقوله : { رِجَالٌ
لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } وكأنه مفسر للفاعل
المحذوف ، كما قال الشاعر (3).
لِيُبْكَ يزيدُ ، ضارعٌ لخُصُومة... ومُخْتَبطٌ مما تُطيح الطّوَائحُ...
كأنه قال : من يبكيه ؟ قال : هذا يبكيه. وكأنه قيل : من يسبح له فيها ؟ قال :
رجال.
وأما على قراءة مَنْ قرأ : { يسبِّح } - بكسر الباء - فجعله فعلا وفاعله : {
رِجَال } فلا يحسن الوقف إلا على الفاعل ؛ لأنه تمام الكلام.
فقوله : { رِجَال } فيه إشعار بهممهم السامية ، ونياتهم وعزائمهم العالية ، التي
بها صاروا عُمَّارا للمساجد ، التي هي بيوت الله في أرضه ، ومواطن عبادته وشكره ،
وتوحيده وتنزيهه ، كما قال تعالى : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا
عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } [الأحزاب : 23].
فأما النساء فَصَلاتهن في بيوتهن أفضل لهن ؛ لما رواه أبو داود ، عن عبد الله بن
مسعود ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "صلاة المرأة في
بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها ، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في
بيتها" (4).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن غَيْلان ، حدثنا رِشْدِين ، حدثني عمرو ، عن أبي
السمح ، عن السائب مولى أم سلمة عن أم سلمة - رضي الله عنها ، - عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال : "خير مساجد النساء [قعر] (5) بيوتهن" (6).
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا هارون ، أخبرني عبد الله بن وهب ، حدثنا داود بن
قيس ، عن عبد الله بن سُوَيد الأنصاري ، عن عمته أم حميد - امرأة أبي حميد الساعدي
- أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إني أحب الصلاة معك
قال : "قد علمت أنك تحبين الصلاة معي ، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك
، وصلاتك في حُجْرَتك خير من صلاتك في دارك ، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد
قومك ، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي". قال : فأمَرَت فبُني لها
مسجد في أقصى بيت من بيوتها وأظلمه (7) ، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله ، عز وجل.
لم يخرجوه. (8)
__________
(1) في ف ، أ : "القراء".
(2) في ف : "ويقف".
(3) ينسب للشاعر نهشل بن حري ولغيره ، وهو من شواهد الكتاب لسيبويه (1/145)
والمقتضب للمبرد (3/382) ومغني اللبيب لابن هشام الشاهد رقم (1048) ا.هـ ، مستفادا
من حاشية الشعب.
(4) سنن أبي داود برقم (580).
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) المسند (6/297).
(7) في هـ : "بيوتها والله" وفي ف ، أ : "بيتها والله"
والمثبت من المسند.
(8) المسند (6/371).
(6/67)
هذا ويجوز
لها شهود جماعة الرجال ، بشرط أن لا تؤذي أحدًا من الرجال بظهور زينة ولا ريح طيب
كما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عُمَر أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" (1).
رواه البخاري ومسلم ، ولأحمد وأبي داود : "وبيوتهن خير لهن" (2) وفي
رواية : "وليخرجن وهن تَفِلات" (3) أي : لا ريح لهن.
وقد ثبت في صحيح مسلم ، عن زينب - امرأة ابن مسعود - قالت : قال لنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبًا" (4).
وفي الصحيحين عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : كان نساء المؤمنين (5) يشهدن
الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يرجعن متلفعات بمُرُوطهن ، ما
يُعْرَفْن من الغَلَس (6).
وفي الصحيحين أيضًا عنها أنها قالت : لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما
أحدث النساء لمنعهُنّ المساجد ، كما مُنعت نساء بني إسرائيل (7).
وقوله : { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } ،
كقوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا
أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ } [المنافقون : 9] ، وقال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ
اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
[الجمعة : 9]
يقول تعالى : لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها ومَلاذ بَيعها وريحها ، عن ذكر
ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم ، والذين يعلمون أن الذي عنده هو خير لهم وأنفع مما
بأيديهم ؛ لأن ما عندهم ينفد وما عند الله باق ؛ ولهذا قال : { لا تُلْهِيهِمْ
تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ
الزَّكَاةِ } أي : يقدمون طاعته ومُرَاده ومحبته على مرادهم ومحبتهم.
قال هُشَيْم : عن سَيَّار (8) : [قال] (9) حُدِّثت عن ابن مسعود أنه رأى قومًا من
أهل السوق ، حيث نودي بالصلاة ، تركوا بياعاتهم ونهضوا إلى الصلاة ، فقال عبد الله
: هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه : { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا
بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } (10).
وهكذا روى عَمْرو بن دينار القَهْرَمَانيّ ، عن سالم ، عن عبد الله بن عمر ، رضي
الله عنهما ، أنه كان في السوق (11) فأقيمت الصلاة ، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا
المسجد ، فقال ابن عمر : فيهم
__________
(1) صحيح البخاري برقم (900) وصحيح مسلم برقم (442).
(2) المسند (2/76) وسنن أبي داود برقم (567) من حديث عبد الله بن عمر ، رضي الله
عنهما.
(3) وهي في المسند (2/438) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(4) صحيح مسلم برقم (443).
(5) في ف ، أ : "المؤمنات".
(6) صحيح البخاري برقم (578) وصحيح مسلم برقم (645).
(7) صحيح البخاري برقم (869) وصحيح مسلم برقم (445).
(8) في ف ، أ : "شيبان".
(9) زيادة من ف ، أ.
(10) رواه الطبري في تفسيره (18/113).
(11) في ف ، أ : "بالسوق".
(6/68)
نزلت : {
رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ }. رواه ابن
أبي حاتم ، وابن جرير (1).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن بكر (2) الصنعاني ، حدثنا أبو سعيد
مولى بني هاشم (3) حدثنا عبد الله بن بُجَيْر ، حدثنا أبو عبد رب (4) قال : قال
أبو الدرداء ، رضي الله عنه : إني قمت (5) على هذا الدرج أبايع عليه ، أربح كل يوم
ثلاثمائة دينار ، أشهد الصلاة في كل يوم في المسجد ، أما إني لا أقول : "إن
ذلك ليس بحلال" ولكني أحب أن أكون من الذين قال الله : { رِجَالٌ لا
تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ }.
وقال عمرو بن دينار الأعور : كنت مع سالم بن عبد الله ونحن نريد المسجد ، فمررنا
بسوق المدينة وقد قاموا إلى الصلاة وخَمَّروُا متاعهم ، فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس
معها أحد ، فتلا سالم هذه الآية : { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ
عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } ثم قال : هم هؤلاء.
وكذا قال سعيد بن أبي الحسن ، والضحاك : لا تلهيهم التجارة والبيع أن يأتوا الصلاة
في وقتها.
وقال مطر الوَرَّاق : كانوا يبيعون ويشترون ، ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء
وميزانُه في يده خفضه ، وأقبل إلى الصلاة.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس { لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ
ذِكْرِ اللَّهِ } يقول : عن الصلاة المكتوبة. وكذا قال الربيع بن أنس ومقاتل بن
حيان.
وقال السُّدِّي : عن الصلاة في جماعة.
وعن مقاتل بن حيان : لا يلهيهم ذلك عن حضور الصلاة ، وأن يقيموها كما أمرهم (6)
الله ، وأن يحافظوا على مواقيتها ، وما استحفظهم الله فيها.
وقوله : { يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ } أي :
يوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار ، أي : من شدة الفزع وعظمة الأهوال ،
كما قال تعالى { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى
الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ } [غافر : 18] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ
لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ } [إبراهيم : 42] ، وقال تعالى : {
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا
شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمُ
اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُمْ
بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا } [الإنسان : 8 - 12].
وقال هاهنا { لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا } أي : هؤلاء من الذين
يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم.
وقوله : { وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } أي : يتقبل منهم الحسن ويضاعفه لهم ، كما
قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً
يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء : 40] ، وقال
تعالى : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [الأنعام : 160]
، وقال { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ
أَضْعَافًا كَثِيرَةً } [البقرة : 245] ، وقال { وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ
يَشَاءُ } [البقرة : 261]
__________
(1) تفسير الطبري (18/113).
(2) في ف ، أ : "بكير".
(3) في أ : "هشام".
(4) في ف ، أ : "عبد ربه".
(5) في أ : "قمت".
(6) في ف ، أ : "أمر".
(6/69)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
كما قال
هاهنا : { وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }.
وعن ابن مسعود : أنه جيء بلبن فعرضه على جلسائه واحدًا واحدًا ، فكلهم لم يشربه
لأنه كان صائمًا ، فتناوله ابن مسعود وكان مفطرًا فشربه ، ثم تلا قوله تعالى (1) {
يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ } ، رواه النسائي ،
وابن أبي حاتم ، من حديث الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عنه (2).
وقال [ابن أبي حاتم] (3) أيضًا : حدثنا أبي ، حدثنا سُوَيْد بن سعيد ، حدثنا علي
بن مُسْهِر عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن شهر بن حَوْشَب عن أسماء بنت يزيد قالت :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم
القيامة ، جاء مناد فنادى بصوت يُسمع الخلائق : سيعلم أهلُ الجمع من أولى بالكرم ،
ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله. فيقومون ، وهم قليل ، ثم يحاسب
سائر الخلائق" (4).
وروى الطبراني ، من حديث بَقيَّة ، عن إسماعيل بن عبد الله الكندي ، عن الأعمش ،
عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : {
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } [فاطر : 30] قال : {
أُجُورَهُمْ } يدخلهم الجنة { ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } ، الشفاعة لمن وجبت
له الشفاعة ، لمن صنع لهم المعروف في الدنيا (5).
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ
مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ
فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي
بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ
ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) }
هذان مثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار ، كما ضرب للمنافقين في أول "البقرة"
(6) مثلين ناريًا ومائيًا ، وكما ضرب لما يقر في القلوب من الهدى والعلم في سورة
"الرعد" (7) مثلين مائيًا وناريًا ، وقد تكلمنا على كل منها (8) في
موضعه بما أغنى عن إعادته ، ولله الحمد والمنة.
فأما الأول من هذين المثلين : فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم ، الذين يحسبون أنهم
على شيء من الأعمال والاعتقادات ، وليسوا في نفس الأمر على شيء ، فمثلهم في ذلك
كالسراب الذي يرى في القيعان من الأرض عن (9) بعد كأنه بحر طام.
__________
(1) في ف ، أ : "عز وجل".
(2) ذكره المزي في تحفة الأشراف برقم (9435) وعزاه للنسائي في المواعظ.
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) ورواه هناد في الزهد برقم (176) من طريق أبي معاوية عن عبد الرحمن بن إسحاق ،
به. وعبد الرحمن بن إسحاق ضعيف.
(5) المعجم الكبير للطبراني (10/248) وقال الحافظ ابن كثير عند تفسير الآية : 173
من سورة النساء : "هذا إسناد لا يثبت ، وإذا روي عن ابن مسعود موقوفا فهو
جيد".
(6) عند الآية : 17 ، والآية : 19.
(7) عند الآية : 17.
(8) في ف ، أ : "منهما".
(9) في ف : "من".
(6/70)
والقيعة :
جمع قاع ، كجار وجيرَةٍ. والقاع أيضًا : واحد القيعان ، كما يقال : جار وجيران.
وهي : الأرض المستوية المتسعة المنبسطة ، وفيه يكون السراب ، وإنما يكون ذلك بعد
نصف النهار. وأما الآل (1) فإنما يكون أول النهار ، يرى كأنه ماء بين السماء
والأرض ، فإذا رأى السراب من هو محتاج إلى الماء ، حسبه ماءً فقصده ليشرب منه ،
فلما انتهى إليه { لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا } ، فكذلك الكافر يحسب أنه قد عمل عملا
وأنه قد حَصَّل شيئًا ، فإذا وافى الله يوم القيامة وحاسبه عليها ، ونوقش على
أفعاله ، لم يجد له شيئًا بالكلية قد قُبل ، إما لعدم الإخلاص ، وإما لعدم سلوك
الشرع ، كما قال تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ
هَبَاءً مَنْثُورًا } [الفرقان : 23].
وقال هاهنا : { وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ
الْحِسَابِ }. وهكذا رُوي عن أُبي بن كعب ، وابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة وغير
واحد.
وفي الصحيحين (2) : أنه يقال يوم القيامة لليهود : ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون : كنا
نعبد عُزَيْر ابن الله. فيقال : كذبتم ، ما اتخذ الله من ولد ، ماذا تبغون ؟
فيقولون : أي رَبَّنَا ، عَطشنا فاسقنا. فيقال : ألا ترون ؟ فتمثل لهم النار كأنها
سراب يحطم بعضها بعضًا ، فينطلقون فيتهافتون فيها (3).
وهذا المثال مثال لذوي الجهل المركب. فأما أصحاب الجهل البسيط ، وهم الطَّماطم
الأغشام المقلدون لأئمة الكفر ، الصم البكم الذين لا يعقلون ، فمثلهم كما قال
تعالى : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ } : قال قتادة : وهو العميق. {
يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا
فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } أي : لم يقارب رؤيتها
من شدة الظلام ، فهذا مثل قلب الكافر الجاهل البسيط المقلد الذي لا يدري أين يذهب
، ولا [هو] (4) يعرف حال من يقوده ، بل كما يقال في المثل للجاهل : أين تذهب ؟ قال
: معهم. قيل : فإلى أين يذهبون ؟ قال : لا أدري.
وقال العوفي ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما : { يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ
مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ } يعني بذلك : الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر
، وهي كقوله : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى
أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [البقرة : 7] ، وكقوله (5) :
{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ
وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ
يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [الجاثية : 23].
وقال أُبيّ بن كعب في قوله : { ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } فهو يتقلب في
خمسة من الظلم : كلامه ظلمة ، وعمله ظلمة ، ومدخله ظلمة ، ومخرجه ظلمة ، ومصيره
يوم القيامة إلى الظلمات ، إلى النار.
وقال الربيع بن أنس ، والسُّدِّي نحو ذلك أيضًا.
وقوله : { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } أي :
من لم يهده الله فهو هالك جاهل حائر بائر كافر ، كما قال تعالى : { مَنْ يُضْلِلِ
اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ } [الأعراف : 186] وهذا [في] (6)
__________
(1) في أ : "الأول".
(2) في أ : "الصحيح".
(3) صحيح البخاري برقم (4581) وصحيح مسلم برقم (183) من حديث أبي سعيد الخدري ،
رضي الله عنه.
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في أ : "وقوله".
(6) زيادة من ف ، أ.
(6/71)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)
مُقابلة ما
قال في مثل المؤمنين : { يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ } فنسأل الله
العظيم أن يجعل في قلوبنا نورًا ، وعن أيماننا نورًا ، وعن شمائلنا نورًا ، وأن
يعظم لنا نورًا.
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ
وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَى
اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) }
يخبر تعالى أنه يُسَبِّحه من في السموات والأرض ، أي : من الملائكة والأناسي ،
والجان والحيوان ، حتى الجماد ، كما قال تعالى : { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ
السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ
بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا
} [الإسراء : 44].
وقوله : { وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ } أي : في حال طيرانها تسبح ربها وتعبده بتسبيح
ألهمها وأرشدها إليه ، وهو يعلم ما هي فاعلة ؛ ولهذا قال : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ
صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } أي : كل قد أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله ، عز
وجل.
ثم أخبر أنه عالم بجميع ذلك ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ؛ ولهذا (1) قال : {
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ }.
ثم أخبر تعالى : أن له ملك السموات والأرض ، فهو الحاكم المتصرف الذي لا معقب
لحكمه ، وهو الإله المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له. { وَإِلَى اللَّهِ
الْمَصِيرُ } أي : يوم القيامة ، فيحكم فيه بما يشاء ؛ { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } [النجم
: 31] ، فهو الخالق المالك ، ألا له الحكم في الدنيا والأخرى ، وله الحمد في
الأولى والآخرة ؟!.
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ
يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنزلُ مِنَ
السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ
وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ
(43) }
__________
(1) في ف ، أ : "ولذا".
(6/72)
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
{ يُقَلِّبُ
اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ
(44) }
يذكر تعالى أنه بقدرته يسوق السحاب أول ما ينشئها وهي ضعيفة ، وهو الإزجاء { ثُمَّ
يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ } أي : يجمعه بعد تفرقه ، { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا } أي :
متراكمًا ، أي : يركب بعضه بعضًا ، { فَتَرَى الْوَدْقَ } أي المطر { يَخْرُجُ
مِنْ خِلالِهِ } أي : من خَلَله. وكذا (1) قرأها ابن عباس والضحاك.
قال عبيد بن عمير الليثي : يبعث الله المثيرة فَتَقُمّ الأرض قمًا ، ثم يبعث الله
الناشئة فتنشئ السحاب ، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف بينه ، ثم يبعث [الله] (2)
اللواقح فتلقح السحاب. رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، رحمهما الله.
وقوله : { وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ } : قال بعض
النحاة : "من" الأولى : لابتداء الغاية ، والثانية : للتبعيض ، والثالثة
: لبيان الجنس. وهذا إنما يجيء على قول من ذهب من
__________
(1) في ف ، أ : "وكذلك".
(2) زيادة من ف.
(6/72)
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
المفسرين
إلى أن قوله : { مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ } ومعناه : أن في السماء جبالَ
بَرَد ينزل الله منها البرد. وأما من جعل الجبال ههنا عبارة (1) عن السحاب ، فإن
"من" الثانية عند هذا لابتداء الغاية أيضا ، لكنها بَدَل من الأولى ،
والله أعلم.
وقوله : { فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ } يحتمل أن
يكون المراد بقوله : { فَيُصِيبُ بِهِ } أي : بما ينزل من السماء من نوعي البرد
والمطر (2) فيكون قوله : { فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ } رحمة لهم ، {
وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ } أي : يؤخر عنهم الغيث.
ويحتمل أن يكون المراد بقوله : { فَيُصِيبُ بِهِ } أي : بالبرد نقمة على من يشاء
لما فيه من نثر ثمارهم وإتلاف زروعهم وأشجارهم. ويصرفه عمن يشاء [أي : ] (3) رحمة
بهم.
وقوله : { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ } أي : يكاد ضوء برقه من
شدته يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته.
وقوله { يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } أي : يتصرف فيهما ، فيأخذ من
طول هذا في قصر هذا حتى يعتدلا ثم يأخذ من هذا في هذا ، فيطول الذي كان قصيرًا ،
ويقصر الذي كان طويلا. والله هو المتصرف في ذلك بأمره وقهره وعزته وعلمه.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ } أي : لدليلا على عظمته تعالى ،
كما قال الله تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ } [آل عمران : 190]. وما بعدها
من الآيات الكريمات.
{ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى
بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى
أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(45) }.
يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم ، في خلقه أنواع [المخلوقات] (4). على
اختلاف أشكالها وألوانها ، وحركاتها وسكناتها ، من ماء واحد ، { فَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ } كالحية وما شاكلها ، { وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى
رِجْلَيْنِ } كالإنسان والطير ، { وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ }
كالأنعام وسائر الحيوانات ؛ ولهذا قال : { يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } أي :
بقدرته ؛ لأنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ؛ ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
{ لَقَدْ أَنزلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) }.
يقرر تعالى أنه أنزل في هذا القرآن من الحكم (5) والأمثال البينة المحكمة ، كثيرًا
(6) جدًا ، وأنه يرشد إلى تفهمها وتعقلها أولي الألباب والبصائر والنهى ؛ ولهذا
قال : { وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }
{ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى
فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)
وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ
مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ
مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ
يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ
وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) }
__________
(1) في ف ، أ : "كناية".
(2) في ف : "المطر والبرد".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في هـ : "من الحكم والحكم والأمثال". والمثبت من ف ، أ.
(6) في ف : "المحكمة ما هو كثير".
(6/73)
يخبر تعالى
عن صفات المنافقين ، الذين يظهرون خلاف ما يبطنون ، يقولون قولا بألسنتهم : {
آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ
مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } أي : يخالفون أقوالهم بأعمالهم ، فيقولون ما لا يفعلون ؛
ولهذا قال تعالى : { وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ }.
وقوله : { وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا
فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ } أي : إذا طلبوا إلى اتباع الهدى ، فيما أنزل الله
على رسوله ، أعرضوا عنه واستكبروا في أنفسهم عن اتباعه. وهذه كقوله : { أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا
أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ
أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا
بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى
الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } [النساء : 60 ،
61].
وفي الطبراني من حديث روح بن عطاء بن (1) أبي ميمونة ، عن أبيه ، عن الحسن ، عن
سَمُرَة مرفوعًا : "من دُعي إلى سلطان فلم يجب ، فهو ظالم لا حق له"
(2).
وقوله : { وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } ، أي :
وإذا كانت الحكومة لهم لا عليهم ، جاؤوا سامعين مطيعين وهو معنى قوله : {
مُذْعِنِينَ } وإذا كانت الحكومة عليه أعرض ودعا إلى غير الحق ، وأحب أن يتحاكم
إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم ليروج باطله ثَمّ. فإذعانه أولا لم يكن عن
اعتقاد منه أن ذلك هو الحق ، بل لأنه موافق لهواه ؛ ولهذا لما خالف الحقّ قصده ،
عدل عنه إلى غيره ؛ ولهذا قال تعالى : { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا
أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } يعني : لا يخرج
أمرهم عن أن يكون في القلوب مَرَض لازم لها ، أو قد عرض لها شك في الدين ، أو
يخافون أن يجور الله ورسوله عليهم في الحكم. وأيّا ما كان فهو كفر محض ، والله عليم
بكل منهم ، وما هو عليه منطو من هذه الصفات.
وقوله : { بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } أي : بل هم الظالمون الفاجرون ،
والله ورسوله مبرآن مما يظنون ويتوهمون من الحيف والجور ، تعالى الله ورسوله عن
ذلك.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا مبارك ، حدثنا
الحسن قال :
__________
(1) في ف ، أ : "عن".
(2) المعجم الكبير للطبراني (7/225) وقال الهيثمي في المجمع (4/198) : "فيه
روح بن عطاء ، وثقه ابن عدي وضعفه الأئمة".
(6/74)
كان الرجل
إذا كان بينه وبين الرجل منازعة ، فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُحِقّ
أذعن ، وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقضي له بالحق. وإذا أراد أن يظلم فدُعي
إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرض ، وقال : أنطلقُ إلى فلان. فأنزل الله هذه
الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من كان بينه وبين أخيه شيء ،
فدُعِي إلى حَكَم من حُكَّام المسلمين فأبى أن يجيب ، فهو ظالم لا حق له"
(1).
وهذا حديث غريب ، وهو مرسل.
ثم أخبر تعالى عن صفة المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله ، الذين لا يبغون دينا سوى
كتاب الله وسنة رسوله ، فقال : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا
إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا } أي : سمعًا وطاعة ؛ ولهذا وصفهم تعالى بفلاح ، وهو نيل المطلوب
والسلامة من المرهوب ، فقال : { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }.
وقال قتادة في هذه الآية : { أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } ذُكر لنا أن
عُبَادة بن الصامت - وكان عَقَبيَّا بدريا ، أحد نقباء الأنصار - أنه لما حضره
الموت قال لابن أخيه جنادة بن أبي أمية : ألا أنبئك بماذا عليك وَمَاذا لك ؟ قال :
بلى. قال : فإن عليك السمع والطاعة ، في عسرك ويسرك ، ومَنْشَطك ومكرهك ، وأثرةً
عليك. وعليك أن تقيم لسانك بالعدل ، وألا تنازع الأمرَ أهله ، إلا أن يأمروك
بمعصية الله بَوَاحا ، فما أمرت به من شيء يخالف كتاب الله ، فاتبع كتاب الله.
وقال قتادة : وَذُكر (2) لنا أن أبا الدرداء قال : لا إسلام إلا بطاعة الله ، ولا
خير إلا في جماعة ، والنصيحة لله ولرسوله ، وللخليفة وللمؤمنين عامة.
قال : وقد ذُكر لنا أن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، كان يقول : عُروة الإسلام
شهادةُ أن لا إله إلا الله ، وإقامُ الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والطاعة لمن ولاه
الله أمر المسلمين.
رواه ابن أبي حاتم ، والأحاديث والآثار في وجوب الطاعة لكتاب الله [وسنة رسوله ،
وللخلفاء الراشدين ، والأئمة إذا أمروا بطاعة الله] (3) كثيرة جدًا ، أكثر من أن
تحصر في هذا المكان.
وقوله { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : فيما أمراه به وترك (4) ما
نهياه (5) عنه ، { وَيَخْشَ اللَّهَ } فيما مضى من ذنوبه ، { وَيَتَقِهِ } فيما
يستقبل.
وقوله { فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } يعني : الذين فازوا بكل خير ، وأمنُوا
من كل شر (6) في الدنيا والآخرة.
__________
(1) ورواه عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن مرسلا كما في الدر المنثور (6/213).
(2) في ف : "وذكروا".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في أ : "ويترك".
(5) في ف ، أ : "نهيا".
(6) في ف ، أ : "سوء".
(6/75)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)
{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) }
(6/76)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
{ قُلْ
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ
مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا
عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) }
يقول تعالى مخبرا عن أهل النفاق ، الذين كانوا يحلفون للرسول صلى الله عليه وسلم
لئن أمرهم (1) بالخروج [في الغزو] (2) قال الله تعالى : { قُلْ لا تُقْسِمُوا } أي
: لا تحلفوا.
وقوله : { طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ } قيل : معناه (3) طاعتكم طاعة معروفة ، أي : قد
عُلمت طاعتكم ، إنما هي قول لا فعل معه ، وكلما حلفتم كذبتم ، كما قال تعالى : {
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ
لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } [التوبة : 96] ، وقال تعالى : {
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [المنافقون : 2] ، فهم من سجيتهم الكذب حتى فيما
يختارونه ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ
لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ
لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ
لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا
لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ
نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ } [الحشر : 11 ، 12]
وقيل : المعنى في قوله : { طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ } أي : ليكن أمركم طاعة معروفة ، أي
: بالمعروف من غير حَلف ولا إقسام ، كما يطيع الله ورسوله المؤمنون بغير حلف ،
فكونوا أنتم مثلهم.
{ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي : هو خبير بكم وبمن يطيع ممن يعصي
، فالحلف وإظهار الطاعة - والباطن بخلافه ، وإن راج على المخلوق (4) - فالخالق ، تعالى
، يعلم السر وأخفى ، لا يروج عليه شيء من التدليس ، بل هو خبير بضمائر عباده ، وإن
أظهروا خلافها.
ثم قال تعالى : { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } أي : اتبعوا
كتاب الله وسنة رسوله.
وقوله : { فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي : تتولوا عنه وتتركوا ما جاءكم به ، {
فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ } أي : إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة ، {
وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ } أي : من ذلك وتعظيمه والقيام بمقتضاه ، { وَإِنْ
تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } ، وذلك لأنه يدعو إلى صراط مستقيم { صِرَاطِ اللَّهِ
الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ
الأمُورُ } [الشورى : 53].
وقوله : { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } كقوله : {
فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [الرعد : 40] ، وقوله {
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } [الغاشية :
21 ، 22].
وقال وهب بن مُنَبِّه : أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل - يقال له :
شعياء - أن قم في بني إسرائيل فإني سأطلق لسانك بوحي. فقام فقال : يا سماء اسمعي ،
ويا أرض انصتي ، فإن الله يريد أن يقضي شأنًا ويدبر أمرًا هو منفذه ، إنه يريد أن
يحول الريف إلى الفلاة ، والآجام (5) في الغيطان ، والأنهار في الصحاري ، والنعمة
في الفقراء ، والملك في الرعاة ، ويريد أن يبعث أميا من الأميين ، ليس بفظ ولا
غليظ ولا سَخّاب في الأسواق ، لو يمر إلى جنب السراج لم يطفئه من سكينته ، ولو
يمشي على القصب اليابس لم يسمع من تحت قدميه. أبعثه مُبَشِّرا ونذيرًا ، لا يقول
__________
(1) في ف ، أ : "أمرتهم".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ف ، أ : "تقديره".
(4) في ف : "المحلوف".
(5) في أ : "الأجسام".
(6/76)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
الخنَا ،
أفتح به أعينا عُمْيًا ، وآذانًا صُمًّا ، وقلوبا غُلْفًا ، وأسَدِّده لكل أمر
جميل ، وأهب له كل خلق كريم ، وأجعل السكينة لباسه ، والبر شعاره ، والتقوى ضميره
، والحكمة منطقه ، والصدق والوفاء طبيعته ، والعفو والمعروف خلقه ، والحق شريعته ،
والعدل سيرته ، والهدى إمامه ، والإسلام ملته ، وأحمد اسمه ، أهْدِي به بعد
الضلالة ، وأعلِّم به من الجهالة ، وأرْفَعُ به بعد الخمَالة ، وأعرف به بعد
النُّكْرَة ، وأكثر به بعد القلة وأغني به بعد العَيلَة ، وأجمع به بعد الفرقة ،
وأؤلف به بين أمم متفرقة ، وقلوب مختلفة ، وأهواء متشتتة ، وأستنقذ به فئامًا من
الناس عظيما من الهَلَكة ، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف ،
وينهون عن المنكر ، موحدين مؤمنين مخلصين ، مصدقين بما جاءت به رُسُلي. رواه ابن
أبي حاتم (1).
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ
مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ
كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) }
هذا وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم (2). بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض ، أي
: أئمةَ الناس والولاةَ عليهم ، وبهم تصلح (3) البلاد ، وتخضع (4) لهم العباد ،
ولَيُبدلَنّ بعد خوفهم من الناس أمنا وحكما فيهم ، وقد فعل تبارك وتعالى ذلك. وله
الحمد والمنة ، فإنه لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه مكة
وخيبر والبحرين ، وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها. وأخذ الجزية من مَجُوس
هَجَر ، ومن بعض أطراف الشام ، وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر والإسكندرية - وهو
المقوقس - وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة ، الذي تَملَّك بعد أصْحَمة ، رحمه الله
وأكرمه.
ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة ، قام
بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق ، فَلَمّ شَعَث ما وَهَى عند (5) موته ، عليه
الصلاة والسلام (6) وأطَّدَ جزيرة العرب ومهدها ، وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد
فارس صحبة خالد بن الوليد ، رضي الله عنه ، ففتحوا طرفا منها ، وقتلوا خلقا من
أهلها. وجيشا آخر صحبة أبي عبيدة ، رضي الله عنه ، ومن معه من الأمراء إلى أرض
الشام ، وثالثًا صحبة عمرو بن العاص ، رضي الله عنه ، إلى بلاد مصر ، ففتح الله
للجيش الشامي في أيامه بُصرى ودمشق ومَخَاليفهما من بلاد حَوران وما والاها ،
وتوفاه الله عز وجل ، واختار له ما عنده من الكرامة. ومَنّ على الإسلام وأهله بأن
ألهم الصديق أن استخلف عمر الفاروق ، فقام في الأمر بعده قياما تاما ، لم يَدُر
الفلك بعد الأنبياء [عليهم السلام] (7) على مثله ، في قوة سيرته وكمال عدله. وتم
في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها ، وديار مصر إلى آخرها ، وأكثر إقليم فارس ،
وكَسَّر كسرى وأهانه غاية الهوان ، وتقهقر إلى أقصى مملكته ، وقَصَّر قيصر ،
وانتزع يده عن بلاد الشام فانحاز إلى قسطنطينة ، وأنفق أموالهما في سبيل الله ،
كما أخبر
__________
(1) وروي عن عبد الله بن سلام وكعب الأحبار كما في الشفا للقاضي عياض (1/15).
(2) في ف ، أ : "صلوات الله وسلامه عليه".
(3) في ف ، أ : "يصلح".
(4) في ف ، أ : "ويخضع".
(5) في ف : "بعد".
(6) في ف ، أ : "صلى الله عليه وسلم".
(7) زيادة من ف ، أ.
(6/77)
بذلك ووعد
به رسول الله ، عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة.
ثم لما كانت الدولة العثمانية ، امتدت المماليك (1) الإسلامية إلى أقصى مشارق
الأرض ومغاربها ، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك : الأندلس ، وقبرص ، وبلاد
القيروان ، وبلاد سَبْتَةَ مما يلي البحر المحيط ، ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد
الصين ، وقتل كسرى ، وباد ملكه بالكلية. وفتحت مدائن العراق ، وخراسان ، والأهواز
، وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدا ، وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان ، وجُبي
الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه.
وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن ؛ ولهذا ثبت في الصحيح (2)
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن الله زَوَى لي الأرض ، فرأيت
مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زُوي لي منها" (3) فها نحن نتقلب فيما
وعدنا الله ورسوله ، وصدق الله ورسوله ، فنسأل (4) الله الإيمان به ، وبرسوله ،
والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا.
قال الإمام مسلم بن الحجاج : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن عبد الملك بن
عمير ، عن جابر بن سَمُرَة قال : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول :
"لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا". ثم تكلم النبي صلى
الله عليه وسلم بكلمة خفيت عني (5) فسألت أبي : ماذا قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم ؟ فقال : "كلهم من قريش".
ورواه البخاري من حديث شعبة ، عن عبد الملك بن عمير ، به (6)
وفي رواية لمسلم أنه قال ذلك عشية رجم ماعز بن مالك ، وذكر معه أحاديث أخر (7)
وهذا الحديث فيه دلالة على أنه لا بد من وجود اثني عشر خليفة عادلا وليسوا هم
بأئمة الشيعة الاثني عشر فإن كثيرًا من أولئك لم يكن إليهم من الأمر شيء ، فأما
هؤلاء فإنهم يكونون من قريش ، يَلُون فيعدلون. وقد وقعت البشارة بهم في الكتب
المتقدمة ، ثم لا يشترط أن يكون متتابعين ، بل يكون وجودهم في الأمة متتابعا
ومتفرقا ، وقد وُجِد منهم أربعة على الولاء ، وهم أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ،
ثم علي ، رضي الله عنهم. ثم كانت (8) بعدهم (9) فترة ، ثم وُجِد منهم ما شاء الله
، ثم قد يُوجَد منهم مَن بقي في وقت يعلمه الله. ومنهم المهدي الذي يطابق اسمه اسم
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنيته كنيته ، يملأ الأرض عدلا وقسطا ، كما ملئت
جورًا وظلما.
وقد روى الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، من حديث سعيد بن جُمْهان
، عن سَفِينة - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم (10) : الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم
__________
(1) في جـ ، أ : "الممالك".
(2) في أ : "الصحيحين".
(3) صحيح مسلم برقم (2889) من حديث ثوبان ، رضي الله عنه.
(4) في ف : "ونسأل".
(5) في ف ، أ : "علي".
(6) صحيح مسلم برقم (1821) وصحيح البخاري برقم (7222).
(7) صحيح مسلم برقم (1822).
(8) في ف ، أ : "كان".
(9) في ف ، أ : "بينهم".
(10) في ف ، أ : "عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال" والمثبت من المسند وسنني أبي داود والترمذي.
(6/78)
يكون ملكا
عَضُوضا" (1).
وقال الربيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ
كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ
الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا }
(2) الآية ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة (3) نحوا من عشر
سنين ، يدعون إلى الله وحده ، وعبادته وحده لا شريك له سرًا وهم خائفون ، لا
يؤمرون بالقتال ، حتى أمروا بعدُ بالهجرة إلى المدينة ، فقدموا المدينة ، فأمرهم
الله بالقتال ، فكانوا بها خائفين يُمْسُون في السلاح ويصبحون في السلاح ،
فَغَيَّرُوا (4) بذلك ما شاء الله. ثم إن رجلا من أصحابه (5) قال : يا رسول الله ،
أبدَ الدهر نحن خائفون هكذا ؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا [فيه] (6) السلاح
؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لن تَغْبروا إلا يسيرا حتى يجلس
الرجل منكم في الملأ العظيم مُحْتَبِيًا ليست فيهم حديدة". وأنزل الله هذه
الآية ، فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب ، فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله ، عز
وجل ، قبض نبيه صلى الله عليه وسلم فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر
وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا ، فأدخل [الله] (7) عليهم الخوف فاتخذوا الحَجَزَةَ
والشرط وغَيّروا ، فَغُيَّر بهم.
وقال بعض السلف : خلافة أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، حق في كتابه ، ثم تلا هذه
الآية.
وقال البراء بن عازب : نزلت هذه الآية ، ونحن في خوف شديد.
وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى : { وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ
مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ
وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ } [الأنفال : 26].
وقوله : { كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } كما قال تعالى عن موسى ،
عليه السلام ، أنه قال لقومه : { عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ
وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [الأعراف : 129]
، وقال تعالى : { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي
الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ
لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا
كَانُوا يَحْذَرُونَ } [القصص : 5 ، 6].
وقوله : { وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا } ، كما قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لعديّ بن حاتم ، حين وفد عليه : "أتعرف الحيرة ؟" قال
(8) : لم أعرفها ، ولكن قد (9) سمعت بها. قال : "فوالذي نفسي بيده ، ليُتمنّ
الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحِيرَة حتى
__________
(1) المسند (5/220) وسنن أبي داود برقم (4646) وسنن الترمذي برقم (2226) والنسائي
في السنن الكبرى برقم (8155) وقال الترمذي : "حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث
سعيد بن جمهان" ولم ترد لفظة : "عضوض" في هذه المصادر ، وإنما وردت
في حديث آخر عن أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
: "إن الله تعالى بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة ، وكائنا خلافة ورحمة ، وكائنا
ملكا عضوضا ، وكائنا عنوة وجبرية وفسادا في الأمة... الحديث" أخرجه البيهقي
في السنن الكبرى (8/159).
(2) في ف : "لنستخلفنهم".
(3) في ف ، أ : " بمكة وأصحابة".
(4) في ف : "فصبروا" وفي أ : "فعيروا".
(5) في ف ، أ : "الصحابة".
(6) زيادة من أ ، والدر المنثور 5/55.
(7) زيادة من أ ، والدر المنثور 5/55.
(8) في ف : "قلت له".
(9) في ف ، أ : "لم أرها وقد"
(6/79)
تطوف بالبيت
في غير جوار أحد ، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز". قلت : كسرى بن هرمز ؟ قال :
"نعم ، كسرى بن هرمز ، وليُبذَلَنّ المالُ حتى لا يقبله أحد". قال عدي
بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد ، ولقد كنت
فيمن افتتح (1) كنوز كسرى بن هرمز ، والذي نفسي بيده ، لتكونن الثالثة ؛ لأن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قد قالها (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان ، عن أبي سلمة ، عن الربيع بن
أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"بشر هذه الأمة بالسَّناء والرفعة ، والدين والنصر والتمكين في الأرض ، فمن
عمل منهم عمل الآخرة للدنيا ، لم يكن له في الآخرة نصيب" (3).
وقوله : { يعبدونني لا يشركون بي شيئا } قال الإمام أحمد :
حدثنا عفان ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة عن أنس ، أن معاذ بن جبل حدثه قال : بينا
(4) أنا رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا آخرة الرَّحْل ،
قال : "يا معاذ" ، قلت : لبيك يا رسول الله وسَعْديك. قال : ثم سار ساعة
، ثم قال : "يا معاذ بن جبل " ، قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك. [ثم
سار ساعة ، ثم قال : "يا معاذ بن جبل" ، قلت : لبيك يا رسول الله
وسعديك"] (5). قال : "هل تدري ما حق الله على العباد" ؟ قلت : الله
ورسوله أعلم. قال : "[فإن] (6) حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به
شيئًا". قال : ثم سار ساعة. ثم قال : "يا معاذ بن جبل" ، قلت :
لبيك يا رسول الله وسعديك. قال : "فهل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا
ذلك" ؟ ، قال : قلت : الله ورسوله أعلم. قال : "فإن حق العباد على الله
أن لا يعذبهم".
أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة (7).
وقوله : { وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } أي : فمن
خرج عن طاعتي بعد ذلك ، فقد فَسَقَ عن أمر ربه وكفى بذلك ذنبًا عظيما. فالصحابة ،
رضي الله عنهم ، لما كانوا أقوم الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأوامر الله
عز وجل ، وأطوعهم لله - كان نصرهم بحسبهم ، وأظهروا كلمة الله في المشارق والمغارب
، وأيدهم تأييدًا عظيما ، وتحكموا في سائر العباد والبلاد. ولما قَصَّر الناس
بعدهم في بعض الأوامر ، نقص ظهورهم بحسبهم ، ولكن قد ثبت في الصحيحين ، من غير وجه
، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين
على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى اليوم (8) القيامة" وفي
رواية : "حتى يأتي أمر الله ، وهم كذلك (9) ". وفي رواية : "حتى
يقاتلوا الدجال". وفي رواية : "حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم
ظاهرون". وكل
__________
(1) في أ : "فتح".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (3595).
(3) المسند (5/134).
(4) في أ : "بينما".
(5) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(6) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(7) المسند (5/242) وصحيح البخاري برقم (5967) وصحيح مسلم برقم (30).
(8) في ف ، أ : "يوم".
(9) في ف ، أ : "على ذلك".
(6/80)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
هذه
الروايات صحيحة ، ولا تعارض بينها.
{ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ
وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) }.
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بإقام الصلاة ، وهي عبادة الله وحده لا شريك له ،
وإيتاء الزكاة ، وهي : الإحسان إلى المخلوقين ضعفائهم وفقرائهم ، وأن يكونوا في
ذلك مطيعين للرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، أي : سالكين وراءه فيما به أمرهم ،
وتاركين (1) ما عنه زجرهم ، لعل الله يرحمهم بذلك. ولا شك أن من فعل ذلك أن الله
سيرحمهم ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : { أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ }
[التوبة : 71].
وقوله { لا تَحْسَبَنَّ } أي : [لا تظن] (2) يا محمد { الَّذِينَ كَفَرُوا } أي :
خالفوك وكذبوك ، { مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ } أي : لا يعجزون الله ، بل الله قادر
عليهم ، وسيعذبهم على ذلك أشد العذاب ؛ ولهذا قال : { وَمَأْوَاهُمُ } أي : في
الدار الآخرة { النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي : بئس المآل مآلُ الكافرين ،
وبئس القرار وبئس المهاد.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ
مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ
وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا
عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) }
__________
(1) في ف : "وترك".
(2) زيادة من ف ، أ.
(6/81)
وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
{ وَإِذَا
بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ
نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ
مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ (60) }
هذه الآيات الكريمة اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض. وما تقدَّم في أول
السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض. فأمر الله تعالى المؤمنين أن يستأذنَهم
خَدَمُهم مما ملكَت أيمانهم وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أحوال :
الأول من قبل صلاة الغداة ؛ لأن الناس إذ ذاك يكونون نيامًا في فرشهم { وَحِينَ
تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ } أي : في وقت القيلولة ؛ لأن الإنسان قد
يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله ، { وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ } لأنه وقت
النوم ، فيُؤمَرُ الخدمُ والأطفال ألا يهجمُوا على أهل البيت في هذه الأحوال ، لما
يخشى من أن يكون الرجل
(6/81)
على أهله ،
ونحو ذلك من الأعمال ؛ ولهذا قال : { ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ
وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ } أي : إذا دخلوا في حال غير هذه الأحوال فلا
جناح عليكم في تمكينكم إياهم من ذلك ، ولا عليهم إن رأوا شيئا في غير تلك الأحوال
؛ لأنه قد أذن لهم في الهجوم ، ولأنهم { طَوَّافُونَ } عليكم ، أي : في الخدمة
وغير ذلك ، ويغتفر في الطوافين ما لا يغتفر في غيرهم ؛ ولهذا رَوَى الإمام مالك
وأحمد بن حنبل وأهل السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الهِرَّة :
"إنها ليست بنجَس ؛ إنها من الطوافين عليكم - أو - والطوافات" (1).
ولما كانت هذه الآية محكمة ولم تنسخ بشيء ، وكان عمل الناس بها قليلا جدًا ، أنكر
عبد الله بن عباس ذلك على الناس ، كما قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر ، حدثني عبد الله بن
لَهِيعة ، حدثني عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جُبَيْر قال : قال ابن عباس : ترك
الناس ثلاث آيات فلم يعملوا بهن : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا
الْحُلُمَ [مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ] } (2) إلى آخر الآية ، والآية التي في سورة
النساء : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ } [النساء : 8] ، والآية التي في الحجرات :
{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات : 13]
وروي أيضًا من حديث إسماعيل بن مسلم - وهو ضعيف - عن عمرو بن دينار ، عن عطاء بن
أبي رَبَاح ، عن ابن عباس قال : غلب الشيطان الناس على ثلاث آيات ، فلم يعملوا بهن
: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ } إلى آخر الآية.
وقال أبو داود : حدثنا ابن الصباح بن سفيان وابن عبدة - وهذا حديثه - أخبرنا سفيان
، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، سمع ابن عباس يقول : لم يؤمن بها أكثر (3) الناس -
آية الإذن - وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن علي.
قال أبو داود : وكذلك رواه عطاء ، عن ابن عباس يأمر به (4).
وقال الثوري ، عن موسى بن أبي عائشة سألت الشعبي : { لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ، قال : لم تنسخ. قلت : فإن الناس لا يعملون بها. فقال :
الله المستعان.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الربيع بن سليمان ، حدثنا ابن وهب ، أخبرنا سليمان بن
بلال ، عن عمرو بن أبي عَمرو ، عن عكرمة عن ابن عباس ؛ أن رجلين سألاه عن
الاستئذان في الثلاث عورات التي أمر الله بها في القرآن ، فقال ابن عباس : إن الله
ستِّير يحب الستر ، كان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ولا حِجال في بيوتهم ،
فربما فاجأ الرجلَ خادمُه أو ولده أو يتيمه في حجره ،
__________
(1) الموطأ (1/23) والمسند (5/296) وسنن أبي داود برقم (75) وسنن الترمذي برقم
(92) وسنن النسائي (1/55) وسنن ابن ماجه برقم (367).
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ف ، أ : "كثير من".
(4) سنن أبي داود برقم (5191).
(6/82)
وهو على
أهله ، فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمَّى الله. ثم جاء الله بعد
بالستور (1) ، فبسط [الله] (2) عليهم الرزق ، فاتخذوا الستور واتخذوا الحِجَال ،
فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به.
وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس ، ورواه أبو داود ، عن القَعْنَبِيّ ، عن الدَّرَاوَرْدِيّ
، عن عمرو بن أبي عَمْرو به (3).
وقال السُّدِّي : كان أناس من الصحابة ، رضي الله عنهم ، يحبون أن يُوَاقعوا
نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا ثم يخرجوا إلى الصلاة ، فأمرهم الله أن يأمروا
المملوكين والغلمان ألا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن.
وقال مقاتل بن حَيَّان : بلغنا - والله أعلم - أن رجلا من الأنصار وامرأته أسماء
بنت مُرْشدة صنعا للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما ، فجعل الناس يدخلون بغير إذن ،
فقالت أسماء : يا رسول الله ، ما أقبح هذا! إنه ليدخل على المرأة وزوجها وهما في
ثوب واحد ، غلامهما بغير إذن! فأنزل الله في ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ
يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ [ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ] } (4) الآية.
ومما يدل على أنها محكمة لم تنسخ ، قوله : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ
الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }.
ثم قال تعالى : {. وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ
فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } يعني : إذا بلغ
الأطفال الذين إنما كانوا يستأذنون في العورات الثلاث ، إذا بلغوا الحلم ، وجب
عليهم أن يستأذنوا على كل حال ، يعني بالنسبة إلى أجانبهم وإلى الأحوال التي يكون
الرجل على امرأته ، وإن لم يكن في الأحوال الثلاث.
قال الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير : إذا كان الغلام رباعيا فإنه يستأذن في
العورات الثلاث على أبويه ، فإذا بلغ الحلم فليستأذن على كل حال. وهكذا قال سعيد
بن جبير.
وقال في قوله : { كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } يعني : كما
استأذن الكبار من ولد الرجل وأقاربه.
وقوله : { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ } قال سعيد بن جُبَيْر ، ومُقَاتل بن
حَيَّان ، وقتادة ، والضحاك : هن اللواتي انقطع عنهن الحيض ويئسن من الولد ، {
اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا } أي : لم يبق لهن تَشوُّف إلى التزويج ، {
فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ
بِزِينَةٍ } أي : ليس عليها من الحرج في التستر كما على غيرها من النساء.
قال أبو داود : حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثني علي بن الحسين بن واقد ، عن أبيه
، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة عن ابن عباس : { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ
مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } الآية [النور : 31] فنسخ ، واستثنى من ذلك { وَالْقَوَاعِدُ
مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا } الآية (5)
قال ابن مسعود [في قوله] (6) : { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ
ثِيَابَهُنَّ } قال : الجلباب ، أو
__________
(1) في ف : "بعده بالستور" وفي أ : "بعده الستر".
(2) زيادة من أ ، والدر المنثور 5/56.
(3) سنن أبي داود برقم (5192).
(4) زيادة من أ.
(5) سنن أبي داود برقم (4111).
(6) زيادة من أ.
(6/83)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
الرداء :
وكذا رُوي عن ابن عباس ، وابن عمر ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبي الشعثاء (1)
وإبراهيم النَّخَعِيّ ، والحسن ، وقتادة ، والزهري ، والأوزاعي ، وغيرهم.
وقال أبو صالح : تضع الجلباب ، وتقوم بين يدي الرجل في الدرع والخمار.
وقال سعيد بن جُبَيْر وغيره ، في قراءة عبد الله بن مسعود : "أن يضعن من
ثيابهن" وهو الجلباب من فوق الخمار فلا بأس أن يضعن عند غريب أو غيره ، بعد
أن يكون عليها خمار صَفيق.
وقال سعيد بن جبير : { غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ } يقول : لا يتبرجن بوضع
الجلباب ، أن يرى ما عليها من الزينة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عبيد الله ، حدثنا ابن المبارك ،
[حدثني سَوَّار بن ميمون ، حدثتنا طلحة بنت عاصم ، عن أم المصاعن ، عن عائشة ، رضي
الله عنها ، أنها قالت : دخلت عليّ] (2) فقلت : يا أم المؤمنين ، ما تقولين في
الخضاب ، والنفاض ، والصباغ ، والقُرطين ، والخلخال ، وخاتم الذهب ، وثياب الرقاق
؟ فقالت : يا معشر النساء ، قصتكن (3) كلها واحدة ، أحل الله لكن الزينة غير
متبرجات. أي : لا يحلّ لكنّ أن يَرَوْا منكن محرما.
وقال السدي : كان شريك لي يقال له : "مسلم" ، وكان مولى لامرأة حذيفة بن
اليمان ، فجاء يوما إلى السوق وأثر الحنّاء في يده ، فسألته عن ذلك ، فأخبرني أنه
خَضَب رأس مولاته - وهي امرأة حذيفة - فأنكرت ذلك. فقال : إن شئت أدخلتك عليها ؟
فقلت : نعم. فأدخلني عليها ، فإذا امرأة جليلة ، فقلت : إن مسلما حدثني أنه خضب
رأسك ؟ فقالت : نعم يا بني ، إني من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحًا ، وقد قال
الله في ذلك ما سمعت.
وقوله : { وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ } أي : وترك وضعهن لثيابهن - وإن
كان جائزًا - خير وأفضل لهن ، والله سميع عليم.
{ لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى
الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ
بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ
بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ
بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ
أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ
أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ
الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) }
اختلف المفسرون - رحمهم الله - في المعنى الذي رفع من أجله الحرج عن الأعمى
والأعرج والمريض هاهنا ، فقال عطاء الخراساني ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : نزلت
في الجهاد.
__________
(1) في أ : "الشعبي".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في أ : "فصلن".
(6/84)
وجعلوا هذه
الآية هاهنا كالتي في سورة الفتح (1) وتلك في الجهاد لا محالة ، أي : أنهم لا إثم
عليهم في ترك الجهاد ؛ لضعفهم وعجزهم ، وكما قال تعالى في سورة براءة : { لَيْسَ
عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا
يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ
مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ
لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا
وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ }
[التوبة : 91 ، 92].
وقيل : المراد [هاهنا] (2) أنهم كانوا يتحرجون من الأكل مع الأعمى ؛ لأنه لا يرى
الطعام وما فيه من الطيبات ، فربما سبقه غيره إلى ذلك. ولا مع الأعرج ؛ لأنه لا
يتمكن من الجلوس ، فيفتات عليه جليسُه ، والمريض لا يستوفي من الطعام كغيره ،
فكرهوا أن يؤاكلوهم لئلا يظلموهم ، فأنزل الله هذه الآية رخصة في ذلك. وهذا قول
سعيد بن جبير ، ومِقْسَم.
وقال الضحاك : كانوا قبل المبعث يتحرجون من الأكل مع هؤلاء تقذرًا وتَقَزُّزًا ،
ولئلا يتفضلوا عليهم ، فأنزل الله هذه الآية.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد في قوله تعالى :
{ لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ } الآية قال : كان الرجل يذهب بالأعمى أو الأعرج
أو المريض إلى بيت أبيه أو بيت أخيه ، أو بيت أخته ، أو بيت عمته ، أو بيت خالته.
فكان الزَّمنى يتحرجون (3) من ذلك ، يقولون : إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم (4).
فنزلت هذه الآية رخصةً لهم (5).
وقال السُّدّي : كان الرجل يدخل بيت أبيه ، أو أخيه أو ابنه ، فتُتْحفه المرأة
بالشيء من الطعام ، فلا يأكل من أجل أن رَبَّ البيت ليس ثَمّ. فقال الله تعالى : {
لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ
حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
آبَائِكُمْ } إلى قوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا
أَوْ أَشْتَاتًا }.
وقوله تعالى : { وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ } ،
إنما ذَكَر هذا - وهو معلوم - ليعطفَ عليه غيره في اللفظ ، وليستأديه (6) ما بعده
في الحكم. وتضمن هذا بيوت الأبناء ؛ لأنه لم ينص عليهم. ولهذا استدل بهذا من ذهب
إلى أنَّ مال الولد بمنزلة مال أبيه ، وقد جاء في المسند والسنن ، من غير وجه ، عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "أنت ومالك لأبيك" (7)
وقوله : { أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ } ، إلى قوله {
أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } ، هذا ظاهر. وقد يستدل به من يوجب نفقة الأقارب
بعضهم على بعض ، كما هو مذهب[الإمام] (8) أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل ، في
المشهور عنهما.
__________
(1) عند الآية : 17.
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : "يحرجون".
(4) في أ : "عشيرتهم".
(5) تفسير عبد الرزاق (2/53).
(6) في أ : "ولا يساوي".
(7) المسند (2/179) وسنن أبي داود برقم (3530) وسنن ابن ماجه برقم (2292) من حديث
عبد الله بن عمرو بن العاص ، رضي الله عنهما.
(8) زيادة من ف ، أ.
(6/85)
وأما قوله :
{ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } فقال سعيد بن جُبَير ، والسُّدِّي : هو خادم
الرجل من عبد وقَهْرَمان ، فلا بأس أن يأكل مما استودعه من الطعام بالمعروف.
وقال الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كان المسلمون
يرغبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيدفعون مفاتحهم إلى
ضُمَنائهم ، ويقولون : قد أحللنا لكم أن تأكلوا ما احتجتم إليه. فكانوا يقولون :
إنه لا يحل لنا أن نأكل ؛ إنهم أذنوا لنا عن غير طيب أنفسهم ، وإنما نحن أمناء.
فأنزل الله : { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ }.
وقوله : { أَوْ صَدِيقِكُمْ } أي : بيوت أصدقائكم وأصحابكم ، فلا جناح عليكم في
الأكل منها ، إذا علمتم أن ذلك لا يَشُقُّ عليهم ولا يكرهون ذلك.
وقال قتادة : إذا دخلت بيت صديقك فلا بأس أن تأكل بغير إذنه.
وقوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا }
، قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية : وذلك لما أنزل الله : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ
} [النساء : 29] قال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ،
والطعام هو أفضل من الأموال ، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد. فكف الناسُ عن
ذلك ، فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَى الأعْمَى } (1) إلى قوله : { أَوْ صَدِيقِكُمْ
} (2) ، وكانوا أيضًا يأنفون ويتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده ، حتى يكون معه
غيره ، فرخص الله لهم في ذلك ، فقال : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ
تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا }.
وقال قتادة : وكان هذا الحي من بني كنانة ، يرى أحدهم أن مخزاة عليه أن يأكل وحده
في الجاهلية ، حتى إن كان الرجلُ لَيَسوقُ الذُّودَ الحُفَّل وهو جائع ، حتى يجد
من يؤاكله ويشاربه ، فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا
جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا }.
فهذه رخصة من الله تعالى في أن يأكل الرجل وحده ، ومع الجماعة ، وإن كان الأكل مع
الجماعة أفضل وأبرك ، كما رواه الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا
الوليد بن مسلم ، عن وَحْشيّ بن حَرْب ، عن أبيه ، عن جده ؛ أنّ رجلا قال للنبيّ
صلى الله عليه وسلم : إنا نأكلُ ولا نشبَع. قال : "فلعلكم تأكلون متفرقين ،
اجتمعوا على طعامكم ، واذكروا اسم الله يُبَاركْ لكم فيه".
ورواه أبو داود وابن ماجه ، من حديث الوليد بن مسلم ، به (3)
وقد رَوَى ابن ماجه أيضًا ، من حديث عمرو بن دينار القهرماني ، عن سالم ، عن أبيه
، عن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "كلوا جميعًا ولا
تَفَرّقُوا ؛ فإن البركة مع الجماعة". (4)
وقوله : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } قال سعيد
بن جبير ، والحسن البصري ،
__________
(1) بعدها في ف ، أ : "ولا على الأعرج حرج".
(2) قبلها في ف ، أ : "أو ما ملكتم مفاتحه".
(3) المسند (3/501) وسنن أبي داود برقم (3764) وسنن ابن ماجه برقم (3286).
(4) سنن ابن ماجه برقم (3287) وقال البوصيري في الزوائد (3/77) : "هذا إسناد
ضعيف".
(6/86)
وقتادة ،
والزهري : فليسلم بعضكم على بعض.
وقال ابن جُرَيْج : حدثنا أبو الزبير : سمعتُ جابر بن عبد الله يقول : إذا دخلتَ
على أهلك ، فسَلِّمْ عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة. قال : ما رأيته إلا
يوجبه.
قال ابن جريج : وأخبرني زياد ، عن ابن طاوس أنه كان يقول : إذا دخلَ أحدكم بيته ،
فليسلم.
قال ابن جُرَيْج : قلت لعطاء : أواجب إذا خرجت ثم دخلت أن أسلِّم عليهم ؟ قال : لا
ولا آثر وجوبه عن أحد ، ولكن هو أحبُّ إلي ، وما أدعه إلا نابيًا (1)
وقال مجاهد : إذا دخلت المسجد فقل : السلام على رسول الله. وإذا دخلت على أهلك
فسلِّمْ عليهم ، وإذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد فقل : السلام علينا وعلى عباد الله
الصالحين.
وروى الثوري ، عن عبد الكريم الجَزَريّ ، عن مجاهد : إذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد
فقل : بسم الله ، والحمد لله ، السلام علينا من ربنا ، السلام علينا وعلى عباد
الله الصالحين.
وقال قتادة : [إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم ، وإذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد ، فقل
: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين] (2) فإنه كان يؤمر بذلك ، وحُدّثنا أن
الملائكة ترد عليه. وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا
عَوْبَدُ بن أبي عمران الجوني ، عن أبيه ، عن أنس قال : أوصاني النبيّ (3) صلى
الله عليه وسلم بخمس خصال ، قال : "يا أنس ، أسبغ الوضوء يُزَد في عمرك ،
وسَلّم على من لقيك من أمتي تكْثُر حسناتك ، وإذا دخلت - يعني : بيتك - فسلم على
أهل بيتك ، يكثر خير بيتك ، وصل صلاة الضُّحى فإنها صلاة الأوابين قبلك. يا أنس ،
ارحم الصغير ، ووقِّر الكبير ، تَكُنْ من رفقائي يوم القيامة". (4)
وقوله : { تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } قال محمد بن
إسحاق : حدثني داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه كان يقول : ما أخذت
التشهدَ إلا من كتاب الله ، سمعت الله يقول : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا
فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً
طَيِّبَةً } ، فالتشهد في الصلاة : التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله ، أشهد
أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، السلام عليك أيها النبي ورحمة
الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. ثم يدعو لنفسه ويسلم.
هكذا رواه ابن أبي حاتم ، من حديث ابن إسحاق.
والذي في صحيح مسلم ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف هذا
(5) ، والله أعلم.
__________
(1) في ف ، أ : "ناسيا".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ف : "رسول الله".
(4) ورواه ابن عدي في الكامل (5/382) من طريق موسى عن عويد بن أبي عمران الجوني ،
به. ونقل عن البخاري : "عويد بن أبي عمران عن أبيه منكر الحديث" ثم قال
ابن عدي : "وعويد يبن على حديثه الضعف".
(5) صحيح مسلم برقم (403) ولفظه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد
كما يعلمنا السورة من القرآن ، فكان يقول : "التحيات المباركات الصلوات
الطيبات لله ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى
عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله".
(6/87)
وقوله : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } لما ذكر تعالى ما في السورة الكريمة من الأحكام المحكمة والشرائع المتقنة المبرمة ، نَبَّه تعالى على أنه يُبَيّن لعباده الآيات بيانًا شافيًا ، ليتدبروها ويتعقلوها.
(6/88)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
{ إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى
أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا
اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) }.
وهذا أيضًا أدب أرشد الله عبادَه المؤمنين إليه ، فكما أمرهم بالاستئذان عند
الدخول ، كذلك أمرهم بالاستئذان عند الانصراف - لا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع
الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، من صلاة جمعة أو (1) عيد أو (2) جماعة ، أو
اجتماع لمشورة ونحو ذلك - أمرهم الله تعالى ألا ينصرفوا عنه والحالة هذه إلا بعد
استئذانه ومشاورته. وإن من يفعل ذلك فهو من المؤمنين الكاملين.
ثم أمر رسوله - صلوات الله وسلامه عليه - إذا استأذنه أحد منهم في ذلك أن يأذن له
، إن شاء ؛ ولهذا قال : { فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }.
وقد قال أبو داود : حدثنا أحمد بن حَنْبَل ومُسَدَّد ، قالا حدثنا بشر - هو ابن
المفضل - عن عَجْلان عن سعيد المَقْبُرِيّ ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلِّم ،
فإذا أراد أن يقوم فليسلِّم ، فليست الأولى بأحق من الآخرة".
وهكذا رواه الترمذي والنسائي ، من حديث محمد بن عجلان ، به (3). وقال الترمذي :
حسن.
{ لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ
يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) }.
قال الضحاك ، عن ابن عباس : كانوا يقولون : يا محمد ، يا أبا القاسم ، فنهاهم الله
عز وجل ، عن ذلك ، إعظامًا لنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه (4) قال : فقالوا : يا
رسول الله ، يا نبي الله. وهكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جُبَير.
وقال قتادة : أمر الله أن يهاب نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأن يُبَجَّل وأن يعظَّم
وأن يسود.
__________
(1) في ف : "و".
(2) في ف : "و".
(3) سنن أبي داود برقم (5208) وسنن الترمذي برقم (2706) والنسائي في السنن الكبرى
برقم (10201).
(4) في ف ، أ : "صلى الله عليه وسلم".
(6/88)
وقال مقاتل
[بن حَيَّان] (1) في قوله : { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ
كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } يقول : لا تُسَمّوه إذا دَعَوتموه : يا محمد ، ولا
تقولوا : يا بن عبد الله ، ولكن شَرّفوه فقولوا : يا نبي الله ، يا رسول الله (2).
وقال مالك ، عن زيد بن أسلم في قوله : { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ
بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } قال : أمرهم الله أن يشرِّفوه.
هذا قول. وهو الظاهر من السياق ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا } [البقرة : 104]
، وقال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ
صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ
أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ } إلى قوله : { إِنَّ
الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ }
[الحجرات : 2 - 5]
فهذا كله من باب الأدب [في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم والكلام معه وعنده كما
أمروا بتقديم الصدقة قبل مناجاته] (3)
والقول الثاني في ذلك أن المعنى في : { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ
بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } أي : لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره
كدعاء غيره ، فإن دعاءه مستجاب ، فاحذروا أن يدعو عليكم فتهلكوا. حكاه ابن أبي
حاتم ، عن ابن عباس ، والحسن البصري ، وعطية العَوفي ، والله (4) أعلم.
وقوله : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا }
قال مقاتل بن حَيَّان : هم المنافقون ، كان يثقل عليهم الحديث في يوم الجمعة -
ويعني بالحديث الخطبة - فيلوذون ببعض الصحابة - أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم -
حتى يخرجوا من المسجد ، وكان لا يصلح للرجل أن يخرج من المسجد إلا بإذن من النبيّ
صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة ، بعدما يأخذ في الخطبة ، وكان إذا أراد أحدهم
الخروجَ أشارَ بإصبعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فيأذن له من غير أن يتكلم
الرجل ؛ لأن الرجل منهم كان إذا تكلم والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب ، بطلتْ
جُمعته.
قال السُّدِّي كانوا إذا كانوا معه في جماعة ، لاذ بعضهم ببعض ، حتى يتغيبوا عنه ،
فلا يراهم.
وقال قتادة في قوله : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ
لِوَاذًا } ، يعني : لواذا [عن نبي الله وعن كتابه.
وقال سفيان : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا
} قال : من الصف. وقال مجاهد في الآية : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ
يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا } ] (5) قال : خلافًا.
وقوله : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } أي : عن أمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، سبيله هو (6)
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف : "يا رسول الله ، يا نبي الله".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في ف ، أ : "فالله".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في ف : "وهو سبيله".
(6/89)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
ومنهاجه
وطريقته [وسنته] (1) وشريعته ، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله ، فما وافق
ذلك قُبِل ، وما خالفه فهو مَرْدُود على قائله وفاعله ، كائنا ما كان ، كما ثبت في
الصحيحين وغيرهما ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من عمل
عَمَلا ليس عليه أمرنا فهو رَدّ" (2).
أي : فليحذر وليخْشَ من خالف شريعة الرسول باطنًا أو ظاهرًا { أَنْ تُصِيبَهُمْ
فِتْنَةٌ } أي : في قلوبهم ، من كفر أو نفاق أو بدعة ، { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ } أي : في الدنيا ، بقتل ، أو حَد ، أو حبس ، أو نحو ذلك.
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن همام بن مُنَبِّه قال :
هذا ما حدَّثنا أبو هُرَيرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مثلي
ومثلكم كمثل رجل استوقد نارًا ، فلما أضاءت ما حولها (3). جعل الفراش وهذه الدواب
اللاتي [يقعن في النار] (4) يقعن فيها ، وجعل يحجزهن ويغلبنه ويتقحَّمن
فيها". قال : "فذلك مثلي ومثلكم ، أنا آخذ بحجزِكم عن النار هلم عن
النار ، فتغلبوني وتقتحمون فيها". أخرجاه من حديث عبد الرزاق (5)
{ أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ
عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) }.
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض ، وأنه عالم غيب السموات والأرض ، وهو عالم
بما العباد عاملون في سرهم وجهرهم ، فقال : { قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ
} و"قد" للتحقيق ، كما قال قبلها : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ
يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا } ، وقال تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ
الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا }
[الأحزاب : 18]. وقال تعالى : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ
فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [المجادلة : 1] ، وقال : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ
لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ
الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } [الأنعام : 33] ، وقال : { قَدْ نَرَى
تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ] }
(6) [البقرة : 144] فكل هذه الآيات فيها تحقيق الفعل بـ"قد" ، كما يقول
المؤذن تحقيقًا وثبوتًا : "قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة" فقوله
تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ } أي : هو عالم به ، مشاهد له ، لا
يعزب عنه مثقال ذرة ، كما قال تعالى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ
الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [الشعراء : 217 - 220]. وقال : { وَمَا تَكُونُ فِي
شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا
كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ
مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ
ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [يونس : 61] ، (7) وقال تعالى :
{ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [الرعد : 33] أي :
هو شهيد على عباده بما هم فاعلون من خير وشر. وقال تعالى : { أَلا حِينَ
يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [ إِنَّهُ
عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] } [هود : 5] (8) ، وقال تعالى : { سَوَاءٌ مِنْكُمْ
مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ
وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } [الرعد : 10] ، وقال تعالى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي
الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا
وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [هود : 6] ، وقال : { وَعِنْدَهُ
مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي
ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [الأنعام
: 59].والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدًا.
وقوله : { وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ } أي : ويوم تَرْجِعُ (9) الخلائق إلى
الله - وهو يوم القيامة - { فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا } أي : يخبرهم بما
فعلوا في الدنيا ، مِنْ جليل وحقير ، وصغير وكبير ، كما قال تعالى : { يُنَبَّأُ
الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [القيامة : 13]. وقال : {
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ
وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا
كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ
رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف : 49]. ولهذا قال هاهنا : { وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ
فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } والحمد لله رب
العالمين ، ونسأله التمام.
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) صحيح البخاري برقم (2697) وصحيح مسلم برقم (1718).
(3) في ف ، أ : "حوله".
(4) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(5) المسند (2/312) ومسلم برقم (2284) وليس عند البخاري من هذا الطريق.
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) في ف : "في السموات ولا في الأرض" ، وهو خطأ.
(8) زيادة من ف ، أ.
(9) في ف : "يرجع".
(6/90)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)
تفسير سورة
الفرقان
وهي مكية بسم الله الرحمن الرحيم
{ تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ
نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ
وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ
فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) }.
يقول تعالى حامدا نفسه الكريمة على ما نزله على رسوله الكريم من القرآن العظيم ،
كما قال تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ
وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ
لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [أَنَّ
لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ] (1) } [ الكهف : 1 - 3] وقال
هاهنا : { تَبَارَكَ } وهو تفاعَلَ من البركة المستقرة الدائمة الثابتة { الَّذِي
نزلَ الْفُرْقَانَ } نزل : فَعَّل ، من التكرر ، والتكثر ، كما قال : {
وَالْكِتَابِ الَّذِي نزلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزلَ مِنْ
قَبْلُ } [ النساء : 136] ؛ لأن الكتب المتقدمة كانت تنزل جملة واحدة ، والقرآن
نزل (2) مُنَجَّماً مُفَرَّقاً مُفَصَّلا آيات بعد آيات ، وأحكاما بعد أحكام ،
وسوراً بعد سُوَر ، وهذا أشد وأبلغ ، وأشد اعتناءً بمن أنزل عليه كما قال في أثناء
هذه السورة : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ
جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ
تَرْتِيلا. وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ
تَفْسِيرًا } [ الفرقان : 32 ، 33]. ولهذا سماه هاهنا الفرقان ؛ لأنه يفرق بين
الحق والباطل ، والهدى والضلال ، والغي والرشاد ، والحلال والحرام.
وقوله : { عَلَى عَبْدِهِ } : هذه صفة مدح وثناء ؛ لأنه أضافه إلى عبوديته ، كما
وصفه بها في أشرف أحواله ، وهي ليلة الإسراء ، فقال : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى
بِعَبْدِهِ لَيْلا } [ الإسراء : 1 ] ، وكما وصفه بذلك في مقام الدعوة إليه : {
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ
لِبَدًا } [ الجن : 19] ، وكذلك وصفه عند إنزال الكتاب عليه ونزول الملك إليه ،
فقال { تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ
لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا }.
وقوله : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } أي : إنما خصَّه بهذا الكتاب
العظيم المبين المفصل المحكم الذي : { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42] ، الذي
جعله فرقانا عظيما - إنما خصه به ليخصه بالرسالة إلى من يستظل بالخضراء ، ويستقل
على الغبراء ، كما قال - صلوات الله وسلامه عليه - "بعثت إلى الأحمر
والأسود" (3). وقال : "أعطيت خمسًا لم
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في أ : "ينزل".
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (521) هو والذي يليه من حديث جابر ، رضي الله عنه.
(6/92)
يعطهن أحد
من الأنبياء قبلي" ، فذكر منهن : أنه "كان النبي يبعث إلى قومه خاصة ،
وبعثت إلى الناس عامة" ، وقال الله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ
وَالأرْضِ [لا إِلَهَ إِلا هُوَ ] (1) يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ الأعراف : 158] أي :
الذي أرسلني هو مالك السموات والأرض ، الذي يقول للشيء كن فيكون ، وهو الذي يحيي
ويميت ، وهكذا قال هاهنا : { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ
يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } ، فَنزه نفسه عن
الولد ، وعن الشريك.
ثم أخبر أنه : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } أي : كل شيء مما
سواه مخلوق مربوب ، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه ، وكل شيء تحت قهره
[وتسخيره] (2) ، وتدبيره وتقديره (3).
__________
(1) زيادة من أ وهو الصواب.
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ف ، أ : "قهره وتقديره وتسخيره وتدبيره".
(6/93)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)
{
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ
وَلا يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا
حَيَاةً وَلا نُشُورًا (3) }
يخبر تعالى عن جهل المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله ، الخالق لكل شيء ،
المالك لأزمَّة الأمور ، الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ومع هذا عَبَدُوا معه
من الأصنام ما لا يقدر على خلق جناح بعوضة ، بل هم مخلوقون ، ولا يملكون لأنفسهم
ضراً ولا نفعاً ، فكيف يملكون لعابديهم ؟ { وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً
وَلا نُشُورًا } أي : ليس لهم من ذلك شيء ، بل ذلك مرجعه كله إلى الله عز وجل ،
الذي هو يحيي ويميت ، وهو الذي يعيد الخلائق يوم القيامة أولهم وآخرهم ، { مَا
خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ لقمان : 28] ، { وَمَا
أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [ القمر : 50] ، { فَإِنَّمَا
هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } [ النازعات : 13 ، 14] ،
{ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ } [ الصافات : 19]
، { إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا
مُحْضَرُونَ } [ يس : 53]. فهو الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه ، ولا تنبغي
العبادة إلا له ؛ لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وهو الذي لا ولد له ولا والد
، ولا عديل ولا نديد ولا وزير ولا نظير ، بل هو الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم
يولد ، ولم يكن له كفوا أحد.
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ
عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا
أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا
(5) قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ
كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) }
يقول تعالى مخبرًا عن سخافة عقول الجهلة من الكفار ، في قولهم عن القرآن : { إِنْ
هَذَا إِلا إِفْكٌ } : أي : كذب ، { افْتَرَاهُ } يعنون النبي (1) صلى الله عليه
وسلم ، { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } أي : واستعان على جمعه بقوم
آخرين. قال الله تعالى : { فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا } أي : فقد افتروا هم
قولا باطلا هم
__________
(1) في ف ، أ : "محمدا".
(6/93)
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)
يعلمون أنه
باطل ، ويعرفون كذب أنفسهم فيما يزعمون (1).
{ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا } يعنون : كتب الأوائل استنسخها
، { فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ } أي : تقرأ عليه { بُكْرَةً وَأَصِيلا } أي : في أول
النهار وآخره.
وهذا الكلام - لسخافته وكذبه وبهْته منهم - كُلّ أحد يعلم (2) بطلانه ، فإنه قد
عُلم بالتواتر وبالضرورة : أن محمداً رسول الله لم يكن يعاني شيئا من الكتابة ، لا
في أول عمره ولا في آخره ، وقد نشأ بين أظهرهم من أول مولده إلى أن بعثه الله نحوا
من أربعين سنة ، وهم يعرفون مدخله ومخرجه ، وصدقه ، وبره وأمانته ونزاهته من الكذب
والفجور وسائر الأخلاق الرذيلة ، حتى إنهم لم يكونوا يسمونه في صغره إلى أن بُعِث
(3) إلا الأمين ، لما يعلمون من صدقه وبره. فلما أكرمه الله بما أكرمه به ، نصبوا
له العداوة ، وَرَموه بهذه الأقوال التي يعلم كل عاقل براءته منها ، وحاروا ماذا
يقذفونه به ، فتارة من إفكهم يقولون : ساحر ، وتارة يقولون : شاعر ، وتارة يقولون
: مجنون ، وتارة يقولون : كذاب ، قال الله تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ
الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا } [ الإسراء : 48].
وقال تعالى في جواب ما عاندوا هاهنا وافتروا : { قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ
السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } أي : أنزل القرآن المشتمل على أخبار
الأولين والآخرين إخباراً حقاً صدقاً مطابقاً للواقع في الخارج ، ماضيا ومستقبلا {
أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ } أي : الله الذي يعلم غيب السموات والأرض ،
ويعلم السرائر كعلمه بالظواهر.
وقوله : { إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } : دعاء لهم إلى التوبة والإنابة ،
وإخبار بأن رحمته واسعة ، وأن حلمه عظيم ، وأن من تاب إليه تاب عليه. فهؤلاء مع
كذبهم وافترائهم وفجورهم وبهتهم وكفرهم وعنادهم ، وقولهم عن الرسول والقرآن ما
قالوا ، يدعوهم إلى التوبة والإقلاع عما هم فيه إلى الإسلام والهدى ، كما قال
تعالى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا
مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ
لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ
إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ المائدة : 73 -
74] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ } [
البروج : 10]. قال الحسن البصري : انظروا إلى هذا الكرم والجود ، قتلوا أولياءه
وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة [سبحانه وتعالى] (4).
{ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ
لَوْلا أُنزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى
إِلَيْهِ كَنز أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ
إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ
الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ
شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ
وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) }
__________
(1) في ف ، أ : "زعموه".
(2) في ف ، أ : "بهته كل أحد منهم يعلم".
(3) في أ : "بعثه".
(4) زيادة من ف ، أ.
(6/94)
إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
{ إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) }.
(6/94)
يخبر تعالى
عن تعنت الكفار وعنادهم وتكذيبهم للحق بلا حجة ولا دليل منهم ، وإنما تعللوا
بقولهم : { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ } ، يعنون : كما نأكله ،
ويحتاج إليه كما نحتاج إليه ، { وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ } أي : يتردد فيها
وإليها طلبا للتكسب والتجارة ، { لَوْلا أُنزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ
نَذِيرًا } يقولون (1) : هلا أنزل إليه ملك من عند الله ، فيكون له شاهدا على
صِدْق ما يدَّعيه! وهذا كما قال فرعون : { فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ
مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } [ الزخرف : 53].
وكذلك قال هؤلاء على السواء ، تشابهت قلوبهم ؛ ولهذا قال : { أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ
كَنز } أي : علم كنز [يكون] (2) ينفق منه ، { أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ
مِنْهَا } أي : تسير معه حيث سار. وهذا كله سهل يسير على الله ، ولكن له الحكمة في
ترك ذلك ، وله الحجة البالغة { وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا
رَجُلا مَسْحُورًا }.
قال الله تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ } أي : جاءوا بما
يقذفونك به ويكذبون به عليك ، من قولهم "ساحر ، مسحور ، مجنون ، كذاب ،
شاعر" وكلها أقوال باطلة ، كل أحد ممن له أدنى فهم وعقل يعرف كذبهم وافتراءهم
في ذلك ؛ ولهذا قال : { فضلوا } أي : عن طريق الهدى ، { فَلا يَسْتَطِيعُونَ
سَبِيلا } وذلك لأن كل من خرج عن الحق فإنه ضال حيثما توجه ؛ لأن الحق واحد ومنهج
متحد ، يُصَدّق بعضه بعضا.
ثم قال تعالى مخبراً نبيه أنه لو شاء لآتاه خيراً مما يقولون في الدنيا وأفضل
وأحسن ، فقال [تعالى] (3) { تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا
مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا
}.
قال مجاهد : يعني : في الدنيا ، قال : وقريش يسمون كل بيت من حجارة قصرا ، سواء
كان كبيرا أو صغيرا (4).
وقال سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن خَيْثَمَة ؛ قيل للنبي صلى الله
عليه وسلم : إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم يعط نبي قبلك ، ولا
يُعطى أحد من بعدك ، ولا ينقص ذلك مما لك عند الله ؟ فقال : اجمعوها لي في الآخرة
، فأنزل الله عز وجل في ذلك : { تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا
مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا
} (5).
__________
(1) في أ : "يقول".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ.
(4) في ف ، أ : "صغيرا أو كبيرا".
(5) رواه الطبري في تفسيره (18/140) من طريق سفيان به مرسلا.
(6/95)
وقوله : {
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ } أي : إنما يقول هؤلاء هكذا تكذيباً وعناداً ، لا
أنهم يطلبون ذلك تبصرا واسترشادا ، بل تكذيبهم بيوم القيامة يحملهم على قول ما
يقولونه من هذه الأقوال ، { وأعتدنا } أي : وأرصدنا { لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ
سَعِيرًا } أي : عذابا أليماً حاراً لا يطاق في نار جهنم.
وقال الثوري ، عن سلمة بن كُهَيْل ، عن سعيد بن جبير : "السَّعِير" :
واد من قيح جهنم.
وقوله : { إِذَا رَأَتْهُمْ } أي : جهنم { مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } يعني : في مقام
المحشر. قال السدي : من مسيرة مائة عام { سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا }
أي : حنقا (1) عليهم ، كما قال تعالى : { إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا
شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ } [ الملك : 7 ، 8] أي
: يكاد ينفصل بعضها من بعض ؛ من شدة غيظها على من كفر بالله.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا إدريس بن حاتم بن الأخيف (2) الواسطي : أنه سمع محمد بن
الحسن الواسطي ، عن أصبغ بن زيد ، عن خالد بن كثير ، عن خالد بن دُرَيْك ، عن رجل
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"من يقل عَلَيَّ ما لم أقل ، أو ادعى إلى غير والديه ، أو انتمى إلى غير
مواليه ، فليتبوأ [مقعده من النار". وفي رواية : "فليتبوأ] (3) بين عيني
جهنم مقعدا" قيل : يا رسول الله ، وهل لها من عينين ؟ قال : "أما سمعتم
الله يقول : { إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } الآية.
ورواه ابن جرير ، عن محمد (4) بن خِدَاش ، عن محمد بن يزيد (5) الواسطي ، به (6).
وقال أيضًا : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسي ، حدثنا أبو بكر بن عياش
، عن عيسى بن سليم ، عن أبي وائل قال : خرجنا مع عبد الله - يعني : ابن مسعود -
ومعنا الربيع بن خُثَيْم فمروا على حداد ، فقام عبد الله ينظر إلى حديدة في النار
، ونظر الربيع بن خثيم إليها فتمايل ليسقط ، فمر عبد الله على أتّون على شاطئ
الفرات ، فلما رآه عبد الله والنار تلتهب في جوفه قرأ هذه الآية : { إِذَا
رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا } فصعق -
يعني : الربيع بن خُثَيْم - فحملوه إلى أهل بيته (7) ورابطه عبد الله إلى الظُّهر
فلم يفق ، رضي الله عنه.
وحدثنا أبي : حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد ،
عن ابن عباس قال : إن العبد ليجر إلى النار ، فتشهق إليه شهقة البغلة إلى الشعير ،
ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف.
__________
(1) في أ : "خنقا".
(2) في ف ، أ : "الأحنف".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في ف : "محمود".
(5) في أ : "زيد".
(6) تفسير الطبري (18/140).
(7) في أ : "إلى أهله".
(6/96)
هكذا رواه
ابن أبي حاتم مختصرا ، وقد رواه الإمام أبو جعفر بن جرير :
حدثنا أحمد بن إبراهيم الدَّوْرَقي ، حدثنا عُبَيْد الله بن موسى ، أخبرنا إسرائيل
، عن أبي يحيى ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : إن الرجل ليجر إلى النار ، فتنزوي
وتنقبض بعضها إلى بعض ، فيقول لها الرحمن : ما لك ؟ قالت : إنه يستجير مني. فيقول
: أرسلوا (1) عبدي. وإن الرجل ليُجَرّ إلى النار ، فيقول : يا رب ، ما كان هذا
الظن بك ؟ فيقول : فما كان ظنك ؟ فيقول : أن تَسَعني رحمتك. فيقول : أرسلوا عبدي ،
وإن الرجل ليجر إلى النار ، فتشهق إليه النار شهوق البغلة إلى الشعير ، وتزفر زفرة
لا يبقى أحد إلا خاف. وهذا إسناد صحيح.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن عُبَيد بن عُمَيْر
في قوله : { سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا } قال : إن جهنم تزفر زفرة ، لا
يبقى ملك ولا نبي إلا خَرّ تَرْعَد فرائصه ، حتى إن إبراهيم عليه السلام ، ليجثو
على ركبتيه ويقول : رب ، لا أسألك اليوم إلا نفسي (2).
وقوله : { وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا } قال قتادة ، عن أبي أيوب
، عن عبد الله (3) بن عمرو قال : مثل الزج في الرمح (4) أي : من ضيقه.
وقال عبد الله بن وهب : أخبرني نافع بن يزيد ، عن يحيى بن أبي أسيد - يرفع الحديث
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن قول الله { وَإِذَا أُلْقُوا
مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ } قال : "والذي نفسي بيده ، إنهم
ليُسْتَكرهون في النار ، كما يستكره الوتد في الحائط" (5).
وقوله { مُقَرَّنِينَ } قال أبو صالح : يعني مكتفين : { دَعَوْا هُنَالِكَ
ثُبُورًا } أي : بالويل والحسرة والخيبة. { لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا
وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا } وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا
حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد (6) عن أنس بن مالك ؛ أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : "أول من يُكسَى حُلَّةً من النار إبليس ، فيضعها على حاجبيه ،
ويسحبها منْ خَلْفه ، وذريته من بعده ، وهو ينادي : يا ثبوراه ، وينادون : يا
ثبورهم. حتى يقفوا على النار ، فيقول : يا ثبوراه. ويقولون : يا ثبورهم. فيقال لهم
: لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا ، وادعوا ثبورا كثيرا".
لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة ، ورواه ابن أبي حاتم ، عن أحمد بن سِنَان ، عن
عفان ، به : ورواه ابن جرير ، من حديث حماد بن سلمة به (7).
__________
(1) في أ : "أن تنقلوا".
(2) تفسير عبد الرزاق (2/56).
(3) في ف ، أ : "عبيد الله".
(4) في ف : "رمحه".
(5) رواه ابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (6/240).
(6) في هـ ، ف ، أ "علي بن يزيد" والصواب ما أثبتناه من المسند (3/252).
(7) المسند (3/152) وتفسير الطبري (18/141).
(6/97)
قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
وقال العوفي
، عن ابن عباس في قوله : { لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا
ثُبُورًا كَثِيرًا } أي : لا تدعوا اليوم ويلا واحداً ، وادعوا ويلا (1) كثيرا.
وقال الضحاك : الثبور : الهلاك.
والأظهر : أن الثبور يجمع الهلاك والويل والخسار والدمار ، كما قال موسى لفرعون :
{ وَإِنِّي لأظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا } [ الإسراء : 102] أي : هالكا.
وقال عبد الله بن الزبَعْرى :
إذْ أجَاري الشَّيطانَ في سَنَن الغيَ... يِ ، وَمنْ مَالَ مَيْلَهُ (2) مَثْبُورُ
(3)
{ قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ
كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ
كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا (16) }.
يقول تعالى : يا محمد ، هذا (4) الذي وصفناه من حال أولئك الأشقياء (5) ، الذين
يحشرون على وجوههم إلى جهنم ، فتتلقاهم بوجه عبوس وبغيظ (6) وزفير ، ويُلقَون في
أماكنها الضيقة مقرَّنين ، لا يستطيعون حراكا ، ولا انتصاراً ولا فكاكا مما هم فيه
- : أهذا خير أم جنة الخلد التي وعدها الله المتقين من عباده ، التي أعدها لهم ،
وجعلها لهم جزاء على ما أطاعوه في الدنيا ، وجعل مآلهم إليها.
{ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ } [أي] (7) : من الملاذ : من مآكل ومشارب ، وملابس
ومساكن ، ومراكب ومناظر ، وغير ذلك ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خَطَر
على قلب أحد (8). وهم في ذلك خالدون أبدا دائما (9) سرمدا بلا انقطاع ولا زوا ،
ولا انقضاء ، لا يبغون عنها حوَلا. وهذا من وَعْد الله الذي تفضل به عليهم ، وأحسن
به إليهم ، ولهذا قال : { كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا } أي لا بد أن
يقع وأن يكون ، كما حكاه أبو جعفر بن جرير ، عن بعض علماء العربية أن معنى قوله :
{ وَعْدًا مَسْئُولا } أي : وعدا واجبا.
وقال ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن ابن عباس { كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا
} يقول : سلوا الذي واعدتكم - أو قال : واعدناكم - نُنْجِزْ.
وقال محمد بن كعب القُرَظي في قوله : { كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا } :
إن الملائكة تسأل لهم ذلك : { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي
وَعَدْتَهُمْ } [ غافر : 8].
وقال أبو حازم : إذا كان يوم القيامة قال المؤمنون : ربنا عملنا لك بالذي أمرتنا ،
فأنجز لنا ما وعدتنا. فذلك قوله : { وَعْدًا مَسْئُولا }.
وهذا المقام في هذه السورة من ذكر النار ، ثم التنبيه على حال أهل الجنة ، كما ذكر
تعالى في
__________
(1) في ف ، أ : "بلاءا".
(2) في أ : "مثله".
(3) البيت في السيرة النبوية لابن هشام (2/419).
(4) في أ : "أهذا".
(5) في أ : "من هؤلاء الأشقية".
(6) في أ : "وتغيظ".
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) في ف ، أ : "بشر".
(9) في ف : "دائما أبدا".
(6/98)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
سورة
"الصافات" حال أهل الجنة ، وما فيها من النضرة والحبور ، ثم قال : {
أَذَلِكَ خَيْرٌ نزلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً
لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا
كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ
مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ *
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ
ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } [ الصافات : 62 - 70].
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ
أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا
سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ
أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ
وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا
تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا
كَبِيرًا (19) }.
يقول تعالى مخبراً عما يَقَع يوم القيامة من تقريع الكفار في عبادتهم مَن عبدوا من
دون الله ، من الملائكة وغيرهم ، فقال : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ (1) وَمَا
يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ }. قال مجاهد : عيسى ، والعُزَير ، والملائكة. {
فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا
السَّبِيلَ } أي : فيقول الرب تبارك وتعالى [للمعبودين] (2) أأنتم دعوتم هؤلاء إلى
عبادتكم من دوني ، أم هم عبدوكم من تلقاء أنفسهم ، من غير دعوة منكم لهم ؟ كما قال
الله تعالى : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ
سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ
قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي
نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ. مَا قُلْتُ لَهُم } (3) إلى آخر الآية
؛ [ المائدة : 116 - 117] ولهذا قال تعالى مخبرًا عما يُجيِب به المعبودون يوم
القيامة : { قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ
دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ } قرأ الأكثرون بفتح "النون" من قوله : {
نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ } أي : ليس للخلائق كلهم أن يعبدوا أحدا
سواك ، لا نحن ولا هم ، فنحن ما دعوناهم إلى ذلك ، بل هم قالوا (4) ذلك من تلقاء
أنفسهم من غير أمرنا ولا رضانا ونحن برآء منهم ومن عبادتهم ، كما قال تعالى : {
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ
إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ
دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } [
سبأ : 40 - 41]. (5) وقرأ آخرون : "مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُتَّخَذَ
مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ" أي : ما ينبغي لأحد أن يعبدنا ، فإنا عبيد لك
، فقراء إليك. وهي قريبة المعنى من الأولى.
{ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ } أي : طال عليهم العمر حتى نَسُوا الذكر ،
أي : نسوا ما أنزلته إليهم على ألسنة رسلك ، من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك
لك.
__________
(1) في ف : "يحشرهم".
(2) زيادة من أ.
(3) بعدها في ف ، أ : (إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم
شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني).
(4) في أ : "فعلوا".
(5) في هـ : "به" والمثبت من أ ، وهو الصواب.
(6/99)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
{ وَكَانُوا
قَوْمًا بُورًا } قال ابن عباس : أي هلكى. وقال الحسن البصري ، ومالك عن الزهري :
أي لا خير فيهم. وقال ابن الزبعرى حين أسلم :
يا رَسُولَ المَليك إنّ لسَاني... رَاتقٌ ما فَتَقْتُ إذْ أنا بُورُ...
إذْ أجاري الشَّيطَانَ في سَنَن الغيْ... يِ ، وَمَن مالَ مَيْلَه مَثْبُورُ...
قال الله تعالى : { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ } أي : فقد كذبكم الذين
عَبَدْتُم فيما زعمتم أنهم لكم أولياء ، وأنكم اتخذتموهم قربانا يقربونكم (1) إليه
زلفى ، كما قال تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ
لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ
غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا
بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 5 - 6].
وقوله : { فَمَا (2) تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا } أي : لا يقدرون على
صرف العذاب عنهم ولا الانتصار لأنفسهم ، { وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ } أي : يشرك
بالله ، { نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا }.
{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ
الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً
أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20) }
يقول تعالى مخبرا عن جميع مَنْ بعثه من الرسل المتقدمين : إنهم كانوا يأكلون
الطعام ، ويحتاجون إلى التغذي به { وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ } أي : للتكسب
والتجارة ، وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم ؛ فإن الله جعل لهم من السمات الحسنة ،
والصفات الجميلة ، والأقوال الفاضلة ، والأعمال الكاملة ، والخوارق الباهرة ،
والأدلة [القاهرة] (3) ، ما يستدل به كل ذي لب سليم ، وبصيرة مستقيمة ، على صدق ما
جاءوا به من الله عز وجل. ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى : { وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى }
[ يوسف : 109]{ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا
كَانُوا خَالِدِينَ } [ الأنبياء : 8].
وقوله : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ } أي : اختبرنا
بعضكم ببعض ، وبلونا بعضكم ببعض ، لنعلم مَن يُطيع ممن يعصي ؛ ولهذا قال : {
أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا } أي : بمن يستحق أن يوحى إليه ، كما قال
تعالى : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124] ، ومن
يستحق أن يهديه الله لما أرسلهم به ، ومن لا يستحق ذلك.
وقال محمد بن إسحاق في قوله : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً
أَتَصْبِرُونَ } قال : يقول الله : لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون ،
لفعلت ، ولكنّي قد أردتُ أن أبتلي العباد بهم ،
__________
(1) في أ : "يقربوبكم".
(2) في أ : "فلا" وهو خطأ.
(3) زيادة من أ.
(6/100)
وأبتليهم
(1) بهم.
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يقول
الله : إني مُبْتَلِيك ، ومُبْتَلٍ بك" (2). وفي المسند عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة" ، وفي
الصحيح أنه - عليه أفضل الصلاة والسلام - خُير بين أن يكون نبياً ملكا أو عبداً
رسولا فاختار أن يكون عبدا رسولا.
__________
(1) في أ : "وأبتليكم".
(2) صحيح مسلم برقم (2865).
(6/101)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
{ وَقَالَ
الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ
نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا
كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ
لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا
عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ
يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا (24) }.
يقول تعالى مخبرا عن تَعَنُّت الكفار في كفرهم ، وعنادهم في قولهم : { لَوْلا
أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ } (1) أي : بالرسالة كما نزل (2) على الأنبياء ،
كما أخبر عنهم تعالى في الآية الأخرى : { قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى
مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ } [ الأنعام : 124] ، ويحتمل أن يكون مرادهم
هاهنا : { لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ } فنراهم عيانا ، فيخبرونا أن
محمدا رسول الله ، كقولهم (3) : { أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ
قَبِيلا } [ الإسراء : 92]. وقد تقدم تفسيرها في سورة "سبحان" ؛ ولهذا
قال (4) : { أَوْ نَرَى رَبَّنَا } ولهذا قال الله تعالى : { لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا
فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا }. وقد قال [الله] (5) تعالى : {
وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى
وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ
يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } [ الأنعام : 111].
وقوله : { يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ
وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا } أي : هم لا يرون الملائكة في يوم خير لهم ، بل
يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ لهم (6) ، وذلك يَصْدُق على وقت الاحتضار حين
تبشرهم الملائكة بالنار ، وغضب الجبار ، فتقول الملائكة للكافر عند خروج روحه :
اخرجي أيتها النفس الخبيثة في الجسد الخبيث ، اخرجي إلى سَموم وحَميم ، وظلِّ من
يحموم. فتأبى الخروج وتتفرق في البدن (7) ، فيضربونه ، كما قال الله تعالى : {
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ
وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } [ الأنفال : 50]. وقال : { وَلَوْ تَرَى إِذِ
الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ } أي
: بالضرب ، { أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ
بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ
آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } [ الأنعام : 93] ؛ ولهذا قال في هذه الآية
__________
(1) في أ : "عليه" وهو خطأ.
(2) في أ : "تنزل".
(3) في ف ، أ : "وكقولهم".
(4) في ف ، أ : "قالوا".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في ف ، أ : "للمجرمين".
(7) في أ : "الجسد".
(6/101)
الكريمة : {
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ } ، وهذا
بخلاف حال المؤمنين في وقت احتضارهم ، فإنهم يبشرون بالخيرات ، وحصول المسرات. قال
الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا
تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا
بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ
فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ } [ فصلت : 30 - 31].
وفي الحديث الصحيح عن البراء بن عازب : أن الملائكة تقول لروح المؤمن :
"اخرجي أيتها النفس الطيبة (1) في الجسد الطيب ، كنت تعمرينه ، اخرجي إلى روح
وريحان ورب غير غضبان". وقد تقدم الحديث في سورة "إبراهيم" (2) عند
قوله تعالى : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ
وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } [ إبراهيم : 27].
وقال آخرون : بل المراد بقوله : { يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ } يعني : يوم
القيامة. قاله مجاهد ، والضحاك ؛ وغيرهما.
ولا منافاة بين هذا وبين ما تقدم ، فإن الملائكة في هذين اليومين يوم الممات ويوم
المعاد تتجلى للمؤمنين وللكافرين ، فتبشر المؤمنين بالرحمة والرضوان ، وتخبر
الكافرين بالخيبة والخسران ، فلا بشرى يومئذ للمجرمين.
{ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا } أي : وتقول الملائكة للكافرين حَرَام محرم
عليكم الفلاح اليوم.
وأصل "الحجر" : المنع ، ومنه يقال : حَجَر القاضي على فلان ، إذا منعه
التصرف إما لسفَه ، أو فَلَس ، أو صغر ، أو نحو ذلك. ومنه سمي "الحجْر"
عند البيت الحرام ؛ لأنه يمنع الطُوَّاف أن يطوفوا فيه (3) ، وإنما يطاف من ورائه.
ومنه يقال للعقل "حجر" (4) ؛ لأنه يمنع صاحبه عن تعاطي ما لا يليق.
والغرض أن الضمير في قوله : { وَيَقُولُونَ } عائد على الملائكة. هذا قول مجاهد ،
وعكرمة ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، وعطية العوفي ، وعطاء الخراساني ، وخُصَيف ،
وغير واحد. واختاره ابن جرير (5).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا موسى - يعني ابن قيس - عن عطية العوفي
، عن أبي سعيد الخدري : { وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا } قال : حراما مُحَرّما
أن يُبَشَّر بما يبشر به المتقون.
وقد حكى ابن جرير ، عن ابن جُرَيْج أنه قال : ذلك من كلام المشركين : { يَوْمَ
يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ } ، [أي : يتعوذون من الملائكة ؛ وذلك أن العرب كانوا إذا
نزل بأحدهم نازلة أو شدة] (6) يقولون : { حِجْرًا مَحْجُورًا }.
__________
(1) في ف ، أ : "المطمئنة".
(2) عند الآية : 27.
(3) في ف : "به".
(4) في أ : "حجرا".
(5) تفسير الطبري (19/2).
(6) زيادة من ف ، أ.
(6/102)
وهذا القول
- وإن كان له مأخذ ووجه - ولكنه بالنسبة إلى السياق في الآية بعيد ، لا سيما قد نص
الجمهور على خلافه. ولكن قد روى ابنُ أبي نَجِيح ، عن مجاهد ؛ أنه قال في قوله : {
حِجْرًا مَحْجُورًا } أي : عوذاً معاذاً. فيحتمل (1) أنه أراد ما ذكره ابن جريج.
ولكن في رواية ابن أبي حاتم ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد أنه قال : { حِجْرًا
مَحْجُورًا } [أي] : (2) عوذا معاذا ، الملائكة تقُوله. فالله (3) أعلم.
وقوله تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ
هَبَاءً مَنْثُورًا } ، وهذا يوم القيامة ، حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من
خير وشر ، فأخبر أنه لا يتحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال - التي ظنوا أنها منجاة
لهم - شيء ؛ وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي ، إما الإخلاص فيها ، وإما المتابعة
لشرع الله. فكل عمل لا يكون خالصا وعلى الشريعة المرضية ، فهو باطل. فأعمال الكفار
لا تخلو من واحد من هذين ، وقد تجمعهما معا ، فتكون أبعد من القبول حينئذ ؛ ولهذا
قال تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً
مَنْثُورًا }.
قال مجاهد ، والثوري : { وَقَدِمْنَا } أي : عمدنا.
وقال السدي : (قدمنا) : عَمَدنا. وبعضهم يقول : أتينا عليه.
وقوله : { فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } قال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ،
عن الحارث ، عن علي ، رضي الله عنه ، في قوله : { [ فَجَعَلْنَاهُ] (4) هَبَاءً
مَنْثُورًا } ، قال : شعاع الشمس إذا دخل في الكوَّة. وكذا روي من غير هذا الوجه
عن علي. ورُوي مثله عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جُبَير ، والسُّدِّي
، والضحاك ، وغيرهم. وكذا قال الحسن البصري : هو الشعاع في كوة أحدهم (5) ، ولو
ذهب يقبض عليه لم يستطع.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { هَبَاءً مَنْثُورًا } قال : هو الماء
المهراق.
وقال أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي : { هَبَاءً مَنْثُورًا }
قال : الهباء رَهْج (6) الدواب. ورُوي مثله عن ابن عباس أيضا ، والضحاك ، وقاله
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال قتادة في قوله : { هَبَاءً مَنْثُورًا } قال : أما رأيت يَبِيس الشجر إذا
ذرته (7) الريح ؟ فهو ذلك الورق.
وقال عبد الله بن وهب : أخبرني عاصم بن حكيم ، عن أبي سريع الطائي ، عن يعلى بن
عبيد (8) قال : وإن الهباء الرماد.
وحاصل هذه الأقوال التنبيهُ على مضمون الآية ، وذلك أنهم عملوا أعمالا اعتقدوا
أنها شيء ، فلما عرضت على الملك الحكيم (9) العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحدا ،
إذا إنها لا شيء بالكلية. وشبهت في ذلك بالشيء التافه الحقير المتفرق ، الذي لا
يقدر منه صاحبه على شيء بالكلية ، كما قال
__________
(1) في ف ، أ : "فيحمل".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : "والله".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ف ، أ : "أحدكم".
(6) في ف ، أ : "وهج".
(7) في أ : "أذرته".
(8) في أ : "عبيد بن يعلى".
(9) في ف : "الحكم".
(6/103)
الله تعالى
: { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ
بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ
ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ } [ إبراهيم : 18] وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي
يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ
صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا } [ البقرة : 264] وقال
تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ
الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا } [ النور : 39]
وتقدم الكلام على تفسير ذلك ، ولله الحمد والمنة.
وقوله : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ
مَقِيلا } أي : يوم القيامة { لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ
الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ الحشر : 20] ؛ وذلك لأن
(1) أهل الجنة يصيرون إلى الدرجات العاليات ، والغرفات الآمنات ، فهم في مقام أمين
، حسن المنظر ، طيب المقام ، { خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا
وَمُقَامًا } [ الفرقان : 76] ، وأهل النار يصيرون إلى الدركات السافلات ،
والحسرات المتتابعات ، وأنواع العذاب والعقوبات ، { إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا
وَمُقَامًا } [ الفرقان : 66] أي : بئس المنزل منظرا وبئس (2) المقيل مقاما ؛ ولهذا
قال : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا
} أي : بما عملوه من الأعمال المتقبلة ، نالوا ما نالوا ، وصاروا إلى ما صاروا
إليه (3) ، بخلاف أهل النار فإنه ليس لهم عمل واحد يقتضي لهم دخول الجنة والنجاة
من النار ، فَنَبَّه - تعالى - بحال السعداء على حال الأشقياء ، وأنه لا خير عندهم
بالكلية ، فقال : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا
وَأَحْسَنُ مَقِيلا }.
قال الضحاك : عن ابن عباس : إنما هي ضحوة ، فيقيل أولياء الله على الأسرة مع الحور
العين ، ويَقيل أعداء الله مع الشياطين مقرنين.
وقال سعيد بن جبير : يفرغ الله من الحساب نصف النهار ، فيقيل أهل الجنة في الجنة ،
وأهل النار في النار ، قال الله تعالى : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ
مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا }.
وقال عكرمة : إني لأعرف الساعة التي يدخل فيها أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار
: هي الساعة التي تكون في الدنيا عند ارتفاع الضحى الأكبر ، إذا انقلب الناس إلى
أهليهم للقيلولة ، فينصرف أهل النار إلى النار ، وأما أهل [الجنة فيُنطلق بهم إلى]
(4) الجنة ، فكانت قيلولتهم [في الجنة] (5) وأطعموا كبد حوت ، فأشبعهم [ذلك] (6)
كلهم ، وذلك قوله : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا
وَأَحْسَنُ مَقِيلا }.
وقال سفيان ، عن مَيسَرة ، عن المِنْهَال ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود ،
أنه قال : لا ينتصف النهار حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء ثم قرأ : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ
يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } وقرأ { ثُمَّ إِنَّ
مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ } [ الصافات : 68].
__________
(1) في أ : "أن".
(2) في ف : "أو".
(3) في ف : "وصاروا إلى ما إليه صاروا".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) زيادة من ف ، أ.
(6/104)
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
وقال
العَوْفي ، عن ابن عباس في قوله : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ
مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } قال : قالوا في الغرف من الجنة ، وكان حسابهم
أن (1) عُرضوا على ربهم عرضة واحدة ، وذلك الحساب اليسير ، وهو مثل قوله تعالى : {
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا
يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا } [ الانشقاق : 7 - 9].
وقال قتادة في قوله : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا
وَأَحْسَنُ مَقِيلا } أي : مأوى ومنزلا قال قتادة : وحَدّث صفوان بن مُحْرِز أنه قال
: يجاء يوم القيامة برجلين ، أحدهما كان ملكا (2) في الدنيا إلى الحمرة والبياض
فيحاسب ، فإذا عبدٌ ، لم يعمل خيرا فيؤمر به إلى النار. والآخر كان صاحب كساء في
الدنيا ، فيحاسب فيقول : يا رب ، ما أعطيتني من شيء فتحاسبني به. فيقول : صدق عبدي
، فأرسلوه. فيؤمر به إلى الجنة ، ثم يتركان ما شاء الله. ثم يدعى صاحب (3) النار ،
فإذا هو مثل الحُمَمة (4) السوداء ، فيقال له : كيف وجدت ؟ فيقول : شر مَقيل.
فيقال (5) له : عد (6) ثم يُدعَى بصاحب الجنة ، فإذا هو مثل القمر ليلة البدر ،
فيقال له : كيف وجدت ؟ فيقول : رب ، خير مَقيل. فيقال له : عد. رواها ابن أبي حاتم
كلها.
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب ، أنبأنا عمرو بن الحارث ، أن سعيدًا
(7) الصوَّاف حدثه ، أنه بلغه : أن يوم القيامة يقصر على المؤمن (8) حتى يكون كما
بين العصر إلى غروب الشمس ، وأنهم ليقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس ، وذلك
(9) قوله تعالى : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا
وَأَحْسَنُ مَقِيلا } (10).
{ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنزلَ الْمَلائِكَةُ تَنزيلا (25)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ
عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي
اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ
فُلانًا خَلِيلا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي
وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنْسَانِ خَذُولا (29) }.
يخبر تعالى عن هَول يوم القيامة ، وما يكون فيه من الأمور العظيمة ، فمنها انشقاق
(11) السماء وتفطرها وانفراجها بالغمام ، وهو ظُلَل (12) النور العظيم الذي يبهر
الأبصار ، ونزول ملائكة السموات يومئذ ، فيحيطون بالخلائق في مقام المحشر. ثم يجيء
الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء.
قال مجاهد : وهذا كما قال تعالى : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ
اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَإِلَى
اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } [ البقرة : 210].
__________
(1) في أ : "إذ".
(2) في أ : "ملك".
(3) في أ : "بصاحب".
(4) في ف ، أ : "الفحمة".
(5) في أ : "فقال".
(6) في ف ، أ : "عده".
(7) في أ : "سعيد".
(8) في أ : "المؤمنين".
(9) في ف ، أ : "فذلك".
(10) تفسير الطبري (19/5).
(11) في أ : "اشتقاق".
(12) في أ : "ظل".
(6/105)
قال ابن أبي
حاتم : حدثنا محمد بن الحارث ، حدثنا مُؤَمِّل ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن
زيد ، عن يوسف بن مِهْرَان ، عن ابن عباس ، أنه قرأ هذه الآية : { وَيَوْمَ
تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنزلَ الْمَلائِكَةُ تَنزيلا } قال ابن عباس :
يجمع الله الخلق يوم القيامة (1) في صعيد واحد ، الجن والإنس والبهائم والسباع
والطير وجميع الخلق ، فتنشق السماء الدنيا ، فينزل أهلها - وهم أكثر من الجن
والإنس ومن جميع الخلائق (2) - فيحيطون بالجن والإنس وبجميع الخلق. ثم تنشق السماء
الثانية فينزل أهلها ، وهم أكثر من أهل السماء الدنيا ومن الجن والإنس ومن جميع
الخلق [فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم والجن والإنس وجميع الخلق (3) ] (4)
ثم تنشق السماء الثالثة ، فينزل أهلها ، وهم أكثر من أهل السماء الثانية والسماء
الدنيا ومن جميع الخلق ، فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم ، وبالجن والإنس
وبجميع الخلق. ثم كذلك كل سماء ، حتى تنشق السماء السابعة ، فينزل أهلها وهم أكثر
ممن نزل قبلهم من أهل السموات ومن الجن والإنس ، ومن جميع الخلق ، فيحيطون (5)
بالملائكة الذين نزلوا قبلهم من أهل السموات ، وبالجن والإنس وجميع الخلق ، وينزل
ربنا عز وجل في ظلل من الغمام ، وحوله الكروبيون ، وهم أكثر من أهل السموات السبع
ومن الإنس (6) والجن وجميع الخلق ، لهم قرون كأكعب القنا ، وهم تحت العرش ، لهم
زَجَل بالتسبيح والتهليل (7) والتقديس لله عز وجل ، ما بين أخمص قدم أحدهم إلى
كعبه مسيرة خمسمائة عام ، وما بين كعبه إلى ركبته (8) مسيرة خمسمائة عام ، وما بين
ركبته إلى حُجْزَته (9) مسيرة خمسمائة عام ، وما بين حُجْزَته (10) إلى ترقوته
مسيرة خمسمائة عام ، وما بين ترقوته إلى موضع القُرط مسيرة خمسمائة عام. وما فوق
ذلك مسيرة خمسمائة عام ، وجهنم مجنبته (11) هكذا رواه ابن أبي حاتم بهذا السياق.
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثني الحجاج ، عن مبارك بن فضالة
، عن علي بن زيد بن جُدْعَان ، عن يوسف بن مِهْرَان ، أنه سمع ابن عباس يقول : إن
هذه السماء إذا انشقت نزل منها من الملائكة أكثر من الجن والإنس ، وهو يوم التلاق
، يوم يلتقي أهل السماء وأهل الأرض ، فيقول أهل الأرض : جاء ربنا ؟ فيقولون : لم
يجئ ، وهو آت. ثم تنشق السماء الثانية ، ثم سماء سماء على قدر ذلك من التضعيف إلى
السماء السابعة. فينزل منها من الملائكة أكثر من [جميع من] (12) نزل من السموات
ومن الجن والإنس. قال : فتنزل (13) الملائكة الكَرُوبيُون ، ثم يأتي ربنا في حملة
العرش الثمانية ، بين كعب كل ملك وركبته مسيرة سبعين سنة ، وبين فخذه ومنكبه مسيرة
سبعين سنة. قال : وكل ملك منهم لم يتأمل وجه صاحبه ، وكل ملك منهم واضع رأسه بين
ثدييه يقول : سبحان الملك القدوس. وعلى رؤوسهم شيء مبسوط كأنه القَبَاء (14)
والعرش فوق ذلك.
__________
(1) في ف ، أ : "يجمع الله تعالى الخلق كلهم يوم القيامة".
(2) في ف ، أ : "الخلق".
(3) في ف ، أ : "الخلائق".
(4) زيادة من ف ، أ ، والدر المنثور 5/68.
(5) في أ : "فيحطون".
(6) في ف ، أ : "والإنس".
(7) في ف ، أ : "بالتهليل والتسبيح".
(8) في أ : "ركبتيه".
(9) في ف ، أ : "أرنبته".
(10) في ف ، أ : "أرنبته".
(11) في هـ ، ف غير منقوطة ، وفي أ : "مجنبته".
(12) زيادة من ف ، أ ، والطبري.
(13) في ف ، أ : "فينزل".
(14) في أ : "القفاء".
(6/106)
ثم وقف ،
فمداره على عليِّ بن زيد بن جُدْعان ، وفيه ضعف ، وفي سياقاته غالبا نكارة شديدة.
وقد ورد في حديث الصور المشهور (1) قريب من هذا ، والله أعلم.
وقد قال [الله] (2) تعالى : { فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانْشَقَّتِ
السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا
وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } [ الحاقة : 15 -
17] قال شهر بن حَوْشَب : حملة العرش ثمانية ، أربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم
وبحمدك ، لك الحمد على حلمك بعد علمك. وأربعة يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك ، لك
الحمد على عفوك بعد قدرتك ، رواه ابن جرير عنه.
وقال أبو بكر بن عبد الله : إذا نظر أهل الأرض إلى العرش يهبط عليهم من فوقهم ،
شخصت إليه أبصارهم ، ورَجَفت كُلاهم في أجوافهم ، وطارت قلوبهم من مَقَرّها من
صدورهم إلى حناجرهم.
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا معتمر بن سليمان ، عن عبد
الجليل ، عن أبي حازم ، عن عبد الله بن عمرو قال : يهبط الله حين يهبط وبينه وبين
خلقه سبعون ألف حجاب ، منها النور والظلمة ، فيُصَوّت الماء في تلك الظلمة صوتا
تنخلع منه (3) القلوب.
وهذا موقوف على (4) عبد الله بن عمرو من كلامه ، ولعله من الزاملتين ، والله أعلم.
وقوله تعالى : { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا
عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا } ، كما قال تعالى : { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ
لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [ غافر : 16] وفي الصحيح : "إن الله يطوي
السموات بيمينه ، ويأخذ الأرضين بيده الأخرى ، ثم يقول : أنا الملك ، أنا الديان ،
أين ملوك الأرض ؟ أين الجبارون ؟ أين المتكبرون" ؟ (5)
وقوله : { وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا } أي : شديدا صعبا ؛ لأنه
يوم عدل وقضاء فصل ، كما قال تعالى : { [فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ] } (6)
" ، { فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ
يَسِيرٍ } [ المدثر : 8 - 10] ، فهذا حال الكافرين في هذا اليوم. وأما المؤمنون
فكما قال تعالى : { لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ
الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } [ الأنبياء : 103].
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن (7) بن موسى ، حدثنا ابن لَهيعة ، حدثنا دَرَّاج ،
عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري قال : قيل : يا رسول الله : { يَوْمٍ كَانَ
مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } ما (8) أطول هذا اليوم ؟ فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده ، إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون
__________
(1) تقدم الحديث عند تفسير الآية : 73 من سورة الأنعام.
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ف. أ : "له".
(4) في ف ، أ : "عن".
(5) صحيح مسلم برقم (2788) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه ، وليس فيه :
"أنا الديان".
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) في ف ، أ : "حسين".
(8) في ف ، أ : "وما".
(6/107)
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
أخف عليه من
صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا" (1).
وقوله : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي
اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا } : يخبر تعالى عن ندم الظالم الذي فارق طريق
الرسول وما جاء به من عند الله من الحق المبين ، الذي لا مرْية فيه ، وسلك طريقا
أخرى غير سبيل الرسول ، فإذا كان يوم القيامة نَدمَ حيثُ لا ينفعه النَدَمُ ، وعضّ
على يديه حسرةً وأسفا.
وسواء كان سبب نزولها في عقبة بن أبي مُعَيط أو غيره من الأشقياء ، فإنها عامة في
كل ظالم ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ
يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا
رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا *
رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } [
الأحزاب : 66 - 68] فكل (2) ظالم يندم يوم القيامة غاية الندم ، ويَعَض على يديه
قائلا { يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا يَا وَيْلَتَى
لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا } يعني : مَن (3) صرفه عن الهدى ، وعدل
به إلى طريق الضلالة [من دعاة الضلالة] (4) ، وسواء في ذلك أمية بن خلف ، أو أخوه
أبي بن خلف ، أو غيرهما.
{ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ } [وهو القرآن] (5) { بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي }
أي : بعد بلوغه إلي ، قال الله تعالى : { وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنْسَانِ
خَذُولا } أي : يخذله عن الحق ، ويصرفه عنه ، ويستعمله في الباطل ، ويدعوه إليه.
{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ
مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ
الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) }
يقول تعالى مخبرا عن رسوله ونبيه محمد (6) - صلوات الله وسلامه (7) عليه دائما إلى
يوم الدين - أنه قال : { يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ
مَهْجُورًا } ، وذلك أن المشركين كانوا لا يُصغُون للقرآن ولا يسمعونه (8) ، كما
قال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ
وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26] وكانوا إذا تلي عليهم
القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره ، حتى لا يسمعوه. فهذا من هجرانه ، وترك
[علمه وحفظه أيضا من هجرانه ، وترك] (9) الإيمان به وتصديقه من هجرانه ، وترك
تدبره وتفهمه من هجرانه ، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه
، والعدولُ عنه إلى غيره - من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة
من غيره - من هجرانه ، فنسأل الله الكريمَ المنانَ القادرَ على ما يشاء ، أن
يخلّصنا مما يُسْخطه ، ويستعملنا فيما يرضيه ، من حفظ كتابه وفهمه ، والقيام
بمقتضاه آناء الليل وأطرافَ النهار ، على الوجه الذي
__________
(1) المسند (3/75) وفي إسناده دراج عن أبي الهيثم ضعيف.
(2) في ف ، أ : "وكل".
(3) في ف ، أ : "لمن".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في أ : "محمدا".
(7) في ف ، أ : "صلى الله عليه وسلم".
(8) في أ : "يستمعونه"
(9) زيادة من ف ، أ.
(6/108)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)
يحبه ويرضاه
، إنه كريم وهاب.
وقوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ } أي
: كما حصل لك - يا محمد - في قومك من الذين هجروا القرآن ، كذلك كان في الأمم
الماضين ؛ لأن الله جعل لكل نبي عدوا من المجرمين ، يدعون الناس إلى ضلالهم وكفرهم
، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ
الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى
إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ
وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ } [ الأنعام : 112 - 113] ؛ ولهذا قال
هاهنا : { وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا } أي : لمن اتبع رسوله ، وآمن
بكتابه وصدقه واتبعه ، فإن الله هاديه وناصره في الدنيا والآخرة. وإنما قال : {
هَادِيًا وَنَصِيرًا } لأن المشركين كانوا يصدون الناس عن اتباع القرآن ، لئلا يهتدي
أحد به ، ولتغلب طريقتهم طريقة القرآن ؛ فلهذا قال : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا
وَنَصِيرًا }.
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً
كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا (32) }
(6/109)
وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
{ وَلا
يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ
مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلا (34) }.
يقول تعالى مخبراً عن كثرة اعتراض الكفار وتعنتهم ، وكلامهم فيما لا يعنيهم ، حيث
قالوا : { لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } أي : هلا أنزل
عليه هذا الكتاب الذي أوحي إليه جملة واحدة ، كما نزلت الكتب قبله ، كالتوراة
والإنجيل والزبور ، وغيرها من الكتب الإلهية. فأجابهم الله عن ذلك بأنه إنما أنزل
منجما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث ، وما يحتاج إليه من الأحكام
لتثبيت (1) قلوب المؤمنين به كما قال : { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ
عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلا } [ الإسراء : 106] ؛ ولهذا قال
: { لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا }. قال قتادة : وبيناه
تبيينا. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : وفسرناه تفسيرا.
{ وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ } أي : بحجة وشبهة { إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ
وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } أي : ولا يقولون قولا يعارضون به الحق ، إلا أجبناهم (2)
بما هو الحق في نفس الأمر ، وأبين وأوضح وأفصحُ من مقالتهم.
قال (3) سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ } أي : بما
يلتمسون به عيب القرآن والرسول { إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا
} أي : إلا نزل جبريل مِنَ الله بجوابهم.
ثم في هذا اعتناء كبير ؛ لشرف الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه (4) ، حيث كان
يأتيه الوحي من الله بالقرآن صباحا ومساء ، ليلا ونهارا ، سفرا وحضرا ، فكل مرة
كان يأتيه الملك بالقرآن كإنزال كتاب مما قبله من الكتب المتقدمة ، فهذا المقام
أعلى (5) وأجلُّ ، وأعظم مكانة من سائر إخوانه من الأنبياء ، صلوات الله وسلامه
عليهم أجمعين. فالقرآن أشرف كتاب أنزله الله ، ومحمد ، صلوات
__________
(1) في أ : "ليثبت"
(2) في أ : "جئناهم".
(3) في ف : "ثنا".
(4) في ف : "عليه وسلامه".
(5) في أ : "لعلي".
(6/109)
وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
الله وسلامه
عليه ، أعظم نبي أرسله الله وقد جمع الله تعالى للقرآن الصفتين معا ، ففي الملأ
الأعلى أنزل جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا (1) ثم نزل بعد
ذلك إلى الأرض منجما بحسب الوقائع والحوادث.
قال أبو عبد الرحمن النسائي : أخبرنا أحمد بن سليمان ، حدثنا يزيد بن هارون ،
أخبرنا داود ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا
في ليلة القدر ، ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة ، قال : { وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ
إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } ، وقوله { وَقُرْآنًا
فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلا } [
الإسراء : 106] (2).
ثم قال تعالى مخبرا عن سوء حال الكفار في معادهم يوم القيامة وحشرهم إلى جهنم ، في
أسوأ الحالات وأقبح الصفات : { الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى
جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلا } ، وفي الصحيح ، عن أنس :
أن رجلا قال : يا رسول الله ، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة ؟ فقال :
"إن الذي أمشاه على رجليه قادر أن يُمشِيَه على وجهه يوم القيامة" (3)
وهكذا قال مجاهد ، والحسن ، وقتادة ، وغير واحد من المفسرين ، [والله أعلم] (4).
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ
وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا
الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا
لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ
وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ وَكُلا
تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي
أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا
يَرْجُونَ نُشُورًا (40) }
يقول تعالى متوعداً من كذّب رسولَه محمداً ، صلوات الله وسلامه عليه ، من مشركي
قومه ومن خالفه (5) ، ومحذرهم من عقابه وأليم عذابه ، مما أحله بالأمم الماضية
المكذبين لرسله ، فبدأ بذكر موسى ، عليه السلام ، وأنه ابتعثه وجعل معه أخاه هارون
وزيرا ، أي : نبيًا مُوَازرا ومؤيداً وناصراً ، فكذبهما فرعون وجنوده ، فـ {
دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } [ محمد : 10]. ،
وكذلك فعلَ بقوم نوح حين كذّبوا رسوله نوحاً ، عليه السلام ، ومن كذب برسول فقد
كذب بجميع الرسل ؛ إذ لا فرق بين رسول ورسول ، ولو فرض أن الله بعث إليهم كل رسول
فإنهم كانوا يكذبونه ؛ ولهذا قال : { وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ }
، ولم يبعث إليهم إلا نوح فقط ، وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ، يدعوهم
إلى الله ، ويحذرهم نقَمه ، فما آمن معه إلا قليل. ولهذا أغرقهم الله
__________
(1) في أ : "من السماء الدنيا".
(2) النسائي في السنن الكبرى برقم (11372).
(3) صحيح البخاري برقم (4760) وصحيح مسلم برقم (2806).
(4) زيادة من ف.
(5) في ف ، أ : "خالفهم".
(6/110)
جميعا ، ولم
يَبق منهم أحد ، ولم يبق على وجه الأرض من بني آدم سوى أصحاب السفينة فقط.
{ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً } أي : عبرة يعتبرون بها ، كما قال تعالى : {
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا
لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [ الحاقة : 11 - 12]. أي :
وأبقينا لكم من السفن ما تركبون في لُجَج البحار ، لتذكروا نعمة الله عليكم في
إنجائكم من الغرق ، وجَعْلكم من ذرّية مَن آمن به وصَدّق أمره.
وقوله : { وَعَادًا وَثَمُودَ } قد (1) تقدم الكلام على قصتيهما في غير ما سورة ،
منها في سورة "الأعراف" بما أغنى عن الإعادة (2).
وأما أصحاب الرس فقال ابن جُرَيْج ، عن (3) ابن عباس : هم أهل قرية من قرى ثمود.
وقال ابن جريج : قال عكرمة : أصحاب الرَسّ بفَلَج وهم أصحاب يس. وقال قتادة :
فَلَج من قرى اليمامة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم [النبيل] (4) ، حدثنا الضحاك
بن مَخْلَد أبو عاصم ، حدثنا شبيب بن بشر (5) ، حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قوله :
{ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ } قال : بئر بأذربيجان.
وقال سفيان الثوري عن أبي بُكَيْر (6) ، عن عكرمة : الرس بئر رَسوا فيها نبيهم. أي
: دفنوه بها (7).
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن كعب [القرظي] (8) قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "إن أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة العبد الأسود ، وذلك أن
الله - تعالى وتبارك - بعث نبيا (9) إلى أهل قرية ، فلم يؤمن به من أهلها إلا ذلك
العبد الأسود ، ثم إن أهل القرية عدَوا على النبي ، فحفروا له بئرا فألقوه فيها ،
ثم أطبقوا عليه بحجر ضخم (10) قال : "فكان ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره ،
ثم يأتي بحطبه فيبيعه ، ويشتري به طعاما وشرابا ، ثم يأتي به إلى تلك البئر ،
فيرفع تلك الصخرة ، ويعينه الله عليها ، فيدلي إليه طعامه وشرابه ، ثم يردها كما
كانت". قال : "فكان ذلك ما شاء الله أن يكون ، ثم إنه ذهب يوماً يحتطب
كما كان يصنع ، فجمع حطبه وحَزم وفرغ منها فلما أراد أن يحتملها وجد سنة ، فاضطجع
فنام ، فضرب الله على أذنه سبع سنين نائماً ، ثم إنه هَبّ فتمطى ، فتحول لشقه
الآخر فاضطجع ، فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى ، ثم إنه هب واحتمل حُزْمَته ولا
يحسبُ إلا أنه نام ساعة من نهار (11) فجاء إلى القرية فباع حزمته ، ثم اشترى طعاما
وشرابا كما كان يصنع. ثم ذهب (12) إلى الحفيرة في موضعها الذي كانت فيه ، فالتمسه
فلم يجده. وكان قد بدا لقومه فيه بَداء ، فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه". قال :
__________
(1) في ف : "وقد".
(2) في ف ، أ : "إعادته".
(3) في أ : "قال".
(4) زيادة من ف.
(5) في أ : "بشير".
(6) في ف ، أ : "بكر".
(7) في ف : "فيها".
(8) زيادة من ف والطبري.
(9) في ف : "بعث نبيا من الأنبياء".
(10) في ف : "أصم".
(11) في أ : "النهار".
(12) في ف ، أ : "ثم إنه ذهب".
(6/111)
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)
فكان نبيهم
يسألهم عن ذلك الأسود : ما فعل ؟ فيقولون له : لا ندري. حتى قبض الله النبي ،
وَأهبّ الأسودَ من نومته بعد ذلك". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إن ذلك الأسودَ لأولُ من يدخل الجنة".
وهكذا رواه ابن جرير (1) عن ابن حميد ، عن سلمة عن ابن إسحاق ، عن محمد بن كعب
مرسلا. وفيه غرابة ونَكارَةٌ ، ولعل فيه إدْرَاجاً ، والله أعلم. وأما ابن جرير
فقال : لا يجوز أن يحمل هؤلاء على أنهم أصحاب الرس الذين ذكروا في القرآن ؛ لأن
الله أخبر عنهم أنه أهلكهم ، وهؤلاء قد بدا لهم فآمنوا بنبيهم ، اللهم إلا أن يكون
حدث لهم أحداث ، آمنوا بالنبي بعد هلاك آبائهم ، والله أعلم.
واختار ابن جرير أن المراد بأصحاب الرس هم أصحاب الأخدود ، الذين ذكروا في سورة
البروج ، فالله أعلم.
وقوله : { وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا } أي : وأمما بين أضعاف مَنْ ذُكر
أهلكناهم كثيرة ؛ ولهذا قال : { وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ } أي : بينا لهم
الحجج ، ووضَّحنا لهم الأدلة - كما قال قتادة : أزحنا (2) عنهم الأعذار - { وَكُلا
تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا } أي : أهلكنا إهلاكاً ، كقوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ
الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ } [ الإسراء : 17].
والقرن : هو الأمة من الناس ، كقوله : { ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ
قُرُونًا آخَرِينَ } [ المؤمنون : 31] وحدَّه بعضهم (3) بمائة وعشرين سنة. وقيل :
بمائة سنة. وقيل : بثمانين سنة. وقيل : أربعين. وقيل غير ذلك. والأظهر : أن القرن
هم الأمة المتعاصرون في الزمن الواحد ؛ فإذا ذهبوا وخلفهم جيل آخر فهم قرن ثان ،
كما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "خير القرون
قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم" الحديث.
وقوله : { وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ
السَّوْءِ } يعني : قوم لوط ، وهي سدوم ومعاملتها التي أهلكها الله بالقلب ،
وبالمطر الحجارة من سجيل ، كما قال تعالى : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا
فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ } [ الشعراء : 173]وقال { وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ
عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ } [ الصافات : 137 -
138] وقال تعالى : { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ } [ الحجر : 76] وقال {
وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ } [ الحجر : 79] ؛ ولهذا قال : { أَفَلَمْ
يَكُونُوا يَرَوْنَهَا } أي : فيعتبروا بما حَلّ بأهلها من العذاب والنكال بسبب
تكذيبهم بالرسول ومخالفتهم أوامر الله.
وقوله : { بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا } يعني : المارين بها من الكفار لا
يعتبرون لأنهم لا يرجون نشوراً ، أي : معادًا يوم القيامة.
{ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ
اللَّهُ رَسُولا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ
صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ
سَبِيلا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ
عَلَيْهِ وَكِيلا (43) }
__________
(1) تفسير الطبري : 19/10.
(2) في أ : "وأزحنا".
(3) في ف ، أ : "بعض المفسرين".
(6/112)
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
{ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا (44) }
(6/112)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)
يخبر تعالى
عن استهزاء المشركين بالرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، إذا رأوه ، كما قال : {
وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا
الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ } [ الأنبياء : 36] يعنونه بالعيب والنقص ، وقال
هاهنا : { وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي
بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا } ؟ أي : على سبيل التنقص (1) والازدراء - قبَّحهم الله -
كما قال : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } [ الرعد : 32].
وقولهم (2) : { إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا
عَلَيْهَا } يعنون : أنه كاد يثنيهم عن عبادة أصنامهم ، لولا أن صبروا وتجلدوا
واستمروا على عبادتها. قال الله تعالى متوعدا لهم ومتهددا : { وَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا }.
ثم قال تعالى لنبيه ، منبهًا له أن من كتب الله عليه الشقاوة والضلال ، فإنه لا
يهديه أحد إلا الله.
{ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } أي : مهما استحسن من شيء ورآه
حسناً في هوى نفسه ، كان دينَه ومذهبَه ، كما قال تعالى : { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ
سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي
مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [فاطر : 8] ؛ ولهذا
قال هاهنا : { أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا }. قال ابن عباس : كان الرجل
في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زماناً ، فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك
الأول.
ثم قال : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ
هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا } أي : أسوأ حالا من الأنعام
السارحة ، فإن تلك تعقل ما خلقت له ، وهؤلاء خلقوا لعبادة الله وحده لا شريك له ،
وهم يعبدون غيره ويشركون به ، مع قيام الحجة عليهم ، وإرسال الرسل إليهم.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ
سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ
إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا
وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) }
من هاهنا شرع تعالى في بيان الأدلة الدالة على وجوده ، وقدرته التامة على خلق
الأشياء المختلفة والمتضادة ، فقال : { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ
الظِّلَّ } ؟ قال ابن عباس ، وابن عمر ، وأبو
__________
(1) في ف ، أ : "التنقيص".
(2) في أ : "وقوله".
(6/113)
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)
العالية ،
وأبو مالك ، ومسروق ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم النَّخَعِي ، والضحاك ،
والحسن البصري ، وقتادة ، والسدي ، وغيرهم : هو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
{ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا } أي : دائما لا يزول ، كما قال تعالى : {
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ } ، { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ
النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } [ القصص : 71 - 72].
وقوله : { ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا } أي : لولا أن الشمس تطلع
عليه ، لما عرف ، فإن (1) الضد لا يعرف إلا بضده.
وقال قتادة ، والسّدي : دليلا يتلوه ويتبعه حتى يأتي عليه كله.
وقوله : { ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا } أي : الظل ، وقيل :
الشمس. { يسيرا } أي : سهلا. قال ابن عباس : سريعاً. وقال مجاهد : خفياً. وقال
السّدي ؛ قبضاً خفَياً ، حتى لا يبقى في الأرض ظل إلا تحت سقف أو تحت شجرة ، وقد
أظلت الشمس ما فوقه.
وقال أيوب بن موسى : { ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا } أي : قليلا
قليلا.
وقوله : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا } أي : يلبس الوجود
ويُغَشيه (2) ، كما قال : [ { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } [ الليل : 1 ] وقال]
(3) { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } [ الشمس : 4].
{ وَالنَّوْمَ سُبَاتًا } أي : قَطْعَا للحركة لراحة الأبدان ، فإن الأعضاء
والجوارح تكل من كثرة الحركة في الانتشار بالنهار في المعايش ، فإذا جاء الليل
وسكن سكنت الحركات ، فاستراحت فحصل النوم الذي فيه راحة البدن والروح معا.
{ وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا } أي : ينتشر الناسُ فيه (4) لمعايشهم ومكاسبهم
وأسبابهم ، كما قال تعالى : { وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [
القصص : 73].
{ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ
وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً
مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا
كُفُورًا (50) }.
وهذا أيضا من قدرته التامة وسلطانه العظيم ، وهو أنه تعالى يرسل الرياح مبشرات ،
أي : بمجيء السحاب بعدها ، والرياح أنواع ، في صفات كثيرة من التسخير ، فمنها ما
يثير السحاب ، ومنها ما يحمله ، ومنها ما يسوقه ، ومنها ما يكون بين يدي السحاب
مبشِّرا ، ومنها ما يكون قبل ذلك يَقُمّ الأرض ، ومنها ما يلقح السحاب ليمطر ؛
ولهذا قال : { وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } أي : آلة يتطهر بها ،
كالسَّحُور والوقود (5) وما جرى مجراه. فهذا أصح ما يقال في ذلك. وأما من قال :
إنه فعول
__________
(1) في ف : "وإن".
(2) في ف : "ويغشاه".
(3) زيادة من أ.
(4) في ف : "فيه الناس".
(5) في أ : "والوجود".
(6/114)
بمعنى فاعل
، أو : إنه مبني للمبالغة أو التعدي ، فعلى كل منهما (1) إشكالات من حيث اللغة
والحكم ، ليس (2) هذا موضع بسطها ، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، حدثنا أبي ، عن أبي
جعفر الرازي ، حدثني حُمَيد الطويل ، عن ثابت البناني قال : دخلت مع أبي العالية
في يوم مطير ، وطرق البصرة قذرة ، فصلى ، فقلت له ، فقال : { وَأَنزلْنَا مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } قال : طهره ماء السماء.
وقال أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا وُهَيب (3) عن داود ، عن سعيد بن
المسيب في هذه الآية : { وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } [قال :
أنزله الله ماءً طاهراً] (4) لا ينجسه شيء.
وعن أبي سعيد قال : قيل : يا رسول الله ، أنتوضأ من بئر بضاعة ؟ - وهي بئر يُلقَى
فيها النَّتَن ، ولحوم الكلاب - فقال : "إن الماء طهور لا ينجسه شيء"
رواه الشافعي ، وأحمد وصححه ، وأبو داود ، والترمذي وحسنه ، والنسائي (5).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الأشعث ، حدثنا معتمر ، سمعت أبي يحدث
عن سَيَّار ، عن خالد بن يزيد ، قال : كان عند عبد الملك بن مروان ، فذكروا الماء
، فقال خالد بن يزيد : منه من السماء ، ومنه ما يسقيه الغيم من البحر فَيُعْذِبه
الرعد والبرق. فأما ما كان من البحر ، فلا يكون له نبات ، فأما النبات فمما كان من
السماء.
وروي عن عكرمة قال : ما أنزل الله من السماء قطرة إلا أنبت بها في الأرض عشبة أو
في البحر لؤلؤة. وقال غيره : في البر بُر ، وفي البحر دُرّ.
وقوله : { لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا } أي : أرضا قد طال انتظارها للغيث ،
فهي هامدة لا نبات فيها ولا شيء. فلما جاءها الحيا عاشت واكتست رباها أنواع
الأزاهير والألوان ، كما قال تعالى : { فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ
اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ الحج : 5].
{ وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا } أي : وليشرب
منه الحيوان من أنعام وأناسي محتاجين إليه غاية الحاجة ، لشربهم وزروعهم وثمارهم ،
كما قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا
وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } [ الشورى : 28] وقال تعالى
: { فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
[ الروم : 50].
وقوله : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا } أي : أمطرنا هذه
الأرض دون هذه ، وسقنا السحاب فمر على الأرض وتعداها وجاوزها إلى الأرض الأخرى ،
[فأمطرتها وكفتها فجعلتها عذقا ، والتي وراءها] (6) لم ينزل فيها قطرة من ماء ،
وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة.
__________
(1) في أ : "منها".
(2) في ف ، أ : "وليس".
(3) في أ : "وهب".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) الأم للشافعي (1/9) والمسند (3/15) وسنن أبي داود برقم (66) وسنن الترمذي برقم
(66) وسنن النسائي (1/174).
(6) زيادة من ف ، أ.
(6/115)
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)
قال ابن
مسعود وابن عباس : ليس عام بأكثر مطرًا من عام ، ولكن الله يصرفه كيف يشاء ، ثم
قرأ هذه الآية : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى
أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا }.
أي : ليذكروا بإحياء الله الأرض الميتة أنه قادر على إحياء الأموات (1). والعظام
الرفات. أو : ليذكر من منع القَطْر أنما أصابه ذلك بذنب أصابه ، فيقلع عما هو فيه.
وقال عُمَر مولى غُفْرَة (2) : كان جبريل ، عليه السلام ، في موضع الجنائز ، فقال
له النبي صلى الله عليه وسلم : "يا جبريل ، إني أحب أن أعلم أمْرَ السحاب
؟" قال : فقال جبريل : يا نبي الله ، هذا ملك السحاب فسله. فقال : تأتينا
صَكاك مُخَتَّمة : اسق بلاد كذا وكذا ، كذا وكذا قطرة. رواه ابن حاتم ، وهو حديث
مرسل.
وقوله : { فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا } : قال عكرمة : يعني : الذين
(3) يقولون : مطرنا بنَوء كذا وكذا.
وهذا الذي قاله عكرمة كما صح في الحديث المخرج في صحيح مسلم ، عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه يوماً ، على أثر سماء أصابتهم من الليل :
"أتدرون ماذا قال ربكم" قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : "قال :
أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي
كافر بالكوكب. وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذاك كافر بي ، مؤمن
بالكوكب" (4).
{ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلا تُطِعِ
الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ
الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا
بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا
فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) }.
يقول تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا } يدعوهم
إلى الله عز وجل ، ولكنا خصصناك - يا محمد - بالبعثة إلى جميع أهل الأرض ، وأمرناك
أن تبلغ الناس هذا القرآن ، { لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [ الأنعام : 19]
، { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [ هود : 17]{
وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } [ الأنعام : 92] ، { قُلْ يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف :
158]. وفي الصحيحين : "بعثت إلى الأحمر والأسود" وفيهما : "وكان
النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" ؛ ولهذا قال : { فَلا تُطِعِ
الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ } يعني : بالقرآن ، قاله ابن عباس { جِهَادًا
كَبِيرًا } ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ
وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 73 ، التحريم : 9].
__________
(1) في ف ، أ : "الموتى".
(2) في ف ، أ : "عقبة".
(3) في أ : "الذي".
(4) صحيح مسلم برقم (71) من حديث زيد بن خالد الجهني.
(6/116)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)
وقوله : {
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ
} أي : خلق الماءين : الحلو والملح ، فالحلو كالأنهار والعيون والآبار ، وهذا هو
البحر الحلو الفرات العذب الزلال. قاله ابن جريج ، واختاره ابن جرير ، وهذا الذي
لا شك فيه ، فإنه ليس في الوجود بحر ساكن وهو عذب فرات. والله سبحانه إنما أخبر
بالواقع (1) لينبه العباد على نعمه عليهم ليشكروه ، فالبحر العذب هو هذا السارح
بين الناس ، فرقه تعالى بين خلقه لاحتياجهم إليه أنهارًا وعيونًا في كل أرض بحسب
حاجتهم وكفايتهم لأنفسهم وأراضيهم.
وقوله : { وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } أي : مالح مُرّ زعاق لا يستساغ ، وذلك كالبحار
المعروفة في المشارق والمغارب : البحر المحيط وما يتصل به من الزقاق وبحر القلزم ،
وبحر اليمن ، وبحر البصرة ، وبحر فارس وبحر الصين والهند وبحر الروم وبحر الخزر ،
وما شاكلها وشابهها (2) من البحار الساكنة التي لا تجري ، ولكن تتموج وتضطرب
وتغتلم في زمن الشتاء وشدة الرياح ، ومنها ما فيه مد وجَزْر ، ففي أول كل شهر يحصل
منها مد وفيض (3) ، فإذا شرع الشهر في النقصان جَزَرت ، حتى ترجع إلى غايتها
الأولى ، فإذا استهل الهلال من الشهر الآخر شرعت في المد إلى الليلة الرابعة عشرة
(4) ثم تشرع في النقص ، فأجرى الله سبحانه وتعالى - وله القدرة التامة - العادة
بذلك. فكل هذه البحار الساكنة خلقها الله سبحانه وتعالى مالحة الماء ، لئلا يحصل
بسببها نتن الهواء ، فيفسد الوجود بذلك ، ولئلا تجوى الأرض بما يموت فيها من
الحيوان. ولما كان ماؤها ملحا كان هواؤها صحيحا وميتتها طيبة ؛ ولهذا قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن ماء البحر : أنتوضأ به ؟ فقال : "هو
الطهور ماؤه ، الحل ميتته". رواه الأئمة : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأهل
السنن بإسناد جيد (5).
وقوله : { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا } أي : بين العذب والمالح {
برزخا } أي : حاجزاً ، وهو اليَبَس من الأرض ، { وَحِجْرًا مَحْجُورًا } أي :
مانعاً أن يصل أحدهما إلى الآخر ، كما قال : { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ
* بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
} [ الرحمن : 19 - 21] ، وقال تعالى : { أَمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ
خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ
حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [ النمل :
61].
وقوله : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا
وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا } أي : خلق الإنسان من نطفة ضعيفة ، فسواه
وعَدّله ، وجعله كامل الخلقة ، ذكراً أو أنثى ، كما يشاء ، { فَجَعَلَهُ نَسَبًا
وَصِهْرًا } ، فهو في ابتداء أمره ولد نسيب ، ثم يتزوج فيصير صهراً ، ثم يصير له
أصهار وأختان وقرابات. وكل ذلك من ماء مهين ؛ ولهذا قال : { وَكَانَ رَبُّكَ
قَدِيرًا }.
{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ
الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) }
__________
(1) في أ : "عن الواقع".
(2) في أ : "وأشبهها".
(3) في أ : "وقيض".
(4) في أ : "عشر".
(5) سبق تخريجه عند تفسير الآية : 3 من سورة المائدة.
(6/117)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) }.
(6/117)
يخبر تعالى
عن جهل المشركين في عبادتهم غير الله من الأصنام ، التي لا تملك لهم نفعاً ولا ضرا
، بلا دليل قادهم إلى ذلك ، ولا حجة أدتهم إليه ، بل بمجرد الآراء ، والتشهي
والأهواء ، فهم يوالونهم (1) ويقاتلون في سبيلهم ، ويعادون الله ورسوله
[والمؤمنون] (2) فيهم ؛ ولهذا قال : { وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا
} أي : عونا في سبيل الشيطان على حزب الله ، وحزب الله هم الغالبون ، كما قال
تعالى : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ * لا
يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ } [ يس : 74 - 75] أي
: آلهتهم التي اتخذوها من دون الله لا تملك (3) لهم نصرا ، وهؤلاء الجهلة للأصنام
جند محضرون يقاتلون عنهم ، ويَذبُّون عن حَوْزتهم ، ولكن العاقبة والنصرة لله
ولرسوله في الدنيا والآخرة.
قال مجاهد : { وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا } قال : يظاهر الشيطان
على معصية الله ، يعينه.
وقال سعيد بن جبير : { وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا } يقول : عوناً
للشيطان على ربه بالعداوة والشرك.
وقال زيد بن أسلم : { وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا } قال : مواليا.
ثم قال تعالى لرسوله ، صلوات الله وسلامه عليه : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا
مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } أي : بشيراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين ، مبشرا بالجنة
لمن أطاع الله ، ونذيراً بين يدي عذاب شديد لمن خالف أمر الله.
{ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } أي : على هذا البلاغ وهذا الإنذار
من أجرة أطلبها من أموالكم ، وإنما أفعل ذلك ابتغاء وجه الله ، { لِمَنْ شَاءَ
مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } [ التكوير : 28]{ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ
إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا } أي : طريقا ومسلكا ومنهجا ُيقتدى فيها بما جئت به.
ثم قال : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ } أي : في أمورك كلها
كُن متوكلا على الله الحي الذي لا يموت أبدا ، الذي هو { الأوَّلُ وَالآخِرُ
وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ الحديد : 3] الدائم
الباقي السرمدي الأبدي ، الحي القيوم ربّ كل شيء ومليكه ، اجعله ذُخْرك وملجأك ،
وهو الذي يُتَوكل عليه ويفزع إليه ، فإنه كافيك وناصرك ومؤيدك ومظفرك ، كما قال
تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ } [ المائدة : 67].
__________
(1) في أ : "والتشهي فيهم يوالون لهم".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : "لا يملكون".
(6/118)
وقال ابن
أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا عبد الله بن محمد بن علي بن نُفَيْل قال :
قرأت على مَعْقِل - يعني ابن عبيد الله - عن عبد الله بن أبي حسين ، عن شَهْر بن
حَوْشَب قال : لقي سلمانُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في بعض فجاج (1) المدينة
، فسجد له ، فقال : "لا تسجد لي يا سلمان ، واسجد للحي الذي لا يموت"
وهذا مرسل حسن (2).
[وقوله تعالى : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ } ، أي : اقرن بين حمده وتسبيحه] (3) ؛
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "سبحانك اللهم رَبَّنا
وبحمدك" أي : أخلص له العبادة والتوكل ، كما قال تعالى : { رَبُّ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا } [ المزمل : 9].
وقال : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123]{ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ
آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } [ الملك : 29].
وقوله : { وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا } أي : لعلمه (4) التام الذي
لا يخفى عليه خافية ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة.
وقوله : { الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
} أي : هو الحي الذي لا يموت ، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه ، الذي خلق بقدرته
وسلطانه السموات السبع في ارتفاعها واتساعها ، والأرضين السبع في سفولها وكثافتها
، { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الرَّحْمَنُ ] } (5) ،
أي : يدبر الأمر ، ويقضي الحق ، وهو خير الفاصلين.
وقوله : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا }
أي : استعلم عنه من هو خبير به عالم به فاتبعه واقتد به ، وقد عُلِم أنه لا أحد
أعلم بالله ولا أخبر به من عبده ورسوله محمد ، صلوات الله وسلامه ، على (6) سيد
ولد آدم على الإطلاق ، في الدنيا والآخرة ، الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي
يوحى - فما قاله فهو حق ، وما أخبر به فهو صدق ، وهو الإمام المحكم الذي إذا تنازع
الناس في شيء ، وجب ردّ نزاعهم إليه ، فما يوافق أقواله ، وأفعاله فهو الحق ، وما
يخالفها (7) فهو مردود على قائله وفاعله ، كائنا من كان ، قال الله تعالى : {
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } [
النساء : 59].
وقال : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } [
الشورى : 10] ، وقال تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا } [
الأنعام : 115] أي : صدقا في الإخبار وعدلا في الأوامر والنواهي ؛
__________
(1) في أ : "مخارج".
(2) ورواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان (2/103) من طريق محمد بن أحمد بن سيار عن هشام
عن إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين به
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في ف ، أ : "بعلمه".
(5) زيادة من أ.
(6) في ف ، أ : "عليه".
(7) في أ : "وما خالفها".
(6/119)
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
ولهذا قال :
{ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } قال مجاهد في قوله : { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } قال
: ما أخبرتك (1) من شيء فهو كما أخبرتك. وكذا قال ابن جريج.
وقال شمر بن عطية في قوله : { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } قال : هذا القرآن خبير
به.
ثم قال تعالى منكرا على المشركين الذين يسجدون لغير الله من الأصنام والأنداد : {
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ } ؟ أي :
لا نعرف الرحمن. وكانوا ينكرون أن يُسَمّى الله باسمه الرحمن ، كما أنكروا ذلك يوم
الحديبية حين قال النبي صلى الله عليه وسلم للكاتب : "اكتب بسم الله الرحمن
الرحيم" فقالوا : لا نعرف الرحمن ولا الرحيم ، ولكن اكتب كما كنت تكتب :
باسمك اللهم ؛ ولهذا أنزل الله : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ
أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى } [ الإسراء : 110] أي : هو
الله وهو الرحمن. وقال في هذه الآية : (2) { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا
لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ } ؟ أي : لا نعرفه ولا نُقر به ؟ { أَنَسْجُدُ
لِمَا تَأْمُرُنَا } أي : لمجرد قولك ؟ { وَزَادَهُمْ نُفُورًا } ، أما (3)
المؤمنون فإنهم يعبدون الله الذي هو الرحمن الرحيم ، ويُفْرِدُونه بالإلهية
ويسجدون له. وقد اتفق العلماء - رحمهم الله - على أن هذه السجدة التي في الفرقان
مشروع السجودُ عندها لقارئها ومستمعها ، كما هو مقرر في موضعه ، والله أعلم.
{ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا
وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً
لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) }.
يقول تعالى ممجدا نفسه ، ومعظما على جميل ما خلق في السماء من البروج - وهي
الكواكب العظام - في قول مجاهد ، وسعيد بن جُبير ، وأبي صالح ، والحسن ، وقتادة.
وقيل : هي قصور في السماء للحرس ، يروى هذا عن علي ، وابن عباس ، ومحمد بن كعب ،
وإبراهيم النخعي ، وسليمان بن مِهْران الأعمش. وهو رواية عن أبي صالح أيضا ،
والقول الأول أظهر. اللهم إلا أن يكون الكواكب العظام هي قصور للحرس ، فيجتمع
القولان ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا
بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ } [ الملك : 5] ؛ ولهذا قال
: { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا }
وهي الشمس المنيرة ، التي هي كالسراج في الوجود ، كما قال : { وَجَعَلْنَا
سِرَاجًا وَهَّاجًا } [ النبأ : 13].
{ وَقَمَرًا مُنِيرًا } أي : مضيئا مشرقا بنور آخر ونوع وفن آخر ، غير نور الشمس ،
كما قال : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا } [ يونس :
5] ، وقال مخبرا عن نوح ، عليه السلام ، أنه قال لقومه : { أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ
خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا
وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا } [ نوح : 15 - 16].
__________
(1) في أ : "ما أخبرك".
(2) في ف ، أ : "الآية الكريمة".
(3) في ف ، أ : "فأما".
(6/120)
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
ثم قال : {
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً } أي : يخلف كل واحد منهما
الآخر ، يتعاقبان لا يفتران. إذا ذهب هذا جاء هذا ، وإذا جاء هذا ذهب ذاك (1) ،
كما قال : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ
اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } [ إبراهيم : 33 ] ، وقال { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ
يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ
بِأَمْرِهِ } [ الأعراف : 54]وقال : { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ
الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [
يس : 40].
وقوله : { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } (2) أي :
جعلهما يتعاقبان ، توقيتا لعبادة عباده له ، فمن فاته عمل في الليل استدركه في
النهار ، ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل. وقد جاء في الحديث الصحيح :
"إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب
مسيء الليل" (3).
قال أبو داود الطيالسي : حدثنا أبو حُرّة (4) عن الحسن : أن عمر بن الخطاب أطال
صلاة الضحى ، فقيل له : صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه ؟ فقال : إنه بقي علي من
وردي شيء ، فأحببت أن أتمه - أو قال : أقضيه - وتلا هذه الآية : { وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً [لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ
شُكُورًا] } (5) (6).
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس [قوله : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ خِلْفَةً } (7) ] يقول : من فاته شيء من الليل أن يعمله ، أدركه
بالنهار ، أو من النهار أدركه بالليل. وكذا قال عكرمة ، وسعيد بن جبير. والحسن.
وقال مجاهد ، وقتادة : { خِلْفَة } أي : مختلفين ، هذا بسواده ، وهذا بضيائه.
{ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا
خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ
لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ
عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ
مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا
وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) }.سب
هذه صفات عباد الله المؤمنين { الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا } أي :
بسكينة ووقار من غير جَبَرية ولا استكبار ، كما قال : { وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ
مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا } [
الإسراء : 37]. فأما هؤلاء فإنهم يمشون من غير استكبار ولا مرح ، ولا أشر ولا بطر
،
__________
(1) في أ : "هذا".
(2) في أ : "نشورا" وهو خطأ.
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (2759) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(4) في أ : "أبو حمزة".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) وهذا منقطع ، فالحسن لم يسمع من عمر.
(7) زيادة من ف ، أ.
(6/121)
وليس المراد
أنهم يمشون كالمرضى من التصانع تصنعًا ورياء ، فقد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه
وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صَبَب ، وكأنما الأرض تطوى له. وقد كره بعض السلف
المشي بتضعف وتصنع ، حتى روي عن عمر أنه رأى شابًا يمشي رُويدًا ، فقال : ما بالك
؟ أأنت مريض ؟ قال : لا يا أمير المؤمنين. فعلاه بالدرة ، وأمره أن يمشي بقوة.
وإنما (1) المراد بالهَوْن هاهنا السكينة والوقار ، كما قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ، وأتوها وعليكم السكينة
، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا" (2).
وقال عبد الله بن المبارك ، عن مَعْمَر ، عن يحيى (3) بن المختار ، عن الحسن
البصري في قوله : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ
هَوْنًا } قال : إن المؤمنين قوم ذُلُل ، ذلت منهم - والله - الأسماعُ والأبصار
والجوارح ، حتى تحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض ، وإنهم لأصحاء ، ولكنهم دخلهم من
الخوف ما لم يدخل غيرهم ، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة ، فقالوا : الحمد لله
الذي أذهب عنا الحزن. أما والله ما أحزنهم حزن الناس ، ولا تعاظم في نفوسهم شيء
طلبوا به الجنة ، أبكاهم الخوف من النار ، وإنه من لم يتعز بعزاء الله تَقَطَّعُ
نفسُه على الدنيا حسرات ، ومن لم ير لله نعمة إلا في مطعم أو في مشرب ، فقد قلَّ
علمه (4) وحضَر عذابهُ.
وقوله : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا } أي : إذا سَفه
عليهم الجهال بالسّيئ ، لم يقابلوهم عليه بمثله ، بل يعفون ويصفحون ، ولا يقولون
إلا خيرًا ، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجهل عليه إلا
حلما ، وكما قال تعالى : { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ
وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا
نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } [ القصص : 55].
وقال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا أبو بكر ، عن الأعمش ، عن أبي خالد
الوالبي ، عن النعمان بن مُقَرّن المُزَني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
[وسبّ رجلٌ رجلا عنده ، قال : فجعل الرجل المسبوب يقول : عليك السلام. قال : فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما] (5) إن ملكًا بينكما يذب عنك ، كلما
شتمك هذا قال له : بل أنت وأنت أحق به. وإذا قال له : عليك السلام ، قال : لا بل
عليك ، وأنت أحق به. " إسناده حسن ، ولم يخرجوه (6).
وقال مجاهد : { قَالُوا سَلامًا } يعني : قالوا : سدادًا.
وقال سعيد بن جبير : ردوا معروفًا من القول.
وقال الحسن البصري : { قَالُوا [سَلامًا } ، قال : حلماء لا يجهلون] (7) ، وإن جهل
عليهم حلموا. يصاحبون عباد الله نهارهم بما تسمعون (8) ، ثم ذكر أن ليلهم خير ليل.
__________
(1) في ف ، أ : "وأما".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (635) ومسلم في صحيحه برقم (603) من حديث أبي
قتادة رضي الله عنه.
(3) في ف ، أ : "عمر".
(4) في أ : "عمله".
(5) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(6) المسند (5/445) وقال الهيثمي في المجمع (8/75) : "رجاله رجال الصحيح ،
غير أبي خالد الوالبي وهو ثقة".
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) في ف ، أ : "بما يسمعون".
(6/122)
وقوله : {
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا } أي : في عبادته وطاعته
، كما قال تعالى : { كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ
وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الذاريات : 17 - 18] ، وقال { تَتَجَافَى
جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ السجدة : 16] وقال { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ
اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ }
الآية [ الزمر : 9] ولهذا قال : { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا
عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا } أي : ملازما دائما ، كما قال
الشاعر (1) :
إنْ يُعَذّب يَكُنْ غَرَامًا ، وإن يُعْـ... ط جزيلا فإنه لا يُبَالي...
ولهذا قال الحسن في قوله : { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا } : كل شيء يصيب ابن
آدم ويزول عنه فليس بغرام ، وإنما الغرام اللازم ما دامت السموات والأرض. وكذا قال
سليمان التيمي.
وقال محمد بن كعب [القرظي] (2) : { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا } يعني : ما
نعموا في الدنيا ؛ إن الله سأل الكفار عن النعمة فلم يردوها إليه ، فأغرمهم
فأدخلهم النار.
{ إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } أي : بئس المنزل منظرا ، وبئس
المقيل مقامًا.
[و] (3) قال ابن أبي حاتم عند قوله : { إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا
} : حدثنا أبي ، حدثنا الحسن بن الربيع ، حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش ، عن مالك بن
الحارث قال : إذا طُرح الرجل في النار هوى فيها ، فإذا انتهى إلى بعض أبوابها قيل
له : مكانك حتى تتحف ، قال : فيسقى كأسا من سُمِّ الأساود والعقارب ، قال : فيميز
الجلد على حدة ، والشعر على حدة ، والعصب على حدة ، والعروق على حدة.
وقال أيضًا : حدثنا أبي ، حدثنا الحسن بن الربيع ، حدثنا أبو الأحوص ، عن الأعمش ،
عن مجاهد ، عن عُبيد بن عمير قال : إن في النار لجبابًا فيها حيات أمثال البخت ،
وعقارب أمثال البغال الدلم (4) ، فإذا قذف بهم في النار خرجت إليهم من أوطانها
فأخذت بشفاههم وأبشارهم وأشعارهم ، فكشطت لحومهم إلى أقدامهم ، فإذا وجدت حر النار
رجعت.
وقال الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا سلام - يعني ابن مسكين - عن أبي
ظلال ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"إن عبدًا في جهنم لينادي ألف سنة : يا حنان ، يا منان. فيقول الله لجبريل :
اذهب فآتني بعبدي هذا. فينطلق جبريل فيجد أهل النار مُنكبين (5) يبكون ، فيرجع إلى
ربه عز وجل فيخبره ، فيقول الله عز وجل : آتني به فإنه في مكان كذا وكذا. فيجيء به
فيوقفه على ربه عز وجل ، فيقول له : يا عبدي ، كيف وجدت مكانك ومقيلك ؟ فيقول : يا
رب شر مكان ، شر مقيل. فيقول : ردوا عبدي. فيقول : يا رب ، ما كنت أرجو إذ أخرجتني
منها أن تردني فيها! فيقول : دعوا عبدي (6).
وقوله : { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا
وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } أي : ليسوا بمبذرين في
__________
(1) هو الأعشى - ميمون بن قيس - والبيت في تفسير الطبري (19/23).
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ.
(4) في أ : "الدهم".
(5) في أ : "مكبين".
(6) المسند (3/230) وقال الهيثمي في المجمع (10/384) : "رجاله رجال الصحيح
غير أبي ظلال وضعفه الجمهور ، ووثقه ابن حبان".
(6/123)
إنفاقهم
فيصرفون فوق الحاجة ، ولا بخلاء على أهْليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم ، بل
عَدْلا خيارًا ، وخير الأمور أوسطها ، لا هذا ولا هذا ، { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ
قَوَامًا } ، كَمَا قَالَ : { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ
وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا } [ الإسراء :
29].
وقال الإمام أحمد : حدثنا عصام (1) بن خالد ، حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي
مريم الغساني ، عن ضَمْرَة ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"من فقه الرجل رفقه في معيشته". ولم يخرجوه (2).
وقال [الإمام] (3) أحمد أيضًا : حدثنا أبو عبيدة الحداد ، حدثنا سُكَين (4) بن عبد
العزيز العَبْدي ، حدثنا إبراهيم الهَجَري عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما عال من اقتصد". ولم
يخرجوه (5).
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أحمد بن يحيى ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن
ميمون (6) حدثنا سعيد (7) بن حكيم ، عن مسلم بن حبيب ، عن بلال - يعني العبسي - عن
حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أحسن القصد في الغنى ،
وأحسن القصد في الفقر ، وأحسن القصد في العبادة" ثم قال : لا نعرفه يروى إلا
من حديث حذيفة رضي الله عنه (8).
وقال إياس بن معاوية : ما جاوزت به أمر الله فهو سرف.
وقال غيره : السرف النفقة في معصية الله.
وقال الحسن البصري : ليس النفقة في سبيل الله سرفا [والله أعلم] (9).
__________
(1) في أ : "عاصم".
(2) المسند (5/194).
(3) زيادة من أ.
(4) في أ : "مسكين".
(5) المسند (1/447) وقال الهيثمي في المجمع (10/252) "في إسناده إبراهيم بن
مسلم الهجري وهو ضعيف".
(6) في ف ، أ : "إبراهيم بن محمد بن محمد بن ميمون".
(7) في ، أ : "سعد".
(8) مسند البزار برقم (3604) وقال الهيثمي في المجمع (10/252) : "رواه البزار
عن سعيد بن حكيم عن مسلم بن حبيب ، ومسلم هذا لم أجد من ذكره إلا ابن حبان في
ترجمة سعيد الراوي عنه ، وبقية رجاله ثقات".
(9) زيادة من أ.
(6/124)
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)
{
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ
الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ
فِيهِ مُهَانًا (69) إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا
فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا
رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ
مَتَابًا (71) }.
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن شَقيق ، عن عبد الله - هو
ابن مسعود - قال : سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي : الذنب أكبر ؟ قال :
"أن تَجعل لله ندًا وهو خلقك". قال : ثم أي ؟ قال : "أن تقتل ولدك
خشية أن يَطْعم معك". قال : ثم أي ؟ قال : "أن تزاني
(6/124)
حليلة
جارك". قال عبد الله : وأنزل الله تصديق ذلك : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ
مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ
إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا }.
وهكذا رواه النسائي عن هَنَّاد بن السري ، عن أبي معاوية ، به (1).
وقد أخرجه البخاري ومسلم ، من حديث الأعمش ومنصور - زاد البخاري : وواصل - ثلاثتهم
عن أبي وائل ، شقيق بن سلمة ، عن أبي مَيْسَرة عمرو بن شرحبيل ، عن ابن مسعود ، به
(2) ، فالله أعلم ، ولفظهما عن ابن مسعود قال : قلت : يا رسول الله ، أي الذنب
أعظم ؟ الحديث.
طريق غريب : وقال ابن جرير : حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، حدثنا عامر بن
مُدْرِك ، حدثنا السري - يعني ابن إسماعيل - حدثنا الشعبي ، عن مسروق قال : قال
عبد الله : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فاتبعته ، فجلس على نَشَز من
الأرض ، وقعدت أسفل منه ، ووجهي حيال ركبتيه ، واغتنمت (3) خلوته وقلت (4) : بأبي
أنت وأمي يا رسول الله ، أي الذنوب (5) أكبر ؟ قال : "أن تدعو لله ندًا وهو
خلقك".قلت : ثم مه ؟ (6) قال : "أن تقتل ولدك كراهية أن يطعم معك".
قلت : ثم مه ؟ قال : "أن تزاني حليلة جارك". ثم قرأ : { وَالَّذِينَ لا
يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ }. [إلى آخر] (7) الآية (8).
وقال النسائي : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن هلال بن يَسَاف
، عن سلمة بن قيس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع :
"ألا إنما هي أربع - فما أنا بأشح عليهن مني منذ سمعتهن من رسول الله صلى
الله عليه وسلم - : لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا
بالحق ، ولا تزنوا ، ولا تسرقوا" (9).
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن المديني ، رحمه الله ، حدثنا محمد بن فضيل بن
غَزْوان ، حدثنا محمد بن سعد (10) الأنصاري ، سمعت أبا طيبة الكَلاعي ، سمعت
المقداد بن الأسود ، رضي الله عنه ، يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لأصحابه : "ما تقولون في الزنى" ؟ قالوا : حَرّمه الله ورسوله ، فهو
حَرَام إلى يوم القيامة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : "لأن
يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره". قال : "ما
تقولون في السرقة" ؟ قالوا : حرمها الله ورسوله ، فهي حرام. قال : "لأن
يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره" (11).
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا عمار بن نصر ، حدثنا بَقيَّة ، عن أبي بكر بن
أبي مريم ، عن الهيثم بن مالك الطائي عن النبي صلى الله عليه وسلم : قال :
"ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نُطفة وضعها رجل في رَحِم لا يحل
له" (12).
__________
(1) المسند (1/380) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11368).
(2) صحيح البخاري برقم (6811) وصحيح مسلم برقم (68).
(3) في ف : "فاغتنمت".
(4) في أ : "فقلت".
(5) في أ : "الذنب".
(6) في أ : "أي".
(7) زيادة من أ.
(8) صحيح البخاري برقم (6811) وصحيح مسلم برقم (68).
(9) النسائي في السنن الكبرى رقم (11373).
(10) في ف ، أ : "سعيد".
(11) المسند (6/8) وقال الهيثمي في المجمع (8/168) "رجاله ثقات".
(12) الورع لابن أبي الدنيا برقم (137) "وهو مرسل ، وفي إسناده بقية وهو مدلس
وابن أبي مريم ضعيف" أ.هـ مستفادا من كلام المحقق الفاضل محمد الحمود.
(6/125)
وقال ابن
جُرَيج : أخبرني يعلى ، عن سعيد بن جبير أنه سمعه يحدث (1) عن ابن عباس : أن ناسا
من أهل الشرك قتلوا فأكثروا ، وزَنَوا فأكثروا ، ثم أتوا محمدًا صلى الله عليه
وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن ، لو تخبرنا أن لما عملنا (2) كفارة ،
فنزلت : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ } ، ونزلت : {
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ
رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [إِنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ] } (3) [ الزمر : 53].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن
أبي فَاخِتة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل : "إن الله ينهاك
أن تعبد المخلوق وتدع الخالق ، وينهاك أن تقتل ولدك وتغذو كلبك ، وينهاك أن تزني
بحليلة جارك". قال سفيان : وهو قوله : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ
اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا
بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ } (4).
وقوله : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا }. روي عن عبد الله بن عمرو أنه
قال : { أَثَامًا } واد في جهنم.
وقال عكرمة : { يَلْقَ أَثَامًا } أودية في جهنم يعذب فيها الزناة. وكذا رُوي عن
سعيد بن جبير ، ومجاهد.
وقال قتادة : { يَلْقَ أَثَامًا } نكالا كنا نحدث أنه واد في جهنم.
وقد ذكر لنا أن لقمان كان يقول : يا بني ، إياك والزنى ، فإن أوله مخافة ، وآخره
ندامة.
وقد ورد في الحديث الذي رواه ابن جرير وغيره ، عن أبي أمامة الباهلي - موقوفا
ومرفوعا - أن "غيا" و"أثاما" بئران في قعر جهنم (5) أجارنا
الله منها بمنه وكرمه.
وقال السدي : { يَلْقَ أَثَامًا } : جزاء.
وهذا أشبه بظاهر الآية ؛ ولهذا فسره بما بعده مبدلا منه ، وهو قوله : { يُضَاعَفْ
لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : يكرر عليه ويغلظ ، { وَيَخْلُدْ فِيهِ
مُهَانًا } أي : حقيرا ذليلا.
وقوله : { إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ [عَمَلا ] صَالِحًا } (6) أي : جزاؤه
على ما فعل من هذه الصفات القبيحة ما ذكر { إِلا مَنْ تَابَ } في الدنيا إلى الله
(7) من جميع ذلك ، فإن الله يتوب عليه.
وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل ، ولا تعارض (8) بين هذه وبين آية النساء : {
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا
وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } [
النساء : 93] فإن هذه
__________
(1) في أ : "يحدثه".
(2) في أ : "أن لنا إن عملنا".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/277) وعزاه لابن أبي حاتم. ووقع فيه :
"عن أبي قتادة" فإن كان كذلك فهو موصول ، وإن كان كما هو مثبت هنا فهو
مرسل ، ولم يتبين لي الصواب منهما ، والله أعلم.
(5) تفسير الطبري (19/29).
(6) زيادة من ف ، وهو الصواب.
(7) في ف : "إلى الله في الدنيا".
(8) في أ : "ولا معارض".
(6/126)
وإن كانت
مدنية إلا أنها مطلقة ، فتحمل على من لم يتب ، لأن هذه مقيدة بالتوبة ، ثم قد قال
[الله] (1) تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ
مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [ النساء : 48 ، 116].
وقد ثبتت السنة الصحيحة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة توبة القاتل ، كما
ذكر مقررا من قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب ، وقبل منه ، وغير ذلك من الأحاديث.
وقوله : { فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } : في معنى قوله : { يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ
حَسَنَاتٍ } قولان :
أحدهما : أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات. قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن
عباس في قوله : { فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } قال :
هم المؤمنون ، كانوا من قبل إيمانهم على السيئات ، فرغب الله بهم عن ذلك فحوَّلهم
إلى الحسنات ، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات.
وروى مجاهد ، عن ابن عباس أنه كان ينشد عند هذه الآية :
بُدّلْنَ بَعْدَ حَرِّهِ خَريفا (2) وَبَعْدَ طُول النَّفَس الوَجيفَا (3)
يعني : تغيرت تلك الأحوال إلى غيرها.
وقال عطاء بن أبي رباح : هذا في الدنيا (4) ، يكون الرجل على هيئة قبيحة ، ثم
يبدله الله بها خيرا.
وقال سعيد بن جبير : أبدلهم بعبادة الأوثان عبادة الله ، وأبدلهم (5) بقتال
المسلمين قتالا مع المسلمين للمشركين ، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات.
وقال الحسن البصري : أبدلهم الله بالعمل السيئ العمل الصالح ، وأبدلهم بالشرك
إخلاصا ، وأبدلهم بالفجور إحصانا وبالكفر إسلاما.
وهذا قول أبي العالية ، وقتادة ، وجماعة آخرين.
والقول الثاني : أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات ، وما ذاك
إلا أنه كلما تذكر ما مضى ندم واسترجع واستغفر ، فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار.
فيوم القيامة وإن وجده مكتوبا عليه لكنه لا يضره وينقلب حسنة في صحيفته ، كما ثبتت
السنة بذلك ، وصحت به الآثار المروية عن السلف ، رحمهم الله تعالى - وهذا سياق
الحديث - قال الإمام أحمد :
حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن المعرور بن سُوَيْد ، عن أبي ذر ، رضي الله
عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني لأعرف آخر أهل النار
خروجا من النار ، وآخر أهل الجنة دخولا إلى الجنة : يؤتى برجل فيقول : نَحّوا كبار
ذنوبه وسلوه عن صغارها ، قال : فيقال له : عملت يوم كذا وكذا كذا ، وعملت يوم كذا
وكذا كذا ؟ فيقول : نعم - لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئا -
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في أ : "صريفا".
(3) البيت في تفسير الطبري (19/30).
(4) في أ : "هذا يكون في الدنيا".
(5) في ف : "وبدلهم".
(6/127)
فيقال : فإن
لك بكل سيئة حسنة. فيقول : يا رب ، عملت أشياء لا أراها هاهنا". قال : فضحك
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه. وانفرد به مسلم (1).
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا هاشم بن يزيد ، حدثنا محمد بن إسماعيل ،
حدثني أبي ، حدثني ضَمْضَم بن زرعة ، عن شُرَيْح بن عبيد (2) عن أبي مالك الأشعري
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا نام ابن آدم قال الملك
للشيطان : أعطني صحيفتك. فيعطيه إياها ، فما وجد في صحيفته من حسنة محا بها عشر
سيئات من صحيفة الشيطان ، وكتبهن حسنات ، فإذا أراد أن ينام أحدكم فليكبر ثلاثًا
وثلاثين تكبيرة ، ويحمد أربعا وثلاثين تحميدة ، ويسبح ثلاثًا وثلاثين تسبيحة ،
فتلك مائة" (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة وعارم قالا حدثنا ثابت - يعني :
ابن يزيد أبو زيد - حدثنا عاصم ، عن أبي عثمان ، عن سلمان قال : يعطى رجل يوم
القيامة صحيفته فيقرأ أعلاها ، فإذا سيئاته (4) ، فإذا كاد (5) يسوء ظنه نظر (6)
في أسفلها فإذا حسناته ، ثم ينظر في أعلاها فإذا هي قد بدلت حسنات.
وقال أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا سليمان بن موسى الزهري أبو
داود ، حدثنا أبو العَنْبَس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : ليأتين الله عز وجل
بأناس (7) يوم القيامة رأوا أنهم قد استكثروا من السيئات ، قيل : مَنْ هم يا أبا
هريرة ؟ قال : الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات.
وقال أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن أبي زياد ، حدثنا سَيَّار ، حدثنا جعفر
، حدثنا أبو حمزة ، عن أبي الضيف - وكان من أصحاب معاذ بن جبل - قال : يدخل أهل
الجنة الجنة على أربعة أصناف : المتقين ، ثم الشاكرين ، ثم الخائفين ، ثم أصحاب
اليمين. قلت : لِمَ سموا أصحاب اليمين ؟ قال : لأنهم عملوا الحسنات (8) والسيئات ،
فأعطوا كتبهم بأيمانهم ، فقرؤوا سيئاتهم حرفا حرفا - قالوا : يا ربنا ، هذه
سيئاتنا ، فأين حسناتنا ؟. فعند ذلك محا الله السيئات وجعلها حسنات ، فعند ذلك
قالوا : (هاؤم اقرؤوا كتابيه) ، فهم أكثر أهل الجنة.
وقال علي بن الحسين زين العابدين : { يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ
} قال : في الآخرة.
وقال مكحول : يغفرها لهم فيجعلها حسنات : [رواهما ابن أبي حاتم ، وروى ابن جرير ،
عن سعيد بن المسيب مثله] (9).
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي ، حدثنا الوليد بن
مسلم ،
__________
(1) المسند (5/170) وصحيح مسلم برقم (190).
(2) في ف ، أ : "عبدة".
(3) المعجم الكبير للطبراني (3/296) قال الهيثمي في المجمع (10/121) "فيه
محمد بن إسماعيل بن عياش وهو ضعيف" ولم يثبت سماعه عن أبيه أيضا.
(4) في أ : "إساءته".
(5) في أ : "كان".
(6) في أ : "ينظر".
(7) في أ : "أناس".
(8) في أ : "بالحسنات".
(9) زيادة من ف ، أ.
(6/128)
حدثنا أبو
(1) جابر ، أنه سمع مكحولا يحدث قال : جاء شيخ كبير هرم قد سقط (2) حاجباه على
عينيه ، فقال : يا رسول الله ، رجل غدر وفجر ، ولم يدع حاجة ولا داجة إلا اقتطعها
بيمينه ، لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم ، فهل له من توبة ؟ فقال له رسول
الله (3) صلى الله عليه وسلم : "أسلمتَ ؟" قال (4) : أما أنا فأشهد أن
لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن (5) محمدًا عبده ورسوله. فقال النبي صلى
الله عليه وسلم : "فإن الله غافر لك ما كنت كذلك ، ومبدل (6) سيئاتك حسنات".
فقال : يا رسول الله ، وغَدَراتي وفَجَراتي ؟ فقال : "وغَدرَاتك
وفَجَراتك". فَوَلّى الرجل يهلل ويكبر (7) (8).
وروى الطبراني من حديث أبي المغيرة ، عن صفوان بن عَمْرو (9) ، عن عبد الرحمن بن
جبير ، عن أبي فَرْوَةَ - شَطْب - أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها ، ولم يترك حاجة ولا داجة ، فهل له من توبة ؟ فقال :
"أسلمتَ ؟" فقال : نعم ، قال : "فافعل الخيرات ، واترك السيئات ،
فيجعلها (10) الله لك خيرات كلها". قال : وغَدرَاتي وفَجَراتي ؟ قال :
"نعم". قال فما زال يكبر حتى توارى (11).
ورواه الطبراني من طريق أبي فَروة الرهاوي ، عن ياسين الزيات ، عن أبي سلمة
الحِمْصي ، عن يحيى بن جابر ، عن سلمة بن نفيل مرفوعًا (12).
وقال أيضًا : حدثنا أبو زُرْعة ، حدثنا إبراهيم بن المنذر ، حدثنا عيسى بن شعيب بن
ثوبان ، عن فُلَيْح الشماس ، عن عبيد بن أبي عبيد (13) عن أبي هريرة ، رضي الله
عنه ، قال : جاءتني امرأة فقالت : هل لي من توبة ؟ إني زنيت وولدت وقتلته. فقلت
(14) لا ولا نَعمت العين ولا كرامة. فقامت وهي تدعو بالحسرة. ثم صليت مع النبي صلى
الله عليه وسلم الصبح ، فقصصت عليه ما قالت المرأة وما قلت لها ، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : " بئسما قلت! أما كنت تقرأ هذه الآية : { وَالَّذِينَ
لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } إلى قوله : { إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ
وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ
وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } فقرأتها عليها. فخرَّت ساجدة وقالت : الحمد
لله الذي جعل لي مخرجًا.
هذا حديث غريب من هذا الوجه ، وفي رجاله مَنْ لا يُعرف والله أعلم. وقد رواه ابن
جرير من
__________
(1) في أ : "ابن".
(2) في أ : "أسقطت".
(3) في أ : "النبي".
(4) في أ : "فقال".
(5) في أ : "وأشهد أن".
(6) في أ : "ويبدل".
(7) في ف ، أ : "يكبر ويهلل".
(8) وقد وصله الإمام أحمد في مسنده (4/384) من طريق نوح بن قيس عن أشعث بن جابر
الحداني عن مكحول عن عمرو بن عبسة به مرفوعا باختصار في أوله وآخره ، وقال الهيثمي
في المجمع (1/32) : "رجاله موثقون إلا أنه من رواية مكحول عن عمرو بن عبسة ،
فلا أدري أسمع منه أم لا".
(9) في أ : "عمر".
(10) في ف ، أ : "فيجعلهم".
(11) المعجم الكبير للطبراني (7/314) ورواه الخطيب في تاريخ بغداد (3/352) من طريق
أبي القاسم البغوي عن محمد بن هارون الحربي عن أبي المغيرة به. وقال أبو القاسم
البغوي : "روى هذا الحديث غير محمد بن هارون عن أبي المغيرة عن صفوان عن عبد
الرحمن بن جبير : أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم طويلا شطب الممدود ، وأحسب
أن محمد بن هارون صحف فيه ، والصواب ما قال غيره".
(12) المعجم الكبير للطبراني (7/53) وقال الهيثمي في المجمع (1/31) : "في
إسناده ياسين الزيات يروي الموضوعات".
(13) في هـ ، ف ، أ : "عن فليح بن عبيد بن أبي عبيد الشماس عن أبيه"
والمثبت من الطبري.
(14) في أ : "فقال".
(6/129)
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
حديث
إبراهيم بن المنذر الحزَامي بسنده بنحوه ، وعنده : فخرجت تدعو بالحسرة وتقول : يا
حسرتا! أخلق هذا الحسن للنار ؟ وعنده أنه لما رجع من عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، تَطَلَّبها (1) في جميع دور المدينة فلم يجدها ، فلما كان من الليلة
المقبلة جاءته ، فأخبرها بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرت ساجدة ،
وقالت : الحمد لله الذي جعل لي مخرجًا وتوبة مما عملت. وأعتقت جارية كانت معها
وابنتها ، وتابت إلى الله عز وجل (2)
ثم قال تعالى مخبرًا عن عموم رحمته بعباده (3) وأنه من تاب إليه منهم تاب عليه من
أي ذنب كان ، جليل أو حقير ، كبير أو صغير : فقال { وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ
صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا } أي : فإن الله يقبل (4)
توبته ، كما قال تعالى : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ
يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } [ النساء : 110] ، وقال
{ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ
وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ التوبة
: 104] ، وقال { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ الزمر : 53] ، أي : لمن تاب إليه.
{ وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا
(72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا
صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ
أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ
إِمَامًا (74) }
وهذه أيضا من صفات عباد الرحمن ، أنهم : { لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } قيل : هو
الشرك وعبادة الأصنام. وقيل : الكذب ، والفسق ، واللغو ، والباطل.
وقال محمد بن الحنفية : [هو] (5) اللهو والغناء.
وقال أبو العالية ، وطاوس ، ومحمد بن سيرين ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، وغيرهم :
هي أعياد المشركين (6).
وقال عمرو بن قيس : هي مجالس السوء والخنا.
وقال مالك ، عن الزهري : [شرب الخمر] (7) لا يحضرونه ولا يرغبون فيه ، كما جاء في
الحديث : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها
الخمر" (8).
وقيل : المراد بقوله تعالى : { لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } أي : شهادة الزور ، وهي
الكذب متعمدا على غيره ،
__________
(1) في ف : "فطلبها".
(2) تفسير الطبري (19/27) ورواه ابن مردويه كما في الدر المنثور (6/279) وقال
السيوطي : "إسناده ضعيف".
(3) في أ : "لعباده".
(4) في أ : "يتقبل".
(5) زيادة من أ.
(6) في ف : "للمشركين".
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) رواه الترمذي في السنن برقم (2801) من طريق ليث بن أبي سليم عن طاوس عن جابر
به مرفوعا ، وقال الترمذي : "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث طاوس عن
جابر إلا من هذا الوجه" ثم نقل كلام العلماء في تضعيف ليث بن أبي سليم.
(6/130)
كما [ثبت]
(1) في الصحيحين عن أبي بَكْرَة قال : قال (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"ألا أنبئكم بأكْبر الكبائر" ثلاثا ، قلنا : بلى ، يا رسول الله ، قال :
"الشرك بالله ، وعقوق الوالدين". وكان متكئًا فجلس ، فقال : "ألا
وقول الزور ، ألا وشهادة الزور [ألا وقول الزور وشهادة الزور]. (3) فما زال يكررها
، حتى قلنا : ليته سكت (4).
والأظهر من السياق أن المراد : لا يشهدون الزور ، أي : لا يحضرونه ؛ ولهذا قال : {
وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } أي : لا يحضرون الزور ، وإذا اتفق
مرورهم به مرُّوا ، ولم يتدنسوا منه بشيء (5) ؛ ولهذا قال : { مَرُّوا كِرَامًا }.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا أبو الحسين العجلي ، عن محمد
بن مسلم ، أخبرني إبراهيم بن مَيْسَرة ، أن ابن مسعود مر بلهو معرضًا (6) فقال
النبي صلى الله عليه وسلم : "لقد أصبح ابن مسعود ، وأمسى كريمًا".
وحدثنا الحسن بن محمد بن سلمة النحوي ، حدثنا حبان ، أنا عبد الله ، أنا محمد بن
مسلم ، أخبرني ابن ميسرة قال : بلغني أن ابن مسعود مر بلهو معرضا فلم يقف ، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم (7) : " لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريما"
(8). ثم تلا إبراهيم بن ميسرة : { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا }
(9).
وقوله : { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا
عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } [و] (10) هذه من صفات المؤمنين { الَّذِينَ إِذَا
ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ
زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [الأنفال : 2] ، بخلاف
الكافر ، فإنه إذا سمع كلام الله لا يؤثر فيه ولا يُقْصر عما كان عليه ، بل يبقى
مستمرا على كفره وطغيانه وجهله وضلاله ، كما قال تعالى : { وَإِذَا مَا أُنزلَتْ
سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا
الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } [
التوبة : 124 - 125].
فقوله : { لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } أي : بخلاف الكافر الذي
ذكر بآيات ربه ، فاستمر على حاله ، كأن لم يسمعها أصم أعمى.
قال مجاهد : قوله : { لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } لم يسمعوا :
ولم يبصروا ، ولم يفقهوا شيئًا.
وقال الحسن البصري : كم من رجل يقرؤها ويخر عليها أصم أعمى.
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف ، أ : "عن".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) صحيح البخاري برقم (2654) وصحيح مسلم برقم (87).
(5) في أ : "فيه شيء".
(6) في أ : "فلم يقف".
(7) في أ : "النبي".
(8) زيادة من ف ، أ.
(9) ورواه ابن عساكر كما في المختصر لابن منظور (14/55) من طريق إبراهيم بن ميسرة
به.
(10) زيادة من أ.
(6/131)
وقال قتادة
: قوله تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا
عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } يقول : لم يصموا عن الحق ولم يعموا فيه ، فهم -
والله - قوم عقلوا عن الله (1) وانتفعوا بما (2) سمعوا من كتابه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أسيد بن عاصم ، حدثنا عبد الله بن حُمْران ، حدثنا ابن
عَوْن قال : سألت الشعبي قلت : الرجل يرى القوم سجودا ولم يسمع ما سجدوا ، أيسجد
معهم ؟ قال : فتلا هذه الآية : { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ
لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } يعني : أنه لا يسجد معهم لأنه لم
يتدبر آية السجدة (3) فلا ينبغي للمؤمن أن يكون إمعة ، بل يكون على بصيرة من أمره
، ويقين واضح بَيِّن.
وقوله : { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا
وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } يعني : الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم
وذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له.
قال ابن عباس : يعنون من يعمل بالطاعة ، فتقرُّ به أعينهم في الدنيا والآخرة.
وقال عكرمة : لم يريدوا بذلك صباحة ولا جمالا ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين.
وقال الحسن البصري - وسئل عن هذه الآية - فقال : أن يُري الله العبد المسلم من
زوجته ، ومن أخيه ، ومن حميمه طاعة الله. لا والله ما شيء أقر لعين المسلم من أن
يرى ولدا ، أو ولد ولد ، أو أخا ، أو حميما مطيعا لله عز وجل.
وقال ابن جُرَيْج في قوله : { هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا
قُرَّةَ أَعْيُنٍ } قال : يعبدونك ويحسنون (4) عبادتك ، ولا يجرون علينا الجرائر.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني : يسألون الله لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم
للإسلام.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يَعْمَر (5) بن بشر (6) حدثنا عبد الله بن المبارك ،
أخبرنا صفوان بن عمرو ، حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه قال : جلسنا
إلى المقداد بن الأسود يومًا ، فمر به رجل فقال : طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا
رسول الله صلى الله عليه وسلم! لوددنا أنا رأينا ما رأيت ، وشهدنا ما شهدت.
فاستغضب ، فجعلت أعجبُ ، ما قال إلا خيرًا! ثم أقبل إليه فقال : ما يحمل الرجل على
أن يتمنى مَحْضَرًا غيبه الله عنه ، لا يدري لو شهده كيف كان يكون فيه ؟ والله لقد
حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام أكبَّهم الله على مناخرهم في جهنم ، لم
يجيبوه ولم يصدقوه ، أو لا تحمدون الله إذ أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم مصدقين لما
جاء به نبيكم ، قد (7) كُفيتم البلاء بغيركم ؟ لقد بعث الله النبي صلى الله عليه
وسلم على أشد حال بعث عليها نبيًا من الأنبياء في فترة من جاهلية ، ما يرون أن
دينا أفضل من عبادة الأوثان. فجاء بفُرقان فَرَقَ به بين الحق والباطل ، وفَرَقَ
بين الوالد وولده ، حتى إن كان الرجل ليرى والده وولده ، أو أخاه كافرًا ، وقد فتح
الله قُفْل قلبه للإيمان ، يعلم أنه إن هلك دخل
__________
(1) في أ : "الحق".
(2) في أ : "مما".
(3) في ف ، أ : "أمر السجدة".
(4) في أ : "فيحسنون".
(5) في هـ ، ف ، أ : "معمر" والمثبت من المسند.
(6) في أ : "بشير".
(7) في ف ، أ : "وقد".
(6/132)
أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
النار ، فلا
تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار ، وإنها التي قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ
أَعْيُنٍ }. وهذا إسناد صحيح ، ولم يخرجوه (1).
وقوله : { وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة
، والسدي ، والربيع بن أنس : أئمة يقتدى بنا في الخير.
وقال غيرهم : هداة مهتدين (2) [ودعاة] (3) إلى الخير ، فأحبوا أن تكون عبادتهم
متصلة بعبادة أولادهم وذرياتهم (4) وأن يكون هداهم متعديًا (5) إلى غيرهم بالنفع ،
وذلك أكثر (6) ثوابًا ، وأحسن مآبًا ؛ ولهذا ورد في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة رضي
الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا مات ابن آدم انقطع
عمله إلا من ثلاث : ولد صالح يدعو له ، أو علم ينتفع به من بعده ، أو صدقة
جارية" (7).
{ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً
وَسَلامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا
يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ
لِزَامًا (77) }.
لما ذكر تعالى من أوصاف عباده المؤمنين ما ذكر من [هذه] (8) الصفات الجميلة ، والأفعال
والأقوال (9) الجليلة (10) - قال بعد ذلك كله : { أُوْلَئِك } أي : المتصفون بهذه
{ يُجْزَوْن } أي : يوم القيامة { الْغُرْفَةَ } وهي الجنة.
قال أبو جعفر الباقر ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، والسُّدِّيّ : سميت بذلك
لارتفاعها.
{ بِمَا صَبَرُوا } أي : على القيام بذلك { وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا } أي : في الجنة
{ تَحِيَّةً وَسَلامًا } أي : يُبْتَدرُون (11) فيها بالتحية والإكرام ، ويلقون
[فيها] (12) التوقير والاحترام ، فلهم السلام وعليهم السلام ، فإن الملائكة يدخلون
عليهم من كل باب ، سلام عليكم بما صبرتم ، فنعم عقبى الدار.
وقوله : { خَالِدِينَ فِيهَا } أي : مقيمين ، لا يظعنون ولا يَحُولون ولا يموتون ،
ولا يزولون عنها ولا يبغون عنها حولا كما قال تعالى : { وَأَمَّا الَّذِينَ
سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ
إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [ هود : 108].
وقوله { حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } أي : حسنت منظرا وطابت مَقيلا ومنزلا.
__________
(1) المسند (6/2).
(2) في أ : "مهديين".
(3) زيادة من أ.
(4) في أ : "ذراريهم".
(5) في أ : "متعد".
(6) في أ : "أكبر".
(7) صحيح مسلم برقم (1631).
(8) زيادة من ف ، أ.
(9) في ف ، أ : "الأقوال والأفعال".
(10) في أ : "الجميلة".
(11) في أ : "يبتدون".
(12) زيادة من ف ، أ.
(6/133)
ثم قال (1)
تعالى : { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي } أي : لا يبالي ولا يكترث بكم إذا لم
تعبدوه ؛ فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه ويسبحوه بكرة وأصيلا.
وقال مجاهد ، وعمرو بن شعيب : { مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي } يقول : ما يفعل بكم
ربي.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي
لَوْلا دُعَاؤُكُمْ } يقول : لولا إيمانكم ، وأخبر الله الكفار أنه لا حاجة له بهم
إذ لم يخلقهم مؤمنين ، ولو كان له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه (2) إلى
المؤمنين.
وقوله : { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ } أي : أيها الكافرون { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا }
أي : فسوف يكون تكذيبكم (3) لزامًا لكم ، يعني : مقتضيا لهلاككم وعذابكم ودماركم
في الدنيا والآخرة ، ويدخل في ذلك يوم بدر ، كما فسره بذلك عبد الله بن مسعود ،
وأبي بن كعب ، ومحمد بن كعب القرظي ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ،
وغيرهم.
وقال الحسن البصري : { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا } يعني : يوم القيامة. ولا
منافاة بينهما. والله أعلم.
__________
(1) في أ : "وقال".
(2) في ف : "حبب".
(3) في أ : "تكذيبهم".
(6/134)
طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
بسم الله
الرحمن الرحيم
سورة الشعراء
وهي مكية. وَوَقع في تفسير مالك المروي عنه تسميتُها : سورة الجامعة.
{ طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ
أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنزلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ
آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ
ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ
كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) }.
أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور ، فقد تكلمنا عليه في أول تفسير
سورة البقرة.
وقوله : { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } أي : هذه آيات القرآن المبين ،
أي : البين الواضح ، الذي يفصل بين الحق والباطل ، والغي والرشاد.
وقوله : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ } أي : مهلك { نفسك } أي : مما تحرص [عليهم] (1)
وتحزن عليهم { أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } ، وهذه تسلية من الله لرسوله ، صلوات
الله وسلامه عليه ، في عدم إيمان مَنْ لم يؤمن به من الكفار ، كما قال تعالى : {
فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [فاطر : 8] ، وقال : { فَلَعَلَّكَ
بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ
أَسَفًا } [الكهف : 6].
قال مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، وعطية ، والضحاك : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ
نَفْسَكَ } أي : قاتل نفسك. قال الشاعر (2)
ألا أيّهذاَ البَاخعُ الحُزنُ نفسَه... لشيء (3) نَحَتْهُ عَنْ يَدَيه
الَمقَادِرُ...
ثم قال الله تعالى : { إِنْ نَشَأْ نُنزلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ
أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } أي : لو شئنا لأنزلنا آية تضطرهم إلى الإيمان
قهرا ، ولكَّنا لا نفعل ذلك ؛ لأنا لا نريد من أحد إلا الإيمان الاختياري ؛ وقال
تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا
أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [يونس : 99] ، وقال
: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ. إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } [هود : 118 ،
119] ، فنَفَذ قَدَرُه ، ومضت (4) حكمته ، وقامت حجته البالغة على خلقه بإرسال
الرسل إليهم ، وإنزال الكتب عليهم.
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) هو ذو الرمة ، والبيت في تفسير الطبري (19/37).
(3) في ف : "بشيء".
(4) في ف ، أ : "وقضت".
(6/135)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)
ثم قال : {
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ
مُعْرِضِينَ } أي : كلما جاءهم كتاب من السماء أعرض عنه أكثر الناس ، كما قال : {
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف : 103] ، وقال : {
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ } [يس : 30] ، وقال : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى
كُلَّمَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا
وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } [المؤمنون : 44]
؛ ولهذا قال تعالى هاهنا : { فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا
كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي : فقد كذبوا بما جاءهم من الحق ، فسيعلمون نبأ
هذا التكذيب بعد حين ، { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ
يَنْقَلِبُونَ } [الشعراء : 227].
ثم نبه تعالى على عظمته في سلطانه وجلالة قدره وشأنه ، الذين اجترؤوا على مخالفة
رسوله وتكذيب كتابه ، وهو القاهر العظيم القادر ، الذي خلق الأرض وأنبت فيها من كل
زوج كريم ، من زروع وثمار وحيوان.
قال سفيان الثوري ، عن رجل ، عن الشعبي : الناس من نبات الأرض ، فمن دخل الجنة فهو
كريم ، ومن دخل النار فهو لئيم.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } أي : دلالة على قدرة الخالق للأشياء ، الذي بسط الأرض
ورفع بناء السماء ، ومع هذا ما آمن أكثر الناس ، بل كذبوا به وبرسله وكتبه ،
وخالفوا أمره (1) وارتكبوا زواجره.
وقوله : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ } أي : الذي عَزّ كلَّ شيء وقهره
وغلبه ، { الرحيم } أي : بخلقه ، فلا يعجل على مَنْ عصاه ، بل ينظره ويؤجله ثم
يأخذه أخذ عزيز مقتدر.
قال أبو العالية ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، و[محمد (2) ] بن إسحاق : العزيز في
نقمته وانتصاره ممن خالف أمره وعبد غيره.
وقال سعيد بن جبير : الرحيم بِمَنْ تاب إليه وأناب.
{ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ
أَلا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12)
وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13)
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلا فَاذْهَبَا
بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا
إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ
عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ
الْكَافِرِينَ (19) }
__________
(1) في أ : "أوامره".
(2) زيادة من ف ، أ.
(6/136)
قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
{ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) }
(6/136)
يقول تعالى
مخبرًا عما أمر به عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران ، صلوات الله وسلامه عليه ،
حين ناداه من جانب الطور الأيمن ، وكلمه وناجاه ، وأرسله واصطفاه ، وأمره بالذهاب
إلى فرعون وملئه ؛ ولهذا قال : { أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ
فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ *
وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ
عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ } هذه أعذار سأل من الله إزاحتها عنه ،
كما قال في سورة طه : { قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي
* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي
وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ
فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ
كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى } [طه : 25 -
36].
وقوله : { وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ } أي : بسبب ما كان
[من] (1) قتل ذلك القبطي الذي كان سبب خروجه من بلاد مصر.
{ قَالَ كَلا } أي : قال الله له : لا تخف من شيء من ذلك كما قال : { قَالَ
سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا } أي : برهانا { فَلا
يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ
} [القصص : 35].
{ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ } كما قال تعالى : {
إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [طه : 46] أي : إنني معكما بحفظي وكلاءتي
ونصري وتأييدي.
{ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، وقال في
الآية الأخرى : { إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ } [طه : 47] أي : كل منا رسول الله إليك
، { أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي : أطلقهم من إسارك وقبضتك
وقهرك وتعذيبك ، فإنهم عباد الله المؤمنون ، وحزبه المخلصون ، وهم معك في العذاب
المهين. فلما قال له موسى ذلك أعرض فرعون عما هنالك بالكلية ، ونظر بعين الازدراء
والغمص فقال : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ
عُمُرِكَ سِنِينَ.[ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ
الْكَافِرِينَ ] } (2) [ أي : أما أنت الذي ربيناه فينا (3) ] ، وفي بيتنا وعلى
فراشنا [وغذيناه (4) ] ، وأنعمنا عليه مدة من السنين ، ثم بعد هذا قابلت ذلك
الإحسان بتلك الفعلة ، أن قتلت منا رجلا وجحدت نعمتنا عليك ؛ ولهذا قال : {
وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } أي : الجاحدين. قاله ابن عباس ، وعبد الرحمن بن زيد
بن أسلم ، واختاره ابن جرير.
{ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا } أي : في تلك الحال ، { وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ }
أي : قبل أن يوحى إليّ وينعم الله عليَّ بالرسالة والنبوة (5).
قال ابن عباس ، رضي الله عنهما ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وغيرهم : { وَأَنَا
مِنَ الضَّالِّينَ } أي : الجاهلين.
قال ابن جُرَيْج : وهي كذلك في قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
{ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي
مِنَ الْمُرْسَلِينَ } أي : الحال الأول انفصل
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ف : "بالنبوة والرسالة".
(6/137)
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
وجاء أمر
آخر ، فقد أرسلني الله إليك ، فإن أطعته سَلمت ، وإن خالفته عَطبت.
ثم قال موسى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ } أي : وما أحسنت إلي وربَّيْتني مقابل ما أسأتَ إلى (1) بني إسرائيل
، فجعلتهم عبيدا وخدما ، تصرفهم في أعمالك ومشاق رعيتك ، أفَيَفي إحسانك إلى رجل
واحد منهم بما أسأتَ إلى مجموعهم ؟ أي : ليس ما ذكرتَه شيئا بالنسبة إلى ما فعلتَ
بهم.
{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ
وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ
أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ (26)
قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
}
يقول تعالى مخبرًا عن كفر فرعون ، وتمرده وطغيانه وجحوده ، في قوله : { وَمَا
رَبُّ الْعَالَمِينَ } ؟ وذلك أنه كان يقول لقومه : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ
إِلَهٍ غَيْرِي } [القصص : 38] ، { فَاسْتَخَفَّ (2) قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ }
[الزخرف : 54] ، وكانوا يجحدون الصانع - تعالى - ويعتقدون أنه لا رب لهم سوى فرعون
، فلما قال له موسى : { إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الزخرف : 46] ، قال
له : ومَنْ هذا الذي تزعم أنه رب العالمين غيري ؟ هكذا فسره علماء السلف وأئمة
الخلف ، حتى قال السدي : هذه الآية كقوله تعالى : { قَالَ فَمَنْ (3) رَبُّكُمَا
يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى }
[طه : 49 ، 50].
ومن زعم من أهل المنطق وغيرهم ؛ أن هذا سؤال عن الماهية ، فقد غلط ؛ فإنه لم يكن
مقرًا بالصانع حتى يسأل عن الماهية (4) ، بل كان جاحدًا له بالكلية فيما يظهر ،
وإن كانت الحجج والبراهين قد قامت عليه ، فعند ذلك قال موسى لما سأله عن رب
العالمين : { قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } أي : خالق
جميع ذلك ومالكه ، والمتصرف فيه وإلهه ، لا شريك له ، هو الله الذي خلق الأشياء
كلها ، العالم العلوي وما فيه من الكواكب الثوابت والسيارات النيرات ، والعالم
السفلي وما فيه من بحار وقفار ، وجبال وأشجار ، وحيوان ونبات وثمار ، وما بين ذلك
من الهواء والطيور ، وما يحتوي عليه الجو ، الجميع (5) عبيد له خاضعون ذليلون.
{ إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ } أي : إن كانت لكم قلوب موقنة ، وأبصار نافذة. فعند
ذلك التفت فرعون إلى مَنْ حوله من مَلَئه ورؤساء دولته قائلا لهم ، على سبيل
التهكم والاستهزاء والتكذيب لموسى فيما قاله : { أَلا تَسْتَمِعُونَ } أي : ألا
تعجبون مما يقول هذا في زعمه : أن لكم إلها غيري ؟ فقال لهم موسى : { رَبُّكُمْ
وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ } أي : خالقكم وخالق آبائكم الأولين (6) ، الذي
كانوا قبل فرعون وزمانه.
{ قال } أي : فرعون لقومه : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ
لَمَجْنُونٌ } أي : ليس
__________
(1) في ف ، أ : "على".
(2) في أ : "واستخف".
(3) في ف ، أ : "ومن" وهو خطأ.
(4) في أ : "ماهيته".
(5) في ف : "والجميع".
(6) في أ : "الأوائل".
(6/138)
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
له عقل في
دعواه أن ثمّ ربا غيري.
{ قال } أي : موسى لأولئك الذين أوعز إليهم فرعون ما أوعز من الشبهة ، فأجاب موسى
بقوله : { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ } أي : هو الذي جعل المشرق مشرقًا تطلع منه الكواكب ، والمغرب مغربًا
تغرب فيه (1) الكواكب ، ثوابتها وسياراتها ، مع هذا النظام الذي سَخّرها فيه
وقدّرها ، فإن كان هذا الذي يزعم أنه ربكم وإلهكم صادقًا فليعكس الأمر ، وليجعل
المشرق مغربًا ، والمغرب مشرقًا ، كما أخبر تعالى عن { الَّذِي حَاجَّ
إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ
رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا
مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ } [البقرة : 258] ؛ ولهذا لما غُلب فرعون وانقطعت حجته ، عدل إلى استعمال
جاهه وقوته وسلطانه ، واعتقد أن ذلك نافع له ونافذ في موسى ، عليه السلام ، فقال
ما أخبر الله تعالى عنه :
{ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ
(29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ
كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ
(32) وَنزعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلإ
حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ
أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ
وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ
(37) }
لما قامت على فرعون الحجة بالبيان والعقل ، عدل إلى أن يقهر موسى بيده وسلطانه ،
وظن أنه ليس وراء هذا المقام مقال (2) فقال : { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي
لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ }. فعند ذلك قال موسى : { أَوَلَوْ جِئْتُكَ
بِشَيْءٍ مُبِينٍ } ؟ أي : ببرهان قاطع واضح.
{ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا
هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ } أي : ظاهر واضح في غاية الجلاء والوضوح والعظمة ، ذات
قوائم وفم كبير ، وشكل هائل مزعج.
{ وَنزعَ يَدَهُ } أي : من جيبه { فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ } أي :
تتلألأ كقطعة من القمر. فبادر فرعون - بشقائه - إلى التكذيب والعناد ، فقال للملأ
حوله : { إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } أي : فاضل بارع في السحر. فَرَوَّج
عليهم فرعون أن هذا من قبيل السحر لا من قبيل المعجزة ، ثم هيجهم وحرضهم على
مخالفته ، والكفر به. فقال { يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ
بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } ؟ أي : أراد أن يذهب بقلوب الناس معه بسبب هذا
، فيكثر أعوانه وأنصاره وأتباعه ويغلبكم على دولتكم ، فيأخذ البلاد منكم ، فأشيروا
عليَّ فيه ماذا أصنع به ؟
{ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ
بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ } (3) [أي : أخِّره وأخاه حتى تجمع له من مدائن مملكتك
وأقاليم دولتك كل سحَّار عليم] (4) يقابلونه ، ويأتون بنظير ما جاء به ، فتغلبه
أنت وتكون لك النصرة والتأييد. فأجابهم إلى ذلك. وكان هذا من تسخير الله تعالى
__________
(1) في ف ، أ : "منه".
(2) في هـ : "مقام" والمثبت من ف ، أ.
(3) في أ : "ساحر".
(4) زيادة من ف ، أ.
(6/139)
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39)
لهم في ذلك
؛ ليجتمع الناس في صعيد واحد ، ولتظهر آيات الله وحججه وبراهينه على الناس في
النهار جهرة.
{ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ
أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) }
(6/140)
لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)
{
لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا
جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ
الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ
وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)
فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ
مُوسَى وَهَارُونَ (48) }.
ذكر [الله] (1) تعالى هذه المناظرة الفعلية بين موسى والقبط في "سورة
الأعراف" وفي "سورة طه" وفي هذه السورة : وذلك أن القبط أرادوا أن
يطفئوا نور الله بأفواههم ، فأبى (2) الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. وهذا
شأن الكفر والإيمان ، ما تواجها وتقابلا إلا غلبه الإيمان ، { بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ
الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } [الأنبياء : 18] ، { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ
الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } [الإسراء : 81] ، ولهذا لما جاء
السحرة ، وقد جمعوهم من أقاليم بلاد مصر ، وكانوا إذ ذاك أسحر الناس وأصنعهم
وأشدهم تخييلا في ذلك ، وكان السحرة جمعًا كثيرًا ، وجمًا غفيرًا ، قيل : كانوا
اثني عشر ألفًا. وقيل : خمسة عشر ألفًا. وقيل : سبعة عشر ألفًا وقيل : تسعة عشر
ألفًا. وقيل : بضعة وثلاثين ألفًا. وقيل : ثمانين ألفًا. وقيل غير ذلك ، والله
أعلم بعدتهم.
قال ابن إسحاق : وكان أمرهم راجعًا إلى أربعة منهم وهم رؤساؤهم : وهم : ساتور
وعازور (3) وحطحط (4) ويصقى.
واجتهد (5) الناس في الاجتماع ذلك اليوم ، وقال قائلهم : { لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ
السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ [قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا
لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ] } (6) ، ولم يقولوا : نتبع الحق سواء كان من السحرة أو من
موسى ، بل الرعية على دين ملكهم. { فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ } أي : إلى مجلس
فرعون وقد ضرب له وطاقا ، وجمع حشمه وخدمه [وأمراءه] (7) ووزراءه ورؤساء دولته
وجنود مملكته ، فقام السحرة بين يدي فرعون (8) يطلبون منه الإحسان إليهم والتقرب
إليه إن غلبوا ، أي : هذا الذي جمعتنا من أجله ، فقالوا : { أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا
إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ } أي : وأخص مما تطلبون أجعلكم من المقربين عندي وجلسائي. فعادوا
إلى مقام المناظرة { قَالُوا (9) يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ
نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا } [طه : 65 ، 66] ، وقد اختصر
هذا هاهنا فقال لهم موسى : { أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَأَلْقَوْا
حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ
الْغَالِبُونَ } ، وهذا كما يقوله
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف ، أ : "فيأبى".
(3) في ف ، أ : "وعادون".
(4) في أ. "وحطحة".
(5) في أ : "وحشر".
(6) زيادة من ف.
(7) زيادة من أ.
(8) في ف ، أ : "بين يديه".
(9) في أ : "فقالوا" وهو خطأ.
(6/140)
قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
الجهلة من
العوام إذا فعلوا شيئا : هذا بثواب فلان. وقد ذكر الله في سورة الأعراف : أنهم {
سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ }
[الأعراف : 116] ، وقال في "سورة طه" : { فَإِذَا حِبَالُهُمْ
وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ
فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأعْلَى *
وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ
سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } [طه : 66 ، 69].
وقال هاهنا : { فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ }
أي : تختطفه (1) وتجمعه من كل بقعة وتبتلعه فلم تدع منه شيئا.
قال تعالى : { فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا
هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ. وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ. قَالُوا
آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } [الأعراف : 118 - 122]
وكان هذا أمرا عظيما جدًا ، وبرهانًا قاطعًا للعذر وحجة دامغة ، وذلك أن الذين
استنصر بهم وطلب منهم أن يغلبوا ، قد غلبوا وخضعوا وآمنوا بموسى في الساعة الراهنة
، وسجدوا لله رب العالمين ، الذي أرسل موسى وهارون بالحق وبالمعجزة الباهرة ،
فَغُلِبَ فرعون غَلبًا لم يشاهد العالم مثله ، وكان وقحًا جريئًا عليه لعنة الله ،
فعدل إلى المكابرة والعناد ودعوى الباطل ، فشرع يتهددهم ويتوعدهم ، ويقول : {
إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } [طه : 71] ، وقال : {
إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا
أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [الأعراف : 123].
{ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي
عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لا
ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ
لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) }.
تهددهم فلم يقطع ذلك فيهم ، وتوعدهم فما زادهم إلا إيمانا وتسليما. وذلك أنه قد كشف
عن قلوبهم حجاب الكفر ، وظهر لهم الحق بعلمهم ما جهل قومهم ، من أن هذا الذي جاء
به موسى لا يصدر عن بشر ، إلا أن يكون الله قد أيده به ، وجعله له حجة ودلالة على
صدق ما جاء به من ربه ؛ ولهذا لما قال لهم فرعون : { آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ
آذَنَ لَكُمْ } ؟ أي : كان ينبغي أن تستأذنوني فيما فعلتم ، ولا تفتاتوا عليَّ في
ذلك ، فإن أذنت لكم فعلتم ، وإن منعتكم امتنعتم ، فإني أنا الحاكم المطاع ؛ {
إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ }. وهذه مكابرة يعلم كل أحد
بُطلانها ، فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم ، فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم
صناعة السحر ؟ هذا لا يقوله عاقل.
ثم توعَّدهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل والصلب ، فقالوا : { لا ضَيْرَ } أي : لا
حرج ولا يضرنا ذلك ولا نبالي به { إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ } أي :
المرجع (2) إلى الله ، وهو لا يضيع أجر مَنْ أحسن عملا ولا يخفى عليه ما فعلت بنا
، وسيجزينا على ذلك أتم الجزاء ؛ ولهذا قالوا : (3) { إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ
يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا } أي : ما قارفناه (4) من الذنوب ، وما
أكرهتنا عليه من السحر ، { أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : بسبب أنا
بادرنا قومنا من القبط إلى الإيمان. فقتلهم (5) كلهم.
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلاءِ
لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا
لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57)
وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
(59) }.
__________
(1) في ف ، أ : "تخطفه".
(2) في ف ، أ : "الرجوع".
(3) في ف ، أ : "قال".
(4) في أ : "ما فرقناه".
(5) في ف ، أ : "قبلهم".
(6/141)
لما طال
مُقام موسى ، عليه السلام ، ببلاد مصر ، وأقام بها حُجَج الله (1) وبراهينه على
فرعون وملئه ، وهم مع ذلك يكابرون ويعاندون ، لم يبق لهم إلا العذاب والنكال ،
فأمر الله موسى ، عليه السلام ، أن يخرج ببني إسرائيل ليلا من مصر ، وأن يمضي بهم
حيث يؤُمَر ، ففعل موسى ، عليه السلام ، ما أمره به ربه عز وجل. خرج بهم بعدما
استعاروا من قوم فرعون حليا كثيرا ، وكان خروجه بهم ، فيما ذكر غير واحد من
المفسرين ، وقت طلوع القمر. وذكر مجاهد ، رحمه الله ، أنه كُسِف القمر تلك الليلة
، فالله أعلم ، وأن موسى ، عليه السلام ، سأل عن قبر يوسف ، عليه السلام ، فدلته
امرأة عجوز من بني إسرائيل عليه ، فاحتمل تابوته معهم ، ويقال : إنه هو الذي حمله
بنفسه ، عليهما السلام ، وكان يوسف قد أوصى بذلك إذا خرج بنو إسرائيل أن يحملوه
(2) معهم ، وقد ورد في ذلك حديث رواه ابن أبي حاتم ، رحمه الله ، فقال :
حدَّثنا علي بن الحسين ، حدثنا عبد الله بن عمر (3) بن أبان بن صالح ، حدثنا ابن
فضيل (4) عن عبد الله (5) بن أبي إسحاق ، عن ابن أبي بردة ، عن أبيه ، عن أبي موسى
قال : نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعرابي فأكرمه ، فقال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم : تعاهدنا. فأتاه الأعرابي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"ما حاجتك ؟" قال (6) ناقة برحلها وأعنز (7) يحتلبها أهلي ، فقال :
"أعجزت أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل ؟" فقال له أصحابه : وما عجوز بني
إسرائيل يا رسول الله ؟ قال : "إن موسى لما أراد أن يسير ببني إسرائيل أضل
الطريق ، فقال لبني إسرائيل : ما هذا ؟ فقال له علماء بني إسرائيل : نحن نحِّدثك
أن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ علينا موثقًا من الله ألا نخرج من مصر حتى
ننقل تابوته معنا ، فقال لهم موسى : فأيكم يدري أين قبر يوسف ؟ قالوا : ما يعلمه
إلا عجوز لبني إسرائيل. فأرسل إليها فقال (8) لها : دليني على قبر يوسف. فقالت :
والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي. قال لها : وما حكمك ؟ قالت (9) : حكمي أن أكون معك
في الجنة. فكأنه ثقل عليه ذلك ، فقيل له : أعطها حكمها. قال : فانطلقت معهم إلى
بحيرة - مستنقع ماء - فقالت لهم : أنضبوا هذا الماء. فلما أنضبوه قالت : احتفروا ،
(10) فلما احتفروا استخرجوا قبر يوسف ، فلما احتملوه إذا الطريق مثل ضوء النهار
(11) ".
__________
(1) في ف : "وأقام حجج الله بها"
(2) في أ : "يحتملوه".
(3) في هـ : "عبد الله بن عمر بن محمد بن أبان".
(4) في هـ : "فضل" والمثبت من أ.
(5) في أ : "يونس".
(6) في ف ، أ "فقال".
(7) في أ : "وأعنق".
(8) في أ : "وقال".
(9) في أ : "قال".
(10) في أ : "احفروا".
(11) ورواه أبو يعلى في مسنده (13/236) وابن حبان في صحيحه برقم (2435)
"موارد" ، والحاكم في المستدرك (2/571) من طريق محمد بن فضيل ، عن يونس
بن أبي إسحاق ، عن أبي بردة عن أبي موسى به. وقال الهيثمي في المجمع (10/170) :
"رجال أبي يعلى رجال الصحيح".
(6/142)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)
هذا حديث
غريب جدًا ، والأقرب أنه موقوف ، والله أعلم.
فلما أصبحوا وليس في ناديهم داع ولا مجيب ، غاظ ذلك فرعون واشتد غضبه على بني
إسرائيل ؛ لما يريد الله به من الدمار ، فأرسل سريعا في بلاده حاشرين ، أي : مَنْ
يحشر الجندَ ويجمعه ، كالنّقباء والحُجَّاب ، ونادى فيهم : { إِنَّ هَؤُلاءِ } -
يعني : بني إسرائيل - { لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } أي : لطائفة قليلة.
{ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ } أي : كل وقت يصل لنا منهم ما يغيظنا.
{ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ } أي : نحن كل وقت نحذر من غائلتهم ، وإني أريد
أن أستأصل شأفتهم ، وأبيد خضراءهم. فجوزي في نفسه وجنده بما أراد لهم.
قال الله تعالى : { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ
وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } أي : فخرجوا من هذا النعيم إلى الجحيم ، وتركوا تلك المنازل
العالية والبساتين والأنهار والأموال والأرزاق والملك والجاه الوافر في الدنيا.
{ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } ، كما قال تعالى : {
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ
وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى
عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ
فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ } [الأعراف : 137] ، وقال تعالى
: { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ
وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي
الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا
يَحْذَرُونَ } [القصص : 5 ، 6].
{ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) }
(6/143)
فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
{ فَلَمَّا
تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ
كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ
اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ
الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ
مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ
لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) }.
ذكر غير واحد من المفسرين : أن فرعون خرج في جحفل عظيم وجمع كبير (1) ، وهو عبارة
عن مملكة الديار المصرية في زمانه ، أولي الحل والعقد والدول ، من الأمراء
والوزراء والكبراء والرؤساء والجنود ، فأمَّا ما ذكره غير واحد من الإسرائيليات ،
من أنه خرج في ألف ألف وستمائة ألف فارس ، منها مائة ألف على خيل دُهْم ، وقال كعب
الأحبار : فيهم ثمانمائة ألف حصان أدهم ، ففي ذلك نظر. والظاهر أنه من مجازفات بني
إسرائيل ، والله ، سبحانه وتعالى ، أعلم. والذي أخبر به هو النافع ، ولم يعين
عدتهم ؛ إذ لا فائدة تحته ، إلا أنهم خرجوا بأجمعهم.
{ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ } أي : وصلوا إليهم عند شروق الشمس ، وهو طلوعها.
{ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ } أي : رأى كل من الفريقين صاحبه ، فعند ذلك {
قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } ، وذلك أنه انتهى بهم السير إلى
سيف البحر ، وهو بحر القلزم ، فصار أمامهم البحر ، وفرعون قد أدركهم بجنوده ،
فلهذا قالوا : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ
} أي : لا يصل إليكم
__________
(1) في أ "كثير".
(6/143)
شيء مما
تحذرون ، فإن الله ، سبحانه ، هو الذي أمرني أن أسير هاهنا بكم ، وهو لا يخلف
الميعاد.
وكان هارون ، عليه السلام ، في المقدمة ، ومعه يوشع بن نون ، [ومؤمن آل فرعون
وموسى ، عليه السلام ، في الساقة ، وقد ذكر غير واحد من المفسرين : أنهم وقفوا لا
يدرون ما يصنعون ، وجعل يوشع بن نون] (1) ، أو مؤمن آل فرعون يقول لموسى ، عليه
السلام : يا نبي الله ، هاهنا أمرك الله أن تسير ؟ فيقول : نعم ، واقترب فرعون
وجنوده ، ولم يبق إلا القليل ، فعند ذلك أمر الله نبيه موسى أن يضرب بعصاه البحر ،
فضربه ، وقال : انفلق بإذن الله.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا صفوان بن صالح ، حدثنا الوليد ،
حدثنا (2) محمد بن حمزة [بن محمد] (3) بن يوسف بن عبد الله بن سلام : أن موسى ،
عليه السلام ، لما انتهى إلى البحر قال : يا من كان قبل كل شيء والمكون لكل شيء ،
والكائن قبل كل شيء ، اجعل لنا مخرجًا. فأوحى الله إليه : { أَنِ اضْرِبْ
بِعَصَاكَ الْبَحْرَ }.
وقال قتادة : أوحى الله تلك الليلة إلى البحر : أن إذا ضربك موسى بعصاه فاسمع له
وأطع ، فبات البحر تلك الليلة ، وله اضطراب (4) ، ولا يدري من أيّ جانب يضربه موسى
، فلما انتهى إليه موسى قال له فتاه يوشع بن نون : يا نبي الله ، أين أمرك ربك ؟
قال : أمرني أن أضرب البحر. قال : فاضربه.
وقال محمد بن إسحاق : أوحى الله - فيما ذكر لي - إلى البحر : أن إذا ضربك موسى
بعصاه فانفلق له. قال : فبات البحر يضرب بعضه بعضًا ، فرقا من الله تعالى ،
وانتظارًا لما أمره الله ، وأوحى الله إلى موسى : { أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ
الْبَحْرَ } ، فضربه بها وفيها ، (5) سلطان الله الذي أعطاه ، فانفلق.
وذكر غير واحد أنه كناه فقال : انفلق عليّ أبا خالد بحول الله (6).
قال الله تعالى : { فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } أي
: كالجبل الكبير. قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، ومحمد بن كعب ، والضحاك ، وقتادة ،
وغيرهم.
وقال عطاء الخراساني : هو الفَجّ بين الجبلين.
وقال ابن عباس : صار البحر اثني عشر طريقًا ، لكل سبط طريق - وزاد السدي : وصار
فيه طاقات ينظر بعضهم إلى بعض ، وقام الماء على حيله كالحيطان ، وبعث الله الريح
إلى قعر البحر فلفحته ، فصار يَبَسا (7) كوجه الأرض ، قال الله تعالى : {
فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى
} [طه : 77].
وقال في هذه القصة : { وأزلفنا } أي : هنالك (8) { الآخرين }.
قال ابن عباس ، وعطاء الخراساني ، وقتادة ، والسدي : { وأزلفنا } أي : قربنا فرعون
وجنوده
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف ، أ : "عن".
(3) زيادة من الجرح والتعديل (3/2/236) والدر المنثور (5/86).
(4) في أ : "اتكل".
(5) في أ : "ففيها".
(6) في ف ، أ : "بإذن الله".
(7) في أ : "يابسا".
(8) في ف : "هناك".
(6/144)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)
من البحر
وأدنيناهم إليه.
{ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ }
أي : أنجينا موسى وبني إسرائيل ومن معهم على دينهم فلم يهلك (1) منهم أحد ، وأغرق
فرعون وجنوده ، فلم يبق منهم رجل (2) إلا هلك.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ، حدثنا
شبابة ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله
- هو ابن مسعود - أن موسى ، عليه السلام ، حين أسرى ببني إسرائيل بلغ فرعون ذلك ،
فأمر بشاة فذبحت ، ثم قال : لا والله لا يفرغ من سلخها حتى يجتمع إليّ ستمائة ألف
من القبط. فانطلق موسى حتى انتهى إلى البحر ، فقال له : انفرق. فقال البحر : لقد
استكبرت يا موسى ، وهل انفرقت (3) لأحد من ولد (4) آدم فأنفرق (5) لك ؟ قال : ومع
موسى رجل على حصان له ، فقال له ذلك الرجل : أين أمرتَ يا نبي الله ؟ قال : ما
أمرت إلا بهذا الوجه [يعني : البحر ، فأقحم فرسه ، فسبح به فخرج ، فقال : أين أمرت
يا نبي الله ؟ قال : ما أمرت إلا بهذا الوجه] (6). قال : والله ما كَذَبت ولا
كُذبت. ثم اقتحم الثانية فسبح ، ثم خرج فقال : أين أمرت يا نبي الله ؟ قال : ما
أمرت إلا بهذا الوجه ؟ قال : والله ما كَذَبت (7) ولا كُذبت. قال : فأوحى الله إلى
موسى أن اضرب بعصاك البحر ، فضربه موسى بعصاه ، فانفلق ، فكان فيه اثنا عشر طريقًا
، لكل سبط طريق يتراءون ، فلما خرج أصحاب موسى وتَتَامّ أصحابُ فرعون ، التقى
البحر عليهم فأغرقهم.
وفي رواية إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله قال : فلما
خَرَج آخر أصحاب موسى ، وتكامل أصحاب فرعون ، اضطم عليهم البحر ، فما رُئِيَ سواد
أكثر من يومئذ ، وغرق فرعون لعنه الله.
ثم قال تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } أي : في هذه القصة وما فيها من
العجائب والنصر والتأييد لعباد الله المؤمنين ؛ لدلالة وحجة قاطعة وحكمة بالغة ، {
وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ } تقدم تفسيره.
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا
تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71)
قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ
يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74)
قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ
الأقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) }.
هذا إخبار من الله تعالى (8) عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء ، أمر
الله رسوله محمدا ، صلوات الله وسلامه عليه ، أن يتلوه على أمته ، ليقتدوا به في
الإخلاص والتوكل ، وعبادة الله وحده لا شريك له ، والتبرؤ من الشرك وأهله ؛ فإن
الله تعالى آتى إبراهيم رشده من قبل ، أي : من صغره إلى كبره ، فإنه من وقت نَشَأ
وشَب ، أنكر على قومه عبادة الأصنام مع الله ، عز وجل ، فقال : { لأبِيهِ
وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ } ؟
__________
(1) في أ : "نهلك".
(2) في ف : "رجل منهم".
(3) في ف ، أ : "فرقت".
(4) في أ : "بني".
(5) في أ : "فأفرق".
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) في أ : "ما كذب".
(8) في أ : "عز وجل".
(6/145)
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
أي : ما هذه
التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؟
{ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ } أي : مقيمين على
عبادتها ودعائها.
{ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ
يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } يعني :
اعترفوا بأن (1) أصنامهم لا تفعل شيئا من ذلك ، وإنما رأوا آباءهم كذلك يفعلون ،
فهم على آثارهم يُهرعون. فعند ذلك قال لهم إبراهيم : { قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا
كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي
إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ } أي : إن كانت هذه الأصنام شيئا ولها تأثير ،
فَلْتَخْلُص إلي بالمساءة ، فإني عدو لها لا أباليها ولا أفكر فيها. وهذا كما قال
تعالى مخبرًا عن نوح ، عليه السلام : { فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ
ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا
تُنْظِرُونِ } [يونس : 71] وقال هود ، عليه السلام : { إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ
وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا
ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا
مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ } [هود : 54 - 56] وهكذا تبرأ إبراهيم من آلهتهم وقال : { وَكَيْفَ
أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا
لَمْ يُنزلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا } [الأنعام : 81] وقال تعالى : { قَدْ
كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ
قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ
وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [الممتحنة : 4]
وقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ
مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا
كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الزخرف : 26 - 28]
يعني : لا إله إلا الله.
{ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي
وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي
ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ
الدِّينِ (82) }
يعني : لا أعبد إلا الذي يفعل هذه الأشياء ، { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ
} أي : هو الخالق الذي قدر قدرًا ، وهدى الخلائق إليه ، فكل يجري على [ما] (2)
قدّر ، وهو الذي يهدي من يشاء ويُضل من يشاء.
{ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } أي : هو خالقي ورازقي ، بما سخر
ويَسَّر من الأسباب السماوية والأرضية ، فساق المُزْنَ ، وأنزل الماء ، وأحيا به
الأرض ، وأخرج به من كل الثمرات رزقا للعباد ، وأنزل الماء عذبًا زلالا لـ {
نُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا } (3) [الفرقان :
49].
وقوله : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } أسند المرض إلى نفسه ، وإن كان عن
قدر الله وقضائه وخلَقْه ، ولكن أضافه إلى نفسه أدبا ، كما قال تعالى آمرًا للمصلي
أن يقول : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ
عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } [الفاتحة : 6 ، 7]
فأسند الإنعام إلى الله ، سبحانه وتعالى ، والغضب حُذف فاعله أدبًا ، وأسند الضلال
إلى العبيد ، كما قالت الجن : { وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي
الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا } [الجن : 10] ؛ ولهذا (4) قال
__________
(1) في ف ، أ : "أن".
(2) زيادة من أ.
(3) في م : "ليسقيه مما خلق" وهو خطأ.
(4) في ف ، أ : "وهكذا".
(6/146)
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)
إبراهيم : {
وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } أي : إذا وقعت في مرض فإنه لا يقدر على شفائي
أحد غيره ، بما يقدر من الأسباب الموصلة إليه.
{ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } أي : هو الذي يحيي ويميت ، لا يقدر على
ذلك أحد سواه ، فإنه هو الذي يبدئ ويعيد.
{ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } أي : هو
الذي لا يقدر على غَفْر الذنوب في الدنيا والآخرة ، إلا هو ، ومن يغفر الذنوب إلا
الله ، وهو الفعال لما يشاء.
{ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) }
(6/147)
وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
{ وَاجْعَلْ
لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ
النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لأبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا
تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88)
إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) }.
وهذا سؤال من إبراهيم ، عليه السلام ، أن يؤتيه ربه حُكْما.
قال ابن عباس : وهو العلم. وقال عكرمة : هو اللب. وقال مجاهد : هو القرآن. وقال
السدي : هو النبوة. وقوله : { وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } أي : اجعلني مع (1)
الصالحين في الدنيا والآخرة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند الاحتضار :
"[اللهم الرفيق الأعلى" قالها ثلاثا (2). وفي الحديث في الدعاء] (3) :
اللهم أحينا مسلمين وأمتنا مسلمين ، وألحقنا بالصالحين ، غير خزايا ولا
مبدلين" (4).
وقوله : { وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ } أي : واجعل لي ذكرًا
جميلا بعدي أذكرَ به ، ويقتدى بي في الخير ، كما قال تعالى : { وَتَرَكْنَا
عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ. سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ } [الصافات : 108 - 110].
قال مجاهد ، وقتادة : { وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ } يعني :
الثناء الحسن. قال مجاهد : وهو كقوله تعالى : { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي
الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } [العنكبوت : 27] ،
وكقوله : { وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ
الصَّالِحِينَ } [النحل : 122].
قال ليث بن أبي سليم : كل ملة تحبه وتتولاه. وكذا قال عكرمة.
وقوله : { وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ } أي : أنعم عَليَّ في
الدنيا ببقاء الذكر الجميل بعدي ، وفي الآخرة بأن تجعلني من ورثة جنة النعيم.
وقوله : { وَاغْفِرْ لأبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ } كقوله : { رَبَّنَا
اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ } [إبراهيم : 41] ، وهذا مما رجَعَ عنه إبراهيم ، عليه
السلام ، كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا
عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ
لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } [التوبة : 114].
__________
(1) في أ "من".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (6509) ومسلم في صحيحه برقم (2191) من حديث عائشة
، رضي الله عنها ، وليس عندهما أنه قالها ثلاثا ، وإنما فيهما ما يفيد أنها مرتين
، والله أعلم.
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) رواه أحمد في مسنده (3/424) من حديث الزرقي ، وعنده : "غير خزايا ولا
مفتونين".
(6/147)
وقد قطع
[الله] (1) تعالى الإلحاق في استغفاره لأبيه ، فقال : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ
إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا
بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا
حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ
لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } [الممتحنة :
4].
وقوله : { وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } أي : أجرني من الخزي يوم القيامة
و[يوم] (2) يبعث الخلائق أولهم وآخرهم.
قال البخاري في قوله : { وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } وقال إبراهيم بن
طهمان ، عن ابن أبي ذئب ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ،
رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن إبراهيم رأى أباه
يوم القيامة عليه الغَبَرَةُ والقَتَرَةُ" (3).
حدثنا إسماعيل ، حدثنا أخي ، عن ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يلقى إبراهيم أباه ، فيقول : يا رب ، إنك
وعدتني أنك لا تخزيني (4) يوم يبعثون. فيقول الله : إني حرمت الجنة على
الكافرين".
هكذا رواه عند هذه الآية (5). وفي أحاديث الأنبياء بهذا الإسناد بعينه منفردا به ،
ولفظه : يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة ، وعلى وجه آزر قَتَرَةٌ وغَبَرة ،
فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك : لا تعصني (6) فيقول أبوه (7) : فاليوم لا أعصيك.
فيقول إبراهيم : يا رب ، إنك وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون ، فأي خزي أخزى من أبي
الأبعد ؟ فيقول الله تعالى : إني حرمت الجنة على الكافرين. ثم يُقال : يا إبراهيم
، ما تحت رجليك ؟ فينظر فإذا هو بذبح متلطخ ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار (8).
وقال أبو عبد الرحمن النسائي في التفسير من سننه الكبير قوله : { وَلا تُخْزِنِي
يَوْمَ يُبْعَثُونَ } : أخبرنا أحمد بن حفص (9) بن عبد الله ، حدَّثني أبي ، حدثني
إبراهيم بن طَهْمَان ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبرِي ، عن
أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن إبراهيم رأى
أباه يوم القيامة عليه الغَبَرة والقَتَرة ، وقال (10) له : قد نهيتك عن هذا
فعصيتني. قال : لكني اليوم لا أعصيك واحدة. قال : يا رب ، وعدتني أن لا تخزيني يوم
يبعثون ، فإن (11) أخزيت أباه فقد أخزيت الأبعد. قال : يا إبراهيم ، إني (12)
حرمتها على الكافرين. فأخذ منه ، قال : يا إبراهيم ، أين أبوك ؟ قال : أنت أخذته
مني. قال : انظر أسفل منك. فنظر (13) فإذا ذيخ يتمرغ (14) في نتنه ، فأخذ بقوائمه
فألقي في النار (15).
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) صحيح البخاري برقم (4768).
(4) في ف ، أ : "أن لا تخزني".
(5) صحيح البخاري برقم (4769) ولفظه : "وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون".
(6) في ف : "لا تعصيني".
(7) في ف : "أباه" وهو خطأ.
(8) صحيح البخاري برقم (3350).
(9) في ف : "جعفر".
(10) في ف : "فقال".
(11) في أ : "فأي".
(12) في أ : "فإني".
(13) في ف ، أ : "فينظر".
(14) في ف : "متمرغ".
(15) النسائي في السنن الكبرى برقم (11375).
(6/148)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
هذا إسناد
(1) غريب ، وفيه نكارة.
والذيخ (2) : هو الذكر من الضباع ، كأنه حول آزر إلى صورة ذيخ متلطخ بعذرته (3) ،
فيلقى في النار كذلك.
وقد رواه البزار من حديث حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي
هُرَيرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه غرابة. ورواه أيضًا من حديث قتادة ،
عن جعفر بن عبد الغافر ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وقوله : { يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ } أي : لا يقي المرء (4) من عذاب
الله ماله ، ولو افتدى بملء الأرض ذهبا : { وَلا بَنُونَ } ولو افتدى بِمَنْ في
الأرض جميعا ، ولا ينفعُ يومئذ إلا الإيمانُ بالله ، وإخلاص الدين له ، والتبري من
الشرك ؛ ولهذا قال : { إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } أي : سالم من
الدنس والشرك.
قال محمد بن سيرين : القلب السليم أن يعلم أن الله حق ، وأن الساعة آتية لا ريب
فيها ، وأن الله يبعث مَنْ في القبور.
وقال ابن عباس : { إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } حَيِي (5) يشهد أن
لا إله إلا الله.
وقال مجاهد ، والحسن ، وغيرهما : { بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } يعني : من الشرك.
وقال سعيد بن المسيب : القلب السليم : هو القلب الصحيح ، وهو قلب المؤمن ؛ لأن قلب
[الكافر و] (6) المنافق مريض ، قال الله : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } [البقرة :
10].
وقال أبو عثمان النيسابوري : هو القلب الخالي من البدعة ، المطمئن إلى السنة.
{ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ
لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ
دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا
هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ
فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ
نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ
(99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ
لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا
كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ (104) }.
{ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ } أي : قربت الجنة وأدنيت (7) من أهلها يوم القيامة
مزخرفة مزينة (8) لناظريها ، وهم المتقون الذين رغبوا فيها ، وعملوا لها [عملها]
(9) في الدنيا.
{ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } أي :
__________
(1) في ف : "سياق".
(2) في أ : "والذابح".
(3) في أ : "بقذرته".
(4) أ : "المؤمن".
(5) في ف ، أ : "يعني".
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) في ف : "أدنيت وقربت".
(8) في ف ، أ : "مزينة مزخرفة".
(9) زيادة من ف ، أ.
(6/149)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)
أظهرت وكُشف
(1) عنها ، وبدت منها عُنقٌ ، فزفرت زفرة بلغت منها القلوب [إلى] (2) الحناجر ،
وقيل لأهلها تقريعا وتوبيخا : { أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ
اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ } (3) أي : ليست الآلهة التي
عبدتموها من دون الله ، من تلك الأصنام والأنداد تغني عنكم اليوم شيئًا ، ولا تدفع
عن أنفسها ؛ فإنكم وإياها اليوم حَصَبُ جَهَنم أنتم لها واردون.
وقوله : { فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ } قال مجاهد : يعني :
فَدُهْوِرُوا (4) فيها.
وقال غيره : كببوا فيها. والكاف مكررة ، كما يقال : صرصر. والمراد : أنه ألقي
بعضهم على بعض ، من الكفار وقادتهم الذين دعوهم إلى الشرك.
{ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ } أي : ألقوا فيها عن آخرهم.
{ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ
مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : يقول الضعفاء الذين
استكبروا : { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا
نَصِيبًا مِنَ النَّارِ } [غافر : 47]. ويقولون وقد عادوا على أنفسهم بالملامة : {
تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ
} أي : نجعل أمركم مطاعًا كما يطاع أمر رب العالمين ، وعبدناكم مع ربِ العالمين.
{ وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ } أي : ما دعانا إلى ذلك إلا المجرمون.
{ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ } قال بعضهم : يعني من الملائكة ، كما يقولون : {
فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ
الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } [الأعراف : 53]. وكذا قالوا : { فَمَا لَنَا مِنْ
شَافِعِينَ. وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ } أي : قريب.
قال قتادة : يعلمون - والله - أن الصديق إذا كان صالحًا نفع ، وأن الحميم إذا كان
صالحا شفع.
{ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } وذلك أنهم يتمنون
أنهم يردُّون (5) إلى الدار الدنيا ، ليعملوا بطاعة ربهم - فيما يزعمون - وهو ،
سبحانه وتعالى ، يعلم أنه لو ردهم إلى الدار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم
لكاذبون. وقد أخبر تعالى (6) عن تخاصم (7) أهل النار في سورة "ص" ، ثم
قال : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ } [ص : 64].
ثم قال تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ }
أي : إن في محاجة إبراهيم لقومه وإقامته الحجج (8) عليهم في التوحيد لآية ودلالة
واضحة جلية على أنه لا إله إلا الله { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }.
{ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ
أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا
عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) }.
هذا إخبار من الله ، عز وجل ، (9) عن عبده ورسوله نوح ، عليه السلام ، وهو أول
رسول بُعث
__________
(1) في ف ، أ. "وكشفت".
(2) زيادة من أ.
(3) في ف ، أ : "تشركون".
(4) في أ : "صوروا".
(5) في ف : "أن يردون" وفي أ : "أن يردوا".
(6) في أ : "الله" وهو خطأ.
(7) في أ : "بتخاصم".
(8) في ف : "الحجة".
(9) في ف ، أ : "تعالى"
(6/150)
قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)
إلى الأرض
بعدما عبدت الأصنام والأنداد ، بعثه الله ناهيًا عن ذلك ، ومحذرًا من وَبيل عقابه
، فكذبه قومه واستمروا على ما هم عليه من الفعال الخبيثة في عبادتهم أصنامهم ،
ويتنزل (1) تكذيبهم له بمنزلة تكذيب جميع الرسل ؛ ولهذا قال : { كَذَّبَتْ قَوْمُ
نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ } أي :
ألا (2) تخافون الله في عبادتكم غيره ؟
{ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } أي : إني رسول من الله إليكم ، أمين فيما بعثني
به ، أبلغكم رسالة الله لا أزيد فيها ولا أنقص منها.
{ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [
إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ] } (3) أي : لا أطلب منكم جزاء على
نصحي لكم ، بل أدخر ثواب ذلك عند الله { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } فقد
وضح لكم وبان صدقي ونصحي وأمانتي فيما بعثني به وأتمنني عليه.
{ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ (111) }
__________
(1) في أ : "وتنزل".
(2) في أ : "لا".
(3) زيادة من ف ، أ.
(6/151)
قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
{ قَالَ
وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى
رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ
أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) }.
يقولون : أنؤمن لك ونتبعك ، ونتساوى في ذلك بهؤلاء الأراذل (1) الذين اتبعوك
وصدقوك ، وهم أراذلنا (2) ؛ ولهذا قالوا : { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ
الأرْذَلُونَ. قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ؟ أي : وأي شيء
يلزمني من اتباع هؤلاء لي ، ولو كانوا على أي شيء كانوا عليه لا يلزمني التنقيب
عنه والبحث والفحص ، إنما عليَّ أن أقبل منهم تصديقهم (3) إياي ، وأكل سرائرهم إلى
الله ، عز وجل.
{ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ
الْمُؤْمِنِينَ } ، كأنهم سألوا منه أن يبعدهم عنه ليتابعوه (4) ، فأبى عليهم ذلك
، وقال : { وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ
مُبِينٌ } أي : إنما بعثت نذيرًا ، فمن أطاعني واتبعني وصدقني كان مني وكنت منه ،
سواء كان شريفًا أو وضيعًا ، أو جليلا أو حقيرًا.
{ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ
(116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ
فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ
وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ
الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ
(121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) }.
لما طال مقام نبي الله بين أظهرهم يدعوهم إلى الله ليلا ونهارًا ، وجهرًا وإسرارًا
، وكلما كرر عليهم الدعوة صمموا على الكفر الغليظ ، والامتناع الشديد ، وقالوا في
الآخر : { لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ } أي : عن دعوتك إيانا إلى دينك يا نوح {
لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ } أي : لنرجمنَّك (5). فعند ذلك دعا
__________
(1) في أ : "الأرذال".
(2) في أ : "أرذالنا".
(3) في أ : "صدقهم".
(4) في ف : "ليتابعون" وفي أ : "ليبايعوه.
(5) في أ : "لنرجمك".
(6/151)
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)
عليهم دعوة
استجاب الله منه ، فقال { رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ. فَافْتَحْ بَيْنِي
وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } ، كما قال
في الآية الأخرى : { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ. فَفَتَحْنَا
أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا
فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ. وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ
أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ } [القمر
: 10 - 14].
وقال هاهنا { فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. ثُمَّ
أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ. }. والمشحون : هو المملوء بالأمتعة والأزواج التي
حمل فيه من كل زوجين اثنين ، أي : نجيناه (1) ومن معه (2) كلهم ، وأغرقنا مَنْ
كذبه وخالف أمره كلهم ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ
مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }.
{ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا
تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا
عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ
(128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ
بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا
الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ
(133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ (135) }.
وهذا إخبار من [الله تعالى عن] (3) عبده ورسوله هود ، عليه السلام ، أنه دعا قومه
عادًا ، وكانوا قومًا يسكنون الأحقاف ، وهي : جبال الرمل قريبًا من بلاد حضرموت
متاخمة (4) لبلاد اليمن ، وكان زمانهم بعد قوم نوح ، [كما قال في "سورة
الأعراف" : { وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ
نُوحٍ] (5) وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً } [الأعراف : 69] وذلك أنهم كانوا
في غاية من قوة التركيب ، والقوة والبطش الشديد ، والطول المديد ، والأرزاق الدارة
، والأموال والجنات (6) والعيون ، والأبناء والزروع والثمار ، وكانوا مع ذلك
يعبدون غير الله معه ، فبعث الله إليهم رجلا منهم رسولا وبشيرًا ونذيرًا ، فدعاهم
إلى الله وحده ، وحذرهم نقمته وعذابه في مخالفته ، فقال لهم كما قال نوح لقومه ،
إلى أن قال : { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ } ، اختلف المفسرون
في الريع بما حاصله : أنه المكان المرتفع عند جواد الطرق المشهورة. تبنون هناك
بناء محكما باهرًا هائلا ؛ ولهذا قال : { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً } أي :
معلما بناء مشهورًا ، تعبثون ، وإنما تفعلون ذلك عبثًا لا للاحتياج إليه ؛ بل
لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة ؛ ولهذا أنكر عليهم نبيهم ، عليه السلام ، ذلك ؛
لأنه تضييع للزمان وإتعاب للأبدان في غير فائدة ، واشتغال بما لا يجدي في الدنيا
ولا في الآخرة.
ثم قال : { وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ }. قال مجاهد :
المصانع : البروج المشيدة ، والبنيان المخلد. وفي رواية عنه : بروج الحمام.
__________
(1) في أ : "نجينا نوحا".
(2) في أ : "اتبعه".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في ف : "متخمة".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في أ : "والجنان".
(6/152)
قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)
وقال قتادة
: هي مأخذ الماء. قال قتادة : وقرأ بعض القراء (1) : وتتخذون مصانع كأنكم
خالدون".
وفي القراءة المشهورة : { لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } أي : لكي تقيموا فيها أبدًا ،
وليس ذلك بحاصل لكم ، بل زائل عنكم ، كما زال عمن كان قبلكم.
وقال ابن أبي حاتم ، رحمه الله : حدثنا أبي ، حدثنا الحكم بن موسى ، حدثنا الوليد
، حدثنا ابن عَجْلان ، حدثني عَوْن بن عبد الله بن عتبة ، أن أبا الدرداء ، رضي
الله عنه ، لما رأى ما أحدث المسلمون في الغُوطة من البنيان ونصب الشجر ، قام في
مسجدهم فنادى : يا أهل دمشق ، فاجتمعوا إليه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :
ألا تستحيون! ألا تستحيون! تجمعون ما لا تأكلون ، وتبنون ما لا تسكنون ، وتأملون
ما لا تدركون ، إنه كانت قبلكم (2) قرون ، يجمعون فيرعون ، ويبنون فيوثقون (3) ،
ويأملون فيطيلون ، فأصبح أملهم غرورًا ، وأصبح جمعهم بورًا ، وأصبحت مساكنهم (4)
قبورًا ، ألا إن عادًا ملكت ما بين عدن وعمان خيلا وركابًا ، فمن يشتري مني ميراث
عاد بدرهمين ؟.
وقوله : { وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } وصفهم بالقوة والغلظة
والجبروت.
{ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } أي : اعبدوا ربكم ، وأطيعوا رسولكم.
ثم شرع يذكرهم نعم الله عليهم فقال : { وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا
تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. إِنِّي
أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي : إن كذبتم وخالفتم ، فدعاهم إلى
الله بالترغيب والترهيب ، فما نفع فيهم.
{ قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ
(136) }
__________
(1) في ف : "الكوفيين".
(2) في ف : "قد كانت قبلكم" وفي أ : "قد كانت لكم".
(3) في أ : "فيوبقون".
(4) في ف : "منازلهم".
(6/153)
إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
{ إِنْ
هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138)
فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ
مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) }
يقول تعالى مخبرًا عن جواب قوم هود له ، بعدما حذرهم وأنذرهم ، وَرَغَّبَهُم
ورهبهم ، وبيَّن لهم الحق ووضحه : { قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ
لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ } أي : لا نرجع عما نحن فيه ، { وَمَا نَحْنُ
بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } [هود :
53] وهكذا الأمر ؛ فإن الله تعالى قال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ
عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } [البقرة :
6] وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ
} [يونس : 96 ، 97].
وقولهم : { إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ } : قرأ بعضهم : "إن هذا إلا
خَلْق" بفتح الخاء وتسكين
(6/153)
اللام.
قال ابن مسعود ، والعوفي عن عبد الله بن عباس ، وعلقمة ، ومجاهد : يعنون ما هذا
الذي جئتنا به إلا أخلاق الأولين. كما قال المشركون من قريش : { وقالوا أساطير الأولين
[اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا } [الفرقان : 5] ، وقال : { وقال الذين كفروا
إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير
الأولين } [الفرقان : 4 ، 5] ، وقال { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ (1) مَاذَا أَنزلَ
رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } ] (2) [النحل : 24].
وقرأ آخرون : { إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ } - بضم الخاء واللام - يعنون
: دينهم وما هم عليه من الأمر هو دين الأوائل من الآباء والأجداد. ونحن تابعون لهم
، سالكون وراءهم ، نعيش كما عاشوا ، ونموت كما ماتوا ، ولا بعث ولا معاد ؛ ولهذا
قالوا : { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ }.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ } يقول :
دين الأولين. وقاله عكرمة ، وعطاء الخراساني ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن
أسلم ، واختاره ابن جرير (3).
قال الله تعالى : { فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ } أي : فاستمروا على تكذيب نبي
الله هود ومخالفته وعناده ، فأهلكهم الله ، وقد بيَّن سبب إهلاكه إياهم في غير
موضع من القرآن بأنه أرسل عليهم ريحًا صرصرًا عاتية ، أي : ريحًا شديدة الهبوب ذات
برد شديد جدًا ، فكان إهلاكهم من جنسهم ، فإنهم كانوا أعتى شيء وأجبره ، فسلط الله
عليهم ما هو أعتى منهم وأشد قوة ، كما قال : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ
بِعَادٍ إِرَمَ [ذَاتِ الْعِمَادِ] } (4) [الفجر : 6 ، 7] وهم عاد الأولى ، كما
قال : { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولَى } [النجم : 50] ، وهم من نسل إرم بن
سام بن نوح. { ذَاتِ الْعِمَادِ } أي : الذين كانوا يسكنون العمد. ومن زعم أن
"إرم" مدينة ، فإنما أخذ ذلك من الإسرائيليات من كلام كعب ووهب ، وليس
لذلك أصل أصيل. ولهذا قال : { الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ } [الفجر
: 8] ، أي : لم يخلق مثل هذه القبيلة في قوتهم وشدتهم وجبروتهم ، ولو كان المراد
بذلك مدينة لقال : التي لم يبن مثلها في البلاد ، وقال : { فَأَمَّا عَادٌ
فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا
قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ
قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } [فصلت : 15].
وقد قَدَّمنا أن الله تعالى لم يرسل عليهم من الريح إلا بمقدار أنف الثور ، عتت
على الخزنة ، فأذن (5) الله لها في ذلك ، وسلكت وحصبت بلادهم ، فحصبت كل شيء لهم ،
كما قال تعالى : { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا
يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ } (6) الآية [الأحقاف : 25] ، وقال تعالى : { وَأَمَّا
عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ
لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا } [الحاقة : 6 ، 7] ، أي : كاملة {
فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ }
[الحاقة : 7] ، أي : بقوا أبدانًا بلا رؤوس ؛
__________
(1) في ف ، أ : "وقيل للذين كفروا" وهو خطأ.
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) تفسير الطبري (19/60).
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في أ : "بإذن".
(6) في ف ، أ : "لا ترى".
(6/154)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)
وذلك أن
الريح كانت تأتي الرجل منهم فتقتلعه وترفعه في الهواء ، ثم تنكسه على أم رأسه
فتشدخ دماغه ، وتكسر رأسه ، وتلقيه ، كأنهم أعجاز نخل منقعر. وقد كانوا تحصنوا في
الجبال والكهوف والمغارات ، وحفروا لهم في الأرض إلى أنصافهم ، فلم يغن عنهم ذلك
(1) من أمر الله شيئا ، { إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ } [نوح :
4] ؛ ولهذا قال : { فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا
كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }.
{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ
أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا
عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) }
وهذا إخبار من الله ، عز وجل ، عن عبده ورسوله صالح ، عليه السلام : أنه بعثه إلى
قوم ثمود ، وكانوا عربًا يسكنون مدينة الحجْر ، التي بين وادي القُرَى وبلاد الشام
، ومساكنهم معروفة مشهورة. وقد قدمنا في "سورة الأعراف" (2) الأحاديث
المروية في مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم حين أراد غَزْوَ الشام ، فوصل
(3) إلى تَبُوك ، ثم عاد إلى المدينة ليتأهب لذلك. وقد كانوا بعد عاد وقبل الخليل
، عليه السلام. فدعاهم نبيهم صالح إلى الله ، عز وجل ، أن يعبدوه وحده لا شريك له
، وأن يطيعوه فيما بلغهم من الرسالة ، فأبوا عليه وكذبوه وخالفوه. فأخبرهم أنه لا
يبتغي بدعوتهم أجرا منهم ، وإنما يطلب ثواب ذلك من الله ، عز وجل ، ثم ذكرهم آلاء الله
عليهم فقال :
{ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَا هُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147)
وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ
بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا
أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ
(152) }
يقول لهم واعظًا لهم ومحذرًا إياهم نقم (4) الله أن تحل بهم ، ومذكرًا بأنعم الله
عليهم فيما رزقهم من الأرزاق الدارّة ، وجعلهم في أمن من المحذورات. وأنبت لهم من
الجنات (5) ، وأنبع لهم من العيون الجاريات ، وأخرج لهم من الزروع والثمرات ؛
ولهذا قال : { وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ }. قال العوفي ، عن ابن عباس : أينع
وبَلَغ ، فهو هضيم.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ } يقول :
مُعشبة.
[و] (6) قال إسماعيل بن أبي خالد ، عن عمرو بن أبي عمرو - وقد أدرك الصحابة - عن
ابن عباس ، في قوله : { وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ } قال : إذا رطُب واسترخى.
رواه ابن أبي حاتم ، قال : ورُوي عن أبي صالح نحو هذا.
__________
(1) في ف ، أ : "لم يغن ذلك عنهم".
(2) عند الآيات : 73 - 78.
(3) في أ : "فدخل".
(4) في ف ، أ : "نقمة".
(5) في أ : "الحبات".
(6) زيادة من أ.
(6/155)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
وقال أبو
إسحاق ، عن أبي العلاء : { وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ } قال : هو المذنب من
الرطب.
وقال مجاهد : هو الذي إذا كُبس (1) تهشم وتفتت وتناثر.
وقال ابن جريج : سمعت عبد الكريم أبا أمية ، سمعت مجاهدا يقول : { وَنَخْلٍ
طَلْعُهَا هَضِيمٌ } قال : حين يطلعُ تقبض عليه فتهضَمه ، فهو من الرطب الهضيم ،
ومن اليابس الهشيم ، تقبض عليه فتهشمه.
وقال عكرمة : وقتادة ، الهضيم : الرطب اللين.
وقال الضحاك : إذا كثر حمل الثمرة (2) ، وركب بعضه بعضًا ، فهو هضيم.
وقال مرة : هو الطَّلْعُ حين يتفرق ويخضر.
وقال الحسن البصري : هو الذي لا نوى له.
وقال أبو صخر : ما (3) رأيت الطلعَ حين يُشق (4) عنه الكمّ ، فترى الطلع قد لصق
بعضه ببعض ، فهو الهضيم.
وقوله : { وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ } قال ابن عباس ،
وغير واحد : يعني : حاذقين. وفي رواية عنه : شرهين أشرين (5). وهو اختيار مجاهد
وجماعة. ولا منافاة بينهما ؛ فإنهم كانوا يتخذون تلك البيوت المنحوتة في الجبال
أشرًا وبطرًا وعبثًا ، من غير حاجة إلى سكناها ، وكانوا حاذقين (6) متقنين لنحتها
ونقشها ، كما هو المشاهد من حالهم لمن رأى منازلهم ؛ ولهذا قال : { فَاتَّقُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } أي : أقبلوا على عَمَل ما يعود نفُعه عليكم (7) في الدنيا
والآخرة ، من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم لتوحدوه وتعبدوه وتسبحوه بكرة وأصيلا.
{ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا
يُصْلِحُونَ } يعني : رؤساءهم وكبراءهم ، الدعاة لهم إلى الشرك والكفر ، ومخالفة
الحق.
{ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ
مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ
نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوهَا
بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا
نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
(159) }
يقول تعالى مخبرا عن ثمود في جوابهم لنبيهم صالح ، عليه السلام ، حين دعاهم إلى
عبادة ربهم { قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ }. قال مجاهد ، وقتادة
: يعنون من المسحورين.
وروى (8) أبو صالح ، عن ابن عباس : { مِنَ الْمُسَحَّرِينَ } (9) : يعني من
المخلوقين ، واستشهد بعضهم على هذا القول بما قال الشاعر (10) : فإن تسألينا : فيم
نحن ? فإننا
عصافير من هذا الأنام المسحر
__________
(1) في ف ، أ : "مس".
(2) في ف ، أ : "حمل النخلة المثمرة".
(3) في ف ، أ : "أما".
(4) في ف ، أ : "يتشقق".
(5) في ف : "أشرين شرهين".
(6) في أ : "صادقين".
(7) في ف ، أ : "عليكم نفعه".
(8) في ف : "وقال".
(9) في ف ، أ : "المسحورين".
(10) هو لبيد بن ربيعة ، والبيت في ديوانه ص (56) أ.هـ ، مستفادا من ط. الشعب.
(6/156)
يعني الذين
لهم سُحور ، والسَّحر : هو الرئة.
والأظهر في هذا قول مجاهد وقتادة : أنهم يقولون : إنما أنت في قولك هذا مسحور لا
عقل لك.
ثم قالوا : { مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا } يعني : فكيف أوحي إليك دوننا ؟
كما قالوا في الآية الأخرى : { أَؤُلْقِيَ (1) الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا
بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ }
[القمر : 25 ، 26].
ثم إنهم اقترحوا عليه آية يأتيهم بها ، ليعلموا صدقه بما (2) جاءهم به من ربهم
فطلبوا منه - وقد اجتمع ملؤهم - أن يخرج لهم الآن من هذه الصخرة - وأشاروا إلى
صخرة عندهم - ناقة عُشَراء من صفتها كذا وكذا. فعند ذلك أخذ عليهم نبي الله صالح
العهود والمواثيق ، لئن أجابهم إلى ما سألوا لَيُؤمنَنَ به ، [وليصدقنه] (3) ،
وليتبعنه ، فأنعموا بذلك. فقام نبي الله صالح ، عليه السلام ، فصلى ، ثم دعا الله
، عز وجل ، أن يجيبهم إلى سؤالهم ، فانفطرت تلك الصخرة التي أشاروا إليها عن ناقة
عُشَراء ، على الصفة التي وصفوها. فآمن بعضهم وكفر أكثرهم ، { قَالَ هَذِهِ
نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } يعني : ترد ماءكم يوما ،
ويوما تردونه أنتم ، { وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ
عَظِيمٍ } فحذرهم نقمة الله إن أصابوها بسوء ، فمكثت الناقة بين أظهرهم حينًا من
الدهر ترد الماء ، وتأكل الورق والمرعى. وينتفعون بلبنها ، يحتلبون منها ما يكفيهم
شربًا وريًا ، فلما طال عليهم الأمد وحضر شقاؤهم ، تمالؤوا على قتلها وعقرها.
{ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ } وهو أن أرضهم
زُلزلت زلزالا شديدًا ، وجاءتهم صيحة عظيمة اقتلعت القلوب عن محالها ، وأتاهم من
الأمر ما لم يكونوا يحتسبون ، فأصبحوا في ديارهم جاثمين ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ
لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ }.
__________
(1) في ف ، أ : "وأنزل" وهو خطأ.
(2) في أ : "فيما".
(3) زيادة من ف ، أ.
(6/157)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
{ كَذَّبَتْ
قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا
تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا
عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) }.
يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله لوط ، عليه السلام ، وهو : لوط بن هاران بن آزر
، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل ، وكان الله تعالى قد بعثه إلى أمة عظيمة في حياة
إبراهيم ، وكانوا يسكنون "سدوم" وأعمالها التي أهلكها الله بها ، وجعل
مكانها بحيرة منتنة خبيثة ، وهي مشهورة ببلاد الغور ، متاخمة لجبال البيت (1)
المقدس ، بينها وبين بلاد الكَرَك والشَّوبَك ، فدعاهم إلى الله ، عز وجل ، أن
يعبدوه وحده لا شريك له ، وأن يطيعوا رسولهم الذي بعثه الله إليهم ، ونهاهم عن معصية
الله ، وارتكاب ما كانوا قد ابتدعوه في العالم ، مما لم يسبقهم الخلائق إلى فعله ،
من إتيان الذكْران دون الإناث ؛ ولهذا قال تعالى :
{ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ
لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا
لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ
إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا
يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلا عَجُوزًا فِي
الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ
مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
(175) }.
__________
(1) في ف ، أ : "بيت".
(6/157)
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180)
لما نهاهم
نبي الله عن إتيانهم الفواحش ، وغشيانهم الذكور ، وأرشدهم إلى إتيان نسائهم اللاتي
خلقهن الله لهم - ما كان جواب قومه له إلا قالوا : { لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا
لُوطُ } يعنونَ : عما جئتنا (1) به ، { لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ } أي :
ننفيك من بين أظهرنا ، كما قال تعالى : { وَمَا (2) كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا
أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ (3) مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ
يَتَطَهَّرُونَ } [الأعراف : 82] ، فلما رأى أنَّهم لا يرتدعون عما هم فيه وأنهم
مستمرون على ضلالتهم ، تبرأ منهم فقال : { قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ
الْقَالِينَ } أي : الُمبغضين ، لا أحبه ولا أرضى به ؛ فأنا بريء منكم. ثم دعا
الله عليهم قال : { رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ }.
قال الله تعالى { فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ } أي : كلهم.
{ إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ } ، وهي امرأته ، وكانت عجوز سوء بقيت فهلكت
(4) مع مَنْ بقي من قومها ، وذلك كما أخبر الله تعالى عنهم في "سورة
الأعراف" و"هود" ، وكذا في "الحِجْر" حين أمره الله أن
يسري بأهله إلا امرأته ، وأنهم لا يلتفتون إذا سمعوا الصيحة حين تنزل على قومه ،
فصبروا لأمر الله واستمروا ، وأنزل الله على أولئك العذاب الذي عمّ جميعهم ، وأمطر
عليهم حجارة من سجيل منضود ؛ ولهذا قال : { ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ.
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ. إِنَّ فِي
ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }.
{ كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ
أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا
عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) }
هؤلاء - أعني أصحاب الأيكة - هم أهل مدين على الصحيح. وكان نبي الله شعيب من
أنفسهم ، وإنما لم يقل هنا أخوهم شعيب ؛ لأنهم نسبوا إلى عبادة الأيكة ، وهي شجرة.
وقيل : شجر ملتف كالغَيضة ، كانوا يعبدونها ؛ فلهذا لما قال : كذب أصحاب الأيكة
المرسلين ، لم يقل : "إذ قال لهم أخوهم شعيب" ، وإنما قال : { إِذْ
قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ } ، فقطع نسبة الأخوة بينهم ؛ للمعنى الذي نسبوا إليه ، وإن
كان أخاهم نسبا. ومن الناس مَنْ لم يتفطن لهذه النكتة ، فظن أن أصحاب الأيكة غير
__________
(1) في ف : "يعني مما جئتنا".
(2) في ف ، أ : "فما" وهو خطأ.
(3) في جميع النسخ : "اخرجوا آل لوط" والصواب ما أثبتناه.
(4) في ف ، أ : "مهلكة".
(6/158)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)
أهل مدين ،
فزعم أن شعيبًا عليه السلام ، بعثه الله إلى أمتين ، ومنهم مَنْ قال : ثلاث أمم.
وقد روى إسحاق بن بشر الكاهلي - وهو ضعيف - حدثني ابن السدي ، عن أبيه - وزكريا بن
عمر (1) ، عن خَصِيف ، عن عِكْرِمة قالا ما بعث الله نبيًا مرتين إلا شعيبًا ، مرة
إلى مدين فأخذهم الله بالصيحة ، ومرة إلى أصحاب الأيكة فأخذهم الله بعذاب يوم
الظُّلَّةِ.
وروى أبو القاسم البغوي ، عن هُدْبَة ، عن هَمَّام ، عن قتادة في قوله تعالى : {
وَأَصْحَابَ الرَّسِّ }.[ق : 12] قوم شعيب ، وقوله : { وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ }.
[ق : 14] قوم شعيب.
قال إسحاق بن بشر : وقال غير جُوَيْبر : أصحاب الأيكة ومدين هما واحد. والله أعلم.
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة "شعيب" ، من طريق محمد بن عثمان بن
أبي شيبة ، عن أبيه ، عن معاوية بن هشام ، عن هشام بن سعد ، عن سعيد بن أبي هلال ،
عن ربيعة بن سيف ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إن قوم مدين وأصحاب الأيكة أمتان ، بعث (2) الله إليهما شعيبًا النبي ، عليه
السلام" (3).
وهذا غريب ، وفي رفعه نظر ، والأشبه أن يكون موقوفا. والصحيح أنهم أمة واحدة ،
وصفوا في كل مقام بشيء ؛ ولهذا وعظ هؤلاء وأمرهم بوفاء المكيال والميزان ، كما في
قصة مدين سواء بسواء (4) ، فدل ذلك على أنهم أمة واحدة (5).
{ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا
بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا
تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ (183) }
__________
(1) في ف ، أ "عمرو".
(2) في ف ، أ : "فبعث".
(3) انظر : مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (10/309).
(4) في ف ، أ : "سواء".
(5) في أ : "فدل ذلك على أنهما واحدة".
(6/159)
وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
{
وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ (184) }.
يأمرهم تعالى (1) بإيفاء المكيال (2) والميزان ، وينهاهم عن التطفيف فيهما ، فقال
: { أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ } أي : إذا دفعتم إلى
الناس فكملوا (3) الكيل لهم ، ولا تخسروا الكيل فتعطوه ناقصا ، وتأخذوه - إذا كان
لكم - تامًا وافيًا ، ولكن خذوا كما تعطون ، وأعطوا كما تأخذون.
{ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ } : والقسطاس هو : الميزان ، وقيل :
القَبَّانُ. قال بعضهم : هو معرب من الرومية.
قال : مجاهد : القسطاس المستقيم : العدل - بالرومية. وقال قتادة : القسطاس :
العدل.
وقوله : { وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } : أي : تَنْقُصوهم أموالهم ،
{ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ }
__________
(1) في ف ، أ : "عليه السلام".
(2) في ف ، أ : "الكيل".
(3) في أ : "فكلوا".
(6/159)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
: يعني :
قطع الطريق ، كما في الآية الأخرى : { وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ
[وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ] } (1) [الأعراف : 86].
وقوله : { وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ } : يخوفهم
بأس الله الذي خلقهم وخلق آباءهم الأوائل ، كما قال موسى ، عليه السلام : {
رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ } [الصافات : 126]. قال ابن عباس ،
ومجاهد ، والسُّدَّي ، وسفيان بن عيينة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : {
وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ } يقول : خلق الأولين. وقرأ ابن زيد : { وَلَقَدْ
أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا } [يس : 62].
{ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ
مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا
كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي
أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ
الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً
وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ (191) }.
يخبر تعالى عن جواب قومه له بمثل ما أجابت به ثمود لرسولها (2) - تشابهت قلوبهم -
حيث قالوا : { إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ } يعنون : من المسحورين ، كما
تقدم.
{ وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ } أي
: تتعمد الكذب فيما تقوله ، لا أن الله أرسلك إلينا.
{ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ } : قال الضحاك : جانبا من
السماء. وقال قتادة : قطعا من السماء. وقال السدي : عذابًا من السماء. وهذا شبيه
بما قالت قريش فيما أخبر الله عنهم في قوله تعالى : { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ
لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا } ، إلى أن قالوا : { أَوْ
تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ
وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا } [الإسراء : 90 - 92]. وقوله : { وَإِذْ قَالُوا
اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا
حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال : 32] ،
وهكذا قال هؤلاء الكفرة الجهلة : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ
إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }.
{ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } يقول : الله أعلم بكم ، فإن كنتم
تستحقون ذلك جازاكم به غير ظالم لكم ، وكذلك وقع بهم كما سألوا ، جزاءً وفاقًا ؛
ولهذا قال تعالى : { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ
كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } وهذا من جنس ما سألوا ، من إسقاط الكسف عليهم ،
فإن الله ، سبحانه وتعالى ، جعل عقوبتهم (3) أن أصابهم حر شديد جدا مدة سبعة أيام
لا يَكُنُّهم منه شيء ، ثم
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف ، أ : "لرسلها".
(3) في أ : "عقوبته".
(6/160)
أقبلت إليهم
سحابة أظلتهم ، فجعلوا ينطلقون إليها يستظلون بظلها من الحر ، فلما اجتمعوا [كلهم]
(1) تحتها أرسل الله تعالى عليهم منها شررًا من نار ، ولهبا ووهجًا عظيمًا ، ورجفت
بهم الأرض وجاءتهم صيحة عظيمة أزهقت أرواحهم ؛ ولهذا قال : { إِنَّهُ كَانَ
عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }.
وقد ذكر الله تعالى صفة إهلاكهم في ثلاثة مواطن (2) كل موطن بصفة تناسب ذلك السياق
، ففي الأعراف ذكر أنهم أخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ؛ وذلك لأنهم قالوا
: { لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا
أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } [الأعراف : 88] ، فأرجفوا بنبي الله ومن اتبعه
، فأخذتهم الرجفة. وفي سورة هود قال : { وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا
الصَّيْحَةُ } [هود : 94] ؛ وذلك لأنهم استهزؤوا بنبي الله في قولهم : {
أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ
فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } [هود : 87].
قالوا ذلك على سبيل التهكم والازدراء ، فناسب أن تأتيهم صيحة تسكتهم ، فقال : {
وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ } (3) وهاهنا قالوا : { فَأَسْقِطْ
عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } على وجه
التعنت والعناد ، فناسب أن يحق عليهم ما استبعدوا وقوعه.
{ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
}.
قال قتادة : قال عبد الله بن عمر (4) رضي الله عنه : إن الله سلط عليهم الحر سبعة
أيام حتى ما يظلهم منه شيء ، ثم إن الله أنشأ لهم سحابة ، فانطلق إليها أحدهم
واستظل (5) بها ، فأصاب تحتها بردًا وراحة ، فأعلم بذلك قومه ، فأتوها جميعا ،
فاستظلوا تحتها ، فأجَّجتْ عليهم نارًا.
وهكذا روي عن عِكْرِمَة ، وسعيد بن جُبَير ، والحسن ، وقتادة ، وغيرهم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، بعث الله إليهم الظلة ، حتى إذا اجتمعوا كلهم ،
كشف الله عنهم الظلة ، وأحمى عليهم الشمس ، فاحترقوا كما يحترق الجراد في
الَمقْلَى.
وقال محمد بن كعب القُرَظيّ : إن أهل مدين عذبوا بثلاثة أصناف من العذاب : أخذتهم
الرجفة في دارهم حتى خرجوا منها ، فلما خرجوا منها أصابهم فزع شديد ، فَفَرقُوا أن
يدخلوا إلى البيوت فتسقط عليهم ، فأرسل الله عليهم الظلة ، فدخل تحتها رجل فقال :
ما رأيت كاليوم ظلا (6) أطيب ولا أبرد من هذا. هلموا أيها الناس. فدخلوا جميعًا
تحت الظلة ، فصاح بهم صيحة واحدة ، فماتوا جميعًا. ثم تلا محمد بن كعب : {
فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }.
وقال ابن جرير : حدثني الحارث ، حدثني الحسن ، حدثني سعيد بن زيد - أخو حماد بن
زيد - حدثني حاتم بن أبي صغيرة (7) حدثني يزيد الباهلي : سألت ابن عباس ، عن هذه
الآية { فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ } قال : بعث الله عليهم وَمَدَةً (8) وحرا شديدا ، فأخذ
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في أ : "مواضع".
(3) في ف : "فأخذتهم الصيحة".
(4) في ف ، أ : "عمرو".
(5) في ف ، أ : "فاستظل".
(6) في ف : "ما رأيت ظلا كاليوم"
(7) في أ : "ضفيرة".
(8) في ف ، أ : "رعدة".
(6/161)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
بأنفاسهم
[فدخلوا البيوت ، فدخل عليهم أجواف البيوت ، فأخذ بأنفاسهم] (1) فخرجوا من البيوت
هرابًا إلى البرية ، فبعث الله سحابة فأظلتهم من الشمس ، فوجدوا لها بردًا ولذة ،
فنادى بعضهم بعضا ، حتى إذا اجتمعوا تحتها أرسلها (2) الله عليهم نارا. قال ابن
عباس : فذلك عذاب يوم الظلة ، إنه كان عذاب يوم عظيم (3).
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } : أي : العزيز في انتقامه من الكافرين ، الرحيم
بعباده المؤمنين.
{ وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ
(193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ
مُبِينٍ (195) }.
يقول تعالى مخبرًا عن الكتاب الذي أنزله على عبده ورسوله محمد ، صلوات الله وسلامه
عليه : { وإنه } أي : القرآن الذي تقدم ذكره في أول السورة في قوله : { وَمَا
يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ } [الآية]. (4) { لَتَنزيلُ
رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : أنزله الله عليك وأوحاه إليك.
{ نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ } : وهو جبريل ، عليه السلام ، قاله غير واحد من
السلف : ابن عباس ، ومحمد بن كعب ، وقتادة ، وعطية العوفي ، والسدي ، والضحاك ،
والزهري ، وابن جريج. وهذا ما لا نزاع فيه.
قال الزهري : وهذه كقوله { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ
عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } الآية[البقرة : 97].
وقال مجاهد : من كلمه الروح الأمين لا تأكله (5) الأرض.
{ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } [ أي : نزل به ملك كريم أمين ،
ذو مكانة عند الله ، مطاع في الملأ الأعلى ، { عَلَى قَلْبِكَ } يا محمد ، سالمًا
من الدنس والزيادة والنقص ؛ { لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } ] (6) أي : لتنذر
به بأس الله ونقمته على من خالفه وكذبه ، وتبشر به المؤمنين المتبعين له.
وقوله : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } أي : هذا القرآن الذي أنزلناه إليك
[أنزلناه] (7) بلسانك العربي الفصيح الكامل الشامل ، ليكون بَيِّنًا واضحًا ظاهرًا
، قاطعًا للعذر ، مقيمًا للحجة ، دليلا إلى المحجة.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن أبي بكر العَتَكيّ ، حدثنا عباد
بن عباد الُمهَلَّبي ، عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن أبيه قال : بينما
رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في يوم دَجْن إذ قال لهم : "كيف ترون
بواسقها ؟". قالوا : ما أحسنها وأشد تراكمها. قال : "فكيف ترون قواعدها
؟". قالوا : ما أحسنها وأشد تمكنها. قال : "فكيف ترون جَوْنَها (8)
؟". قالوا : ما أحسنه وأشد سواده. قال : "فكيف ترون رحاها استدارت (9) ؟".
قالوا : ما أحسنها وأشد
__________
(1) زيادة من ف ، أ ، والطبري.
(2) في ف ، أ : "أرسل".
(3) تفسير الطبري (19/67).
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ف : "لا يأكله".
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) في ف ، أ : "حرنا".
(9) في ف : "رحلها استدار".
(6/162)
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)
استدارتها.
قال : "فكيف ترون برقها ، أومَيض أم خَفْو (1) أم يَشُق شَقّا (2) ؟".
قالوا : بل يشق شقًا. قال : "الحياء الحياء إن شاء الله". قال : فقال
رجل : يا رسول الله ، بأبي وأمي ما أفصحك ، ما رأيت الذي هو أعربُ منك. قال : فقال
: " حق لي ، وإنما أنزل (3) القرآن بلساني ، والله يقول : { بِلِسَانٍ
عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } (4).
وقال سفيان الثوري : لم ينزل وحي إلا بالعربية ، ثم تَرْجم كل نبي لقومه ، واللسان
يوم القيامة بالسريانية ، فَمَنْ دخل الجنة تكلم بالعربية. رواه ابن أبي حاتم.
{ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ
يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ
الأعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) }.
يقول تعالى : وإنَّ ذِكْر هذا القرآن والتنويه به لموجود في كتب الأولين المأثورة
عن أنبيائهم ، الذين بشروا به في قديم الدهر وحديثه ، كما أخذ الله عليهم الميثاق
بذلك ، حتى قام آخرهم خطيبًا في ملئه بالبشارة بأحمد : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ
يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } [الصف : 6] ، والزبر هاهنا هي الكتب وهي
جمع زَبُور (5) ، وكذلك الزبور ، وهو كتاب داود. وقال تعالى : { وَكُلُّ شَيْءٍ
فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ } [القمر : 52] أي : مكتوب عليهم في صحف الملائكة.
ثم قال تعالى : { أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي
إِسْرَائِيلَ } أي : أو ليس يكفيهم من الشاهد الصادق على ذلك : أن العلماء من بني
إسرائيل يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم التي يدرسونها ؟ والمراد : العدول منهم ،
الذين يعترفون بما في أيديهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وأمته ، كما
أخبر بذلك مَنْ آمن منهم كعبد الله بن سلام ، وسلمان الفارسي ، عَمَّنْ أدركه منهم
ومَنْ شاكلهم. وقال الله تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ
الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالإنْجِيلِ } الآية [الأعراف : 157].
ثم قال تعالى مخبرًا عن شدة كفر قريش وعنادهم لهذا القرآن ؛ أنه لو أنزله على رجل
من الأعاجم ، مِمَّنْ لا يدري من العربية كلمة ، وأنزل عليه هذا الكتاب ببيانه
وفصاحته ، لا يؤمنون به ؛ ولهذا قال : { وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ
الأعْجَمِينَ. فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ } ، كما أخبر
عنهم في الآية الأخرى : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا
فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ
مَسْحُورُونَ } [الحجر : 14 ، 15] وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا
إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ
شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } [الأنعام :
111] ، وقال : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ
} [يونس : 96 ، 97].
{ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ
حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الألِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا
يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ
جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) }
__________
(1) في أ : "خفق".
(2) في أ : "شقاقا".
(3) في ف : "نزل".
(4) ورواه الرامهرمزي في أمثال الحديث ص (155) من طريق عبد الله بن محمد الأموي ،
عن عباد بن عباد المهلبي به.
(5) في ف ، أ : "زبرة".
(6/163)
مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)
{ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) }.
(6/163)
يقول تعالى
: كذلك سلكنا التكذيب والكفر والجحود والعناد ، أي : أدخلناه في قلوب المجرمين.
{ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي : بالحق { حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } أي :
حيث لا ينفع الظالمين معذرتهم ، ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.
{ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً } أي : عذاب الله بغتة ، { وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ.
فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ } ؟ أي : يتمنون حين يشاهدون العذاب أن لو
أنظروا قليلا ليعملوا [من فزعهم] (1) بطاعة الله ، كما قال تعالى : { وَأَنْذِرِ
النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا
أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ
أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ } [إبراهيم
: 44] ، فكل ظالم وفاجر وكافر إذا شاهد عقوبته ، ندم ندمًا شديدًا هذا فرعون لما
دعا عليه الكليم بقوله : { رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً
وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ
رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا
يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ
دَعْوَتُكُمَا [ فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ ] } (2) [يونس : 88 ، 89] ، فأثرت هذه الدعوة في فرعون ، فما آمن حتى رأى
العذاب الأليم ، { حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا
إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ
الْمُسْلِمِينَ. آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }
[يونس : 90 ، 91 ] ، وقال : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا
بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ
يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } [غافر : 84 ، 85] الآية.
وقوله تعالى : { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } : إنكار عليهم ، وتهديد لهم ؛
فإنهم كانوا يقولون للرسول تكذيبًا واستبعادًا : { ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ }
[العنكبوت : 29 ] ، كما قال تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ }
الآية.[العنكبوت : 53 ].
ثم قال : { أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا
كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ } أي : لو
أخرناهم وأنظرناهم ، وأملينا لهم برهة من الزمان وحينًا من الدهر وإن طال ، ثم
جاءهم أمر الله ، أي شيء يجدي عنهم ما كانوا فيه من النعم ، { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ
يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [النازعات : 46] ،
وقال تعالى : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ
بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ } [البقرة : 96] ، وقال تعالى : {
وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى } [الليل : 11] ؛ ولهذا قال : { مَا
أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ }.
وفي الحديث الصحيح : "يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة (3) ، ثم يقال له :
هل رأيت
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ف : "فيغمس غمسة في النار".
(6/164)
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
خيرًا قط ؟
هل رأيت نعيمًا قط ؟ فيقول : لا [والله يا رب] (1). ويؤتى بأشد الناس بؤسًا كان في
الدنيا ، فيصبغ في الجنة صبغة ، ثم يقال له : هل رأيت بؤسًا قط ؟ فيقول : لا والله
يا رب" أي : ما كأن شيئًا كان (2) ؛ ولهذا كان عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه
يتمثل بهذا البيت :
كأنَّك لَمْ تُوتِر من الدّهْر لَيْلَةً... إذا أنْتَ أدْرَكْتَ الذي كنتَ
تَطْلُبُ...
ثم قال الله تعالى مخبرًا عن عدله في خلقه : أنَّه ما أهلك أمة من الأمم إلا بعد
الإعذار إليهم ، والإنذار لهم وبعثة الرسل إليهم وقيام الحجج عليهم ؛ ولهذا قال :
{ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ. ذِكْرَى وَمَا كُنَّا
ظَالِمِينَ } كما قال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ
رَسُولا } [الإسراء : 15] ، وقال تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى
حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [ وَمَا
كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا (3) ] وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } [القصص : 59].
{ وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا
يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) }
يقول تعالى مخبرًا عن كتابه العزيز ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
خلفه ، تنزيل من حكيم حميد : أنه نزل به الروح الأمين المؤيد من الله ، { وَمَا
تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ }. ثم ذكر أنه يمتنع عليهم من ثلاثة أوجه ، أحدها :
أنه ما (4) ينبغي لهم ، أي : ليس هو من بُغْيتهم ولا من طلبتهم ؛ لأن من سجاياهم
الفساد وإضلال العباد ، وهذا فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونور وهدى
وبرهان عظيم ، فبينه وبين الشياطين منافاة عظيمة ؛ ولهذا قال تعالى : { وَمَا
يَنْبَغِي لَهُمْ }.
وقوله : { وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } أي : ولو انبغى لهم لما استطاعوا ذلك ، قال الله
تعالى : { لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا
مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } [الحشر : 21].
ثم بين أنه لو انبغى (5) لهم واستطاعوا حمله وتأديته ، لما وصلوا إلى ذلك ؛ لأنهم
بمعزل عن استماع القرآن حال نزوله ؛ لأن السماء ملئت حرسًا شديدًا وشهبا في مُدّة
إنزال القرآن على رسوله ، فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استماع حرف واحد منه ،
لئلا يشتبه الأمر. وهذا من رحمة الله بعباده ، وحفظه لشرعه ، وتأييده لكتابه
ولرسوله ؛ ولهذا قال : { إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } ، كما قال
تعالى مخبرًا عن الجن : { وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ
حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ
لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا * وَأَنَّا لا
نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ
رَشَدًا } [الجن : 8 - 10].
{ فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا
تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ
حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) }
__________
(1) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(2) رواه أحمد في مسنده (3/203) من حديث أنس بن مالك ، رضي الله عنه.
(3) زيادة من ف ، أ. وفي هـ : "إلى قوله".
(4) في ف : "لا".
(5) في ف : "ابتغى".
(6/165)
يقول تعالى
آمرًا بعبادته وحده لا شريك له ، ومخبرًا أنّ مَنْ أشرك به عذبه.
ثم قال تعالى آمرًا لرسوله ، صلوات الله وسلامه عليه (1) أن ينذر عشيرته الأقربين
، أي : الأدنين إليه ، وأنه لا يُخَلِّص أحدًا منهم إلا إيمانهُ بربه عز وجل ،
وأمره أن يلين جانبه لمن اتبعه من عباد الله المؤمنين. ومن عصاه من خلق الله
كائنًا مَنْ كان فليتبرأ منه ؛ ولهذا قال : {. فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي
بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ }. وهذه النِّذارة الخاصة لا تنافي العامة ، بل هي فرد
من أجزائها ، كما قال : { لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ
غَافِلُونَ } [يس : 6] ، وقال : { لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا }
[الشورى : 7] ، وقال : { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا
إِلَى رَبِّهِمْ } [الأنعام : 51 ] ، وقال : { لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ
وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا } [مريم : 97] ، وقال : { لأنْذِرَكُمْ بِهِ
وَمَنْ بَلَغَ } [الأنعام : 19] ، كما قال : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ
الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [هود : 17].
وفي صحيح مسلم : "والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة ، يهودي
ولا نصراني ، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار".
وقد وردت أحاديث كثيرة في نزول هذه الآية الكريمة ، فلنذكرها :
الحديث الأول :
قال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا عبد الله بن نُمَيْر ، عن الأعمش ، عن عمرو
بن مُرَّة ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : لما أنزل الله ، عز وجل : {
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد
عليه ، ثم نادى : "يا صباحاه". فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه ،
وبين رجل يبعث رسوله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا بني عبد
المطلب ، يا بني فهر ، يا بني لؤي ، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل ،
تريد أن تغير عليكم ، صدقتموني ؟". قالوا : نعم. قال : "فإني نذير لكم
بين يدي عذاب شديد". فقال أبو لهب : تبًّا لك سائر اليوم ، أما دعوتنا إلا
لهذا ؟ وأنزل الله : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [ المسد : 1].
ورواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي ، من طرق ، عن الأعمش ، به (2).
الحديث الثاني :
قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : لما نزلت
: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال : "يا فاطمة ابنة محمد ، يا صفية ابنة عبد المطلب ، يا بني عبد المطلب ،
لا أملك لكم من الله شيئا ، سلوني من مالي ما شئتم". انفرد بإخراجه مسلم (3).
__________
(1) في ف ، أ : "صلوات الله عليه وسلامه".
(2) صحيح البخاري برقم (4801) وصحيح مسلم برقم (208) والنسائي في السنن الكبرى
برقم (11714) وسنن الترمذي برقم (3363).
(3) المسند (6/187) وصحيح مسلم برقم (205).
(6/166)
الحديث
الثالث :
قال أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا زائدة ، حدثنا عبد الملك بن عُمَير ، عن
موسى بن طلحة ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : لما نزلت هذه الآية : {
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } ، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم
[قريشا] (1) ، فعمَّ وخصَّ ، فقال : "يا معشر قريش ، أنقذوا أنفسكم من النار.
يا معشر بني كعب ، أنقذوا أنفسكم من النار. يا معشر بني عبد مناف ، أنقذوا أنفسكم
من النار. يا معشر بني هاشم ، أنقذوا أنفسكم من النار. يا معشر بني عبد المطلب ،
أنقذوا أنفسكم من النار. [يا فاطمة بنت محمد ، أنقذي نفسك من النار] (2) ، فإني -
والله - ما أملك لكم من الله شيئا ، إلا أن لكم رَحمًا سأبُلها بِبلالها".
ورواه مسلم والترمذي ، من حديث عبد الملك بن عمير ، به (3). وقال الترمذي : غريب
من هذا الوجه. ورواه النسائي من حديث موسى بن طلحة مرسلا لم يذكر فيه أبا هريرة
(4). والموصول هو الصحيح. وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري ، عن سعيد بن المسيب
، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة (5).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا محمد - يعني ابن إسحاق - عن أبي الزنَاد ،
عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "يا بني عبد المطلب ، اشتروا أنفسكم من الله. يا صفية عمة رسول الله ،
ويا فاطمة بنت رسول الله ، اشتريا أنفسكما من الله ، لا أُغني عنكما من الله شيئًا
، سلاني من مالي ما شئتما".
تفرد به من هذا الوجه (6). وتفرد به أيضا ، عن معاوية ، عن زائدة ، عن أبي الزناد
، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه (7). ورواه أيضًا
عن حسن ، ثنا ابن لَهِيعة ، عن (8) الأعرج : سمعت أبا هريرة مرفوعا (9).
وقال أبو يعلى : حدثنا سُوَيد بن سَعيد ، حدثنا (10) ضِمَام بن إسماعيل ، عن موسى
بن وَرْدَان ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : "يا بني قُصَي ،
يا بني هَاشم ، يا بني عبد مناف. أنا النذير والموت المغير. والساعة الموعد"
(11).
الحديث الرابع :
قال أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا التيمي ، عن أبي عثمان ، عن قَبِيصة بن
مُخَارق
__________
(1) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(2) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(3) المسند (2/360) وصحيح مسلم برقم (204) وسنن الترمذي برقم (3185).
(4) سنن النسائي (6/248).
(5) صحيح البخاري برقم (4771) وصحيح مسلم برقم (206).
(6) المسند (2/448).
(7) المسند (2/398).
(8) في ف : "ثنا".
(9) المسند (2/350).
(10) في ف : "عن".
(11) مسند أبي يعلى (11/10) وسويد بن سعيد متكلم فيه.
(6/167)
وزُهَير بن
عمرو قالا لما نزلت : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } صَعد رسول الله صلى
الله عليه وسلم رَضْمَةً من جبل على أعلاها حجر ، فجعل ينادي : "يا بني عبد
مناف ، إنما أنا نذير ، إنما مثلي ومثلكم كرجل رأى العدو ، فذهب يربأ أهله ، يخشى
أن يسبقوه ، فجعل ينادي ويهتف : يا صباحاه".
ورواه مسلم والنسائي ، من حديث سليمان بن طِرْخان التيمي ، عن أبي عثمان عبد
الرحمن بن مُل النَّهْديّ ، عن قَبِيصة وزُهيَر بن عَمْرو الهلالي ، به (1).
الحديث الخامس :
قال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا شَرِيك عن الأعمش ، عن المْنهَال ،
عن عباد بن عبد الله الأسدي ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : لما نزلت هذه الآية :
{ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } جمع النبي صلى الله عليه وسلم من أهل
بيته ، فاجتمع ثلاثون ، فأكلوا وشربوا قال : وقال لهم : "من يَضْمَنُ عَني
ديني ومواعيدي ، ويكون معي في الجنة ، ويكون خليفتي في أهلي ؟". فقال رجل -
لم يسمه شريك - يا رسول الله ، أنت كنت بحرًا (2) من يقوم بهذا ؟ قال : ثم قال
الآخر ، قال : فعرض ذلك على أهل بيته ، فقال عَليٌ : أنا (3).
طريق أخرى بأبسط من هذا السياق : قال أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن
عثمان بن المغيرة ، عن أبي صادق ، عن ربيعة بن ناجذ ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال
: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم - بني
عبد المطلب ، وهم رَهْطٌ ، كلهم يأكل الجذعة ويشرب الفّرَق - قال : وصنع (4) لهم مدًا
من طعام فأكلوا حتى شبعوا - قال : وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس. ثم دعا بغُمَرٍ
(5) فشربوا حتى رووا ، وبقي الشراب كأنه لم يمس - أولم يشرب - وقال : "يا بني
عبد المطلب ، إني بعثت إليكم خاصة وإلى الناس عامة ، وقد رأيتم من هذه الآية ما
رأيتم ، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ؟". قال : فلم يقم إليه أحد.
قال : فقمتُ إليه - وكنت أصغر القوم - قال : فقال : "اجلس". ثم قال ثلاث
مرات ، كل ذلك أقوم إليه فيقول لي : "اجلس". حتى كان في الثالثة ضرب
بيده على يدي (6).
طريق أخرى أغرب وأبسط من هذا السياق بزيادات أخر : قال الحافظ أبو بكر البيهقي في
"دلائل النبوة" : أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو العباس
محمد بن يعقوب ، حدثنا أحمد بن عبد الجبار ، حدثنا يُونُس بن بُكَيْر ، عن محمد بن
إسحاق قال : فحدثني من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل - واستكتمني اسمه - عن ابن
عباس ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : لما نزلت هذه الآية على رسول
الله صلى الله عليه وسلم : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ وَاخْفِضْ
جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } ، قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "عرفت أنّي إن بادأتُ بها قومِي ، رأيت منهم ما أكره ،
__________
(1) المسند (5/60) وصحيح مسلم برقم (207) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11379).
(2) في أ : "تجري".
(3) المسند (1/111) وقال الهيثمي في المجمع (8/302) "رجال أحمد رجال الصحيح ،
غير شريك وهو ثقة".
(4) في ف ، أ : "فصنع".
(5) في ف ، أ : "بعس".
(6) المسند (1/159) وقال الهيثمي في المجمع (8/302) "رجاله ثقات".
(6/168)
فَصَمَتُّ.
فجاءني جبريل ، عليه السلام ، فقال : يا محمد ، إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك
ربك". قال علي ، رضي الله عنه : فدعاني فقال : "يا علي ، إن الله قد أمرني
[أن] (1) أنذر عشيرتي الأقربين ، فعرفت أني إن بادأتهم بذلك رأيت منهم ما أكره ،
فَصَمت عن ذلك ، ثم جاءني جبريل فقال : يا محمد ، إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك.
فاصنع لنا يا علي شاة على صاع من طعام ، وأعدّ لنا عُسَّ لبن ، ثم اجمع لي (2) بني
عبد المطلب". ففعلتُ فاجتمعوا له ، وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو
ينقصون رجلا. فيهم أعمامه : أبو طالب ، وحمزة ، والعباس ، وأبو لهب الكافر الخبيث.
فقدّمت إليهم تلك الجَفْنَةَ ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حِذْيَة
فشقها بأسنانه ثم رمى بها في نواحيها ، وقال : "كلوا بسم الله". فأكل
القومُ حتى نَهلوا عنه ما يرى إلا آثار أصابعهم ، والله إن كان الرجل منهم ليأكل
مثلها. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اسقهم يا علي". فجئت
بذلك القَعب فشربوا منه حتى نَهِلُوا جميعًا ، وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب
مثله. فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم ، بَدَره أبو لهب إلى
الكلام فقال : لَهَدّ ما سحركم صاحبكم. فتفرقوا ولم يكلّمهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم. فلما كان الغدُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا علي ،
عُدْ لنا بمثل الذي كنت صنعت بالأمس من الطعام والشراب ؛ فإن هذا الرجلّ قد
بَدَرني إلى ما سمعتَ قبل أن أكلم القوم". ففعلت ، ثم جمعتهم له ، فصنع رسول
الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالأمس ، فأكلوا حتى نَهِلُوا عنه ، وايم الله إن
كان الرجل منهم ليأكل مثلها. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اسقهم
يا علي". فجئت بذلك القَعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعًا. وايم الله إن كان
الرجل منهم ليشرب مثله. فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بَدَره
أبو لهب بالكلام فقال : لَهَدَّ ما سحركم صاحبكم. فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم. فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا
علي ، عُدْ لنا بمثل الذي كنت صنعتَ لنا بالأمس من الطعام والشراب ؛ فإن هذا الرجل
قد بَدَرني إلى ما سمعتَ قبل أن أكلم القوم". ففعلت ، ثم جمعتهم له فصنع رسول
الله صلى الله عليه وسلم [كما صنع] (3) بالأمس ، فأكلوا حتى نهلوا عنه ، ثم سقيتهم
من ذلك القعب حتى نهلوا عنه ، وايم الله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها ويشرب
مثلها ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا بني عبد المطلب ، إني -
والله - ما أعلم شابًا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به ، إني قد جئتكم بأمر الدنيا
والآخرة".
قال أحمد بن عبد الجبار : بلغني أن ابن إسحاق إنما (4) سمعه من عبد الغفار بن
القاسم أبي مريم ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث (5).
وقد رواه أبو جعفر بن جرير ، عن ابن حميد ، عن سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبد
الغفار بن القاسم ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث ، عن ابن عباس ،
عن علي بن أبي طالب ، فذكر مثله ، وزاد بعد قوله : "إني جئتكم بخير الدنيا
والآخرة". "وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه ، فأيكم يؤازرني (6) على هذا
الأمر على أن يكون أخي ، وكذا وكذا" ؟ قال : فأحجم
__________
(1) زيادة من ف ، أ ، ودلائل النبوة.
(2) في ف : "لنا".
(3) زيادة من ف ، أ ، ودلائل النبوة.
(4) في ف : "لما".
(5) دلائل النبوة (2/178).
(6) في ف : "وازرني".
(6/169)
القوم عنها
جميعًا ، وقلت - وإني لأحدثهم سنًا ، وأرمصُهم عينا ، وأعظمهم بطنا ، وأحمشهم
ساقا. أنا يا نبي الله ، أكون وزيرك عليه ، فأخذ يَرْقُبُني ثم قال : "إن هذا
أخي ، وكذا وكذا ، فاسمعوا له وأطيعوا". قال : فقام القوم يضحكون ويقولون
لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع (1).
تفرد بهذا السياق عبد الغفار بن القاسم أبي مريم ، وهو متروك كذاب شيعي ، اتهمه
علي بن المديني وغيره بوضع الحديث ، وضعّفه الأئمة رحمهم الله.
طريق أخرى : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الحسين بن عيسى بن مَيْسَرة
الحارثي ، حدثنا عبد الله بن عبد القدوس ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن
عبد الله بن الحارث قال : قال علي رضي الله عنه : لما نزلت هذه الآية : {
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } ، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"اصنع لي رجل شاة بصاع من طعام وإناء لبنا". قال : ففعلت ، ثم قال :
"ادع بني هاشم". قال : فدعوتهم وإنهم يومئذ لأربعون غير رجل - أو :
أربعون ورجل - قال : وفيهم عشرة كلهم يأكل الجذَعَة بإدامها. قال : فلما أتوا
بالقصعة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذرْوَتها ثم قال : "كلوا"
، فأكلوا حتى شبعوا ، وهي على هيئتها (2) لم يرزؤوا منها إلا يسيرًا ، قال : ثم
أتيتهم بالإناء فشربوا حتى رَوُوا. قال : وفَضَل فَضْلٌ ، فلما فرغوا أراد رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلم ، فبدرُوه الكلام ، فقالوا : ما رأينا كاليوم في
السحر. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : "اصنع [لي] (3) رجل شاة
بصاع من طعام". فصنعت ، قال : فدعاهم ، فلما أكلوا وشربوا ، قال : فبدروه فقالوا
مثل مقالتهم الأولى ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لي : "اصنع
[لي] (4) رجل شاة بصاع من طعام. فصنعت ، قال : فجمعتهم ، فلما أكلوا وشربوا
بَدَرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام فقال : "أيكم يقضي عني دَيني
(5) ويكون خليفتي في أهلي ؟". قال : فسكتوا وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك
بماله ، قال : وسكتُّ أنا لسِنّ العباس. ثم قالها مرة أخرى فسكت العباس ، فلما
رأيت ذلك قلت : أنا يا رسول الله. [فقال : "أنت"] (6) قال : وإني يومئذ
لأسوأهم هيئة ، وإني لأعمش العينين ، ضخم البطن ، حَمْش الساقين.
فهذه طرق متعددة لهذا الحديث عن علي ، رضي الله عنه. ومعنى سؤاله ، عليه الصلاة
والسلام (7) لأعمامه وأولادهم أن يقضوا عنه دينه ، ويخلفوه في أهله ، يعني إن قتل
في سبيل الله ، كأنه خشي إذا قام بأعباء الإنذار أن يقتل ، ولما أنزل الله عز وجل
: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ
لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }
[المائدة : 67] ، فعند ذلك أمِن.
وكان أولا يحرس حتى نزلت هذه الآية : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }. ولم
يكن في بني هاشم إذ ذاك أشد إيمانا وإيقانا وتصديقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم
من علي ، رضي الله عنه ؛ ولهذا (8) بدرهم إلى التزام ما طلب منهم رسولُ الله صلى
الله عليه وسلم ، ثم كان بعد هذا - والله أعلم - دعاؤه الناس جَهرًة على الصفا ،
وإنذاره لبطون قريش عموما وخصوصا ، حتى سَمّى مَنْ سَمَّى من أعمامه وعماته وبناته
، لينبه بالأدنى على الأعلى ، أي : إنما أنا نذير ، والله يهدي من يشاء إلى صراط
مستقيم.
__________
(1) تفسير الطبري (19/40).
(2) في ف : "وهي كهيئتها".
(3) زيادة من ف.
(4) زيادة من ف.
(5) في ف : "ديني عني".
(6) زيادة من ف.
(7) في ف : "صلى الله عليه وسلم".
(8) في ف : "فلهذا".
(6/170)
وقد روى
الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد الدمشقي - غير منسوب - من طريق عمرو بن
سَمُرَةَ ، عن محمد بن سُوقَةَ ، عن عبد الواحد الدمشقي قال : رأيت أبا الدرداء ،
رضي الله عنه ، يحدث الناس ويفتيهم ، وولده إلى جنبه ، وأهل بيته جلوس في جانب
المسجد يتحدثون ، فقيل له : ما بال الناس يرغبون فيما عندك من العلم ، وأهل بيتك
جلوس لاهين ؟ فقال : لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "أزهد
الناس في الدنيا الأنبياء ، وأشدهم عليهم الأقربون". وذلك فيما أنزل الله ،
عز وجل : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } ، ثم قال : "إن أزهد الناس
في العالم أهله حتى يفارقهم". ولهذا قال [الله تعالى] : (1) { وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ. فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } (2).
وقوله : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } أي : في جميع أمورك ؛ فإنه
مؤيدك وناصرك وحافظك ومظفرك ومُعْلٍ كلمتك.
وقوله : { الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ } أي : هو معتن بك ، كما قال تعالى : { وَاصْبِرْ
(3) لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } [الطور : 48].
قال ابن عباس : { الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ } يعني : إلى الصلاة.
وقال عكرمة : يرى قيامه وركوعه وسجوده.
وقال الحسن : { الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ } : إذا صليت وحدك.
وقال الضحاك : { الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ. } أي : من فراشك أو مجلسك.
وقال قتادة : { الَّذِي يَرَاكَ } : قائما وجالسا وعلى حالاتك.
وقوله : { وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } : قال قتادة : { الَّذِي يَرَاكَ
حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } قال : في الصلاة ، يراك وحدك
ويراك في الجَمْع. وهذا قول عكرمة ، وعطاء الخراساني ، والحسن البصري.
وقال مجاهد : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى مَنْ خلفه كما يرى مَنْ أمامه
؛ ويشهد لهذا ما صح في الحديث : "سَوّوا صفوفكم ؛ فإني أراكم من وراء
ظهري" (4).
وروى البزار وابن أبي حاتم ، من طريقين ، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : يعني
تقلبه من صلب نبي إلى صلب نبي ، حتى أخرجه نبيا.
وقوله : { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } أي : السميع لأقوال عباده ،
العليم بحركاتهم وسكناتهم ، كما قال تعالى : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا
تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ
شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } الآية. [يونس : 61].
__________
(1) زيادة من أ.
(2) تاريخ دمشق (10/587 المخطوط).
(3) في جميع النسخ : "فاصبر". والصواب ما أثبتناه.
(4) رواه البخاري في صحيحه برقم (723).
(6/171)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
{ هَلْ
أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنزلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنزلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ
أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ
وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ (226) إِلا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا
وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ
مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) }.
يقول تعالى مخاطبًا لِمَنْ زعم من المشركين أن ما جاء به الرسول ليس حقا ، وأنه
شيء افتعله من تلقاء نفسه ، أو أنه أتاه به رئيّ من الجن ، فنزه الله ، سبحانه ،
جناب رسوله عن قولهم وافترائهم ، ونبه أن ما جاء به إنما هو [الحق] (1) من عند
الله ، وأنه تنزيله ووحيه ، نزل به ملك كريم أمين عظيم ، وأنه ليس من قَبيل
الشياطين ، فإنهم ليس لهم رغبة في مثل هذا القرآن العظيم ، وإنما ينزلون (2) على
من يشاكلهم ويشابههم من الكهان الكذبة ؛ ولهذا قال الله : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ }
أي : أخبركم. { عَلَى مَنْ تَنزلُ الشَّيَاطِينُ. تَنزلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ
أَثِيمٍ } أي : كذوب في قوله ، وهو الأفاك الأثيم ، أي (3) الفاجر في أفعاله. فهذا
هو الذي تنزل عليه الشياطين كالكهان وما جرى مجراهم من الكذبة الفسقة ، فإن
الشياطين أيضا كذبة فسقة.
{ يُلْقُونَ السَّمْعَ } أي : يسترقون السمع من السماء ، فيسمعون الكلمة من علم
الغيب ، فيزيدون معها مائة كذبة ، ثم يلقونها إلى أوليائهم من الإنس فيتحدثون بها
، فيصدقهم الناس في كل ما قالوه ، بسبب صدقهم في تلك الكلمة التي سمعت من السماء ،
كما صح بذلك الحديث ، كما رواه البخاري ، من حديث الزهري : أخبرني يحيى بن عُروَةَ
بن الزبير ، أنه سمع عُرْوَةَ بن الزبير يقول : قالت عائشة ، رضي الله عنها : سأل
ناس النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان ، فقال : "إنهم ليسوا بشيء".
قالوا : يا رسول الله ، فإنهم يحدثون بالشيء يكون حقا ؟ فقال النبي صلى الله عليه
وسلم : "تلك الكلمة من الحق يخطفها (4) الجني ، فَيُقَرقرِها في أذن وليه
كقَرْقَرة الدجاجة ، فيخلطون معها أكثر من مائه كذبة" (5).
وقال البخاري أيضا : حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو قال : سمعت عكرمة
يقول : سمعت أبا هريرة يقول : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا قضى
الله الأمر في السماء ، ضربت الملائكة بأجنحتها خُضْعانًا لقوله ، كأنها (6) سلسلة
على صَفْوان ، حتى إذا فُزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال :
الحق وهو العلي الكبير. فيسمعها مسترقو السمع ، ومسترقو السمع ، هكذا بعضهم فوق
بعض". ووصف سفيان بيده فَحَرفها ، وبَدّدَ بين أصابعه "فيسمع الكلمة ،
فيلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته ، حتى يلقيها على لسان الساحر
- أو الكاهن - فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه ،
فيكذب معها مائة كذبة. فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا : كذا وكذا ؟ فيصدق
بتلك الكلمة التي سمع (7) من السماء". انفرد به البخاري (8).
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في أ : "يتنزلون".
(3) في ف : "وهو".
(4) في ف ، أ : "يحفظها".
(5) صحيح البخاري برقم (7561).
(6) في ف : "كأنه".
(7) في هـ ، ف ، أ : "سمعت" والصواب ما أثبتناه من البخاري.
(8) صحيح البخاري برقم (4800).
(6/172)
وروى مسلم
من حديث الزهري ، عن علي بن الحسين ، عن ابن عباس ، عن رجال من الأنصار قريبًا من
هذا. وسيأتي عند قوله تعالى في سبأ : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ }
الآية [سبأ : 23] ، [إن شاء الله تعالى] (1).
وقال البخاري : وقال الليث : حدثني خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال : أن أبا
الأسود أخبره ، عن عروة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
"إن الملائكة تَحَدّث في العَنَان - والعَنَان : الغَمَام - بالأمر [يكون]
(2) في الأرض ، فتسمع الشياطين الكلمة ، فتقرُّها في أذن الكاهن كما تُقَرّ
القارورة ، فيزيدون معها مائة كذبة" (3).
وقال البخاري في موضع آخر من كتاب "بدء الخلق" عن سعيد بن أبي مريم ، عن
الليث ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن ، عن عروة ،
عن عائشة ، بنحوه (4).
وقوله : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } قال علي بن أبي طلحة ، عن
ابن عباس : يعني : الكفار يتبعهم ضلال الإنس والجن. وكذا قال مجاهد ، رحمه الله ،
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهما.
وقال عكرمة : كان الشاعران يتهاجيان ، فينتصر لهذا فِئَامٌ من الناس ، ولهذا
فئَامٌ من الناس ، فأنزل الله : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ }.
وقال الإمام أحمد : حدثنا قُتَيْبَةُ ، حدثنا لَيث ، عن ابن الهاد ، عن يُحَنَّس
(5) - مولى مصعب بن الزبير - عن أبي سعيد قال : بينما نحن نسير مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم بالعَرْج ، إذ عَرَض شاعر يُنشد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
"خذوا الشيطان - أو امسكوا الشيطان - لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خير له من أن
يمتلئ شعرًا" (6).
وقوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } : قال علي بن أبي
طلحة ، عن ابن عباس : في كل لغو يخوضون.
وقال الضحاك عن ابن عباس : في كل فن من الكلام. وكذا قال مجاهد وغيره.
وقال الحسن البصري : قد - والله - رأينا أوديتهم التي يهيمون فيها ، مرة في شتمة
(7) فلان ، ومرة في مدحة (8) فلان.
وقال قتادة : الشاعر يمدح قومًا بباطل ، ويذم قومًا بباطل.
وقوله : { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ } قال العوفي ، عن ابن عباس
: كان رجلان على عهد رسول الله ، أحدهما من الأنصار ، والآخر من قوم آخرين ،
وإنهما تهاجيا ، فكان (9) مع كل
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) زيادة من ف ، أ ، والبخاري.
(3) صحيح البخاري برقم (3288) وقد وصله أبو نعيم في المستخرج من طريق أبي حاتم
الرازي عن أبي صالح كاتب الليث عنه ، كما في الفتح (6/432).
(4) صحيح البخاري رقم (2210).
(5) في ف : "محنش".
(6) المسند (3/8).
(7) في ف : "شتيمة".
(8) في ف : "مديحة".
(9) في ف : "وكان".
(6/173)
واحد منهما
غواة من قومه - وهم (1) السفهاء - فقال الله تعالى : { وَالشُّعَرَاءُ
يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ.
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ }.
. وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أكثر قولهم يكذبون فيه.
وهذا الذي قاله ابن عباس ، رضي الله عنه ، هو الواقع في نفس الأمر ؛ فإن الشعراء
يتَبجَّحون بأقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم ، فيتكثرون بما ليس لهم ؛ ولهذا
اختلف العلماء ، رحمهم الله ، فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما يوجب حَدًّا : هل
يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا لأنهم يقولون ما لا يفعلون ؟ على قولين. وقد ذكر
محمد بن إسحاق ، ومحمد بن سعد في الطبقات ، والزبير بن بَكَّار في كتاب الفكاهة :
أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، استعمل النعمان بن عدي بن
نَضْلَة على "ميسان" - من أرض البصرة - وكان يقول الشعر ، فقال :
ألا هَل أتَى الحَسْنَاءَ أنّ حَليِلَها... بِمَيْسَانَ ، يُسقَى في زُجاج
وَحَنْتَم...
إذَا شئْتُ غَنَّتْني دَهاقينُ قَرْيَة... وَرَقَّاصَةٌ تَجذُو على كل مَنْسم (2)
فإنْ كُنتَ نَدْمانِي فَبالأكْبر اسْقني... وَلا تَسْقني بالأصْغَر المُتَثَلم (3)
لَعَل أميرَ المؤمنينَ يَسُوءه... تَنادُمُنا بالجَوْسَق المُتَهَدَم...
فلما بلغ [ذلك] (4) أمير المؤمنين قال : أي والله ، إنه ليسوءني ذلك ، ومن لقيه
فليخبره أني قد عزلته. وكتب إليه : بسم الله الرحمن الرحيم { حم. تَنزيلُ
الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ
التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ
الْمَصِيرُ } [غافر : 1 - 3] أما بعد فقد بلغني قولك :
لَعَلَّ أمير المُؤمنينَ يَسُوُءه... تَنَادُمُنَا بالجَوْسق (5) المُتَهَدّم...
وايم الله ، إنه ليسوءني وقد عزلتك. فلما قدم على عمر بَكَّتَه بهذا الشعر ، فقال
: والله - يا أمير المؤمنين - ما شربتها قَطّ ، وما ذاك الشعر إلا شيء طَفح على
لساني. فقال عمر : أظن ذلك ، ولكن والله لا تعمل لي على عمل أبدًا ، وقد قُلتَ ما
قلتَ (6).
فلم يُذكر أنه حَدّه على الشراب ، وقد ضمنه شعره ؛ لأنهم يقولون ما لا يفعلون ،
ولكنه (7) ذمَّه عمر ، رضي الله عنه ، ولامه على ذلك وعزله به. ولهذا جاء في
الحديث : "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا ، يَرِيه خير له من أن يمتلئ
شعرًا" (8).
والمراد من هذا : أن (9) الرسول صلى الله عليه وسلم (10) الذي أنزل عليه (11)
القرآن ليس بكاهن ولا بشاعر ؛
__________
(1) في ف : "فهم".
(2) في ف ، أ : "مبسم".
(3) في ف : "المتلثم".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ف ، أ : "في الجوسق".
(6) الأبيات في السيرة النبوية لابن هشام (2/266) والطبقات الكبرى لابن سعد
(4/140).
(7) في ف : "ولكن".
(8) رواه مسلم في صحيحه برقم (2257) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(9) في ف ، أ : "أن هذا الرسول".
(10) في ف ، أ : "صلوات الله وسلامه عليه".
(11) في ف ، أ : "عليه هذا القرآن".
(6/174)
لأن حاله مناف
لحالهم من وجوه ظاهرة ، كما قال تعالى : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا
يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ } [يس : 69] وقال تعالى :
{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا
تُؤْمِنُونَ. وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ. تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ } [الحاقة : 40 - 43] ، وهكذا قال هاهنا : { وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ
رَبِّ الْعَالَمِينَ. نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ
الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } إلى أن قال : { وَمَا تَنزلَتْ
بِهِ الشَّيَاطِينُ. وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ. إِنَّهُمْ عَنِ
السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } إلى أن قال : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنزلُ
الشَّيَاطِينُ. تَنزلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يُلْقُونَ السَّمْعَ
وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ. وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ. أَلَمْ
تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا
يَفْعَلُونَ }.
وقوله : { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } : قال محمد بن إسحاق
، عن يزيد (1) بن عبد الله بن قُسَيْط ، عن أبي الحسن سالم البَرّاد - مولى تميم
الداري - قال : لما نزلت : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } ، جاء
حسان بن ثابت ، وعبد الله بن رَوَاحة ، وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، وهم يبكون فقالوا : قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء. فتلا النبي
صلى الله عليه وسلم : { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } قال :
"أنتم" ، { وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا } قال : "أنتم" ، {
وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا } قال : "أنتم".
رواه ابن أبي حاتم. وابن جرير ، من رواية ابن إسحاق (2).
وقد روى ابن أبي حاتم أيضا ، عن أبي سعيد الأشج ، عن أبي أسامة ، عن الوليد بن
كثير ، عن يزيد بن عبد الله ، عن أبي الحسن مولى بني نوفل ؛ أن حسان بن ثابت ،
وعبد الله بن رواحة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت : {
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } يبكيان ، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، وهو يقرؤها عليهما : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ }
حتى بلغ : { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } ، قال :
"أنتم" (3).
وقال أيضًا : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة (4) حدثنا حماد بن سلمة ، عن هشام بن
عُرْوَة ، عن عروة قال : لما نزلت : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ }
إلى قوله : { يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ } قال عبد الله بن رواحة : يا رسول
الله ، قد علم الله أني منهم. فأنزل الله : { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ } إلى قوله : { ينقلبون }.
وهكذا قال ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، وغير واحد أن هذا
استثناء مما تقدم. ولا شك أنه استثناء ، ولكن هذه السورة مكية ، فكيف يكون سبب
نزول هذه الآية [في] (5) شعراء الأنصار ؟ في ذلك نظر ، ولم يتقدم إلا مرسلات لا
يعتمد عليها ، والله أعلم ، ولكن هذا الاستثناء يدخل فيه شعراء الأنصار وغيرهم ،
حتى يدخل فيه مَنْ كان متلبسًا من شعراء الجاهلية بذم الإسلام وأهله ، ثم تاب
وأناب ، ورجع وأقلع ، وعمل صالحًا ، وذكر الله كثيرًا في
__________
(1) في ف : "زيد".
(2) تفسير الطبري (19/79).
(3) ورواه الحاكم في المستدرك (3/488) من طريق أبي أسامة به.
(4) في ف ، أ : "أبو مسلم".
(5) زيادة من ف.
(6/175)
مقابلة ما
تقدم من الكلام السيئ ، فإن الحسنات يذهبن السيئات ، وامتدح الإسلام وأهله في
مقابلة ما كذب (1) بذمه ، كما قال عبد الله بن الزبَعْرَى حين أسلم :
يَا رَسُولَ المَليك ، إنّ لسَاني... رَاتقٌ مَا فَتَقْتُ إذْ أنا بُورُ...
إذْ أجَاري الشَّيْطانَ في سَنن الغَيْ... يِ وَمَن مَالَ مَيْلَه مَثْبُورٌ...
وكذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، كان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله
عليه وسلم ، وهو ابن عمه ، وأكثرهم له هجوًا ، فلما أسلم لم يكن أحد أحب إليه من
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما كان
يهجوه ، ويتولاه بعدما كان قد عاداه. وهكذا روى مسلم في صحيحه ، عن ابن عباس : أن
أبا سفيان صخر بن حرب لما أسلم قال : يا رسول الله ، ثلاث أعطنيهن قال :
"نعم". قال : معاوية تجعله كاتبا بين يديك. قال : "نعم". قال
: وتُؤمرني حتى أقاتل الكفار ، كما كنت أقاتل المسلمين. قال : "نعم".
وذكر الثلاثة (2).
ولهذا قال تعالى : { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا
اللَّهَ كَثِيرًا } قيل : معناه : ذكروا الله كثيرًا في كلامهم. وقيل : في شعرهم ،
وكلاهما صحيح مُكَفّر لما سبق.
وقوله : { وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا } قال ابن عباس : يردون على الكفار
الذين كانوا يهجون به المؤمنين. وكذا قال مجاهد ، وقتادة ، وغير واحد. وهذا كما
ثبت في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان : "اهجهم - أو
قال : هاجهم - وجبريل معك" (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن
بن كعب بن مالك ، عن أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن الله ، عز وجل ،
قد أنزل في الشعّر ما أنزل ، فقال : "إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي
نفسي بيده ، لكأن ما ترمونهم به نَضْح النبْل" (4).
وقوله : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } ،
كما قال تعالى : { يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ
اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [غافر : 52] وفي الصحيح : أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : "إياكم والظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" (5).
وقال قتادة بن دِعَامَة في قوله : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ
مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } يعني : من الشعراء وغيرهم.
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا إياس بن أبي تميمة ، قال : حضرت الحسن وَمُرَّ
عليه بجنازة نصراني ، فقال الحسن : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ
مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ }.
وقال عبد الله بن رَبَاح ، عن صفوان بن مُحْرز : أنه كان إذا قرأ هذه الآية - بكى
حتى أقول : قد اندق قَضِيب زَوره - { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ
مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ }.
__________
(1) في ف ، أ : "ما كان".
(2) صحيح مسلم برقم (2501).
(3) صحيح البخاري برقم (6153) وصحيح مسلم برقم (2486) من حديث البراء بن عازب ،
رضي الله عنه.
(4) المسند (6/387).
(5) صحيح مسلم برقم (2578) من حديث جابر ، رضي الله عنه ، ولفظه : "اتقوا
الظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة".
(6/176)
وقال ابن
وهب : أخبرني (1) ابن سُرَيج الإسكندراني ، عن بعض المشيخة : أنهم كانوا بأرض
الروم ، فبينما هم ليلة على نار يشتوون (2) عليها - أو : يصطلون - إذا بركاب (3)
قد أقبلوا ، فقاموا إليهم ، فإذا فضالة بن عبُيد فيهم ، فأنزلوه فجلس معهم - قال :
وصاحب لنا قائم يصلي - قال حتى مَرّ بهذه الآية : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ
ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } قال فضالة بن عبيد : هؤلاء الذين
يخربون البيت.
وقيل : المراد بهم أهل مكة. وقيل : الذين ظلموا من المشركين. والصحيح أن هذه الآية
عامة في كل ظالم ، كما قال ابن أبي حاتم : ذُكر عن زكريا بن يحيى الواسطي : حدثني
الهيثم بن محفوظ أبو سعد (4) النهدي ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن المجير (5)
حدثنا هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كتب أبي
وصيته سطرين : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي قُحَافة ،
عند خروجه من الدنيا ، حين يؤمن الكافر ، وينتهي الفاجر ، ويَصدُق الكاذب : إني
استخلفت عليكم عُمَر بن الخطاب ، فإن يعدل فذاك ظني به ، ورجائي فيه ، وإن يَجُر
ويبدل فلا أعلم الغيب ، { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ
يَنْقَلِبُونَ }.
آخر تفسير سورة "الشعراء" والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) في ف ، أ : "حدثنا".
(2) في أ : "يشوون".
(3) في ف ، أ : "بركبان".
(4) في ف ، أ : "أبو سعيد".
(5) في أ : "الحبر".
(6/177)
طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)
سورة النمل
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى
لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ
لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ
لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) }
قد تقدم الكلام في "سورة البقرة" على الحروف المتقطعة (1) في أوائل
السُّوَر.
وقوله : { تِلْكَ آيَاتُ } أي : هذه آيات { الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ } أي :
بين واضح.
{ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } أي : إنما تحصل الهداية والبشارة من القرآن
لِمَنْ آمن به واتبعه وصدقه ، وعمل بما فيه ، وأقام الصلاة المكتوبة ، وآتى الزكاة
المفروضة ، وآمن (2) بالدار الآخرة والبعث بعد الموت ، والجزاء على الأعمال ،
خيرها وشرها ، والجنة والنار ، كما قال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ
عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [فصلت : 44]. وقال
: { لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا } [مريم : 97]
؛ ولهذا قال هاهنا : { إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ } أي : يكذبون
بها ، ويستبعدون وقوعها { زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ } أي
: حَسَّنَّا لهم ما هم فيه ، ومددنا لهم في غَيهم فهم يَتيهون في ضلالهم. وكان هذا
جزاء على ما كذبوا به من الدار الآخرة ، كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ
أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ
وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الأنعام : 110] ، { أُولَئِكَ
الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ } أي : في الدنيا والآخرة ، { وَهُمْ فِي
الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ } أي : ليس يخسر أنفسهم وأموالهم سواهم من أهل
المحشر.
وقوله : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } أي : {
وَإِنَّكَ } يا محمد - قال قتادة : { لَتُلَقَّى } أي : لتأخذ. { الْقُرْآنَ مِنْ
لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } أي : من عند حكيم عليم ، أي : حكيم في أوامره ونواهيه ،
عليم بالأمور جليلها وحقيرها ، فخبره هو الصدق المحض ، وحكمه هو العدل التام ، كما
قال تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا [لا مُبَدِّلَ
لِكَلِمَاتِهِ] } (3) [الأنعام : 115].
{ إِذْ قَالَ مُوسَى لأهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ
أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا
نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى
مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ
الْمُرْسَلُونَ (10) إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ
فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ
مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ
كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً
قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) }
__________
(1) في ف : "المقطعة".
(2) في ف : "وأيقن".
(3) زيادة من ف ، أ.
(6/178)
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
{ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) }
(6/178)
يقول تعالى
لرسوله صلى الله عليه وسلم (1) مذكرًا له ما كان من أمر موسى ، كيف اصطفاه الله
وكلمه ، وناجاه وأعطاه من الآيات العظيمة الباهرة ، والأدلة القاهرة ، وابتعثه إلى
فرعون وملئه ، فجحدوا بها وكفروا واستكبروا عن اتباعه والانقياد له ، فقال تعالى :
{ إِذْ قَالَ مُوسَى لأهْلِهِ } أي : اذكر حين سار موسى بأهله ، فأضل الطريق ،
وذلك في ليل وظلام ، فآنس من جانب الطور نارًا ، أي : رأى نارًا تأجج (2) وتضطرم ،
فقال { لأهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ } أي : عن
الطريق ، { أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } أي :
تتدفؤون به. وكان كما قال ، فإنه رجع منها بخبر عظيم ، واقتبس منها نورًا عظيمًا ؛
ولهذا قال تعالى : { فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ
وَمَنْ حَوْلَهَا } أي : فلما أتاها رأى (3) منظرًا هائلا عظيمًا ، حيث انتهى
إليها ، والنار تضطرم في شجرة خضراء ، لا تزداد النار إلا توقدًا ، ولا تزداد
الشجرة إلا خضرة ونضرة ، ثم رفع رأسه فإذا نورها متصل بعنان السماء.
قال ابن عباس وغيره : لم تكن نارًا ، إنما كانت نورًا (4) يَتَوَهَّج.
وفي رواية عن ابن عباس : نور رب العالمين. فوقف موسى متعجبًا مما رأى ، فنودي أن
بورك من في النار. قال ابن عباس : [أي] (5) قُدّس.
{ وَمَنْ حَوْلَهَا } أي : من الملائكة. قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ،
والحسن ، وقتادة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود - [و] (6) هو الطيالسي -
حدثنا شعبة والمسعودي ، عن عمرو بن مُرَّة ، سمع أبا عُبَيْدة يحدث ، عن أبي موسى
، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله لا ينام
، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار ،
وعمل النهار قبل الليل (7). زاد المسعودي : "وحجابه النور - أو النار - لو
كشفها لأحْرَقَتْ سُبُحات وجهه كل شيء أدركه بصره". ثم قرأ أبو عُبَيْدة : {
أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } (8)
__________
(1) في ف ، أ : "صلوات الله وسلامه عليه".
(2) في ف ، أ : "تتأجج".
(3) في ف : "ورأى".
(4) في ف : "وإنما نور".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) في ف : "عمل الليل بالنهار وعمل النهار بالليل".
(8) ورواه أحمد في مسنده (4/401) من طريق وكيع عن المسعودي بنحوه.
(6/179)
وأصل هذا
الحديث مخرج في الصحيح لمسلم ، من حديث عمرو بن مُرَّة ، به (1).
وقوله : { وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : الذي يفعل ما يشاء ولا
يشبه شيئا من مخلوقاته ، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته ، وهو العلي العظيم ،
المباين لجميع المخلوقات ، ولا يكتنفه الأرض والسموات ، بل هو الأحد الصمد ،
المنزه عن مماثلة المحدثات.
وقوله : { يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أعلمه (2) أن
الذي يخاطبه ويناجيه هو ربه الله العزيز ، الذي عز كل شيء وقهره وغلبه ، الحكيم في
أفعاله وأقواله.
ثم أمره أن يلقي عصاه من يده ؛ ليظهر له دليلا واضحا على أنه الفاعل المختار ،
القادر على كل شيء. فلما ألقى موسى تلك العصا (3) من يده انقلبت في الحال حَيَّةً
عظيمة هائلة في غاية الكبر ، وسرعة الحركة مع ذلك ؛ ولهذا قال : { فَلَمَّا رَآهَا
تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ } والجان : ضرب من الحيات ، أسرعه حركة ، وأكثره
اضطرابا - وفي الحديث نَهْيٌ عن قتل جِنَّان (4) البيوت (5) - فلما عاين موسى ذلك
{ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ } أي : لم يلتفت من شدة فرقه { يَا مُوسَى لا
تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ } أي : لا تخف مما ترى ، فإني
أريد أن أصطَفيك رسولا وأجعلك نبيًا وجيهًا.
وقوله : { إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ
رَحِيمٌ } هذا استثناء منقطع ، وفيه بشارة عظيمة للبشر ، وذلك أن من كان على [عمل]
(6) شيء ثم أقلع عنه ، ورجع وأناب ، فإن الله يتوب عليه ، كما قال تعالى : {
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } [طه
: 82] ، وقال تعالى : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ
يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } [النساء : 110] والآيات
في هذا كثيرة جدًا.
وقوله : { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ }
هذه آية أخرى ، ودليل باهر على قدرة الله الفاعل المختار ، وصِدْق من جعل له معجزة
، وذلك أن الله - تعالى - أمره أن يُدخل يده في جيب دِرْعِه ، فإذا أدخلها وأخرجها
خَرجت بيضاء ساطعة ، كأنها قطعة قمر ، لها لمعان يتلألأ (7) كالبرق الخاطف.
وقوله : { فِي تِسْعِ آيَاتٍ } أي : هاتان ثنتان من تسع آيات أؤيدك بهن ، وأجعلهن
برهانا لك إلى فرعون وقومه { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ }.
وهذه هي الآيات التسع التي قال الله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ
آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } [الإسراء : 101] كما تقدم تقرير ذلك هنالك.
وقوله : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً } أي : بينة واضحة ظاهرة ،
__________
(1) صحيح مسلم برقم (179).
(2) في ف : "اعلم".
(3) في ف ، أ : "العصاة".
(4) في ف ، أ : "حيات".
(5) صحيح البخاري برقم (3298) من حديث ابن عمر ، رضي الله عنهما.
(6) زيادة من أ.
(7) في ف : "تتلألأ"
(6/180)
وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
{ قَالُوا
هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } وأرادوا معارضته بسحرهم فغلبوا [هنالك] (1) { وانقلبوا
صاغرين }.
{ وَجَحَدُوا بِهَا } أي : في ظاهر أمرهم ، { وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ }
أي : علموا في أنفسهم أنها حق (2) من عند الله ، ولكن جَحَدوها وعاندوها وكابروها
، { ظُلْمًا وَعُلُوًّا } أي : ظلما من أنفسهم ، سَجِيَّة ملعونة ، { وَعُلُوًّا }
أي : استكبارًا عن اتباع الحق ؛ ولهذا قال : { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُفْسِدِينَ } أي : انظر يا محمد كيف كان عاقبة كُفرهم (3) ، في إهلاك الله
إياهم ، وإغراقهم عن آخرهم في صبيحة واحدة.
وفحوى الخطاب يقول : احذروا أيها المكذبون بمحمد ، الجاحدون لما جاء به من ربه ،
أن يصيبكم ما أصابهم بطريق الأولى والأحرى ؛ فإن محمدًا ، صلوات الله وسلامه عليه
(4) أشرف وأعظم من موسى ، وبرهانه أدل وأقوى من برهان موسى ، بما آتاه الله من
الدلائل المقترنة بوجوده في نفسه وشمائله ، وما سبقه من البشارات من الأنبياء به ،
وأخذ المواثيق له ، عليه (5) من ربه أفضل الصلاة والسلام.
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ
سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ
وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ
يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ
يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ
وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا
وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ
وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي
بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) }.
يخبر تعالى عما أنعم به على عبديه ونبييه داود وابنه سليمان ، عليهما من الله
السلام ، من النعم الجزيلة ، والمواهب الجليلة ، والصفات الجميلة ، وما جمع لهما
بين سعادة الدنيا والآخرة ، والملك والتمكين التام في الدنيا ، والنبوة والرسالة
في الدين ؛ ولهذا قال : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا
وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ
الْمُؤْمِنِينَ }.
قال ابن أبي حاتم : ذكر عن إبراهيم بن يحيى بن تمام (6) : أخبرني أبي ، عن جدي قال
: كتب عمر بن عبد العزيز : إن الله لم ينعم على عَبد نعمة فحمد الله عليها ، إلا
كان حَمْدُه أفضل من نعمته (7) ، لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل ؛
قال الله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ
الْمُؤْمِنِينَ } ، وأي نعمة أفضل مما أوتي داود
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف ، أ : "صدق".
(3) في ف ، أ : "أمرهم".
(4) في ف : "صلى الله عليه وسلم".
(5) في ف : "عليهم".
(6) في ف : "هشام".
(7) في ف : "نعمه".
(6/181)
وسليمان ،
عليهما السلام ؟
وقوله : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ } أي : في الملك والنبوة ، وليس المراد
وراثَةَ المال ؛ إذ لو كان كذلك لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد داود ، فإنه
قد كان لداود مائةُ امرأة. ولكن المراد بذلك وراثةُ الملك والنبوة ؛ فإن الأنبياء
لا تورث أموالهم ، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم [في قوله] (1) :
نحن معشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة (2) (3).
وقوله (4) : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } (5) ، أي : أخبر سليمان بنعم الله عليه ، فيما وهبه له من
الملك التام ، والتمكين العظيم ، حتى إنه سَخَّر له الإنس والجن والطير. وكان يعرف
لغة الطير والحيوان أيضًا ، وهذا شيء لم يُعطَه أحد من البشر - فيما علمناه - مما
أخبر الله به ورسوله. وَمَنْ زعم من الجهلة والرّعاع أنّ الحيوانات كانت تنطق كنطق
بني آدم قبل سليمان بن داود - كما يتفوه به كثير من الناس - فهو قولٌ بلا علم. ولو
كان الأمر كذلك لم يكن لتخصيص سليمان بذلك فائدة ؛ إذ كلهم يسمع كلام الطيور
والبهائم ، ويعرف ما تقول ، فليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا ، بل لم تزل (6)
البهائم والطيور وسائر المخلوقات من وقت خُلقت إلى زماننا هذا على هذا الشكل
والمنوال. ولكن الله ، سبحانه وتعالى ، كان قد أفهم سليمان ، عليه السلام ، ما
يتخاطب به الطيور في الهواء ، وما تنطق (7) به الحيوانات على اختلاف أصنافها ؛
ولهذا قال : { عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } أي
: مما يحتاج إليه الملك ، { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ } أي :
الظاهر البين لله علينا.
قال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن عمرو بن أبي عمرو
، عن المطلب ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
: "كان داود ، عليه السلام ، فيه غيرة شديدة ، فكان إذا خرج أغلقت الأبواب ،
فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع". قال : "فخرج ذات يوم وأغلقت (8)
الأبواب ، فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار ، فإذا رجل قائم وسط الدار ، فقالت لِمَنْ
في البيت : من أين دخل هذا الرجل ، والدار مغلقة ؟ والله لنفتضحن بداود ، فجاء
داود ، عليه السلام ، فإذا الرجل قائم وسط الدار ، فقال له داود : من أنت ؟ قال :
الذي لا يهاب الملوك ، ولا يمتنع من الحجاب. فقال داود : أنت والله إذًا ملك
الموت. مرحبًا بأمر الله ، فتزمل داود ، عليه السلام ، مكانه حتى قبضت نفسه ، حتى
فرغ من شأنه وطلعت عليه الشمس ، فقال سليمان ، عليه السلام ، للطير : أظلي على
داود ، فأظلت عليه الطير حتى أظلمت عليهما الأرض ،
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف ، أ : "ما تركناه فهو صدقة".
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (6727) من حديث عائشة بلفظ : "لا نورث ما
تركناه صدقة". قال الحافظ ابن حجر في الفتح (12/8) : وأما ما اشتهر في كتب
أهل الأصول وغيرهم بلفظ : "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" فقد أنكره جماعة
من الأئمة ، وهو كذلك بالنسبة لخصوص لفظ : "نحن" وانظر بقية كلامه وحمله
لمعنى الحديث في الفتح.
(4) في ف : "وقال".
(5) بعدها في ف ، أ : "إن هذا لهو الفضل المبين".
(6) في ف : "بل نزل".
(7) في ف : "وما ينطق".
(8) في ف : "وغلقت".
(6/182)
فقال لها
سليمان : اقبضي جناحا جناحا" قال أبو هريرة : يا رسول الله ، كيف فعلت الطير
؟ فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ، وغلبت عليه يومئذ المضرَحية (1) (2).
قال أبو الفرج بن الجَوْزيّ : المَضْرَحيّة (3) النسور الحُمر.
وقوله تعالى : { وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ
وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي : وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير
يعني : ركب فيهم في أبهة وعظمة (4) كبيرة في الإنس ، وكانوا هم الذين يلونه ،
والجن وهم بعدهم [يكونون] (5) في المنزلة ، والطير ومنزلتها فوق رأسه ، فإن كان
حرًّا أظلته منه بأجنحتها.
وقوله : { فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي : يكف أولهم على آخرهم ؛ لئلا يتقدم أحد عن
منزلته التي هي مرتبة له.
قال مجاهد : جعل على كل صنف وزعة ، يردون أولاها على أخراها ، لئلا يتقدموا في
المسير ، كما يفعل الملوك اليوم.
وقوله : { حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ } أي : حتى إذا مر سليمان
، عليه السلام ، بمن معه من الجيوش والجنود على وادي النمل ، { قَالَتْ نَمْلَةٌ
يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ
وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ }.
أورد (6) ابن عساكر ، من طريق إسحاق بن بشر ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن : أن
اسم هذه النملة حرس ، وأنها من قبيلة يقال لهم : بنو الشيصان ، وأنها كانت عرجاء ،
وكانت بقدر الذّيب (7).
أي : خافت على النمل أن تحطمها (8) الخيول بحوافرها ، فأمرتهم بالدخول إلى مساكنها
(9) ففهم ذلك سليمان ، عليه السلام ، منها (10).
{ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ
نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ
صَالِحًا تَرْضَاهُ } أي : ألهمني أن أشكر نعمتك التي مننت بها علي ، من تعليمي
منطق الطير والحيوان ، وعلى والدي بالإسلام لك ، والإيمان بك ، { وَأَنْ أَعْمَلَ
صَالِحًا تَرْضَاهُ } أي : عملا تحبه وترضاه ، { وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي
عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } أي : إذا توفيتني فألحقني بالصالحين من عبادك ، والرفيق
الأعلى من أوليائك.
ومن قال من المفسرين : إن هذا الوادي كان بأرض الشام أو بغيره ، وإن هذه النملة
كانت ذات جناحين كالذباب ، أو غير ذلك من الأقاويل ، فلا حاصل لها.
__________
(1) في ف : "المصرحية".
(2) المسند (2/419) وقال الهيثمي في المجمع (8/206) "فيه المطلب بن عبد الله
بن حنطب وثقه أبو زرعة وغيره ، وبقية رجاله رجال الصحيح".
(3) في هـ ، ف ، أ : "المصرحية" والمثبت من لسان العرب ، مادة
"ضرح".
(4) في ف : "عظيمة".
(5) زيادة من ف.
(6) في ف ، أ : "فأورد".
(7) في ف : "الذئب".
(8) في ف : "يحطمها".
(9) في ف : "مساكنهم".
(10) في ف : "عنها".
(6/183)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)
وعن نَوْف
البكالي أنه قال : كان نمل سليمان أمثال الذئاب. هكذا رأيته مضبوطا بالياء المثناة
من تحت. وإنما هو بالباء الموحدة ، وذلك تصحيف ، والله أعلم.
والغرض أن سليمان ، عليه السلام ، فهم قولها ، وتبسم ضاحكًا من ذلك (1) ، وهذا أمر
عظيم جدا.
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا يزيد بن هارون ،
أنبأنا مِسْعَر ، عن زيد العَمّي ، عن أبي الصديق الناجي قال : خرج سليمان (2)
عليه (3) السلام ، يستسقي ، فإذا هو بنملة مستلقية على ظهرها ، رافعة قوائمها إلى
السماء ، وهي تقول : اللهم ، إنا خلق من خلقك ، ولا غنى بنا عن سقياك ، وإلا تسقنا
تهلكنا. فقال سليمان عليه السلام : ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم.
وقد ثبت في الصحيح - عند مسلم - من طريق عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن همام ، عن
أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم [قال] (4) قَرَصَت نبيا من الأنبياء نملة
، فأمر بقرية النمل فأحرقت ، فأوحى الله إليه ، أفي (5) أن قرصتك نملة أهلكت أمة
من الأمم تُسَبِّح ؟ فهلا نملة واحدة!" (6).
{ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ
الْغَائِبِينَ (20) لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ
لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) }.
قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وغيرهما ، عن ابن عباس وغيره : كان الهدهد مهندسا ،
يدل سليمان ، عليه السلام ، على الماء ، إذا كان بأرض فلاة طلبه فنظر له الماء في
تخوم الأرض ، كما يرى الإنسان الشيء الظاهر على وجه الأرض ، ويعرف كم مساحة بعده
من وجه الأرض ، فإذا دلهم عليه أمر سليمان ، عليه السلام ، الجان فحفروا له ذلك
المكان ، حتى يستنبط (7) الماء من قراره ، فنزل سليمان ، عليه السلام [يوما] (8) ،
بفلاة من الأرض ، فتفقد الطير ليرى الهدهد ، فلم يره ، { فَقَالَ مَا لِيَ لا
أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ }.
حدَّث يوما عبد الله بن عباس بنحو هذا ، وفي القوم رجل من الخوارج ، يقال له :
"نافع بن الأزرق" ، وكان كثير الاعتراض على ابن عباس ، فقال له : قف يا
بن عباس ، غُلبت اليوم! قال : وَلِمَ ؟ قال : إنك تخبر عن الهدهد أنه يرى الماء في
تخوم الأرض ، وإن الصبي ليضع له الحبة في الفخ ، ويحثو على الفخ ترابًا ، فيجيء
الهدهد ليأخذها فيقع في الفخ ، فيصيده الصبي. فقال ابن عباس : لولا أن يذهب هذا
فيقول : رددت على ابن عباس ، لما أجبته. فقال (9) له : ويحك! إنه إذا نزل القَدَر
عَمي البصر ، وذهب الحَذَر. فقال له نافع : والله لا أجادلك في شيء من القرآن
__________
(1) في ف : "من قولها".
(2) في ف ، أ : "سليمان بن داود".
(3) في ف : "عليهما".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ف ، أ : "أي".
(6) صحيح مسلم برقم (2241).
(7) في ف : "يستنبطوا".
(8) زيادة من ف ، أ.
(9) في ف ، أ : "ثم قال".
(6/184)
أبدًا (1).
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله البَرْزيّ - من أهل
"بَرْزَةَ" من غوطة دمشق ، وكان من الصالحين يصوم [يوم] (2) الاثنين
والخميس ، وكان أعور قد بلغ الثمانين - فروى ابن عساكر بسنده إلى أبي سليمان بن
زيد : أنه سأله عن سبب عَوَره ، فامتنع عليه ، فألح عليه شهورًا ، فأخبره أن رجلين
من أهل خراسان نزلا عنده جمعة في قرية برزة ، وسألاه عن وادٍ بها ، فأريتهما إياه
، فأخرجا مجامر وأوقدا فيها بخورًا كثيرًا ، حتى عجعج الوادي بالدخان ، فأخذا
يَعْزمان والحيات تقبل من كل مكان إليهما ، فلا يلتفتان إلى شيء منها ، حتى أقبلت
حية نحو الذراع ، وعيناها توقدان مثل الدينار. فاستبشرا بها عظيما ، وقالا الحمد
لله الذي لم يُخَيب سفرنا من سنة ، وكسرا المجامر ، وأخذا الحية فأدخلا في عينها
ميلا فاكتحلا به ، فسألتهما أن يكحلاني ، فأبيا ، فألححت عليهما وقلت : لا بد من
ذلك ، وتوعدتهما بالدولة ، فكحلا عيني الواحدة اليمنى ، فحين وقع في عيني نظرت إلى
الأرض تحتي مثل المرآة ، أنظر ما تحتها كما تُري المرآة ، ثم قالا لي : سر معنا
قليلا فسرت معهما وهما يحدثان ، حتى إذا بعدت عن القرية ، أخذاني فكتفاني ، وأدخل
أحدهما يده في عيني ففقأها ، ورمى بها ومضيا. فلم أزل كذلك ملقى مكتوفًا ، حتى مر
بي نفر ففَكَّ وَثَاقي. فهذا ما كان من خبر عيني (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا صدقة بن
عمرو الغساني ، حدثنا عَبّاد بن مَيْسَرة المِنْقَرِيّ ، عن الحسن قال : اسم هدهد
سليمان عليه السلام : عنبر.
وقال محمد بن إسحاق : كان سليمان ، عليه السلام ، إذا غدا إلى مجلسه الذي كان يجلس
فيه : تفقد الطير ، وكان فيما يزعمون يأتيه نُوَبٌ من كل صنف من الطير ، كل يوم
طائر ، فنظر فرأى من أصناف الطير كلّها من حَضَره إلا الهدهد ، { فَقَالَ مَا لِيَ
لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ } أخطأه بصري من الطير ، أم
غاب فلم يحضر ؟.
وقوله : { لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا } : قال الأعمش ، عن المِنْهَال بن
عمرو ، عن سعيد ، عن ابن عباس : يعني نتف ريشه.
وقال عبد الله بن شداد : نتف ريشه وتشميسه. وكذا قال غير واحد من السلف : إنه نتف
ريشه ، وتركه مُلْقًى يأكله الذر والنمل.
وقوله : { أَوْ لأذْبَحَنَّهُ } يعني : قتله ، { أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ
مُبِينٍ } أي : بعذر واضح بين.
وقال سفيان بن عيينة ، وعبد الله بن شداد : لما قدم الهدهد قال له الطير : ما خلفك
، فقد نذر سليمان دمك! فقال : هل استثنى ؟ فقالوا : نعم ، قال : { لأعَذِّبَنَّهُ
عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ }
فقال : نجوت إذًا.
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك (2/405) من طريق المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير
بنحوه.
(2) زيادة من ف.
(3) تاريخ دمشق (19/130 "المخطوط").
(6/185)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
قال مجاهد :
إنما دفع [الله] (1) عنه ببره بأمه (2).
{ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ
مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) }
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف : "أمه".
(6/186)
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
{ إِنِّي
وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ
عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ
لا يَهْتَدُونَ (24) أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي
السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ
لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) }
يقول تعالى : { فَمَكَثَ } الهدهد { غَيْرَ بَعِيدٍ } أي : غاب زمانًا يسيرًا ، ثم
جاء فقال لسليمان : { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } أي : اطلعت على ما لم تطلع
عليه أنت ولا جنودك ، { وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } أي : بخبر صدق
حق يقين.
وسبأ : هم : حِمْير ، وهم ملوك اليمن.
ثم قال : { إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ } ، قال الحسن البصري : وهي
بلقيس بنت شَرَاحيل ملكة سبأ.
وقال قتادة : كانت أمها جنية ، وكان مُؤخَّر قدميها مثل حافر الدابة ، من بيت
مملكة.
وقال زهير بن محمد : وهي بلقيس بنت شَرَاحيل بن مالك بن الريان ، وأمها فارعة
الجنية.
وقال ابن جُرَيْج : بلقيس بنت ذي شرخ ، وأمها يلتقة.
وقال ابن أبى حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا سفيان - يعني
ابن عيينة - عن عطاء بن السائب ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : كان مع صاحبة (1)
سليمان ألف قَيْل ، تحت كل قيل مائة ألف [مقاتل] (2).
وقال الأعمش ، عن مجاهد : كان تحت يدي ملكة سبأ اثنا عشر ألف قَيْل ، تحت كل قيل :
مائة ألف مقاتل.
وقال عبد الرزاق : أنبأنا (3) مَعْمَر ، عن قتادة في قوله : { إِنِّي وَجَدْتُ
امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ } : كانت من بيت مملكة ، وكان أولو مشورتها ثلاثمائة واثني
عشر رجلا كل رجل منهم على عشرة آلاف رجل. وكانت بأرض يقال لها مأرب ، على ثلاثة
أميال من صنعاء.
وهذا القول هو أقرب ، على أنه كثير على مملكة اليمن ، والله أعلم.
وقوله : { وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } أي : من متاع الدنيا ما (4) يحتاج إليه
الملك المتمكن ، { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ }
__________
(1) في ف : "كان لصاحبه".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ف : "عن".
(4) في ف : "مما".
(6/186)
يعني : سرير
تجلس عليه عظيم هائل مزخرف بالذهب ، وأنواع الجواهر واللآلئ.
قال زهير بن محمد : كان من ذهب صفحتاه ، مرمول بالياقوت والزبرجد. [طوله ثمانون
ذراعًا ، وعرضه أربعون ذراعًا.
وقال محمد بن إسحاق : كان من ذهب مفصص بالياقوت والزبرجد] (1) واللؤلؤ ، وكان إنما
يخدمها النساء ، لها ستمائة امرأة تلي الخدمة (2).
قال علماء التاريخ : وكان هذا السرير في قصر عظيم مشيد رفيع البناء محكم ، كان فيه
ثلاثمائة وستون طاقة من شرقه ومثلها من غربه (3) ، قد وضع بناؤه على أن تدخل الشمس
كل يوم من طاقة ، وتغرب من مقابلتها ، فيسجدون لها صباحًا ومساءً ؛ ولهذا قال : {
وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ } أي : عن طريق
الحق ، { فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ }.
وقوله : { أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ } [معناه : { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ
أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلا يَسْجُدُوا
لِلَّهِ } ] (4) أي : لا يعرفون سبيل الحق التي هي إخلاص السجود لله وحده دون ما
خلق من شيء من الكواكب وغيرها ، كما قال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ
وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ
وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }
[فصلت : 37].
وقرأ بعض القراء : "ألا يا اسجدوا لله" جعلها "ألا"
الاستفتاحية ، و"يا" للنداء ، وحذف المنادى ، تقديره عنده : "ألا
يا قوم ، اسجدوا لله".
وقوله : { الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } : قال علي بن
أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعلم كل خبيئة في السماء والأرض. وكذا قال عكرمة ،
ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وغير واحد.
وقال سعيد بن المسيب : الخَبْء : الماء. وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : خبء
السموات والأرض : ما جعل فيها من الأرزاق : المطر من السماء ، والنبات من الأرض.
وهذا مناسب من كلام الهدهد ، الذي جعل الله فيه من الخاصية ما ذكره ابن عباس وغيره
، من أنه يرى الماء يجري في تخوم الأرض ودواخلها.
وقوله : { وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } أي : يعلم ما يخفيه
العباد ، وما يعلنونه من الأقوال والأفعال. وهذا كقوله تعالى : { سَوَاءٌ مِنْكُمْ
مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ
وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } [الرعد : 10].
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف : "امرأة تليها".
(3) في ف : "من شرقية ومثلها من غربية".
(4) زيادة من ف ، أ.
(6/187)
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
وقوله : {
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } أي : هو المدعو الله ،
وهو الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم ، الذي ليس في المخلوقات أعظم منه.
ولما كان الهدهد داعيا إلى الخير ، وعبادة الله وحده والسجود له ، نهي عن قتله ،
كما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال :
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب : النملة والنحلة والهدهد
والصُّرَد. وإسناده صحيح (1).
{ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي
هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ
(28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)
أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) }.
يخبر تعالى عن قيل سليمان ، عليه السلام ، للهدهد حين أخبره عن أهل سبأ وملكتهم :
{ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } أي : أصدقت (2)
في إخبارك هذا ، { أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } في مقالتك ، فتتخلص (3) من
الوعيد الذي أوعدتك ؟.
{ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِه إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ
فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ } : وذلك أن سليمان ، عليه السلام ، كتب كتابًا إلى
بلقيس وقومها. وأعطاه لذلك الهدهد فحمله ، قيل : في جناحه كما هي عادة الطير ،
وقيل : بمنقاره. وذهب إلى بلادهم فجاء إلى قصر بلقيس ، إلى الخلوة التي كانت تختلي
فيها بنفسها ، فألقاه إليها من كُوّة هنالك (4) بين يديها ، ثم تولى ناحية أدبًا
ورياسة ، فتحيرت مما رأت ، وهالها ذلك ، ثم عمدت إلى الكتاب فأخذته ، ففتحت ختمه
وقرأته ، فإذا فيه : { إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } فجمعت عند
ذلك أمراءها ووزراءها وكبراء دولتها ومملكتها ، ثم قالت لهم : { يَا أَيُّهَا
الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } تعني بكرمه : ما رأته من عجيب
أمره ، كون طائر أتى به (5) فألقاه إليها ، ثم تولى عنها أدبًا. وهذا أمر لا يقدر
عليه أحد من الملوك ، ولا سبيل لهم إلى ذلك ، ثم قرأته عليهم.
{ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلا
تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ }.فعرفوا أنه من نبي الله سليمان ، وأنه
لا قبَل لهم به. وهذا الكتاب في غاية البلاغة والوجازة والفصاحة ، فإنه حَصّل
المعنى بأيسر عبارة وأحسنها ، قال العلماء : ولم يكتب أحد { بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قبل سليمان ، عليه السلام.
وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثًا في تفسيره ، حيث قال : حدثنا أبي ، حدثنا
هارون بن الفضل (6) أبو يعلى الحناط (7) ، حدثنا أبو يوسف ، عن سلمة بن صالح ، [عن
عبد الكريم] (8) أبي أمية ، عن ابن بُرَيدة ، عن أبيه قال : كنت أمشي مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال : "إني أعلم آية لم
__________
(1) لم أجده من حديث أبي هريرة إلا عند ابن ماجه في السنن برقم (3223) بلفظ :
"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الصرد والضفدع والنملة
والهدهد". وهو بهذا اللفظ من حديث ابن عباس في مسند الإمام أحمد ( 1/332)
وسنن أبي داود برقم (5267) وسنن ابن ماجه برقم (3224).
(2) في ف : "صدقت".
(3) في ف : "لتتخلص".
(4) في ف ، أ : "هناك".
(5) في ف ، أ : "جاء به".
(6) في أ : "المفضل".
(7) في ف ، أ : "الخياط".
(8) زيادة من ف ، أ.
(6/188)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
تنزل على
نبي قبلي بعد سليمان بن داود" قال : قلت : يا رسول الله ، أي آية ؟ قال :
"سأعلمكها قبل أن أخرج من المسجد". قال : فانتهى إلى الباب ، فأخرج إحدى
قدميه ، فقلت : نسي ، ثم التفت إلي وقال { إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } (1).
هذا حديث غريب ، وإسناده ضعيف.
وقال ميمون بن مِهْرَان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب : باسمك اللهم ،
حتى نزلت هذه الآية ، فكتب : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }.
وقوله : { أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ } : يقول (2) قتادة : لا تجيروا علي { وَأْتُونِي
مُسْلِمِينَ }.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : لا تمتنعوا ولا تتكبروا علي.
{ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } : قال ابن عباس : موحدين. وقال غيره : مخلصين. وقال
سفيان بن عُيَيْنَة : طائعين.
{ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً
أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ
شَدِيدٍ وَالأمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ
الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا
أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ
بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) }.
لما قرأت عليهم كتاب سليمان استشارتهم في أمرها ، وما قد نزل بها ؛ ولهذا قالت : {
يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى
تَشْهَدُونِ } أي : حتى تحضرون وتشيرون.
{ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي : مَنوا إليها
بعَدَدهم وعددهم وقوتهم ، ثم فوضوا إليها بعد ذلك الأمر فقالوا : { وَالأمْرُ
إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ } أي : نحن ليس لنا عاقة [ولا بنا بأس ،
إن شئت أن تقصديه وتحاربيه ، فما لنا عاقة] (3) عنه. وبعد هذا فالأمر (4) إليك ،
مري فينا برأيك (5) نمتثله ونطيعه.
قال الحسن البصري ، رحمه الله : فوضوا أمرهم إلى عِلْجة تضطرب ثدياها ، فلما قالوا
لها ما قالوا ، كانت هي أحزم رأيًا منهم ، وأعلم بأمر سليمان ، وأنه (6) لا قبل
لها بجنوده وجيوشه ، وما سُخّر له من الجن والإنس والطير ، وقد شاهَدَت من قضية
الكتاب مع الهدهد أمرًا عجيبًا بديعًا ، فقالت لهم : إني أخشى أن نحاربه ونمتنع
عليه ، فيقصدنا بجنوده ، ويهلكنا بمن معه ، ويخلص إليّ وإليكم الهلاك والدمار دون
غيرنا ؛ ولهذا قالت : { إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا }.
__________
(1) ورواه أبو نعيم في تاريخ أصفهان (2/187) من طريق الحسين بن حفص عن أبي يوسف
به.
(2) في ف : "قال".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في أ : "وبعدها فالأمر".
(5) في ف : "رأيك".
(6) في ف : "وأنها".
(6/189)
قال ابن
عباس : أي إذا دخلوا بلدًا (1) عنْوَة أفسدوه ، أي : خَرّبوه ، { وَجَعَلُوا
أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً } أي : وقصدوا من فيها من الولاة والجنود ،
فأهانوهم غاية الهوان ، إما بالقتل أو بالأسر.
قال ابن عباس : قالت بلقيس : { إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً
أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً } (2) ، قال الرب ، عز وجل
{ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ }. ثم عدلت إلى المهادنة والمصالحة والمسالمة والمخادعة
والمصانعة ، فقالت : { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ
بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ } أي : سأبعث إليه بهدية تليق به (3) وأنظر ماذا
يكون جوابه بعد ذلك ، فلعله يقبل ذلك ويكف عنا ، أو يضرب علينا خَرَاجا نحمله إليه
في كل عام ، ونلتزم له بذلك ويترك قتالنا ومحاربتنا. قال قتادة : رحمها الله ورضي
عنها ، ما كان أعقلها في إسلامها وفي شركها!! علمت أن الهدية تقع موقعًا من الناس.
وقال ابن عباس وغير واحد : قالت لقومها : إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه ، وإن لم
يقبلها فهو نبي فاتبعوه.
__________
(1) في أ : "بلدة".
(2) في ف ، أ : "أذلة وكذلك يفعلون".
(3) في ف : "بمثله".
(6/190)
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
{ فَلَمَّا
جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ
مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ
إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا
وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) }.
ذكر غير واحد من المفسرين ، من السلف وغيرهم : أنها بعثت إليه بهدية عظيمة من ذهب
وجواهر ولآلئ وغير ذلك. وقال بعضهم : أرسلت بلَبِنَة من ذهب. والصحيح أنها أرسلت
[إليه] (1) بآنية من ذهب.
قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وغيرهما : وأرسلت جواري في زي الغلمان ، وغلمان في زي
الجواري ، وقالت : إن عرف هؤلاء من هؤلاء فهو نبي. قالوا : فأمرهم [سليمان] (2)
عليه السلام ، أن يتوضؤوا ، فجعلت الجارية تُفرغ على يدها من الماء ، وجعل الغلام
يغترف ، فميزهم بذلك.
وقيل : بل جعلت الجارية تغسل باطن (3) يدها قبل ظاهرها ، والغلام بالعكس.
وقيل : بل جعلت الجواري يغتسلن (4) من أكفهن إلى مرافقهن ، والغلمان من مرافقهم
إلى أكفهم. ولا منافاة بين ذلك كله ، والله أعلم.
وذكر بعضهم : أنها أرسلت إليه بقدح ليملأه ماء رواء ، لا من السماء ولا من الأرض ،
فأجرى الخيل حتى عرقت ، ثم ملأه من ذلك ، وبخرزة وسلك ليجعله فيها ، ففعل ذلك.
والله أعلم أكان ذلك أم لا وأكثره مأخوذ من الإسرائيليات. والظاهر أن سليمان ،
عليه السلام ، لم ينظر إلى ما
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ف : "بطن".
(4) في ف : "يغسلن".
(6/190)
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
جاءوا به
بالكلية ، ولا اعتنى به ، بل أعرض عنه ، وقال منكرًا عليهم : { أَتُمِدُّونَنِي
بِمَالٍ } أي : أتصانعونني بمال لأترككم على شرككم وملككم ؟! { فَمَا آتَانِيَ
اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ } أي : الذي أعطاني الله من الملك والمال والجنود
خير مما أنتم فيه ، { بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } أي : أنتم
الذين (1) تنقادون للهدايا والتحف ، وأما أنا فلا أقبل منكم إلا الإسلام أو السيف.
قال الأعمش ، عن المِنْهَال بن عمرو ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس ، رضي
الله عنه : أمر سليمان الشياطين فموهوا له ألف قصر من ذهب وفضة. فلما رأت رسلها
ذلك قالوا : ما يصنع هذا بهديتنا. وفي هذا دلالة على جواز تهيؤ الملوك وإظهارهم
الزينة للرسل والقصاد.
{ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ } أي : بهديتهم ، { فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ
لَهُمْ بِهَا } أي : لا طاقة لهم بقتالهم ، { وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا } أي :
من بلدهم ، { أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ } أي : مهانون مدحورون.
فلما رجعت إليها رسلُها بهديتها ، وبما قال سليمان ، سمعت وأطاعت هي وقومها ،
وأقبلت تسير إليه في جنودها خاضعة ذليلة ، معظمة لسليمان ، ناوية متابعته في
الإسلام. ولما تحقق سليمان ، عليه السلام ، قدومهم عليه ووفودهم إليه ، فرح (2)
بذلك وسَرّه.
{ قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ
يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ
قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)
قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ
يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا
مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ
فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ
(40) }.
قال محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رُومَان قال : فلما رجعت إليها الرسل بما قال
سليمان قالت : قد - والله - عرفتُ ، ما هذا بملك ، وما لنا به من طاقة ، وما نصنع
بمكاثرته (3) شيئًا. وبعثت إليه : إني قادمة عليك بملوك قومي ، لأنظر ما أمرك وما
تدعونا إليه من دينك. ثم أمرت بسرير ملكها الذي كانت تجلس عليه - وكان من ذهب
مُفصَّص بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ - فجعل في سبعة أبيات ، بعضها في بعض ، ثم
أقفلت عليه الأبواب ، ثم قالت لمن خَلفت على سلطانها : احتفظ بما قبلك ، وسرير
ملكي ، فلا يخلص إليه أحد من عباد الله ، ولا يَرَينَّه أحد حتى آتيك. ثم شَخَصَت
إلى سليمان في اثني عشر ألف قَيْل من ملوك اليمن ، تحت يدي كل قَيْل منهم ألوف
كثيرة. فجعل سليمان يبعث الجن يأتونه بمسيرها ومنتهاها كل يوم وليلة ، حتى إذا
دَنت جمع مَنْ عنده من الجن والإنس ، مِمَّنْ تحت يديه ، فقال : { يَا أَيُّهَا
الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ }.
وقال قتادة : لما بلغ سليمان أنها جائية ، وكان قد ذكر له عرشها فأعجبه ، وكان من
ذهب ،
__________
(1) في أ : "الذي".
(2) في ف : "ففرح".
(3) في هـ : "بمكابرته" والمثبت من ف ، أ ، والطبري (19/100).
(6/191)
وقوائمه
لؤلؤ وجوهر ، وكان مسترًا بالديباج والحرير ، وكانت عليه تسعة مغاليق (1) ، فكره
أن يأخذه بعد إسلامهم. وقد علم نبي الله أنهم متى أسلموا تحرم أموالهم مع دمائهم
فقال : { يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ
يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ }.
وهكذا قال عطاء الخراساني ، والسُّدِّي ، وزُهير بن محمد : { قَبْلَ أَنْ
يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } فتحرم علي أموالهم بإسلامهم.
{ قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ } قال مجاهد : أي مارد من الجن.
قال شُعَيب الجبائي : وكان اسمه كوزن. وكذا قال محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان.
وكذا قال أيضا وهب بن منبه.
قال أبو صالح : وكان كأنه جبل.
{ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ } قال ابن عباس : يعني :
قبل أن تقوم من مجلسك. وقال مجاهد : مقعدك ، وقال السدي ، وغيره : كان يجلس للناس
للقضاء والحكومات وللطعام (2) من أول النهار إلى أن تَزول الشمس.
{ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ } : قال ابن عباس : أي قوي على حمله ، أمين
على ما فيه من الجوهر.
فقال سليمان ، عليه السلام : أريد أعجل من ذلك. ومن هاهنا يظهر أن النبي سليمان
أراد بإحضار هذا السرير إظهار عظمة ما وهبه الله له من الملك ، وسَخَّر له من
الجنود ، الذي لم يعطه أحد قبله ، ولا يكون لأحد من بعده. وليتخذ ذلك حجة على
نبوته عند بلقيس وقومها ؛ لأن هذا خارق عظيم أن يأتي بعرشها كما هو من بلادها قبل
أن يَقْدموا عليه. هذا وقد حجبته بالأغلاق والأقفال والحفظة. فلما قال سليمان :
أريد أعجل من ذلك ، { قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ } قال ابن
عباس : وهو آصف كاتب سليمان. وكذا رَوَى محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان : أنه
آصف بن برخياء ، وكان صدّيقا يعلم الاسم الأعظم.
وقال قتادة : كان مؤمنا من الإنس ، واسمه آصف. وكذا قال أبو صالح ، والضحاك ،
وقتادة : إنه كان من الإنس - زاد قتادة : من بني إسرائيل.
وقال مجاهد : كان اسمه أسطوم.
وقال قتادة - في رواية عنه - : كان اسمه بليخا.
وقال زهير بن محمد : هو رجل من الأندلس (3) يقال له : ذو النور.
وزعم عبد الله بن لَهِيعة : أنه الخضر. وهو غريب جدًا.
وقوله : { أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } أي : ارفع
بصرك وانظر مُدّ بصرك مما تقدر عليه ، فإنك لا يكل بصرك إلا وهو حاضر عندك.
__________
(1) في ف : "معاليق".
(2) في ف ، أ : "والطعام".
(3) في أ : "الإنس".
(6/192)
وقال وهب بن
منبه : امدد بصرك ، فلا يبلغ مداه حتى آتيك به.
فذكروا أنه أمره أن ينظر نحو اليمن التي فيها هذا العرش المطلوب ، ثم قام فتوضأ ،
ودعا الله عز وجل.
قال مجاهد : قال : يا ذا الجلال والإكرام. وقال الزهري : قال : يا إلهنا وإله كل
شيء ، إلهًا واحدًا ، لا إله إلا أنت ، ائتني بعرشها. قال : فتمثل له بين يديه.
قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن إسحاق ، وزهير بن محمد ، وغيرهم : لما دعا
الله ، عز وجل ، وسأله أن يأتيه بعرش بلقيس - وكان في اليمن ، وسليمان عليه السلام
ببيت المقدس - غاب السرير ، وغاص في الأرض ، ثم نبع من بين يدي سليمان ، عليه
السلام.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، لم يشعر سليمان إلا وعرشها يحمل بين يديه. قال :
وكان هذا الذي جاء به من عُبَّاد البحر ، فلما عاين سليمان ومَلَؤه ذلك ، ورآه
مستقرًا عنده { قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي } أي : هذا من نعم الله علي {
لِيَبْلُوَنِي } أي : ليختبرني ، { أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ
فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } ، كقوله { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ
وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا } [فصلت : 46] ، وكقوله { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا
فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } [الروم : 44].
وقوله : { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } أي : هو غني عن العباد
وعبادتهم ، { كَرِيمٌ } أي : كريم في نفسه ، وإن لم يعبده أحد ، فإن عظمته ليست
مفتقرة (1) إلى أحد ، وهذا كما قال موسى : { إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي
الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } [إبراهيم : 8].
وفي صحيح مسلم : "يقول الله تعالى : يا عبادي لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم
وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي ، لو أن
أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم ، كانوا على أفجر قلب رجل منكم ، ما نقص ذلك من ملكي
شيئًا. يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم [ثم أوفيكم إياها] (2) فمن وجد خيرا
فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" (3).
__________
(1) في أ : "تفتقر".
(2) زيادة من ف ، أ ، وصحيح مسلم.
(3) صحيح مسلم برقم (2577) من حديث أبي ذر الغفاري ، رضي الله عنه.
(6/193)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
{ قَالَ
نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا
يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ
هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا
مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ
(43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً
وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ
قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) }
لما جيء سليمان ، عليه السلام ، بعرش بلقيس قبل قدومها ، أمر به أن يغير بعض صفاته
، ليختبر معرفتها وثباتها عند رؤيته ، هل تقدم على أنه عرشها أو أنه ليس به ، فقال
: { نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ
لا يَهْتَدُونَ }.
قال ابن عباس : نزع عنه فصوصه ومرافقه.
وقال مجاهد : أمر به فغير ما كان أحمر جعل أصفر ، وما كان أصفر جعل أحمر : وما كان
أخضر جعل أحمر ، غَيَّر كل شيء عن حاله.
وقال عكرمة : زادوا فيه ونقصوا.
[وقال قتادة : جعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره ، وزادوا فيه ونقصوا] (1).
{ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ } أي : عرض عليها عرشها ، وقد غير
ونُكِّر ، وزيد فيه ونقص منه ، فكان فيها ثبات وعقل ، ولها لُب ودهاء وحزم ، فلم
تقدم على أنه هو لبعد مسافته عنها ، ولا أنه غيره ، لما رأت من آثاره وصفاته ، وإن
غير وبدل ونكر ، فقالت : { كَأَنَّهُ هُوَ } أي : يشبهه ويقاربه. وهذا غاية في
الذكاء والحزم.
وقوله : { وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ } : قال
مجاهد : سليمان يقوله.
وقوله : { وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ
مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ } : هذا من تمام كلام سليمان ، عليه السلام - في قول مجاهد
، وسعيد بن جبير ، رحمهما الله - أي : قال سليمان : { وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ
قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ } ، وهي كانت قد صدها ، أي : منعها من عبادة الله
وحده. { مَا (2) كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ
قَوْمٍ كَافِرِينَ }. وهذا الذي قاله مجاهد وسعيد حَسَنٌ (3) ، وقاله ابن جرير
أيضا.
ثم قال ابن جرير : ويحتمل أن يكون في قوله : { وَصَدَّهَا } ضمير يعود إلى سليمان
، أو إلى الله ، عز وجل ، تقديره : ومنعها { مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ
اللَّهِ } أي : صدَّها عن عبادة غير الله { إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ
كَافِرِينَ }.
قلت : ويؤيد قول مجاهد : أنها إنما أظهرت الإسلام بعد دخولها إلى الصرح ، كما
سيأتي.
وقوله : { قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً
وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا } وذلك أن سليمان ، عليه السلام أمر الشياطين فبنوا
لها قصرًا عظيما من قوارير ، أي : من زجاج ، وأجرى تحته الماء ، فالذي لا يعرف
أمره يحسب أنه ماء ، ولكن الزجاج يحول بين الماشي وبينه. واختلفوا في السبب الذي
دعا
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف : "بل" وهو خطأ.
(3) في أ : "سعيد بن جبير أيضا".
(6/194)
سليمان ،
عليه السلام ، إلى (1) اتخاذه ، فقيل : إنه لما عزم على تزويجها واصطفائها لنفسه ؛
ذكر له جمالها وحسنها ، ولكن في ساقيها هُلْبٌ (2) عظيم ، ومؤخر أقدامها كمؤخر
الدابة. فساءه ذلك ، فاتخذ هذا ليعلم صحته أم لا ؟ - هذا قول محمد بن كعب القُرَظي
، وغيره - فلما دخلت وكشفت عن ساقيها ، رأى أحسن الناس وأحسنه قدمًا ، ولكن رأى
على رجليها شعرًا ؛ لأنها ملكة ليس لها بعل (3) فأحب أن يذهب ذلك عنها فقيل لها :
الموسى ؟ فقالت : لا أستطيع ذلك. وكره سليمان ذلك ، وقال (4) للجن : اصنعوا شيئًا
غير الموسى يذهب به هذا الشعر ، فصنعوا له النُوْرَةَ. وكان أول من اتخذت له
النّورَة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، ومحمد بن كعب القرظي ، والسدي ،
وابن جُرَيْج ، وغيرهم.
وقال محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رُومان : ثم قال لها : ادخلي الصرح ، ليريها
مُلْكًا هو أعزّ من ملكها ، وسلطانا هو أعظم من سلطانها. فلما رأته حسبته لجة
وكشفت عن ساقيها ، لا تشك أنه ماء تخوضه ، فقيل لها : إنه صرح مُمَرّد من قوارير.
فلما وقفت على سليمان ، دعاها إلى عبادة الله وعاتبها في عبادتها الشمس (5) من دون
الله.
وقال الحسن البصري : لما رأت العلْجَةُ الصرح عرفت - والله - أن قد رأت ملكًا أعظم
من ملكها.
وقال محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه قال : أمر سليمان بالصرح
، وقد عملته له الشياطين من زجاج ، كأنه الماء بياضا. ثم أرسل الماء تحته ، ثم وضع
له فيه سريره ، فجلس عليه ، وعكفت عليه الطير والجن والإنس ، ثم قال : ادخلي الصرح
، ليريها ملكا هو أعز من ملكها ، وسلطانا هو أعظم من سلطانها { فَلَمَّا رَأَتْهُ
حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا } ، لا تشك أنه ماء تخوضه ، قيل
لها : { إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ } ، فلما وقفت على سليمان ،
دعاها إلى عبادة الله ، عز وجل ، وعاتبها في عبادتها الشمس من دون الله. فقالت
بقول الزنادقة ، فوقع سليمان ساجدًا إعظاما لما قالت ، وسجد معه الناس ، فسقط في
يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع ، فلما رفع سليمان رأسه قال : ويحك! ماذا قلت ؟ -
قال : (6) وأنسيت ما قالت (7) فقالت : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، فأسلمت وحسن
إسلامها.
وقد روى الإمام أبو بكر بن أبي شيبة في هذا أثرًا غريبا عن ابن عباس ، قال : (8)
حدثنا الحسين بن علي ، عن زائدة ، حدثني عطاء بن السائب ، حدثنا مجاهد ، ونحن في
الأزد - قال : حدثنا ابن عباس قال : كان سليمان ، عليه السلام ، يجلس على سريره ،
ثم تُوضَعُ كراسي حوله ، فيجلس عليها الإنس ، ثم يجلس (9) الجن ، ثم الشياطين ، ثم
تأتي الريح فترفعهم ، ثم تظلهم الطير ، ثم
__________
(1) في ف : "في".
(2) في أ : "هلف".
(3) في ف ، أ : "زوج".
(4) في ف : "وقال سليمان".
(5) في ف ، أ : "الشيطان".
(6) في ف : "قالت".
(7) في ف : "ما قلت".
(8) في ف : فقال.
(9) في ف : "تجلس".
(6/195)
يغدون قدر
ما يشتهي الراكب أن ينزل شهرًا ورواحها شهرًا ، قال : فبينما هو ذات يوم في مسير
له ، إذ تفقد الطير ففقد الهدهد فقال : (1) { مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ
كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ
أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } ، قال : فكان عذابه إياه أن ينتفه ، ثم
يلقيه في الأرض ، فلا يمتنع من نملة ولا من شيء من هوام الأرض.
قال عطاء : وذكر سعيد بن جُبَير عن ابن عباس مثل حديث مجاهد { فَمَكَثَ غَيْرَ
بَعِيدٍ } - فقرأ حتى انتهى إلى قوله - { قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ
مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا } وكتب { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ } ، إلى بلقيس : { أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } ،
فلما ألقى الهدهد بالكتاب (2) إليها ، ألقي في رُوعها : إنه كتاب كريم ، وإنه من
سليمان ، وأن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين. قالوا : نحن أولو قوة. قالت : إن الملوك
إذا دخلوا قرية أفسدوها ، وإني مرسلة إليهم بهدية. فلما جاءت الهدية سليمان قال :
أتمدونني بمال ، ارجع إليهم. فلما نظر إلى الغبار - أخبرنا ابن عباس قال : وكان
بين سليمان وبين ملكة سبأ ومَنْ معها حين نظر إلى الغبار كما بيننا وبين الحيرة ،
قال عطاء : ومجاهد حينئذ في الأزد - قال سليمان : أيكم يأتيني بعرشها ؟ قال : وبين
عرشها وبين سليمان حين نظر إلى الغبار مسيرة شهرين ، { قَالَ عِفْريتٌ مِنَ
الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ }. قال : وكان
لسليمان مجلس يجلس فيه للناس ، كما يجلس الأمراء ثم يقوم - قال : (3) { أَنَا
آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ }. قال سليمان : أريد أعجل من
ذلك. فقال الذي عنده علم من الكتاب : أنا أنظر في كتاب ربي ، ثم آتيك به قبل أن
يرتد إليك طرفك. قال : [فنظر إليه سليمان فلما قطع كلامه رد سليمان بصره] (4) ،
فنبع عرشها من تحت قدم سليمان ، من تحت كرسي كان سليمان يضع عليه رجله ، ثم يصعد
إلى السرير. قال : فلما رأى سليمان عرشها [مستقرًا عنده] (5) قال : { هَذَا مِنْ
فَضْلِ رَبِّي } ، { قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا } ، فلما جاءت قيل لها :
أهكذا عرشك ؟ قالت : كأنه هو. قال : فسألته عن أمرين ، قالت لسليمان : أريد ماء
[من زبد رواء] (6) ليس من أرض ولا من سماء - وكان سليمان إذا سئل عن شيء ، سأل
الإنس ثم الجن ثم الشياطين. [قال] (7) فقالت الشياطين : هذا هين ، أجْرِ الخيلَ ثم
خذ عرقها ، ثم املأ منه الآنية. قال : فأمر بالخيل (8) فأجريت ، ثم أخذ عرقها فملأ
منه الآنية. قال : وسألت عن لون الله عز وجل. قال : فوثب سليمان عن سريره ، فخر
ساجدًا ، فقال : يا رب ، لقد سألَتْني عن أمر إنه يتكايد (9) ، أي : يتعاظم في
قلبي أن أذكره لك. قال : ارجع فقد كَفَيتكهم ، قال : فرجع إلى سريره فقال : ما
سألت عنه ؟ قالت : ما سألتك إلا عن الماء. فقال لجنوده : ما سألت عنه ؟ فقالوا :
ما سألتك إلا عن الماء. قال : ونَسوه كلّهم. قال : وقالت الشياطين لسُلَيمان :
تُريدُ أن تتخذها لنفسك (10) ، فإن اتخذها لنفسه ثم ولد بينهما ولد ، لم ننفك من
عبوديته. قال : فجعلوا صرحًا ممردًا من قوارير ، فيه السمك. قال : فقيل لها :
__________
(1) في ف : "قال وتفقد الهدهد قال".
(2) في ف ، أ : "هذا الكتاب".
(3) في ف ، أ : "فقال".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) زيادة من ف.
(7) زيادة من ف.
(8) في ف : "أمر الخيل".
(9) في ف ، أ : "ليتكابر".
(10) في ف ، أ : "يريد أن يتخذها لنفسه".
(6/196)
ادخلي الصرح
فلما رأته حسبته لجة ، وكشفت عن ساقيها ، فإذا هي شَعْرَاء. فقال سليمان : هذا
قبيح ، ما يذهبه ؟ فقالوا : تذهبه (1) المواسي. فقال : أثر الموسى (2) قبيح! قال :
فجعلت الشياطين النورَة. قال : فهو أول من جُعلت له النورة.
ثم قال أبو بكر بن أبي شيبة : ما أحسنه من حديث.
قلت : بل هو منكر غريب جدًا ، ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس ، والله
أعلم. والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب ، مما يوجد في صحفهم
، كروايات كعب ووهب - سامحهما الله تعالى - فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني
إسرائيل ، من الأوابد (3) والغرائب والعجائب ، مما كان وما لم يكن ، ومما حرف وبدل
ونسخ. وقد أغنانا الله ، سبحانه ، عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ ، ولله
الحمد والمنة.
أصل الصرح في كلام العرب : هو القصر ، وكل بناء مرتفع ، قال الله ، سبحانه وتعالى
، إخبارًا عن فرعون - لعنه الله - أنه قال لوزيره هامان { ابْنِ لِي صَرْحًا
لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ
مُوسَى } الآية [غافر : 36 ، 37]. والصرح : قصر في اليمن عالي البناء ، والممرد أي
: المبنى بناء محكما أملس { مِنْ قَوَارِيرَ } أي : زجاج. وتمريد البناء تمليسه.
ومارد : حصن بدومة الجندل.
والغرض أن سليمان ، عليه السلام ، اتخذ قصرا عظيما منيفا من زجاج لهذه الملكة ؛
ليريها عظمة سلطانه وتمكنه ، فلما رأت ما آتاه الله ، تعالى ، وجلالة ما هو فيه ،
وتبصرت في أمره انقادت لأمر الله (4) وعَرَفت أنه نبي كريم ، وملك عظيم ، فأسلمت
لله ، عز وجل ، وقالت : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } أي : بما سلف من كفرها
وشركها وعبادتها وقومها الشمس (5) من دون الله ، { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : متابعة لدين سليمان في عبادته لله (6) وحده ،
لا شريك له ، الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا.
__________
(1) في ف ، أ : "يذهبه".
(2) في أ : "المواسي".
(3) في أ : "النوادر".
(4) في أ : "لأوامر الله".
(5) في ف : "للشمس".
(6) في ف : "في عبادة الله".
(6/197)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
{ وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا
هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ
بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ
عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) }
يخبر تعالى عن ثمود وما كان من أمرها مع نبيها صالح ، عليه السلام ، حين بعثه الله
إليهم ، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، { فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ
يَخْتَصِمُونَ } قال مجاهد : مؤمن وكافر - كقوله تعالى : { قَالَ الْمَلأ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ
أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا
أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي
آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [الأعراف : 75 ، 76].
(6/197)
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
{ قَالَ يَا
قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ } ، أي : لم تدعون
بحضور العذاب ، ولا تطلبون من الله رحمته ؟ ولهذا قال : { لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ
اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ }
أي : ما رأينا على وجهك ووجوه مَنْ اتبعك خيرا. وذلك أنهم - لشقائهم - كان لا يصيب
أحدًا منهم سوءٌ إلا قال : هذا من قبل صالح وأصحابه.
قال مجاهد : تشاءموا بهم. وهذا كما قال تعالى إخبارًا عن قوم فرعون : { فَإِذَا
جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ }
[الأعراف : 131]. وقال تعالى : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ
كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } [النساء : 78] أي : بقضاء الله وقدره (1). وقال
مخبرًا عن أهل القرية إذ جاءها المرسلون : { قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ
لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ
أَلِيمٌ. قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } [يس : 18 ، 19]. وقال هؤلاء : {
اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ } أي : الله
يجازيكم على ذلك { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } قال قتادة : تبتلون بالطاعة
والمعصية.
والظاهر أن المراد بقوله : { تُفْتَنُونَ } أي : تستدرجون فيما أنتم فيه من
الضلال.
{ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا
يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ
ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا
لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ
(50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ
وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ
آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) }.
يخبر تعالى عن طغاة ثمود ورؤوسهم ، الذين كانوا دعاة قومهم إلى الضلالة والكفر
وتكذيب صالح ، وآل بهم الحال إلى أنهم عقروا الناقة ، وهموا بقتل صالح أيضًا ، بأن
يبيتوه في أهله ليلا فيقتلوه غيْلَة ، ثم يقولوا لأوليائه من أقربيه : إنهم ما
علموا بشيء من أمره ، وإنهم لصادقون فيما أخبروهم به ، من أنهم لم يشاهدوا ذلك ،
فقال تعالى : { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ } أي : مدينة ثمود ، { تِسْعَةُ رَهْطٍ }
أي : تسعة نفر ، { يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ } وإنما غلب هؤلاء
على أمر ثمود ؛ لأنهم كانوا كبراء فيهم ورؤساءهم.
قال العَوْفي ، عن ابن عباس : هؤلاء هم الذين عقروا الناقة ، أي : الذي صدر ذلك عن
آرائهم ومشورتهم - قبحهم الله ولعنهم - وقد فعل ذلك.
وقال السُّدِّي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس : كان أسماء هؤلاء التسعة : دعمى ،
ودعيم ،
__________
(1) في ف ، أ : "بقدر الله وقضائه".
(6/198)
وهرما ،
وهريم ، وداب ، وصواب ، ورياب ، ومسطع ، وقدار بن سالف عاقر الناقة ، أي : الذي
باشر ذلك بيده. قال الله تعالى : { فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ }
[القمر : 29] ، وقال تعالى { إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا } [الشمس : 12].
وقال عبد الرزاق : أنبأنا يحيى بن ربيعة الصنعاني ، سمعت عطاء - هو ابن أبي رباح -
يقول : { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا
يُصْلِحُونَ } قال : كانوا يقرضون الدراهم (1) ، يعني : أنهم كانوا يأخذون منها ،
وكأنهم كانوا يتعاملون بها عددًا ، كما كان العرب يتعاملون.
وقال الإمام مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب أنه قال : قَطْع الذهب
والورق من الفساد في الأرض (2).
وفي الحديث - الذي رواه أبو داود وغيره - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى
عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس (3).
والغرض أن هؤلاء الكفرة الفسقة ، كان من صفاتهم الإفساد في الأرض بكل طريق يقدرون
عليها ، فمنها ما ذكره هؤلاء الأئمة وغير ذلك.
وقوله : { قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ } أي :
تحالفوا وتبايعوا على قتل نبي الله صالح ، عليه السلام ، من لقيه ليلا غيلة.
فكادهم الله ، وجعل الدائرة عليهم.
قال مجاهد : تقاسموا وتحالفوا (4) على هلاكه ، فلم يصلوا إليه حتى هلكوا وقومهم
أجمعين.
وقال قتادة : توافقوا على أن يأخذوه ليلا فيقتلوه ، وذكر لنا أنهم بينما هم
مَعَانيق إلى صالح ليفتكوا به ، إذ بعث الله عليهم صخرة فأهمدتهم.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : هم الذين عقروا الناقة ، قالوا حين عقروها : نُبَيِّت
صالحا [وأهله] (5) وقومه فنقتلهم ، ثم نقول لأولياء صالح : ما شهدنا من هذا شيئا ،
وما لنا به من علم. فدمرهم الله أجمعين.
وقال محمد بن إسحاق : قال هؤلاء التسعة بعدما عقروا الناقة : هَلُم فلنقتل صالحًا
، فإن كان صادقًا عجلناه قبلنا ، وإن كان كاذبًا كنا قد ألحقناه بناقته! فأتوه
ليلا ليبيِّتوه في أهله ، فدمغتهم الملائكة بالحجارة ، فلما أبطؤوا على أصحابهم ،
أتوا مَنزل صالح ، فوجدوهم منشدخين قد رضخوا بالحجارة ، فقالوا لصالح : أنت قتلتهم
، ثم هموا به ، فقامت عشيرته دونه ، ولبسوا السلاح ، وقالوا لهم : والله لا
تقتلونه أبدًا ، وقد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث ، فإن كان صادقًا فلا
تزيدوا ربكم عليكم غضبًا ، وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون. فانصرفوا عنهم
ليلتهم تلك.
__________
(1) تفسير عبد الرزاق (2/70).
(2) الموطأ (2/635).
(3) سنن أبي داود برقم (3449).
(4) في ف : "تحالفوا".
(5) زيادة من أ.
(6/199)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
وقال عبد
الرحمن بن أبي حاتم : لما عقروا الناقة وقال لهم صالح : { تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ
ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [هود : 65] ، قالوا : زعم
صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاثة أيام ، فنحن نفرغ منه وأهله قبل ثلاث. وكان لصالح
مسجد في الحجْر عند شعب هناك يصلي فيه ، فخرجوا إلى كهف ، أي : غار هناك ليلا
فقالوا : إذا جاء يصلي قتلناه (1) ، ثم رجعنا إذا فرغنا منه إلى أهله ، ففرغنا
منهم. فبعث الله صخرة من الهضَب حيالهم ، فخشوا أن تشدخهم فتبادروا (2) فانطبقت
عليهم الصخرة وهم في ذلك الغار ، فلا يدري قومهم أين هم ، ولا يدرون ما فعل
بقومهم. فعذب الله هؤلاء هاهنا ، وهؤلاء هاهنا ، وأنجى الله صالحًا ومن معه ، ثم
قرأ : { وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ
أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } أي : فارغة ليس فيها أحد { بِمَا
ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ
آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ }.
{ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ
تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ
النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) }
__________
(1) في ف ، أ : "فقلناه".
(2) في ف ، أ : "فبادروا".
(6/200)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
{ فَمَا
كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ
إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا
امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ
مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) }.
يخبر تعالى عن عبده لوط عليه السلام ، أنه أنذر قومه نقمة الله بهم ، في فعلهم
الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من بني آدم ، وهي إتيان الذكور دون الإناث ،
وذلك فاحشة عظيمة ، استغنى الرجال بالرجال ، والنساء بالنساء - قال (1) {
أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ } أي : يرى بعضكم بعضًا ، وتأتون
في ناديكم المنكر ؟
{ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ
أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } أي : لا تعرفون شيئًا لا طبعًا ولا شرعًا ، كما قال
في الآية الأخرى : { أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ
مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ }
[الشعراء : 165 ، 166].
{ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ
قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } أي : يتحرجون (2) من فعل ما
تفعلونه ، ومن إقراركم على صنيعكم ، فأخرجوهم من بين أظهركم فإنهم لا يصلحون
لمجاورتكم في بلادكم. فعزموا على ذلك ، فدمر الله عليهم وللكافرين أمثالها.
قال الله تعالى : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا
مِنَ الْغَابِرِينَ } أي : من الهالكين مع قومها ؛ لأنها كانت ردءًا لهم على دينهم
، وعلى طريقتهم في رضاها بأفعالهم القبيحة ، فكانت (3) تدل قومها على ضيفان لوط ،
ليأتوا إليهم ، لا أنها كانت تفعل الفواحش (4) تكرمة لنبي الله صلى الله عليه وسلم
(5) لا كرامة لها (6).
__________
(1) في ف : "فقال".
(2) في أ : "يخرجون".
(3) في ف : "وكانت".
(4) في أ : "الفاحشة".
(5) في ف : "صلوات الله عليه وسلامه".
(6) في أ : "بها".
(6/200)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
وقوله : {
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا } أي : حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما
هي من الظالمين ببعيد ؛ ولهذا قال : { فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ } أي : الذين
قامت عليهم الحجة ، ووصل إليهم الإنذار ، فخالفوا الرسول وكذبوه ، وَهمُّوا
بإخراجه من بينهم.
{ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ
خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ (59) أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ
وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ
بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ
هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) }.
يقول تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } أي :
على نعَمه على عباده ، من النعم التي لا تعد ولا تحصى ، وعلى ما اتصف به من الصفات
العُلى والأسماء الحسنى ، وأن يُسَلِّم على عباد الله الذين اصطفاهم واختارهم ،
وهم رسله وأنبياؤه الكرام ، عليهم من الله الصلاة والسلام ، هكذا قال عبد الرحمن
بن زيد بن أسلم ، وغيره : إن المراد بعباده الذين اصطفى : هم الأنبياء ، قال : وهو
كقوله تعالى : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ
عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الصافات : 180
- 182].
وقال الثوري ، والسدي : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، رضي [الله] (1) عنهم
أجمعين ، وروي نحوه عن ابن عباس.
ولا منافاة ، فإنهم إذا كانوا من عباد الله الذين اصطفى ، فالأنبياء بطريق الأولى
والأحرى ، والقصد أن الله تعالى أمر رسوله ومن اتبعه بعد ما ذكر لهم (2) ما فعل
بأوليائه من النجاة والنصر والتأييد ، وما أحل بأعدائه من الخزي والنكال والقهر ،
أن يحمدوه على جميع (3) أفعاله ، وأن يسلموا على عباده المصطفين الأخيار.
وقد قال أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عمارة بن صَبِيح ، حدثنا طَلْق بن غنام ،
حدثنا الحكم بن ظُهَيْر ، عن السدي - إن شاء الله - عن أبي مالك ، عن ابن عباس : {
وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى } قال : هم أصحاب محمد صلى الله عليه
وسلم اصطفاهم الله لنبيه ، رضي الله عنهم (4).
وقوله : { آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ } : استفهام إنكار على المشركين في
عبادتهم مع الله آلهة أخرى.
ثم شرع تعالى يبين (5) أنه المنفرد بالخلق والرزق والتدبير دون غيره ، فقال : {
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ } أي : تلك السموات بارتفاعها وصفائها ،
وما جعل فيها من الكواكب النيرة والنجوم الزاهرة والأفلاك الدائرة ، والأرض
باستفالها وكثافتها ، وما جعل فيها من الجبال والأوعار والسهول ، والفيافي والقفار
، والأشجار والزروع ، والثمار والبحور (6) والحيوان على اختلاف الأصناف والأشكال
والألوان وغير ذلك.
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف : "بعد ذكره لهم".
(3) في ف : "جميل".
(4) مسند البزار برقم (2243) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع
(7/87) : "وفيه الحكم بن ظهير ، وهو متروك".
(5) في ف : "شرع يبين تعالى".
(6) في ف : "والبحار".
(6/201)
وقوله : {
وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } أي : جعله رزقا للعباد ، { فَأَنْبَتْنَا
بِهِ حَدَائِقَ } أي : بساتين { ذَاتَ بَهْجَةٍ } أي : منظر حسن وشكل بهي ، { مَا
كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا } أي : لم تكونوا تقدرون على إنبات شجرها
، وإنما يقدر على ذلك الخالق الرازق ، المستقل بذلك المتفرد به ، دون ما سواه من
الأصنام والأنداد ، كما يعترف (1) به هؤلاء المشركون ، كما قال تعالى في الآية
الأخرى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [الزخرف
: 87] ، { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ
الأرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [العنكبوت : 63] أي : هم
معترفون بأنه الفاعل لجميع ذلك وحده لا شريك له ، ثم هم يعبدون معه غيره مما
يعترفون أنه لا يخلق ولا يرزق ، وإنما يستحق أن يُفرَدَ بالعبادة مَن هو المتفرد
بالخلق والرزق ؛ ولهذا قال : { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } أي : أإله مع الله يعبد.
وقد تبين لكم ، ولكل ذي لب مما يعرفون (2) به أيضًا أنه الخالق الرازق.
ومن المفسرين من يقول : معنى قوله : { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } [أي : أإله مع
الله] (3) فعل هذا. وهو يرجع إلى معنى الأول ؛ لأن تقدير الجواب أنهم يقولون : ليس
ثَمَّ أحدٌ فعل هذا معه ، بل هو المتفرد به. فيقال : فكيف تعبدون معه غيره وهو
المستقل المتفرد بالخلق والتدبير ؟ كما قال : { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا
يَخْلُقُ } [النحل : 17].
وقوله هاهنا : { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ } : { أمن } في هذه الآيات
[كلها] (4) تقديره : أمن يفعل هذه الأشياء كَمَنْ لا يقدر على شيء منها ؟ هذا معنى
السياق وإن لم يذكر الآخر ؛ لأن في قوة الكلام ما يرشد إلى ذلك ، وقد قال : { آلله
خير أما يشركون }.
ثم قال في آخر الآية : { بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } أي : يجعلون لله عدلا
ونظيرًا. وهكذا قال تعالى : { أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا
وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر : 9] أي : أمن
هو هكذا كَمَنْ ليس كذلك ؟ ولهذا قال : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ }
[الزمر : 9] ، { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ
مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ
فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } [الزمر : 22] ، وقال { أَفَمَنْ (5) هُوَ قَائِمٌ عَلَى
كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [الرعد : 33] أي : أمَنْ هو شهيد على أفعال الخلق ،
حركاتهم وسكناتهم ، يعلم الغيب جليله وحقيره ، كَمَنْ هو لا يعلم ولا يسمع ولا
يبصر من هذه الأصنام التي عبدوها ؟ ولهذا قال : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ
قُلْ سَمُّوهُمْ } [الرعد : 33] ، وهكذا هذه الآيات الكريمات كلها.
__________
(1) في ف : "كما يعرف".
(2) في ف ، أ : "يعترفون".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في جميع النسخ : "أمن" والصواب ما أثبتناه.
(6/202)
أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)
{ أَمْ مَنْ
جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ
وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ
لا يَعْلَمُونَ (61) }.
يقول : { أَمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا } أي : قارة ساكنة ثابتة ، لا تميد ولا
تتحرك بأهلها ولا ترجف بهم ، فإنها لو كانت كذلك لما طاب عليها العيش والحياة ، بل
جعلها من فضله ورحمته مهادًا بساطًا ثابتة لا تتزلزل ولا تتحرك ، كما قال في الآية
الأخرى : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً
} [غافر : 64].
{ وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا } أي : جعل فيها الأنهار العذبة الطيبة تشقها في
خلالها ، وصرفها فيها ما بين أنهار كبار وصغار وبين ذلك ، وسيرها شرقًا وغربًا
وجنوبًا وشمالا بحسب مصالح عباده في أقاليمهم وأقطارهم حيث ذرأهم في أرجاء الأرض ،
سَيَّرَ لهم (1) أرزاقهم بحسب ما يحتاجون إليه ، { وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ } أي
: جبالا شامخة ترسي الأرض وتثبتها ؛ لئلا تميد بكم { وَجَعَلَ بَيْنَ
الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا } أي : جعل بين المياه العذبة والمالحة (2) حاجزًا ، أي :
مانعًا يمنعها من الاختلاط ، لئلا يفسد هذا بهذا وهذا بهذا ، فإن الحكمة الإلهية
تقتضي بقاء كل منهما على صفته المقصودة منه ، فإن البحر الحلو هو هذه الأنهار
السارحة الجارية بين الناس. والمقصود منها : أن تكون عذبة زلالا تسقى الحيوان
والنبات والثمار منها. والبحار المالحة هي المحيطة بالأرجاء والأقطار من كل جانب ،
والمقصود منها : أن يكون ماؤها ملحًا أجاجًا ، لئلا يفسد الهواء بريحها ، كما قال
تعالى : { وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا
مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا } [الفرقان :
53] ؛ ولهذا قال : { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } أي : فعل هذا ؟ أو يعبد على (3)
القول الأول والآخر ؟ وكلاهما متلازم صحيح ، { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ }
أي : في عبادتهم غيره.
{ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ
خُلَفَاءَ الأرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ (62) }.
ينبه تعالى أنه هو المدعُوّ عند الشدائد ، المرجُوّ عند النوازل ، كما قال : {
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ }
[الإسراء : 67] ، وقال تعالى : { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ
تَجْأَرُونَ } [النحل : 53]. وهكذا قال هاهنا : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ
إِذَا دَعَاهُ } أي : مَنْ هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه ، والذي لا يكشف ضر
المضرورين سواه.
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا وُهَيْب ، حدثنا خالد الحَذّاء ، عن أبي
تميمة الهُجَيْمي ، عن رجل من بلهجيم قال : قلت : يا رسول الله ، إلام تدعو ؟ قال
: "أدعو إلى الله وحده ، الذي إن مَسّك ضر فدعوته كشف عنك ، والذي إن
أضْلَلْت بأرض قَفْر فدعوتَه رَدّ عليك ، والذي إن أصابتك سَنة فدعوتَه أنبتَ
لك". قال : قلت : أوصني. قال : "لا تَسُبَّنَّ أحدًا ، ولا تَزْهَدنّ في
المعروف ، ولو أن تلقى أخاك وأنت منبسط إليه وجهك ، ولو أن تُفرغَ من دَلوك في
إناء المستقي ،
__________
(1) في أ : "إليهم".
(2) في ف ، أ : "والملحة".
(3) في ف ، أ : "أو بعد هذا".
(6/203)
واتزر إلى
نصف الساق ، فإن أبيت فإلى الكعبين. وإياك وإسبال الإزار ، فإن إسبال الإزار من
المخيلة ، [وإن الله - تبارك تعالى - لا يحب المخيلة] (1) (2).
وقد رواه الإمام أحمد من وجه آخر ، فذكر اسم الصحابي فقال : حدثنا عفان ، حدثنا
حماد بن سلمة ، حدثنا يونس - هو ابن عبيد - حدثنا عبيدة الهُجَيْمي (3) عن أبي
تَميمَةَ الهُجَيْمي ، عن جابر بن سُلَيم الهُجَيمي قال : أتيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو مُحْتَبٍ بِشَمْلَة ، وقد وقع هُدْبها على قدميه ، فقلت : أيكم محمد
- أو : رسول الله ؟ - فأومأ بيده إلى نفسه ، فقلت : يا رسول الله ، أنا من أهل
البادية ، وفِيَّ جفاؤهم ، فأوصني. فقال : "لا تحقرَنّ من المعروف شيئا ، ولو
أن تلقى أخاك ووجهك مُنْبَسط ، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي ، وإن امرؤ
شَتَمك بما يعلم فيك فلا تشتمه بما تعلم فيه ، فإنه يكون لك أجره وعليه وزْرُه.
وإياك وإسبال الإزار ، فإن إسبال الإزار من المَخيلَة ، وإن الله لا يحب المخيلة ،
ولا تَسُبَّنّ أحدًا". قال : فما سببت بعده أحدًا ، ولا شاة ولا بعيرًا (4).
وقد روى أبو داود والنسائي لهذا الحديث طرقا ، وعندهما طرف صالح منه (5).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن هاشم (6) حدثنا عبدَةَ بن نوح ، عن
عمر بن الحجاج ، عن عبيد الله بن أبي صالح قال : دخل عليَّ طاوس يعودني ، فقلت (7)
له : ادع الله لي يا أبا عبد الرحمن. فقال : ادع لنفسك ، فإنه يجيب المضطر إذا
دعاه.
وقال وهب بن منبه : قرأت في الكتاب الأول : إن الله يقول : بعزتي إنه من اعتصم بي
فإن كادته السموات ومن (8) فيهن ، والأرض بمن فيها ، فإني (9) أجعل له من بين ذلك
مخرجًا. ومن لم يعتصم بي فإني (10) أخسف به من تحت قدميه الأرض ، فأجعله في الهواء
، فأكله إلى نفسه.
وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة رجل - حكى عنه أبو بكر محمد بن داود الدّينَوَري ،
المعروف بالدّقّيِّ الصوفي - قال هذا الرجل (11) : كنت أكاري على بغل لي من دمشق
إلى بلد الزّبَدَاني ، فركب معي ذات مرة رجل ، فمررنا على بعض الطريق ، على طريق
غير مسلوكة ، فقال لي : خذ في هذه ، فإنها أقرب. فقلت : لا خبرَةَ لي فيها ، فقال
: بل هي أقرب. فسلكناها فانتهينا إلى مكان وَعْر وواد عميق ، وفيه قتلى كثير ،
فقال لي : أمسك رأس البغل حتى أنزل. فنزل وتشمر ، وجمع عليه ثيابه ، وسل سكينا معه
وقصدني ، ففررت من بين يديه وتبعني ، فناشدته الله وقلت : خذ البغل بما عليه. فقال
: هو لي ، وإنما أريد قتلك. فخوفته الله والعقوبة فلم يقبل ، فاستسلمت بين يديه
وقلت : إن رأيت أن تتركني حتى أصلي ركعتين ؟ فقال : [صل] (12) وعجل. فقمت أصلي
فَأرْتِج
__________
(1) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(2) المسند (5/64).
(3) في هـ ، ف ، أ : "الهجيمي عن أبيه".
(4) المسند (5/63).
(5) سنن أبي داود برقم (4084) والنسائي في السنن الكبرى برقم (1049 - 1052).
(6) في أ : "هشام".
(7) في ف ، أ : "قال".
(8) في ف : "بمن".
(9) في ف : "أن" ، وفي أ : "أي".
(10) في ف : "فإنه".
(11) في ف : "بالرجل".
(12) زيادة من ف.
(6/204)
عليَّ
القرآن فلم يَحضرني منه حرف واحد ، فبقيت واقفًا متحيرًا وهو يقول : هيه. افرُغ.
فأجرى الله على لساني قوله تعالى : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ
وَيَكْشِفُ السُّوءَ } ، فإذا أنا بفارس قد أقبل من فم الوادي ، وبيده حربة ، فرمى
بها الرجل فما أخطأت فؤاده ، فخر صريعًا ، فتعلقت بالفارس وقلت : بالله مَنْ أنت ؟
فقال : أنا رسول[الله] (1) الذي يجيب المضطر إذا دعاه ، ويكشف السوء. قال : فأخذت
البغل والحمل ورجعت سالما.
وذكر في ترجمة "فاطمة بنت الحسن أم أحمد العجلية" قالت : هزم الكفار
يوما المسلمين في غزاة ، فوقف جَوَاد جَيّد بصاحبه ، وكان من ذوي اليسار ومن
الصلحاء ، فقال للجواد : ما لك ؟ ويلك. إنما كنت أعدّك لمثل هذا اليوم. فقال له
الجواد : وما لي لا أقصّر وأنت تَكلُ علوفتي إلى السّواس فيظلمونني ولا يطعمونني
(2) إلا القليل ؟ فقال : لك عليَّ عهد الله أني لا أعلفك بعد هذا اليوم إلا في
حِجْري. فجرى الجواد عند ذلك ، ونجَّى صاحبه ، وكان لا يعلفه بعد ذلك إلا في
حِجْره ، واشتهر أمره بين الناس ، وجعلوا يقصدونه ليسمعوا منه ذلك ، وبلغ ملك
الروم أمرُه ، فقال : ما تُضَام (3) بلدة يكون هذا الرجل فيها. واحتال ليحصّله في
بلده ، فبعث إليه رجلا من المرتدين عنده ، فلما انتهى إليه أظهر له أنه قد حَسُنت
نيته في الإسلام وقومه ، حتى استوثق ، ثم خرجا يوما يمشيان على جنب الساحل ، وقد
واعد شخصا آخر من جهة ملك الروم ليتساعدا على أسره ، فلما اكتنفاه ليأخذاه رَفَع
طرفه إلى السماء وقال : اللهم ، إنه إنما خَدَعني بك فاكفنيهما بما شئت ، قال :
فخرج سبعان إليهما فأخذاهما ، ورجع الرجل سالما (4).
وقوله تعالى : { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ } أي : يُخْلفُ قَرنا لقرن
قبلهم وخَلَفًا لسلف ، كما قال تعالى : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ
مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ
} [الأنعام : 133] ، وقال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ
وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } [الأنعام : 165] ، وقال تعالى : {
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً }
[البقرة : 30] ، أي : قومًا يخلف بعضهم بعضا كما قدمنا تقريره. وهكذا هذه الآية :
{ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ } أي : أمة بعد أمة ، وجيلا بعد جيل ، وقومًا
بعد قوم. ولو شاء لأوجدهم كلهم في وقت واحد ، ولم يجعل بعضَهم من ذرية بعض ، بل لو
شاء لخلقهم (5) كلهم أجمعين ، كما خلق آدم من تراب. ولو شاء أن يجعلهم بعضهم من
ذرية بعض (6) ولكن لا يميت أحدا حتى تكون وفاة الجميع في وقت واحد ، فكانت تضيق عليهم
الأرض (7) وتضيق عليهم معايشهم وأكسابهم ، ويتضرر بعضهم ببعض. ولكن اقتضت حكمته
وقدرته أن يخلقهم من نفس واحدة ، ثم يكثرهم غاية الكثرة ، ويذرأهم في الأرض ،
ويجعلهم قرونا بعد قرون ، وأمما بعد أمم ، حتى ينقضي الأجل وتفرغ البَرية ، كما
قدر ذلك تبارك وتعالى ، وكما أحصاهم وعَدّهم عَدًا ، ثم يقيم (8) القيامة ، ويُوفي
كلّ عامل عمله إذا بلغ الكتاب
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف ، أ : "فيظلموني ولا يطعموني".
(3) في ف ، أ : "ما نظام".
(4) تاريخ دمشق (19/489 "المخطوط").
(5) في أ : "لجعلهم".
(6) في ف ، أ : "من ذرية بعضهم بعضا".
(7) في ف : "تضيق الأرض عليهم".
(8) في ف : "يوم".
(6/205)
أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
أجله ؛
ولهذا قال تعالى : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ
السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } أي : يقدر على
ذلك ، أو إله مع الله يُعْبد ، وقد علم أن الله هو المتفرد بفعل ذلك { قَلِيلا مَا
تَذَكَّرُونَ } (1) أي : ما أقل تذكرهم فيما يرشدهم إلى الحق ، ويهديهم إلى الصراط
المستقيم.
{ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ
الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى
اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) }.
يقول : { أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } أي : بما خلق
من الدلائل السماوية والأرضية ، كما قال : { وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ
يَهْتَدُونَ } [النحل : 16] ، وقال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } الآية
[الأنعام : 97].
{ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } أي : بين يدي
السحاب الذي فيه مطر ، يغيث به عباده المجدبين الأزلين القنطين ، { أَإِلَهٌ مَعَ
اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }.
__________
(1) في ف ، أ : "ما تذكرون".
(6/206)
أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
{ أَمَّنْ
مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ
وَالأرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (64) }.
أي : هو الذي بقدرته وسلطانه يبدأ (1) الخلق ثم يعيده ، كما قال تعالى في الآية
الأخرى : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ }
[البروج : 12 ، 13] ، وقال { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ
وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم : 27].
{ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } أي : بما ينزل من مطر السماء ،
وينبت من بركات الأرض ، كما قال : { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ. وَالأرْضِ
ذَاتِ الصَّدْعِ } [الطارق : 11 ، 12] ، وقال { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ
وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا }
[الحديد : 4] ، فهو ، تبارك وتعالى ، ينزل من السماء ماء مباركًا فيسكنه في الأرض
، ثم يخرج به [منها] (2) أنواع الزروع والثمار والأزاهير ، وغير ذلك من ألوان شتى
، { كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى }
[طه : 54] ؛ ولهذا قال : { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } أي : فعل هذا. وعلى القول
الآخر : يعبد ؟ { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ } على صحة ما تدعونه (3) من عبادة
آلهة أخرى ، { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } في ذلك ، وقد علم أنه لا حجة لهم ولا
برهان ، كما قال [الله] : (4) { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ
لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ
} [المؤمنون : 117].
__________
(1) في ف ، أ : "بدأ".
(2) زيادة من ف.
(3) في أ : "من يدعونه".
(4) زيادة من أ.
(6/206)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
{ قُلْ لا
يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ
أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي
شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) }.
يقول تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول معلمًا لجميع الخلق : أنه لا
يعلم أحد من أهل السموات والأرض الغيب. وقوله : { إِلا اللَّهَ } استثناء منقطع ،
أي : لا يعلم أحد ذلك إلا الله ، عز وجل ، فإنه المنفرد بذلك وحده ، لا شريك له ،
كما قال : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ } الآية
[الأنعام : 59] ، وقال : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ
الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ
غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
} [لقمان : 34] ، والآيات في هذا كثيرة.
وقوله : { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } أي : وما يشعر الخلائق
الساكنون في السموات والأرض بوقت الساعة ، كما قال : { ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ
وَالأرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً } [الأعراف : 187] ، أي : ثقل علمها على
أهل السموات والأرض.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن الجَعْد ، حدثنا أبو جعفر الرازي ،
عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت :
مَنْ زعم أنه يعلم - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - ما يكون في غد فقد أعظم على
الله الفِرْية ؛ لأن الله تعالى يقول : { لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ
الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ } (1).
وقال قتادة : إنما جعل الله هذه النجوم لثلاث خصلات (2) : جعلها زينة للسماء ،
وجعلها يهتدى بها ، وجعلها رجومًا [للشياطين] (3) ، فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد
قال برأيه ، وأخطأ حظه ، وأضاع نصيبه وتكلَّف ما لا علم له به. وإن ناسًا جَهَلَة
بأمر الله ، قد (4) أحدثوا من هذه النجوم كهانة : من أعْرَس بنجم كذا وكذا ، كان
كذا وكذا. ومَنْ سافر بنجم كذا وكذا ، كان كذا وكذا. ومَنْ ولد بنجم كذا وكذا ،
كان كذا وكذا. ولعمري ما من نجم إلا يولد به الأحمر والأسود ، والقصير والطويل ،
والحسن والدميم ، وما علْمُ هذا النجم وهذه الدابة وهذا الطير بشيء من الغيب! وقضى
الله : أنه لا يعلم مَنْ في السموات والأرض الغيب إلا الله ، وما يشعرون أيان
يبعثون.
رواه ابن أبي حاتم عنه بحروفه ، وهو كلام جليل متين صحيح.
وقوله : { بَلِ ادَّارَكَ (5) عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ
مِنْهَا } أي : انتهى علمهم وعجز عن معرفة وقتها.
وقرأ آخرون : "بل أدرك (6) علمهم" ، أي : تساوى علمهم في ذلك ، كما في
الصحيح لمسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل - وقد سأله عن وقت
الساعة - ما المسؤول عنها بأعلم من السائل (7) أي : تساوى في العجز عن دَرْك ذلك
علم المسؤول والسائل.
__________
(1) أصله في الصحيحين لكن فيهما الشاهد قوله تعالى : (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا)
بدل هذه الآية : (قل لا يعلم من في السموات).
(2) في ف ، أ : "خصال".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في ف ، أ : "فقد".
(5) في أ : "أدرك".
(6) في أ : "ادارك".
(7) صحيح مسلم برقم (8).
(6/207)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)
قال علي بن
أبي طلحة ، عن ابن عباس : { بَلِ ادَّرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَة } أي : غاب.
وقال قتادة : { بَلِ ادَّارَكَ (1) عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ } يعني : يُجَهِّلهم
(2) ربهم ، يقول : لم ينفذ (3) لهم إلى الآخرة علم ، هذا قول.
وقال ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : "بل أدرك علمهم في
الآخرة" حين لم ينفع العلم ، وبه قال عطاء الخراساني ، والسدي : أن علمهم
إنما يُدرك ويكمل يوم القيامة حيث لا ينفعهم ذلك ، كما قال تعالى : { أَسْمِعْ
بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ } [مريم : 38].
وقال سفيان ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن أنه كان يقرأ : "بل أدرك
علمهم" قال : اضمحل علمهم في الدنيا ، حين عاينوا الآخرة.
وقوله : { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا } عائد على الجنس ، والمراد الكافرون ، كما
قال تعالى : { وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا
خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا
} [الكهف : 48] أي : الكافرون منكم. (4) وهكذا قال هاهنا : { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ
مِنْهَا } أي : شاكُّون في وجودها ووقوعها ، { بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ } أي :
في عمَاية وجهل كبير في أمرها وشأنها.
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا
لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ
هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ
فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) }.
يقول تعالى مخبرًا عن منكري البعث من المشركين : أنهم استبعدوا إعادة الأجساد بعد
صيرورتها عظامًا ورفاتًا وترابًا ، ثم قال : { لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ
وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ } أي : ما زلنا نسمع بهذا نحن وآباؤنا ، ولا نرى له حقيقة
ولا وقوعًا.
وقولهم : { إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } : يعنون : ما هذا الوعد
بإعادة الأبدان ، { إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } أي : أخذه (5) قوم عَمَّن قبلهم
، مَنْ قبلهم (6) يتلقاه بعض عن بعض ، وليس له حقيقة.
قال الله تعالى مجيبًا لهم عما ظنوه من الكفر وعدم المعاد : { قُلْ } - يا محمد -
لهؤلاء : { سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُجْرِمِينَ } أي : المكذِّبين بالرسل وما جاءوهم به من أمر المعاد وغيره ، كيف
حلت بهم نقَمُ الله وعذابه ونكاله ، ونجَّى الله من بينهم رسله الكرام وَمَنْ
اتبعهم من المؤمنين ، فدل ذلك على صدق ما جاءت به الرسل وصحته.
ثم قال تعالى مسليًا لنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه : { وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ
} أي : المكذبين بما جئت به ، ولا تأسف عليهم وتذهب نفسك عليهم حسرات ، { وَلا
تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } أي :
__________
(1) في أ : "أدرك".
(2) في أ : "بجهلهم".
(3) في ف : "يتقدم".
(4) في ف ، أ : "منهم".
(5) في ف : "يأخذه" وفي أ : "أخذ".
(6) في أ : "كتبهم".
(6/208)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)
في كيدك
ورَدّ ما جئت به ، فإن الله مؤيدك وناصرك ، ومظهرٌ دينك على مَنْ خالفه وعانده في
المشارق والمغارب.
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى
أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ
لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ
رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ
فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) }
يقول تعالى مخبرًا عن المشركين ، في سؤالهم عن يوم القيامة واستبعادهم وقوع ذلك :
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قال الله مجيبًا
لهم : { قُلْ } يا محمد { عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي
تَسْتَعْجِلُونَ }. [قال ابن عباس أن يكون قرب - أو : أن يقرب - لكم بعض الذي
تستعجلون] (1). وهكذا (2) قال مجاهد ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، وقتادة ،
والسدي.
وهذا هو المراد بقوله تعالى : { وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ
قَرِيبًا } [الإسراء : 51] ، وقال تعالى { يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ
جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } [العنكبوت : 54].
وإنما دخلت "اللام" في قوله : { رَدِفَ لَكُمْ } ؛ لأنه ضُمن معنى
"عَجِل لكم" كما قال مجاهد في رواية عنه : { عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ
لَكُمْ } : عجل لكم.
ثم قال الله تعالى : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } أي : في
إسباغه نعمَه عليهم مع ظلمهم لأنفسهم ، وهم مع ذلك لا يشكرونه على ذلك إلا القليل
منهم ، { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ }
أي : يعلم السرائر والضمائر ، كما يعلم الظواهر ، { سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ
الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ } [الرعد : 10] ، { يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى }
[طه : 7] ، { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا
يُعْلِنُونَ } [هود : 5].
ثم أخبر تعالى بأنه عالم غيب السموات والأرض ، وأنه عالم الغيب والشهادة - وهو ما
غاب عن العباد وما شاهدوه - فقال : { وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ
وَالأرْضِ } قال ابن عباس : يعني : وما من شيء ، { فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِلا
فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } وهذا كقوله تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ
عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [الحج : 70].
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف : "وعنده".
(6/209)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)
{ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) }
(6/210)
وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)
{ وَإِنَّهُ
لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ
بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ
عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ
الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي
الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ
مُسْلِمُونَ (81) }.
يقول تعالى مخبرًا عن كتابه العزيز ، وما اشتمل عليه من الهدى والبينات والفرقان
(1) : إنه يقص على بني إسرائيل - وهم حملة التوراة والإنجيل - { أَكْثَرَ الَّذِي
هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } ، كاختلافهم في عيسى وتباينهم فيه ، فاليهود افتروا ،
والنصارى غَلَوا ، فجاء [إليهم] (2) القرآن بالقول الوسط الحق العدل : أنه عبد من
عباد الله وأنبيائه ورسله الكرام ، عليه [أفضل] (3) الصلاة والسلام ، كما قال
تعالى : { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ
يَمْتَرُونَ } [مريم : 34].
وقوله : { وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } أي : هدى لقلوب
المؤمنين ، ورحمة لهم في العمليات.
ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ } أي : يوم القيامة ، { بِحُكْمِهِ
وَهُوَ الْعَزِيزُ } في انتقامه ، { الْعَلِيمُ } بأفعال عباده وأقوالهم.
{ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } أي : في أمورك ، وبَلّغ رسالة ربك ، { إِنَّكَ
عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ } أي : أنت على الحق المبين وإن خالفك مَنْ خالفك ،
مِمَّنْ كتبت (4) عليه الشقاوة وحَقَّت عليهم كلمة ربك أنهم لا يؤمنون ، ولو
جاءتهم كل آية ؛ ولهذا قال : { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } أي : لا تسمعهم
شيئًا ينفعهم ، فكذلك هؤلاء على قلوبهم غشاوة ، وفي آذانهم وَقْر الكفر ؛ ولهذا
قال : { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا
وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ
تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ } [أي] (5) : إنما
يستجيب لك مَنْ هو سميع بصير ، السمع والبصر النافعُ في القلب والبصيرة الخاضع لله
، ولما جاء عنه على ألسنة الرسل ، عليهم السلام.
{ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ
تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ (82) }.
هذه الدابة تخرج في آخر الزمان عند فساد الناس وتَرْكِهم أوامر الله وتبديلهم
الدين الحق ، يخرج الله لهم دابة من الأرض - قيل : من مكة. وقيل : من غيرها. كما
سيأتي تفصيله - فَتُكَلِّم الناس على ذلك.
قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة - ورُوي عن علي رضي الله عنه - : تكلمهم كلاما أي
: تخاطبهم مخاطبة.
وقال عطاء الخراساني : تكلمهم فتقول لهم : إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون.
ويروى هذا عن علي ، واختاره ابن جرير. وفي هذا [القول] (6) نظر لا يخفى ، والله
أعلم.
__________
(1) في ف : "والبيان".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في ف ، أ : "كتب".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) زيادة من ف ، أ.
(6/210)
وقال ابن
عباس - في رواية - تجرحهم. وعنه رواية ، قال : كلا (1) تفعل يعني هذا وهذا ، وهو
قولٌ حسن ، ولا منافاة ، والله أعلم.
وقد ورد في ذكر الدابة أحاديث وآثار كثيرة ، فلنذكر ما تيسر منها ، والله المستعان
:
قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن فُرَات ، عن أبي الطفيل ، عن حُذَيفة بن أسيد
الغفاري قال : أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر أمر
الساعة فقال : لا تقوم الساعة حتى تَرَوا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها ،
والدخان ، والدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، وخروج عيسى بن مريم ، والدجال ، وثلاثة
خسوف : خسف بالمغرب ، وخسف بالمشرق ، وخسف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قَعر عدن
تسوق - أو : تحشر - الناس ، تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيل معهم حيث قالوا"
(2).
وهكذا رواه مسلم وأهل السنن ، من طرق ، عن فُرَات القزاز ، عن أبي الطفيل عامر بن
واثلة ، عن حُذَيفة موقوفا (3). وقال الترمذي : حسن صحيح (4). ورواه مسلم أيضًا من
حديث عبد العزيز بن رُفَيْع ، عن أبي الطفيل ، عنه مرفوعًا (5) (6). والله أعلم.
طريق أخرى : قال أبو داود الطيالسي ، عن طلحة بن عمرو ، وجرير بن حازم ، فأما طلحة
فقال : أخبرني عبد الله بن عبيد الله بن عمَير الليثي : أن أبا الطفيل حدثه ، عن
حذَيفة بن أسيد الغفاري أبي سَريحَةَ ، وأما جرير فقال : عن عبد الله بن عُبيد ،
عن رجل من آل عبد الله بن مسعود - وحديث طلحة أتم وأحسن - قال : ذَكَرَ رسولُ الله
صلى الله عليه وسلم الدابة فقال : "لها ثلاث خرجات من الدهر ، فتخرج خَرجة من
أقصى البادية ، ولا يدخل ذكرها القرية - يعني : مكة - ثم تكمن زمانًا طويلا ثم
تخرج خَرْجة أخرى دون تلك ، فيعلو ذكرها في أهل البادية ، ويدخل ذكرها
القرية" يعني : مكة. - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثم بينما
الناس في أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها : المسجد الحرام ، لم يَرُعْهم إلا
وهي تَرْغو (7) بين الركن والمقام ، تنفض عن رأسها التراب. فارفض الناس عنها شتَّى
ومعًا ، وبقيت عصابة من المؤمنين ، وعرفوا أنهم لم يعجزوا الله ، فبدأت بهم فجَلَت
وجوههم حتى جعلتها كأنها الكوكب الدرّي ، وولت في الأرض لا يدركها طالب ، ولا ينجو
منها هارب ، حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة ، فتأتيه من خلفه فتقول : يا فلان ،
الآن تصلي ؟
__________
(1) في ف : "كل".
(2) رواه الإمام أحمد في المسند (4/6) ولكن باختلاف في الألفاظ ، وهذا اللفظ هو
سياق حديث ابن مهدي عن سفيان وهو في المسند (4/7).
(3) في ف ، أ : "به مرفوعا".
(4) صحيح مسلم برقم (2901) وسنن أبي داود برقم (4311) وسنن الترمذي برقم (2183)
وسنن ابن ماجه برقم (4041).
(5) في ف ، أ : "موقوفا".
(6) صحيح مسلم برقم (2901).
(7) في أ : "تربو".
(6/211)
فيقبل عليها
فَتَسِمُهُ (1) في وجهه ، ثم تنطلق ويشترك الناس في الأموال ، ويصطحبون في الأمصار
، يعرف المؤمن من الكافر ، حتى إن المؤمن ليقول : يا كافر ، اقضني حقي. وحتى إن الكافر
ليقول : يا مؤمن ، اقضني حقي" (2).
ورواه ابن جرير من طريقين ، عن حذيفة بن أُسَيْد موقوفًا (3) فالله أعلم. ورواه من
رواية حذيفة بن اليمان مرفوعًا ، وأن ذلك في زمان عيسى بن مريم ، وهو يطوف بالبيت
، ولكن إسناده لا يصح (4).
حديث آخر : قال مسلم بن الحجاج : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن بشر ،
عن أبي حَيَّان ، عن أبي زُرْعَة ، عن عبد الله بن عمرو قال : حَفظْتُ من رسول
الله صلى الله عليه وسلم حديثًا لم أنسه (5) بعد : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول : "إن أول الآيات خروجًا طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة على
الناس ضُحى ، وأيتهما ما كانت قبل صاحبتها ، فالأخرى (6) على أثرها قريبًا"
(7).
حديث آخر : روى مسلم في صحيحه من حديث العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب - مولى
الحُرَقَة - عن أبيه : عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : "بادروا بالأعمال ستا (8) : طلوع الشمس من مغربها ، أو الدخان ،
أو الدجال ، أو الدابة ، أو خاصة أحدكم ، أو أمر العامة" (9). وله من حديث
قتادة ، عن الحسن ، عن زياد بن رباح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : "بادروا بالأعمال ستا : الدجال ، والدخان ، ودابة الأرض
، وطلوع الشمس من مغربها ، وأمر العامة وخُويّصة أحدكم" (10).
حديث آخر : قال ابن ماجه : حدثنا حَرْمَلَة بن يحيى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني
عَمْرُو بن الحارث وابن لَهِيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن سِنَان بن سعد ، عن أنس
بن مالك ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "بادروا
بالأعمال ستًا : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، ودابة الأرض ، والدجال ،
وخُوَيّصة أحدكم ، وأمر العامة". تفرد به (11).
حديث آخر : قال أبو داود الطيالسي أيضا : حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن
أوس (12) بن خالد ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "تخرج دابة الأرض ، ومعها عصا موسى وخاتم سليمان ، عليهما السلام
، فتخطم أنف الكافر بالعصا ، وتُجلي وجه المؤمن
__________
(1) في أ : "فتشمه".
(2) مسند الطيالسي برقم (1069).
(3) تفسير الطبري (20/10).
(4) تفسير الطبري (20/11).
(5) في ف : "لم أنساه".
(6) في ف : "والأخرى".
(7) صحيح مسلم برقم (2941).
(8) في ف ، أ : "ستة".
(9) صحيح مسلم برقم (2947).
(10) صحيح مسلم برقم (2947).
(11) سنن ابن ماجه برقم (4056) وقال البوصيري في الزوائد (3/256) : "هذا
إسناد حسن ، سنان بن سعد مختلف فيه وفي اسمه".
(12) في هـ ، ف ، أ : "أويس". والمثبت من المسند.
(6/212)
بالخاتم ،
حتى يجتمع الناس على الخوان يعرف المؤمن من الكافر".
ورواه الإمام أحمد ، عن بَهْز وعفان ويزيد بن هارون ، ثلاثتهم عن حماد بن سلمة ،
به (1). وقال : "فتخطم أنف الكافر بالخاتم ، وتجلو وجه المؤمن بالعصا ، حتى
إن أهل الخوان الواحد ليجتمعون فيقول هذا : يا مؤمن ، ويقول هذا : يا كافر".
ورواه ابن ماجه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يونس بن محمد المؤدب ، عن حماد بن
سلمة ، به (2).
حديث آخر : قال ابن ماجه : حدثنا أبو غسان محمد بن عمرو ، حدثنا أبو تُمَيْلة ،
حدثنا خالد بن عُبَيْد ، حدثنا عبد الله بن بُرَيدة ، عن أبيه قال : ذهب بي رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع بالبادية ، قريب من مكة ، فإذا أرض يابسة حولها
رمل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تخرج الدابة من هذا الموضع. فإذا
فِتْر في شبر".
قال ابن بُرَيدة : فحججت بعد ذلك بسنين ، فأرانا عصًا له ، فإذا هو بعَصاي هذه (3)
، كذا وكذا (4).
وقال عبد الرزاق عن مَعْمَر ، عن قتادة ؛ أن ابن عباس قال : هي دابةٌ ذات زَغَب ،
لها أربع قوائم ، تخرج من بعض أودية تهامة (5).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن رَجَاء ، حدثنا فضيل بن مرزوق
، عن عطية قال : قال عبد الله : تخرج الدابة من صِدْع من الصفا كجَرْي الفرس ثلاثة
أيام ، لم يخرج ثلثها.
وقال محمد بن إسحاق ، عن أبان بن صالح قال : سئل عبد الله بن عمرو عن الدابة ،
فقال : الدابة تخرج من تحت صخرة بجياد ، والله لو كنت معهم - أو لو شئت بعصاي
الصخرة التي تخرج الدابة من تحتها. قيل : فتصنعُ ماذا يا عبد الله بن عمرو ؟ قال :
تستقبل المشرق فتصرخ صرخة تنفُذُه ، ثم تستقبل الشام فتصرخ (6) صرخة تنفذه ، ثم
تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه ، ثم تستقبل اليمن فتصرخ صرخة تنفذه ، ثم تروح من
مكة فتصبح (7) بعسفان. قيل : ثم ماذا ؟ قال : لا أعلم.
وعن عبد الله بن عمر ، أنه قال : تخرج الدابة ليلة جَمْع (8). ورواه ابن أبي حاتم.
وفي
__________
(1) مسند الطيالسي برقم (2564) والمسند (2/295) من حديث عفان ويزيد ، و(2/291) من
حديث بهز.
(2) سنن ابن ماجه برقم (4066).
(3) في ف ، أ : "هذا".
(4) سنن ابن ماجه برقم (4067) وقال البوصيري في الزوائد (3/259) : "هذا إسناد
ضعيف".
(5) تفسير عبد الرزاق (2/71).
(6) في أ : "ثم تصرخ".
(7) في أ : "فتضع".
(8) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (15/180) من طريق عبد الملك بن المغيرة ، عن ابن
البيلمان ، عن ابن عمر قال : "تخرج الدابة ليلة جمع والناس يسيرون إلى منى
فتحملهم بين عجزها وذنبها فلا يبقى منافق إلا خطمته ، قال : وتمسح المؤمن ، قال :
فيصبحون وهم أشر من الدجال".
(6/213)
إسناده ابن
البيلمان (1).
وعن وهب بن منبه : أنه حكى من كلام عُزَير ، عليه السلام ، أنه قال : وتخرج من تحت
سدوم دابة تكلم الناس كل يسمعها ، وتضع الحبالى قبل التمام ، ويعود الماء العذب
أجاجًا ، ويتعادى الأخلاء ، وتُحرَقُ الحكمة ، ويُرفَعُ العلم ، وتكلم الأرض التي
تليها. وفي ذلك الزمان يرجو الناس ما لا يبلغون ، ويتعبون فيما لا ينالون ،
ويعملون فيما لا يأكلون. رواه ابن أبي حاتم ، عنه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح - كاتب الليث - حدثني معاوية بن
صالح ، عن أبي مريم : أنه سمع أبا هريرة ، رضي الله عنه ، يقول : إن الدابة فيها
من كل لون ، ما بين قرنيها فرسخ (2) للراكب.
وقال ابن عباس : هي مثل الحربة الضخمة.
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، أنه قال : إنها دابة لها ريش
وزغب وحافر ، وما لها ذنب ، ولها لحية ، وإنها لتخرج حُضْر الفرس الجواد ثلاثا ،
وما خرج ثلثها (3). ورواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جُرَيْج ، عن ابن الزبير أنه وصف الدابة فقال : رأسها رأس ثور ، وعينها
عين خنزير ، وأذنها أذن فيل ، وقرنها قرن أيَّل ، وعنقها عنق نعامة ، وصدرها صدر
أسد ، ولونها لون نَمر ، وخاصرتها خاصرة هِرّ ، وذنبها ذنب كبش ، وقوائمها قوائم
بعير ، بين كل مفصلين اثنا [عشر] (4) ذراعًا ، تخرج معها عصا موسى ، وخاتم سليمان
، فلا يبقى مؤمن إلا نَكتَت في وجهه بعصا موسى نكتة بيضاء ، فتفشو تلك النكتة حتى
يبيضّ لها وجهه ، ولا يبقى كافر إلا نَكَتت في وجهه نكتة سوداء بخاتم سليمان ،
فتفشو تلك النكتة حتى يسود لها وجهه ، حتى إن الناس يتبايعون في الأسواق : بكم ذا
يا مؤمن ، بكم ذا يا كافر ؟ وحتى إنّ أهل البيت يجلسون على مائدتهم ، فيعرفون
مؤمنهم من كافرهم ، ثم تقول لهم الدابة : يا فلان ، أبشر ، أنت من أهل الجنة ، ويا
فلان ، أنت من أهل النار. فذلك قول الله تعالى : { وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ
عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ
النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ } (5).
__________
(1) في ف : "البيلماني".
(2) في أ : "فرح".
(3) في ف ، أ : "ثلثاها".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) وهذا من الإسرائيليات مما لا فائدة من ذكره ، وأوصاف الدابة لا يعلمها إلا
الله سبحانه وتعالى.
(6/214)
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآَيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
{ وَيَوْمَ
نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ
يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ
تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ
الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي
ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) }.
يقول تعالى مخبرًا عن يوم القيامة ، وحشر الظالمين المكذبين (1) بآيات الله ورسله
إلى بين يدي الله ، عز وجل ، ليسألهم عما فعلوه في الدار الدنيا ، تقريعًا
وتوبيخًا ، وتصغيرًا وتحقيرًا فقال : { وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ
فَوْجًا } أي : من كل قوم وقرن (2) فوجًا ، أي : جماعة ، { مِمَّنْ يُكَذِّبُ
بِآيَاتِنَا } ، كما قال تعالى : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ
} [الصافات : 22] ، وقال تعالى { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } [التكوير : 7].
وقوله : { فَهُمْ يُوزَعُونَ } قال ابن عباس ، رضي الله عنهما : يدفعون. وقال
قتادة : وَزَعَةٌ ترد (3) أولهم على آخرهم. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم :
يساقون.
{ حَتَّى إِذَا جَاءُوا } أي : أوقفوا بين يدي الله عز وجل ، في مقام المساءلة ، {
قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ } أي : ويسألون (4) عن اعتقادهم ، وأعمالهم فلما لم يكونوا من أهل
السعادة ، وكانوا كما قال الله تعالى عنهم : { فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى. وَلَكِنْ
كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [القيامة : 31 ، 32] ، فحينئذ قامت عليهم الحجة ، ولم يكن
لهم عذر يعتذرون به ، كما قال تعالى : { هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا
يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } [المرسلات
: 35 ، 37] ، وهكذا قال هاهنا : { وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا
فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ } أي : بهتوا فلم يكن لهم جواب ؛ لأنهم كانوا في الدار
الدنيا ظلمة لأنفسهم ، وقد ردوا إلى عالم الغيب والشهادة الذي لا تخفى (5) عليه
خافية.
ثم قال تعالى منبهًا على قدرته التامة ، وسلطانه العظيم ، وشأنه الرفيع الذي تجب
طاعته والانقياد لأوامره ، وتصديق أنبيائه فيما جاءوا به من الحق الذي لا مَحيد
عنه ، فقال { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ } أي
: فيه ظلام تسكن (6) بسببه حركاتهم ، وتهدأ أنفاسهم ، ويستريحون من نَصَب التعب في
نهارهم. { وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا } أي : منيرًا مشرقًا ، فبسبب ذلك يتصرفون في المعايش
والمكاسب ، والأسفار والتجارات ، وغير ذلك من شؤونهم التي يحتاجون إليها ، { إِنَّ
فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }.
__________
(1) في ف ، أ : "الظالمين مع المكذبين".
(2) في ف : "قرن وقوم".
(3) في ف ، أ : "يرد".
(4) في ف : "فيسألون".
(5) في ف : "لا يخفى".
(6) في ف : "يسكن".
(6/215)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)
{ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) }
(6/216)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
{ مَنْ
جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ
آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ
هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) }.
يخبر تعالى عن هول يوم نفخة الفَزَع في الصُّور ، وهو كما جاء في الحديث :
"قرن ينفخ فيه". وفي حديث(الصُّور) أن إسرافيل هو الذي ينفخ فيه بأمر
الله تعالى ، فينفخ فيه أولا نفخة الفزع ويطولها ، وذلك في آخر عمر الدنيا ، حين
تقوم الساعة على شرار الناس من الأحياء ، فيفزع مَنْ في السموات ومَنْ في الأرض {
إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } ، وهم الشهداء ، فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون.
قال الإمام مسلم بن الحجاج : حدثنا عُبَيد الله (1) بن مُعاذ العنبري ، حدثنا أبي
، حدثنا شعبة ، عن النعمان بن سالم : سمعت يعقوب بن عاصم بن عُرْوَة بن مسعود
الثقفي ، سمعت عبد الله بن عمرو ، رضي الله عنه ، وجاءه رجل فقال : ما هذا الحديث
الذي تَحدث أن الساعة تقوم إلى كذا وكذا ؟ فقال : سبحان الله - أو : لا إله إلا
الله - أو كلمة نحوهما - لقد هممت ألا أحدث أحدا شيئا أبدا ، إنما قلت : إنكم
سترون بعد قليل أمرًا عظيمًا يخرب البيت ، ويكون ويكون. ثم قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين - [لا أدري أربعين]
(2) يومًا ، أو أربعين شهرًا ، أو أربعين عامًا - فيبعث الله عيسى بن مريم كأنه عروة
بن مسعود ، فيطلبه فيهلكه. ثم يمكث الناس سبع سنين ، ليس بين اثنين عداوة ، ثم
يرسل الله ريحًا باردة من قبل الشام ، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال
ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته ، حتى لو أن أحدهم دخل في كبد جبل لدخَلَتْه (3)
عليه حتى تقبضه". قال : سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال :
"فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع ، لا يعرفون معروفا ولا ينكرون
منكرًا ، فيتمثل لهم الشيطان فيقول : ألا تستجيبون ؟ فيقولون : فما تأمرنا ؟
فيأمرهم بعبادة الأوثان ، وهم في ذلك (4) دار رزقهم ، حسنٌ عيشهم. ثم ينفخ في
الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتًا [ورفع ليتا] (5). قال : "وأول مَنْ يسمعه
رجل يَلُوط حوض إبله". قال : "فَيَصْعَقُ ويَصعقُ الناس ، ثم يرسل الله
- أو قال : ينزل الله مطرًا كأنه الطَّل - أو قال : الظل - نعمان الشاك - فتنبت (6)
منه أجساد الناس ، ثم ينفَخُ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. ثم يقال : يا أيها
الناس ، هلموا إلى ربكم ، وقفوهم إنهم مسؤولون. ثم يقال : أخرجوا بعث النار. فيقال
: من كم ؟ فيقال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين". قال : "فذلك (7)
يوم يجعل الولدان شيبا ، وذلك يوم يكشف عن ساق" (8).
وقوله (9) : ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا" الليت
(10) : هو صفحة العنق ، أي : أمال عنقه ليستمعه من السماء جيدًا.
فهذه نفخة الفزع. ثم بعد ذلك نفخة الصعق ، وهو الموت. ثم بعد ذلك نفخة القيام لرب
العالمين ، وهو النشور من القبور لجميع الخلائق ؛ ولهذا قال : { وَكُلٌّ أَتَوْهُ
دَاخِرِينَ } - قُرئ بالمد ، وبغيره (11) على الفعل ، وكلٌ بمعنى واحد - و {
دَاخِرِينَ } أي : صاغرين مطيعين ، لا يتخلف أحد
__________
(1) في أ : "عبد الله".
(2) زيادة من ف ، أ ، وصحيح مسلم.
(3) في ف ، أ : "لدخلت".
(4) في أ : "وهي في تلك".
(5) زيادة من ف ، وصحيح مسلم. وفي أ : "أصغى ليثا ورفع ليثا".
(6) في ف : "فينبت".
(7) في أ : "فكذلك".
(8) صحيح مسلم برقم (2940).
(9) في ف ، أ : "فقوله".
(10) في أ : "إلا أصغى ليثا ورفع ليثا الليث".
(11) في ف : "وغيره".
(6/216)
عن أمره ،
كما قال تعالى : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } [الإسراء :
52] ، وقال { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ
تَخْرُجُونَ } [الروم : 25]. وفي حديث الصور : أنه في النفخة الثالثة يأمر الله
الأرواح ، فتوضع في ثقب (1) في الصور ، ثم ينفخ إسرافيل فيه بعدما تنبت (2)
الأجساد في قبورها وأماكنها ، فإذا نفخ في الصور طارت الأرواح ، تتوهج أرواح
المؤمنين نورًا ، وأرواح الكافرين ظُلمة ، فيقول الله ، عز وجل : وعزتي وجلالي
لترجعن كل روح (3) إلى جسدها. فتجيء الأرواح إلى أجسادها ، فتدب فيها كما يَدب
السم في اللديغ ، ثم يقومون فينفضون التراب من قبورهم ، قال الله تعالى : { يَوْمَ
يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ }
[المعارج : 43].
وقوله : { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ
السَّحَابِ } أي : تراها كأنها ثابتة باقية على ما كانت عليه ، وهي تمر مر السحاب
، أي : تزول عن أماكنها ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا
وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا } [الطور : 9 ، 10] ، وقال { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ
الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا
تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا } [طه : 105 ، 107] ، وقال تعالى : { وَيَوْمَ
نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً } [الكهف : 47].
وقوله : { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } أي : يفعل ذلك بقدرته
العظيمة الذي قد أتقن كل ما خلق ، وأودع فيه (4) من الحكمة ما أودع ، { إِنَّهُ
خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } أي : هو عليم بما يفعل عباده من خير وشر فيجازيهم
عليه.
ثم بين تعالى حال السعداء والأشقياء يومئذ فقال : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ
فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا } - قال قتادة : بالإخلاص. وقال زين العابدين : هي لا إله
إلا الله - وقد بيَّن في المكان (5) الآخر (6) أن له عَشْر أمثالها { وَهُمْ مِنْ
فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ } ، كما قال في الآية الأخرى : { لا يَحْزُنُهُمُ
الْفَزَعُ الأكْبَرُ } [الأنبياء : 103] ، وقال : { أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ
خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [فصلت : 40] ، وقال : {
وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } [سبأ : 37].
وقوله : { وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ } أي :
مَنْ لقي الله مسيئًا لا حسنة له ، أو : قد رجحت سيئاته على حسناته ، كل بحسبه (7)
؛ ولهذا قال : { هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }.
وقال ابن مسعود وأبو هريرة وابن عباس ، رضي الله عنهم ، وأنس بن مالك ، وعطاء ،
وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد ، وإبراهيم النَّخَعي ، وأبو وائل ، وأبو صالح ،
ومحمد بن كعب ، وزيد بن أسلم ، والزهري ، والسُّدِّي ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة
، وابن زيد ، في قوله : { وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ } يعني : بالشرك.
__________
(1) في أ : "نقب".
(2) في أ : "ما نبتت".
(3) في ف : "كل ريح".
(4) في ف : "به".
(5) في أ : "الموضع".
(6) يشير ابن كثير - رحمه الله - إلى الآية : 160 من سورة الأنعام ، وهي قوله
تعالى : (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم
لا يظلمون).
(7) في أ : "الحسنة".
(6/217)
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
{ إِنَّمَا
أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ
شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ
الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ
إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ
آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) }.
يقول تعالى مخبرًا رسوله وآمرًا له أن يقول : { إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ
رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ } ، كَمَا قَالَ
: { قُلْ (1) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا
أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ
الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ } [يونس : 104].
وإضافة الربوبية إلى البلدة على سبيل التشريف لها والاعتناء بها ، كما قال : {
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ
وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } [قريش : 3 ، 4].
وقوله : { الَّذِي حَرَّمَهَا } أي : الذي إنما صارت حرامًا قدرًا وشرعًا ،
بتحريمه لها ، كما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوم فتح مكة : "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض ، فهو
حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يُعضَد شوكه ، ولا ينفر صيده ، ولا يلتقط
لُقَطَتُه إلا لِمَنْ عرفها ، ولا يختلى خلاها" الحديث بتمامه. وقد ثبت في
الصحاح والحسان والمسانيد من طرق جماعة تفيد القطع (2) ، كما هو مبين في موضعه من
(3) كتاب الأحكام ، ولله الحمد.
وقوله : { وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ } : من باب عطف العام على الخاص ، أي : هو رب هذه
البلدة ، ورب كل شيء ومليكه ، { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } أي
: الموحدين المخلصين المنقادين لأمره المطيعين له. ب
وقوله : { وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ } أي : على الناس أبلغهم إياه ، كقوله : {
ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ } [آل عمران : 58]
، وكقوله : { نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [القصص : 3] أي : أنا مبلغ ومنذر ، { فَمَنِ اهْتَدَى
فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ
الْمُنْذِرِينَ } أي : لي سوية الرسل الذين أنذروا قومهم ، وقاموا بما عليهم من
أداء الرسالة إليهم ، وخَلَصُوا من عهدتهم ، وحساب أممهم على الله ، كقوله تعالى :
{ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [الرعد : 40] ، وقال :
{ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [هود : 12].
{ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا } ، أي : لله
الحمد الذي لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة
__________
(1) في هـ : "قال" والمثبت من ف ، أ.
(2) صحيح البخاري برقم (1834) وصحيح مسلم برقم (1353) وسنن أبي داود برقم (2018)
وسنن الترمذي برقم (1590) وسنن النسائي (5/203) والمسند (1/259).
(3) في ف : "في".
(6/218)
عليه ،
والإعذار إليه ؛ ولهذا قال : { سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا } كما قال
تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } [فصلت : 53].
وقوله : { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } أي : بل هو شهيد على كل
شيء.
قال ابن أبي حاتم : ذكر عن أبي عمر الحوضي حفص بن عمر : حدثنا أبو أمية بن يعلى
الثقفي ، حدثنا سعيد بن أبي سعيد ، سمعت أبا هريرة يقول : قال : رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "يا أيها الناس ، لا يَغْترَّنَّ أحدكم بالله ؛ فإن الله لو
كان غافلا شيئًا لأغفل البعوضة والخردلة والذرة" (1).
[قال أيضا] (2) : حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا نصر بن علي ، قال أبي : أخبرني خالد
بن قيس ، عن مطر ، عن عمر بن عبد العزيز قال : فلو كان الله مغفلا شيئًا لأغفل ما
تعفي الرياح من أثر قدمي ابن آدم.
وقد ذكر عن الإمام أحمد ، رحمه الله ، أنه كان ينشد هذين البيتين ، إما له أو
لغيره :
إذَا مَا خَلَوتَ الدهْرَ يَومًا فَلا تَقُل... خَلَوتُ وَلكن قُل عَليّ رَقيب...
وَلا تَحْسَبَن الله يَغْفُل ساعةً... وَلا أن مَا يَخْفى عَلَيْه يَغيب...
__________
(1) ورواه الديملي في مسند الفردوس برقم (8167) من طريق أبي أمية بن يعلى به.
(2) زيادة من ف ، أ.
(6/219)
طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)
[بسم الله
الرحمن الرحيم. رب يسر بفضلك] (1)
تفسير سورة القصص
[وهي مكية] (2)
قال الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا وَكِيع ، عن
أبيه ، عن أبي إسحاق ، عن معد يكرب قال : أتينا عبد الله فسألناه أن يقرأ علينا {
طسم } المائتين ، فقال : ما هي معي ، ولكن عليكم مَن أخذها من رسول الله صلى الله
عليه وسلم : خَبَّاب بن الأرَت. قال : فأتينا خَبَّاب بن الأرت ، فقرأها علينا ،
رضي الله عنه (3).
{ طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ
مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا
فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ
يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي
الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) }.
__________
(1) زيادة من ت.
(2) زيادة من ف.
(3) المسند (1/419).
(6/220)
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
{
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا
مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) }.
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة.
وقوله : { تلك } أي : هذه { آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } أي : الواضح الجلي
الكاشف عن حقائق الأمور ، وعلم ما قد كان وما هو كائن.
وقوله : { نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ } كما قال تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } [
يوسف : 3 ] أي : نذكر لك الأمر على ما كان عليه ، كأنك تشاهد وكأنك حاضر.
ثم قال : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ } أي : تكبر وتجبر وطغى. { وَجَعَلَ
أَهْلَهَا شِيَعًا } أي : أصنافا ، قد صرف كل صنف فيما يريد من أمور دولته.
وقوله : { يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ } يعني : بني إسرائيل. وكانوا في ذلك
الوقت خيار أهل زمانهم. هذا وقد سلط عليهم هذا الملك الجبار العنيد يستعملهم في
أخس الأعمال ، ويكُدُّهُم ليلا ونهارًا في أشغاله وأشغال رعيته ، ويقتل مع هذا
أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، إهانة لهم واحتقارا ، وخوفا من أن يوجد منهم الغلام
الذي كان قد تخوف هو وأهل مملكته من أن يوجد منهم غلام ،
(6/220)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
يكون سبب
هلاكه وذهاب دولته على يديه. وكانت القبط قد تلقوا هذا من بني إسرائيل فيما كانوا
يدرسونه من قول إبراهيم الخليل ، حين ورد الديار المصرية ، وجرى له مع جبارها ما
جرى ، حين أخذ سارة ليتخذها جارية ، فصانها الله منه ، ومنعه منها (1) بقدرته
وسلطانه. فبشر إبراهيم عليه السلام ولده أنه سيولد من صلبه وذريته مَن يكون هلاك
ملك مصر على يديه ، فكانت القبط تتحدث بهذا عند فرعون ، فاحترز فرعون من ذلك ،
وأمر بقتل ذكور بني إسرائيل ، ولن ينفع حذر من قدر ؛ لأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر
، ولكل أجل كتاب ؛ ولهذا قال : { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ
الْوَارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ
وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ }. وقد فعل تعالى ذلك بهم ، كما
قال : { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ
الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ
الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ
يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ } [ الأعراف : 137 ]
وقال : { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء : 59 ] ، أراد
فرعون بحوله وقوته أن ينجو من موسى ، فما نفعه ذلك مع قَدَر الملك العظيم الذي لا
يخالف أمره القدري ، بل نفذ حكمه وجرى قلمه في القِدَم بأن يكون إهلاك فرعون على
يديه ، بل يكون هذا الغلام الذي احترزت من وجوده ، وقتلت بسببه ألوفا من الولدان
إنما منشؤه ومرباه على فراشك ، وفي دارك ، وغذاؤه من طعامك ، وأنت تربيه وتدلله
وتتفداه ، وحتفك ، وهلاكك وهلاك جنودك على يديه ، لتعلم أن رب السموات العلا هو
القادر الغالب العظيم ، العزيز القوي الشديد المحال ، الذي ما شاء كان ، وما لم
يشأ لم يكن.
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ
فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ
وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ
لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا
خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا
تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ (9) }.
ذكروا أن فرعون لما أكثر من قتل ذكور بني إسرائيل ، خافت القبط أن يُفْني بني
إسرائيل (2) فَيَلُون (3) هم ما كانوا يلونه من الأعمال الشاقة. فقالوا لفرعون :
إنه يوشك - إن استمر هذا الحال - أن يموت شيوخهم ، وغلمانهم لا يعيشون ، ونساؤهم
لا يمكن أن يَقُمْن بما يقوم به رجالهم من الأعمال ، فيخلص إلينا ذلك. فأمر بقتل
الولدان عامًا وتركهم عامًا ، فولد هارون ، عليه السلام ، في السنة التي يتركون
فيها الولدان ، وولد موسى ، عليه السلام ، في السنة التي يقتلون فيها الولدان ،
وكان لفرعون أناس موكلون بذلك ، وقوابل يَدُرْنَ على النساء ، فمن رأينها قد حملت
__________
(1) في ف ، أ : "ومنعها منه".
(2) في ف : "أن تفنى بنو إسرائيل" وفي أ : "أن يفنى ينو
إسرائيل".
(3) في أ : "فيكون".
(6/221)
أحصوا اسمها
، فإذا كان وقت ولادتها لا يَقْبَلُها إلا نساء القبط ، فإذا ولدت المرأة جارية
تركنها وذهبن ، وإن ولدت غلامًا دخل أولئك الذبَّاحون ، بأيديهم الشفار المرهفة ،
فقتلوه ومضوا قَبَّحَهُم الله. فلما حملت أم موسى به ، عليه السلام ، لم يظهر
عليها مخايل الحمل كغيرها ، ولم تفطن لها الدايات ، ولكن لما وضعته ذكرًا ضاقت به
ذرعًا ، وخافت عليه خوفًا شديدًا وأحبته حبًّا زائدًا ، وكان موسى ، عليه السلام ،
لا يراه أحد إلا أحبه ، فالسعيد من أحبه طبعا وشرعًا قال الله تعالى : {
وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي } [ طه : 39 ]. فلما ضاقت ذرعًا به ألهمت
في سرها ، وألقي في خلدها ، ونفث في روعها ، كما قال الله تعالى : { وَأَوْحَيْنَا
إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي
الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ
مِنَ الْمُرْسَلِينَ }. وذلك أنه كانت دارها على حافة النيل ، فاتخذت تابوتًا ،
ومهدَت فيه مهدًا ، وجعلت ترضع ولدها ، فإذا دخل عليها أحد مِمَّنْ تخاف جعلته في
ذلك التابوت ، وسيرته (1) في البحر ، وربطته (2) بحبل عندها. فلما كان ذات يوم دخل
عليها مَنْ تخافه ، فذهبت فوضعته في ذلك التابوت ، وأرسلته في البحر وذهلت عن أن
تربطه ، فذهب مع الماء واحتمله ، حتى مر به (3) على دار فرعون ، فالتقطه الجواري
فاحتملنه ، فذهبن به إلى امرأة فرعون ، ولا يدرين ما فيه ، وخشين أن يفتتن عليها
في فتحه دونها. فلما كشفت عنه إذا هو غلام من أحسن الخلق وأجمله وأحلاه وأبهاه ،
فأوقع الله محبته في قلبها حين نظرت إليه ، وذلك لسعادتها وما أراد الله من
كرامتها وشقاوة بعلها ؛ ولهذا قال { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ
لَهُمْ عَدُوًّا [وَحَزَنًا] } (4).
قال محمد بن إسحاق وغيره : "اللام" هنا لام العاقبة لا لام التعليل ؛
لأنهم لم يريدوا بالتقاطه ذلك. ولا شك أن ظاهر اللفظ يقتضي ما قالوه ، ولكن إذا
نظر إلى معنى السياق فإنه تبقى (5) اللام للتعليل ؛ لأن معناه أن الله تعالى ،
قيضهم لالتقاطه ليجعله لهم عدوًا وحزنًا فيكون أبلغ في إبطال حذرهم منه ؛ ولهذا
قال : { إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ }.
وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أنه كتب كتابًا إلى قوم من القدرية ،
في تكذيبهم بكتاب الله وبأقداره النافذة في علمه السابق : وموسى في علم الله
السابق لفرعون عدو وحزن ، قال الله تعالى : { وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ
وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ } ، وقلتم أنتم : لو شاء فرعون
أن يكون لموسى وليًا ونصيرًا ، والله يقول : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا
وَحَزَنًا }.
وقوله تعالى : { وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا
تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ } يعني : أن فرعون لما رآه همَّ بقتله خوفًا من أن يكون من بني
إسرائيل فجعلت امرأته آسية بنت مزاحم تُحَاجُّ عنه وتَذب دونه ، وتحببه إلى فرعون
، فقالت : { قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ } فقال : أما لك فَنَعَم ، وأما لي فلا.
فكان كذلك ، وهداها الله به ، وأهلكه الله على يديه ، وقد تقدم في حديث الفتون في
سورة "طه" هذه القصة بطولها ، من رواية ابن عباس مرفوعًا عن النسائي
وغيره.
__________
(1) في ت : "وأرسلته".
(2) في أ : "وأوثقته".
(3) في أ : "حتى قربه".
(4) زيادة من ت ، ف ، أ.
(5) في ت : "يعني".
(6/222)
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
وقوله"
: { عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا } ، وقد حصل لها ذلك ، وهداها الله به ، وأسكنها الجنة
بسببه. وقولها : { أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } أي : أرادت أن تتخذه ولدًا وتتبناه
، وذلك أنه لم يكن لها ولد منه.
وقوله تعالى : { وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } أي : لا يدرون ما أراد الله منه
بالتقاطهم إياه ، من الحكمة العظيمة البالغة ، والحجة القاطعة.
{ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا
أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ
لأخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11)
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى
أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ
إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ
اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) }.
يقول تعالى مخبرًا عن فؤاد أم موسى ، حين ذهب ولدها في البحر ، إنه أصبح فارغًا ،
أي : من كل شيء من أمور الدنيا إلا من موسى. قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ،
وسعيد بن جُبَيْر ، وأبو عبيدة ، والضحاك ، والحسن البصري ، وقتادة ، وغيرهم.
{ إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ } أي : إن كادت من شدة وجدها وحزنها وأسفها لَتُظهر
أنه ذهب لها ولد ، وتخبر بحالها ، لولا أن الله ثَبَّتها وصبَّرها ، قال الله
تعالى : { لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَالَتْ لأخْتِهِ قُصِّيهِ } أي : أمرت ابنتها - وكانت كبيرة تعي ما يقال لها -
فقالت لها : { قُصِّيهِ } أي : اتبعي أثره ، وخذي خبره ، وتَطَلَّبي شأنه من نواحي
البلد. فخرجت لذلك ، { فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ } ، قال ابن عباس : عن جانب.
وقال مجاهد : { فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ } : عن بعيد.
وقال قتادة : جعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده.
وذلك أنه لما استقر موسى ، عليه السلام ، بدار فرعون ، وأحبته امرأة الملك ،
واستطلقته منه ، عرضوا عليه المراضع التي في دارهم ، فلم يقبل منها ثديًا ، وأبى
أن يقبل شيئًا من ذلك. فخرجوا به إلى سوق لعلهم يجدون امرأة تصلح لرضاعته ، فلما
رأته بأيديهم عرفته ، ولم تظهر ذلك ولم (1) يشعروا بها.
قال الله تعالى : { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ } أي :
تحريمًا قَدَريا ، وذلك لكرامة الله له صانه (2) عن أن يرتضع غير ثدي أمه ؛ ولأن
الله - سبحانه - جعل ذلك سببًا إلى رجوعه إلى أمه ، لترضعه وهي آمنة ، بعدما كانت
خائفة. فلما رأتهم [أخته] (3) حائرين فيمن يرضعه قالت : { هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى
أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ } (4) لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ.
__________
(1) ففي ت ، ف : "فلم".
(2) في ت : "صيانة".
(3) زيادة من ت.
(4) في ت : "يرضعونه".
(6/223)
قال ابن
عباس : لما قالت ذلك أخذوها ، وشكوا في أمرها ، وقالوا لها : وما يدريك نصحهم له
وشفقتهم عليه ؟ فقالت : نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في ظُؤُورة (1) الملك ورجاء
منفعته. فأرسلوها ، فلما قالت لهم ذلك وخَلَصت من أذاهم ، ذهبوا معها إلى منزلهم ،
فدخلوا به (2) على أمه ، فأعطته ثديها فالتقمه ، ففرحوا بذلك فرحًا شديدًا. وذهب
البشير إلى امرأة الملك ، فاستدعت أم موسى ، وأحسنت إليها ، وأعطتها عطاءً جزيلا
وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة ، ولكن لكونه وافق ثديها. ثم سألتها آسية أن تقيم
عندها فترضعه ، فأبت عليها وقالت : إن لي بعلا وأولادًا ، ولا أقدر على المقام
عندك. ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت. فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك ،
وأجْرَتْ عليها النفقة والصلات والكساوي والإحسان الجزيل. فرجعت أم موسى بولدها
راضية مرضية ، قد أبدلها الله من بعد خوفها أمنا ، في عز وجاه ورزق دَارٍّ. ولهذا
جاء في الحديث : "مثل الذي يعمل ويحتسب في صنعته الخير ، كمثل أم موسى ترضع
ولدها وتأخذ أجرها" ولم يكن بين الشدة والفرج إلا القليل : يوم وليلة ، أو
نحوه ، والله [سبحانه] (3) أعلم ، فسبحان من بيديه الأمر! ما شاء كان وما لم يشأ
لم يكن ، الذي يجعل لمن اتقاه بعد كل هم فرجًا ، وبعد كل ضيق (4) مخرجًا. ولهذا
قال تعالى : { فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا } أي : به ، {
وَلا تَحْزَنْ } أي : عليه : { وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } أي :
فيما وعدها من رده إليها ، وجعله من المرسلين. فحينئذ تحققت برده إليها أنه كائن
منه رسول من المرسلين ، فعاملته في تربيته ما ينبغي له طبعًا وشرعًا.
وقوله : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } أي : حُكْمَ الله في أفعاله
وعواقبها المحمودة ، التي هو المحمود عليها في الدنيا والآخرة ، فربما يقع الأمر
كريها إلى النفوس ، وعاقبته محمودة في نفس الأمر ، كما قال تعالى : { وَعَسَى أَنْ
تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ
شَرٌّ لَكُمْ } [ البقرة : 216 ] وقال تعالى : { فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا
وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } [ النساء : 19 ].
__________
(1) في هـ ، ت ، ف ، أ : "صهر" والمثبت من حديث الفتون. انظر : الجزء
الخامس ، تفسير سورة طه.
(2) في ت : "بها".
(3) زيادة من أ.
(4) في ت : "ضيقة".
(6/224)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)
{ وَلَمَّا
بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا
فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ
عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ
فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ
عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي
فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا
أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) }.
لما ذكر تعالى مبدأ أمر موسى ، عليه السلام ، ذكر أنه لما بلغ أشده واستوى ، آتاه
الله حكما وعلما - قال مجاهد : يعني النبوة { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
}.
(6/224)
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
ثم ذكر
تعالى سبب وصوله إلى ما كان تعالى قَدَّر له من النبوة والتكليم : قضية قتله ذلك
القبطي ، الذي كان سبب خروجه من الديار المصرية إلى بلاد مدين ، فقال تعالى : {
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا } قال ابن جُرَيج ، عن
عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : وذلك بين المغرب والعشاء.
وقال ابن المنْكَدر ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس : كان ذلك نصف النهار. وكذلك
قال سعيد بن جبير ، وعِكْرمة ، والسُّدِّي ، وقتادة.
{ فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ } أي : يتضاربان ويتنازعان ، { هَذَا
مِنْ شِيعَتِهِ } أي : من بني إسرائيل (1) ، { وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ } أي : قبطي
، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والسدي ، ومحمد بن إسحاق. فاستغاث الإسرائيلي بموسى ،
عليه السلام ، ووجد موسى فرصة ، وهي غفلة الناس ، فعمد إلى القبطي { فَوَكَزَهُ
مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ }.
قال مجاهد : وكزه ، أي : طعنه بجُمْع (2) كفه. وقال قتادة : وكزه بعصا كانت معه.
{ فَقَضَى عَلَيْهِ } أي : كان فيها حتفه فمات ، قال موسى : { هَذَا مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ. قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ
نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قَالَ
رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ } أي : بما جعلت لي من الجاه والعزة والمنعة {
فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا } أي : معينا { لِلْمُجْرِمِينَ } أي : الكافرين بك ،
المخالفين لأمرك.
{ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي
اسْتَنْصَرَهُ بِالأمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ
مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا
قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ
إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ
مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) }.
يقول تعالى مخبرًا عن موسى ، عليه السلام (3) ، لما قتل ذلك القبطي : إنه أصبح {
فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا } أي : من مَعَرّة ما فعل ، { يَتَرَقَّبُ } أي : يتلفت
ويتوقع (4) ما يكون من هذا الأمر ، فمر في بعض الطرق ، فإذا ذاك (5) الذي استنصره
بالأمس على ذلك القبطي يقاتل آخر ، فلما مر موسى ، استصرخه على الآخر ، فقال له
موسى : { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ } أي : ظاهر الغواية كثير الشر. ثم عزم على
البطش بذلك القبطي ، فاعتقد الإسرائيلي لخوَرِه وضعفه وذلته أن موسى إنما يريد
قصده لما سمعه يقول ذلك ، فقال يدفع عن نفسه : { يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ
تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ } وذلك لأنه لم
__________
(1) في ت : "أي إسرائيلي".
(2) في ت : "بجميع".
(3) في ت : "صلى الله عليه وسلم".
(4) في هـ ، ت : "أي يتقلب أي يتوقع" والمثبت من ف ، أ.
(5) في ت ، ف : "ذلك".
(6/225)
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
يعلم به إلا
هو وموسى ، عليه السلام ، فلما سمعها ذلك القبطي لقَفَها من فمه ، ثم ذهب بها إلى
باب فرعون فألقاها عنده ، فعلم بذلك ، فاشتد حنقه ، وعزم على قتل موسى ، فطلبوه
فبعثوا وراءه ليحضروه لذلك.
{ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ
الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ
النَّاصِحِينَ (20) }.
قال تعالى : { وَجَاءَ رَجُلٌ } وصفه بالرّجُولية لأنه خالف الطريق ، فسلك طريقًا
أقرب من طريق الذين بُعثوا وراءه ، فسبق إلى موسى ، فقال له : يا موسى { إِنَّ
الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ } أي : يتشاورون فيك { لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ } أي :
من البلد { إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ }.
{ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ (21) }
(6/226)
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
{ وَلَمَّا
تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ
السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ
النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا
خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ
كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي
لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) }
لما أخبره ذلك الرجل بما تمالأ عليه فرعون ودولته في أمره ، خرج من مصر وحده ، ولم
يألف ذلك قلبه ، بل كان في رفاهية ونعمة ورئاسة ، { فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا
يَتَرَقَّبُ } أي : يتلفَّت { قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
} أي : من فرعون وملئه. فذكروا أن الله ، سبحانه وتعالى ، بعث له ملكًا على فرس ،
فأرشده إلى الطريق ، فالله أعلم.
{ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ } أي : أخذ طريقًا سالكًا مَهْيَعا فرح
بذلك ، { قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ } أي : إلى
الطريق الأقوم. ففعل الله به ذلك ، وهداه إلى الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة ،
فجعل هاديًا مهديًّا.
{ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ } أي : ولما وصل إلى مدين وورد ماءها ، وكان لها
بئر تَرده رعاء الشاء { وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ } أي : جماعة {
يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ } أي : تكفكفان غنمهما
أن ترد مع غنم أولئك الرعاء لئلا يُؤذَيا. فلما رآهما موسى ، عليه السلام ، رق
لهما ورحمهما ، { قَالَ مَا خَطْبُكُمَا } أي : ما خبركما لا تردان مع هؤلاء ؟ {
قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ } أي : لا يحصل لنا سقي إلا بعد
فراغ هؤلاء ، { وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } أي : فهذا الحال الملجئ لنا إلى ما
ترى.
قال الله تعالى : { فَسَقَى لَهُمَا } قال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا عبد الله ،
أنبأنا إسرائيل ، عن أبى إسحاق ، عن عَمْرو (1)
__________
(1) في هـ ، ت ، ف ، أ : "عروة بن ميمون" والمثبت من مصنف ابن أبي شيبة.
(6/226)
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
بن ميمون
الأوْدي ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، أن موسى ، عليه السلام ، لما ورد ماء
مدين ، وجد عليه أمة من الناس يسقون ، قال : فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر ،
ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال ، فإذا هو بامرأتين تذودان ، قال : ما خطبكما ؟
فحدثتاه ، فأتى الحجر فرفعه ، ثم لم يستق إلا ذنوبا واحدا حتى رويت الغنم. إسناد
صحيح (1).
وقوله : { ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ
إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } قال ابن عباس : سار موسى من مصر إلى مدين ، ليس له
طعام إلا البقل وورق الشجر ، وكان حافيًا فما وصل مَدْيَن حتى سقطت نعل قدمه. وجلس
(2) في الظل وهو صفوة الله من خلقه ، وإن بطنه لاصق بظهره من الجوع ، وإن خضرة
البقل لترى من داخل جوفه وإنه لمحتاج إلى شق تمرة.
وقوله : { إِلَى الظِّلِّ } قال ابن عباس ، وابن مسعود ، والسدي : جلس تحت شجرة.
وقال ابن جرير : حدثني الحسين بن عمرو العَنْقَزِيّ (3) ، حدثنا أبي ، حدثنا
إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال :
حَثثتُ (4) على جمل ليلتين ، حتى صَبَّحت مدين ، فسألت عن الشجرة التي أوى إليها
موسى ، فإذا شجرة خضراء ترف ، فأهوى إليها جملي - وكان جائعا - فأخذها جملي
فعالجها ساعة ، ثم لفظها ، فدعوت الله لموسى ، عليه السلام ، ثم انصرفت (5).
وفي رواية عن ابن مسعود : أنه ذهب إلى الشجرة التي كلم الله منها لموسى ، كما
سيأتي والله (6) أعلم.
وقال السدي : كانت من شجر السَّمُر.
وقال عطاء بن السائب : لما قال موسى { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ
خَيْرٍ فَقِيرٌ } ، أسمعَ المرأة.
{ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي
يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ
عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ
الْقَوِيُّ الأمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى
ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ
عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ
شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا
الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ
(28) }.
لما رجعت المرأتان سراعا (7) بالغنم إلى أبيهما ، أنكر حالهما ومجيئهما سريعا ،
فسألهما عن
__________
(1) المصنف لابن أبي شيبة (11/530).
(2) في هـ ، أ : "ولما جلس".
(3) في ف : "عمير العنقزي" وفي أ : "عمير القفقري".
(4) في ف أ : "أخببت".
(5) تفسير الطبري (20/37).
(6) في ف : "فالله".
(7) في أ : "سريعا".
(6/227)
خبرهما ،
فقصتا عليه ما فعل موسى ، عليه السلام. فبعث إحداهما إليه لتدعوه إلى أبيها قال
الله تعالى : { فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ } أي : مشي
الحرائر ، كما روي عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ، أنه قال : كانت مستتَرة
بكم درْعها.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا [أبي ، حدثنا] (1) أبو نعيم ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي
إسحاق ، عن عمر بن ميمون قال : قال عمر رضي الله عنه : جاءت تمشي على استحياء ،
قائلة بثوبها على وجهها ، ليست بسلفع (2) خَرَّاجة ولاجة. هذا إسناد صحيح.
قال الجوهري : السلفع من الرجال : الجسور ، ومن النساء : الجريئة السليطة ، ومن
النوق : الشديدة.
{ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } ، وهذا
تأدب في العبارة ، لم تطلبه طلبا مطلقا لئلا يوهم ريبة ، بل قالت : { إِنَّ أَبِي
يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } يعني : ليثيبك ويكافئك على
سقيك لغنمنا ، { فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ } أي : ذكر له ما
كان من أمره ، وما جرى له من السبب الذي خرج من أجله من بلده ، { قَالَ لا تَخَفْ
نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }. يقول : طب نفسا وَقرّ عينا ، فقد خرجتَ
من مملكتهم فلا حُكْم لهم في بلادنا. ولهذا قال : { نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ }.
وقد اختلف المفسرون في هذا الرجل : مَنْ هو ؟ على أقوال : أحدها أنه شعيب النبي
عليه السلام (3) الذي أرسل إلى أهل مدين. وهذا هو المشهور عند كثيرين ، وقد قاله
الحسن البصري وغير واحد. ورواه ابن أبي حاتم.
حدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز الأويسي ، حدثنا مالك بن أنس ؛ أنه بلغه أن شعيبا هو
الذي قص عليه موسى القصص قال : { لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
}.
وقد روى الطبراني عن سلمة بن سعد العنزي أنه وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال له : "مرحبا بقوم شعيب وأَخْتان موسى ، هُديت" (4).
وقال آخرون : بل كان ابن أخي شعيب. وقيل : رجل مؤمن من قوم شعيب. وقال آخرون : كان
شعيب قبل زمان موسى ، عليه (5) السلام ، بمدة طويلة ؛ لأنه قال لقومه : { وَمَا
قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ } [ هود : 95 ]. وقد كان هلاك قوم لوط في زمن
الخليل ، عليه السلام (6) بنص القرآن ، وقد علم أنه كان بين موسى والخليل ، عليهما
السلام ، مدة طويلة تزيد على أربعمائة سنة ، كما
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف : "تستلفع".
(3) في ف : "صلى الله عليه وسلم" وفي أ : "صلى الله عليه".
(4) المعجم الكبير (7/55) من طريق حفص بن سلمة عن شيبان بن قيس عن سلمة بن سعد به
، وقال الهيثمي : "فيه من لم أعرفهم".
(5) في ت : "عليهما".
(6) في ت : "صلى الله عليه وسلم".
(6/228)
ذكره غير
واحد. وما قيل : إن شعيبا عاش مدة طويلة ، إنما هو - والله أعلم - احتراز من هذا
الإشكال ، ثم من المقوي لكونه ليس بشعيب أنه لو كان إياه لأوشك أن ينص على اسمه في
القرآن هاهنا. وما جاء في (1) بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى (2) لم
يصح إسناده ، كما سنذكره قريبا إن شاء الله. ثم من الموجود في كتب بني إسرائيل أن
هذا الرجل اسمه : "ثبرون" ، والله أعلم.
وقال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود : وأثرون (3) وهو ابن أخي شعيب عليه السلام.
وعن أبي حمزة (4) عن ابن عباس : الذي استأجر موسى يثرى صاحب مدين. رواه ابن جرير ،
ثم قال : الصواب أن هذا لا يدرك إلا بخبر ، ولا خبر تجب به الحجة في ذلك.
وقوله : { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ
اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ } أي : قالت إحدى ابنتي هذا الرجل. قيل : هي
التي ذهبت وراء موسى ، عليه السلام ، قالت لأبيها : { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ }
أي : لرعْية هذه (5) الغنم.
قال عمر ، وابن عباس ، وشُريح القاضي ، وأبو مالك ، وقتادة ، ومحمد بن إسحاق ،
وغير واحد : لما قالت : { إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ }
قال لها أبوها : وما علمك بذلك ؟ قالت : إنه رفع الصخرة التي لا يطيق حملها إلا
عشرة رجال ، وإنه لما جئت معه تقدمتُ أمامهُ ، فقال لي : كوني من ورائي ، فإذا
اجتنبت (6) الطريق فاحذفي [لي (7) ] بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأتهدّى (8) إليه.
قال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله - هو ابن مسعود -
قال : أفرس الناس ثلاثة : أبو بكر حين تفرس في عُمَر ، وصاحب يوسف حين قال : {
أَكْرِمِي مَثْوَاهُ } [ يوسف : 21 ] ، وصاحبة موسى حين قالت : { يَا أَبَتِ
اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ }.
قاال : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ } أي : طلب
إليه هذا الرجل الشيخ الكبير أن يرعى عنه (9) ويزوجه إحدى ابنتيه هاتين.
قال شعيب الجبائي : وهما صفورا ، وليّا.
وقال محمد بن إسحاق : صفورا وشرقا ، ويقال : ليا. وقد استدل أصحاب أبي حنيفة [رحمه
الله تعالى] (10) بهذه الآية على صحة البيع فيما إذا قال : "بعتك أحد هذين
العبدين بمائة. فقال : اشتريت" أنه يصح ، والله أعلم.
__________
(1) في ت : "من".
(2) في أ : "لموسى".
(3) في أ : "يثرون".
(4) في ف ، أ : "أبي هريرة".
(5) في أ : "رعية هذا".
(6) في أ : "اختلفت".
(7) زيادة من أ.
(8) في أ : "لأهتدي".
(9) في ت ، ف ، أ : "غنمه".
(10) زيادة من ت ، ف.
(6/229)
وقوله : {
عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ
عِنْدِكَ } أي : على أن ترعى عليّ ثماني سنين ، فإن تبرعت بزيادة سنتين فهو إليك
(1) ، وإلا ففي ثمان كفاية ، { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي
إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } أي : لا أشاقك ، ولا أؤاذيك ، ولا
أماريك.
وقد استدلوا بهذه الآية الكريمة لمذهب الأوزاعي ، فيما إذا قال : "بعتك هذا
بعشرة نقدًا ، أو بعشرين نسيئة" أنه يصح ، ويختار المشتري بأيهما أخذه صح.
وحُمل الحديث المروي في سنن أبي داود : "من باع بيعتين في بيعة ، فله أوكسهما
أو الربا " (2) على هذا المذهب. وفي الاستدلال بهذه الآية وهذا الحديث على
هذا المذهب نظر ، ليس هذا موضع بسطه لطوله. والله أعلم.
ثم قد استدل أصحاب الإمام أحمد ومَنْ تبعهم ، في صحة (3) استئجار الأجير بالطعمة
والكسوة بهذه الآية ، واستأنسوا في ذلك بما رواه أبو عبد الله محمد بن يزيد بن
ماجه في كتابه السنن ، حيث قال : "باب استئجار الأجير على طعام بطنه" :
حدثنا محمد بن المصفّى الحِمْصي ، حدثنا بَقيَّة بن الوليد ، عن مسلمة (4) بن علي
، عن سعيد بن أبي أيوب ، عن الحارث بن يزيد ، عن علي بن رَبَاح قال : سمعت (5)
عُتبةَ بن النُّدَّر (6) يقول : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ { طسم
} (7) ، حتى إذا بلغ قصة موسى قال : "إن موسى أجَّرَ نفسه ثماني سنين أو :
عشر (8) سنين على عفة فرجه وطعام بطنه (9).
وهذا الحديث من هذا الوجه ضعيف (10) ، لأن مسلمة (11) بن علي وهو الخُشَني الدمشقي
البلاطيّ ضعيف الرواية عند الأئمة ، ولكن قد رُوي من وجه آخر ، وفيه نظر أيضا.
وقال (12) ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثنا
عبد الله بن لَهيعة ، عن الحارث بن يزيد الحضرمي ، عن علي بن رَبَاح اللخمي قال :
سمعت عتبة بن النّدر السلمي - صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم - يحدث أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن موسى آجر نفسه بعفة فرجه ، وطعمة
بطنه" (13).
. وقوله تعالى إخبارا عن موسى ، عليه السلام : { قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ
أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا
نَقُولُ وَكِيلٌ } ، يقول : إن موسى قال لصهره : الأمر على ما قلت من أنك
استأجرتني على ثمان سنين ، فإن أتممت عشرًا فمن عندي ، فأنا متى فعلت أقلهما [فقد]
(14) برئت من العهد ، وخرجت من الشرط ؛ ولهذا قال : { أَيَّمَا الأجَلَيْنِ
قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ } أي : فلا
__________
(1) في ت : "لك".
(2) سنن أبي داود برقم (3461).
(3) في أ : "حجة".
(4) في أ : "سلمة".
(5) في ت : "ثم روى بإسناده عن".
(6) في هـ ، ت : "المنذر" والمثبت من ف ، وسنن ابن ماجه.
(7) في ت : "طس".
(8) في ت : "أو عشرة".
(9) سنن ابن ماجه برقم (2444) وضعفه البوصيري في الزوائد (2/260) لتدليس بقية بن
الوليد.
(10) في ت : "وهذا الحديث فيه ضعف من هذا الوجه".
(11) في أ : "سلمة".
(12) في أ : "فقال".
(13) ورواه البزار في مسنده برقم (1495) "كشف الأستار" من طريق يحيى بن
بكير عن ابن لهيعة بأطول منه ، وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف.
(14) زيادة من أ.
(6/230)
حرج علي مع
أن الكامل - وإن كان مباحًا لكنه فاضل من جهة أخرى ، بدليل من خارج. كما قال
[الله] (1) تعالى : { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ
وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } [ البقرة : 203 ].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحمزة بن عمرو الأسلمي ، رضي الله عنه ، وكان
كثير الصيام ، وسأله عن الصوم في السفر - فقال : "إن شئت فصم ، وإن شئت
فأفطر" (2) مع أن فعل الصيام راجح من دليل آخر.
هذا وقد دل الدليل على أن موسى عليه السلام ، إنما فعل أكمل الأجلين وأتمهما ؛ قال
البخاري :
حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا مَرْوان بن شُجاع ، عن
سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير قال : سألني يهودي من أهل الحيرة : أي الأجلين قضى
موسى ؟ فقلت : لا أدري حتى أقدم على حَبْر العرب فأسأَلَه. فقدمت فسألت ابن عباس ،
رضي الله عنه ، فقال : قضى أكثرهما وأطيبهما ، إن رسول الله إذا قال فعل. هكذا
رواه البخاري (3) وهكذا رواه حكيم بن جبير وغيره ، عن سعيد بن جبير. ووقع في
"حديث الفُتُون" ، من رواية القاسم بن أبي أيوب ، عن سعيد بن جبير ؛ أن
الذي سأله رجل من أهل النصرانية. والأول أشبه ، والله أعلم ، وقد رُوي من (4) حديث
ابن عباس مرفوعا ، قال ابن جرير :
حدثنا أحمد بن محمد الطوسي ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثني إبراهيم بن يحيى
بن أبي يعقوب ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : "سألت جبريل : أيّ الأجلين قضى موسى قال : أكملهما
وأتمهما" (5).
ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن الحميدي ، عن سفيان - وهو ابن عيينة - حدثني
إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب - وكان من أسناني أو أصغر مني - فذكره.
قلت : وإبراهيم هذا ليس بمعروف.
ورواه البزار عن أحمد بن أبان القرشي ، عن سفيان بن عيينة ، عن إبراهيم بن أعين ،
عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ،
فذكره. ثم قال : لا نعرفه مرفوعا عن ابن عباس إلا من هذا الوجه (6).
وقال (7) ابن أبي حاتم : قُرئ على يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب ، أنبأنا
عمرو بن الحارث ، عن يحيى بن ميمون الحضرمي ، عن يوسف بن تيرح : أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم سئل : أيّ
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) رواه أحمد في مسنده (3/493) والنسائي في السنن (4/185).
(3) صحيح البخاري برقم (2684).
(4) في ت : "روى طرق مرسلة من".
(5) تفسير الطبري (20/44).
(6) قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان (1/124) "إبراهيم بن يحيى العدني عن
الحكم بن أبان وعنه سفيان بن عيينة بخبر منكر والرجل نكرة ، وحديثه عن الحميدي
ومتنه : سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام أي الأجلين قضى موسى ،
انتهى. وهذا الرجل ذكره ابن حبان في الثقات. وقال الأزدي : لا يتابع في حديثه ،
وأخرج الحاكم حديثه المذكور في المستدرك".
(7) في ف : "ثم قال".
(6/231)
الأجلين قضى
موسى ؟ قال : "لا علم لي". فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل ،
فقال جبريل : لا علم لي ، فسأل جبريل ملكا فوقه فقال : لا علم لي. فسأل (1) ذلك
المَلَك ربه - عز وجل - عما سأله عنه جبريل عما سأله عنه محمد صلى الله عليه وسلم
فقال الرب سبحانه وتعالى : "قضى أبرهما وأبقاهما - أو قال : أزكاهما"
(2).
وهذا مرسل ، وقد جاء مرسلا من وجه آخر ، وقال (3) سُنَيد : حدثنا حجاج ، عن ابن
جُرَيْج قال : قال مجاهد : إن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل : "أيّ
الأجلين قضى موسى ؟" فقال : سوف أسأل إسرافيل. فسأله فقال : سوف أسأل الرب عز
وجل. فسأله فقال : "أبرهما وأوفاهما" (4).
طريق أخرى مرسلة أيضا : قال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا أبي ، حدثنا أبو
مَعْشَر ، عن محمد بن كعب القُرظي قال : سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي
الأجلين قضى موسى ؟ قال : "أوفاهما وأتمهما" (5).
فهذه طرق متعاضدة ، ثم قد (6) روي [هذا] (7) مرفوعا من رواية أبي ذر ، رضي الله
عنه ، قال الحافظ أبو بكر البزار ، حدثنا أبو عبيد الله يحيى بن محمد بن السكن ،
حدثنا إسحاق بن إدريس ، حدثنا عَوْبَد بن أبي عمران الجَوْني ، عن أبيه ، عن عبد
الله بن الصامت ، عن أبي ذر : أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِل : أيّ الأجلين
قَضَى موسى ؟ قال : "أوفاهما وأبرهما" ، قال : "وإن سئلتَ أي
المرأتين تزوج ؟ فقل الصغرى منهما".
ثم قال البزار : لا نعلم يروى عن أبي ذر إلا بهذا الإسناد (8).
وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث عَوبَد بن أبي عمران - وهو ضعيف - ثم قد روي أيضا
نحوه من حديث عتبة بن الندر (9) بزيادة غريبة جدا ، فقال أبو بكر البزار : حدثنا
عمر بن الخطاب السجستاني ، حدثنا يحيى بن بُكَيْر ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا الحارث
بن يزيد عن علي بن رباح اللخمي قال : سمعت عتبة بن النّدر (10) يقول : إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم سُئل : أيّ الأجلين قَضَى موسى ؟ قال : "أبرهما
وأوفاهما". ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن موسى ، عليه السلام ،
لما أراد فراق شعيب عليه السلام ، أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما
يعيشون به. فأعطاها ما ولدت غنمه في ذلك العام من قالِب لَون. قال : فما مرت شاة
إلا ضرب موسى جنبها بعصاه ، فولدت قَوَالب ألوان كلها ، وولدت ثنتين وثلاثًا كل
شاة ليس فيها فَشُوش ولا ضبُوب ، ولا كَمِيشة تُفَوّت الكف ، ولا ثَعُول".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا (11) افتتحتم الشام فإنكم ستجدون
بقايا منها ، وهي السامرية" (12).
__________
(1) في ف ، أ : "عز وجل".
(2) مسند البزار برقم (2245) "كشف الأستار".
(3) في ف ، أ : "فقال".
(4) تفسير الطبري (20/44).
(5) تفسير الطبري (20/44).
(6) في ف : "وقد".
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) مسند البزار برقم (2244) "كشف الأستار".
(9) في ف ، أ : "المنذر".
(10) في ف ، أ : "المنذر".
(11) في أ : "إنكم إذا".
(12) مسند البزار برقم (2246) "كشف الأستار".
(6/232)
هكذا أورده
البزار. وقد رواه ابن أبي حاتم بأبسط من هذا (1) فقال :
حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَير ، حدثني عبد الله بن
لهيعة(ح) وحدثنا أبو زرعة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثنا عبد الله بن لهيعة
، عن الحارث بن يزيد الحضرمي ، عن علي بن رباح اللخمي قال : سمعت عتبة بن النُّدّر
(2) السلمي - صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم - يحدث أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : "إن موسى ، عليه السلام (3) آجر نفسه بعفة فرجه وطُعمة بطنه.
فلما وفى الأجل - قيل : يا رسول الله ، أي الأجلين ؟ قال - أبرهما وأوفاهما. فلما
أراد فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به ،
فأعطاها ما ولدت من غنمه من قالب (4) لون من ولد ذلك العام ، وكانت غنمه سوداء
حسناء ، فانطلق موسى ، عليه السلام إلى عصاه فَسَمَّاها من طرفها ، ثم وضعها في
أدنى الحوض ، ثم أوردها فسقاها ، ووقف موسى بإزاء الحوض فلم تصدر منها شاة إلا ضرب
جنبها شاة شاة قال : "فأتأمت وأثلثت ، ووضعت كلها قوالب ألوان ، إلا شاة أو
شاتين ليس فيها فشوش. قال يحيى : ولا ضبون. وقال صفوان : ولا ضبُوب. قال أبو زرعة
: الصواب ضَبُوب - ولا عَزُوز ولا ثَعُول ، ولا كميشة تُفَوّت الكف" ، قال
النبي صلى الله عليه وسلم : "فلو افتتحتم الشام وجدتم بقايا تلك الغنم وهي
السامرية".
وحدثنا أبو زُرْعة ، حدثنا صفوان قال : سمعت الوليد قال : فسألت ابن لَهِيعة : ما
الفشوش ؟ قال : التي تَفُشّ بلبنها واسعة الشَّخب. قلت : فما الضبوب ؟ قال :
الطويلة الضرع تجره. قلت : فما العَزُوز ؟ قال : ضيقة الشَّخب. قال فما الثَعُول ؟
قال : التي ليس لها ضرع إلا كهيئة حلمتين. قلت : فما الكميشة ؟ قال : التي تُفَوّت
الكف ، كميشة الضرع ، صغير لا يدركه الكف.
مدار هذا الحديث على عبد الله بن لَهِيعة المصري - وفي حفظه سوء - وأخشى أن يكون
رفعه خطأ ، والله أعلم. وينبغي أن يُرْوَى ليس فيها فشوش ولا عزوز ، ولا ضبوب ولا
ثَعول ولا كميشة ، لتذكر كل صفة ناقصة مع ما يقابلها من الصفات الناقصة. وقد روى
ابن جرير من (5) كلام أنس بن مالك - موقوفا عليه - ما يقارب بعضه بإسناد جيد (6) ،
فقال : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، حدثنا
أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : لما دعا نبي الله موسى ، عليه السلام ، صاحبه
إلى الأجل الذي كان بينهما ، قال له صاحبه : كل شاة ولدت على غير لونها فذلك ولدها
لك. فعمد فرفع حبالا على الماء ، فلما رأت الخيال فزعت فجالت جولة ، فولدن كلهن
بلقًا إلا شاة واحدة ، فذهب بأولادهن ذلك العام (7).
__________
(1) في ت : "بزيادة غريبة".
(2) في ت ، ف ، أ : "المنذر".
(3) في ت : "صلى الله عليه وسلم".
(4) في ت : "قابله".
(5) في ت : "عن".
(6) في ت : "ما يقارب هذا".
(7) تفسير الطبري (20/44).
(6/233)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
{ فَلَمَّا
قَضَى مُوسَى الأجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا
قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا
بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا
أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ
مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى
مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ
الآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ
سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ
رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
}.
قد تقدم في تفسير الآية قبلها أن موسى عليه السلام ، قضى أتم الأجلين وأوفاهما
وأبرهما وأكملهما وأنقاهما ، وقد يستفاد هذا أيضًا من الآية الكريمة من قوله (1) :
{ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ } أي : الأكمل منهما ، والله (2) أعلم.
قال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : قضى عشر سنين ، وبعدها عشرا أخر. وهذا القول لم
أره لغيره ، وقد حكاه عنه ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والله (3) أعلم.
وقوله : { وَسَارَ بِأَهْلِهِ } قالوا : كان موسى قد اشتاق إلى بلاده وأهله ، فعزم
على زيارتهم في خفية من فرعون وقومه ، فتحمل بأهله وما كان معه من الغنم التي
وهبها له صهره ، فسلك بهم في ليلة مطيرة مظلمة باردة ، فنزل منزلا فجعل كلما أورى
زنده لا يُضيء شيئًا ، فتعجب من ذلك ، فبينما هو كذلك [إذ] (4) { آنَسَ مِنْ
جَانِبِ الطُّورِ نَارًا } أي : رأى نارا تضيء له على بعد ، { قَالَ لأهْلِهِ
امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا } أي : حتى أذهب إليها ، { لَعَلِّي آتِيكُمْ
مِنْهَا بِخَبَرٍ }. وذلك لأنه قد أضل الطريق ، { أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ }
أي : قطعة منها (5) ، { لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } أي : تَتَدفؤون بها من البرد.
قال الله تعالى : { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأيْمَنِ }
أي : من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب ، كما قال تعالى (6) :
{ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ } ،
فهذا مما يرشد إلى أن موسى قصد النار إلى جهة القبلة ، والجبل الغربي عن يمينه ،
والنار وجدها تضطرم في شجرة خضراء في لحْف الجبل مما يلي الوادي ، فوقف باهتًا في
أمرها ، فناداه ربه : { مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ
الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ }.
قال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمرو بن
مُرّة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : رأيت الشجرة التي نودي منها موسى ، عليه
السلام ، سمرة خضراء ترف. إسناده مقارب.
وقال محمد بن إسحاق ، عن بعض مَنْ لا يتهم ، عن وهب بن منبه قال : شجرة من
العُلَّيق ، وبعض أهل الكتاب يقول : من العوسج.
وقال قتادة : هي من العوسج ، وعصاه من العوسج.
وقوله تعالى : { أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } أي :
الذي يخاطبك ويكلمك هو رب العالمين ، الفعال لما يشاء ، لا إله غيره ، ولا رب سواه
، تعالى وتقدس وتنزه عن مماثلة المخلوقات في
__________
(1) في أ : "حيث قال".
(2) في ت : "فالله".
(3) في ف : "فالله".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ت : "قطعة من النار".
(6) في ت : "قال الله تعالى".
(6/234)
ذاته وصفاته
، وأقواله وأفعاله سبحانه!
وقوله : { وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } أي : التي في يدك. كما قرره على ذلك في قوله :
{ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا
وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى } [ طه : 17 ، 18 ].
والمعنى : أما هذه عصاك التي تعرفها ألقها { فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ
تَسْعَى } فعرف وتحقق أن الذي يخاطبه ويكلمه هو الذي يقول للشيء : كن ، فيكون. كما
تقدم بيان ذلك في سورة "طه".
وقال هاهنا : { فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ } أي : تضطرب { كَأَنَّهَا جَانٌّ } أي
: في حركتها السريعة مع عظم خَلْق قوائمها (1) واتساع فمها ، واصطكاك أنيابها
وأضراسها ، بحيث لا تمر بصخرة إلا ابتلعتها ، فتنحدر في فيها تتقعقع ، كأنها حادرة
في واد. فعند ذلك { وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ } أي : ولم يكن يلتفت ؛ لأن
طبع البشرية ينفر من ذلك. فلما قال الله له : { يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ
إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ } ، رجع فوقف في مقامه الأول.
ثم قال الله له : { اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ
سُوءٍ } أي : إذا أدخلت يدك في جيب درعك ثم أخرجتها فإنها تخرج تتلألأ كأنها قطعة
قمر في لمعان البرق ؛ ولهذا قال : { مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } أي : من غير برص.
وقوله : { وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ } : قال مجاهد : من الفزع.
وقال قتادة : من الرعب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وابن جرير : مما حصل لك من
خوفك من الحية.
والظاهر أن المراد أعم من هذا ، وهو أنه أمر عليه السلام ، إذا خاف من شيء أن يضم
إليه جناحه من الرهب ، وهي يده ، فإذا فعل ذلك ذهب عنه ما يجده من الخوف. وربما
إذا استعمل أحد ذلك على سبيل الاقتداء فوضع يديه على فؤاده ، فإنه يزول عنه ما يجد
أو يَخف ، إن شاء الله ، وبه الثقة.
قال (2) ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا الربيع بن ثعلب الشيخ الصالح
، أخبرنا أبو إسماعيل المؤدب ، عن عبد الله بن مسلم ، عن مجاهد ، قال (3) : كان
موسى عليه السلام ، قد مُلئ قلبه رعبًا من فرعون ، فكان إذا رآه قال : اللهم إني
أدرأ بك في نحره ، وأعوذ بك من شره ، ففرّغ (4) الله ما كان في قلب موسى عليه
السلام ، وجعله في قلب فرعون ، فكان إذا رآه بال كما يبول الحمار.
وقوله : { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ } يعني : إلقاءه العصا وجعلها حية
تسعى ، وإدخاله يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء - دليلان قاطعان واضحان على
قدرة الفاعل المختار ، وصحة نبوة مَنْ جرى هذا الخارق على يديه ؛ ولهذا قال : {
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } أي : وقومه من الرؤساء والكبراء والأتباع ، {
إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } أي : خارجين عن طاعة الله ، مخالفين لدين الله
، [والله أعلم] (5).
__________
(1) في ت : "عظم خلقها" وفي ف : "عظم خلقتها".
(2) في ت : "روى".
(3) في ت : "بإسناده".
(4) في ت ، ف ، أ : "فنزع".
(5) زيادة من ف.
(6/235)
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)
{ قَالَ
رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي
هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي
إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ
وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا
وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) }.
لما أمره الله تعالى بالذهاب إلى فرعون ، الذي إنما خرج من ديار مصر فرارًا منه
وخوفًا من سطوته ، { قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا } يعني : ذلك
القبطي ، { فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ } أي : إذا رأوني.
{ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا } ، وذلك أن موسى ، عليه السلام
، كان في لسانه لثغة ، بسبب ما كان تناول تلك الجمرة ، حين خُيّر بينها وبين
التمرة أو الدرّة ، فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه ، فحصل فيه شدة في التعبير ؛
ولهذا قال : { وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي. وَاجْعَلْ
لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي. هَارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ
فِي أَمْرِي } [ طه : 27 - 32 ] أي : يؤنسني فيما أمرتني به من هذا المقام العظيم
، وهو القيام بأعباء النبوة والرسالة إلى هذا الملك المتكبر الجبار العنيد. ولهذا
قال : { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ
رِدْءًا [يُصَدِّقُنِي] } (1) ، أي : وزيرًا ومعينًا ومقويًّا لأمري ، يصدقني فيما
أقوله وأخبر به عن الله عز وجل ؛ لأن خبر اثنين أنجع في النفوس من خبر واحد ؛
ولهذا قال : { إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ }.
وقال محمد بن إسحاق : { رِدْءًا يُصَدِّقُنِي } أي : يبين لهم عني ما أكلمهم به ،
فإنه يفهم [عني] (2).
فلما سأل ذلك قال الله تعالى : { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } أي : سنقوي أمرك
، ونعز جانبك بأخيك ، الذي سألت له أن يكون نبيا معك. كما قال في الآية الأخرى : {
قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى } [ طه : 36 ] ، وقال تعالى : { وَوَهَبْنَا
لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا } [ مريم : 53 ]. ولهذا قال بعض
السلف : ليس أحد أعظم مِنَّةً على أخيه ، من موسى على هارون ، عليهما السلام ،
فإنه شفع فيه حتى جعله الله نبيًّا ورسولا معه إلى فرعون وملئه ، ولهذا قال [الله
تعالى] (3) في حق موسى : { وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا } [ الأحزاب : 69 ].
وقوله تعالى : { وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا } أي : حجة قاهرة ، { فَلا
يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا } أي : لا سبيل لهم إلى الوصول إلى أذاكما بسبب
إبلاغكما آيات الله ، كما قال الله تعالى [لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم] (4) :
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [وَإِنْ لَمْ
تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ] وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [
المائدة : 67 ] (5). وقال تعالى : { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ
وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا
} [ الأحزاب : 39 ] ، أي : وكفى بالله ناصرًا ومعينًا ومؤيدًا. ولهذا أخبرهما أن
العاقبة لهما ولِمَنْ اتبعهما في الدنيا والآخرة ، فقال : { أَنْتُمَا وَمَنِ
اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ } ، كما قال
__________
(1) زيادة من ت.
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من ت ، ف ، أ.
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) زيادة من ت ، أ ، وفي هـ : "إلى قوله".
(6/236)
تعالى : {
كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [
المجادلة : 21 ] ، وقال تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ
آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ. يَوْمَ لا
يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ
الدَّارِ } [ غافر : 51 ، 52 ].
ووجه ابن جرير على أن المعنى : { وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ
إِلَيْكُمَا } ، ثم يبتدئ فيقول : { بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا
الْغَالِبُونَ } ، تقديره : أنتما ومَنْ اتبعكما الغالبون بآياتنا (1).
ولا شك أن هذا المعنى صحيح ، وهو حاصل من التوجيه الأول ، فلا حاجة إلى هذا ،
والله أعلم.
__________
(1) تفسير الطبري (20/48).
(6/237)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
{ فَلَمَّا
جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرًى
وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي
أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ
الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) }.
يخبر تعالى عن مجيء موسى وأخيه هارون إلى فرعون وملئه ، وعرضه ما آتاهما الله من
المعجزات الباهرة والدلالات القاهرة ، على صدقهما فيما أخبر عن الله عز وجل من
توحيده واتباع أوامره. فلما عاين فرعون وملؤه ذلك وشاهدوه وتحققوه ، وأيقنوا أنه
من الله ، عدلوا بكفرهم وبغيهم إلى العناد والمباهتة ، وذلك لطغيانهم وتكبرهم عن
اتباع الحق ، فقالوا : { مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرًى } أي : مفتعل مصنوع.
وأرادوا معارضته بالحيلة والجاه ، فما صعد معهم ذلك.
وقوله (1) : { وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأوَّلِينَ } يعنون : عبادة
الله وحده لا شريك له ، يقولون : ما رأينا أحدا من آبائنا على هذا الدين ، ولم نر
(2) الناس إلا يشركون مع الله آلهة أخرى. فقال موسى ، عليه السلام ، مجيبا لهم : {
رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ } يعني : مني ومنكم ، وسيفصل
بيني وبينكم. ولهذا قال : { وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ } أي : النصرة
والظفر والتأييد ، { إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } أي : المشركون بالله.
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ
غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا
لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ
(38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ
فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ
(40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ
لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) }.
__________
(1) في ت ، ف : "وقولهم".
(2) في ف : "وما نرى".
(6/237)
يخبر تعالى
عن كفر فرعون وطغيانه وافترائه في دعوى الإلهية لنفسه القبيحة - لعنه الله - كما
قال تعالى : { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا
فَاسِقِينَ } [ الزخرف : 54 ] ، وذلك لأنه دعاهم إلى الاعتراف له بالإلهية ،
فأجابوه إلى ذلك بقلة عقولهم وسخافة أذهانهم ؛ ولهذا قال : { يَا أَيُّهَا الْمَلأ
مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } ، [و] (1) قال تعالى إخبارا عنه : {
فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ
نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى } [
النازعات : 23 - 26 ] يعني : أنه جمع قومه ونادى فيهم بصوته العالي مُصَرِّحا لهم
بذلك ، فأجابوه سامعين مطيعين. ولهذا انتقم الله تعالى منه ، فجعله عبرة لغيره في
الدنيا والآخرة ، وحتى إنه واجه موسى الكليم بذلك فقال : { لَئِنِ اتَّخَذْتَ
إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } [ الشعراء : 29 ].
وقوله : { فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا
لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى } أي : أمر وزيره هامان ومدبر رعيته ومشير
دولته أن يوقد له على الطين ، ليتخذ له آجُرّا لبناء الصرح ، وهو القصر المنيف
الرفيع - كما قال في الآية الأخرى : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي
صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى
إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ
عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ } [
غافر : 36 ، 37 ] ، وذلك لأن (2) فرعون بنى هذا الصرح الذي لم يُرَ في الدنيا بناء
أعلى منه ، إنما أراد بهذا أن يظهر لرعيته تكذيب موسى فيما زعمه من دعوى إله غير
فرعون ؛ ولهذا قال : { وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ } أي : في قوله إن
ثَمّ ربًّا غيري ، لا أنه كذبه في أن الله أرسله ؛ لأنه لم يكن يعترف بوجود الصانع
، فإنه قال : { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 23 ] وقال : { لَئِنِ
اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } [ الشعراء : 29
] وقال : { يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } وهذا
قول ابن جرير.
وقوله : { وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ } أي : طغوا وتجبروا ، وأكثروا في
الأرض الفساد ، واعتقدوا أنه لا معاد ولا قيامة (3) ، { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ
رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ.إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } [ الفجر : 13 ، 14 ] ،
ولهذا قال ها هنا : { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ }
أي : أغرقناهم في البحر في صبيحة واحدة ، فلم يبق منهم أحد { فَانْظُرْ كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى
النَّارِ } أي : لمن سلك وراءهم وأخذ بطريقتهم ، في تكذيب الرسل وتعطيل الصانع ، {
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ } أي : فاجتمع عليهم خزي الدنيا موصولا بذل
الآخرة ، كما قال تعالى : { أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ } [ محمد : 13 ]
وقوله : { وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً } (4) أي : وشرع الله
لعنتهم ولعنة مَلكهم فرعون على ألسنة المؤمنين من عباده المتبعين رسله ، وكما أنهم
في الدنيا ملعونون على ألسنة الأنبياء وأتباعهم كذلك ، { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ
هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ }. قال قتادة : وهذه الآية كقوله تعالى : {
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ
الْمَرْفُودُ } [ هود : 99 ].
__________
(1) زيادة من ت ، ف.
(2) في ت : "أن".
(3) في ت : "لا قيامة ولا معاد".
(4) في ت : "فأتبعناهم".
(6/238)
وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
{ وَلَقَدْ
آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى
بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) }.
يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله موسى الكليم ، عليه من ربه الصلاة
والتسليم ، من إنزال التوراة عليه بعدما أهلك فرعون وملأه.
وقوله : { مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى } يعني : أنه بعد إنزال
التوراة لم يعذب أمة بعامة ، بل أمر المؤمنين أن يقاتلوا أعداء الله من المشركين ،
كما قال : { وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ
بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً }
[ الحاقة : 9 ، 10 ].
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا محمد وعبد الوهاب قالا حدثنا عوف ، عن أبي
نَضْرَة ، عن أبي سعيد الخُدْري قال : ما أهلك الله قومًا بعذاب من السماء ولا من
الأرض بعدما أنزلت التوراة على وجه الأرض ، غير القرية التي مسخوا قردة ، ألم تر
أن الله يقول : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا
أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى } (1).
ورواه ابن أبي حاتم ، من حديث عوف بن أبي جَميلة (2) الأعرابي ، بنحوه. وهكذا رواه
أبو بكر البزار في مسنده ، عن عمرو بن علي الفلاس ، عن يحيى القَطَّان ، عن عوف ،
عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد موقوفًا (3). ثم رواه عن نصر بن علي ، عن عبد الأعلى ،
عن عوف ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد - رفعه (4) إلى النبي صلى الله عليه وسلم -
قال : "ما أهلكَ الله قوما بعذاب من السماء ولا من الأرض إلا قبل موسى"
، ثم قرأ : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا
الْقُرُونَ الأولَى } (5).
وقوله : { بَصَائِرَ لِلنَّاسِ } أي : من العمى والغي ، { وهدى } إلى الحق ، {
ورحمة } أي : إرشادا إلى الأعمال الصالحة ، { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي :
لعل الناس يتذكرون به ، ويهتدون بسببه.
__________
(1) تفسير الطبري (20/50).
(2) في أ : "حبلة".
(3) مسند البزار برقم (2247) "كشف الأستار".
(4) في ت : "مرفوعا".
(5) مسند البزار برقم (2248) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع
(7/88) : "رواه البزار موقوفا ومرفوعا ورجالهما رجال الصحيح".
(6/239)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
{ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) }.
(6/239)
يقول تعالى
منبهًا على برهان نبوة محمد ، صلوات الله وسلامه عليه ، حيث أخبر بالغيوب الماضية
، خبرًا كأن سامعه شاهد ورَاءٍ لما تقدم ، وهو رجل أمي لا يقرأ شيئا من الكتب ،
نشأ بين قوم لا يعرفون شيئا من ذلك ، كما أنه لما أخبره عن مريم وما كان من أمرها
، قال تعالى : { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ
يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ آل عمران : 44
] ، أي : ما كنت حاضرًا لذلك ، ولكن الله أوحاه إليك. وهكذا لما أخبره عن نوح
وقومه ، وما كان من إنجاء الله له وإغراق قومه.
ثم قال تعالى : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ
تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ
لِلْمُتَّقِينَ } [ هود : 49 ] وقال في آخر السورة { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ (1)
الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ } [ هود : 100 ] ، وقال بعد ذكر قصة يوسف : { ذَلِكَ
مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ
أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ } [ يوسف : 102 ] ، وقال في سورة طه : {
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ
لَدُنَّا ذِكْرًا } [ طه : 99 ] وقال ها هنا - بعدما أخبر عن قصة موسى من أولها
إلى آخرها ، وكيف كان ابتداء إيحاء الله إليه وتكليمه له - : { وَمَا كُنْتَ
بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ } يعني : يا محمد ،
ما كنت بجانب الجبل الغربي الذي كلم الله موسى من الشجرة التي هي شرقية على شاطئ
الوادي ، { وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ } لذلك ، ولكن الله سبحانه وتعالى
أوحى إليك ذلك ، ليجعله حجة وبرهانًا على قرون قد تطاول عهدها ، ونَسُوا حُجَج
الله عليهم ، وما أوحاه إلى الأنبياء المتقدمين.
وقوله : { وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ
آيَاتِنَا } أي : وما كنت مقيما في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ، حين أخْبرتَ عن
نبيها شعيب ، وما قال لقومه ، وما ردُّوا عليه ، { وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ
} أي : ولكن نحن أوحينا إليك ذلك ، وأرسلناك للناس رسولا.
{ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا } - قال أبو عبد الرحمن
النسائي ، في التفسير من سننه : أخبرنا علي بن حُجْر ، أخبرنا عيسى - وهو ابن يونس
- عن حمزة الزيات ، عن الأعمش ، عن علي بن مُدْرِك ، عن أبي زُرْعَة ، عن أبي
هريرة ، رضي الله عنه { : وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا } ،
قال : نودوا : يا أمة محمد ، أعطيتكم قبل أن تسألوني ، وأجبتكم قبل أن تدعوني.
وهكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، من حديث جماعة ، عن حمزة - وهو ابن حبيب
الزيات - عن الأعمش. ورواه ابن جرير من حديث وكيع ويحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن
علي بن مُدْرِك ، عن أبي زُرْعَة - وهو ابن عمرو بن جرير (2) - أنه قال ذلك من
كلامه ، والله أعلم.
وقال مُقاتِل بن حَيَّان : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا } :
أمتك في أصلاب آبائهم أن يؤمنوا
__________
(1) في ت ، ف : "الغيب" وهو خطأ.
(2) تفسير الطبري (20/51) والذي فيه من طريق سفيان ويحيى بن عيسى.
(6/240)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
بك إذا
بعثت.
وقال قتادة : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا } موسى. وهذا -
والله أعلم - أشبه بقوله تعالى : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ
قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ }.
ثم أخبر هاهنا بصيغة أخرى أخص من ذلك ، وهو النداء ، كما قال تعالى : { وَإِذْ
نَادَى رَبُّكَ مُوسَى } [ الشعراء : 10 ] ، وقال : { إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ
بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى } [ النازعات : 16 ] ، وقال : { وَنَادَيْنَاهُ
مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } [ مريم : 52 ].
وقوله : { وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } أي : ما كنت مشاهدًا لشيء من ذلك ،
ولكن الله أوحاه إليك وأخبرك به ، رحمة منه لك وبالعباد بإرسالك إليهم ، {
لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ } أي : لعلهم يهتدون بما جئتهم به من الله عز وجل.
{ وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا
رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : وأرسلناك إليهم لتقيم عليهم الحجة ولتقطع عذرهم إذا
جاءهم عذاب من الله بكفرهم ، فيحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول ولا نذير ، كما قال
تعالى بعد ذكره إنزال كتابه المبارك وهو القرآن : { أَنْ تَقُولُوا (1) إِنَّمَا
أُنزلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ
دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزلَ عَلَيْنَا
الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ
وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } [ الأنعام : 156 ، 157 ] ، وقال : { رُسُلا مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ }
[ النساء : 165 ] ، وقال تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ
رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا
جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ المائدة : 19 ] ، والآيات في هذا كثيرة [والله أعلم]
(2).
{ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا
أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا
سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا
بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ
أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) }
__________
(1) في ت ، ف : "يقولوا".
(2) زيادة من ف ، أ.
(6/241)
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
{ وَلَقَدْ
وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) }.
يقول تعالى مخبرًا عن القوم الذين لو عذبهم قبل قيام الحجة عليهم ، لاحتجوا بأنهم
لم يأتهم رسول : إنهم لما جاءهم الحق من عنده على لسان محمد ، صلوات الله وسلامه
عليه (1) قالوا على
__________
(1) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(6/241)
وجه التعنت
والعناد والكفر والجهل والإلحاد : { لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى
أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ } ، يعنون - والله أعلم - :
من الآيات الكثيرة ، مثل العصا واليد ، والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ،
وتنقص (1) الزروع والثمار ، مما يضيق على أعداء الله ، وكفلق البحر ، وتظليل
الغمام ، وإنزال المنِّ والسلوى ، إلى غير ذلك من الآيات الباهرة ، والحجج القاهرة
، التي أجراها الله على يدي موسى عليه السلام ، حجة وبراهين له على فرعون وملئه
وبني إسرائيل ، ومع هذا كله لم ينجع في فرعون وملئه ، بل كفروا بموسى وأخيه هارون
، كما قالوا لهما : { أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ
آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا
بِمُؤْمِنِينَ } [ يونس : 78 ] ، وقال تعالى : { فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ
الْمُهْلَكِينَ } [ المؤمنون : 48 ].ولهذا قال هاهنا : { أَوَلَمْ يَكْفُرُوا
بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ } أي : أولم يكفر البشر بما أوتي موسى من تلك
الآيات العظيمة. { قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ، } ، أي تعاونا ، { وَقَالُوا
إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ } أي : بكل منهما كافرون. ولشدة التلازم والتصاحب
والمقارنة بين موسى وهارون ، دلَّ ذكر أحدهما على الآخر ، كما قال الشاعر :
فمَا أدْري إذَا يَمَّمْتُ أرْضًا... أريدُ الخَيْرَ أيهُمَا يَليني...
أي : فما أدري أيليني الخير أو الشر. قال مجاهد بن جبر : أمرت اليهود قريشا أن
يقولوا لمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك ، فقال الله : { أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا
أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا } قال : يعني موسى
وهارون صلى الله عليه وسلم (2) { تَظَاهَرَا } أي : تعاونا وتناصرا وصدق كل منهما
الآخر. وبهذا قال سعيد بن جبير وأبو رَزِين في قوله : { ساحِران } يعنون : موسى
وهارون. وهذا قول جيد قَويّ ، والله أعلم.
وقال مسلم بن يَسَار ، عن ابن عباس { قَالُوا ساحِرَانِ تَظَاهَرَا } يعني : موسى
ومحمدًا ، صلوات الله وسلامه عليهما (3) وهذا رواية عن الحسن البصري.
وقال الحسن وقتادة : يعني : عيسى ومحمدًا ، صلى الله عليهما وسلم ، وهذا فيه بعد ؛
لأن عيسى لم يجر له ذكر هاهنا ، والله أعلم.
وأما من قرأ { سِحْرَانِ تَظَاهَرَا } ، فقال علي بن أبي طلحة والعوفي ، عن ابن
عباس. يعنون : التوراة والقرآن. وكذا قال عاصم الجَنَديّ ، والسُّدِّيُّ ، وعبد
الرحمن بن زيد بن أسلم ، قال السدي : يعني صَدّق كل واحد منهما الآخر.
وقال عكرمة : يعنون : التوراة والإنجيل. وهو رواية عن أبي زرعة ، واختاره ابن جرير
(4).
وقال الضحاك وقتادة : الإنجيل والقرآن. والله سبحانه ، أعلم بالصواب. والظاهر على
قراءة : { سِحْرَانِ } أنهم يعنون : التوراة والقرآن ؛ لأنه قال بعده : { قُلْ
فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ } ،
وكثيرًا ما يقرن الله بين التوراة والقرآن ، كما في قوله تعالى { قُلْ مَنْ أَنزلَ
الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ } إلى أن قال : {
وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ } [ الأنعام : 91 ، 92 ] ،
__________
(1) في ت ، ف ، أ : "تنقيص".
(2) في ف ، أ : "عليهما السلام".
(3) في ف : "عليهما وسلم".
(4) تفسير الطبري (20/53).
(6/242)
الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
وقال في آخر
السورة : { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ } ،
إلى أن قال : { وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الأنعام : 155 ] ، وقالت الجن : { إِنَّا سَمِعْنَا
كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ] } [ الأحقاف
: 30 ] (1) وقال ورقة بن نوفل : هذا الناموس الذي أنزل [الله] (2) على موسى. وقد
علم بالضرورة لذوي الألباب أن الله لم ينزل كتابًا من السماء فيما أنزل من الكتب
المتعددة على أنبيائه أكمل ولا أشمل ولا أفصح ولا أعظم ولا أشرف من الكتاب الذي
أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (3) ، وهو القرآن ، وبعده في الشرف والعظمة
الكتاب الذي أنزله على موسى بن عمران ، عليه السلام ، وهو التوراة التي قال الله
تعالى فيها : { إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ
بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ
وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ
شُهَدَاءَ } [ المائدة : 44 ]. والإنجيل إنما نزل متمما للتوراة ومُحلا لبعض ما
حُرّم على بني إسرائيل. ولهذا قال تعالى : { قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : فيما
تدافعون به الحق وتعارضون به من الباطل.
قال الله تعالى : { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ } أي : فإن لم يجيبوك عما قلت
لهم ولم يتبعوا الحق { فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ } أي : بلا
دليل ولا حجة { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ
اللَّهِ } أي : بغير حجة مأخوذة من كتاب الله ، { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }.
وقوله : { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ } قال مجاهد : فصلنا لهم القول.
وقال السدي : بينا لهم القول.
وقال قتادة : يقول تعالى : أخبَرَهم كيف صُنع بِمَنْ مضى وكيف هو صانع ، {
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }.
قال مجاهد وغيره : { وَصَّلْنَا لَهُمُ } يعني : قريشا. وهذا هو الظاهر ، لكن قال
حماد بن سلمة ، عن عمرو بن دينار ، عن يحيى بن جَعْدَة ، عن رفاعة - رفاعة هذا هو
ابن قَرَظَة القُرَظيّ ، وجعله ابن منده : رفاعة بن سموال ، خال صفية بنت حيي ،
وهو الذي طلق تميمة بنت وهب التي تزوجها بعده عبد الرحمن بن الزبير بن باطا ، كذا
ذكره ابن الأثير (4) - قال : نزلت { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ } في
عشرة أنا أحدهم. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديثه (5).
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)
وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا
إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ
مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ
وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا
نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) }.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من ف.
(3) في ف ، أ : "صلوات الله وسلامه عليه".
(4) أسد الغابة لابن الأثير (2/228).
(5) تفسير الطبري (20/56) ورواه اللطبراني في المعجم الكبير (5/53) من طريق حماد
بن سلمة به.
(6/243)
يخبر تعالى
عن العلماء الأولياء (1) من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالقرآن ، كما قال تعالى : {
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ
يُؤْمِنُونَ بِهِ } [ البقرة : 121 ] ، وقال : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ
خَاشِعِينَ لِلَّهِ } [ آل عمران : 199 ] ، وقال : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ
سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا
لَمَفْعُولا } [ الإسراء : 107 ، 108 ] ، وقال : { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ
مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ
مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذَا
سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ
مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ
الشَّاهِدِينَ } [ المائدة : 82 ، 83 ].
قال سعيد بن جبير : نزلت في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي ، فلما قدموا على
النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم : { يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ } حتى ختمها
، فجعلوا يبكون وأسلموا ، ونزلت فيهم هذه الآية الأخرى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ
قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ
مُسْلِمِينَ } يعني : من قبل هذا القرآن كنا مسلمين ، أي : موحدين مخلصين لله
مستجيبين له.
قال الله : { أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا } أي :
هؤلاء المتصفون بهذه الصفة الذين آمنوا بالكتاب الأول ثم بالثاني [يؤتون أجرهم
مرتين بإيمانهم بالرسول الأول ثم بالثاني] (2) ؛ ولهذا قال : { بِمَا صَبَرُوا }
أي : على اتباع الحق ؛ فإنَّ تجشُّم مثل هذا شديد على النفوس. وقد ورد في الصحيحين
من حديث عامر الشعبي ، عن أبي بُرْدَةَ ، عن أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه ،
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثلاثة يُؤتَونَ أجْرهم مَرّتَين :
رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي ، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه ،
ورَجُل كانت له أمَة فأدّبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوَّجها" (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق السَّيلَحيني ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن
سليمان (4) بن عبد الرحمن ، عن القاسم ، عن أبي أمامة قال : إني لتحتَ راحلة رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ، فقال قولا حسنًا جميلا وقال فيما قال :
"مَنْ أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين ، وله ما لنا وعليه ما علينا ،
[ومَنْ أسلم من المشركين ، فله أجره ، وله ما لنا وعليه ما علينا] " (5) (6).
وقوله { وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } أي : لا يقابلون السيئ (7)
بمثله ، ولكن يعفون ويصفحون. { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } أي : ومن
الذي رزقهم من الحلال ينفقون على خَلْق الله في النفقات الواجبة لأهلهم وأقاربهم ،
والزكاة المفروضة والمستحبة من التطوعات ، وصدقات النفل والقربات.
__________
(1) في ت ، ف : "الألباء" وفي أ : "الألباب".
(2) زيادة من ت ، ف ، أ.
(3) صحيح البخاري برقم (97) وصحيح مسلم برقم (154).
(4) في ، أ : "سليم".
(5) زيادة من ف ، أ ، ومسند أحمد.
(6) المسند (5/259).
(7) في ت ، ف ، أ : "يقابلون على السيئ".
(6/244)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
وقوله : {
وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ } أي : لا يخالطون أهله ولا
يعاشرونهم ، بل كما قال تعالى : { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا }
[ 0الفرقان : 72 ].
{ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا
نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } أي : إذا سَفه عليهم سَفيه ، وكلمهم بما لا يَليقُ بهم
الجوابُ عنه ، أعرضوا عنه ولم يقابلوه بمثله من الكلام القبيح ، ولا يصدر عنهم إلا
كلام طيب. ولهذا قال عنهم : إنهم قالوا : { لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ
أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } أي : لا نُريد
طَريق الجاهلين ولا نُحبّها.
قال محمد بن إسحاق في السيرة : ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة
عشرون رجلا أو قريب من ذلك ، من النصارى ، حين (1) بلغهم خبره من الحبشة. فوجدوه
في المسجد ، فجلسوا إليه وكلموه وساءلوه - ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة -
فلما فرغوا من مساءلة رسول الله عما أرادوا ، دعاهم إلى الله وتلا عليهم القرآن ،
فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا لله وآمنوا به وصدقوه ،
وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره. فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن
هشام في نفر من قريش ، فقالوا (2) لهم : خَيَّبَكُم الله مِنْ ركب. بعثكم مَنْ
وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم (3) بخبر الرجل ، فلم تطمئن مجالسكم عنده
حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال ؛ ما نعلم ركبًا أحمق منكم. أو كما قالوا لهم.
فقالوا [لهم] (4) سلام عليكم ، لا نجاهلكم ، لنا ما نحن عليه ، ولكم ما أنتم عليه
، لم نَألُ أنفسَنا خيرًا (5).
قال : ويقال : إن النفر النصارى من أهل نجران ، فالله أعلم أيّ ذلك كان (6).
قال : ويقال - والله أعلم - إن فيهم نزلت هذه الآيات : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ } إلى قوله : { لا نَبْتَغِي
الْجَاهِلِينَ }.
قال : وقد سألت الزهري عن هذه الآيات فيمن أنزلْن (7) ، قال : ما زلتُ أسمع من
علمائنا أنهن أنزلهن (8) في النجاشي وأصحابه ، رضي الله عنهم ، والآيات التي (9)
في سورة المائدة : { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا } إلى قوله
: { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } [ المائدة : 82 ، 83 ]
{ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ
نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى
إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا
يَعْلَمُونَ (57) }.
__________
(1) في أ : "حتى".
(2) في أ : "فقال".
(3) في ت : "فتأتونهم".
(4) زيادة من ت ، ف ، أ.
(5) السيرة النبوية لابن هشام (1/392).
(6) في أ : "كما".
(7) في ت : "نزلت" وفي ف ، أ : "نزلن".
(8) في أ : "نزلن".
(9) في أ : "اللاتي".
(6/245)
يقول تعالى
لرسوله ، صلوات الله وسلامه عليه : إنك يا محمد { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ
أَحْبَبْتَ } أي : ليس إليك ذلك ، إنما عليك البلاغ ، والله يهدي من يشاء ، وله
الحكمة البالغة والحجة الدامغة ، كما قال تعالى : { ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي
من يشاء } [ البقرة : 272 ] ، وقال : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ
بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ].
وهذه الآية أخص من هذا كله ؛ فإنه قال : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } أي :
هو أعلم بِمَنْ يستحق الهداية بِمَنْ يستحق الغِوَاية ، وقد ثبت في الصحيحين أنها
نزلت في أبي طالب عَمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان يَحوطُه وينصره ،
ويقوم في صفه ويحبه حبًّا [شديدا] (1) طبعيًّا لا شرعيًّا ، فلما حضرته الوفاة
وحان أجله ، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان والدخول في الإسلام ،
فسبق القدر فيه ، واختطف من يده ، فاستمر على ما كان عليه من الكفر ، ولله الحكمة
(2) التامة.
قال الزهري : حدثني سعيد بن المسَيَّب ، عن أبيه - وهو المسيب بن حَزْن المخزومي ،
رضي الله عنه - قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم
، فوجد عنده أبا جهل بن هشام ، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "يا عم ، قل : لا إله إلا الله ، كلمة أشهد لك بها عند
الله". فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب ، أترغب عن ملة عبد
المطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ، ويعودان له بتلك
المقالة ، حتى قال آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب. وأبى أن يقول : لا إله إلا
الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما لأستغفرن لك ما لم أنه
عنك". فأنزل الله عز وجل : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ
يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى } [ التوبة : 113 ]
، بوأنزل في أبي طالب : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ
يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }.
أخرجاه (3) من حديث الزهري (4). وهكذا رواه (5) مسلم في صحيحه ، والترمذي ، من
حديث يزيد بن كَيْسَان ، عن أبي حازم ، عن أبي هُرَيْرَةَ قال : لما حَضَرَتْ
وفاةُ أبي طالب أتاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال : "يا عماه ، قل :
لا إله إلا الله ، أشهد لك بها يوم القيامة". فقال : لولا أن تُعَيّرني (6)
بها قريش ، يقولون : ما حمله عليه إلا جَزَع الموت ، لأقرَرْتُ بها عينَك ، لا
أقولها إلا لأقرَّ بها عينك. فأنزل الله : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }. وقال
الترمذي : حسن غريب (7) ، لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن كيسان (8).
ورواه الإمام أحمد ، عن يحيى بن سعيد القَطَّان ، عن يزيد بن كيسان ، حدثني أبو
حازم ، عن أبي هريرة ، فذكره بنحوه (9).
__________
(1) زيادة من ت ، ف ، أ.
(2) في أ : "الحجة".
(3) في ت : "البخاري ومسلم".
(4) صحيح البخاري برقم (1360) وصحيح مسلم برقم (24).
(5) في ت : "وروى".
(6) في ف : "يعيرني".
(7) في ت : "رواه الترمذي وقال : حسن صحيح".
(8) صحيح مسلم رقم (25) وسنن الترمذي برقم (3188).
(9) المسند (2/434).
(6/246)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
وهكذا قال
ابن عباس ، وابن عمر ، ومجاهد ، والشعبي ، وقتادة : إنها نزلت في أبي طالب حين
عَرَضَ عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يقول : "لا إله إلا الله"
فأبى عليه ذلك ، وقال : (1) أيْ ابن أخي ، ملةَ الأشياخ. وكان آخر ما قال : هو على
ملة عبد المطلب.
وقال (2) ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا
عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم (3) ، عن سعيد بن أبي راشد قال : كان رسول قيصر جاء
(4) إليَّ قال : كتب معي قيصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا ، فأتيته
فدفعت الكتاب ، فوضعه في حجره ، ثم قال : "مِمَّنْ الرجل ؟" قلت : من
تنوخ (5). قال : "هل لك في دين أبيك إبراهيم الحنيفية ؟" قلت : إني رسول
قوم ، وعلى دينهم حتى أرجع إليهم. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظر إلى
أصحابه وقال (6) : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ
يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } (7).
وقوله : { وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا }
: [يقول تعالى مخبرًا عن اعتذار بعض الكفار في عدم اتباع (8) الهدى حيث قالوا
لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ
مِنْ أَرْضِنَا } ] (9) أي : نخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى ، وخالفنا مَنْ
حولنا من أحياء العرب المشركين ، أن يقصدونا بالأذى والمحاربة ، ويتخطفونا أينما
كنا ، فقال الله تعالى مجيبا لهم : { أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا }
يعني : هذا الذي اعتذروا به كذب وباطل ؛ لأن الله جعلهم في بلد أمين ، وحَرَم معظم
آمن منذ وُضع ، فكيف يكون هذا الحرم آمنًا في حال كفرهم وشركهم ، ولا يكون آمنًا
لهم وقد أسلموا وتابعوا الحق ؟.
وقوله : { يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ } أي : من سائر الثمار مما
حوله من الطائف وغيره ، وكذلك المتاجر والأمتعة { رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا } أي : من
عندنا { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } فلهذا قالوا ما قالوا.
وقد قال (10) النسائي : أنبأنا الحسن بن محمد ، حدثنا الحجاج ، عن ابن جُرَيْج ،
أخبرني ابن أبي مُلَيْكة قال : قال عمرو بن شعيب ، عن ابن عباس - ولم يسمعه منه -
: أن الحارث بن عامر بن نوفل الذي قال : { إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ
نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا } (11).
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ
لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا
ظَالِمُونَ (59) }.
__________
(1) في أ : "وكان".
(2) في ت : "وروى".
(3) في ت : "بإسناده".
(4) في أ : "جارا".
(5) في هـ : "تيرح" والمثبت من ف ، أ.
(6) في ت ، ف ، أ : "فقال".
(7) رواه أحمد في المسند (3/441) من طريق حماد بن سلمة بنحوه.
(8) في أ : "اتباعهم".
(9) زيادة من ت ، ف ، أ.
(10) في ت : "وقد روى".
(11) النسائي في السنن الكبرى برقم (11385).
(6/247)
يقول تعالى
مُعَرّضًا بأهل مكة في قوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ
مَعِيشَتَهَا } أي : طغت وأشرَت وكفرت نعمة الله (1) ، فيما أنعم به عليهم من
الأرزاق ، كما قال في الآية الأخرى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ
آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ
فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ
بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ. وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ
فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } [ النحل 112 ، 113 ] ولهذا قال : {
فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا } أي : دَثَرت
ديارهم فلا ترى إلا مساكنهم.
وقوله : { وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } أي : رجعت خرابًا ليس فيها أحد.
وقد ذكر ابن أبي حاتم [هاهنا] (2) عن ابن مسعود أنه سمع كعبًا يقول لعمر : إن
سليمان عليه السلام (3) قال للهامة - يعني البومة - ما لك لا تأكلين الزرع ؟ قالت
: لأنه أخرج آدم بسببه من الجنة. قال : فما لك لا تشربين الماء ؟ قالت : لأن الله
أغرق قوم نوح به. قال : فما لك لا تأوين إلا إلى الخراب ؟ قالت : لأنه ميراث الله
عز وجل ، ثم تلا { وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ }.
ثم قال الله (4) مخبرًا عن عدله ، وأنه لا يهلك أحدًا ظالمًا له ، وإنما يهلك من
أهلك بعد قيام الحجة عليهم ، ولهذا قال : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى
حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا } وهي مكة { رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا
}. فيه دلالة على أن النبي الأمي ، وهو محمد ، صلوات الله وسلامه عليه (5) ،
المبعوث من أم القرى ، رسول إلى جميع القرى ، من عرب وأعجام ، كما قال تعالى : {
لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } [ الشورى : 7 ] ، وقال تعالى : {
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [
الأعراف : 158 ] ، وقال : { لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] ،
وقال : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [ هود :
17 ]. وتمام الدليل [قوله] (6) { وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا
قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ
فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا } [ الإسراء : 58 ]. فأخبر أنه سيهلك كل قرية قبل يوم
القيامة ، وقد قال : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [
الإسراء : 15 ]. فجعل تعالى بعثة النبي الأمي شاملة لجميع القرى ؛ لأنه مبعوث إلى
(7) أمها وأصلها التي ترجع إليها. وثبت في الصحيحين عنه ، صلوات الله وسلامه عليه
(8) ، أنه قال : "بعثت إلى الأحمر والأسود". ولهذا ختم به الرسالة
والنبوة ، فلا نبي بعده ولا رسول ، بل شرعه باق بقاء الليل والنهار إلى يوم
القيامة.
وقيل : المراد بقوله : { حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا } أي : أصلها وعظيمتها ،
كأمهات الرساتيق والأقاليم. حكاه الزمخشري وابن الجوزيّ ، وغيرهما ، وليس ببعيد.
__________
(1) في ف : "بنعم الله" وفي أ : "نعم الله".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ت : "صلى الله عليه وسلم".
(4) في ت ، ف : "تعالى".
(5) في ت ، ف ، أ : "صلى الله عليه وسلم".
(6) زيادة من ت ، أ.
(7) في ت ، ف ، أ : "في".
(8) في ف ، أ : "صلى الله عليه وسلم".
(6/248)
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
{ وَمَا
أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا
عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ
وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) }.
يقول تعالى مخبرًا عن حقارة الدنيا (1) ، وما فيها من الزينة الدنيئة والزهرة
الفانية بالنسبة إلى ما أعده الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة من النعيم
العظيم المقيم ، كما قال : { مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ
} [ النحل : 96 ] ، وقال : { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ } [ آل
عمران : 198 ] ، وقال : { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ
} [ الرعد : 26 ] ، وقال : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ
خَيْرٌ وَأَبْقَى } [ الأعلى : 16 ، 17 ] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"والله ما الدنيا في الآخرة ، إلا كما يَغْمِس أحدكم إصبعه في اليم ،
فَلْينظُر ماذا يرجع إليه" (2).
[وقوله] (3) : { أَفَلا يَعْقِلُونَ } (4) أي : أفلا يعقل مَنْ يقدم الدنيا على
الآخرة ؟.
وقوله : { أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ
مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ
الْمُحْضَرِينَ } : يقول : أفمن هو مؤمن مصدق بما وعده الله على صالح أعماله من
الثواب الذي هو صائر إليه لا محالة ، كمَنْ هو كافر مكذب بلقاء الله ووعده ووعيده
، فهو ممتع في الحياة الدنيا أيامًا قلائل ، { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
مِنَ الْمُحْضَرِينَ } قال مجاهد ، وقتادة : من المعذبين.
ثم قد قيل : إنها نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبي جهل. وقيل : في
حمزة وعلي وأبي جهل ، وكلاهما عن مجاهد. والظاهر أنها عامة ، وهذا كقوله تعالى
إخبارا عن ذلك المؤمن حين أشرف على صاحبه ، وهو في الدرجات وذاك في الدركات : {
وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } [ الصافات : 57 ] ، وقال
تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } [ الصافات :
158 ].
{ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ
تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ
الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا
كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ
فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا
يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ
الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا
يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ
يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) }.
يقول تعالى مخبرًا عما يوبخ به الكفار المشركين يوم القيامة ، حيث يناديهم فيقول :
{ أَيْنَ شُرَكَائي الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ }
__________
(1) في ت : "عن الحياة الدنيا وحقارتها".
(2) رواه مسلم في صحيحه برقم (2858) من حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه.
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في ف ، أ : "تعقلون".
(6/249)
يعني : أين
الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدار الدنيا ، من الأصنام والأنداد ، هل ينصرونكم
أو ينتصرون ؟ وهذا على سبيل التقريع والتهديد ، كما قال : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا
فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ
وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ
أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا
كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } [ الأنعام : 94 ].
وقوله : { قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ } يعني : من الشياطين
والمَرَدَة والدعاة إلى الكفر ، { رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا
أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا
يَعْبُدُونَ } ، فشهدوا عليهم أنهم أغووهم فاتبعوهم ، ثم تبرؤوا من عبادتهم ، كما
قال تعالى : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا.
كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } [ مريم : 81
، 82 ] ، وقال : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا
يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ.
وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ
كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 5 ، 6 ] ، وقال الخليل لقومه : { إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ
بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } [ العنكبوت : 25 ]
، وقال الله (1) : { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ
اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ وَقَالَ
الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا
تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ
عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } [ البقرة : 166 ، 167 ] ،
ولهذا قال : { وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ } [أي] (2) : ليخلصوكم مما أنتم فيه
، كما كنتم ترجون منهم في الدار الدنيا ، { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا
لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ } أي : وتيقنوا أنهم صائرون إلى النار لا محالة.
وقوله : { لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ } أي : فودوا حين عاينوا العذاب لو
أنهم كانوا من المهتدين في الدار الدنيا. وهذا كقوله تعالى : { وَيَوْمَ يَقُولُ
نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا
لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا. وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا
أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا } [ الكهف : 52 ، 53
].
وقوله : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } :
النداء الأول عن سؤال التوحيد ، وهذا فيه إثبات النبوات : ماذا كان جوابكم
للمرسلين إليكم ؟ وكيف كان حالكم معهم ؟ وهذا كما يُسأل العبد في قبره : مَنْ ربك
؟ ومَنْ نبيك ؟ وما دينك (3) ؟ فأما المؤمن فيشهد أنه لا إله إلا الله ، وأن
محمدًا عبد الله (4) ورسوله. وأما الكافر فيقول : هاه.. هاه. لا أدري ؛ ولهذا لا
جواب له يوم القيامة غير السكوت ؛ لأن مَنْ كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى
وأضل سبيلا ولهذا قال تعالى : { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ
فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ }.
وقال مجاهد : فعميت عليهم الحجج ، فهم لا يتساءلون بالأنساب.
وقوله : { فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا } أي : في الدنيا ، {
فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ }
__________
(1) في ت ، ف : "تعالى" وفي أ : "الله تعالى".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : "من نبيكم وما دينكم".
(4) في ف ، أ : "عبده".
(6/250)
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
أي : يوم
القيامة ، و"عسى" من الله موجبة ، فإن هذا واقع بفضل الله ومَنّه لا
محالة.
{ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ
سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا
تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ
لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
(70) }.
يخبر تعالى أنه المنفرد بالخلق والاختيار ، وأنه ليس له في ذلك منازع ولا معقب
فقال : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } أي : ما يشاء ، فما شاء
كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فالأمور كلها خيرها وشرها بيده ، ومرجعها إليه.
وقوله : { مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } نفي على أصح القولين ، كقوله تعالى : {
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا
أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [ الأحزاب : 36 ].
وقد اختار ابن جرير أن { مَا } هاهنا بمعنى "الذي" ، تقديره : ويختار
الذي لهم فيه خيرة. وقد احتج بهذا المسلك طائفة المعتزلة على وجوب مراعاة الأصلح.
والصحيح أنها نافية ، كما نقله ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس وغيره أيضا ، فإن
المقام في بيان انفراده تعالى بالخلق والتقدير والاختيار ، وأنه لا نظير له في ذلك
؛ ولهذا قال : { سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : من
الأصنام والأنداد ، التي لا تخلق ولا تختار شيئًا.
ثم قال : { وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } أي :
يعلم ما تكن (1) الضمائر ، وما تنطوي عليه السرائر ، كما يعلم ما تبديه الظواهر من
سائر الخلائق ، { سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ
وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } [ الرعد : 10 ].
وقوله : { وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } أي : هو المنفرد بالإلهية ، فلا
معبود سواه ، كما لا رب يخلق ويختار سواه { لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى
وَالآخِرَةِ } أي : في جميع ما يفعله هو المحمود عليه ، لعدله وحكمته { وَلَهُ
الْحُكْمُ } أي : الذي لا معقب له ، لقهره وغلبته وحكمته ورحمته ، { وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ } أي : جميعكم يوم القيامة فيجازي (2) كل عامل بعمله ، من خير وشر ،
ولا يخفى عليه منهم خافية في سائر الأعمال.
__________
(1) في هـ ، أ : "مكتمة" والمثبت من ت ، ف.
(2) في ت ، ف : "فيجزي".
(6/251)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) }.
(6/251)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
يقول تعالى
ممتنًا على عباده بما سخر لهم من الليل والنهار ، اللذين لا قوَامَ لهم بدونهما.
وبين أنه لو جعلَ الليلَ دائمًا عليهم سرمدًا إلى يوم القيامة ، لأضرّ ذلك بهم ،
ولسئمته النفوس وانحصرت منه ، ولهذا قال تعالى : { مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ
يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ } أي : تبصرون به وتستأنسون بسببه ، { أَفَلا تَسْمَعُونَ
}.
ثم أخبر أنه لو جعل النهار سرمدًا دائمًا مستمرًّا إلى يوم القيامة ، لأضرَّ ذلك
بهم ، ولتعبت الأبدان وكلَّت من كثرة الحركات والأشغال ؛ ولهذا قال : { مَنْ
إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ } أي : تستريحون من
حركاتكم وأشغالكم. { أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ } أي : بكم { جَعَلَ
لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } أي : خلق هذا وهذا { لِتَسْكُنُوا فِيهِ } أي :
في الليل ، { وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } أي : في النهار بالأسفار والترحال ،
والحركات والأشغال ، وهذا من باب اللف والنشر.
وقوله : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : تشكرون الله بأنواع العبادات في الليل
والنهار ، ومن فاته شيء بالليل استدركه بالنهار ، أو بالنهار استدركه بالليل ، كما
قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ
أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } [ الفرقان : 62 ]. والآيات في
هذا كثيرة (1).
{ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ
تَزْعُمُونَ (74) وَنزعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا
بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يَفْتَرُونَ (75) }.
وهذا أيضا نداء [ثان] (2) على سبيل التقريع والتوبيخ لِمَنْ عبد مع الله إلهًا آخر
، يناديهم الرب - تبارك وتعالى - على رؤوس الأشهاد فيقول : { أَيْنَ شُرَكَائِيَ
الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } أي : في الدار الدنيا.
{ وَنزعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا } : قال مجاهد : يعني رسولا. { فَقُلْنَا
هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ } أي : على صحة ما ادعيتموه من أن لله شركاء ، { فَعَلِمُوا
أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ } أي : لا إله غيره ، أي : فلم ينطقوا ولم يحيروا (3) جوابا
، { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي : ذهبوا فلم ينفعوهم.
{ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ
الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ
قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ
الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ
فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) }.
__________
(1) بعدها في ت ، ف : "فصل : فانظر إلى هذه الآيات وما تضمنته من العبرة
والدلالة على ربوبية الله وحكمته ، كيف جعل الليل سكنا ولباسا ؟ يغشى العالم ،
فتسكن فيه الحركات ، وتأوى الحيوانات إلى بيوتها ، والطير إلى أوكارها ، وتستجم
فيه النفوس ، وتستريح من كد السعي والتعب ، حتى إذا أخذت منه النفوس راحتها
وثباتها ، وتطلعت إلى معايشها وتصرفها. جاء فالق الإصباح سبحانه بالنهار ، فقدم
حيثه بشير الصباح ، فهزم تلك الظلمة ومزقها كل ممزق ، وأزالها وكشفها عن العالم ،
فإذا هم مبصرون ، فانتشر الحيوان ، وتصرف في معايشه ومصالحه ، وخرجت الطيور من
أوكارها ، فيا له من ميعاد! ونشأة دال على قدرة الله سبحانه على المعاد الأكبر ،
وتكرره ومشاهدة النفوس له بحيث صار عادة ومألفا ، منعها من الاعتبار والاستدلال به
على النشأة الثانية ، وإحياء الخلق بعد موتهم ، كما وردت السنة بذلك ، أنه يستجاب
للعبد إذا قام من نومه يقول : الحمد لله الذي أحيانا بعد موتنا وإليه
النشور".
(2) زيادة من أ.
(3) في ت : "فلم يجيبوا".
(6/252)
قال الأعمش
، عن المِنْهَال بن عمرو ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : { إِنَّ
قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى } ، قال : كان ابن عمه. وهكذا قال إبراهيم
النَّخَعي ، وعبد الله بن الحارث بن نوفل ، وسماك بن حرب ، وقتادة ، ومالك بن
دينار ، وابن جُرَيْج ، وغيرهم : أنه كان ابن عم موسى ، عليه السلام (1).
قال ابن جُرَيْج : هو قارون بن يصهر بن قاهث ، وموسى بن عمران بن قاهث.
وزعم محمد بن إسحاق بن يَسَار : أن قارون كان عمَّ موسى (2) ، عليه السلام.
قال ابن جرير : وأكثر أهل العلم على أنه كان ابن عمه ، والله أعلم. وقال قتادة بن
دِعَامة : كنا نُحدّث أنه كان ابن عم موسى ، وكان يسمى المنوّر لحسن صوته بالتوراة
، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري ، فأهلكه البغي لكثرة ماله.
وقال شَهْر بن حَوْشَب : زاد في ثيابه شبرًا طولا ترفعًا على قومه.
وقوله : { وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ } أي : [من] (3) الأموال { مَا إِنَّ
مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ } أي : لَيُثقلُ حملُها
الفئامَ من الناس لكثرتها.
قال الأعمش ، عن خَيْثَمَةَ : كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود ، كل مفتاح مثل
الأصبع ، كل مفتاح على خزانة على حدته ، فإذا ركب حُملت على ستين بغلا أغر محجلا.
وقيل : غير ذلك ، والله أعلم.
وقوله : { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ
الْفَرِحِينَ } أي : وعظه فيما هو فيه صالح قومه ، فقالوا على سبيل النصح والإرشاد
: لا تفرح بما أنت فيه ، يعنون : لا تبطر بما أنت فيه من الأموال (4) { إِنَّ
اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } قال ابن عباس : يعني المرحين. وقال مجاهد :
يعني الأشرين البطرين ، الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم.
وقوله : { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ
نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } أي : استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل
والنعمة الطائلة ، في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات ، التي يحصل لك بها
الثواب في الدار الآخرة. { وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } أي : مما أباح
الله فيها (5) من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح ، فإن لربك عليك
حقًّا ، ولنفسك عليك حقًّا ، ولأهلك عليك
__________
(1) في ت : "صلى الله عليه وسلم".
(2) في ف ، أ : "موسى بن عمران".
(3) زيادة من ت.
(4) في ت ، ف ، أ : "المال".
(5) في ت ، ف : "لك".
(6/253)
حقًّا ،
ولزورك عليك حقا ، فآت كل ذي حق حقه.
{ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ } أي : أحسن إلى خلقه كما أحسن هو
إليك { وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ } أي : لا تكنْ همتك بما أنت فيه أن
تفسد به الأرض (1) ، وتسيء إلى خلق الله { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ
الْمُفْسِدِينَ }.
__________
(1) في أ : "في الأرض".
(6/254)
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
{ قَالَ
إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ
مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ
جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) }.
يقول تعالى مخبرًا عن جواب قارون لقومه ، حين نصحوه وأرشدوه إلى الخير { قَالَ
إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } أي : أنا لا أفتقر إلى ما تقولون ،
فإن الله تعالى إنما أعطاني هذا المال لعلمه بأني أستحقه ، ولمحبته لي فتقديره :
إنما أعطيته لعلم الله فيّ أني أهل له ، وهذا كقوله تعالى : { فَإِذَا (1) مَسَّ
الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ
إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ } [ الزمر : 49 ] أي : على علم من الله بي ،
وكقوله تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ
مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي } [ فصلت : 50 ] أي : هذا أستحقه.
وقد رُوي عن بعضهم أنه أراد : { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } أي :
إنه كان يعاني علم الكيمياء : وهذا القول ضعيف ؛ لأن علم الكيمياء في نفسه علم
باطل ؛ لأن قلب الأعيان لا يقدر أحد عليها إلا الله عز وجل ، قال الله : { يَا
أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ } [ الحج :
73 ] ، وفي الصحيح عن النبي (2) صلى الله عليه وسلم أنه قال : "يقول الله
تعالى : ومَنْ أظلم مِمَّنْ ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا ذرة ، فليخلقوا شعيرة"
(3). وهذا ورد في المصورين الذين يشبهون بخلق الله في مجرد الصورة الظاهرة أو
الشكل ، فكيف بِمَنْ يدعي أنه يحيل ماهية هذه الذات إلى ماهية ذات أخرى ، هذا زور
ومحال ، وجهل وضلال. وإنما يقدرون على الصبغ في الصورة الظاهرة ، وهو كذب وزغل
وتمويه ، وترويج أنه صحيح في نفس الأمر ، وليس كذلك قطعًا لا محالة ، ولم يثبت
بطريق شرعي أنه صح مع أحد من الناس من هذه الطريقة التي يتعاناها هؤلاء الجهلة
الفسقة الأفاكون فأما ما يجريه الله تعالى (4) من خَرْق العوائد على يدي بعض
الأولياء من قلب بعض الأعيان ذهبًا أو فضة أو نحو ذلك ، فهذا أمر لا ينكره مسلم ،
ولا يرده مؤمن ، ولكن هذا ليس من قبيل الصناعات وإنما هذا عن مشيئة رب الأرض
والسموات ، واختياره وفعله ، كما روي عن حَيْوة بن شُرَيح المصري ، رحمه الله ،
أنه سأله سائل ، فلم يكن عنده ما يعطيه ، ورأى ضرورته ، فأخذ حصاة من الأرض
فأجالها في كفه ، ثم ألقاها إلى ذلك السائل فإذا هي ذهب أحمر. والأحاديث والآثار
[في هذا] (5) كثيرة جدًّا يطول ذكرها.
__________
(1) في ت ، أ : "وإذا" وهو خطأ.
(2) في ف : "رسول الله".
(3) صحيح البخاري برقم (5953) وصحيح مسلم برقم (2111).
(4) في ت ، ف : "سبحانه".
(5) زيادة من ت ، ف ، أ.
(6/254)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
وقال بعضهم
: إن قارون كان يعلم الاسم الأعظم ، فدعا الله به ، فتموّل بسببه. والصحيح المعنى
الأول ؛ ولهذا قال الله تعالى - رادًّا عليه فيما ادعاه من اعتناء الله به فيما
أعطاه من المال { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ
مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا } أي : قد
كان من هو أكثر منه مالا وما كان ذلك عن محبة منا له ، وقد أهلكهم الله مع ذلك
بكفرهم وعدم شكرهم ؛ ولهذا قال : { وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ
} أي : لكثرة ذنوبهم.
قال قتادة : { عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } : على خير عندي.
وقال السدي : على علم أني أهل لذلك.
وقد أجاد في تفسير هذه الآية الإمام عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، فإنه قال في قوله
: { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } قال : لولا رضا الله عني ،
ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا المال ، وقرأ { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ
أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً
وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ } [وهكذا يقول
مَنْ قل علمه إذا رأى مَنْ وسع الله عليه يقول : لولا أنه يستحق ذلك لما أعطي]
(1).
{ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ
عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ
خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ (80)
}.
يقول تعالى مخبرًا عن قارون : إنه خرج ذات يوم على قومه في زينة عظيمة ، وتجمل
باهر ، من مراكب وملابس عليه وعلى خدمه وحشمه ، فلما رآه مَنْ يريد الحياة الدنيا
ويميل إلى زُخرفها وزينتها ، تمنوا أن لو كان لهم مثل الذي أعطي ، قالوا : { يَا
لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } أي : ذو
حظ وافر من الدنيا. فلما سمع مقالتهم أهل العلم النافع قالوا لهم : { وَيْلَكُمْ
ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا } أي : جزاء الله لعباده
المؤمنين الصالحين في الدار الآخرة خير مما ترون.
[كما في الحديث الصحيح : يقول الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ،
ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، واقرؤوا إن شئتم : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ
مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
(2) [ السجدة : 17 ] (3).
وقوله : { وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ } : قال السدي : وما يلقى الجنة
(4) إلا الصابرون. كأنه جعل ذلك من تمام كلام الذين أوتوا العلم. قال ابن جرير :
وما يلقى (5) هذه الكلمة إلا الصابرون عن محبة الدنيا ، الراغبون في الدار الآخرة.
وكأنه جعل ذلك مقطوعًا من كلام أولئك ، وجعله من كلام الله عز وجل وإخباره بذلك.
{ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ
يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ
اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ
مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ
(82) }
__________
(1) زيادة من ت ، ف ، أ.
(2) زيادة من ت ، ف ، أ.
(3) صحيح مسلم برقم (2824).
(4) في أ : "وما يلقاها أي الجنة".
(5) في أ : "وما يلقاها".
(6/255)
لما ذكر
تعالى اختيال قارون في زينته ، وفخره على قومه وبغيه عليهم ، عقب ذلك بأنه خسف به
وبداره الأرض ، كما ثبت في الصحيح - عند البخاري من حديث الزهري ، عن سالم - أن
أباه حدثه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "بينا رجل يجر إزاره إذ
خسف به (1) ، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة".
ثم رواه من حديث جرير بن زيد ، عن سالم عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه
وسلم ، نحوه (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا النضر بن إسماعيل أبو المغيرة القاص ، حدثنا الأعمش ، عن
عطية (3) ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله (4) صلى الله عليه وسلم : "بينا
رجل فيمَنْ كان قبلكم ، خرج في بُرْدَيْن أخضرين يختال فيهما ، أمر الله الأرض
فأخذته ، فإنه ليتجلجل فيها إلى يوم القيامة". تفرد به أحمد (5) ، وإسناده
حسن.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا أبو خَيْثَمَةَ ، حدثنا أبو معلى بن منصور
(6) ، أخبرني محمد بن مسلم ، سمعت زيادًا النميري يحدث عن أنس بن مالك ، رضي الله
عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بينا رجل فيمن (7) كان
قبلكم خرج في بردين فاختال فيهما ، فأمر الله الأرض فأخذته ، فهو يتجلجل فيها إلى
يوم القيامة" (8).
وقد ذكر [الحافظ] (9) محمد بن المنذر - شكَّر - في كتاب العجائب الغريبة بسنده عن
نوفل بن مساحق قال : رأيت شابًّا في مسجد نجران ، فجعلت أنظر إليه وأتعجب من طوله
وتمامه وجماله ، فقال : ما لك تنظر إلي ؟ فقلت : أعجب من جمالك وكمالك. فقال : إن
الله ليعجب مني. قال : فما زال ينقص وينقص حتى صار بطول الشبر ، فأخذه بعض قرابته
في كمه وذهب.
وقد ذُكر أن هلاك قارون كان عن دعوة نبي الله موسى عليه السلام (10) واختلف في
سببه ، فعن ابن عباس والسدي : أن قارون أعطى امرأة بَغِيَّا مالا على أن تبهت موسى
بحضرة الملأ من بني إسرائيل ، وهو قائم فيهم يتلو عليهم كتاب الله ، فتقول : يا
موسى ، إنك فعلت بي كذا وكذا. فلما قالت في الملأ ذلك (11) لموسى عليه السلام ،
أرْعِدَ من الفَرَق ، وأقبل عليها (12) وصلى ركعتين ثم قال : أنشدك بالله الذي
فَرَق البحر ، وأنجاكم من فرعون ، وفعل كذا و[فعل] (13) كذا ،
__________
(1) في ت : "خسف الله به".
(2) صحيح البخاري برقم (5790).
(3) في ت : "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(4) في ت : "النبي".
(5) المسند (3/40).
(6) في هـ : "أبو يعلى بن منصور" والصواب ما أثبتناه من مسند أبي يعلى.
(7) في ف ، أ : "ممن".
(8) مسند أبي يعلى (7/279) وقال الهيثمي في المجمع (5/126) : "فيه زياد بن
عبد الله النميري وهو ضعيف ، وقد وثقه ابن حبان وقال : يخطئ".
(9) زيادة من ف ، أ.
(10) في ت : "صلى الله عليه وسلم".
(11) في أ : "بذلك".
(12) في أ : "بعد ما".
(13) زيادة من ف ، أ.
(6/256)
لما أخبرتني
بالذي حملك على ما قلت ؟ فقالت : أما إذ نَشَدْتَني فإن قارون أعطاني كذا وكذا ،
على أن أقول لك ، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه. فعند ذلك خَرّ موسى لله عز وجل
ساجدًا ، وسأل الله في قارون. فأوحى الله إليه أني قد أمرت الأرض أن تطيعك فيه ،
فأمر موسى الأرض أن تبتلعه وداره فكان (1) ذلك.
وقيل : إن قارون لما خرج على قومه في زينته تلك ، وهو راكب على البغال الشّهب ،
وعليه وعلى خدمه الثياب الأرجوان الصّبغة (2) ، فمر في جَحْفَله ذلك على مجلس نبي
الله موسى عليه السلام ، وهو يذكرهم بأيام الله. فلما رأى الناس قارون انصرفت وجوه
الناس حوله ، ينظرون إلى ما هو فيه. فدعاه موسى عليه السلام ، وقال : ما حملك على
ما صنعت ؟ فقال : يا موسى ، أما لئن كنت فُضِّلتَ عَلَيَّ بالنبوة ، فلقد فضلت
عليك بالدنيا ، ولئن شئت لتخرجن ، فلتدعون عليّ وأدعو عليك. فخرج وخرج قارون في
قومه ، فقال موسى (3) : تدعو أو أدعو أنا ؟ قال : بل أنا أدعو. فدعا قارون فلم يجب
له ، ثم قال موسى (4) : أدعو ؟ قال : نعم. فقال موسى : اللهم ، مُر الأرض أن تطيعني
(5) اليوم. فأوحى الله إليه أني قد فعلت ، فقال موسى : يا أرض ، خذيهم. فأخذتهم
إلى أقدامهم. ثم قال : خذيهم. فأخذتهم إلى ركبهم ، ثم إلى مناكبهم. ثم قال : أقبلي
بكنوزهم وأموالهم. قال : فأقبلت بها حتى نظروا إليها. ثم أشار موسى بيده فقال :
اذهبوا بني لاوى (6) فاستوت بهم الأرض.
وعن ابن عباس أنه قال : خُسف بهم إلى الأرض السابعة.
وقال قتادة : ذكر لنا أنه يخسف بهم كل يوم قامة ، فهم يتجلجلون فيها إلى يوم
القيامة.
وقد ذكر ها هنا إسرائيليات [غريبة] (7) أضربنا عنها صفحًا.
وقوله : { فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا
كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ } أي : ما أغنى عنه مالُه ، وما جَمَعه ، ولا خدمه و
[لا] (8) حشمه. ولا دفعوا عنه نقمة الله وعذابه ونكاله [به] (9) ، ولا كان هو في
نفسه منتصرًا لنفسه ، فلا ناصر له[لا] (10) من نفسه ، ولا من غيره.
وقوله تعالى : { وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ } أي :
الذين لما رأوه في زينته قالوا { يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ
إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } ، فلما خسف به أصبحوا يقولون : { وَيْكَأَنَّ
اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ } أي : ليس
المال بدالّ على رضا الله عن صاحبه [وعن عباده] (11) ؛ فإن الله يعطي ويمنع ،
ويضيق ويوسع ، ويخفض ويرفع ، وله الحكمة التامة والحجة البالغة. وهذا كما في
الحديث المرفوع عن ابن مسعود : "إن الله قسم بينكم أخلاقكم ، كما قسم أرزاقكم
وإن الله يعطي المال من يحب ، ومن لا يحب ، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب"
(12).
{ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا } أي : لولا لُطف الله بنا
وإحسانه إلينا لخسف بنا ، كما خسف
__________
(1) في ف ، أ : "وكان".
(2) في ت ، ف ، أ : "المصبغة".
(3) في ت : "صلى الله عليه وسلم". وفي ف ، أ : "عليه السلام".
(4) في ف ، أ : "قال : يا موسى".
(5) في ت : "فلتطعني".
(6) في أ : "اذهبوا به لا أرى".
(7) زيادة من ت ، ف.
(8) زيادة من ت ، ف.
(9) زيادة من أ.
(10) زيادة من أ.
(11) زيادة من أ.
(12) المسند (1/387).
(6/257)
تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
به ، لأنا
وَددْنا أن نكون مثله.
{ وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } يعنون : أنه كان كافرًا ، ولا يفلح
الكافر عند الله ، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وقد اختلف النحاة في معنى قوله تعالى [ها هنا] (1) : { وَيْكَأَنَّ } ، فقال بعضهم
: معناها : "ويلك اعلم أن" ، ولكن خُفّفت فقيل : "ويك" ،
ودلَّ فتح "أن" على حذف "اعلم". وهذا القول ضعَّفه ابن جرير
(2) ، والظاهر أنه قوي ، ولا يشكل على ذلك إلا كتابتها في المصاحف متصلة
"ويكأن". والكتابة أمر وضعي اصطلاحي ، والمرجع إلى اللفظ العربي ، والله
أعلم.
وقيل : معناها : ويكأن ، أي : ألم تر أن. قاله قتادة. وقيل : معناها "وي
كأن" ، ففصلها وجعل حرف "وي" (3) للتعجب أو للتنبيه ،
و"كأن" بمعنى "أظن وأحسب". قال ابن جرير : وأقوى الأقوال في
هذا قول قتادة : إنها بمعنى : ألم تر أن ، واستشهد بقول الشاعر (4) :
سَألَتَاني الطَّلاق أنْ رَأتَاني... قَلّ مَالي ، وقَدْ جئْتُمَاني بِنُكر...
وَيْكأنْ مَنْ يكُن له نَشَب يُحْ... بَبْ ومن يَفْتقر يَعش عَيشَ ضُرّ...
{ تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي
الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى
الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) }.
يخبر تعالى أن الدار الآخرة ونعيمها المقيم الذي لا يحول ولا يزول ، جعلها لعباده
المؤمنين المتواضعين ، الذين لا يريدون علوًّا في الأرض ، أي : ترفعًا على خلق
الله وتعاظمًا عليهم وتجبرًا بهم ، ولا فسادًا فيهم. كما قال عكرمة : العلو :
التجبر.
وقال سعيد بن جبير : العلو : البغي.
وقال سفيان بن سعيد الثوري ، عن منصور ، عن مسلم (5) البطين : العلو في الأرض :
التكبر بغير حق. والفساد : أخذ المال بغير حق.
وقال ابن جُرَيْج : { لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ } تعظمًا وتجبرًا (6) ،
{ وَلا فَسَادًا } : عملا بالمعاصي.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبي ، عن أشعث السمان (7) ، عن أبى سلام
الأعرج ، عن علي قال : إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك صاحبه ،
فيدخل (8) في قوله : { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا
يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }.
__________
(1) زيادة من ت ، ف ، أ.
(2) تفسير الطبري (20/77).
(3) في أ : "أي".
(4) هو زيد بن عمرو بن نفيل ، والبيت في تفسير الطبري (20/77).
(5) في أ : "سالم".
(6) في ف : "ولا تجبرا".
(7) في أ : "أشعب السماك".
(8) في أ : "فدخل".
(6/258)
وهذا محمول
على ما إذا أراد [بذلك] (1) الفخر [والتطاول] (2) على غيره ؛ فإن ذلك مذموم ، كما
ثبت في الصحيح ، عن النبي صلى الله عليه وسلم [أنه قال] (3) إنه أوحي إليّ أن
تواضَعُوا ، حتى لا يفخَرَ أحد على أحد ، ولا يبغي أحد على أحد" (4) ، وأما
إذا أحب ذلك لمجرد التجمّل فهذا لا بأس به ، فقد ثبت أن رجلا قال : يا رسول الله ،
إني أحب أن يكون ردائي حسنًا ونعلي حسنة ، أفمن الكبر ذلك ؟ فقال : "لا إن
الله جميل يحبّ الجمال".
وقال (5) : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ } أي : يوم القيامة { فَلَهُ خَيْرٌ
مِنْهَا } أي : ثواب الله خير من حَسَنَة العبد ، فكيف والله يضاعفه أضعافًا كثيرة
فهذا (6) مقام الفضل.
ثم قال : { وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا
السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ، كما قال في الآية الأخرى : {
وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ
إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ النمل : 90 ] وهذا مقام الفصل والعدل.
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) زيادة من ت ، ف ، أ.
(3) زيادة من ت ، ف ، أ.
(4) صحيح مسلم برقم (2865) من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.
(5) في ت ، ف : "وقوله".
(6) في ف : "وهذا".
(6/259)
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
{ إِنَّ
الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي
أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ
تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا
تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ
بَعْدَ إِذْ أُنزلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ
كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
}.
يقول تعالى آمرًا رسولَه ، صلوات الله وسلامه عليه ، ببلاغ الرسالة وتلاوة القرآن
على الناس ، ومخبرًا له بأنه سيرده إلى معاد ، وهو يوم القيامة ، فيسأله عما
استرعاه من أعباء النبوة ؛ ولهذا قال : { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } أي : افترض عليك أداءه إلى الناس ، {
لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } أي : إلى يوم القيامة فيسألك عن ذلك ، كما قال تعالى :
{ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ
} [ الأعراف : 6 ] ، وقال { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا
أُجِبْتُمْ [قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ] (1) } [
المائدة : 109 ] [وقال] : (2) { وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ } [ الزمر
: 69 ].
وقال السدي عن أبي صالح ، عن (3) ابن عباس : { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } ، يقول : لرادُّك إلى الجنة ، ثم سائلك عن
القرآن. قال السدي : وقال أبو سعيد مثلها.
وقال الحكم بن أَبان ، عن عِكْرمِة ، [و] (4) عن ابن عباس ، رضي الله عنهما : {
لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } قال : إلى يوم القيامة. ورواه مالك ، عن الزهري.
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) في ت : "وقال".
(4) زيادة من ت.
(6/259)
وقال الثوري
، عن الأعمش ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس (1) : { لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ
} : إلى الموت.
ولهذا طُرُقٌ عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، وفي بعضها : لرادك إلى معدنك من
الجنة.
وقال مجاهد : يحييك يوم القيامة. وكذا روي عن عكرمة ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ،
وأبي قَزَعَةَ ، وأبي مالك ، وأبي صالح.
وقال الحسن البصري : أي والله ، إن له لمعادًا (2) ، يبعثه الله يوم القيامة ثم
يدخله الجنة.
وقد رُوي عن ابن عباس غير ذلك ، كما قال البخاري في التفسير من صحيحه (3) :
حدثنا محمد بن مقاتل ، أنبأنا يعلى ، حدثنا سفيان العُصْفُريّ ، عن عكرمة ، عن ابن
عباس : { لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } قال : إلى مكة.
وهكذا رواه النسائي في تفسير سننه ، وابن جرير من حديث يعلى - وهو ابن عبيد
الطَّنَافِسيّ - به (4). وهكذا روى العَوْفيّ ، عن ابن عباس : { لَرَادُّكَ إِلَى
مَعَادٍ } أي : لرادك إلى مكة كما أخرجك منها.
وقال محمد بن إسحاق ، عن مجاهد في قوله : { لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } : إلى
مولدك بمكة.
قال ابن أبي حاتم : وقد روى عن ابن عباس ، ويحيى بن الجزار ، وسعيد بن جبير ،
وعطية ، والضحاك ، نحو ذلك.
[وحدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر قال : قال سفيان : فسمعناه من مقاتل منذ سبعين
سنة ، عن الضحاك] (5) قال : لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ، فبلغ
الجُحْفَة ، اشتاق إلى مكة ، فأنزل الله عليه : { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } إلى مكة.
وهذا من كلام الضحاك يقتضي أن هذه الآية مدنية ، وإن كان مجموع السورة مكيا ،
والله أعلم.
وقد قال عبد الرزاق : حدثنا مَعْمَر ، عن قتادة في قوله : { لَرَادُّكَ إِلَى
مَعَادٍ } قال : هذه مما كان ابن عباس يكتمها ، وقد رَوَى ابنُ أبي حاتم بسنده عن
نعيم القارئ أنه قال في قوله : { لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } قال : إلى بيت
المقدس.
وهذا - والله أعلم - يرجع إلى قول من فسر ذلك بيوم القيامة ؛ لأن بيت المقدس هو
أرض المحشر والمنشر ، والله الموفق للصواب.
ووجه الجمع بين هذه الأقوال أن ابن عباس فسر ذلك تارة برجوعه إلى مكة ، وهو الفتح
الذي هو عند ابن عباس أمارة على اقتراب أجله ، صلوات الله وسلامه عليه (6) ، كما
فسره ابن عباس
__________
(1) في ت : "وعنه".
(2) في ت : "إنه لمعاد".
(3) في ت : "كما روى البخاري بإسناده".
(4) النسائي في السنن الكبرى برقم (11386) وتفسير الطبري (20/80).
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في أ : "أجل النبي صلى الله عليه وسلم".
(6/260)
بسورة {
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي
دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ
كَانَ تَوَّابًا } أنه أجَلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم نُعي إليه ، وكان ذلك
بحضرة عمر بن الخطاب ، ووافقه عمر على ذلك ، وقال : لا أعلم منها غير الذي تعلم.
ولهذا فسر ابن عباس تارة أخرى قوله : { لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } بالموت ، وتارة
بيوم القيامة الذي هو بعد الموت ، وتارة بالجنة التي هي جزاؤه ومصيره على أداء
رسالة الله وإبلاغها إلى الثقلين : الجن والإنس ، ولأنه أكمل خلق الله ، وأفصح (1)
خلق الله ، وأشرف خلق الله على الإطلاق.
وقوله : { قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ } أي : قل - لِمَنْ خالفك وكذبك يا محمد من قومك من المشركين ومَنْ تبعهم
على كفرهم - قل : ربي أعلم بالمهتدي منكم ومني ، وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار ،
ولِمَنْ تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة.
ثم قال تعالى مذكِّرًا لنبيه نعمته العظيمة عليه وعلى العباد إذ أرسله إليهم : {
وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ } أي : ما كنت تظن قبل
إنزال الوحي (2) إليك أن الوحي ينزل عليك ، { إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } أي :
إنما نزل (3) الوحي عليك من الله من رحمته بك وبالعباد بسببك ، فإذا منحك بهذه
النعمة العظيمة { فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا } أي : معينًا { لِلْكَافِرِينَ } [أي]
(4) : ولكن فارقهم ونابذهم وخالفهم.
{ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزلَتْ إِلَيْكَ } أي : لا
تتأثر لمخالفتهم لك وصدهم الناس عن طريقك (5) لا تلوي على ذلك ولا تباله ؛ فإن
الله مُعْلٍ كلمتك ، ومؤيدٌ دينك ، ومظهر ما أرسلت (6) به على سائر الأديان ؛
ولهذا قال : { وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ } أي : إلى عبادة ربك وحده لا شريك له ، {
وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }.
وقوله : { وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } أي : لا
تليق العبادة إلا له ولا تنبغي الإلهية إلا لعظمته.
وقوله : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ } : إخبار بأنه الدائم الباقي الحي
القيوم ، الذي تموت الخلائق ولا يموت ، كما قال تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا
فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ } [ الرحمن : 26 ،
27 ] ، فعبر بالوجه عن الذات ، وهكذا قوله ها هنا : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا
وَجْهَهُ } أي : إلا إياه.
وقد ثبت في الصحيح ، من طريق أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "أصدق كلمة قالها شاعر [كلمة] (7) لبيد :
ألا كلُّ شَيْء مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ (8)
وقال مجاهد والثوري في قوله : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ } أي : إلا ما
أريد به وجهه ،
__________
(1) في أ : "وأنصح".
(2) في أ : "الذكر".
(3) في ت ، أ : "أنزل".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ : "طريقتك".
(6) في أ : "ما أرسلك".
(7) زيادة من ف ، أ ، وصحيح البخاري.
(8) صحيح البخاري برقم (3841) وصحيح مسلم برقم (2256).
(6/261)
وحكاه
البخاري في صحيحه كالمقرر له.
قال ابن جرير : ويستشهد من قال ذلك بقول الشاعر :
أسْتَغْفِرُ اللهَ ذنبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ... رَبّ العبَاد ، إلَيه الوَجْهُ
والعَمَلُ...
وهذا القول لا ينافي القول الأول ، فإن هذا إخبار عن كل الأعمال بأنها باطلة إلا
ما أريد بها وجه الله (1) عز وجل من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة. والقول
الأول مقتضاه أن كل الذوات فانية (2) وهالكة وزائلة إلا ذاته (3) تعالى ، فإنه
الأول الآخر الذي هو قبل كل شيء وبعد كل شيء.
قال (4) أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا في كتاب "التفكر
والاعتبار" : حدثنا أحمد بن محمد بن أبي بكر ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا
عمر بن سليم الباهلي ، حدثنا أبو الوليد قال : كان (5) ابن عمر إذا أراد أن يتعاهد
قلبه ، يأتي الخربة فيقف على بابها ، فينادي بصوت حزين فيقول : أين أهلك ؟ ثم يرجع
إلى نفسه فيقول : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ }.
وقوله : { لَهُ الْحُكْمُ } أي : الملك والتصرف ، ولا معقب لحكمه ، { وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ } أي : يوم معادكم ، فيجزيكم (6) بأعمالكم ، إن كان خيرا فخير ، وإن
شرا فشر.
[والله أعلم. آخر تفسير سورة "القصص"] (7)
تفسير سورة العنكبوت
__________
(1) في ف : "به وجه الله" وفي أ : "به وجهه".
(2) في ت : "تفنى".
(3) في ت : "وجهه".
(4) في ت : "وروى".
(5) في ت : "بسنده أن".
(6) في ت : "فيجازيكم".
(7) زيادة من ف ، أ.
(6/262)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)
بسم الله
الرحمن الرحيم
[وهي] (1) مكية.
{ الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا
يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ
اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)
}.
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة "البقرة".
وقوله : { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا
يُفْتَنُونَ } استفهام إنكار ، ومعناه : أن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يبتلي
عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان ، كما جاء في الحديث الصحيح : "أشد
الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه
، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء" (2). وهذه الآية كقوله : { أَمْ
حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ
جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } (3) [آل عمران : 142] ، ومثلها في
سورة "براءة" وقال في البقرة : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا
الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ
مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ
قَرِيبٌ } [البقرة : 214] ؛ ولهذا قال هاهنا : { وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ
الْكَاذِبِينَ } أي : الذين صدقوا في دعواهم الإيمان مِمَّنْ هو كاذب في قوله
ودعواه. والله سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما يكون ، وما لم يكن لو كان كيف يكون
(4). وهذا مجمع عليه عند أئمة السنة والجماعة ؛ ولهذا يقول ابن عباس وغيره في مثل
: { إِلا لِنَعْلَمَ } [البقرة : 143] : إلا لنرى ؛ وذلك أن الرؤية إنما تتعلق
بالموجود ، والعلم أعم من الرؤية ، فإنه [يتعلق] (5) بالمعدوم والموجود.
وقوله : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا
سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي : لا يحسبن الذين لم يدخلوا في الإيمان أنهم يتخلصون
من هذه الفتنة والامتحان ، فإن من ورائهم من العقوبة والنكال ما
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) المسند (1/172) والترمذي في السنن برقم (2398) من طريق مصعب بن سعد عن أبيه
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، وقال الترمذي : "حديث حسن صحيح".
(3) هكذا وقعت الآية في جميع المخطوطات ، والصواب بعدم إثبات قوله تعالى : (ويعلم
الصابرين) لأنها ليست نهاية تذييل الآية ونهاية تذييل الآية : (ولم يتخذوا من دون
الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون).
(4) في ف ، أ : "كيف كان يكون".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6/263)
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)
هو أغلظ من
هذا وأطم ؛ ولهذا قال : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ
يَسْبِقُونَا } أي : يفوتونا ، { سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي : بئس ما يظنون.
{ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ
اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) }
(6/264)
وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
{
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ
سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) }.
يقول تعالى : { مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ } أي : في الدار الآخرة ، وعمل
الصالحات رجاء ما عند الله من الثواب الجزيل ، فإن الله سيحقق له رجاءه ويوفيه
عمله كاملا موفورا (1) ، فإن ذلك كائن لا محالة ؛ لأنه سميع الدعاء ، بصير بكل
الكائنات (2) ؛ ولهذا قال : { مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ
اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }.
وقوله : { وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ } ، كقوله : { مَنْ
عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ } [فصلت : 46] أي : من عمل صالحا فإنما يعود نفع
عمله على نفسه ، فإن الله غني عن أفعال العباد ، ولو كانوا كلهم على أتقى قلب رجل
[واحد] (3) منهم ، ما زاد ذلك في ملكه شيئا ؛ ولهذا قال : { وَمَنْ جَاهَدَ
فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }.
قال الحسن البصري : إن الرجل ليجاهد ، وما ضرب يوما من الدهر بسيف.
ثم أخبر أنه مع غناه عن الخلائق جميعهم من إحسانه وبره بهم يجازي الذين آمنوا
وعملوا الصالحات أحسن الجزاء ، وهو أنه يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا ، ويجزيهم أجرهم
بأحسن ما (4) كانوا يعملون ، فيقبل القليل من الحسنات ، ويثيب عليها الواحدة بعشر
أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، ويجزي على السيئة بمثلها أو يعفو ويصفح ، كما قال تعالى
: { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً
يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء : 40] ، وقال
هاهنا : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ
سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ }
{ وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ
بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ
فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) }.
يقول تعالى آمرا عباده بالإحسان إلى الوالدين بعد الحث على التمسك بتوحيده ، فإن
الوالدين هما سبب وجود الإنسان ، ولهما عليه (5) غاية الإحسان ، فالوالد بالإنفاق
والوالدة بالإشفاق ؛ ولهذا قال تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا
إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ
أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ
لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا ، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ
وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } [الإسراء : 23 ، 24].
__________
(1) في أ : "موفرا".
(2) في ت : "بصير بالكائنات".
(3) زيادة من أ.
(4) في ت ، ف ، أ : "الذي".
(5) في أ : "إليه".
(6/264)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)
ومع هذه
الوصية بالرأفة والرحمة والإحسان إليهما ، في مقابلة إحسانهما المتقدم ، قال : {
وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا }
أي : وإن حَرَصا عليك أن تتابعهما على دينهما إذا كانا مشركين ، فإياك وإياهما ،
لا تطعهما في ذلك ، فإن مرجعكم إلي يوم القيامة ، فأجزيك بإحسانك إليهما ، وصبرك
على دينك ، وأحشرك مع الصالحين لا في زمرة والديك ، وإن كنت أقرب الناس إليهما في
الدنيا ، فإن المرء إنما يحشر يوم القيامة مع مَنْ أحب ، أي : حبا دينيا ؛ ولهذا
قال : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ
}.
وقال (1) الترمذي عند تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى ،
حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن سِمَاك بن حرب قال : سمعت مُصعَب بن سعد
يحدث عن أبيه سعد ، قال : نزلت فيَّ أربع آيات. فذكر قصة ، وقالت أم سعد : أليس قد
أمرك الله بالبر ؟ والله لا أطعَمُ طعاما ولا أشرب شرابا حتى أموت أو تكفر ، قال :
فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شَجَروا فاها ، فأنزل الله (2) { وَوَصَّيْنَا
الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ } الآية.
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي أيضا (3) ، وقال
الترمذي : حسن صحيح.
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ
جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ
لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي
صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) }.
يقول تعالى مخبرًا عن صفات قوم من [المكذبين] (4) الذين يدعون الإيمان بألسنتهم ،
ولم يثبت الإيمان في قلوبهم ، بأنهم إذا جاءتهم فتنة ومحنة في الدنيا ، اعتقدوا أن
هذا من نقمة الله تعالى بهم ، فارتدوا عن الإسلام ؛ ولهذا قال : { وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ
النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ }.
قال ابن عباس : يعني فتنته أن يرتد عن دينه إذا أوذي في الله. وكذا قال غيره من
علماء السلف. وهذه الآية كقوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ
عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ
فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ
الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } [الحج : 11].
ثم قال : { وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا
مَعَكُمْ } أي : ولئن جاء نصر قريب من ربك - يا محمد - وفتح ومغانم ، ليقولن هؤلاء
لكم : إنا كنا معكم ، أي [كنا] (5) إخوانكم في الدين ، كما
__________
(1) في ت : "وروى".
(2) في ت ، ف : "فنزلت".
(3) سنن الترمذي برقم (3079) والمسند (1/181) وصحيح مسلم برقم (1748) وسنن أبي
داود برقم (2740).
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) زيادة من ف.
(6/265)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
قال تعالى :
{ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ
قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا
أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [النساء :
141] ، وقال تعالى : { فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ
مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ }
[المائدة : 52].
وقال تعالى مخبرا عنهم هاهنا : { وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ
إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ } ، ثم قال تعالى : { أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا
فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ } أي : أوليس الله بأعلم بما في قلوبهم ، وما تكنُّه
ضمائرهم ، وإن أظهروا لكم الموافقة ؟
وقوله : { وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ
الْمُنَافِقِينَ } أي : وليختبرَنّ الله الناس بالضراء والسراء ، ليتميز هؤلاء من
هؤلاء ، ومن يطيع الله في الضراء والسراء ، إنما يطيعه في حظ نفسه ، كما قال تعالى
: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ
وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [محمد : 31] ، وقال تعالى بعد وقعة
أحد ، التي كان فيها ما كان من الاختبار والامتحان : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ
الطَّيِّبِ } الآية [آل عمران : 179] ، [والله أعلم] (1).
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا
وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ
إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ
أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ
(13) }.
يقول تعالى مخبرا عن كفار قريش : أنهم قالوا لِمَنْ آمن منهم واتبع الهدى : ارجعوا
عن دينكم إلى ديننا ، واتبعوا سبيلنا ، { وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } أي :
وآثامكم - إن كانت لكم آثام في ذلك - علينا وفي رقابنا ، كما يقول القائل :
"افعل هذا وخطيئتك في رقبتي". قال الله تكذيبا لهم : { وَمَا هُمْ
بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي : فيما
قالوه : إنهم يحملون عن أولئك خطاياهم ، فإنه لا يحمل أحد وزر أحد ، { وَإِنْ
تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا
قُرْبَى } [فاطر : 18] ، وقال تعالى : { وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا.
يُبَصَّرُونَهُمْ } [المعارج : 10 ، 11].
وقوله : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ } :
إخبار عن الدعاة إلى الكفر والضلالة ، أنهم يوم القيامة يحملون أوزار أنفسهم ،
وأوزارًا أخَر بسبب مَنْ أضلوا مِنَ الناس ، من غير أن ينقص من أوزار أولئك شيئا ،
كما قال تعالى : { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا
يَزِرُونَ } [النحل : 25].
وفي الصحيح : "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم
القيامة ، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ، وَمَنْ دعا إلى ضلالة كان عليه مِنَ
الإثم مثل آثام مَنِ اتبعه إلى يوم
__________
(1) زيادة من ف.
(6/266)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)
القيامة ،
من غير أن ينقص من آثامهم شيئا" (1) وفي الصحيح : "ما قتلت نفس ظلما إلا
كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ؛ لأنه أول من سَنّ القتل" (2).
وقوله : { وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي :
يكذبون ويختلقون من البهتان.
وقد ذكر (3) ابن أبي حاتم هاهنا حديثا فقال : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ،
حدثنا صدقة ، حدثنا عثمان بن حفص بن أبي العالية ، حدثني سليمان بن حبيب المحاربي
(4) عن أبي أمامة ، رضي الله عنه ، قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ ما
أرسل به ، ثم قال : "إياكم والظلم ، فإن الله يعزم يوم القيامة فيقول : وعزتي
لا يجوزني اليوم ظلم! ثم ينادي مناد فيقول : أين فلان ابن فلان ؟ فيأتي يتبعه من
الحسنات أمثال الجبال ، فيشخص الناس إليها أبصارهم حتى يقوم بين يدي الله الرحمن
عز وجل ثم يأمر المنادي فينادي (5) من كانت له تِبَاعة - أو : ظُلامة - عند فلان
ابن فلان ، فهلمّ. فيقبلون حتى يجتمعوا قياما بين يدي الرحمن ، فيقول الرحمن :
اقضوا عن عبدي. فيقولون : كيف نقضي عنه ؟ فيقول لهم : خذوا لهم من حسناته. فلا
يزالون يأخذون منها حتى لا يبقى له حسنة ، وقد بقي من أصحاب الظلامات ، فيقول :
اقضوا عن عبدي. فيقولون : لم يبق له حسنة. فيقول : خذوا من سيئاتهم فاحملوها
عليه". ثم نزع النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية الكريمة : {
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ }.
وهذا الحديث له شاهد (6) في الصحيح (7) من غير هذا الوجه.
وقال (8) ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن أبي الحواري ، حدثنا أبو بشر الحذاء ، عن
أبي حمزة (9) الثمالي ، عن معاذ بن جبل ، رضي الله عنه ، قال : قال لي رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "يا معاذ ، إن المؤمن يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه ،
حتى عن كُحْل عينيه ، وعن فتات الطينة بإصبعيه (10) ، فلا ألْفَيَنَّكَ تأتي يوم
القيامة وأحد أسعد بما آتاك (11) الله منك" (12).
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ
إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) }
__________
(1) تقدم تخريج الحديث عند الآية : 2 من سورة المائدة.
(2) تقدم تخريج الحديث عند الآية : 30 من سورة المائدة.
(3) في ت : "روى".
(4) في أ : "البخاري".
(5) في ت ، ف : "أن ينادي".
(6) في ف ، أ : "شواهد".
(7) بعدها في ت ، أ : "إن الرجل ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال وقد
ظلم هذا ، وأخذ مال هذا ، وأخذ من عرض هذا ، فيأخذ هذا من حسناته ، وهذا من حسناته
، فإذا لم يبق له حسنة ، أخذ من سيئاتهم ، فطرح عليه".
(8) في ت : "وروى".
(9) في أ : "عن أبي النسائي".
(10) في أ : "بإصبعه".
(11) في ت ، ف : "أتاه".
(12) ورواه أبو نعيم في الحلية ( 10/31) من طريق إسحاق بن أبي حسان عن أحمد بن أبي
الحواري به.
(6/267)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
{
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ
(15) }.
هذه تسلية من الله تعالى لعبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه ، يخبره عن نوح
(1) عليه السلام : أنه مكث (2) في قومه هذه المدة يدعوهم إلى الله ليلا ونهارًا ،
وسرا ، وجهارًا ،
__________
(1) في ت : "قوم نوح".
(2) في أ : "لبث".
(6/267)
ومع هذا ما
زادهم ذلك إلا فرارا عن الحق ، وإعراضا عنه وتكذيبا له ، وما آمن معه منهم إلا
قليل ؛ ولهذا قال : { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا
فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } أي : بعد هذه المدة الطويلة ما نجع
فيهم البلاغ والإنذار ، فأنت - يا محمد - لا تأسف على مَنْ كفر بك من قومك ، ولا تحزن
عليهم ؛ فإن الله يهدي مَنْ يشاء ويضل مَنْ يشاء ، وبيده الأمر وإليه ترجع (1)
الأمور ، { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ.
وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [يونس : 96
، 97] ، واعلم أن الله سيظهرك وينصرك ويؤيدك ، ويذل عدوّك ، ويكبتهم ويجعلهم أسفل
السافلين.
قال حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن ماهَك (2) ، عن ابن عباس قال : بعث
نوح وهو لأربعين سنة ، ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، وعاش بعد الطوفان
ستين عاما ، حتى كثر الناس وفشوا.
وقال قتادة : يقال إن عمره كله [كان] (3) ألف سنة إلا خمسين عاما ، لبث فيهم قبل
أن يدعوهم ثلثمائة سنة ، ودعاهم ثلثمائة ولبث بعد الطوفان ثلثمائة وخمسين سنة.
وهذا قول غريب ، وظاهر السياق من الآية أنه مكث في قومه يدعوهم إلى الله ألف سنة
إلا خمسين عاما.
وقال عون بن أبي شداد : إن الله أرسل نوحا إلى قومه وهو ابن خمسين وثلثمائة سنة ،
فدعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، ثم عاش بعد ذلك ثلثمائة وخمسين سنة.
وهذا أيضا غريب ، رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وقول ابن عباس أقرب ، والله
أعلم.
وقال الثوري ، عن سلمة بن كُهَيْل ، عن مجاهد قال : قال لي ابن عمر : كم لبث نوح
في قومه ؟ قال : قلت ألف سنة إلا خمسين عاما. قال : فإن الناس لم يزالوا في نقصان
من أعمارهم وأحلامهم وأخلاقهم إلى يومك هذا.
وقوله : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ } أي : الذين آمنوا بنوح عليه
السلام. وقد تقدَّم ذكر ذلك مفصلا في سورة "هود" ، وتقدَّم تفسيره بما
أغنى عن إعادته.
وقوله : { وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } أي : وجعلنا تلك السفينة باقية ،
إما عينها كما قال قتادة : إنها بقيت إلى أول الإسلام على جبل الجودي ، أو نوعها
جعله للناس تذكرة لنعمه على الخلق ، كيف نجاهم من الطوفان ، كما قال تعالى : {
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ.
وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ. وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ
فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ. إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا
إِلَى حِينٍ } [يس : 41 - 44] ، وقال تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ
حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ. لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا
أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [الحاقة : 11 ، 12] ، وقال هاهنا : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ
السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } ، وهذا من باب التدريج من
الشخص إلى الجنس ، كقوله تعالى : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا
بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ } [الملك : 5]
__________
(1) في ف : "يرجع".
(2) في أ : "وائل".
(3) زيادة من ت ، ف ، أ.
(6/268)
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)
أي : وجعلنا
نوعها ، فإن التي يرمى (1) بها ليست هي التي زينة للسماء (2). وقال تعالى : {
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ
نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ } [المؤمنون : 12 ، 13] ، ولهذا نظائر كثيرة.
وقال ابن جرير : لو قيل : إنّ الضمير في قوله : { وَجَعَلْنَاهَا } (3) ، عائد إلى
العقوبة ، لكان وجهًا ، والله أعلم.
{ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ
وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا
فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ
الْمُبِينُ (18) }.
يخبر تعالى عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء : أنه دعا قومه إلى عبادة
الله وحده لا شريك له ، والإخلاص له في التقوى ، وطلب الرزق منه وحده لا شريك له ،
وتوحيده في الشكر (4) ، فإنه المشكور على النعم ، لا مُسْدٍ لها غيره ، فقال لقومه
: { اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ } أي : أخلصوا له العبادة والخوف ، { ذَلِكُمْ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : إذا فعلتم ذلك حصل لكم الخير في
الدنيا والآخرة ، واندفع عنكم الشر في الدنيا والآخرة.
ثم أخبرهم أن الأصنام التي يعبدونها والأوثان ، لا تضر ولا تنفع ، وإنما اختلقتم
أنتم لها أسماء ، سميتموها (5) آلهة ، وإنما هي مخلوقة مثلكم. هكذا روى العوفي عن
ابن عباس. وبه قال مجاهد ، والسدي.
وروى الوالبي (6) ، عن ابن عباس : وتصنعون إفكا ، أي : تنحتونها أصناما. وبه قال
مجاهد - في رواية - وعكرمة ، والحسن ، وقتادة وغيرهم ، واختاره ابن جرير ، رحمه
الله.
وهي لا تملك لكم رزقا ، { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ } وهذا أبلغ في
الحصر ، كقوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة : 5] ، {
رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } [التحريم : 11] ، ولهذا قال :
{ فَابْتَغُوا } أي : فاطلبوا { عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ } أي : لا عند غيره ،
فإن غيره لا يملك شيئا ، { وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ } أي : كلوا من رزقه
واعبدوه وحده (7) ، واشكروا له على ما أنعم به عليكم ، { إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
أي : يوم القيامة ، فيجازي كل عامل بعمله.
وقوله : { وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ } أي :
فبلغكم ما حل بهم من العذاب والنكال في مخالفة الرسل ، { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ
إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } يعني : إنما على الرسول أن يبلغكم ما أمره الله تعالى
__________
(1) في ف : "ترمى"
(2) في أ : "السماء".
(3) في ت : "وجعلناها آية للعالمين".
(4) في أ : "الشرك".
(5) في ف : "فسميتموها".
(6) في أ : "البخاري".
(7) في ف ، أ : "وحده لا شريك له".
(6/269)
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
به من
الرسالة ، والله يضل مَنْ يشاء ويهدي مَنْ يشاء ، فاحرصوا (1) لأنفسكم أن تكونوا
من السعداء.
وقال قتادة في قوله : { وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ
} قال : يُعزي نبيه صلى الله عليه وسلم. وهذا من قتادة يقتضي أنه قد انقطع الكلام
الأول ، واعترض بهذا إلى قوله : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ }. وهكذا نص على
ذلك ابن جرير أيضا (2).
والظاهر من السياق أن كل هذا من كلام إبراهيم الخليل ، عليه السلام[لقومه] (3)
يحتج عليهم لإثبات المعاد ، لقوله بعد هذا كله : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ }
، والله أعلم.
{ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ
ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ
بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ
وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَلا فِي
السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ
رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) }.
يقول تعالى مخبرًا عن الخليل عليه السلام ، أنه أرشدهم إلى إثبات المعاد الذي
ينكرونه ، بما يشاهدونه في أنفسهم من خلق الله إياهم ، بعد أن لم يكونوا شيئا
مذكورا ، ثم وجدوا وصاروا أناسا سامعين مبصرين ، فالذي بدأ هذا قادر على إعادته ؛
فإنه سهل عليه يسير لديه.
ثم أرشدهم إلى الاعتبار بما في الآفاق من الآيات المشاهدة (4) من خلق الله الأشياء
: السموات وما فيها من الكواكب النيرة : الثوابت ، والسيارات ، والأرضين وما فيها
من مهاد وجبال ، وأودية وبرارٍ وقفار ، وأشجار وأنهار ، وثمار وبحار ، كل ذلك دال
على حدوثها في أنفسها ، وعلى وجود صانعها الفاعل المختار ، الذي يقول للشيء : كن ،
فيكون ؛ ولهذا قال : { أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ
يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } ، كقوله : { وَهُوَ الَّذِي
يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم : 27].
ثم قال تعالى : { قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ
ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ } أي : يوم القيامة ، { إِنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }. وهذا المقام شبيه بقوله تعالى : {
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ
أَنَّهُ الْحَقُّ } [فصلت : 53] ، وكقوله تعالى : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ
شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا
يُوقِنُونَ } [الطور : 35 ، 36].
وقوله : { يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ } أي : هو الحاكم
المتصرف ، الذي يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، لا معقب لحكمه ، ولا يُسأل عما
يفعل وهم يسألون ، فله الخلق والأمر ، مهما فعل فَعَدْلٌ ؛ لأنه
__________
(1) في ت : "فأخلصوا".
(2) تفسير الطبري (20/89).
(3) زيادة من أ.
(4) في أ : "الباهرة".
(6/270)
المالك الذي
لا يظلم مثقال ذرة ، كما جاء في الحديث الذي رواه أهل السنن : "إن الله لو
عذب أهل سماواته وأهل أرضه ، لعذبهم وهو غير ظالم لهم" (1). ولهذا قال تعالى
: { يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ } أي
: ترجعون يوم القيامة.
وقوله : { وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ } أي :
لا يعجزه أحد من أهل سماواته وأرضه ، بل هو القاهر فوق عباده ، وكل شيء خائف منه ،
فقير إليه ، وهو الغني عما سواه.
{ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ. وَالَّذِينَ
كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ } أي : جحدوها (2) وكفروا بالمعاد ، {
أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي } أي : لا نصيب لهم فيها ، { وَأُولَئِكَ
لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : موجع في الدنيا والآخرة.
__________
(1) رواه أبو داود في السنن برقم (4699) وابن ماجه في السنن برقم (77) من حديث أبي
بن كعب وزيد بن ثابت رضي الله عنهما.
(2) في ت ، ف ، أ : "جحدوا بها".
(6/271)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
{ فَمَا
كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ
اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)
وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ
بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ
بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا
لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) }.
يقول تعالى مخبرا عن قوم إبراهيم في كفرهم وعنادهم ومكابرتهم ، ودفعهم الحق
بالباطل : أنه ما كان لهم جواب بعد مقالة إبراهيم هذه المشتملة على الهدى والبيان
، { إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ } ، وذلك لأنهم قام عليهم
البرهان ، وتوجهت عليهم الحجة ، فعدلوا إلى استعمال جاههم وقوة ملكهم ، { قَالُوا
ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ. فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا
فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ } [الصافات : 97 ، 98] ، وذلك أنهم حَشَدوا في جمع
أحطاب عظيمة مدة طويلة ، وحَوّطوا حولها ، ثم أضرموا فيها النار ، فارتفع لها لهب
إلى عَنَان السماء : ولم توقد (1) نار قط أعظم منها ، ثم عمدوا إلى إبراهيم فكتفوه
وألقوه في كفَّة المنجنيق ، ثم قذفوا به فيها ، فجعلها الله عليه بردا وسلاما ،
وخرج منها سالما بعد ما مكث فيها أياما. ولهذا وأمثاله جعله الله للناس إماما.
فإنه بذل نفسه للرحمن ، وجسده للنيران ، وسخا بولده للقربان ، وجعل ماله للضيفان ،
ولهذا اجتمع على محبته جميع أهل الأديان.
وقوله : { فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ } أي : سَلَّمه [الله] (2) منها ،
بأن جعلها عليه بردا وسلاما ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ
بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } يقول لقومه مقرِّعا لهم وموبخا على سوء
صنيعهم ، في عبادتهم الأوثان : إنما اتخذتم هذه لتجتمعوا على عبادتها في الدنيا ،
صداقة وألفة منكم ، بعضكم لبعض في الحياة الدنيا. وهذا على قراءة من نصب { مَوَدَّةَ
بَيْنِكُمْ } ، على أنه مفعول له ، وأما على قراءة الرفع فمعناه : إنما اتخاذكم
(3) هذا يُحَصّل لكم المودة
__________
(1) في ت : "توجد".
(2) زيادة من ت ، ف.
(3) في ف ، أ : "إنما اتخذتم".
(6/271)
فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
في الدنيا
فقط { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ينعكس هذا الحال ، فتبقى هذه الصداقة والمودة
بَغْضَة وشنآنا ، فـ { يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ } أي : تتجاحدون ما كان بينكم
، { وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } أي : يلعن الأتباع المتبوعين ، والمتبوعون
(1) الأتباع ، { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا } [الأعراف : 38] ،
وقال تعالى : { الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا
الْمُتَّقِينَ } [الزخرف : 67] ، وقال هاهنا { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ
بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا
لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } أي : ومصيركم ومرجعكم بعد عرصات القيامة إلى النار ، وما
لكم من ناصر ينصركم ، ولا منقذ ينقذكم من عذاب الله. وهذا حال الكافرين ، فأما
المؤمنون فبخلاف ذلك.
قال (2) ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحْمَسي (3) حدثنا أبو عاصم
الثقفي [حدثنا] (4) الربيع بن إسماعيل بن عمرو بن سعيد بن جعدة بن هُبَيْرة
المخزومي ، عن أبيه ، عن جده (5) عن أم هانئ - أخت علي بن أبي طالب - قالت : قال
لي النبي صلى الله عليه وسلم : "أخبرِك أن الله تعالى يجمع الأولين والآخرين
يوم القيامة في صعيد واحد ، فَمَنْ يدري أين الطرفان " (6) ، فقالت الله
ورسوله أعلم. "ثم ينادي مناد من تحت العرش : يا أهل التوحيد ، فيشرئبون"
قال أبو عاصم : يرفعون رؤوسهم. "ثم ينادي : يا أهل التوحيد ، ثم ينادي
الثالثة : يا أهل التوحيد ، إن الله قد عفا عنكم" قال : "فيقول الناس قد
تعلق بعضهم ببعض في ظُلامات الدنيا - يعني : المظالم - ثم ينادي : يا أهل التوحيد
، ليعف بعضكم عن بعض ، وعلى الله الثواب" (7).
{ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا
فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا
وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) }.
يقول تعالى مخبرًا عن إبراهيم : أنه آمن له لوط ، يقال : إنه ابن أخي إبراهيم ،
يقولون هو : لوط بن هاران بن آزر ، يعني : ولم يؤمن به من قومه سواه ، وسارة امرأة
[إبراهيم] (8) الخليل. لكن يقال : كيف الجمع بين هذه الآية ، وبين الحديث الوارد
في الصحيح (9) : أن إبراهيم حين مَرّ على ذلك الجبار ، فسأل إبراهيم عن سارة : ما
هي منه ؟ فقال : [هي] (10) أختي ، ثم جاء إليها فقال لها : إني قد قلت له :
"إنك : أختي" ، فلا تكذبيني ، فإنه ليس على وجه الأرض [أحد] (11) مؤمن
غيرك وغيري (12) ، فأنت أختي في الدين. وكأن المراد من هذا - والله أعلم - أنه ليس
على وجه
__________
(1) في ت ، ف : "المتبوعين" وهو خطأ.
(2) في ت : "روى".
(3) في أ : "الأحمصي".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ت : "بإسناده".
(6) في ت ، ف : "الطرفين".
(7) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (4803) من طريق محمد بن إسماعيل الأحمسي
به ، وقال : "لا يروى عن أم هانئ إلا بهذا الإسناد ، تفرد به أبو عاصم".
وقال الهيثمي في المجمع (10/355) : "فيه أبو عاصم - الربيع بن إسماعيل - منكر
الحديث ، قاله أبو حاتم".
(8) زيادة من ف ، أ.
(9) صحيح مسلم برقم (2371).
(10) زيادة من ت.
(11) زيادة من ت ، أ.
(12) في ت : "غيري وغيرك".
(6/272)
الأرض زوجان
على الإسلام غيري وغيرك ، فإن لوطا عليه السلام ، آمن به من قومه ، وهاجر معه إلى
بلاد الشام ، ثم أرسِل في حياة الخليل إلى أهل "سَدوم" وإقليمها ، وكان
من أمرهم (1) ما تقدم وما سيأتي.
وقوله : { وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي } يحتمل عود الضمير في قوله : {
وَقَالَ } ، على لوط ، لأنه (2) أقرب المذكورين ، ويحتمل عوده إلى إبراهيم - قال
(3) ابن عباس ، والضحاك : وهو المكنى عنه بقوله : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } أي : من
قومه.
ثم أخبر عنه بأنه اختار المهاجرة من بين أظهرهم ، ابتغاء إظهار الدين والتمكن من
ذلك ؛ ولهذا قال : { إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ } أي : له العزة ولرسوله وللمؤمنين
به ، { الْحَكِيمُ } في أقواله وأفعاله وأحكامه القدرية والشرعية.
وقال قتادة : هاجرا جميعا من "كوثى" ، وهي من سواد (4) الكوفة إلى
الشام. قال : وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : "إنها ستكون
هجرة بعد هجرة ، ينحاز أهل الأرض إلى مُهَاجَر إبراهيم ، ويبقى في الأرض شرار
أهلها ، حتى تلفظهم أرضهم وتقذرُهم روح الله ، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير
، تبيت معهم إذا باتوا ، وتَقِيل معهم إذا قالوا ، وتأكل ما سقط منهم".
وقد أسند الإمام أحمد هذا الحديث ، فرواه مطولا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص
، قال (5) : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة ، عن شَهْر بن حَوْشَب
قال : لما جاءتنا بيعة يزيد بن معاوية ، قدمت الشام فأخبرت بمقام يقومه نوف
البِكَالي ، فجئته ؛ إذ جاء رجل ، فانتبذَ الناس وعليه خَمِيصة ، وإذا (6) هو عبد
الله بن عمرو بن العاص. فلما رآه نوف أمسك عن الحديث ، فقال عبد الله : سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إنها ستكون هجرة بعد هجرة ، فينحاز الناس
إلى مُهَاجرَ إبراهيم ، لا يبقى في الأرض إلا شرار أهلها ، فتلفظهم (7) أرضوهم ،
تقْذَرهم نفسُ الرحمن ، تحشرهم النار مع القردة والخنازير فتبيت معهم إذا باتوا ،
وتَقِيل معهم إذا قالوا ، وتأكل منهم من تَخَلَّف". قال : وسمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول : "سيخرج أناس (8) من أمتي من قبل المشرق ، يقرؤون
القرآن لا يجاوز تَرَاقِيهم ، كلما خرج منهم قرن قُطع ، كلما خرج منهم قرن
قطع" حتى عَدّها زيادة على عشرين مرة "كلما خرج منهم قرن قطع ، حتى يخرج
الدجال في بقيتهم" (9).
ورواه أحمد عن أبي داود ، وعبد الصمد ، كلاهما عن هشام الدَّسْتُوائي ، عن قتادة ،
به (10)
وقد رواه أبو داود في سننه ، فقال في كتاب الجهاد ، باب ما جاء في سكنى الشام :
حدثنا عبيد الله بن عمر ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني [أبي] (11) ، عن قتادة ، عن
شهر بن
__________
(1) في ت : "إبراهيم".
(2) في ت ، ف : "الذي هو".
(3) في أ : "قاله".
(4) في ف ، أ : "من أرض سواد".
(5) في أ : "فقال".
(6) في ف : "فإذا".
(7) في ف : "تلفظهم".
(8) في ت : "ناس".
(9) المسند (2/198).
(10) المسند (2/209).
(11) زيادة من سنن أبي داود.
(6/273)
حوشب ، عن
عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ستكون
هجرة بعد هجرة ، فخيار أهل الأرض ألزمهم مُهاجَر إبراهيم ، ويبقى في الأرض شرار
أهلها تلفظهم أرضهم وتَقْذرهم نفس الرحمن ، وتحشرهم النار مع القردة
والخنازير" (1).
وقال (2) الإمام أحمد أيضا : حدثنا يزيد ، أخبرنا أبو جَنَاب يحيى بن أبي حيَّة ،
عن شهر بن حوشب قال : سمعت (3) عبد الله بن عُمَر يقول (4) لقد رأيتُنا وما صاحب
الدينار والدرهم بأحق من أخيه المسلم ، ثم لقد رأيتنا بآخِرَة الآن ، والدينار
والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم ، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول : "لئن أنتم اتبعتم أذناب البقر ، وتبايعتم بالعينة ، وتركتم الجهاد في
سبيل الله ، ليلزمنكم الله مذلَّة في أعناقكم ، ثم لا تنزع منكم حتى ترجعوا إلى ما
كنتم عليه ، وتتوبوا إلى الله عز وجل". وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول : "لتكونن هجرة بعد هجرة إلى مُهاجر أبيكم إبراهيم حتى لا يبقى في
الأرضين (5) إلا شرار أهلها وتلفظهم أرضوهم ، وتقذرهم روح الرحمن ، وتحشرهم النار
مع القردة والخنازير ، تقيل حيث يقيلون (6) ، وتبيت حيث يبيتون ، وما سقط منهم
فلها". ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "يخرج من أمتي
قوم يسيئون الأعمال ، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم - قال يزيد : لا أعلمه إلا
قال - يحقر أحدكم علمه مع علمهم ، يقتلون أهل الإسلام ، فإذا خرجوا فاقتلوهم ، ثم
إذا خرجوا فاقتلوهم ، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم ، فطوبى لمن قتلهم ، وطوبى لمن قتلوه.
كلما طلع منهم قرن قَطعَه الله". فردد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
عشرين مرة ، أو أكثر ، وأنا أسمع (7).
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو الحُسَيْن بن الفضل ، أخبرنا عبد الله
بن جعفر ، حدثنا يعقوب بن سفيان ، حدثنا أبو النضر إسحاق بن يزيد وهشام بن عمار
الدمشقيان قالا حدثنا يحيى بن حمزة ، حدثنا الأوزاعي ، عن نافع - وقال أبو النضر ،
عمن حدَّثه ، عن نافع - عن عبد الله بن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
: "سيهاجر أهل الأرض هجرة بعد هجرة ، إلى مهاجَر إبراهيم ، حتى لا يبقى إلا
شرار أهلها ، تلفظهم الأرضون (8) وتقذرهم روح الرحمن ، وتحشرهم النار مع القردة
والخنازير ، تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيل معهم حيث قالوا ، لها ما سقط منهم".
غريب من حديث نافع. والظاهر أن الأوزاعي قد رواه عن شيخ له من الضعفاء ، والله
أعلم. وروايته من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أقرب إلى الحفظ.
وقوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } ، كقوله تعالى : { فَلَمَّا
اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا } [مريم : 49] أي : إنه لما فارق قومَه
أقرّ الله عينه بوجود ولد صالح نبي [وولد له ولد صالح] (9) في حياة جده. وكذلك
(10) قال الله : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [الأنبياء
: 72]
__________
(1) سنن أبي داود برقم (2482).
(2) في ت : "وروى".
(3) في ت : "عن".
(4) في أ : "سمعت عبد الله بن عمرو قال".
(5) في ت ، ف : "الأرض".
(6) في ، هـ ، ت ، ف ، أ : "تقيل معهم حيث قالوا" والمثبت من المسند.
(7) المسند (2/84) وقال الهيثمي في المجمع (5/251) "فيه أبو جناب الكلبي وهو
ضعيف" وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (11/380) "سنده لا بأس به".
(8) في ف : "الأرض.
(9) زيادة من ت ، ف.
(10) في ف : "ولذلك".
(6/274)
أي : زيادة
، كما قال : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ }
أي : ويولَد لهذا الولد ولد في حياتكما ، تقر به أعينكما. وكون يعقوب ولد لإسحاق
نص عليه القرآن ، وثبتت به السنة النبوية ، قال الله : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ
إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ
بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [البقرة : 133] ، وفي
الصحيحين : "إن الكريم ابنَ الكريم ابنِ الكريم ابن الكريم يوسفُ بنَ يعقوبَ
بن إسحاقَ بن إبراهيم" (1).
فأما ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ [نَافِلَةً] } (2) ، قال : "هما ولدا إبراهيم". فمعناه : أن
ولد الولد بمنزلة الولد ؛ فإن هذا أمر لا يكاد يخفى على من هو دون ابن عباس.
وقوله : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } ، هذه خِلْعَة
(3) سَنية عظيمة ، مع اتخاذ الله إياه خليلا وجعله للناس إماما ، أن جعل في ذريته
النبوة والكتاب ، فلم يوجد نبي بعد إبراهيم عليه السلام ، إلا وهو من سلالته ،
فجميع أنبياء بني إسرائيل من سُلالة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، حتى كان آخرهم
عيسى ابن مريم ، فقام في ملئهم مبشرا بالنبي العربي القرشي الهاشمي ، خاتم الرسل
على الإطلاق ، وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة ، الذي اصطفاه الله من صميم العرب
العَرْباء ، من سلالة إسماعيل بن إبراهيم ، عليهم السلام : ولم يوجد نبي من سلالة
إسماعيل سواه ، عليه أفضل الصلاة والسلام [من الله تعالى] (4).
وقوله : { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ
الصَّالِحِينَ } أي : جمع الله له بين سعادة الدنيا الموصولة بسعادة الآخرة ، فكان
له في الدنيا الرزق الواسع الهنيَّ والمنزل الرَّحْب ، والمورد العذب ، والزوجة الحسنة
الصالحة ، والثناء الجميل ، والذكر الحسن ، فكل أحد يحبه ويتولاه ، كما قال ابن
عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم ، مع القيام بطاعة الله من جميع الوجوه ، كما قال تعالى
: { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [النجم : 37] ، أي : قام بجميع ما أمر به ،
وكمل طاعة ربه ؛ ولهذا قال تعالى : { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا
وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } ، كما قال تعالى : { إِنَّ
إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ. شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ
لَمِنَ الصَّالِحِينَ } [النحل : 120 - 121].
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4688) من حديث ابن عمر ، ولم أجده عند مسلم.
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في أ : "خلقة".
(4) زيادة من ت ، وفي أ : "من الله".
(6/275)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
{ وَلُوطًا
إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا
مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ
وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ
جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) }
يقول تعالى مخبرا عن نبيه لوط عليه السلام ، إنه أنكر على قومه سُوء صنيعهم ، وما
كانوا يفعلونه من قبيح الأعمال ، في إتيانهم الذكران من العالمين ، ولم يسبقهم إلى
هذه الفعلة أحد من بني آدم قبلهم. وكانوا مع هذا يكفرون بالله ، ويكذّبون رسوله
ويخالفونه ويقطعون السبيل ، أي : يقفون في طريق الناس يقتلونهم ويأخذون أموالهم ،
{ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ } أي : يفعلون ما لا يليق من الأقوال
والأفعال في مجالسهم التي يجتمعون فيها ، لا ينكر بعضهم على بعض شيئًا من ذلك ،
فمن قائل : كانوا يأتون بعضهم بعضا في الملأ قاله مجاهد. ومن قائل : كانوا
يتضارطون ويتضاحكون ؛ قالته عائشة ، رضي الله عنها ، والقاسم. ومن قائل : كانوا
يناطحون بين الكباش ، ويناقرون بين الديوك ، وكل ذلك كان يصدر عنهم ، وكانوا شرًا
من ذلك.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حماد بن أسامة ، أخبرني حاتم بن أبي صغيرة ، حدثنا
سِمَاك بن حرب ، عن أبي صالح - مولى أم هانئ - عن أم هانئ (1) قالت : سألت رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، عن قوله عز وجل : { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ
الْمُنْكَرَ } ، قال : "يحذفون أهل الطريق ، ويسخرون منهم ، وذلك المنكر الذي
كانوا يأتونه".
ورواه الترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم من حديث أبي أسامة حماد بن أسامة عن
أبي يونس القُشَيري ، حاتم بن أبي صَغِيرة (2) به (3). ثم قال الترمذي : هذا حديث
حسن لا نعرفه إلا من حديث حاتم بن أبي صغيرة (4) عن سِمَاك.
وقال (5) ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا محمد بن كثير ، عن عمرو بن
قيس ، عن الحكم (6) ، عن مجاهد : { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ } قال
: الصفير ، ولعب الحمام (7) والجُلاهق ، والسؤال في المجلس ، وحل أزرار القباء.
وقوله : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ
اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } ، وهذا من كفرهم واستهزائهم وعنادهم ؛
ولهذا استنصر عليهم نبي الله فقال : { رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ
الْمُفْسِدِينَ } (8).
__________
(1) في ت : "وروى الإمام أحمد بإسناده عن أم هانئ".
(2) في أ : "حيوة".
(3) المسند (6/341) وسنن الترمذي برقم (3190).
(4) في أ : "حيوة".
(5) في ت : "وروى".
(6) في ت : "بإسناده".
(7) في أ : "الحمار".
(8) في أ : "الفاسقين" وهو خطأ.
(6/276)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آَيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)
{ وَلَمَّا
جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ
هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا
قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا
امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا
لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ
إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33)
إِنَّا مُنزلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا
كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ (35) }.
لما استنصر لوط عليه السلام ، الله عليهم ، بعث الله لنصرته ملائكة فمروا على
إبراهيم عليه السلام ، في هيئة أضياف ، فجاءهم بما ينبغي للضيف ، فلما رأى أنه لا
همَّة لهم إلى الطعام نَكِرَهم ، وأوجس منهم خيفة ، فشرعوا يؤانسونه ويبشرونه
بوجود ولد صالح من امرأته سارة - وكانت حاضرة - فتعجبت من ذلك ، كما تقدم بيانه في
سورة "هود" و"الحجر". فلما جاءت إبراهيم بالبشرى ، وأخبروه
بأنهم أرسلوا لهلاك قوم لوط ، أخذ يدافع لعلهم يُنظَرون ، لعل الله أن يهديهم ،
ولما قالوا : { إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ } ، { قَالَ إِنَّ
فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ
إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ } أي : من الهالكين ؛ لأنها كانت
تمالئهم على كفرهم وبغيهم ودبرهم. ثم ساروا من عنده فدخلوا على لوط في صورة شباب
حسان ، فلما رآهم كذلك ، { سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا } أي : اهتمَّ (1)
بأمرهم ، إن هو أضافهم خاف (2) عليهم من قومه ، وإن لم يضفهم خشي عليهم منهم ، ولم
يعلم بأمرهم في الساعة الراهنة. { قَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا
مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ. إِنَّا
مُنزلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا
يَفْسُقُونَ } ، وذلك أن جبريل عليه السلام اقتلع قراهم من قرار الأرض ، ثم رفعها
إلى عَنَان السماء ، ثم قلبها عليهم. وأرسل الله عليهم حجارة من سجيل منضود ،
مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد ، وجعل [الله] (3) مكانها بحيرة خبيثة
منتنة ، وجعلهم عبرة إلى يوم التناد (4) ، وهم من أشد الناس عذابا يوم المعاد ؛
ولهذا قال تعالى : { وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً } أي : واضحة ، {
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ، كَمَا قَالَ { وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ
مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ } [الصافات : 137 ، 138].
{ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ
وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ (36)
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ
(37) }.
يخبر تعالى عن عبده ورسوله شعيب عليه السلام ، أنه أنذر قومه أهل مَدين ، فأمرهم
بعبادة الله وحده لا شريك له ، وأن يخافوا بأس الله ونقمته وسطوته يوم القيامة ،
فقال : { يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ }.
. قال ابن جرير : قال بعضهم : معناه : واخشوا اليوم الآخر ، وهذا كقوله تعالى : {
لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ } [الممتحنة : 6].
ثم نهاهم عن العيث في الأرض بالفساد ، وهو السعي فيها والبغي على أهلها ، وذلك
أنهم كانوا ينقصون المكيال والميزان ، ويقطعون الطريق على الناس ، هذا مع كفرهم
بالله ورسوله ، فأهلكهم الله
__________
(1) في ف ، أ : "اغتم".
(2) في أ : "خوفا".
(3) زيادة من ت ، ف ، أ.
(4) في ت : "القيامة".
(6/277)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)
برجفة عظيمة
زلزلت عليهم بلادهم ، وصيحة أخرجت القلوب من حناجرها (1). وعذاب يوم الظلة الذي
أزهق الأرواح من مستقرها ، إنه كان عذاب يوم عظيم. وقد تقدمت قصتهم مبسوطة في سورة
"الأعراف ، وهود ، والشعراء".
وقوله : { فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } ، قال قتادة : ميتين. وقال
غيره : قد ألقي بعضهم على بعض.
{ وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا
مُسْتَبْصِرِينَ (38) }
__________
(1) في ت : "حناجرهم".
(6/278)
وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
{
وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ
فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلا أَخَذْنَا
بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ
أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ
أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ (40) }.
يخبر تعالى عن هؤلاء الأمم المكذبة للرسل كيف أبادهم وتنوع في عذابهم ، فأخذهم (1)
بالانتقام منهم ، فعاد قوم هود ، وكانوا يسكنون الأحقاف وهي قريبة (2) من حضرموت
بلاد اليمن ، وثمود قوم صالح ، وكانوا يسكنون الحجر قريبًا من وادي القرى. وكانت
العرب تعرف مساكنهما (3) جيدا ، وتمر عليها كثيرًا. وقارون صاحب الأموال الجزيلة
ومفاتيح الكنوز الثقيلة. وفرعون ملك مصر في زمان موسى ووزيره هامان القبطيان
الكافران بالله ورسوله.
{ فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ } أي : كانت عقوبته بما يناسبه ، { فَمِنْهُمْ مَنْ
أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا } ، وهم عاد ، وذلك أنهم قالوا : مَنْ أشدُّ منا
قوة ؟ فجاءتهم ريح صرصر باردة شديدة البرد ، عاتية شديدة الهبوب جدا ، تحمل عليهم
حصباء الأرض فتقلبها عليهم ، وتقتلعهم من الأرض فترفع الرجل منهم إلى عَنَان
السماء ، ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخه فيبقى بدنًا بلا رأس ، كأنهم أعجاز نخل
منقعر (4). { وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ } ، وهم ثمود ، قامت عليهم
الحجة وظهرت لهم (5) الدلالة ، من تلك الناقة التي انفلقت عنها الصخرة ، مثل ما
سألوا سواء بسواء ، ومع هذا ما آمنوا بل استمروا على طغيانهم وكفرهم ، وتهددوا نبي
الله صالحا ومَنْ آمن معه ، وتوعَّدوهُم بأن يخرجوهم ويرجموهم ، فجاءتهم صيحة
أخمدت الأصوات منهم والحركات. { وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ } ، وهو
قارون الذي طغى وبغى وعتا ، وعصى الرب الأعلى ، ومشى في الأرض مرحًا ، وفرح ومرح
وتاه بنفسه ، واعتقد أنه أفضل من غيره ، واختال في مشيته ، فخسف الله به وبداره
الأرض ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. { وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا } ، وهم
(6) فرعون ووزيره هامان ، وجنوده عن آخرهم ، أغرقوا في صبيحة واحدة ، فلم ينج منهم
مخبر ، { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ } أي : فيما فعل بهم ، { وَلَكِنْ
كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي : إنما فعل ذلك
__________
(1) في ت ، ف : "وأخذهم".
(2) في أ : "قرية".
(3) في ت : "مساكنهم".
(4) في ف ، أ : "خاوية".
(5) في ف ، أ : "عليهم".
(6) في ف ، أ : "وهو".
(6/278)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)
بهم جزاء
وفاقا بما كسبت أيديهم.
وهذا الذي ذكرناه ظاهر سياق الآية ، وهو من باب اللف والنشر ، وهو أنه ذكر الأمم
المكذبة ، ثم قال : { فَكُلا (1) أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ } [الآية] (2) ، أي : من
هؤلاء المذكورين ، وإنما نبهتُ على هذا لأنه قد روي أن ابن جريج قال : قال (3) ابن
عباس في قوله : { فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا } ، قال : قوم
لوط. { وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا } ، قال : قوم نوح.
وهذا (4) منقطع عن ابن عباس ؛ فإن ابن جُرْيَج لم يدركه. ثم قد ذكر في هذه السورة
إهلاك قوم نوح بالطوفان ، وقوم لوط بإنزال الرجز من السماء ، وطال السياقُ والفصلُ
بين ذلك وبين هذا السياق.
وقال قتادة : { فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا } قال : قوم لوط ،
{ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ } ، قوم شعيب. وهذا بعيد أيضا لما تقدم
، والله أعلم.
{ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ
الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ
الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا
يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ
الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ (43) }
هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله ، يرجون نصرهم
ورزقهم ، ويتمسكون بهم في الشدائد ، فهم في ذلك كبيت العنكبوت في ضعفه ووهنه (5)
فليس في أيدي هؤلاء من آلهتهم إلا كمَنْ يتمسك ببيت العنكبوت ، فإنه لا يجدي عنه
شيئا ، فلو عَلموا هذا الحال لما اتخذوا من دون الله أولياء ، وهذا بخلاف المسلم
المؤمن قلبه لله ، وهو مع ذلك يحسن العمل في اتباع الشرع فإنه مستمسك (6) بالعروة
الوثقى لا انفصام لها ، لقوتها وثباتها.
ثم قال تعالى متوعدا لِمَنْ عبد غيره وأشرك به : إنه تعالى يعلم ما هم عليه من
الأعمال ، ويعلم ما يشركون به من الأنداد ، وسيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم.
ثم قال تعالى : { وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا
إِلا الْعَالِمُونَ } أي : وما يفهمها ويتدبرها إلا الراسخون في العلم المتضلعون
منه.
قال (7) الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثني ابن لَهِيعة ، عن أبي قَبِيل
(8) ، عن عمرو بن العاص ، رضي الله عنه ، قال : عَقَلْتُ عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ألف مثل (9).
وهذه منقبة عظيمة لعمرو بن العاص - رضي الله عنه - حيث يقول [الله] (10) تعالى :
__________
(1) في ت : "فمنهم" وهو خطأ.
(2) زيادة من أ.
(3) في ت : "عن".
(4) في ت : "وهو".
(5) في ت : "وذهابه".
(6) في ف : "متمسك".
(7) في ت : "روى".
(8) في ت : "بإسناده".
(9) المسند (4/203) وقال الهيثمي في المجمع (8/264) "إسناده حسن".
(10) زيادة من ت ، وفي ف : "تبارك و".
(6/279)
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
{ وَتِلْكَ
الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ }.
وقال (1) ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، حدثنا
أبي ، حدثنا ابن سنان ، عن عمرو بن مرة قال : ما مررت بآية من كتاب الله لا أعرفها
إلا أحزنني ، لأني سمعت الله تعالى يقول : { وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا
لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ }.
{ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً
لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ
الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ
اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) }.
يقول تعالى [مخبرا] (2) عن قدرته العظيمة : أنه خلق السموات والأرض بالحق ، يعني :
لا على وجه العبث واللعب ، { لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى } [طه : 15] ،
{ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا
بِالْحُسْنَى } [النجم : 31].
وقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } أي : لدلالة واضحة على أنه
تعالى المتفرد بالخلق والتدبير والإلهية.
ثم قال تعالى آمرا رسوله والمؤمنين بتلاوة القرآن ، وهو قراءته وإبلاغه للناس : {
وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } يعني : أن الصلاة تشتمل على شيئين : على ترك
الفواحش والمنكرات ، أي : إن مواظبتها تحمل على ترك ذلك. وقد جاء في الحديث من
رواية عمران ، وابن عباس مرفوعا : "مَنْ لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ،
لم تزده من الله إلا بعدا" (3).
[ذكر الآثار الواردة في ذلك] (4) :
قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن هارون المخرمي الفلاس ، حدثنا عبد الرحمن بن
نافع أبو زياد ، حدثنا عمر بن أبي عثمان ، حدثنا الحسن ، عن عمران بن حصين قال :
سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ
الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } قال : "مَنْ لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر
، فلا صلاة له" (5).
__________
(1) في ت : "رواه".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) أما حديث عمران بن حصين ، فقد أخرجه ابن أبي حاتم - كما سيأتي - من طريق عمر
بن أبي عثمان عن الحسن عن عمران به ، والحسن لم يسمع من عمران بن حصين. وأما حديث
ابن عباس ، فقد رواه الطبراني في المعجم الكبير (11/54) من طريق ليث عن طاوس عن
ابن عباس به.
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) وهذا الحديث فيه علتان ذكرهما الشيخ ناصر الدين الألباني في الضعيفة وهما :
1 - الانقطاع بين الحسن - وهو البصري - وعمران بن حصين ، فإنهم اختلفوا في سماعه
منه فإنه ثبت ، فعلته عنعنته الحسن فإنه مدلس معروف بذلك.
2 - جهالة عمر بن أبي عثمان ، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (3/1/123) وقال
: "سمع طاوسا قوله ، روى عنه يحيى بن سعيد".
(6/280)
وحدثنا علي
بن الحسين ، حدثنا يحيى بن أبي طلحة اليربوعي حدثنا أبو معاوية ، عن ليث ، عن طاوس
، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَنْ لم تنهه صلاته
عن الفحشاء والمنكر ، لم يزدد بها من الله إلا بعدا". ورواه الطبراني من حديث
أبي معاوية (1).
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا خالد بن عبد الله ، عن
العلاء بن المسيب ، عمن ذكره ، عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى
عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } قال : فَمَنْ لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهه عن
المنكر ، لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدا. فهذا موقوف (2)
. قال ابن جرير : وحدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا علي بن هاشم بن (3) البريد
، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
"لا صلاة لِمَنْ لم يطع الصلاة ، وطاعة الصلاة أن تنهى عن الفحشاء
والمنكر". قال : وقال سفيان : { قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ
} [هود : 87] قال : فقال سفيان : أي والله ، تأمره وتنهاه. (4)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا أبو خالد ، عن جويبر ، عن
الضحاك ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقال أبو خالد
مَرَّة : عن عبد الله - : "لا صلاة لِمَنْ لم يطع الصلاة ، وطاعة الصلاة
تنهاه (5) عن الفحشاء والمنكر" (6).
والموقوف أصح ، كما رواه الأعمش ، عن مالك بن الحارث ، عن عبد الرحمن بن يزيد قال
: قيل لعبد الله : إن فلانا يطيل الصلاة ؟ قال : إن الصلاة لا تنفع إلا من أطاعها
(7).
وقال ابن جرير : قال علي : حدثنا إسماعيل بن مسلم (8) ، عن الحسن قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "من صلى صلاة لم تنهه عن الفحشاء والمنكر ، لم
يزدد بها من الله إلا بُعْدا" (9).
والأصح في هذا كله الموقوفات عن ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن وقتادة ، والأعمش
وغيرهم ، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا جرير - يعني ابن عبد
الحميد - عن الأعمش ، عن أبي صالح قال : أراه عن جابر - شك الأعمش - قال : قال رجل
للنبي صلى الله عليه وسلم : إن فلانا يصلي فإذا أصبح سرق ، قال : "سينهاه
(10) ما يقول" (11).
__________
(1) المعجم الكبير (11/54) وقال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء : "إسناده
لين".
(2) تفسير الطبري (20/99).
(3) في ف : "عن".
(4) تفسير الطبري (20/99) وفيه جويبر وهو متروك.
(5) في ف : "تنهى".
(6) ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/465) مرفوعا ، وقال : "أخرج عبد بن حميد
وابن جرير ، وابن مردويه بسند ضعيف" فذكر الرواية التي قبلها.
(7) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (13/298) من طريق زائدة عن عاصم عن شقيق عن ابن
مسعود قال : "لا تنفع الصلاة إلا من أطاعها ثم قرأ عبد الله : (إن الصلاة
تنهى عن الفحشاء والمنكر...) الآية".
(8) في هـ ، ت ، ف ، أ : "وقال ابن جرير : حدثنا علي بن إسماعيل بن
مسلم" والمثبت من الطبري.
(9) تفسير الطبري (20/99) وهو من مراسيل الحسن.
(10) في ف : "ستنهاه".
(11) مسند البزار برقم (721) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع
(2/258) "رجاله ثقات".
(6/281)
وحدثنا محمد
بن موسى الحَرشي (1) حدثنا زياد بن عبد الله ، عن الأعمش عن أبي صالح ، عن جابر ،
عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه - ولم يشك (2) - ثم قال : وهذا الحديث قد رواه
غير واحد عن الأعمش واختلفوا في إسناده ، فرواه غير واحد عن الأعمش ، عن أبي صالح
، عن أبي هريرة أو غيره ، وقال قيس عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، وقال
جرير وزياد : عن عبد الله ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن جابر.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا الأعمش قال : أنبأنا أبو صالح (3) عن أبي
هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن فلانا يصلي بالليل
فإذا أصبح سرق ؟ فقال : "إنه سينهاه ما يقول (4) (5) ".
وتشتمل الصلاة أيضا على ذكر الله تعالى ، وهو المطلوب الأكبر ؛ ولهذا قال تعالى :
{ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } أي : أعظم من الأول ، { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا
تَصْنَعُونَ } أي : يعلم جميع أقوالكم وأعمالكم.
وقال أبو العالية في قوله : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ } ، قال : إن الصلاة فيها ثلاث خصال (6) فكل صلاة لا يكون فيها شيء
من هذه الخلال فليست بصلاة : الإخلاص ، والخشية ، وذكر الله. فالإخلاص يأمره
بالمعروف ، والخشية تنهاه عن المنكر ، وذكر القرآن يأمره وينهاه.
وقال ابن عَوْن الأنصاري : إذا كنت في صلاة فأنت في معروف ، وقد حجزتك عن الفحشاء
والمنكر ، والذي أنت فيه من ذكر الله أكبر.
وقال حماد بن أبي سليمان : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ } يعني : ما دمت فيها.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } ،
يقول : ولذكر الله لعباده أكبر ، إذا ذكروه من ذكرهم إياه.
وكذا روى غير واحد عن ابن عباس. وبه قال مجاهد ، وغيره.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن داود بن
أبي هند ، عن رجل ، عن ابن عباس : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } قال : ذكر الله
عند طعامك وعند منامك. قلت : فإن صاحبًا لي في المنزل يقول غير الذي تقول : قال :
وأي شيء يقول ؟ قلت : قال : يقول الله : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } [البقرة :
152] ، فلذكر الله إيانا أكبر من ذكرنا إياه. قال : صدق.
قال : وحدثنا أبي ، حدثنا النفيلي ، حدثنا إسماعيل ، عن خالد ، عن عِكْرِمة ، عن
ابن عباس
__________
(1) في ف ، أ : "الجرشي".
(2) مسند البزار برقم (722) "كشف الأستار".
(3) في هـ ، ت ، ف : "أبو صالح أخبرنا" والمثبت من المسند.
(4) في ف : "ستنهاه ما تقول"
(5) المسند (2/447) ورواه البزار في مسنده برقم (720) "كشف الأستار". من
طريق الأعمش به ، وقال الهيثمي في المجمع (2/258) "رجاله رجال الصحيح".
(6) في أ : "خلال".
(6/282)
في قوله : {
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } قال : لها وجهان ، قال : ذكر الله عندما حرمه ، قال
: وذكر الله إياكم أعظم من ذكركم إياه.
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدَّثنا هُشَيْم ، أخبرنا عطاء بن
السائب ، عن عبد الله بن ربيعة قال : قال لي ابن عباس : هل تدري ما قوله تعالى : {
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } ؟ قال : قلت : نعم. قال : فما هو ؟ قلت : التسبيح
والتحميد والتكبير في الصلاة ، وقراءة القرآن ، ونحو ذلك. قال : لقد قلت قولا
عجبًا ، وما هو كذلك ، ولكنه إنما يقول : ذكر الله إياكم عندما أمر به أو نهى عنه
إذا ذكرتموه ، أكبر من ذكركم إياه (1)
. وقد روي هذا من غير وجه عن ابن عباس. وروي أيضا عن ابن مسعود ، وأبي الدرداء ،
وسلمان الفارسي ، وغيرهم. واختاره ابن جرير.
__________
(1) تفسير الطبري (20/99).
(6/283)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
{ وَلا
تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزلَ إِلَيْنَا وَأُنزلَ
إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) }.
قال قتادة وغير واحد : هذه الآية منسوخة بآية السيف ، ولم يبق معهم مجادلة ، وإنما
هو الإسلام أو الجزية أو السيف.
وقال آخرون : بل هي باقية أو محكمة لِمَنْ أراد الاستبصار منهم في الدين ، فيجادل
بالتي هي أحسن ، ليكون أنجع فيه ، كما قال تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ } [النحل : 125] ، وقال تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون
: { فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [طه :
44]. وهذا القول اختاره ابن جرير (1) ، وحكاه عن ابن زيد.
وقوله : { إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } أي : حادوا عن وجه الحق (2) ،
وعَمُوا عن واضح المحجة ، وعاندوا وكابروا ، فحينئذ ينتقل من الجدال إلى الجلاد ،
ويقاتلون بما يردعهم ويمنعهم ، قال الله تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا
بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ
لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ
اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحديد : 25].
قال جابر : أمرْنَا من خالف كتاب الله أن نضربه بالسيف.
قال مجاهد : { إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } يعني : أهل الحرب ، وَمَنِ
امتنع منهم عن أداء الجزية.
وقوله : { وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزلَ إِلَيْنَا وَأُنزلَ إِلَيْكُمْ } ،
يعني : إذا أخبروا بما لا يعلم صدقه ولا كذبه ، فهذا لا نُقدم على تكذيبه لأنه قد
يكون حقا ، ولا على تصديقه ، فلعله أن يكون باطلا
__________
(1) تفسير الطبري (21/2).
(2) في ف ، أ : "الحجة".
(6/283)
ولكن نؤمن
به إيمانا مجملا معلقا على شرط وهو أن يكون منزلا لا مبدلا ولا مؤولا.
وقال البخاري ، رحمه الله : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عثمان بن عُمَر ، أخبرنا
علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة (1) ، رضي
الله عنه قال : كان أهل الكتاب (2) يقرؤون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها
بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تصدقوا أهل
الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم ، وإلهنا
وإلهكم واحد ، ونحن له مسلمون". وهذا الحديث تفرَّد (3) به البخاري (4).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عثمان بن عُمَر ، أخبرنا يونس ، عن الزهري ، أخبرني ابن
أبي نملة (5) أن أبا نَمْلَةَ الأنصاري أخبره ، أنه بينما هو جالس عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، جاءه رجل من اليهود ، فقال : يا محمد ، هل تتكلم هذه الجنازة
؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الله أعلم". قال اليهودي : أنا
أشهد أنها تتكلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا حدثكم أهل الكتاب
فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالله ورسله وكتبه ، فإن كان حقًّا لم
(6) تكذبوهم ، وإن كان باطلا لم (7) تصدقوهم" (8)
قلت : وأبو نَمْلَةَ هذا هو : عُمَارة. وقيل : عمار. وقيل : عمرو بن معاذ بن
زُرَارة الأنصاري ، رضي الله عنه.
ثم ليعلم أن أكثر ما يُحدّثون به غالبُه كذب وبهتان ؛ لأنه قد دخله تحريف وتبديل وتغيير
وتأويل ، وما أقل الصدق فيه ، ثم ما أقل فائدة كثير منه لو كان صحيحا.
قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا سفيان ، عن سليمان بن
عامر ، عن عمارة بن عمير ، عن حُرَيْث (9) بن ظهير ، عن عبد الله - هو ابن مسعود -
قال : لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ، إما أن تكذبوا
بحق أو تصدقوا بباطل ، فإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلا وفي قلبه تالية ، تدعوه إلى
دينه كتالية المال (10).
وقال البخاري : حدثنا موسى بن إسماعيل (11) حدثنا إبراهيم بن سعد ، أخبرنا ابن
شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله (12) ، عن ابن عباس قال : كيف تسألون أهل الكتاب
عن شيء ، وكتابكم الذي أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم أحدث (13) تقرؤونه محضا
لم يُشَب ، وقد حدَثَكم أن أهل الكتاب بدَّلوا كتاب الله ، وغيروه وكتبوا بأيديهم
الكتاب ، وقالوا : هو (14) من عند الله ، ليشتروا به ثمنا قليلا ؟ ألا ينهاكم ما
جاءكم من العلم عن (15) مسألتهم ؟ لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي
أنزل عليكم (16).
__________
(1) في ت : "روى البخاري بإسناده عن أبي هريرة".
(2) في هـ ، ت ، ف : "كان أهل التوراة" والمثبت من البخاري.
(3) في ت : "انفرد".
(4) صحيح البخاري برقم (4485 ، 7362).
(5) في ت : "روى الإمام أحمد بإسناده".
(6) في ت : "فلا".
(7) في ت : "فلا".
(8) المسند (4/136).
(9) في أ : "حرب".
(10) تفسير الطبري (21/4).
(11) في أ : "سليمان".
(12) في ت : "روى البخاري بإسناده".
(13) في ت : "أحدث الكتب".
(14) في ف ، أ : "وقالوا : هذا هو".
(15) في ف : "من".
(16) صحيح البخاري برقم (7363).
(6/284)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
وقال
البخاري : وقال أبو اليمان : أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني حُمَيد بن عبد
الرحمن : أنه سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة - وذكرَ كعبَ الأحبار - فقال
: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب ، وإن كنا مع ذلك
لنبلو عليه الكذب (1).
قلت : معناه أنه يقع منه الكذب لغة من غير قصد ؛ لأنه يحدث عن صحف هو يحسن بها
الظن ، وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة ؛ لأنهم لم يكن في ملتهم حفاظ متقنون كهذه
الأمة العظيمة ، ومع ذلك وقرب العهد وضعت (2) أحاديث كثيرة في هذه الأمة ، لا
يعلمها إلا الله ومن منحه الله علما بذلك ، كل بحسبه ، ولله الحمد والمنة.
{ وَكَذَلِكَ أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا
إِلا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا
تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ
بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا
إِلا الظَّالِمُونَ (49) }.
قال ابن جرير : يقول الله تعالى : كما أنزلنا الكُتُب (3) على مَنْ قبلك - يا محمد
- من الرسل ، كذلك أنزلنا إليك هذا الكتاب.
وهذا الذي قاله حسن ومناسبة وارتباط (4) جيد.
وقوله : { فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي : الذين
أخذوه فتلَوْه حق تلاوته من أحبارهم العلماء الأذكياء ، كعبد الله بن سلام ،
وسلمان الفارسي ، وأشباههما.
وقوله : { وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ } ، يعني العرب من قريش وغيرهم ، {
وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ } ، أي : ما يكذب بها ويجحد حقها
إلا مَنْ يستر الحق بالباطل ، ويغطي ضوء الشمس بالوصائل ، وهيهات.
ثم قال تعالى : { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ
بِيَمِينِكَ } ، أي : قد لبثت في قومك - يا محمد - ومن قبل أن تأتي بهذا القرآن
عُمرا لا تقرأ كتابا ولا تحسن الكتابة ، بل كل أحد من قومك وغيرهم يعرف أنك رجل
أمي لا تقرأ ولا تكتب (5). وهكذا صفته في الكتب المتقدمة ، كما قال تعالى : {
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ } الآية [الأعراف : 157]. وهكذا كان ، صلوات الله
وسلامه عليه [دائما أبدا] (6) إلى يوم القيامة (7) ، لا يحسن الكتابة ولا يخط سطرا
ولا حرفا بيده ، بل كان له كتاب يكتبون بين
__________
(1) صحيح البخاري برقم (7361).
(2) في ت : "وضعفت".
(3) في أ : "الكتاب".
(4) في ف : "ومناسبته وارتباطه".
(5) في ف : "لا يقرأ ولا يكتب".
(6) زيادة من ف ، وفي أ : "دائما".
(7) في ف ، أ : "الدين".
(6/285)
يديه الوحي
والرسائل إلى الأقاليم. ومن زعم من متأخري الفقهاء ، كالقاضي أبي الوليد الباجي
ومن تابعه أنه عليه السلام (1) ، كتب يوم الحديبية : "هذا ما قاضى عليه محمد
بن عبد الله" فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري : "ثم أخذ
فكتب" : وهذه محمولة على الرواية الأخرى : "ثم أمر فكتب". ولهذا
اشتد النكير بين فقهاء المغرب والمشرق على من قال بقول الباجي ، وتبرؤوا منه ،
وأنشدوا في ذلك أقوالا وخطبوا به في محافلهم : وإنما أراد الرجل - أعني الباجي ،
فيما يظهر عنه - أنه كتب ذلك على وجه المعجزة ، لا أنه كان يحسن الكتابة ، كما قال
، عليه الصلاة والسلام (2) إخبارا عن الدجال : "مكتوب بين عينيه كافر"
وفي رواية : "ك ف ر ، يقرؤها كل مؤمن" (3) ، وما أورده بعضهم من الحديث
أنه لم يمت ، عليه السلام (4) حتى تعلم الكتابة ، فضعيف لا أصل له ؛ قال الله
تعالى : { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو } أي : تقرأ { مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ }
لتأكيد النفي ، { وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } تأكيد أيضا ، وخرج مخرج الغالب ،
كقوله تعالى : { وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [الأنعام : 38].
وقوله : { إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } أي : لو كنت تحسنها (5) لارتاب بعض
الجهلة من الناس فيقول : إنما تعلم هذا من كُتب قبله مأثورة عن الأنبياء ، مع أنهم
قالوا ذلك مع علمهم بأنه أمي لا يحسن الكتابة : { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ
الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا } [الفرقان
: 5] ، قال الله تعالى : { قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي
السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } [الفرقان : 6] ، وقال
هاهنا : { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ }
أي : [هذا] (6) القرآن آيات بينة واضحة في الدلالة على الحق ، أمرًا ونهيًا وخبرًا
، يحفظه العلماء ، يَسَّره الله عليهم حفظًا وتلاوةً وتفسيرًا ، كما قال تعالى : {
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } [القمر : 17]
، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما مِنْ نبي إلا وقد أعطي ما آمن على
مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم
تابعا" (7).
وفي حديث عياض بن حمار (8) ، في صحيح مسلم : "يقول الله تعالى : إني مبتليك
ومبتل بك ، ومنزل عليك كتابًا لا يغسله الماء ، تقرؤه نائما ويقظان" (9). أي
: لو غسل الماء المحلَّ المكتوب فيه لما احتيج إلى ذلك المحل ، كما جاء في الحديث
الآخر : "لو كان القرآن في إهاب ، ما أحرقته النار" (10) ، لأنه محفوظ
في الصدور ، ميسر (11) على الألسنة ، مهيمن على القلوب ، معجز لفظًا ومعنى ؛ ولهذا
جاء في الكتب المتقدمة ، في صفة هذه الأمة : "أناجيلهم في صدورهم".
__________
(1) في ف ، أ : "صلى الله عليه وسلم".
(2) في ف ، أ : "صلى الله عليه وسلم".
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (7131) من حديث أنس رضي الله عنه.
(4) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(5) في ت : "تحسن الكتابة".
(6) زيادة من ت ، ف ، أ.
(7) رواه البخاري في صحيحه برقم (7274) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وسيأتي
إن شاء الله.
(8) في أ : "حماد".
(9) صحيح مسلم برقم (2865).
(10) رواه أحمد في مسنده (4/151) من حديث عقبة بن عامر. وتقدم الكلام عليه في
فضائل القرآن.
(11) في ت : "وميسر".
(6/286)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
واختار ابن
جرير أن المعنى في قوله تعالى : { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } ، بل العلم بأنك ما كنت تتلو من قبل هذا الكتاب
كتابًا ولا تخطه بيمينك ، آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب
(1). ونقله عن قتادة ، وابن جريج. وحكى الأول عن الحسن [البصري] (2) فقط.
قلت : وهو الذي رواه العوفي عن عبد الله بن عباس ، وقاله الضحاك ، وهو الأظهر ،
والله أعلم.
وقوله : { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ } أي : ما يكذب بها
ويبخس حقها ويردها إلا الظالمون ، أي : المعتدون المكابرون ، الذين يعلمون الحق
ويحيدون عنه ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا
الْعَذَابَ الألِيمَ } [يونس : 96 ، 97].
{ وَقَالُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ
عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا
أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً
وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) }.
يقول تعالى مخبرًا عن المشركين في تعنتهم وطلبهم آيات - يعنون - ترشدهم إلى أن
محمدا رسول الله كما جاء صالح بناقته ، قال الله تعالى : { قُلْ } يا محمد : {
إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ } أي : إنما أمر ذلك إلى الله ، فإنه لو علم
أنكم تهتدون لأجابكم إلى سؤالكم ؛ لأن ذلك سهل عليه ، يسير لديه ، ولكنه يعلم منكم
أنما قصدكم التعنت والامتحان ، فلا يجيبكم إلى ذلك ، كما قال تعالى : { وَمَا
مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ
وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا } [الإسراء : 59].
وقوله : { وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ } أي : إنما بعثت نذيرًا لكم بَيِّنَ
النذارة فَعَليَّ أن أبلغكم رسالة الله و { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ
الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } [الكهف :
17] ، وقال تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ } [البقرة : 272].
ثم قال تعالى مبينا كثرة جهلهم ، وسخافة عقلهم ، حيث طلبوا آيات تدلهم على صدق
محمد فيما جاءهم [به] (3) - وقد جاءهم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين
يديه ، ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، الذي هو أعظم من كل معجزة ، إذ عجزت
الفصحاء والبلغاء عن معارضته ، بل عن معارضة عشر سور من مثله ، بل عن معارضة سورة
منه - فقال تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ
يُتْلَى عَلَيْهِمْ } أي : أولم يكفهم آية أنا أنزلنا عليك هذا الكتاب العظيم ،
الذي فيه خبر ما قبلهم ، ونبأ ما بعدهم ، وحكم ما بينهم ، وأنت رجل أمي لا تقرأ
ولا تكتب ، ولم تخالط أحدا
__________
(1) تفسير الطبري (21/5).
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) زيادة من ف.
(6/287)
من أهل
الكتاب ، فجئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى ، ببيان الصواب مما اختلفوا فيه ،
وبالحق الواضح البين الجلي ، كما قال تعالى : { أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ
يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ } [الشعراء : 197] ، وقال تعالى : {
وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ (1) مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ
بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى } [طه : 133].
وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، حدثنا ليث ، حدثني سعيد بن أبي سعيد ، عن أبيه
(2) عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ،
وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم
القيامة". أخرجاه (3) من حديث الليث (4).
وقال الله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
} أي : إن في هذا القرآن : { لَرَحْمَةً } أي : بيانًا للحق ، وإزاحة للباطل و {
ذِكْرَى } بما فيه حلول النقمات ونزول العقاب بالمكذبين والعاصين ، { لَرَحْمَةً
وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }.
ثم قال تعالى : قل : { كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا } (5) أي :
هو أعلم بما تفيضون فيه من التكذيب ، ويعلم ما أقول لكم من إخباري عنه ، بأنه
أرسلني ، فلو كنت كاذبا عليه لانتقم مني ، كما قال تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ
عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ. لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا
مِنْهُ الْوَتِينَ. فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [الحاقة : 44
- 47] ، وإنما أنا صادق عليه فيما أخبرتكم به ، ولهذا أيدني بالمعجزات الواضحات ،
والدلائل القاطعات.
{ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } [أي] (6) : لا تخفى عليه خافية.
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ } أي : يوم معادهم سيجزيهم على ما فعلوا ، ويقابلهم على ما صنعوا ،
من تكذيبهم بالحق واتباعهم الباطل ، كذبوا برسل الله مع قيام الأدلة على صدقهم ،
وآمنوا بالطواغيت والأوثان بلا دليل ، سيجازيهم على ذلك ، إنه حكيم عليم.
__________
(1) في جميع النسخ : (لولا أنزل عليه آية) والصواب ما أثبتناه.
(2) في ت : "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(3) في ت : "أخرجه البخاري ومسلم".
(4) المسند (2/341) وصحيح البخاري برقم (4981) وصحيح مسلم برقم (152).
(5) في أ : "كفى بالله شهيدا بيني وبينكم" وهو خطأ.
(6) زيادة من ت ، أ.
(6/288)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
{
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ
الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ
يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ
ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) }.
يقول تعالى مخبرا عن جهل المشركين في استعجالهم عذاب الله أن يقع بهم ، وبأس الله
أن يحل
(6/288)
عليهم ، كما
قال تعالى : { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ
عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ } [الأنفال : 32] ، وقال هاهنا : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ
وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ } أي : لولا ما حَتَّم الله من
تأخير العذاب إلى يوم القيامة لجاءهم العذاب قريبا سريعا كما استعجلوه.
ثم قال : { وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً } أي : فجأة ، { وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ.
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ }
أي : يستعجلون بالعذاب ، وهو واقع بهم لا محالة.
قال شعبة ، عن سِمَاك ، عن عِكْرِمة قال في قوله : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ
لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } ، قال : البحر.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين. حدثنا عمر بن إسماعيل بن مجالد ، حدثنا
أبي عن مجالد ، عن الشعبي ؛ أنه سمع ابن عباس يقول : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ
لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } : وجهنم هو هذا البحر الأخضر ، تنتثر الكواكب فيه ،
وتُكور فيه الشمس والقمر ، ثم يستوقد فيكون هو جهنم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عاصم ، حدثنا عبد الله بن أمية ، حدثني محمد بن
حُيَي ، حدثنا (1) صفوان بن يعلى ، عن أبيه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"البحر هو جهنم". قالوا : ليعلى ، فقال : ألا ترون أن الله يقول : {
نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } [الكهف : 29] ، قال : لا والذي نفس يعلى
بيده لا أدخلها أبدا حتى أعرض على الله ، ولا يصيبني منها قطرة حتى أعرض على الله
عز وجل (2).
هذا تفسير غريب ، وحديث غريب جدا ، والله أعلم.
ثم قال تعالى : { يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِهِمْ } ، كقوله تعالى : { لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ
فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [الأعراف : 41] ، وقال : { لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ
مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } [الزمر : 16] ، وقال : { لَوْ يَعْلَمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ
ظُهُورِهِمْ } [الأنبياء : 39] ، فالنار تغشاهم من سائر جهاتهم ، وهذا أبلغ في
العذاب الحسي.
وقوله : { وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ، تهديد وتقريع وتوبيخ ،
وهذا عذاب معنوي على النفوس ، كقوله : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى
وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ. إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }
[القمر : 48 ، 49] ، وقال { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا.
هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ. أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ
أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ. اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ
عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الطور : 13 - 16].
__________
(1) في ت : "وروى الإمام أحمد بسنده عن".
(2) المسند (4/233) وقال الهيثمي في المجمع (10/386) "رجاله ثقات".
(6/289)
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
{ يَا
عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
(56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ
غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ
الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا
وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) }.
هذا أمر من الله لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة
الدين ، إلى أرض الله الواسعة ، حيث يمكن إقامة الدين ، بأن يوحدوا الله ويعبدوه
كما أمرهم ؛ ولهذا قال : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي
وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ }.
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا بَقِيَّةُ بن الوليد ، حدثني
جُبَيْر بن عمرو القرشي ، حدثني أبو سعد الأنصاري ، عن أبي يحيى مولى (1) الزبير
بن العوام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "البلاد بلاد الله ،
والعباد عباد الله ، فحيثما أصبتَ خيرًا فأقم" (2).
ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها ، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ،
ليأمنوا ، على دينهم هناك ، فوجدوا هناك خير المنزلين ، أصحمة النجاشي ملك الحبشة
، رحمه الله ، آواهم وأيدهم بنصره ، وجعلهم شُيُوما ببلاده. ثم بعد ذلك هاجر رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الباقون إلى المدينة النبوية يثرب المطهرة (3)
__________
(1) في ت : "روى الإمام أحمد بإسناده عن".
(2) المسند (1/166) وقال الهيثمي في المجمع (4/72) "فيه جماعة لم
أعرفهم".
(3) بعدها في ت - وأظنها من الناسخ - ما يلي : "أما قصة هجرة الحبشة ، فقال
ابن إسحاق : حدثني الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، عن أمه
أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : لما نزلنا
بأرض الحبشة جاورنا خير جار النجاشي ، آمنا على ديننا ، وعبدنا الله لا نؤذى ، ولا
نسمع شيئا نكرهه فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم ، أن يبعثوا إلينا رجلين جلدين
، وأن يهدوا إلى النجاشي هدايا مما يُستطرف من متاع مكة ، وكان أعجب ما يأتيه منها
الأدم ، فجمعوا له أدما كثيرا ، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية
وقالوا لهما : ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي ، ثم قدموا إلى
النجاشي هداياه ، ثم سلوه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم.
قالت : فخرجنا حتى قدمنا عليه ، ونحن عنده بخير دار ، عند خير جار فلم يبق بطريق
من بطارقته إلا دفعوا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي ، ثم قالا لكل بطريق : إنه
قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ، ولم يدخلوا في دينكم ، وجاءوا
بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم ، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردوهم
إليهم ، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه أن يسلمهم إلينا ، ولا يكلمهم فإن
قومهم أعلى بهم دينا وأعلم بما عابوا عليهم ؛ فقالوا لهما : نعم ، ثم أنهما قدما
هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما ثم كلماه فقالا : أيها الملك إنه قد ضوى إلى
بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ، ولم يدخلوا في دينك ، جاءوا بدين مبتدع
لا نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم وآباءهم وأعمامهم
وعشائرهم لتردهم إليهم فهم أعلى بهم عينا ، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.
قالت : ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع
كلامهم النجاشي ، فقالت بطارقته حوله : صدقوا أيها الملك قومهم أعلى بهم عينا
وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهم ليردوهم إلى بلادهم وقومهم ، فغضب النجاشي
وقال : لاها الله لا أسلمهم إليهم أبدا ولا أكاد ، قوم جاوروني ، ونزلوا بلادي ،
واختاروني على مَنْ سواي ، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان الرجلان. فإن كانوا
كما يقولون أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى بلادهم ، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم
وأحسنت جوارهم ما جاوروني ونزلوا بلادي.
قالت : ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاهم فلما جاءهم رسوله
اجتمعوا ، ثم قال بعضهم لبعض : ما تقولون لهذا الرجل إذا جئتموه ؟ قالوا : نقول :
والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم ، كائنا في ذلك ما هو كائن
، قال : فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله ، فلما دخلوا
عليه سألهم ، فقال : ما هذا الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد
من هذه الملل.
قالت : فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب. فقال : أيها الملك كنا قومًا أهل جاهلية
نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ،
ويأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك ، حتى بعث الله إلينا رسولا نعرف نسبه وصدقه
وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ، ونخلع ما كنا نعبد وآباؤنا من دونه ،
الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن
الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال
اليتيم وقذف المحصنة ، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة
والزكاة والصيام. قالت : فعد عليه أمور الإسلام. فصدقناه وآمنا به ، واتبعناه على
ما جاء به من الله عز جل ، فعبدنا الله لا نشرك به شيئا ، وحرمنا ما حرم علينا ،
وأحللنا ما أحل لنا ، فعدا علينا قومنا ، فعذبونا ، وفتنونا عن ديننا ؛ ليردونا
إلى عبادة الأوثان من عبادة الله ، وأن نستحل كما كنا نستحل من الخبائث ، فلما
قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا إلى بلدك ،
واخترناك على مَنْ سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
قالت : فقال له النجاشي : وهل عندك مما جاء به من عند الله شيء ؟ قالت : فقال له
جعفر : نعم. فقال له النجاشي : فاقرأه علي ، فقرأ عليه صدرا من (كهيعص).
قالت : فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته ، وبكى أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم ، حين
سمعوا ما يتلى عليهم. وقال النجاشي : إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة
واحدة. انطلقا. لا والله لا أسلمهم إليكما ولا أكاد. قالت : فلما خرجا من عنده.
قال عمرو بن العاص : والله لآتينه غدا بما أستأصل به خضراءهم.
قالت : فقال له عبد الله بن أبي ربيعة - وكان أتقى الرجلين فينا - : لا تفعل فإن
لهم أرحاما ، وإن كانوا قد خالفونا. قال : والله لأخبرنه أنهم يقولون في عيسى قولا
عظيما. فأرسل إليهم فسألهم عما يقولون فيه. قالت : فأرسل إليهم ليسألهم عنه. قالت
: ولم ينزل بنا مثلها ، فاجتمع القوم. فقال بعضهم لبعض : ما تقولون في عيسى إن
سألكم عنه. قالوا : نقول فيه ما قال الله عز وجل ، وما جاء به نبينا ، كائنا في
ذلك ما هو كائن. قالت : فلما دخلوا عليه. قال لهم : ما تقولون في عيسى ابن مريم ،
قالت : فقال جعفر بن أبي طالب : نقول فيه الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم.
يقول فيه : هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. قالت
: فضرب النجاشي يده إلى الأرض ، فأخذ منها عودا ، ثم قال له : ما عدا عيسى ابن
مريم ما قلت هذا العود.
قالت : فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال. فقال : وإن تناخرتم اذهبوا فأنتم
شيوم بأرضي. والشيوم : الآمنون. مَنْ سَبَّكُم غُرَّم ، مَنْ سَبَّكُم غُرَّم ، ما
أحب أن لي دبرا من ذهب ، وأني آذيت رجلا منكم. والدبر : بلسان الحبشة الجبل. وردوا
عليهما هداياهما ، فلا حاجة لي بها ، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين ردَّ علي
ملكي ، فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع الناس فيّ ، فأطيعهم فيه. قالت : فخرجا من عنده
مقبوحين مردودا عليهما. قالت أم سلمة : فكنت أتعرض لهم ليسبوني فأغرمهم ، وأقمنا
عنده بخير دار مع خير جار.
قالت : فوالله ما أغلا لعلى ذلك ، إذ انبرى له رجل من الحبشة ينازعه ملكه. قالت :
فوالله ، ما أعلمنا حزنا قط كان أشد من حزن حزناه ، عند ذلك تخوفا من أن يظهر ذلك
الرجل على النجاشي. فيأتي رجلا لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه. قالت :
وسار إليه النجاشي وبينهما عرض النيل. قالت : فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم : مَنْ رجل يخرج حتى يشهد وقعة القوم ثم يأتينا بخبر القوم ؟ قالت : فقال
الزبير بن العوام : أنا ، قالت : وكان من أحدث القوم سنا. قالت : فنفخوا له قربة
فجعلوها في صدره ، ثم سبح حتى خرج إلى النيل التي بها ملتقى القوم ، ثم انطلق حتى
حضرهم. قالت : ودعونا الله عز وجل للنجاشي بالظهور على عدوه ، والتمكين له من
بلاده.
قالت : فوالله إنا لعلى ذلك الحال متوقعين لما هو كائن ، إذا طلع الزبير يسعى ،
ويليح بثوبه ، ألا أبشروا ، قد ظهر النجاشي ، وقد أهلك الله عدوه ، فوالله ما
أعلمنا فرحنا فرحة قط مثلها. قالت : ورجع النجاشي وأهلك الله عدوه ، ومكن له فى
بلاده ، واستوسق عليه أمر الحبشة ، فكنا عنده فى خير منزل ، حتى قدمنا على رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة.
وروي عن الزبير قال : لما نزل بالنجاشي عدوه من أهل أرضه ، جاءه المهاجرون فقالوا
: إنا نحب أن نخرج إليهم فنقاتل معك ، وترى جراءتنا ، ونجزيك بما صنعت بنا فقال :
ذو ينصره الله خير من الذي ينصره الناس ، فأنى ذلك عليهم"
(6/290)
ثم قال : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } أي : أينما كنتم يدرككم الموت ، فكونوا في طاعة الله وحيث أمركم الله ، فهو خير لكم ، فإن الموت لا بد منه ، ولا محيد عنه ، ثم إلى الله
(6/291)
المرجع
[والمآب] (1) ، فَمَنْ كان مطيعا له جازاه أفضل الجزاء ، ووافاه أتمَّ (2) الثواب
؛ ولهذا قال : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ
مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي : لنسكننهم منازل
عاليةً في الجنة تجري من تحتها الأنهار ، على اختلاف أصنافها ، من ماء وخمر ، وعسل
ولبن ، يصرفونها ويجرونها حيث شاؤوا ، { خَالِدِينَ فِيهَا } أي : ماكثين فيها
أبدا لا يبغون عنها حولا { نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } : نعمت هذه الغرفُ أجرًا
على أعمال المؤمنين.
{ الَّذِينَ صَبَرُوا } أي : على دينهم ، وهاجروا إلى الله ، ونابذوا الأعداء ،
وفارقوا الأهل والأقرباء ، ابتغاء وجه الله ، ورجاء ما عنده وتصديق موعوده.
قال ابن أبي حاتم ، رحمه الله : حدثني أبي ، حدثنا صفوان المؤذِنَ ، حدثنا الوليد
بن مسلم ، حدثنا معاوية بن سلام ، عن أخيه زيد بن سلام ، عن جده أبي سلام الأسود ،
حدثني أبو معَاتق (3) الأشعري ، أن أبا مالك الأشعري حدثه أن (4) رسول الله صلى
الله عليه وسلم حدثه : أن في الجنة غُرَفا يُرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من
ظاهرها ، أعدَّها الله لِمَنْ أطعم الطعام ، وأطاب الكلام ، وأباح الصيام ، وأقام
الصلاة (5) والناس نيام (6).
[وقوله] : (7) { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } ، في أحوالهم كلها ، في دينهم
ودنياهم.
ثم أخبرهم تعالى أن الرزق لا يختص ببقعة ، بل رزقه تعالى عام لخلقه حيث كانوا وأين
كانوا ، بل كانت أرزاق المهاجرين حيث هاجروا أكثر وأوسع وأطيب ، فإنهم (8) بعد
قليل صاروا حكام البلاد في سائر الأقطار والأمصار ؛ ولهذا قال : { وَكَأَيِّنْ
مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا } أي : لا تطيق جمعه وتحصيله ولا تؤخر (9)
شيئًا لغد ، { اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } أي : الله يقيض لها رزقها على
ضعفها ، وييسره عليها ، فيبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه ، حتى الذر في قرار
الأرض ، والطير في الهواء والحيتان في الماء ، قال الله تعالى : { وَمَا مِنْ
دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا
وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [هود : 6].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الرحمن الهروي ، حدثنا يزيد - يعني ابن
هارون - حدثنا الجراح بن مِنْهَال الجزري - هو أبو العطوف - عن الزهري ، عن رجل
(10) ، عن ابن عمر قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل بعض حيطان
المدينة ، فجعل يلتقط من التمر ويأكل ، فقال لي : "يا بن عمر ، ما لك لا تأكل
؟" قال : قلت : لا أشتهيه يا رسول الله ، قال : "لكني أشتهيه ،
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت : "ووفاه تمام".
(3) في هـ ، ت : "أبو معاوية" والصواب ما أثبتناه من ف ، أ ، والمسند
(5/343).
(4) في ت : "روى ابن أبي حاتم بإسناده عن أبي مالك الأشعري".
(5) في أ : "وتابع الصلاة والصيام وقام بالليل".
(6) ورواه الإمام أحمد في مسنده (5/343) من طريق أبي معانق عن أبي مالك به ،
وسيأتي عند الآية : 20 من سورة الزمر.
(7) زيادة من ت.
(8) في ف : "فهم".
(9) في أ : "ولا يدخر".
(10) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
(6/292)
وهذه صبح
رابعة منذ لم أذق طعاما ولم أجده ، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك قيصر وكسرى
فكيف بك يا بن عمر إذا بَقِيتَ في قوم يخبئون رزق سنتهم بضعف اليقين ؟". قال
: فوالله ما برحنا ولا رِمْنا حتى نزلت : { وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ
رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله لم يأمرني بكنز الدنيا ، ولا باتباع
الشهوات ، فَمَنْ كنز دنياه يريد بها حياة باقية فإن الحياة بيد الله ، ألا وإني
لا أكنز دينارًا ولا درهمًا ، ولا أخبئ رزقا لغد (1) " (2).
وهذا حديث غريب ، وأبو العطوف الجزري ضعيف.
وقد ذكروا أن الغراب إذا فَقسَ عن فراخه البَيض ، خرجوا وهم بيضٌ فإذا رآهم أبواهم
كذلك ، نفرا عنهم أياما حتى يسود الريش ، فيظل الفرخ فاتحًا فاه يتفقد أبويه ،
فيقيض الله له طيرًا (3) صغارًا كالبَرغَش فيغشاه فيتقوت منه تلك الأيام حتى يسود
ريشه ، والأبوان يتفقدانه كل وقت ، فكلما رأوه أبيض الريش نفرا عنه ، فإذا رأوه قد
اسودّ ريشه عطفا عليه بالحضانة والرزق ، ولهذا قال الشاعر :
يا رازق النعَّاب (4) في عُشه... وجَابر العَظْم الكَسِير المهيض...
وقد قال الشافعي في جملة كلام له في الأوامر ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم
"سافروا تصحوا وترزقوا".
قال البيهقي أخبرنا إملاء أبو الحسن علي بن عبدان ، أخبرنا أحمد بن عبيد ، أخبرنا
محمد بن غالب ، حدثني محمد بن سِنان ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن رَدّاد - شيخ
من أهل المدينة - حدثنا عبد الله بن دينار (5) عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "سافروا تصحوا وتغنموا". قال : ورويناه عن ابن عباس
(6).
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن دَرّاج ، عن عبد الرحمن
بن حُجَيرة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سافروا
تربحوا ، وصوموا تصحوا ، واغزوا تغنموا" (7).
وقد ورد مثل حديث ابن عمر عن ابن عباس مرفوعا ، وعن معاذ بن جبل موقوفا (8). وفي
__________
(1) في ت : "إلى غد".
(2) ورواه البغوي في تفسيره (6/253) من طريق إسماعيل بن زرارة عن الجراح بن
المنهال به - وقال الشوكاني في فتح القدير (4/213) : "وهذا الحديث فيه نكارة
شديدة لمخالفته لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يعطي نساءه قوت
العام كما ثبت ذلك في كتب الحديث المعتبرة ، وفي إسناده أبو العطوف الجزري وهو
ضعيف". أ هـ مستفادا من حاشية تفسير البغوي.
(3) في ت : "طيورا".
(4) في ت : "البغاب" وفي أ : "النعام".
(5) في ت : "وروى البيهقي بسنده"
(6) السنن الكبرى (7/102) ورواه ابن عدي في الكامل (6/190) من طريق محمد بن عبد
الرحمن بن رواد به ، وقال : "لا أعلم يرويه غير الرواد هذا ، وعامة ما يرويه
غير محفوظ" وقال ابن أبي حاتم في العلل (2/306) : "سألت أبي عن هذا
الحديث فقال : هذا حديث منكر".
(7) المسند (2/380) وفيه ابن لهيعة ودراج ضعيفان.
(8) أما حديث ابن عباس ، فرواه البيهقي في السنن الكبرى (7/102) من طريق بسطام بن
حبيب عن القاسم عن أبي حازم عن ابن عباس مرفوعا ، ورواه ابن عدي في الكامل (7/57)
من طريق نهشل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، مرفوعا. وقال : "هذه الأحاديث كلها
عن الضحاك غير محفوظة". ولم أجده عن معاذ موقوفا ، وسيأتي مرفوعا ، وجاء من
حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا. ورواه ابن عدي في الكامل (3/454) عن سوار بن مصعب ،
عن عطية ، عن أبي سعيد ، مرفوعا وقال : "سوار هذا عامة ما يرويه غير
محفوظ".
(6/293)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
لفظ :
"سافروا مع ذوي الجدود والميسرة" (1)
وقوله تعالى : { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } أي : السميع لأقوال عباده ، العليم
بحركاتهم وسكناتهم.
{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) }.
يقول تعالى مقررا (2) أنه لا إله إلا هو ؛ لأن المشركين - الذين يعبدون معه غيره -
معترفون أنه (3) المستقل بخلق السموات والأرض والشمس والقمر ، وتسخير الليل
والنهار ، وأنه الخالق الرازق لعباده ، ومقدر آجالهم ، واختلافها واختلاف أرزاقهم
ففاوت بينهم ، فمنهم الغني والفقير ، وهو العليم بما يصلح كُلا منهم ، ومَنْ يستحق
الغنى ممن يستحق الفقر ، فذكر أنه المستبدُّ بخلق الأشياء (4) المتفرد بتدبيرها ،
فإذا كان الأمر كذلك فلم يُعبد غيره ؟ ولم يتوكل على غيره ؟ فكما أنه الواحد في
ملكه فليكن الواحد في عبادته ، وكثيرًا ما يقرر تعالى مقام الإلهية بالاعتراف
بتوحيد الربوبية. وقد كان المشركون يعترفون بذلك ، كما كانوا يقولون في تلبيتهم :
"لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك".
__________
(1) رواه الديلمي في مسند الفردوس برقم (3387) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه ،
وذكره السيوطي في الجامع ورمز له بالضعف وأعله المناوي بإسماعيل بن زياد.
(2) في ت : "مخبرا".
(3) في ف : "بأنه".
(4) في ت : "الأصنام".
(6/294)
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
{ وَمَا
هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ
لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي
الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى
الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ
وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) }.
يقول تعالى مخبرا عن حقارة الدنيا وزوالها وانقضائها ، وأنها لا دوام لها ، وغاية
ما فيها لهو ولعب : { وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ } أي :
الحياة الدائمة الحق الذي لا زوال لها ولا انقضاء ، بل هي مستمرة أبد الآباد.
وقوله : { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } أي : لآثروا ما يبقى على ما يفنى.
ثم أخبر تعالى عن المشركين أنهم عند الاضطرار يدعونه وحده لا شريك له ، فهلا يكون
هذا
(6/294)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
منهم دائما
، { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }
كقوله { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا
إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ (1) إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ } [الإسراء : :
67]. وقال هاهنا : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ
}.
وقد ذكر محمد بن إسحاق ، عن عكرمة بن أبي جهل : أنه لما فتح رسول الله صلى الله
عليه وسلم مكة ذهب فارًّا منها ، فلما ركب في البحر ليذهب إلى الحبشة ، اضطربت بهم
السفينة ، فقال أهلها : يا قوم ، أخلصوا لربكم الدعاء ، فإنه لا ينجي هاهنا إلا
هو. فقال عكرمة : والله إن كان لا ينجي في البحر غيره ، فإنه لا يُنَجّي غيره في
البر أيضا ، اللهم لك عليَّ عهد لئن خرجتُ لأذهبن فلأضعَنّ يدي في يد محمد فلأجدنه
رؤوفًا رحيما ، وكان (2) كذلك.
وقوله : { لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا } : هذه اللام
يسميها كثير من أهل العربية والتفسير وعلماء الأصول لام العاقبة ؛ لأنهم لا يقصدون
ذلك ، ولا شك أنها كذلك بالنسبة إليهم ، وأما بالنسبة إلى تقدير الله عليهم ذلك وتقييضه
إياهم لذلك فهي لام التعليل. وقد قدَّمْنا تقرير ذلك في قوله : { لِيَكُونَ لَهُمْ
عَدُوًّا وَحَزَنًا } [القصص : 8].
{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ
حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ
لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ
(69) }
يقول تعالى ممتنا على قريش فيما أحلهم من حرمه ، الذي جعله للناس سواء العاكف فيه
والبادي ، ومن دخله كان آمنا ، فهم في أمن عظيم ، والأعراب حوله ينهب بعضهم بعضا
ويقتل بعضهم بعضا ، كما قال تعالى : { لإيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ
الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي
أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } [قريش : 1 - 4].
وقوله : { أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ } أي :
أفكان شكرهم على هذه النعمة العظيمة أن أشركوا به ، وعبدوا معه [غيره من] (3)
الأصنام والأنداد ، و { بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا
قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } [إبراهيم : 28] ، وكفروا بنبي الله وعبده ورسوله ،
فكان اللائق بهم إخلاص العبادة لله ، وألا يشركوا به ، وتصديق الرسول وتعظيمه
وتوقيره ، فكذبوه وقاتلوه وأخرجوه من بين ظهرهم ؛ ولهذا سلبهم الله ما كان أنعم به
عليهم ، وقتل من قتل منهم ببدر ، وصارت الدولة لله ولرسوله وللمؤمنين ، ففتح الله
على رسوله مكة ، وأرغم آنافهم وأذل رقابهم.
ثم قال تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ
كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ } أي : لا أحد أشد
__________
(1) في ت : "أنجاكم" وهو خطأ.
(2) في ت ، ف : "فكان".
(3) زيادة من أ.
(6/295)
عقوبة ممن
كذب على الله فقال : إن الله أوحى إليه شيء ، ولم يوح إليه شيء. ومن قال : سأنزل
مثل ما أنزل الله. وهكذا لا أحد أشد عقوبة ممن كذب بالحق لما جاءه ، فالأول مفتر ،
والثاني مكذب ؛ ولهذا قال : { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ }.
ثم قال { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا } يعني : الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه
، وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين { لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } ، أي :
لنُبَصرنهم سبلنا ، أي : طرقنا في الدنيا والآخرة.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي الحَواري ، حدثنا عباس الهمداني
أبو أحمد - من أهل عكا - في قول الله (1) : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } قال : الذين
يعملون بما يعلمون ، يهديهم لما لا يعلمون. قال أحمد بن أبي الحواري : فحدثت به
أبا سليمان الداراني فأعجبه ، وقال : ليس ينبغي لِمَنْ ألهم شيئا من الخير أن يعمل
به حتى يسمعه في الأثر ، فإذا سمعه في الأثر عمل به ، وحمد الله حين وافق ما في
نفسه (2).
وقوله : { وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } ، قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا عيسى بن جعفر - قاضي الري - حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن المغيرة
، عن (3) الشعبي قال : قال عيسى بن مريم ، عليه السلام : إنما الإحسان أن تحسن إلى
مَنْ أساء إليك ، ليس (4) الإحسان أن تحسن إلى مَنْ أحسن إليك. [وفي حديث جبريل
لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان قال : "أخبرني عن
الإحسان". قال : "أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
[انتهى تفسير سورة العنكبوت ، ولله الحمد والمنة (5) ] (6)
__________
(1) في ت ، أ : "قوله تعالى".
(2) في أ : "قلبه".
(3) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بإسناده إلى".
(4) في ت : "وليس".
(5) في هـ : "والله أعلم".
(6) زيادة من ت.
(6/296)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)
تفسير سورة
الروم
مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ
غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ
وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ
يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) }
(6/297)
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
{ وَعْدَ
اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ
(6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ
غَافِلُونَ (7) }.
[نزلت] (1) هذه الآيات حين غلب (2) سابور ملك الفرس على بلاد الشام وما والاها من
بلاد الجزيرة وأقاصي بلاد الروم ، واضطر هرقل مَلك الروم حتى ألجأه إلى
القسطنطينية ، وحاصره فيها مدة طويلة ، ثم عادت الدولة لهرقل ، كما سيأتي.
قال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا أبو إسحاق ، عن سفيان ، عن حبيب
بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس (3) ، رضي الله عنهما ، في قوله
تعالى : { الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ } قال : غُلبت وغَلَبت.
قال : كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ؛ لأنهم أصحاب أوثان ، وكان
المسلمون يحبون أن تظهر (4) الروم على فارس ؛ لأنهم أهل كتاب ، فذُكر (5) ذلك لأبي
بكر ، ، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "أما إنهم سيغلبون" فذكره أبو بكر لهم ، فقالوا : اجعل
بيننا وبينك أجلا فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا ، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا. فجعل
أجلا خمس (6) سنين ، فلم يظهروا ، فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال
: "ألا جعلتها إلى دُون" أراه قال : "العشر". "قال سعيد
بن جبير : البضع ما دون العشر. ثم ظهرت الروم بعد ، قال : فذلك قوله : { الم.
غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ.
فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ
يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }.
هكذا رواه (7) الترمذي والنسائي جميعا ، عن الحسين (8) بن حُرَيْث ، عن معاوية بن
عمرو ، عن أبي إسحاق الفزاري ، عن سفيان بن سعيد الثوري (9) به ، وقال الترمذي :
حسن غريب ، إنما نعرفه من حديث سفيان ، عن حبيب.
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في أ : "غلبت".
(3) في ت : "فروى الإمام أحمد بإسناده إلى".
(4) في ف : "يظهر".
(5) في ت : "فذكروه" وفي ف ، أ : "فذكروا".
(6) في ت : "خمسين".
(7) في ت : "ورواه".
(8) في أ : "الحسن".
(9) المسند (1/276) وسنن الترمذي برقم (3193) والنسائي في السنن الكبرى برقم
(11389).
(6/297)
ورواه ابن
أبي حاتم ، عن محمد بن إسحاق الصاغاني (1) ، عن معاوية بن عمرو ، به. ورواه ابن
جرير :
حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن سعيد - أو سعيد (2) الثعلبي الذي يقال له :
أبو سعد من أهل طرسوس - حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، فذكره. وعندهم : قال سفيان :
فبلغني أنهم غلبوا يوم بدر (3).
حديث آخر : قال سليمان بن مِهْران الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، قال : قال عبد
الله : خمس قد مضين : الدخان ، واللزام ، والبطشة ، والقمر ، والروم. أخرجاه (4)
(5).
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا المحاربي ، عن داود بن أبي هند ، عن
عامر - هو الشعبي - عن عبد الله - هو (6) ابن مسعود رضي الله عنه - قال : كان فارس
ظاهرًا على الروم ، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم. وك ان المسلمون
يحبون أن تظهر الروم على فارس ؛ لأنهم أهل كتاب وهم أقرب إلى دينهم ، فلما نزلت :
{ الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ
سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ } قالوا : يا أبا بكر ، إن صاحبك يقول : إن
الروم تظهر على فارس في بضع سنين ؟! قال : صدق. قالوا : هل لك إلى أن نقامرك ،
فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين ، فمضت السبع ولم يكن شيء ، ففرح المشركون
بذلك وشق على المسلمين ، فذُكِر (7) ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : "ما
بضع سنين عندكم" ؟ قالوا : دون العشر. قال : "اذهب فزايدهم وازدد سنتين
في الأجل". قال : فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس ،
ففرح المؤمنون بذلك ، وأنزل الله : { الم. غُلِبَتِ الرُّومُ } إلى قوله : { [وَعْدَ
اللَّهِ] لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ } (8) (9).
حديث آخر : قال (10) ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن عمر
الوَكِيعي ، حدثنا مُؤَمَّل ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : لما
نزلت : { الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ
غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } ، قال المشركون لأبي بكر : ألا ترى إلى ما يقول صاحبك
؟ يزعم أن الروم تغلب فارس. قال : صدق صاحبي. قالوا : هل لك أن نخاطرك ؟ فجعل بينه
وبينهم أجلا فحل الأجل قبل أن تغلب الرومُ فارسَ ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه
وسلم فساءه ذلك وكرهه ، وقال لأبي بكر : "ما دعاك إلى هذا ؟" قال :
تصديقًا لله ولرسوله. فقال : "تَعَرَّض لهم وأعظم الخَطَر واجعله إلى بضع
سنين". فأتاهم أبو بكر فقال لهم : هل لكم في العود ، فإن العود أحمد ؟ قالوا
:
__________
(1) في أ : "الصنعاني".
(2) في ف ، أ : "أبو سعد".
(3) تفسير الطبري (21/12).
(4) في ت : "البخاري ومسلم".
(5) صحيح البخاري برقم (4767) وصحيح مسلم برقم (2798).
(6) في ت : "وروى ابن جرير عن".
(7) في ت : "فذكروا".
(8) زيادة من ت ، أ.
(9) تفسير الطبري (21/14).
(10) في ت : "روى".
(6/298)
نعم. [قال]
(1) فلم تمض تلك السنون حتى غلبت الروم فارسَ ، وربطوا خيولهم بالمدائن ، وبنوا
الرومية ، فجاء به أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هذا السحت ، قال :
" تصدق به" (2).
حديث آخر : قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا إسماعيل بن أبي
أويس ، أخبرني ابن أبي الزِّنَاد ، عن عروة بن الزبير (3) عن نيَار بن مُكرَم
الأسلمي قال : لما نزلت ، { الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ
مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } ، فكانت فارس يوم نزلت
هذه الآية قاهرين للروم ، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم ؛ لأنهم وإياهم
أهل كتاب ، وفي ذلك قول الله : { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ
اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } ، وكانت قريش تحب
ظهور فارس ؛ لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ببعث ، فلما أنزل الله هذه
الآية خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة : { الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى
الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } ، قال
(4) ناس من قريش لأبي بكر : فذاك بيننا وبينك (5). زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس
في بضع سنين ، أفلا نراهنك على ذلك ؟ قال : بلى - وذلك قبل تحريم الرهان - فارتهن
أبو بكر والمشركون ، وتواضَعُوا الرهان ، وقالوا لأبي بكر : كم تجعل البضع : ثلاث
سنين إلى تسع سنين ، فَسمِّ بيننا وبينك وَسَطًا ننتهي إليه. قال : فسموا بينهم ست
سنين. قال : فمضت ست السنين قبل أن يظهروا ، فأخذ المشركون رهن أبي بكر ، فلما
دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس ، فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست
سنين ، قال : لأن الله قال : { فِي بِضْعِ سِنِينَ }. قال : فأسلم عند ذلك ناس
كثير (6).
هكذا ساقه الترمذي ، ثم قال : هذا (7) حديث حسن صحيح ، لا نعرفه إلا من حديث عبد
الرحمن بن أبي الزناد. وقد روي نحو هذا مرسلا عن جماعة من التابعين ، مثل عِكْرِمة
، والشعبي ، ومجاهد ، وقتادة ، والسُّدِّي ، والزهري ، وغيرهم.
ومن أغرب هذه السياقات ما رواه الإمام سُنَيد بن داود في تفسيره حيث قال : حدثني
حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، عن عكرمة قال : كانت في فارس امرأة لا تلد إلا
الملوك الأبطال ، فدعاها كسرى فقال : إني أريد أن أبعث إلى الروم جيشًا وأستعمل
عليهم رجلا من بنيك ، فأشيري عَليَّ ، أيَّهم أستعمل ؟ فقالت : هذا فلان ، وهو
أروغ من ثعلب ، وأحذر من صقر. وهذا فرخان ، وهو أنفذ من سنان. وهذا شهريراز (8) ،
وهو أحلم من كذا - تعني أولادها الثلاثة - فاستعمل أيهم شئت. قال : فإني قد
استعملت الحليم. فاستعمل شهريراز (9) ، فسار إلى الروم بأهل فارس ، فظهر عليهم
فقتلهم ، وخرّب مدائنهم ، وقطع زيتونهم.
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) ورواه أبو يعلى في المسند الكبير ، كما في إتحاف المهرة للبوصيري (ق183
سليمانية) من طريق إبراهيم بن محمد بن عرعرة ، عن المؤمل بنحوه ، وقال البوصيري :
"وله شاهد من حديث نيار بن مكرم رواه الترمذي" وهو الآتي بعده.
(3) في ت : "رواه أبو عيسى الترمذي".
(4) في ت ، ف : "فقال".
(5) في ت ، ف : "وبينكم".
(6) سنن الترمذي برقم (3194).
(7) في ت : "وقال الترمذي".
(8) في ت : "شهريزار".
(9) في ت : "شهريزار".
(6/299)
قال أبو بكر
بن عبد الله : فحدثت بهذا الحديث عطاء الخراساني فقال : أما رأيت بلاد الشام ؟ قلت
: لا قال : أما إنك لو رأيتها (1) لرأيت المدائن التي خربت ، والزيتون الذي قطع.
فأتيت الشام بعد ذلك فرأيته (2).
قال عطاء الخراساني : حدثني يحيى بن يَعْمَر : أن قيصر بعث رجلا يدعى قطمة بجيش من
الروم ، وبعث كسرى شهريراز (3) ، فالتقيا بأذرعات وبُصرى ، وهي أدنى الشام إليكم ،
فلقيت فارس الروم ، فغلبتهم فارس. ففرحت بذلك كفار قريش وكرهه المسلمون.
قال عكرمة : ولقي المشركون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : إنكم أهل كتاب
، والنصارى أهل كتاب [ونحن أميون ، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من
أهل الكتاب] (4) ، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرَنّ عليكم ، فأنزل الله : { الم.
غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ
سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ
وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ }
، فخرج أبو بكر الصديق إلى الكفار فقال : أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا ، فلا
تفرحوا ، ولا يُقرَّن الله أعينكم ، فوالله ليظهرن الله الروم على فارس ، أخبرنا
بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم. فقام إليه أبيّ بن خَلَف فقال : كذبت يا أبا فضيل.
فقال له أبو بكر : أنت أكذب يا عدو الله. فقال : أناحبُكَ عشر قلائص مني وعشر
قلائص منك ، فإن ظهرت الروم على فارس غَرِمتُ ، وإن ظهرت فارس غرمتَ إلى ثلاث
سنين. ثم جاء (5) أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : "ما
هكذا ذكرت ، إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع ، فزايدْه في الخَطَر ومادّهْ في
الأجل" ، فخرج أبو بكر فلقي أبيّا فقال : لعلك ندمت ؟ فقال : لا تعال أزايدك
في الخَطَر وأمادُّك في الأجل ، فاجعلها مائة قلوص لمائة قلوص إلى تسع سنين. قال :
قد فعلت ، فظهرت الروم على فارس قبل ذلك ، فغلبهم المسلمون.
قال عكرمة : لما أن ظهرت فارس على الروم ، جلس فرخان يشرب وهو أخو شهريراز (6)
فقال لأصحابه : لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى. فبلغت كسرى فكتب إلى شهريراز
(7) إذا أتاك كتابي [هذا] (8) فابعث إليَّ برأس فرخان. فكتب إليه : أيها الملك ،
إنك لن تجد مثل فرخان ، له نكاية وصوت في العدو ، فلا تفعل. فكتب إليه : إن في
رجال فارس خلفًا منه ، فعجّل إليَّ برأسه. فراجعه ، فغضب كسرى فلم يجبه ، وبعث
بريدا إلى أهل فارس : إني قد نزعت (9) عنكم شهريراز ، واستعملت عليكم فرخان. ثم
دفع إلى البريد صحيفة لطيفة صغيرة فقال : إذا ولي فرخان الملك ، وانقاد له أخوه ،
فأعطه هذه. فلما قرأ شهريراز الكتاب قال : سمعا وطاعة ، ونزل عن سريره ، وجلس
فرخان ، ودفع إليه الصحيفة ، قال (10) ائتوني بشهريراز (11) وقَدَّمَه ليضرب عنقه
، قال : لا تعجل [عليَّ] (12) حتى أكتب وصيتي ، قال : نعم. فدعا بالسَّفط فأعطاه
__________
(1) في ف : "لو أتيتها".
(2) رواه الطبري في تفسيره (21/13) من طريق سنيد به.
(3) في ت : "شهريزار" وفي ف ، أ "بشهريراز".
(4) زيادة من ت ، ف.
(5) في ت : "فجاء".
(6) في ت : "شهريزار".
(7) في ت : "شهريزار".
(8) زيادة من ف.
(9) في ف : "عزلت".
(10) في ف : "فقال".
(11) في ت : "بشهريزار".
(12) زيادة من ت.
(6/300)
الصحائف (1)
وقال : كل هذا راجعتُ فيك كسرى ، وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد. فرد الملك إلى
أخيه شهريراز (2) وكتب شهريراز إلى قيصر ملك الروم : إن لي إليك حاجة لا تحملها
البُرُد ولا تحملها الصّحف ، فالقني ، ولا تلقني إلا في خمسين روميا ، فإني ألقاك
في خمسين فارسيا. فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي ، وجعل يضع العيون بين يديه في
الطريق ، وخاف أن يكون قد مكر به ، حتى أتاه عيونه أنه ليس معه إلا خمسون رجلا. ثم
بسط لهما والتقيا في قبة ديباج ضربت لهما ، مع كل واحد منهما سكين ، فدعيا (3)
ترجمانا بينهما ، فقال شهريراز (4) إن الذين خربوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا
وشجاعتنا ، وإن كسرى حَسَدنا وأراد أن أقتل أخي فأبيت ، ثم أمر أخي أن يقتلني. وقد
خلعناه جميعا ، فنحن نقاتله معك. قال : قد أصبتما. ثم أشار أحدهما إلى صاحبه أن
السر بين اثنين فإذا جاوز اثنين فشا. قال : أجل. فقتلا الترجمان جميعا بسكينيهما.
[قال] (5) فأهلك الله كسرى ، وجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
الحديبية ، ففرح والمسلمون معه.
فهذا سياق غريب ، وبناء عجيب. ولنتكلم على كلمات هذه الآيات الكريمة ، فقوله تعالى
: { الم. غُلِبَتِ الرُّومُ } قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور ،
في أول سورة "البقرة". وأما الروم فهم من سلالة العيص بن إسحاق بن
إبراهيم ، وهم أبناء عم بني إسرائيل ، ويقال لهم : بنو الأصفر. وكانوا على دين
اليونان ، واليونان من سلالة يافث بن نوح ، أبناء (6) عم الترك. وكانوا يعبدون
الكواكب السيارة السبعة ، ويقال لها : المتحيرة ، ويصلون إلى القطب الشمالي ، وهم
الذين أسسوا دمشق ، وبنوا معبدها ، وفيه محاريب إلى جهة الشمال ، فكان (7) الروم
على دينهم إلى مبعث المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة ، وكان من ملك الشام مع الجزيرة
منهم يقال له : قيصر. فكان أول من دخل في دين النصارى من الملوك قسطنطين بن قسطس ،
وأمه مريم الهيلانية الشدقانية (8) من أرض حران ، كانت قد تنصرت قبله ، فدعته إلى
دينها ، وكان قبل ذلك فيلسوفا ، فتابعها - يقال : تَقِيَّة - واجتمعت به النصارى ،
وتناظروا في زمانه مع عبد الله بن أريوس ، واختلفوا اختلافا [كثيرًا] (9) منتشرا
متشتتا لا ينضبط ، إلا أنه اتفق من جماعتهم (10) ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفًا ،
فوضعوا لقسطنطين العقيدة ، وهي التي يسمونها الأمانة الكبيرة ، وإنما هي الخيانة
الحقيرة ، ووضعوا له القوانين - يعنون كتب الأحكام من تحليل وتحريم وغير ذلك مما
يحتاجون إليه ، وغَيَّروا دين المسيح ، عليه السلام ، وزادوا فيه ونقصوا منه.
وفصلوا إلى المشرق (11) واعتاضوا عن السبت بالأحد ، وعبدوا الصليب وأحلوا الخنزير.
واتخذوا أعيادًا أحدثوها كعيد الصليب والقداس (12) والغطاس ، وغير ذلك من البواعيث
والشعانين ، وجعلوا له الباب وهو كبيرهم ، ثم البتاركة ، ثم المطارنة ، ثم
الأساقفة والقساقسة ، ثم الشمامسة. وابتدعوا الرهبانية. وبنى لهم الملك الكنائس
__________
(1) في ت ، ف ، أ : "ثلاث صحائف".
(2) في ت : "شهريزار".
(3) في ت ، ف : "فدعا".
(4) في ت : "شهريزار".
(5) زيادة من ت.
(6) في أ : "أتباع".
(7) في ف : "وكان".
(8) في ت : "القندقانية" وفي ف : "الغندقانية".
(9) زيادة من ت ، ف ، أ.
(10) في ت : "جماعته".
(11) في ت ، ف ، أ : "وصلوا إلى الشرق"
(12) في ف ، أ : "والقرابين".
(6/301)
والمعابد ،
وأسس المدينة المنسوبة إليه وهي القسطنطينية ، يقال : إنه بنى في أيامه (1) اثني
عشر ألف كنيسة ، وبنى بيت لحم بثلاثة (2) محاريب ، وبنت أمه القمامة ، وهؤلاء هم
الملكية ، يعنون الذين هم على دين الملك.
ثم حدثت بعدهم اليعقوبية أتباع يعقوب الإسكاف ، ثم النسطورية أصحاب نسطورا ، وهم
فرق وطوائف كثيرة ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنهم افترقوا
على اثنتين وسبعين فرقة". (3) والغرض أنهم استمروا على النصرانية ، كلما هلك
قيصر خلفه آخر بعده ، حتى كان آخرهم هرقل. وكان من عقلاء الرجال ، ومن أحزم الملوك
وأدهاهم ، وأبعدهم غورا وأقصاهم رأيا ، فتمَلَّكَ عليهم في رياسَة عظيمة وأبهة
كبيرة ، فناوأه كسرى ملك الفرس ، ومَلكَ البلاد كالعراق وخراسان والرّي ، وجميع
بلاد العجم ، وهو سابور ذو الأكتاف. وكانت مملكته أوسع من مملكة قيصر ، وله رياسة
العجم وحماقة الفرس ، وكانوا مجوسا يعبدون النار. فتقدم عن عكرمة أنه بعث إليه
نوابه وجيشه فقاتلوه ، والمشهور أن كسرى غزاه بنفسه في بلاده فقهره وكَسَره وقصره
، حتى لم يبق معه سوى مدينة قسطنطينية. فحاصره بها مدة طويلة حتى ضاقت عليه ،
وكانت النصارى تعظمه تعظيما زائدا ، ولم يقدر كسرى على فتح البلد ، ولا أمكنه ذلك
لحصانتها ؛ لأن نصفها من ناحية البر ونصفها الآخر من (4) ناحية البحر ، فكانت
تأتيهم الميرة والمَدَد من هنالك. فلما طال الأمر دبر قيصر مكيدة ، ورأى في نفسه
خديعة ، فطلب من كسرى أن يقلع عن بلاده على مال يصالحه عليه ، ويشترط عليه ما شاء.
فأجابه إلى ذلك ، وطلب منه أموالا عظيمة لا يقدر عليها أحد من ملوك الدنيا (5) ،
من ذهب وجواهر وأقمشة وجوار وخدام وأصناف كثيرة. فطاوعه قيصر ، وأوهمه أن عنده
جميع ما طلب ، واستقل عقله لما طلب منه ما طلب ، ولو اجتمع هو وإياه لعجزت قدرتهما
عن جمع عُشْره ، وسأل كسرى أن يُمكّنه من الخروج إلى بلاد الشام وأقاليم مملكته ،
ليسعى في تحصيل ذلك من ذخائره وحواصله ودفائنه ، فأطلق سراحه ، فلما عزم قيصر على
الخروج من مدينة قسطنطينية ، جمع أهل ملته وقال : إني خارج في أمر قد أبرمته ، في
جند قد عينته من جيشي ، فإن رجعت إليكم قبل الحول فأنا ملككم ، وإن لم أرجع إليكم
قبلها فأنتم بالخيار ، إن شئتم استمررتم على بيعتي ، وإن شئتم وليتم عليكم غيري.
فأجابوه بأنك ملكنا ما دمت حيا ، ولو غبت عشرة أعوام. فلما خرج من القسطنطينية خرج
جريدة في جيش متوسط ، هذا وكسرى مُخَيّم على القسطنطينية ينتظره ليرجع ، فركب قيصر
من فوره وسار مسرعا حتى انتهى إلى بلاد فارس ، فعاث في بلادهم قتلا لرجالها ومن
بها من المقاتلة ، أولا فأولا ولم يزل يقتل حتى انتهى إلى المدائن ، وهي كرسي
مملكة كسرى ، فقتل من بها ، وأخذ جميع حواصله وأمواله ، وأسر نساءه وحريمه ، وحلق
رأس ولده ، ورَكّبه على
__________
(1) في أ : "زمانه".
(2) في ف : "بثلاث".
(3) سنن أبي داود برقم (4596) وابن ماجه في السنن برقم (3992) وقال البوصيري في
الزوائد : "إسناد عوف بن مالك فيه مقال ، وراشد بن سعد قال فيه أبو حاتم :
صدوق. وعباد بن يوسف لم يخرج له أحد سوى ابن ماجه ، وليس له عندي سوى هذا الحديث
قال ابن عدي : روى أحاديث تفرد بها. وذكره ابن حبان في الثقات وباقي رجال الإسناد
ثقات"
(4) في ت : "في".
(5) في ت : "الأرض".
(6/302)
حمار وبعث
معه من الأساورة من قومه في غاية الهوان والذلة ، وكتب إلى كسرى يقول : هذا ما
طلبت فخُذه. فلما بلغ ذلك كسرى أخذه من الغم ما لا يحصيه إلا الله عز وجل ، واشتد
حنقه على البلد ، فاشتد (1) في حصارها بكل ممكن فلم يقدر على ذلك. فلما عجز ركب
ليأخذ عليه الطريق من مخاضة جيحون ، التي لا سبيل (2) لقيصر إلى القسطنطينية إلا
منها ، فلما علم قيصر بذلك احتال بحيلة عظيمة لم يسبق إليها ، وهو أنه أرصد جنده
وحواصله التي معه عند فم المخاضة ، وركب في بعض الجيش ، وأمر بأحمال من التبن
والبعر والروث فحملت معه ، وسار إلى قريب من يوم في الماء مصعدا ، ثم أمر بإلقاء
تلك الأحمال في النهر ، فلما مرت بكسرى ظن هو وجنده أنهم قد خاضوا من هنالك ،
فركبوا في طلبهم فشغرت المخاضة عن الفرس ، وقدم قيصر فأمرهم بالنهوض في الخوض ،
فخاضوا وأسرعوا السير ففاتوا كسرى وجنوده ، ودخلوا القسطنطينية. وكان ذلك يوما
مشهودًا عند النصارى ، وبقي كسرى وجيوشه (3) حائرين لا يدرون ماذا يصنعون. لم
يحصلوا على بلاد قيصر ، وبلادُهم قد خَرّبتها الروم وأخذوا حواصلهم ، وسبوا
ذراريهم ونساءهم. فكان هذا من غَلب الروم فارسَ ، وكان ذلك بعد تسع (4) سنين من
غلب الفرس للروم (5).
وكانت الواقعة الكائنة بين فارس والروم حين غلبت الروم بين أذرعات وبُصرى ، على ما
ذكره ابن عباس وعكرمة وغيرهما ، وهي طرف بلاد الشام مما يلي بلاد الحجاز.
وقال مجاهد : كان ذلك في الجزيرة ، وهي أقرب بلاد الروم من فارس ، فالله (6) أعلم.
ثم كان غلب الروم لفارس بعد بضع سنين ، وهي تسع ؛ فإن البِضْعَ في كلام العرب ما
بين الثلاث إلى التسع. وكذلك جاء في الحديث الذي رواه الترمذي ، وابن جرير وغيرهما
، من حديث عبد الله بن عبد الرحمن الجُمَحي ، عن الزهري ، عن عبُيَد الله بن عبد
الله ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر في مُنَاحَبَة
(7) { الم غُلِبَتِ الرُّومُ } ألا احتطت يا أبا بكر ، فإن البضع ما بين ثلاث إلى
تسع ؟" ، ثم قال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه (8).
وروى ابن جرير ، عن عبد الله بن عمرو : أنه قال ذلك (9).
وقوله : { لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ } أي : من قبل ذلك ومن بعده
، فبني على الضم لما قُطع المضاف ، وهو قوله : { قَبْلُ } عن الإضافة ، ونُويت.
{ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ } أي : للروم أصحاب قيصر
ملك الشام ، على فارس أصحاب كسرى ، وهم المجوس. وقد كانت نصرة الروم على فارس يوم
وقعة بدر في قول طائفة كبيرة من العلماء ، كابن عباس ، والثوري ، والسُّدِّي ،
وغيرهم. وقد ورد في الحديث الذي رواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والبزار ،
من حديث الأعمش ، عن عطية (10) عن أبي سعيد قال : لما
__________
(1) في أ : "فجد".
(2) في أ : "لا مسلك".
(3) في ت ، ف ، أ : "وجنوده".
(4) في ت : "ثلاث".
(5) في ت ، ف : "من غلب فارس للروم" وفي أ : "من غلب فارس
الروم".
(6) في ف : "والله".
(7) في ت : "مبايعته".
(8) سنن الترمذي برقم (3191) وتفسير الطبري (21/12).
(9) تفسير الطبري (21/16).
(10) في ت : "وقد روى مالك".
(6/303)
كان يوم بدر
، ظهرت الروم على فارس ، فأعجب ذلك المؤمنين وفرحوا به ، وأنزل الله : {
وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ
وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } (1).
وقال آخرون : بل كان نصرة الروم على فارس عام (2) الحديبية ؛ قاله عكرمة ، والزهري
، وقتادة ، وغيرهم (3). ووجه بعضهم هذا القول بأن قيصر كان قد نذر لئن أظفره الله
بكسرى ليمشين من حمص إلى إيليا - وهو بيت المقدس - شكرا (4) لله عز وجل ، ففعل ،
فلما بلغ بيت المقدس لم يخرج منه حتى وافاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
الذي بعثه مع دحية بن خليفة ، فأعطاه دحية لعظيم بصرى ، فدفعه عظيم بصرى إلى قيصر.
فلما وصل إليه سأل من بالشام من عَرَب الحجاز ، فأحضرَ له أبو سفيان صخر بن حرب
الأموي في جماعة من كفار قريش كانوا في غزة ، فجيء بهم إليه ، فجلسوا بين يديه ،
فقال : أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ فقال أبو سفيان : أنا. فقال
لأصحابه - وأجلسهم خلفه - : إني سائل هذا عن هذا الرجل ، فإن كذب فكذّبوه. فقال
أبو سفيان : فوالله لولا أن يَأثُرُوا عليّ الكذب لكذبت. فسأله هرقل عن نسبه وصفته
، فكان فيما سأله أن قال : فهل يغدر ؟ قال : قلت : لا ونحن منه في مُدّة لا ندري
ما هو صانع فيها - يعني بذلك الهدنة التي كانت قد وقعت بين رسول الله صلى الله
عليه وسلم وكفار قريش يوم (5) الحديبية على وضع الحرب بينهم عشر سنين ، فاستدلوا
بهذا على أن نصر الروم على فارس كان عام الحديبية ؛ لأن قيصر إنما وَفَّى بنذره
بعد الحديبية ، والله أعلم.
ولأصحاب القول الأول أن يجيبوا عن هذا بأن بلاده كانت قد خربت وتشعثت ، فما تمكن
من وفاء نذره حتى أصلح ما ينبغي إصلاحه وتفقد بلاده ، ثم بعد أربع سنين من نصرته
وفَّى بنذره ، والله أعلم.
والأمر (6) في هذا سهل قريب ، إلا أنه لما انتصرت فارس على الروم ساء ذلك المؤمنين
، فلما انتصرت الروم على فارس فرح المؤمنون بذلك ؛ لأن الروم أهل كتاب في الجملة ،
فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس ، كما قال [الله] (7) تعالى : { لَتَجِدَنَّ
أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا
وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا
إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا
يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى
أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ
رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } [المائد : 82 ، 83] ، وقال
تعالى هاهنا : { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ
مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا صَفْوان ، حدثنا الوليد ، حدثني
أسيد الكلابي ، قال : سمعت (8) العلاء بن الزبير الكلابي يحدث عن أبيه ، قال :
رأيت غلبة فارس الروم ، ثم رأيت غلبة الروم فارس ، ثم رأيت غلبة المسلمين فارس
والروم ، كل ذلك في خمس عشرة سنة.
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3192) وتفسير الطبري (21/16).
(2) في ف : "يوم".
(3) في أ : "وغير واحد".
(4) في ت : "تشكرا".
(5) في ت ، ف : "عام".
(6) في ت : "فالأمر".
(7) زيادة من ت.
(8) في ت : "وروى ابن أبي حاتم عن".
(6/304)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
وقوله : {
وَهُوَ الْعَزِيزُ } أي : في انتصاره وانتقامه من أعدائه ، { الرَّحِيمُ } بعباده
المؤمنين.
وقوله : { وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ } أي : هذا (1) الذي
أخبرناك به - يا محمد - من أنا سننصر الروم على فارس ، وعد من الله حق ، وخَبَر
صدق لا يخلف ، ولا بد من كونه ووقوعه ؛ لأن الله قد جرت سنته أن ينصر أقرب
الطائفتين المقتتلتين إلى الحق ، ويجعل لها العاقبة ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } أي : بحكم الله في كونه وأفعاله المحكمة الجارية على
وفق العدل.
وقوله : { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ
هُمْ غَافِلُونَ } أي : أكثر الناس ليس لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها وما
فيها ، فهم حذاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها ، وهم غافلون عما ينفعهم في
الدار الآخرة ، كأن أحدهم مُغَفّل لا ذهن (2) له ولا فكرة.
قال الحسن البصري : والله لَبَلَغَ (3) من أحدهم بدنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره
، فيخبرك بوزنه ، وما يحسن أن يصلي.
وقال ابن عباس في قوله : { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } يعني : الكفار ، يعرفون عمران الدنيا ،
وهم في أمر الدين جهال.
{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ
وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا
مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا
أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا
عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ
عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ
وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) }.
يقول تعالى منبهًا على التفكر في مخلوقاته ، الدالة على وجوده وانفراده بخلقها ،
وأنه لا إله غيره ولا رب سواه ، فقال : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ
} يعني به : النظر والتدبر والتأمل لخلق الله الأشياء من العالم العلوي والسفلي ،
وما بينهما من المخلوقات المتنوعة ، والأجناس المختلفة ، فيعلموا أنها ما خلقت
سُدًى ولا باطلا بل بالحق ، وأنها مؤجلة (4) إلى أجل مسمى ، وهو يوم القيامة ؛
ولهذا قال : { وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ }.
ثم نبههم على صدق رسله فيما جاءوا به عنه ، بما أيدهم به من المعجزات ، والدلائل
(5) الواضحات ، من إهلاك مَنْ كفر بهم ، ونجاة مَنْ صدقهم ، فقال : { أَوَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الأرْضِ } أي : بأفهامهم وعقولهم ونظرهم وسماعهم أخبار الماضين ؛
ولهذا قال : { فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً }
__________
(1) في أ : "هو".
(2) في أ "لا ذكر".
(3) في ت ، ف ، أ : "ليبلغ".
(4) في ت : "وأنهما مؤجلين".
(5) في ت ، ف ، أ : "والدلالات".
(6/305)
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)
أي : كانت
الأمم الماضية والقرون السالفة أشد منكم - أيها المبعوث إليهم محمد صلوات الله
وسلامه عليه (1) وأكثر أموالا وأولادا ، وما أوتيتم معشار ما أوتوا ، ومُكنوا في الدنيا
تمكينا لم تبلغوا إليه ، وعمروا فيها أعمارًا طوالا فعمروها أكثر منكم. واستغلوها
أكثر من استغلالكم ، ومع هذا لما جاءتهم رسلهم بالبينات وفرحوا بما أوتوا ، أخذهم
الله بذنوبهم ، وما كان لهم من الله مِنْ واق ، ولا حالت أموالهم ولا أولادهم
بينهم وبين بأس (2) الله ، ولا دفعوا عنهم مثقال ذرة ، وما كان الله ليظلمهم فيما
أحل بهم من العذاب والنكال { وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي :
وإنما أوتوا من أنفسهم حيث كذبوا بآيات الله ، واستهزؤوا بها ، وما ذاك إلا بسبب
ذنوبهم السالفة وتكذيبهم المتقدم ؛ ولهذا قال : { ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ
أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا
يَسْتَهْزِئُونَ } ، كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ
وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ
يَعْمَهُونَ } [الأنعام : 110] ، وقوله (3) : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ
قُلُوبَهُمْ } [الصف : 5] ، وقال : { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } [المائدة : 49].
وعلى هذا تكون (4) السوءى منصوبة مفعولا لأساءوا. وقيل : بل المعنى في ذلك : {
ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى } أي : كانت السوءى عاقبتهم
؛ لأنهم كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون. فعلى هذا تكون السوءى منصوبة خبر
كان. هذا توجيه ابن جرير (5) ، ونقله (6) عن ابن عباس وقتادة. ورواه ابن أبي حاتم
عنهما وعن الضحاك بن مُزاحم ، وهو الظاهر ، والله أعلم ، { وَكَانُوا بِهَا
يَسْتَهْزِئُونَ }.
{ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ
مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ
تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) }
__________
(1) في ت : "صلى الله عليه وسلم".
(2) في ت : "أمر".
(3) في ت ، ف : "وقال".
(4) في ف : "يكون".
(5) تفسير الطبري (21/18).
(6) في ت : "ومنقول".
(6/306)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
{ وَأَمَّا
الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي
الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) }.
يقول تعالى : { اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } أي : كما هو قادر
على بَداءته فهو قادر على إعادته ، { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ، أي : يوم
القيامة فيجازي كل عامل بعمله.
ثم قال : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ } قال ابن عباس :
ييأس المجرمون.
وقال مجاهد : يفتضح المجرمون. وفي رواية : يكتئب المجرمون.
{ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ } أي : ما شفعت فيهم الآلهة
التي كانوا يعبدونها من دون الله ، وكفروا بهم وخانوهم أحوج ما كانوا إليهم.
(6/306)
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
ثم قال : {
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } : قال قتادة : هي -
والله - الفرقة التي لا اجتماع بعدها ، يعني : إذا رفع هذا إلى عليين ، وخفض هذا
إلى أسفل السافلين ، فذاك آخر العهد بينهما ؛ ولهذا قال : { فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ } قال مجاهد
وقتادة : ينعمون.
وقال يحيى بن أبي كثير : يعني سماع الغناء. والحبرة أعم من هذا كله ، قال العجاج :
الحمد (1) لله الذي أعْطَى الحَبَرْ... مَوَالِيَ الْحَقّ إن المَوْلى شَكَر (2)
{ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ
فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ
الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأرْضَ
بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) }.
هذا تسبيح منه تعالى لنفسه المقدسة ، وإرشاد لعباده إلى تسبيحه وتحميده ، في هذه
الأوقات المتعاقبة الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه : عند المساء ، وهو إقبال
الليل بظلامه ، وعند الصباح ، وهو إسفار النهار عن ضيائه.
ثم اعترض بحمده ، مناسبة للتسبيح وهو التحميد ، فقال : { وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } أي : هو المحمود على ما خلق في السموات والأرض.
ثم قال : { وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ } فالعشاء (3) هو : شدة الظلام ،
والإظهار : قوة الضياء. فسبحان خالق هذا وهذا ، فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا ،
كما قال : { وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا. وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } [الشمس :
3 ، 4] ، وقال { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى. وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } [الليل
: 1 ، 2] ، وقال : { وَالضُّحَى. وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى } [الضحى : 1 ، 2] ،
والآيات في هذا كثيرة.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهيعة ، حدثنا زَبَّان بن فائد ، عن
سهل بن معاذ بن أنس الجُهَني ، عن أبيه (4) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه
قال : "ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما
أصبح وأمسى : سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ، وله الحمد في السموات والأرض
وعشيا وحين تظهرون" (5).
وقال الطبراني : حدثنا مطلب بن شُعَيب الأزدي ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني
الليث بن سعد ، عن سعيد بن بشير ، عن محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني ، عن أبيه
(6) ، عن عبد الله بن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من قال
حين يصبح : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ
الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ }
__________
(1) في ت : "فالحمد".
(2) البيت في تفسير الطبري (21/19) ولسان العرب لابن منظور مادة "حبر".
(3) في ت : "فالعشي".
(4) في ت : "وروى الإمام أحمد بإسناده عن أنس الجهني".
(5) المسند (3/439).
(6) في ت : "وروى الطبراني بإسناده".
(6/307)
وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
الآية
بكمالها ، أدرك ما فاته في يومه ، ومَنْ قالها حين يمسي أدرك ما فاته في
ليلته". إسناد جيد (1) ورواه أبو داود في سننه (2).
وقوله : { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ
} هو ما نحن فيه من قدرته على خلق الأشياء المتقابلة. وهذه الآيات المتتابعة
الكريمة كلها من هذا النمط ، فإنه يذكر فيها خلقه الأشياء وأضدادها ، ليدل خلقه
على كمال قدرته ، فمن ذلك إخراج النبات من الحب ، والحب من النبات ، والبيض من
الدجاج ، والدجاج من البيض ، والإنسان من النطفة ، والنطفة من الإنسان ، والمؤمن
من الكافر ، والكافر من المؤمن.
وقوله : { وَيُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } كقوله : { وآية لهم الأرض الميتة
أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون. وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا
فيها من العيون } [يس : 33 ، 34] ، وقال : { وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا
أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
بَهِيجٍ. ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى
وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ
فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ } [الحج : 5 - 7] ، وقال : {
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى
إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزلْنَا بِهِ
الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ
الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الأعراف : 57] ؛ ولهذا قال هاهنا : {
وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ }.
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ
تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) }.
يقول تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ } الدالة على عظمته وكمال قدرته أنه خلق أباكم آدم
من تراب ، { ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ } ، فأصلكم من تراب ، ثم
من ماء مهين ، ثم تَصَوّر فكان علقة ، ثم مضغة ، ثم صار عظاما ، شكله على شكل
الإنسان ، ثم كسا الله تلك العظام لحما ، ثم نفخ فيه الروح ، فإذا هو سميع بصير.
ثم خرج من بطن أمه صغيرا ضعيف القوى والحركة ، ثم كلما طال عمره تكاملت قواه
وحركاته حتى آل به الحال إلى أن صار يبني المدائن والحصون ، ويسافر في أقطار
الأقاليم ، ويركب متن البحور ، ويدور أقطارَ الأرض ويتكسب ويجمع الأموال ، وله
فكرة وغور ، ودهاء ومكر ، ورأي وعلم ، واتساع في أمور الدنيا والآخرة كل بحسبه.
فسبحان مَنْ أقدرهم وسَيّرهم وسخرهم وصرفهم في فنون المعايش والمكاسب ، وفاوت
بينهم في العلوم والفكرة ، والحسن والقبح ، والغنى والفقر ، والسعادة والشقاوة ؛
ولهذا قال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا
أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ }.
__________
(1) في أ : "إسناد ضعيف" وهو الصواب.
(2) المعجم الكبير (12/239) وسنن أبي داود برقم (5076).
(6/308)
وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
وقال الإمام
أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد وغُنْدَر ، قالا حدثنا عَوْف ، عن قسامة بن زهير (1) ،
عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله خلق آدم من
قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، جاء منهم الأبيض والأحمر
والأسود وبين ذلك ، والخبيث والطيب ، والسهل والحزن ، وبين ذلك".
ورواه أبو داود والترمذي من طرق ، عن عوف الأعرابي ، به (2). وقال الترمذي : هذا
حديث حسن صحيح.
وقوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } أي
: خلق لكم من جنسكم إناثا يَكُنَّ لكم أزواجا ، { لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا } ، كما
قال تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا
زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } [الأعراف : 189] يعني بذلك : حواء ، خلقها الله
من آدم من ضِلَعه الأقصر الأيسر. ولو أنه جعل بني آدم كلهم ذكورا وجعل إناثهم من جنس
آخر [من غيرهم] (3) إما من جان أو حيوان ، لما حصل هذا الائتلاف بينهم وبين
الأزواج ، بل كانت تحصل نَفْرَة لو كانت الأزواج من غير الجنس. ثم من تمام رحمته
ببني آدم أن جعل أزواجهم من جنسهم ، وجعل بينهم وبينهن مودة : وهي المحبة ، ورحمة
: وهي الرأفة ، فإن الرجل (4) يمسك المرأة إما لمحبته لها ، أو لرحمة بها ، بأن
يكون لها منه ولد ، أو محتاجة إليه في الإنفاق ، أو للألفة بينهما ، وغير ذلك ، {
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }.
{ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ
وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ
مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) }.
يقول تعالى : ومن آيات قدرته العظيمة { خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } أي : خلق
السموات في ارتفاعها واتساعها ، وشفوف أجرامها وزهارة كواكبها ونجومها الثوابت
والسيارات ، والأرض في انخفاضها وكثافتها وما فيها من جبال وأودية ، وبحار وقفار ،
وحيوان وأشجار.
وقوله : { وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ } يعني : اللغات ، فهؤلاء بلغة العرب ،
وهؤلاء تَتَرٌ لهم لغة أخرى ، وهؤلاء كَرَج ، وهؤلاء روم ، وهؤلاء إفرنج ، وهؤلاء
بَرْبر ، وهؤلاء تكْرور ، وهؤلاء حبشة ، وهؤلاء هنود ، وهؤلاء عجم ، وهؤلاء صقالبة
، وهؤلاء خزر ، وهؤلاء أرمن ، وهؤلاء أكراد ، إلى غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله من
اختلاف لغات بني آدم ، واختلاف ألوانهم وهي حُلاهم ، فجميع أهل الأرض - بل أهل
الدنيا - منذ خلق الله آدم إلى قيام الساعة : كل له عينان وحاجبان ، وأنف وجبين ،
__________
(1) في ت : "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(2) المسند (4/400) وسنن أبي داود برقم (3693) وسنن الترمذي برقم (2955).
(3) زيادة من ت ، ف.
(4) في ت ، ف : "فالرجل".
(6/309)
وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
وفم وخدان.
وليس يشبه واحد منهم الآخر ، بل لا بد أن يفارقه بشيء من السمت أو الهيئة أو
الكلام ، ظاهرا كان أو خفيا ، يظهر عند التأمل ، كل وجه منهم أسلوب بذاته وهيئة لا
تشبه الأخرى. ولو توافق جماعة في صفة من جمال أو قبح (1) ، لا بد من فارق بين كل
واحد منهم وبين الآخر ، { إنَّ فِي ذَلِك لآيات للعَالَمين وَمِنْ آيَاتِهِ
مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ } أي : ومن
الآيات ما جعل لكم من صفة النوم في الليل والنهار ، فيه تحصل الراحة وسكون الحركة
، وذهاب الكلال والتعب ، وجعل لكم الانتشار والسعي في الأسباب والأسفار في النهار
، وهذا ضد النوم ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أي : يعون.
قال الطبراني : حدثنا حجاج بن عمران السدوسي ، حدثنا عمرو بن الحصين العقيلي ،
حدثنا محمد بن عبد الله بن عُلاثة ، حدثني ثور بن يزيد ، عن خالد بن مَعْدان ،
سمعت عبد الملك بن مروان يحدث عن أبيه (2) ، عن زيد بن ثابت ، رضي الله عنه ، قال
: أصابني أرق من الليل ، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
"قل : اللهم غارت النجوم ، وهدأت العيون ، وأنت حي قيوم ، يا حي يا قيوم ،
[أنم عيني و] (3) أهدئ ليلي" فقلتها فذهب عني (4).
{ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنزلُ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ
لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) }
__________
(1) في أ : "قبيح".
(2) في ت : "وروى الطبراني بإسناده".
(3) زيادة من ت ، ف ، ومعجم الطبراني.
(4) المعجم الكبير (5/124) ورواه ابن السني في عمل اليوم والليلة برقم (745) وابن
عدي في الكامل (5/150) من طريق عمرو بن الحصين به ، وقال ابن عدي : "تفرد به
عمرو بن الحصين وهو مظلم الحديث ، ويروي عن قوم معروفين". وله شاهد من حديث
أنس ، حسنه الحافظ ابن حجر كما في الفتوحات الربانية لابن علان (3/177).
(6/310)
وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
{ وَمِنْ
آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ
دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) }.
يقول تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ } الدالة على عظمته أنه { يُرِيكُمُ الْبَرْقَ
[خَوْفًا وَطَمَعًا } أي : ] (1) تارة تخافون مما يحدث بعده من أمطار مزعجة ، أو
صواعق متلفة ، وتارة ترجون وَمِيضَه وما يأتي بعده من المطر المحتاج إليه ؛ ولهذا
قال : { وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا
} أي : بعدما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء ، فلما جاءها الماء { اهْتَزَّتْ
وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [الحج : 5]. وفي ذلك عبرة
ودَلالَة واضحة على المعاد وقيام الساعة ؛ ولهذا قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }.
ثم قال : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ } كقوله
: { وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ } [الحج :
65] ، وقوله : { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا }
[فاطر : 41]. وكان عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، إذا اجتهد في اليمين يقول : لا
والذي تقوم السماء والأرض بأمره ، أي : هي قائمة ثابتة بأمره لها وتسخيره إياها ،
ثم إذا كان يوم القيامة بُدلت الأرض
__________
(1) زيادة من ت.
(6/310)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
غير الأرض
والسموات ، وخرجت الأموات من قبورها أحياء بأمره تعالى ودعائه إياهم ؛ ولهذا قال :
{ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ } كما
قال تعالى : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ
لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا } [الإسراء : 52].
وقال تعالى : { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ }
[النازعات : 13 ، 14] ، وقال : { إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا
هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [يس : 53].
{ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ
الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ
الْمَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
}.
يقول تعالى : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } أي : ملكه وعبيده ، {
كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } أي : خاضعون خاشعون طوعًا وكرهًا.
وفي حديث دَرَّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، مرفوعا : " كل حَرْف في
(1) القرآن يُذكَرُ فيه القنوت فهو الطاعة" (2).
وقوله : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ
عَلَيْهِ } قال [علي] (3) بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني : أيسر عليه.
وقال مجاهد : الإعادة أهون عليه من البَدَاءة ، والبداءة عليه هَيْنٌ. وكذا قال
عكرمة وغيره.
وقال البخاري : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، أخبرنا أبو الزِّنَاد ، عن
الأعرج ، (4) عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"قال الله : كَذبَني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما
تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول الخلق بأهونَ عليّ من إعادته.
وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولدا ، وأنا الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد
، ولم يكن له كفوًا أحد" (5).
انفرد بإخراجه البخاري كما انفرد بروايته - أيضا - من حديث عبد الرزاق عن مَعْمَر
، عن همام ، عن أبي هريرة ، به (6). وقد رواه الإمام أحمد منفردا به عن حسن بن
موسى ، عن ابن لهِيعة ، حدثنا أبو يونس سليم بن جُبَيْر ، عن أبي هريرة ، عن النبي
صلى الله عليه وسلم بنحوه ، أو مثله (7).
وقال آخرون : كلاهما بالنسبة إلى القدرة على السواء.
__________
(1) في ت : "من".
(2) رواه الإمام أحمد في مسنده (3/75) ، وتقدم الحديث عند تفسير الآية : 116 من
سورة البقرة. قال الحافظ ابن كثير : "ولكن هذا الإسناد ضعيف لا يعتمد عليه ،
ورفع هذا الحديث منكر وقد يكون من كلام الصحابي ، أو مَنْ دونه ، والله
أعلم".
(3) زيادة من أ.
(4) في ت : "وقال البخاري بإسناده".
(5) صحيح البخاري برقم (4974).
(6) صحيح البخاري برقم (4975).
(7) المسند (2/350).
(6/311)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
قال
العَوْفي ، عن ابن عباس : كل عليه هين. وكذا قال الربيع بن خُثَيْم. ومال إليه ابن
جرير ، وذكر عليه شواهد كثيرة ، قال : ويحتمل أن يعود الضمير في قوله : { وَهُوَ
أَهْوَنُ عَلَيْهِ } إلى الخلق ، أي : وهو أهون على الخلق.
وقوله : { وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } قال علي بن أبي
طلحة ، عن ابن عباس كقوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى : 11].
وقال قتادة : مَثَله أنه لا إله إلا هو ، ولا رب غيره ، وقال مثل هذا ابن جرير.
وقد أنشد بعض المُفَسرين عند ذكر هذه الآية لبعض أهل المعارف :
إذَا سَكَن الغَديرُ على صَفَاء... وَجُنبَ أنْ يُحَرّكَهُ النَّسيمُ...
ترى فيه السَّمَاء بَلا امْترَاء... كَذَاكَ الشَّمْسُ تَبْدو وَالنّجُومُ...
كَذاكَ قُلُوبُ أرْبَاب التَّجَلِّي... يُرَى في صَفْوها اللهُ العَظيمُ...
{ وَهُوَ الْعَزِيزُ } الذي (1) لا يغالب ولا يمانع ، بل قد غلب كل شيء ، وقهر كل
شيء بقدرته وسلطانه ، { الْحَكِيمُ } في أفعاله وأقواله ، شَرْعًا وقَدَرا.
وعن مالك في تفسيره المروي عنه ، عن محمد بن المنْكَدِر ، في قوله تعالى : {
وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى } ، قال : لا إله إلا الله.
{ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ
تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ
فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) }
هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين به ، العابدين معه غيره ، الجاعلين له شركاء وهم
مع ذلك معترفون أن شركاءه من الأصنام والأنداد عبيد له ، ملك له ، كما كانوا في
تلبيتهم يقولون : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك. فقال تعالى
: { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ } أي : تشهدونه وتفهمونه من أنفسكم ،
{ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا
رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ } أي : لا يرتضي أحد منكم أن يكون عبده
شريكًا له في ماله ، فهو وهو فيه على السواء { تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ
أَنْفُسَكُمْ } أي : تخافون أن يقاسموكم الأموال.
قال أبو مِجْلَز : إن مملوكك لا تخاف أن يقاسمك مالك ، وليس له ذاك (2) ، كذلك
الله لا شريك له.
__________
(1) في ت : "أي".
(2) في ت : "ذلك".
(6/312)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
والمعنى :
أن أحدكم يأنف من ذلك ، فكيف تجعلون لله الأنداد من خلقه. وهذا كقوله تعالى : {
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } [النحل : 62] أي : من البنات ، حيث جعلوا
الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ، وجعلوها بنات الله ، وقد كان أحدهم إذا
بُشر بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ، أيمسكه
على هون أم يدسه في التراب ، فهم يأنفون من البنات. وجعلوا الملائكة بنات الله ،
فنسبوا إليه ما لا يرتضونه لأنفسهم ، فهذا أغلظ الكفر. وهكذا في هذا المقام جعلوا
له شركاء من عبيده وخلقه ، وأحدهم يأبى غاية الإباء ويأنف غاية الأنفة من ذلك ، أن
يكون عبدهُ شريكَه في ماله ، يساويه فيه. ولو شاء لقاسمه عليه ، تعالى الله عن ذلك
علوا كبيرا.
قال الطبراني : حدثنا محمود بن الفرج الأصبهاني ، حدثنا إسماعيل بن عمرو البجلي ،
حدثنا حماد بن شعيب ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير (1) ، عن ابن عباس
قال : كان يلبي أهل الشرك : لبيك اللهم [لبيك] (2) ، لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا
هو لك ، تملكه وما ملك. فأنزل الله : { هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ
كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } (3).
ولما كان التنبيه بهذا المثل على براءته تعالى ونزاهته بطريق الأولى والأحرى ، قال
: { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }.
ثم قال تعالى مبينا أن المشركين إنما عبدوا غيره سَفَهًا من أنفسهم وجهلا { بَلِ
اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا } أي : المشركون { أَهْوَاءَهُمْ } أي : في عبادتهم
الأنداد بغير علم ، { فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ } [أي : فلا أحد يهديهم
إذا كتب الله إضلالهم] (4) ، { وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } أي : ليس لهم من
قدرة الله منقذ ولا مجير ، ولا محيد لهم عنه ؛ لأنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم
يكن.
{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ
(32) }
يقول تعالى : فسدد وجهك واستمر على الذي شرعه الله لك ، من الحنيفية ملة إبراهيم ،
الذي هداك الله لها ، وكملها لك غاية الكمال ، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة ،
التي فطر الله الخلق عليها ، فإنه تعالى فطر خلقه على [معرفته وتوحيده ، وأنه لا
إله غيره ، كما تقدم عند قوله تعالى : { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } [الأعراف : 172] ، وفي الحديث : "إني خلقت
__________
(1) في ت : "روى الطبراني بإسناده".
(2) زيادة من ت.
(3) المعجم الكبير (12/20) ، وقال الهيثمي في المجمع (3/223) : "وفيه حماد بن
شعيب وهو ضعيف".
(4) زيادة من ت ، أ.
(6/313)
عبادي
حُنَفاء ، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم". وسنذكر في الأحاديث أن الله تعالى
فطر خلقه على] (1) الإسلام ، ثم طرأ على بعضهم الأديان الفاسدة كاليهودية أو
النصرانية أو المجوسية (2).
وقوله : { لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } قال بعضهم : معناه لا تبدلوا خلق الله
، فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها. فيكون خبرا بمعنى الطلب ، كقوله
تعالى : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } [آل عمران : 97] ، وهذا معنى حسن صحيح.
وقال آخرون : هو خبر على بابه ، ومعناه : أنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة
على الجبلة المستقيمة ، لا يولد أحد إلا على ذلك ، ولا تفاوت بين الناس في ذلك ؛
ولهذا قال ابن عباس ، وإبراهيم النَّخَعي ، وسعيد بن جُبَيْر ، ومجاهد ، وعِكْرِمة
، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد (3) في قوله : { لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ }
أي : لدين الله.
وقال البخاري : قوله : { لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } : لدين الله ، خَلْقُ
الأولين : [دين الأولين] ، (4) والدين والفطرة : الإسلام.
حدثنا عبدان ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا يونس ، عن الزهري ، أخبرني أبو سلمة بن
عبد الرحمن (5) أن أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما
من مولود يولد إلا على الفطرة ، فأبواه يُهَوِّدَانه أو يُنَصِّرانه أو يُمَجسانه
، كما تَنْتِج البهيمة بهيمة جَمْعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء" ؟ ثم يقول :
{ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ
اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ }.
ورواه مسلم من حديث عبد الله بن وهب ، عن يونس بن يزيد الأيْلي ، عن الزهري ، به
(6). وأخرجاه - أيضا - من حديث عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن همام ، عن أبي هريرة
، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم (7).
وفي معنى هذا الحديث قد وردت أحاديث عن جماعة من الصحابة ، فمنهم الأسودُ بن
سَرِيع التميمي. قال (8) الإمام أحمد :
حدثنا إسماعيل ، حدثنا يونس ، عن الحسن (9) عن الأسود بن سَرِيع [التميمي] (10)
قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزوت معه ، فأصبت ظهرا (11) ، فقتل
الناس يومئذ ، حتى قتلوا الولدان. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
"ما بال أقوام جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية ؟". فقال رجل : يا
رسول الله ، أما هم أبناء المشركين ؟ فقال : "ألا إنما خياركم أبناء
المشركين". ثم قال : "لا تقتلوا ذرية ، لا تقتلوا ذرية". وقال :
"كل نسمة تولد على الفطرة ، حتى يُعرب عنها لسانها ، فأبواها يهودانها أو
ينصرانها".
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في ت ، ف : "والنصرانية والمجوسية".
(3) في ت : "وسعيد بن حبير وغيرهم".
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) في ت : "ثم روى بسنده".
(6) صحيح البخاري برقم (4775) وصحيح مسلم برقم (2658).
(7) صحيح البخاري برقم (6599) وصحيح مسلم برقم (2658).
(8) في ت : "فروى".
(9) في ت : "بإسناده".
(10) زيادة من ف.
(11) في ت ، ف : "ظفرا".
(6/314)
ورواه
النسائي في كتاب السير ، عن زياد بن أيوب ، عن هُشَيْم ، عن يونس - وهو ابن عبيد -
عن الحسن البصري ، به (1) (2).
ومنهم جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال الإمام أحمد :
حدثنا هاشم ، حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن الحسن ، عن جابر عن عبد الله
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كل مولود يولد على الفطرة ، حتى
يُعرب عنه لسانه ، فإذا عبر (3) عنه لسانه إما شاكرًا وإما كفورا" (4).
ومنهم عبد الله بن عباس الهاشمي ، قال الإمام أحمد :
حدثنا عفان ، حدثنا أبو عَوَانة ، حدثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير (5) ، عن ابن
عباس ، رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن أولاد المشركين
، فقال : "الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم". أخرجاه في الصحيحين ،
من حديث أبي بشر جعفر بن إياس اليَشْكُرِي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس مرفوعا
بذلك (6).
وقد قال (7) أحمد أيضا : حدثنا عفان ، حدثنا حماد - يعني ابن سلمة - أنبأنا عمار
بن أبي عمار ، عن ابن عباس قال : أتى عليَّ زمان وأنا أقول : أولاد المسلمين مع
أولاد المسلمين ، وأولاد المشركين مع المشركين. حتى حدثني فلان عن (8) فلان : أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل (9) عنهم فقال : "الله أعلم بما كانوا
عاملين". قال : فلقيت الرجل فأخبرني. فأمسكت عن قولي (10).
ومنهم عياض بن حِمار المجاشعي ، قال (11) الإمام أحمد :
حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا هشام ، حدثنا قتادة ، عن مُطَرّف ، عن عياض بن حمار أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في خطبته : "إن ربي ، عز وجل
، أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا ، كل مال نحلته عبادي حلال ،
وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم ، وحرمت
عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ، ثم إن الله ،
عز وجل ، نظر إلى أهل الأرض فمقتهم ، عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب ،
وقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك ، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء ، تقرؤه
نائما ويقظان.
__________
(1) في ت : "وروى أيضا بإسناده".
(2) المسند (3/435) والنسائي في السنن الكبرى برقم (8616).
(3) في ف : "عرب".
(4) المسند (3/353) وقال الهيثمي في المجمع (7/218) "وفيه أبو جعفر الرازي
وهو ثقة وفيه خلاف ، وبقية رجاله ثقات".
(5) في ت : "وروى أيضا بإسناده".
(6) المسند (1/328) وصحيح البخاري برقم (1383) وصحيح مسلم برقم (2660).
(7) في ت : "وروى".
(8) في ت ، ف : "ابن".
(9) في أ : "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل".
(10) المسند (5/73) وقال الهيثمي في المجمع (7/218) "رجاله رجال
الصحيح".
(11) في ت : "وقال".
(6/315)
ثم إن الله
أمرني أن أحرق قريشا ، فقلت : يا رب إذًا يَثْلَغُوا رأسي فيدعوه خبُزَةً. قال (1)
: استخرجهم كما استخرجوك ، واغزهم نَغْزُك ، وأنفق عليهم فسننفق عليك. وابعث جيشا
نبعث خمسة مثله ، وقاتل بِمَنْ أطاعك مَنْ عصاك". قال : "وأهل الجنة :
ثلاثة ذو سلطان مُقسط متصدق موفق ، ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم ، ورجل
عفيف فقير متصدق. وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زَبْرَ له ، الذين هم فيكم
تَبَعًا ، لا يبتغون أهلا ولا مالا. والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه.
ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن (2) أهلك ومالك" وذكر البخيل ، أو
الكذاب ، والشنظير : الفحاش (3).
انفرد بإخراجه مسلم ، فرواه من طرق عن قتادة ، به (4).
وقوله تعالى : { ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } أي : التمسك بالشريعة (5) والفطرة
السليمة هو الدين القويم المستقيم ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ
} أي : فلهذا لا يعرفه أكثر الناس ، فهم عنه ناكبون ، كما قال تعالى : { وَمَا
أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف : 103] ، { وَإِنْ
تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } الآية
[الأنعام : 116].
وقوله : { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ } قال ابن زيد ، وابن جُرَيْج : أي راجعين إليه ، {
وَاتَّقُوهُ } أي : خافوه وراقبوه ، { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ } وهي الطاعة العظيمة
، { وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } أي : بل من الموحدين المخلصين له
العبادة ، لا يريدون بها سواه.
قال ابن جرير : [حدثنا ابن حُمَيد] (6) ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا يونس بن أبي
إسحاق ، عن يزيد (7) بن أبي مريم قال : مر عمر ، رضي الله عنه ، بمعاذ بن جبل فقال
: ما قوام هذه الأمة (8) ؟ قال معاذ : ثلاث ، وهن [من] (9) المنجيات : الإخلاص ،
وهي الفطرة ، فطرة الله التي فَطرَ الناس عليها ، والصلاة وهي الملة ، والطاعة وهي
العصمة. فقال عمر : صدقت.
حدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّةَ ، حدثنا أيوب ، عن أبي قِلابة : أن عمر ، رضي
الله عنه ، قال لمعاذ : ما قوام هذا الأمر ؟ فذكره نحوه (10).
وقوله : { مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ
بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } أي : لا تكونوا من المشركين الذين قد فرقوا دينهم أي
: بدلوه وغيروه وآمنوا ببعض وكفروا ببعض.
وقرأ بعضهم : "فارقوا دينهم" أي : تركوه وراء ظهورهم ، وهؤلاء كاليهود
والنصارى والمجوس وعَبَدة الأوثان ، وسائر أهل الأديان الباطلة ، مما عدا أهل
الإسلام ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا
شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ
يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [الأنعام : 159] ، فأهل الأديان قبلنا
اختلفوا فيما بينهم على آراء وملَل باطلة ، وكل فرقة منهم تزعم أنهم على شيء ،
__________
(1) في ت ، ف : "فقال".
(2) في ت : "على".
(3) في ت ، ف : "الفاحش".
(4) المسند (4/162) وصحيح مسلم برقم (2865).
(5) في ت : "المتمسك بالشرعة".
(6) زيادة من ف ، أ ، والطبري.
(7) في أ : "زيد".
(8) في ت : "الآية".
(9) زيادة من ت.
(10) تفسير الطبري (21/26).
(6/316)
وهذه الأمة
(1) أيضًا اختلفوا فيما بينهم على نحل كلها ضلالة (2) إلا واحدة ، وهم أهل السنة
والجماعة ، المتمسكون بكتاب الله وسنة رسول الله (3) صلى الله عليه وسلم ، وبما
كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين ، وأئمة المسلمين في قديم الدهر وحديثه
، كما رواه الحاكم في مستدركه أنه سئل ، عليه السلام (4) عن الفرقة الناجية منهم ،
فقال : "ما أنا عليه [اليوم] (5) وأصحابي" (6).
__________
(1) في ت : "الآية".
(2) في أ : "ضالة".
(3) في ف : "رسوله".
(4) في ف ، أ : "صلى الله عليه وسلم".
(5) زيادة من : أ ، والمستدرك.
(6) المستدرك (1/128 ، 129) ، وقال الحافظ ابن حجر في تخريج الكشاف ص (63) :
"إسناده حسن".
(6/317)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
{ وَإِذَا
مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ
مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ
أَنزلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ
يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ
تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) }.
يقول تعالى مخبرًا عن الناس إنهم في حال الاضطرار يدعون الله وحده لا شريك له ،
وأنه إذا أسبغ عليهم النعم ، إذا فريق منهم [أي] (1) في حالة الاختبار يشركون
بالله ، ويعبدون معه غيره.
وقوله : { لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ } ، هي لام العاقبة عند بعضهم ، ولام
التعليل عند آخرين ، ولكنها تعليل لتقييض الله لهم ذلك.
ثم توعدهم بقوله : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } (2) ، قال بعضهم : والله لو توعدني
حارس دَرْب لخفت منه ، فكيف والمتوعد هاهنا [هو] (3) الذي يقول للشيء : كن ،
فيكون.
ثم قال منكرًا على المشركين فيما اختلقوه من عبادة الأوثان بلا دليل ولا حجة ولا
برهان. { أَمْ أَنزلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا } أي : حجة { فَهُوَ يَتَكَلَّمُ }
أي : ينطق { بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ } ؟ وهذا استفهام إنكار ، أي : لم يكن
[لهم] (4) شيء من ذلك.
ثم قال : { وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } ، هذا إنكار على
الإنسان من حيث هو ، إلا مَنْ عَصَمه الله ووفقه ؛ فإن الإنسان إذا أصابته نعمة
بَطر وقال : { ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } [هود : 10]
، أي : يفرح في نفسه ويفخر على غيره ، وإذا أصابته شدة قَنط وأيس أن يحصل له بعد
ذلك خير بالكلية ؛ قال الله : { إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
} [هود : 11] ، أي : صبروا في الضراء ، وعملوا الصالحات في الرخاء ، كما ثبت في
الصحيح : "عجبا للمؤمن ، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له ، إن أصابته
سراء شكر فكان
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت : "يعلمون".
(3) زيادة من ت ، ف ، أ.
(4) زيادة من أ.
(6/317)
فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
خيرًا له ،
وإن أصابته ضَرَّاء (1) صبر فكان خيرًا له" (2).
وقوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ
يَشَاءُ وَيَقْدِرُ } أي : هو المتصرف الفاعل لذلك بحكمته وعدله ، فيوسع على قوم
ويضيّق على آخرين ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }.
{ فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ
لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا
آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ
اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ
ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) }
يقول تعالى آمرًا بإعطاء ذي { الْقُرْبَى حَقَّهُ } أي : من البر والصلة ، {
وَالْمِسْكِينَ } وهو : الذي لا شيء له ينفق عليه ، أو له شيء لا يقوم بكفايته ، {
وَابْنَ السَّبِيلِ } وهو المسافر المحتاج إلى نفقة وما يحتاج إليه في سفره ، {
ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ } أي : النظر إليه يوم
القيامة ، وهو الغاية القصوى ، { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : في
الدنيا وفي الآخرة (3).
ثم قال : { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا
يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ } أي : من أعطى عطية يريد أن يرد الناس عليه أكثر مما أهدى
لهم ، فهذا لا ثواب له عند الله - بهذا فسره ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة
، وعكرمة ، ومحمد بن كعب ، والشعبي - وهذا الصنيع مباح (4) وإن كان لا ثواب فيه
(5) إلا أنه قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ، قاله الضحاك ، واستدل
بقوله : { وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } [المدثر : 6] أي : لا تعط العطاء تريد
أكثر منه.
وقال ابن عباس : الربا رباءان ، فربا لا يصح (6) يعني : ربا البيع ؟ وربا لا بأس
به ، وهو هدية الرجل يريد فضلها (7) وأضعافها. ثم تلا هذه الآية : { وَمَا
آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ
اللَّهِ }.
وإنما الثواب عند الله في الزكاة ؛ ولهذا قال : { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ
تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } أي : الذين يضاعف
الله لهم الثواب والجزاء ، كما [جاء] (8) في الصحيح : "وما تصدق أحد بِعَدْل
تمرة من كسب طيب إلا أخذها الرحمن بيمينه ، فَيُرَبِّيها لصاحبها كما يُرَبِّي
أحدكم فَلُوّه أو فَصِيلَه ، حتى تصير التمرة أعظم من أُحُد" (9).
__________
(1) في ت : "الضراء".
(2) صحيح مسلم برقم (2999) من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه.
(3) في ت ، ف : "الأخرى".
(4) في ت : "فسره ابن عباس وغيره".
(5) في ت : "به".
(6) في أ : "لا يصلح".
(7) في أ : "أفضلها".
(8) زيادة من أ.
(9) صحيح البخاري برقم (1410).
(6/318)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)
وقوله : {
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ } أي : هو الخالق الرازق (1) يخرج
الإنسان من بطن أمه عريانا لا علم له ولا سمع ولا بصر ولا قُوَى ، ثم يرزقه جميع
ذلك بعد ذلك ، والرياش واللباس والمال والأملاك والمكاسب ، كما قال (2) الإمام
أحمد :
حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن سلام أبي شرحبيل ، عن حَبَّة وسواء ابني
خالد قالا دخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلح شيئا فأعَنَّاه ، فقال :
"لا تيأسا من الرزق ما تَهَزّزَتْ رؤوسكما ؛ فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس
عليه قشرة ، ثم يرزقه الله عز وجل" (3).
وقوله : { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } ، أي : بعد هذه الحياة { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } أي :
يوم القيامة.
وقوله : { هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ } أي : الذين تعبدونهم من دون الله. { مَنْ
يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ } أي : لا يقدر أحد منهم على فعل شيء من ذلك ،
بل الله سبحانه وتعالى هو المستقل بالخلق والرزق ، والإحياء والإماتة ، ثم يبعث
الخلائق يوم القيامة ؛ ولهذا قال بعد هذا كله : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُونَ } أي : تعالى وتقدس وتنزه وتعاظم وجل وعَزّ عن أن يكون له شريك أو
نظير أو مساوٍ ، أو ولد أو والد ، بل هو الأحد الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد
، ولم يكن له كفوًا أحد.
{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ
لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) }
__________
(1) في أ : "الرزاق".
(2) في ت : "كما روى".
(3) المسند (3/469).
(6/319)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
{ قُلْ
سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ
كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) }.
قال ابن عباس ، وعِكْرِمة ، والضحاك ، والسُّدِّي ، وغيرهم : المراد بالبر هاهنا :
الفَيَافي ، وبالبحر : الأمصار والقرى ، وفي رواية عن ابن عباس وعَكرمة : البحر :
الأمصار والقرى ، ما كان منها على جانب نهر.
وقال آخرون : بل المراد بالبر هو البر المعروف ، وبالبحر : البحر المعروف.
وقال زيد (1) بن رُفَيْع : { ظَهَرَ الْفَسَادُ } يعني : انقطاع المطر عن البر
يعقبه القحط ، وعن البحر تعمى (2) دوابه. رواه ابن أبي حاتم.
وقال : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، عن سفيان ، عن حميد بن قيس الأعرج
، عن مجاهد : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } ، قال : فساد البر :
قتل ابن آدم ، وفساد (3) البحر : أخذ السفينة غصبا.
وقال عطاء الخراساني : المراد بالبر : ما فيه من المدائن والقرى ، وبالبحر :
جزائره.
__________
(1) في أ "يزيد".
(2) في ت ، ف : "يعني".
(3) في ت ، ف : "وفي".
(6/319)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
والقول
الأول أظهر ، وعليه الأكثر ، ويؤيده ما ذكره محمد بن إسحاق في السيرة : أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم وسلم صَالَح ملك أيلة ، وكتب إليه ببحره ، يعني : ببلده.
ومعنى قوله تعالى : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِي النَّاسِ } أي : بان النقص في (1) الثمار والزروع بسبب المعاصي.
وقال أبو العالية : مَنْ عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض ؛ لأن صلاح الأرض
والسماء بالطاعة ؛ ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود : "لَحَدٌّ يقام
في الأرض أحبّ إلى أهلها من أن يمطروا أربعين صباحا" (2). والسبب في هذا أن
الحدود إذا أقيمت ، انكف الناس - أو أكثرهم ، أو كثير منهم - عن تعاطي المحرمات ،
وإذا ارتكبت المعاصي كان سببا في محاق (3) البركات من السماء والأرض ؛ ولهذا إذا
نزل عيسى [ابن مريم] (4) عليه السلام ، في آخر الزمان فحكم بهذه الشريعة المطهرة
في ذلك الوقت ، من قتل الخنزير وكسر الصليب ووضع الجزية ، وهو تركها - فلا يقبل
إلا الإسلام أو السيف ، فإذا أهلك الله في زمانه الدجال وأتباعه ويأجوج ومأجوج ،
قيل للأرض : أخرجي بركاتك. فيأكل من الرمانة الفئَام من الناس ، ويستظلون بقَحْفها
، ويكفي لبن اللّقحة الجماعةَ من الناس. وما ذاك إلا ببركة تنفيذ شريعة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فكلما أقيم العدل كثرت البركات والخير ؛ [ولهذا] (5) ثبت في
الصحيح : (6) "إنَّ الفاجر إذا مات تستريح منه العباد والبلاد ، والشجر
والدواب" (7).
ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا محمد والحسين قالا حدثنا عَوْف ، عن أبي
قحذم قال (8) : وجد رجل في زمان زياد - أو : ابن زياد - صرة فيها حَبّ ، يعني من
بر أمثال النوى ، عليه مكتوب : هذا نبت في زمان كان يعمل فيه بالعدل (9).
وروى مالك ، عن زيد بن أسلم : أن المراد بالفساد هاهنا الشرك. وفيه نظر.
وقوله : { لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي :
يبتليهم بنقص الأموال والأنفس والثمرات ، اختبارا منه ، ومجازاة على صنيعهم ، {
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي : عن المعاصي ، كما قال تعالى : { وَبَلَوْنَاهُمْ
بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الأعراف : 168].
ثم قال تعالى : { قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ } أي : من قبلكم ، { كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ } أي :
فانظروا ماذا حلَّ بهم من تكذيب الرسل وكفر النعم.
{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا
مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ
كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ
الْكَافِرِينَ (45) }.
__________
(1) في ت : "من".
(2) رواه أحمد في المسند (2/362) والنسائي في السنن (8/75) من حديث أبي هريرة ،
ولم يقع لي في سنن أبي داود.
(3) في ت ، ف ، أ : "حصول".
(4) زيادة من ت ، ف ، أ.
(5) زيادة من أ.
(6) في ت ، أ : "الصحيحين".
(7) صحيح البخاري برقم (6512).
(8) في ت : "وروى أنه".
(9) المسند (2/296).
(6/320)
وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
يقول تعالى
آمرًا عباده بالمبادرة إلى الاستقامة في طاعته ، والمبادرة إلى الخيرات : {
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا
مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ } أي : يوم القيامة ، إذا أراد كونه فلا رادَّ له ، {
يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } أي : يتفرقون ، ففريق في الجنة وفريق في السعير ؛
ولهذا قال : { مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا
فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ } أي : يجازيهم مجازاة الفضل : الحسنة بعشر أمثالها ،
إلى سبعمائة ضعف ، إلى ما يشاء الله ، { إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } ، ومع
هذا هو العادل فيهم ، الذي لا يجور.
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ
رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى
قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ
أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) }.
يذكر تعالى نعَمه على خلقه ، في إرساله الرياح مبشرات بين يدي رحمته ، بمجيء الغيث
(1) عقيبها ؛ ولهذا قال : { وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ } أي : المطر الذي
ينزله فيحيي به العباد والبلاد ، { وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ } أي : في
البحر ، وإنما سيرها بالريح ، { وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } أي : في التجارات
والمعايش ، والسير من إقليم إلى إقليم ، وقطر إلى قطر ، { وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ } أي : تشكرون الله على ما أنعم به عليكم من النعم الظاهرة والباطنة ،
التي لا تعد ولا تحصى.
ثم قال : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ
فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا } هذه
تسلية من الله لعبده ورسوله محمد ، صلوات الله وسلامه عليه (2) ، بأنه وإن كذبه
كثير من قومه ومن الناس ، فقد كُذّبت الرسل المتقدمون مع ما جاءوا أممهم به من
الدلائل الواضحات ، ولكن الله انتقم ممن كذبهم وخالفهم ، وأنجى المؤمنين بهم ، {
وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } ، هو حقّ أوجبه على نفسه
الكريمة ، تكرما وتفضلا كقوله تعالى : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ } [الأنعام : 54].
قال (3) ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نفيل ، حدثنا موسى بن أعين ، عن ليث
، عن شهر بن حَوْشَب (4) ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول : "ما
__________
(1) في ت ، ف : "بمجيء المطر والغيث".
(2) في ت : "صلى الله عليه وسلم".
(3) في ت : "وروى".
(4) في ت : "بإسناده".
(6/321)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
من امرئ
مسلم يَرُدُّ عن عرض أخيه ، إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم
القيامة". ثم تلا هذه الآية : { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ
الْمُؤْمِنِينَ } (1).
{ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي
السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ
خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ
قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ
يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) }
__________
(1) ورواه أحمد في المسند (6/448) من طريق إسماعيل ، وابن أبي الدنيا في الغيبة
والنميمة برقم (102) من طريق جرير كلاهما عن ليث - وهو ابن أبي سليم - به ولم يذكر
الآية.
(6/322)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
{ وَلَئِنْ
أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ
(51) }.
يبين تعالى كيف يخلق السحاب التي (1) ينزل منها الماء (2) فقال : { اللَّهُ
الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا } ، إما من البحر على ما ذكره غير
واحد ، أو مما يشاء الله عز وجل. { فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ }
أي : يَمُدّه فيكثّرهُ ويُنَمّيه ، ويجعل من القليل كثيرا ، ينشئ سحابة فترى في
رأي العين مثل الترس ، ثم يبسطها حتى تملأ أرجاء الأفق. وتارة يأتي السحاب من نحو
البحر ثقالا مملوءة ماء ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ
بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا
سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ
كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
[الأعراف : 57] ، وكذلك قال هاهنا : { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ
فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ
كِسَفًا }. قال مجاهد ، وأبو عمرو بن العلاء ، ومطر الوَرّاق ، وقتادة : يعني
قطعا.
وقال غيره : متراكما ، قاله الضحاك.
وقال غيره : أسود من كثرة الماء ، تراه مدلهما ثقيلا قريبا من الأرض.
وقوله { فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ } أي : فترى المطر - وهو القطر
- يخرج من بين ذلك السحاب ، { فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } أي : لحاجتهم إليه يفرحون بنزوله عليهم ووصوله
إليهم.
وقوله : { وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ
لَمُبْلِسِينَ } ، معنى الكلام : أن هؤلاء القوم الذين أصابهم هذا المطر كانوا
قَنطين أزلين من نزول المطر إليهم قبل ذلك ، فلما جاءهم ، جاءهم على فاقة ، فوقع
منهم موقعا عظيما.
وقد اختلف النحاة في قوله : { مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ
لَمُبْلِسِينَ } ، فقال ابن جرير : هو
__________
(1) في أ : "الذي".
(2) في ت : "المطر".
(6/322)
تأكيد.
وحكاه عن بعض أهل العربية.
وقال آخرون : [وإن كانوا] (1) من قبل أن ينزل عليهم المطر ، { مِنْ قَبْلِهِ } أي
: الإنزال { لَمُبْلِسِينَ }.
ويحتمل أن يكون ذلك من دلالة التأسيس ، ويكون معنى الكلام : أنهم كانوا محتاجين
إليه قبل نزوله ، ومن قبله - أيضا - قد فات عندهم نزوله وقتا بعد وقت ، فترقبوه في
إبانه فتأخر ، فمضت مدة فترقبوه فتأخر ، ثم جاءهم بغتة بعد الإياس منه والقنوط ،
فبعد ما كانت أرضهم مقشعرة هامدة أصبحت وقد اهتزت وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج ؛
ولهذا قال : { فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ } يعني : المطر { كَيْفَ
يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا }.
ثم نبه بذلك على إحياء الأجساد بعد موتها وتفرقها وتمزقها ، فقال : { إِنَّ ذَلِكَ
لَمُحْيِي الْمَوْتَى } أي : إن الذي فعل ذلك لقادر على إحياء الأموات ، { إنَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
ثم قال تعالى : { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا
مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ } ، يقول { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا } يابسة على
الزرع الذي زرعوه ، ونبت وشب واستوى على سوقه ، فرأوه مصفرا ، أي : قد اصفر وشرع
في الفساد ، لظلوا من بعده ، أي : بعد هذا الحال يكفرون ، أي : يجحدون ما تقدم
[إليهم] (2) من النعم ، كما قال : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ
تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ. لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا
فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ. إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ }
[الواقعة : 63 - 67].
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع ، حدثنا هُشَيْم (3)
، عن يَعْلَى بن عطاء ، عن أبيه (4) عن عبد الله بن عمرو ، قال : الرياح ثمانية ،
أربعة منها رحمة ، وأربعة عذاب ، فأما الرحمة فالناشرات والمبشرات والمرسلات
والذاريات. وأما العذاب فالعقيم والصرصر ، وهما في البر ، والعاصف والقاصف ، وهما
في البحر [فإذا شاء سبحانه وتعالى حركه بحركة الرحمة فجعله رخاء ورحمة وبشرى بين
يدي رحْمته ، ولاقحًا للسحاب تلقحه بحمله الماء ، كما يلقح الذكر الأنثى بالحمل ،
وإن شاء حركه بحركة العذاب فجعله عقيمًا ، وأودعه عذابًا أليمًا ، وجعله نقمة على
من يشاء من عباده ، فيجعله صرصرًا وعاتيًا ومفسدًا لما يمر عليه ، والرياح مختلفة
في مهابها : صبا ودبور ، وجنوب ، وشمال ، وفي منفعتها وتأثيرها أعظم اختلاف ، فريح
لينة رطبة تغذي النبات وأبدان الحيوان ، وأخرى تجففه ، وأخرى تهلكه وتعطبه ، وأخرى
تسيره وتصلبه ، وأخرى توهنه وتضعفه] (5).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو (6) عبُيَد الله ابن أخي ابن وهب ، حدثنا عمي ،
حدثنا عبد الله بن عَيْاش (7) ، حدثني عبد الله بن سليمان ، عن دراج ، عن عيسى بن
هلال الصدَفي ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"الريح مسخرة من الثانية - يعني الأرض الثانية - فلما أراد الله أن يهلك
عادًا ، أمر خازن الريح أن يرسل عليهم ريحًا تهلك عادًا ، فقال : يا رب ، أرسل
عليهم من الريح قدر منخر الثور. قال له الجبار تبارك وتعالى : لا إذًا تكفأ الأرض
وما عليها ،
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : "هاشم".
(4) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
(5) زيادة من ت.
(6) في أ : "ابن".
(7) في أ : "عباس".
(6/323)
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
ولكن أرسل
عليهم بقدر خاتم" ، فهي التي قال الله في كتابه : { مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ
أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } (1) [الذرايات : 42]. هذا حديث
غريب ، ورفعه منكر. والأظهر أنه من كلام عبد الله بن عمرو ، رضي الله عنه.
{ فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا
وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ
إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) }.
يقول تعالى : كما أنك ليس في قدرتك أن تسمع الأموات في أجداثها ، ولا تبلغ (2)
كلامَك الصم الذين لا يسمعون ، وهم مع ذلك مُدْبِرُون عنك ، كذلك لا تقدر على
هداية العميان عن الحق ، وردهم عن ضلالتهم ، بل ذلك إلى الله تعالى ، فإنه بقدرته
يسمع الأموات أصوات الأحياء إذا شاء ، ويهدي مَنْ يشاء ، ويضل مَنْ يشاء ، وليس
ذلك لأحد سواه ؛ ولهذا قال : { إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا
فَهُمْ مُسْلِمُونَ } أي : خاضعون مستجيبون مطيعون ، فأولئك هم الذين يستمعون (3)
الحق ويتبعونه ، وهذا حال المؤمنين ، والأول مَثَلُ الكافرين ، كما قال تعالى : {
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ
ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [الأنعام : 36].
وقد استدلت أم المؤمنين عائشة ، رضي الله عنها ، بهذه الآية : { إِنَّكَ لا
تُسْمِعُ الْمَوْتَى } ، على توهيم عبد الله بن عمر في روايته مخاطبة النبي صلى
الله عليه وسلم القتلى الذين ألقوا في قَلِيب بدر (4) ، بعد ثلاثة أيام ، ومعاتبته
إياهم وتقريعه لهم ، حتى قال له عمر : يا رسول الله ، ما تخاطب من قوم قد جَيَّفوا
؟ فقال : "والذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكن لا يجيبون".
وتأولته عائشة على أنه قال : "إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق"
(5).
وقال قتادة : أحياهم الله له حتى سمعوا مقالته تقريعًا وتوبيخًا ونقمة.
__________
(1) سيأتي تخريج الحديث عند تفسير الآية : 42 من سورة الذاريات.
(2) في ت : "ولا يبلغ".
(3) في ت : "يسمعون".
(4) في ت ، أ : "في روايته أن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب القتلى الذين
ألقوا في القليب ، قليب بدر".
(5) قال الإمام الزركشي رحمه الله في كتابه "الإجابة لإيراد ما استدركته
عائشة على الصحابة" ص (121) : "أخرج البخاري عن ابن عمر قال : وقف النبي
صلى الله عليه وسلم على قليب بدر فقال : "هل وجدتم ما وعد ربكم حقا" ثم
قال : "إنهم الآن يسمعون ما أقول" ، فذكر لعائشة فقالت : إنما قال النبي
صلى الله عليه وسلم : "إنهم ليعلمون الآن أن ما كنت أقول لهم حق". قال
السهيلي في الروض : "وعائشة لم تحضر ، وغيرها ممن حضر أحفظ للفظه صلى الله
عليه وسلم ، وقد قالوا له : يا رسول الله ، أتخاطب قوما قد جيفوا أو أجيفوا ؟ فقال
: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" ، وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحال
عالمين ، جاز أن يكونوا سامعين ، إما بآذان رؤوسهم ، إذا قلنا : إن الروح تعاد إلى
الجسد أو إلى بعضه عند المسألة. وهو قول جمهور أهل السنة ، وإما بأذن القلب أو
الروح على مذهب مَنْ يقول بتوجه السؤال إلى الروح من غير رجوع إلى الجسد أو إلى
بعضه. قال : وقد روي أن عائشة احتجت بقوله تعالى : (وما أنت بمسمع من في القبور)
وهذه الآية كقوله : (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي) أي : إن الله هو الذي يهدي
ويوفق ويدخل الموعظة إلى آذان القلوب لا أنت ، وجعل الكفار أمواتًا وصمًا على جهة
التشبيه بالأموات وبالصم ، فالله هو الذي يسمعهم على الحقيقة إذا شاء ، فلا تعلق
لها في الآية لوجهين : أحدهما : أنها إنما نزلت في دعاء الكفار إلى الإيمان ،
الثاني : أنه إنما نفى عن نبيه أن يكون هو المسمع لهم ، وصدق الله ، فإنه لا
يسمعهم إذا شاء إلا هو".
(6/324)
والصحيح عند
العلماء رواية ابن عمر ، لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة ، من أشهر
ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححًا [له] (1) ، عن ابن عباس مرفوعًا : "ما من
أحد يمر بقبر أخيه المسلم ، كان يعرفه في الدنيا ، فيسلم عليه ، إلا رد الله عليه
روحه ، حتى يرد عليه السلام" (2).
[وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له ، إذا انصرفوا
عنه ، وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا
عليهم سلام من يخاطبونه فيقول المسلم : السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وهذا خطاب
لمن يسمع ويعقل ، ولولا هذا الخطاب لكانوا بمنزلة خطاب المعدوم والجماد ، والسلف
مجمعون على هذا ، وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف بزيارة الحي له ويستبشر ،
فروى ابن أبي الدنيا في كتاب القبور عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده ، إلا استأنس
به ورد عليه حتى يقوم".
وروي عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : إذا مر رجل بقبر يعرفه فسلم عليه ، رد
عليه السلام.
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن رجل من آل عاصم الجَحْدَرِي قال : رأيت عاصمًا
الجحدري في منامي بعد موته بسنتين ، فقلت : أليس قد متّ ؟ قال : بلى ، قلت : فأين
أنت ؟ قال : أنا - والله - في روضة من رياض الجنة ، أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة
جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المزني ، فنتلقى أخباركم. قال : قلت : أجسامكم
أم أرواحكم ؟ قال : هيهات! قد بليت الأجسام ، وإنما تتلاقى الأرواح ، قال : قلت :
فهل تعلمون بزيارتنا إياكم ؟ قال : نعلم بها عشية الجمعة ويوم الجمعة كله ويوم
السبت إلى طلوع الشمس ، قال : قلت : فكيف ذلك دون الأيام كلها ؟ قال : لفضل يوم
الجمعة وعظمته.
قال : وحدثنا محمد بن الحسين ، ثنا بكر بن محمد ، ثنا حسن القصاب قال : كنت أغدو
مع محمد بن واسع في كل غداة سبت حتى نأتي أهل الجبان ، فنقف على القبور فنسلم
عليهم ، وندعو لهم ثم ننصرف ، فقلت ذات يوم : لو صيرت هذا اليوم يوم الاثنين ؟ قال
: بلغني أن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة ويومًا قبلها ويومًا بعدها. قال :
ثنا محمد ، ثنا عبد العزيز بن أبان قال : ثنا سفيان الثوري قال : بلغني عن الضحاك
أنه قال : من زار قبرًا يوم السبت قبل طلوع الشمس علم الميت بزيارته ، فقيل له :
وكيف ذلك ؟ قال : لمكان يوم الجمعة.
حدثنا خالد بن خِدَاش ، ثنا جعفر بن سليمان ، عن أبي التَّيَّاح يقول : كان
مُطَرَّف يغدو ، فإذا كان يوم الجمعة أدلج. قال : وسمعت أبا التياح يقول : بلغنا
أنه كان ينزل بغوطة ، فأقبل ليلة حتى إذا كان عند المقابر يقوم وهو على فرسه ،
فرأى أهل القبور كل صاحب قبر جالسًا على قبره ، فقالوا : هذا مطرف يأتي الجمعة
ويصلون عندكم يوم الجمعة ؟ قالوا : نعم ، ونعلم ما يقول فيه الطير. قلت : وما
يقولون ؟ قال : يقولون سلام عليكم ؛ حدثني محمد بن الحسن ، ثنا يحيى بن أبي بكر ،
__________
(1) زيادة من أ.
(2) الاستذكار لابن عبد البر من طريق بشر بن بكير ، عن الأوزاعي ، عن عطاء ، عن
عبيد بن عمير ، عن ابن عباس ، مرفوعا. ولفظه : "ما من أحد مر بقبر أخيه
المؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام".
(6/325)
ثنا الفضل
بن الموفق ابن خال سفيان بن عيينة قال : لما مات أبي جزعت عليه جزعًا شديدًا ،
فكنت آتي قبره في كل يوم ، ثم قصرت عن ذلك ما شاء الله ، ثم إني أتيته يومًا ،
فبينا أنا جالس عند القبر غلبتني عيناي فنمت ، فرأيت كأن قبر أبي قد انفرج ، وكأنه
قاعد في قبره متوشح أكفانه ، عليه سِحْنَة الموتى ، قال : فكأني بكيت لما رأيته.
قال : يا بني ، ما أبطأ بك عني ؟ قلت : وإنك لتعلم بمجيئي ؟ قال : ما جئت مرة إلا
علمتها ، وقد كنت تأتيني فأسر بك ويسر من حولي بدعائك ، قال : فكنت آتيه بعد ذلك
كثيرًا.
حدثني محمد ، حدثنا يحيى بن بَسْطام ، ثنا عثمان بن سُوَيْد الطُّفَاوي قال :
وكانت أمه من العابدات ، وكان يقال لها : راهبة ، قال : لما احتضرت رفعت رأسها إلى
السماء فقالت : يا ذخري وذخيرتي من عليه اعتمادي في حياتي وبعد موتي ، لا تخذلني
عند الموت ولا توحشني. قال : فماتت. فكنت آتيها في كل جمعة فأدعو لها وأستغفر لها
ولأهل القبور ، فرأيتها ذات يوم في منامي ، فقلت لها : يا أمي ، كيف أنت ؟ قالت :
أي : بني ، إن للموت لكربة شديدة ، وإني بحمد الله لفي برزخ محمود يفرش فيه
الريحان ، ونتوسد السندس والإستبرق إلى يوم النشور ، فقلت لها : ألك حاجة ؟ قالت :
نعم ، قلت : وما هي ؟ قالت : لا تدع ما كنت تصنع من زياراتنا والدعاء لنا ، فإني
لأبشر بمجيئك يوم الجمعة إذا أقبلت من أهلك ، يقال لي : يا راهبة ، هذا ابنك ، قد
أقبل ، فأسر ويسر بذلك مَنْ حولي من الأموات.
حدثني محمد ، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن سليمان ، حدثنا بشر بن منصور قال : لما
كان زمن الطاعون كان رجل يختلف إلى الجبان ، فيشهد الصلاة على الجنائز ، فإذا أمسى
وقف على المقابر فقال : آنس الله وحشتكم ، ورحم غربتكم ، وتجاوز عن مسيئكم ، وقبل
حسناتكم ، لا يزيد على هؤلاء الكلمات ، قال : فأمسيت ذات ليلة وانصرفت إلى أهلي
ولم آت المقابر فأدعو كما كنت أدعو ، قال : فبينا أنا نائم إذا بخلق قد جاءوني ،
فقلت : ما أنتم وما حاجتكم ؟ قالوا : نحن أهل المقابر ، قلت : ما حاجتكم ؟ قالوا :
إنك عودتنا منك هدية عند انصرافك إلى أهلك ، قلت : وما هي ؟ قالوا : الدعوات التي
كنت تدعو بها ، قال : قلت فإني أعود لذلك ، قال : فما تركتها بعد.
وأبلغ من ذلك أن الميت يعلم بعمل الحي من أقاربه وإخوانه. قال عبد الله بن المبارك
: حدثني ثور بن يزيد ، عن إبراهيم ، عن أيوب قال : تعرض أعمال الأحياء على الموتى
، فإذا رأوا حسنًا فرحوا واستبشروا وإن رأوا سوءًا قالوا : اللهم راجع به.
وذكر ابن أبي الدنيا عن أحمد بن أبي الحواري قال : ثنا محمد أخي قال : دخل عباد بن
عباد على إبراهيم بن صالح وهو على فلسطين فقال : عظني ، قال : بِمَ أعظك ، أصلحك
الله ؟ بلغني أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم من الموتى ، فانظر ما يعرض على
رسول الله صلى الله عليه وسلم من عملك ، فبكى إبراهيم حتى أخضل لحيته. قال ابن أبي
الدنيا : وحدثني محمد بن الحسين ، ثنا خالد بن عمرو الأموي ، ثنا صدقة بن سليمان
الجعفري قال : كانت لي شِرَّة سَمِجَة ، فمات أبي فتبت وندمت على ما فرطت ، ثم
زللت أيما زلة ، فرأيت أبي في المنام ، فقال : أي بني ، ما كان أشد فرحي بك
(6/326)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
وأعمالك
تعرض علينا ، فنشبهها بأعمال الصالحين ، فلما كانت هذه المرة استحييت لذلك حياء
شديدًا ، فلا تخزني فِيمَنْ حولي من الأموات ، قال : فكنت أسمعه بعد ذلك يقول في
دعائه في السحر ، وكان جارًا لي بالكوفة : أسألك إيابة لا رجعة فيها ولا حور ، يا
مصلح الصالحين ، ويا هادي المضلين ، ويا أرحم الراحمين.
وهذا باب فيه آثار كثيرة عن الصحابة. وكان بعض الأنصار من أقارب عبد الله بن رواحة
يقول : اللهم إني أعوذ بك من عمل أخزى به عند عبد الله بن رواحة ، كان يقول ذلك
بعد أن استشهد عبد الله.
وقد شرع السلام على الموتى ، والسلام على مَنْ لم يشعر ولا يعلم بالمسلم محال ،
وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته إذا رأوا القبور أن يقولوا : "سلام
عليكم أهل الديار من المؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، يرحم الله
المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين ، نسأل الله لنا ولكم العافية" ، فهذا السلام
والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويرد ، وإن لم يسمع المسلم الرد ، والله
أعلم] (1).
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ
قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا
يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) }.
ينبه تعالى على تنقل الإنسان في أطوار الخلق حالا بعد حال ، فأصله من تراب ، ثم من
نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة ، ثم يصير عظاما ثم يُكسَى لحما ، ويُنفَخ فيه
الروح ، ثم يخرج من بطن أمه ضعيفا نحيفًا واهن القوى. ثم يشب قليلا قليلا حتى يكون
صغيرًا ، ثم حَدَثا ، ثم مراهقًا ، ثم شابا. وهو القوة بعد الضعف ، ثم يشرع في
النقص فيكتهل (2) ، ثم يشيخ ثم يهرم ، وهو الضعف بعد القوة. فتضعف الهمة والحركة
والبطش ، وتشيب اللّمَّة ، وتتغير الصفات الظاهرة والباطنة ؛ ولهذا قال : { ثُمَّ
جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } أي : يفعل
ما يشاء ويتصرف في عبيده بما يريد ، { وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ }.
قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، عن فضيل ويزيد ، حدثنا فضيل بن مرزوق (3) ، عن
عطية العوفي ، قال : قرأت على ابن عمر : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ
ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ
ضَعْفًا } (4) ، فقال : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ
مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا } ، ثم قال
: قرأتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قرأت علي ، فأخذ علي كما أخذتُ
عليك.
ورواه أبو داود والترمذي - وحَسَّنه - من حديث فضيل ، به (5). ورواه أبو داود من
حديث عبد الله بن جابر ، عن عطية ، عن أبي سعيد ، بنحوه (6).
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في ت ، ف ، أ : "فيتكهل".
(3) في ت : "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(4) في أ : "ضعفا وشيبة".
(5) المسند (2/58) وسنن أبي داود برقم (3978) وسنن الترمذي برقم (2936).
(6) سنن أبي داود برقم (3979).
(6/327)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
{ وَيَوْمَ
تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ
كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ لَقَدْ
لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ
وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ
ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) }
يخبر تعالى عن جهل الكفار في الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا فعلوا ما فعلوا من عبادة
الأوثان ، وفي الآخرة يكون منهم جهل عظيم أيضا ، فمنه إقسامهم بالله أنهم ما لبثوا
في الدنيا إلا ساعة واحدة ، ومقصودهم هم بذلك عدم قيام الحجة عليهم ، وأنهم لم
يُنْظَروا حتى يُعذَر إليهم. قال الله تعالى : { كَذَلِكَ كَانٌوا يُؤْفَكُون.
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ
اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ } أي : فيرد عليهم المؤمنون العلماء في الآخرة ،
كما أقاموا عليهم حجة الله في الدنيا ، فيقولون لهم حين يحلفون ما لبثوا غير ساعة
: { لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ } أي : في كتاب الأعمال ، { إِلَى
يَوْمِ الْبَعْثِ } أي : من يوم خلقتم إلى أن بعثتم ، { وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ }.
قال الله تعالى : { فَيَوْمَئِذٍ } أي : يوم القيامة ، { لا يَنْفَعُ الَّذِينَ
ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ } أي : [لا ينفعهم] (1) اعتذارهم عما فعلوا ، { وَلا هُمْ
يُسْتَعْتَبُونَ } أي : ولا هم يرجعون إلى الدنيا ، كما قال تعالى : { وَإِنْ
يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ } [فصلت : 24].
{ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ
جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا
مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ
الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60) }
يقول تعالى : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ
مَثَلٍ } أي : قد بينا لهم الحق ، ووضحناه لهم ، وضربنا لهم فيه الأمثال ليتبينوا
الحق ويتبعوه. { وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ } أي : لو رأوا أي آية كانت ، سواء كانت باقتراحهم
أو غيره ، لا يؤمنون بها ، ويعتقدون أنها سحر وباطل ، كما قالوا في انشقاق القمر
ونحوه ، كما قال [الله] (2) تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا
الْعَذَابَ الألِيمَ } [يونس : 96 ، 97] ؛ ولهذا قال هاهنا : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ
اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ
حَقٌّ } أي : اصبر على مخالفتهم وعنادهم ، فإن الله تعالى منجز لك ما وعدك من نصره
إياك ، وجعله العاقبة لك ولمن اتبعك في الدنيا والآخرة ، { وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ
الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ } أي : بل اثبت على ما بعثك الله به ، فإنه الحق الذي لا
مرية فيه ، ولا تعدل عنه وليس فيما سواه هُدَى يتبع ، بل الحق كله منحصر فيه.
قال سعيد عن قتادة : نادى رجل من الخوارج عليا ، رضي الله عنه ، وهو في الصلاة -
صلاة
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(6/328)
الغداة -
فقال : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ
أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الزمر :
65] ، فأنصت له علي حتى فهم ما قال ، فأجابه وهو في الصلاة : { فَاصْبِرْ إِنَّ
وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ }. رواه ابن
جرير ، وابن أبي حاتم. وقد رواه ابن جرير من وجه آخر فقال :
حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن شَرِيك ، عن عثمان بن أبي زُرْعَة ، عن
علي بن ربيعة قال : نادى رجل من الخوارج عليا وهو في صلاة الفجر ، فقال : {
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } ، فأجابه علي وهو في
الصلاة : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ
لا يُوقِنُونَ } (1).
طريق أخرى : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن الجَعْد ، أخبرنا شريك ،
عن عمران بن ظَبْيان ، عن أبي تحيا قال : صلى علي (2) رضي الله عنه ، صلاة الفجر ،
فناداه رجل من الخوارج : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ
وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } ، فأجابه علي (3) ، وهو في الصلاة : {
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا
يُوقِنُونَ }.
[ما روي في فضل هذه السورة الشريفة ، واستحباب قراءتها في الفجر] (4) :
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن عبد الملك بن عمير ، سمعت
شبيب - أبا روح - يحدِّث عن رجل (5) من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح ، فقرأ فيها الرّوم فأوهم ، فقال :
"إنه يلبس علينا القرآن ، فإن أقواما منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء ، فمن
شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء" (6).
وهذا إسناد حسن ومتن حسن (7) وفيه سر عجيب ، ونبأ غريب ، وهو أنه ، عليه السلام
(8) تأثر بنقصان وضوء من ائتم به ، فدل ذلك أن صلاة المأموم متعلقة (9) بصلاة
الإمام.
[آخر تفسير سورة "الروم"] (10). _
__________
(1) تفسير الطبري (21/38).
(2) في ف ، أ : "علي بن أبي طالب".
(3) في ف ، أ : "علي بن أبي طالب".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ت : "وروى الإمام أحمد بإسناده عن رجل".
(6) المسند (3/471).
(7) في ت : "إسناده حسن ومتنه حسن".
(8) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(9) في هـ : "معدوقة".
(10) زيادة من ت.
(6/329)
الم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)
تفسير سورة
لقمان
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً
لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) }.
تقدم في أول سورة "البقرة" عامة الكلام على ما يتعلق بصدر هذه السورة ،
وهو أنه تعالى جعل هذا القرآن هدى وشفاء ورحمة للمحسنين ، وهم الذين أحسنوا العمل
في اتباع الشريعة ، فأقاموا الصلاة المفروضة بحدودها وأوقاتها ، وما يتبعها من
نوافل راتبة وغير راتبة ، وآتوا الزكاة المفروضة عليهم إلى مستحقيها ، ووصلوا
قراباتهم وأرحامهم ، وأيقنوا بالجزاء في الدار الآخرة ، فرغبوا إلى الله في ثواب
ذلك ، لم يراؤوا به ولا أرادوا جزاءً من الناس ولا شكورا ، فَمَنْ فعل ذلك كذلك
فهو من الذين قال الله تعالى : { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ } أي : على
بصيرة وبينة ومنهج واضح وجلي ، { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : في
الدنيا والآخرة.
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ
(6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ
يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) }.
لما ذكر تعالى حال السعداء ، وهم الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه ، كما
قال [الله] (1) تعالى : { اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا
مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ
تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ
يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }
[الزمر : 23] ، عطف بذكر حال الأشقياء ، الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله
، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب ، كما قال ابن مسعود
في قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } قال : هو -
والله - الغناء.
قال ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يزيد بن يونس
، عن أبي صخر ، عن أبي معاوية البجلي ، عن سعيد بن جبير ، عن أبي الصهباء البكري ،
أنه سمع عبد الله بن مسعود - وهو يسأل عن هذه الآية : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } - فقال عبد الله :
الغناء ، والله الذي لا إله إلا هو ، يرددها (2) ثلاث مرات (3).
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت : "فرددها".
(3) تفسير الطبري (21/39).
(6/330)
حدثنا عمرو
بن علي ، حدثنا صفوان بن عيسى ، أخبرنا حُمَيْد الخراط ، عن عمار ، عن سعيد بن
جبير ، عن أبي الصهباء : أنه سأل ابن مسعود عن قول الله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } قال : الغناء (1).
وكذا قال ابن عباس ، وجابر ، وعِكْرِمة ، وسعيد بن جُبَيْر ، ومجاهد ، ومكحول ،
وعمرو بن شعيب ، وعلي بن بَذيمة.
وقال الحسن البصري : أنزلت هذه الآية : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ
الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } في الغناء
والمزامير.
وقال قتادة : قوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ
لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } : والله لعله لا ينفق فيه مالا
ولكنْ شراؤه استحبابه ، بحسب المرء من الضلالة أن يختارَ حديثَ الباطل على حديث الحق
، وما يضر على ما ينفع.
وقيل : عنى بقوله : { يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } : اشتراء المغنيات من
الجواري.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحْمَسي : حدثنا وَكِيع ، عن خَلاد
الصفار ، عن عُبَيْد الله بن زَحْر ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم بن عبد الرحمن
(2) عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا يحل بيع المغنيات
ولا شراؤهن ، وأكل أثمانهن حرام ، وفيهن أنزل الله عز وجل عَلَيّ : { وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ }.
وهكذا رواه الترمذي وابن جرير ، من حديث عُبَيد الله بن زحر بنحوه (3) ، ثم قال
الترمذي : هذا حديث غريب. وضَعُفَ (4) علي بن يزيد المذكور.
قلت : علي ، وشيخه ، والراوي عنه ، كلهم ضعفاء. والله أعلم.
وقال الضحاك في قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ
} يعني : الشرك. وبه قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ؛ واختار ابن جرير أنه كل كلام
يصد عن آيات الله واتباع سبيله.
وقوله : { لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي : إنما يصنع هذا للتخالف للإسلام
وأهله.
وعلى قراءة فتح الياء ، تكون اللام لام العاقبة ، أو تعليلا للأمر القدري ، أي :
قُيضوا لذلك ليكونوا كذلك.
وقوله : { وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا } قال مجاهد : ويتخذ سبيل الله هزوا ، يستهزئ
بها.
وقال قتادة : يعني : ويتخذ آيات الله هزوا. وقول مجاهد أولى.
وقوله تعالى : { أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } أي : كما استهانوا بآيات الله
وسبيله ، أهينوا يوم القيامة في العذاب الدائم المستمر.
__________
(1) تفسير الطبري (21/39).
(2) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
(3) سنن الترمذي برقم (3195) وتفسير الطبري (21/40).
(4) في ت : "وفي إسناده"
(6/331)
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
ثم قال
تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ
يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا } أي : هذا المقبل على اللهو واللعب
والطرب ، إذا تليت عليه الآيات القرآنية ، ولى عنها وأعرض وأدبر وتَصَامّ وما به
من صَمَم ، كأنه ما يسمعها ؛ لأنه يتأذى بسماعها ، إذ لا انتفاع له بها ، ولا
أرَبَ له فيها ، { فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي : يوم القيامة يؤلمه ، كما
تألم بسماع كتاب الله وآياته.
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ
(8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) }.
هذا ذكر مآل الأبرار من السعداء في الدار الآخرة ، الذين آمنوا بالله وصَدّقوا
المرسلين ، وعملوا الأعمال الصالحة المتابعة (1) لشريعة الله { لَهُمْ جَنَّاتُ
النَّعِيمِ } أي : يتنعمون فيها بأنواع الملاذ والمسارّ ، من المآكل والمشارب ،
والملابس والمساكن ، والمراكب والنساء ، والنضرة والسماع الذي لم يخطر ببال أحد ،
وهم في ذلك مقيمون دائما فيها ، لا يظعنون ، ولا يبغون عنها حولا.
وقوله : { وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا } أي : هذا كائن لا محالة ؛ لأنه من وعد الله ،
والله لا يخلف الميعاد ؛ لأنه الكريم المنان ، الفعال لما يشاء ، القادر على كل
شيء ، { وَهُوَ الْعَزِيزُ } ، الذي قد قهر كل شيء ، ودان له كل شيء ، {
الْحَكِيمُ } ، في أقواله وأفعاله ، الذي جعل القرآن هدى للمؤمنين { قُلْ هُوَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ
وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } [فصلت : 44] ، { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا
هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا
خَسَارًا } [الإسراء : 82].
{ خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأرْضِ
رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزلْنَا
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا
خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ
الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) }.
يبين سبحانه بهذا قدرته العظيمة على خلق السموات والأرض ، وما فيهما وما بينهما ،
فقال : { خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ } ، قال الحسن وقتادة : ليس لها
عَمَد مرئية ولا غير مرئية.
وقال ابن عباس ، وَعكْرِمة ، ومجاهد : لها عمد لا ترونها. وقد تقدم تقرير هذه
المسألة في أول سورة "الرعد" بما أغنى (2) عن إعادته.
{ وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ } يعني : الجبال أرست الأرض وثقلتها لئلا تضطرب
بأهلها على وجه الماء ؛ ولهذا قال : { أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ } أي : لئلا تميد بكم.
وقوله : { وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ } أي : وذرأ فيها من أصناف الحيوانات
مما لا يعلم عدد أشكالها
__________
(1) في ف : "التابعة" وفي أ "المتتابعة".
(2) في ت : "بما يغني".
(6/332)
وألوانها
إلا الذي خلقها.
ولما قرر أنه الخالق نبه على أنه الرازق بقوله تعالى { وَأَنزلْنَا مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } أي : من كل
زوج من النبات كريم ، أي : حسن المنظر.
وقال الشعبي : والناس - أيضًا - من نبات الأرض ، فَمَنْ دخل الجنة فهو كريم ،
ومَنْ دخل النار فهو لئيم.
وقوله : { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ } أي : هذا الذي ذكره تعالى من خلق السموات ،
والأرض وما بينهما ، صادر عن فعل الله وخلقه وتقديره ، وحده لا شريك له في ذلك ؛
ولهذا قال : { فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } أي : مما تعبدون
وتدعون من الأصنام والأنداد ، { بَلِ الظَّالِمُونَ } يعني : المشركين بالله
العابدين معه غيره { فِي ضَلالٍ } أي : جهل وعمى ، { مُبِينٍ } أي : واضح ظاهر لا
خفاء به.
(6/333)
وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
{ وَلَقَدْ
آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا
يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) }.
اختلف السلف في لقمان ، عليه السلام : هل كان نبيًا ، أو عبدًا صالحا من غير نبوة
؟ على قولين ، الأكثرون على الثاني.
وقال سفيان الثوري ، عن الأشعث ، عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس قال : كان لقمان
عبدًا حبشيًا نجارًا.
وقال قتادة ، عن عبد الله بن الزبير ، قلت لجابر بن عبد الله : ما انتهى إليكم من
شأن لقمان ؟ قال : كان قصيرًا أفطس من النوبة.
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن سعيد بن المسيب قال : كان لقمان من سودان مصر ،
ذا مشافر ، أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة.
وقال الأوزاعي : رحمه الله ، حدثني عبد الرحمن بن حَرْمَلة قال : جاء رجل أسود إلى
سعيد بن المسيب يسأله ، فقال له سعيد بن المسيب : لا تحزن من أجل أنك أسود ، فإنه
كان من أخير الناس ثلاثة من السودان : بلال ، ومهْجَع مولى عمر بن الخطاب ، ولقمان
الحكيم ، كان أسود نوبيًا ذا مشافر (1).
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبي ، عن أبي الأشهب (2) ، عن خالد
الرَّبَعِيّ قال : كان لقمان عبدًا حبشيا نجارا ، فقال له مولاه : اذبح لنا هذه
الشاة. فذبحها ، فقال : أخْرجْ أطيب مُضغتين فيها. فأخرج اللسان والقلب ، فمكث ما
شاء الله ثم قال : اذبح لنا هذه الشاة. فذبحها ، فقال : أخرج أخبث مضغتين فيها.
فأخرج اللسان والقلب ، فقال له مولاه : أمرتك أن تخرج أطيب
__________
(1) تفسير الطبري (21/43).
(2) في أ : "الأشعث".
(6/333)
مضغتين فيها
فأخرجتهما ، وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها فأخرجتهما. فقال لقمان : إنه ليس من
شيء أطيب منهما إذا طابا ، ولا أخبث منهما إذا خَبُثا (1).
وقال شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد : كان لقمان عبدًا صالحًا ، ولم يكن نبيا.
وقال الأعمش : قال مجاهد : كان لقمان عبدا أسود عظيم الشفتين ، مشقق القدمين.
وقال حَكَّام بن سَلْم ، عن سعيد الزبيدي ، عن مجاهد : كان لقمان الحكيم عبدا
حبشيا غليظ الشفتين ، مُصَفح القدمين ، قاضيا على بني إسرائيل.
وذكر غيره : أنه كان قاضيا على بني إسرائيل في زمن (2) داود ، عليه السلام.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حُمَيد ، حدثنا الحكم ، حدثنا عمرو بن قيس قال : كان
لقمان ، عليه السلام ، عبدًا أسود غليظ الشفتين ، مُصَفَّح القدمين ، فأتاه رجل
وهو في مجلس أناس يحدثهم ، فقال له : ألست الذي كنت ترعى معي الغنم في مكان كذا
وكذا ، قال : نعم. فقال : فما بلغ بك ما أرى ؟ قال : صدق الحديث ، والصمت عما لا
يعنيني (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثنا (4)
عبد الرحمن بن يزيد (5) عن جابر قال : إن الله رفع لقمان الحكيم بحكمته ، فرآه رجل
كان يعرفه قبل ذلك ، فقال له : ألست عبد بني فلان الذي كنت ترعى بالأمس ؟ قال :
بلى. قال : فما بلغ بك ما أرى ؟ قال : قَدَرُ الله ، وأداء الأمانة ، وصدق الحديث
، وتركي ما لا يعنيني.
فهذه الآثار منها ما هو مُصرَّح فيه بنفي كونه نبيا ، ومنها ما هو مشعر بذلك ؛ لأن
كونه عبدًا قد مَسَّه الرق ينافي كونه نبيا ؛ لأن الرسل كانت تبعث في أحساب قومها
؛ ولهذا كان جمهور السلف على أنه لم يكن نبيا ، وإنما ينقل كونه نبيا عن عكرمة -
إن صح السند إليه ، فإنه رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم من حديث وَكِيع (6) عن
إسرائيل ، عن جابر ، عن عكرمة فقال : كان لقمان نبيًا. وجابر هذا هو ابن يزيد
الجعفي ، وهو ضعيف ، والله (7) أعلم.
وقال عبد الله بن وهب : أخبرني عبد الله بن عياش القتْبَاني ، عن عُمَر مولى
غُفرَة قال : وقف رجل على لقمان الحكيم فقال : أنت لقمان ، أنت عبد بني الحسحاس ؟
قال : نعم. قال : أنت راعي الغنم ؟ قال : نعم. قال : أنت الأسود ؟ قال : أما سوادي
فظاهر ، فما الذي يعجبك من أمري ؟ قال : وَطءْ الناس بسَاطك ، وغَشْيُهم بابك ،
ورضاهم بقولك. قال : يا بن أخي (8) إن صَغَيتَ (9) إلى ما أقول لك كنت كذلك. قال
لقمان : غضي بصري ، وكفي لساني ، وعفة طعمتي ، وحفظي فرجي ، وقولي بصدق ، ووفائي
بعهدي ، وتكرمتي ضيفي ، وحفظي جاري ، وتركي ما لا يعنيني ، فذاك الذي صيرني إلى ما
(10) ترى.
__________
(1) تفسير الطبري (21/43).
(2) في أ : "زمان".
(3) تفسير الطبري (21/44).
(4) في أ : "بن".
(5) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بسنده".
(6) في ت : "عن وكيع".
(7) في ت : "فالله".
(8) في ف ، أ : "أبي".
(9) في ف ، أ : "إن صنعت".
(10) في ت ، ف ، أ : "كما".
(6/334)
وقال ابن
أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نُفَيل ، حدثنا عمرو بن واقد ، عن عَبْدَةَ بن
رَبَاح ، عن ربيعة ، عن (1) أبي الدرداء ، رضي الله عنه ، أنه قال يومًا - وذُكرَ
لقمان الحكيم - فقال : ما أوتي ما أوتي عن أهل ولا مال ، ولا حسب ولا خصال ، ولكنه
كان رجلا صَمْصَامة سكيتا ، طويل التفكر ، عميق النظر ، لم ينم نهارًا قط ، ولم
يره أحد قط يبزق ولا يتنخَّع ، ولا يبول ولا يتغوط ، ولا يغتسل ، ولا يعبث ولا
يضحك ، وكان لا يعيد منطقًا نطقه إلا أن يقول حكمة يستعيدها إياه أحد ، وكان قد
تزوج وولد له أولاد ، فماتوا فلم يبك عليهم. وكان يغشى السلطان ، ويأتي الحكام ،
لينظر ويتفكر ويعتبر (2) ، فبذلك أوتي ما أوتي.
وقد ورد أثر غريب عن قتادة ، رواه ابن أبي حاتم ، فقال :
حدثنا أبي ، حدثنا العباس بن الوليد ، حدثنا زيد بن يحيى بن عبيد الخزاعي ، حدثنا
سعيد بن بشير ، عن قتادة قال : خَيّر الله لقمان الحكيم بين النبوة والحكمة ،
فاختار الحكمة على النبوة. قال : فأتاه جبريل وهو نائم فَذرَّ عليه الحكمة - أو :
رش عليه الحكمة - قال : فأصبح ينطق بها.
قال سعيد : فسمعت عن قتادة يقول : قيل للقمان : كيف اخترت الحكمة على النبوة وقد
خَيَّرك ربك ؟ فقال : إنه لو أرسل إليَّ بالنبوة عَزْمَة لرجوت فيه الفوز منه ،
ولكنت أرجو أن أقوم بها ، ولكنه خَيّرني فخفت أن أضعف عن النبوة ، فكانت الحكمة
أحب إليَّ.
فهذا من رواية سعيد بن بشير ، وفيه ضعف قد تكلموا فيه بسببه ، فالله أعلم.
والذي رواه سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، في قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا
لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ } أي : الفقه في الإسلام ، ولم يكن نبيًا ، ولم يوح إليه.
وقوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ } أي : الفهم والعلم والتعبير
، { أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ } أي : أمرناه أن يشكر الله ، عز وجل ، على ما أتاه الله
ومنحه ووهبه من الفضل ، الذي خصَّه (3) به عمن سواه من أبناء جنسه وأهل زمانه.
ثم قال تعالى : { وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } أي : إنما
يعود نفع ذلك وثوابه على الشاكرين (4) لقوله (5) تعالى : { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا
فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } [الروم : 44].
وقوله : { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي : غني عن العباد ،
لا يتضرر بذلك ، ولو كفر أهل الأرض كلهم جميعًا ، فإنه الغني عمن سواه ؛ فلا إله
إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه.
__________
(1) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بسنده إلى".
(2) في ت : "ويعتب".
(3) في أ : "خصصه".
(4) في ت ، ف : "الشاكر".
(5) في ف : "كقوله".
(6/335)
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
{ وَإِذْ
قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ
إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ
لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ
تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي
الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ
مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) }.
يقول تعالى مخبرًا عن وصية لقمان لولده - وهو : لقمان بن عنقاء بن سدون. واسم ابنه
: ثاران في قول حكاه السهيلي. وقد ذكره [الله] (1) تعالى بأحسن الذكر ، فإنه آتاه
الحكمة ، وهو يوصي ولده الذي هو أشفق الناس عليه وأحبهم إليه ، فهو حقيق أن يمنحه
أفضل ما يعرف ؛ ولهذا أوصاه أولا بأن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئًا ، ثم قال
محذرًا له : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } أي : هو أعظم الظلم.
قال البخاري حدثنا قتيبة ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة (2) ،
عن عبد الله ، رضي الله عنه ، قال : لما نزلت : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } [الأنعام : 82] ، شق ذلك على أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : أينا لم يَلْبس إيمانه بظلم ؟ فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "إنه ليس بذاك ، ألا (3) تسمع إلى قول لقمان : { يَا
بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }.
ورواه مسلم من حديث الأعمش ، به (4).
ثم قَرَنَ بوصيته إياه بعبادة الله وحده البر بالوالدين. كما قال تعالى : {
وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا }
[الإسراء : 23]. وكثيرا ما يقرن تعالى بين ذلك في القرآن.
وقال هاهنا { وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا
عَلَى وَهْنٍ }. قال مجاهد : مشقة وَهْن الولد.
وقال قتادة : جهدًا على جهد.
وقال عطاء الخراساني : ضعفا على ضعف.
وقوله : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } أي : تربيته وإرضاعه بعد وضعه في عامين ،
كما قال تعالى : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ
كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [البقرة : 233].
ومن هاهنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ؛ لأنه قال
تعالى في الآية الأخرى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا } [الأحقاف :
15].
وإنما يذكر تعالى تربيةَ الوالدة وتعبها ومشقتها في سهرها ليلا ونهارًا ، ليُذكّر
الولد بإحسانها المتقدم إليه ، كما قال تعالى : { وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا
رَبَّيَانِي صَغِيرًا } [الإسراء : 24] ؛ ولهذا قال : { أَنِ اشْكُرْ لِي
وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } أي : فإني سأجزيك (5) على ذلك أوفر الجزاء.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا عبد الله بن أبي شيبة ، ومحمود بن
غَيْلان قالا حدثنا عبيد الله ، أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق (6) عن سعيد بن وهب
قال : قدم علينا معاذ بن جبل ، وكان بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقام فحمد
الله وأثنى عليه ثم قال : إني [رسول] (7) رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم : أن
تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا ، وأن تطيعوني لا آلوكم خيرًا ، وأن المصير إلى
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت : "روى البخاري بسنده".
(3) في أ : "ألم".
(4) صحيح البخاري برقم (4776) وصحيح مسلم برقم (124).
(5) في أ : "سأجازيك".
(6) في ت : "روى ابن أبي حاتم بسنده".
(7) زيادة من ت ، أ.
(6/336)
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
الله ، وإلى
الجنة أو إلى النار ، إقامة فلا ظعن ، وخلود فلا موت.
وقوله : { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
فَلا تُطِعْهُمَا } أي : إن حَرَصَا عليك كل الحرص على أن تتابعهما (1) على دينهما
، فلا تقبل منهما ذلك ، ولا يمنعنَّك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفا ، أي :
محسنًا إليهما ، { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } يعني : المؤمنين ، {
ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }.
قال الطبراني في كتاب العشرة : حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل ،
حدثنا أحمد بن أيوب بن راشد ، حدثنا مسلمة بن علقمة ، عن داود بن أبي هند [عن أبي
عثمان النهدي] (2) : أن سعد بن مالك قال : أنزلت فيَّ هذه الآية : { وَإِنْ
جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا
} الآية ، وقال : كنت رجلا برًا بأمي ، فلما أسلمت قالت : يا سعد ، ما هذا الذي
أراك قد أحدثت ؟ لَتَدَعَنّ دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت ، فَتُعَيَّر بي
، فيقال : "يا قاتل أمه". فقلت : لا تفعلي يا أمَه ، فإني لا أدع ديني
هذا لشيء. فمكثتْ يومًا وليلة لم تأكل فأصبحت قد جهدت ، فمكثتْ يومًا [آخر] (3)
وليلة أخرى لا تأكل ، فأصبحتْ قد اشتد جهدها ، فلما رأيت ذلك قلت : يا أمه ،
تعلمين والله لو كانت لكِ مائة نفس فخَرجت نَفْسا نَفْسًا ، ما تركت ديني هذا لشيء
، فإن شئت فكلي ، وإن شئت لا تأكلي. فأكلتْ (4).
{ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي
صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ
اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ
بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ
ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ
فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ
لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) }.
هذه وصايا نافعة قد حكاها الله تعالى عن لقمان الحكيم ؛ ليمتثلها الناس ويقتدوا
بها ، فقال : { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ }
أي : إن المظلمة أو الخطيئة لو كانت مثقال حبة [من] (5) خردل. وجوز بعضهم أن يكون
الضمير في قوله : { إِنَّهَا } ضمير الشأن والقصة. وجوز على هذا رفع { مِثْقَالَ }
والأول أولى.
وقوله : { يَأْتِ بِهَا اللَّهُ } أي : أحضرها الله يوم القيامة حين يضع الموازين
القسط ، وجازى عليها إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر. كما قال تعالى : { وَنَضَعُ
الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا
وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا
حَاسِبِينَ } [الأنبياء : 47] ، وقال تعالى : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [الزلزلة : 7
، 8 ]
__________
(1) في أ : "تبايعهما".
(2) زيادة من أسد الغابة ، والدر المنثور.
(3) زيادة من ت ، ف.
(4) وذكره ابن الأثير في أسد الغابة (2/216) عن داود بن أبي هند.
(5) زيادة من ت ، أ.
(6/337)
، ولو كانت
تلك الذرة محصنة محجبة في داخل صخرة صَمَّاء ، أو غائبة ذاهبة في أرجاء السموات أو
الأرض (1) فإن الله يأتي بها ؛ لأنه لا تخفى عليه خافية ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة
في السموات ولا في الأرض ؛ ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } أي :
لطيف العلم ، فلا تخفى عليه الأشياء وإن دَقت ولطفت وتضاءلت { خَبِيرٌ } بدبيب
النمل في الليل البهيم.
وقد زعم بعضهم أن المراد بقوله : { فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ } أنها صخرة تحت الأرضين
(2) السبع ، ذكره السُّدِّي بإسناده ذلك المطروق عن ابن عباس وابن مسعود وجماعة من
الصحابة إن صح ذلك ، ويروى هذا عن عطية العوفي ، وأبي مالك ، والثوري ، والمِنهال
بن عمرو ، وغيرهم. وهذا والله أعلم ، كأنه متلقى من الإسرائيليات التي لا تصدق ،
ولا تكذب ، والظاهر - والله أعلم - أن المراد : أن هذه الحبة في حقارتها لو كانت
داخل صخرة ، فإن الله سيبديها ويظهرها بلطيف علمه ، كما قال (3) الإمام أحمد :
حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا دَراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي
سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو أن
أحدكم يعمل في صخرة صَمَّاء ، ليس لها باب ولا كوَّة ، لخرج عمله للناس كائنًا ما
كان" (4).
ثم قال : { يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ } أي : بحدودها وفروضها وأوقاتها ، {
وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ } أي : بحسب طاقتك وجهدك ، {
وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } ، علم أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ، لا
بد أن يناله من الناس أذى ، فأمره بالصبر.
وقوله : { إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ } أي : إن الصبر على أذى الناس لمن
عزم الأمور.
وقوله : { وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } يقول : لا تُعرِضْ بوجهك عن الناس
إذا كلمتهم أو كلموك ، احتقارًا منك لهم ، واستكبارًا عليهم ولكن ألِنْ جانبك ،
وابسط وجهك إليهم ، كما جاء في الحديث : "ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه
مُنْبَسِط ، وإياك وإسبال الإزار فإنها من المِخيلَة ، والمخيلة لا يحبها
الله".
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ
} يقول : لا تتكبر فتحقِرَ (5) عبادَ الله ، وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك. وكذا روى
العوفي وعكرمة عنه.
وقال مالك ، عن زيد بن أسلم : { وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } : لا تكَلَّم
وأنت معرض. وكذا رُوي عن مجاهد ، وعِكْرِمة ، ويزيد بن الأصم ، وأبي الجوزاء ،
وسعيد بن جُبَيْر ، والضحاك ، وابن يزيد ، وغيرهم.
وقال إبراهيم النَّخعِي : يعني بذلك : التشديق في الكلام.
__________
(1) في ف : "والأرض".
(2) في ف ، أ : "الأرض".
(3) في ت : "كما روى".
(4) المسند (3/28) وحسنه الهيثمي في المجمع (10/225) وفيه ابن لهيعة عن دراج وهما
ضعيفان.
(5) في ت ، أ : "فتحتقر".
(6/338)
والصواب
القول الأول.
قال ابن جرير : وأصل الصَّعَر : داء يأخذ الإبل في أعناقها أو رؤوسها ، حتى
تُلفَتَ (1) أعناقُها عن رؤوسها ، فشبه به الرجل المتكبر ، ومنه قول عمرو بن حُني
التَّغْلبي :
وَكُنَّا إذَا الجَبَّارُ صَعّر خَدّه... أقَمْنَا لَه مِنْ مَيْلِه فَتَقَوّمَا
(2)
وقال أبو طالب في شعره :
وَكُنَّا قَديمًا لا نقرُّ ظُلامَة... إذا ما ثَنوا صُعْر الرؤوس نُقِيمها (3)
وقوله : { وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا } أي : جذلا متكبرًا جبارًا عنيدًا ،
لا تفعل ذلك يبغضك الله ؛ ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ
فَخُورٍ } أي : مختال معجب في نفسه ، فخور : أي على غيره ، وقال تعالى : (4) {
وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ
الْجِبَالَ طُولا } [الإسراء : 37] ، وقد تقدم الكلام على ذلك في موضعه.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا محمد
بن عمران بن أبي ليلى ، حدثنا أبي ، عن ابن أبي ليلى ، عن عيسى ، عن عبد الرحمن بن
أبي ليلى (5) عن ثابت بن قيس بن شَمَّاس قال : ذكر الكبر عند رسول الله صلى الله
عليه وسلم فشدد فيه ، فقال : "إن الله لا يحب كل مختال فخور". فقال رجل
من القوم : والله يا رسول الله إني لأغسل ثيابي فيعجبني بياضها ، ويعجبني شِراك
نعلي ، وعِلاقة سَوْطي ، فقال : "ليس ذلك الكبر ، إنما الكبر أن تَسْفه الحق
وتَغْمِط (6) الناس" (7).
ورواه من طريق أخرى بمثله ، وفيه قصة طويلة ، ومقتل ثابت ووصيته بعد موته (8).
وقوله : { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ } أي : امش مشيًا مقتصدا ليس بالبطيء المتثبط ،
ولا بالسريع المفرط ، بل عدلا وسطًا بين بين.
وقوله : { وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ } أي : لا تبالغ في الكلام ، ولا ترفع صوتك
فيما لا فائدة فيه ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ
الْحَمِيرِ } قال مجاهد وغير واحد : إن أقبح الأصوات لصوت الحمير ، أي : غاية مَنْ
رفع صوته أنه يُشَبه بالحمير في علوه ورفعه ، ومع هذا هو بغيض إلى الله تعالى.
وهذا التشبيه في هذا بالحمير يقتضي تحريمه وذمه غاية الذم ؛ لأن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : "ليس لنا مثل السوء ، العائد في هبته كالكلب يقيء ثم
يعود في قيئه".
وقال النسائي عند تفسير هذه الآية : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا الليث ، عن جعفر
بن ربيعة ، عن الأعرج ، (9) عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم [أنه]
(10) قال : "إذا سمعتم صياح الديكة
__________
(1) في ت : "تلتفت" وفي أ : "بلغت".
(2) البيت في مجاز القرآن لأبي عبيدة (2/127).
(3) البيت في السيرة النبوية لابن هشام (1/269).
(4) في أ : "وقد قال الله تعالى".
(5) في ت : "وروى الطبراني بإسناده".
(6) في ت ، ف : "تغمص".
(7) المعجم الكبير (2/69) وفيه انقطاع بين ابن أبي ليلى وثابت.
(8) المعجم الكبير (2/70) من طريق عبد الرحمن بن يزيد ، عن عطاء ، عن بنت ثابت
بقصة أبيها ، وقال الهيثمي في المجمع (9/322) : "وبنت ثابت بن قيس لم أعرفها
، وبقية رجاله رجال الصحيح".
(9) في ت : "وروى النسائي عند تفسير هذه الآية بإسناده".
(10) زيادة من أ.
(6/339)
فاسألوا
الله من فضله ، وإذا سمعتم نهيق الحمير (1) فتعوذوا بالله من الشيطان ، فإنها رأت
شيطانًا".
وقد أخرجه بقية الجماعة سوى ابن ماجه ، من طرق ، عن جعفر بن ربيعة به ، (2) وفي
بعض الألفاظ : "بالليل" ، فالله أعلم.
فهذه وصايا نافعة جدًا ، وهي من قَصص القرآن العظيم عن لقمان الحكيم. وقد روي عنه
من الحكم والمواعظ أشياء كثيرة ، فلنذكر منها أنموذجًا ودستورًا إلى ذلك.
قال الإمام أحمد : حدثنا ابن إسحاق ، أخبرنا ابن المبارك ، أخبرنا سفيان ، أخبرني
نَهْشَل بن مُجَمِّع الضبي عن قزعة ، عن ابن عمر (3) رضي الله عنه (4) قال :
أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن لقمان الحكيم كان يقول : إن
الله إذا استودع شيئا حفظه" (5).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن الأوزاعي ،
عن موسى بن سليمان ، عن القاسم [بن مُخَيْمِرة يحدث عن أبي موسى الأشعري] (6) أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال لقمان لابنه وهو يعظه : يا بني ،
إياك والتقنع فإنه مخوفة بالليل ، مذمة بالنهار" (7).
وقال : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن عثمان ، عن ضَمْرَة ، حدثنا السَّريّ بن يحيى
(8) قال : قال لقمان لابنه : يا بني ، إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك.
وقال : حدثنا أبي ، حدثنا عبدة بن سليمان ، أخبرنا ابن المبارك ، حدثنا عبد الرحمن
المسعودي (9) ، عن عَوْن بن عبد الله قال : قال لقمان لابنه : يا بني ، إذا أتيت
نادي قوم فارمهم بسهم الإسلام - يعني السلام - ثم اجلس في ناحيتهم ، فلا تنطق حتى
تراهم قد نطقوا ، فإن أفاضوا في ذكر الله فَأجِلْ سهمك معهم ، وإن أفاضوا في غير
ذلك فتحول عنهم إلى غيرهم.
وحدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار ، حدثنا ضمرة (10) ،
عن حفص بن عمر ، رضي الله عنه ، قال : وضع لقمان جرابًا من خردل إلى جانبه ، وجعل
يعظ ابنه وعظة ويخرج خردلة ، حتى نفذ الخردل ، فقال : يا بني ، لقد وعظتك موعظة لو
وُعِظَها جبل لتفطر. قال : فتفطر ابنه.
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا يحيى بن عبد الباقي المِصِّيصي ، حدثنا أحمد بن
عبد الرحمن الحراني ، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي ، حدثنا أبين (11) بن
سفيان المقدسي ، عن خليفة بن سلام ، عن عطاء بن أبي رباح (12) ، عن ابن عباس قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اتخذوا
__________
(1) في ت : "الحمار".
(2) النسائي في السنن الكبرى (11391) وصحيح البخاري برقم (3301) وصحيح مسلم برقم
(2779) وسنن أبي داود برقم (5102) وسنن الترمذي برقم (3459).
(3) في ت : "فروى الإمام أحمد بإسناده".
(4) في ت ، ف : "عنهما".
(5) المسند (2/87).
(6) زيادة من أ ، والمستدرك.
(7) ورواه الحاكم في المستدرك (2/411) وقال : "هذا متن شاهده إسناد
صحيح" وأقره الذهبي.
(8) في ت : "وروى أيضا بإسناده عن السري بن يحيى".
(9) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن القاسم بن مخيمرة".
(10) في ت : "وروى أيضا".
(11) في ت ، أ ، ف ، هـ : "أنس" والتصويب من المعجم الكبير وكتب الرجال.
(12) في ت : "وروى الطبراني بسنده".
(6/340)
السودان فإن
ثلاثة منهم من سادات أهل الجنة : لقمان الحكيم ، والنجاشي ، وبلال المؤذن"
(1).
قال أبو القاسم الطبراني : أراد الحبش.
فصل في الخمول والتواضع : وذلك متعلق بوصية لقمان ، عليه السلام ، لابنه ، وقد جمع
في ذلك الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا كتابًا مفردًا [و] (2) نحن ، نذكر منه مقاصده
، قال : حدثنا إبراهيم بن المنذر ، حدثنا عبد الله بن موسى المدني ، عن أسامة بن
زيد ، عن حفص بن عبيد الله بن أنس بن مالك : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول : "رُبَّ أشعثَ ذي طِمْرَين يُصْفَح عن أبواب الناس ، إذا (3) أقسم على
الله لأبره" (4).
ثم رواه من حديث جعفر بن سليمان ، عن ثابت وعلي بن زيد ، عن أنس ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم فذكره ، وزاد ، منهم البراء بن مالك (5).
[وروي أيضا عن أنس ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"طوبى للأتقياء الأثرياء الذين إذا حضروا لم يعرفوا ، وإذا غابوا لم يفتقدوا
، أولئك مصابيح مجردون من كل فتنة غبراء مشينة"] (6). وقال أبو بكر بن سهل
التميمي : حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا نافع بن يزيد ، عن عياش بن عباس ، عن عيسى
بن عبد الرحمن ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عمر ، رضي الله عنه ، أنه دخل
المسجد فإذا هو بمعاذ بن جبل يبكي عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له
: ما يبكيك يا معاذ ؟ قال : حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سمعته
يقول : "إن اليسير من الرياء شرك ، وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء الأثرياء
، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا ، وإذا حضروا لم يعرفوا ، قلوبهم مصابيح الهدى ،
ينجون من كل غبراء مظلمة" (7).
حدثنا الوليد بن شجاع ، حدثنا عَثَّام بن علي ، عن حميد بن عطاء الأعرج ، عن عبد
الله بن الحارث ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : "رُبَّ ذي طمرين لا يُؤبَه له ، لو أقسم على الله لأبره ، لو قال
: اللهم إني أسألك الجنة لأعطاه الجنة ، ولم يعطه من الدنيا شيئا" (8).
وقال أيضا : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن سالم بن
أبي الجعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن من أمتي مَنْ لو أتى
باب أحدكم يسأله دينارًا أو درهما أو
__________
(1) المعجم الكبير (11/198) وقال الهيثمي في المجمع (4/235) : "فيه أبين بن
سفيان وهو ضعيف".
(2) زيادة من ت ، ف.
(3) في ت ، ف : "لو".
(4) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (5054) "مجمع البحرين" قال :
"حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني ، حدثنا إبراهيم بن المنذر ، فذكر مثله - ثم
قال - لم يروه عن حفص إلا أسامة" ، وله شاهد في صحيح مسلم برقم (2622) من
حديث أبي هريرة رضي الله عنه. تنبيه : سقط هذا الحديث من مخطوطة التواضع والخمول
لابن أبي الدنيا ، وكذا الرواية بعده.
(5) ورواه الترمذي في السنن برقم (3854) من طريق سيار عن جعفر بن سليمان به ، وقال
: "هذا حديث حسن صحيح من هذا الوجه".
(6) زيادة من ت ، أ.
(7) التواضع والخمول لابن أبي الدنيا برقم (8).
(8) سقط الحديث من مخطوطة التواضع والخمول ، ورواه الديلمي في مسند الفردوس برقم
(3246) من طريق ابن أبي الدنيا.
(6/341)
فلسًا لم
يعطه ، ولو سأل الله الجنة لأعطاه إياها ، ولو سأله (1) الدنيا لم يعطه إياها ،
ولم يمنعها إياه لهوانه عليه ، ذو طمرين لا يؤبه له ، لو أقسم على الله
لأبره" (2).
وهذا مرسل من هذا الوجه.
وقال أيضا : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا جعفر بن سليمان ، حدثنا عَوْف قال :
قال أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن من ملوك الجنة
من هو أشعث أغبر ذو طمرين لا يُؤبَه له ، الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن
لهم ، وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا ، وإذا قالوا لم يُنصَت لهم ، حوائج أحدهم تتجلجل
في صدره ، لو قسم نوره يوم القيامة بين الناس لوسعهم" (3). قال : وأنشدني عمر
بن شَبَّةَ ، عن ابن عائشة قال : قال عبد الله بن المبارك :
ألا رُبّ ذي طمْرَين في مَنزل غَدًا... زَرَابِيه مَبْثُوثةً ونَمَارقُه...
قَد اطَّرَدَتْ أنهاره حَْوَل قَصْره... وَأشرَقَ والتفَّتْ عَلَيه حَدَائقُه (4)
وروي - أيضا - من حديث عُبَيد الله بن زَحْر ، عن علي بن زيد ، عن القاسم ، عن أبي
أمامة مرفوعا : "قال الله : من أغبط أوليائي عندي : مؤمن خفيف الحاذ ، ذو حظ
من صلاة ، أحسن عبادة ربه ، وأطاعه في السر ، وكان غامضا في الناس ، لا يشار إليه
بالأصابع. إن صبر على ذلك". قال : ثم نَقَد رسول الله بيده وقال :
"عُجّلت منيته ، وقل تراثه ، وقلت بواكيه" (5).
وعن عبد الله بن عمرو قال : أحب عباد الله (6) إلى الله الغرباء. قيل : ومَنْ
الغرباء ؟ قال : الفرارون بدينهم ، يجمعون يوم القيامة إلى عيسى بن مريم (7).
وقال الفضيل بن عياض : بلغني أن الله تعالى (8) يقول للعبد يوم القيامة : ألم أنعم
عليك ؟ ألم أعطك ؟ ألم أسترك ؟ ألم.. ؟ ألم.. ؟ ألم أخمل ذكرك ؟ ثم قال الفضيل :
إن استطعت ألا تُعرَف فافعل ، وما عليك ألا يُثنى عليك ، وما عليك أن تكون مذموما
عند الناس محمودًا عند الله.
وكان ابن مُحَيْرِيز يقول : اللهم إني أسألك ذكرا خاملا.
وكان الخليل بن أحمد يقول : اللهم اجعلني عندك من أرفع خلقك ، واجعلني في نفسي من
أوضع خلقك ، وعند الناس من أوسط خلقك.
ثم قال (9) : باب ما جاء في الشهرة
حدثنا أحمد بن عيسى المصري ، حدثنا ابن وهب ، عن عمر بن الحارث وابن لَهِيعة ، عن
يزيد بن أبي حبيب ، عن سِنَان بن سعد ، عن أنس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال : "حسب امرئ من
__________
(1) في ت : "ولو سأل الله".
(2) التواضع والخمول لابن أبي الدنيا برقم (1) ، وهو مرسل.
(3) ورواه ابن أبي الدنيا في الأولياء برقم (9) عن الحسن مرسلا بنحوه ، وقد سقط
هذا الحديث من مخطوطة التواضع والخمول.
(4) التواضع والخمول لابن أبي الدنيا برقم (5).
(5) التواضع والخمول برقم (13) وقد قال ابن حبان : "إذا روى عبيد الله بن زحر
عن علي بن يزيد عن القاسم فهو مما عملته أيديهم".
(6) في أ : "أحب العباد".
(7) التواضع والخمول برقم (16).
(8) في ت ، أ : "عز وجل".
(9) أي ابن أبي الدنيا.
(6/342)
الشر - إلا
من عصم الله - أن يشير الناس إليه بالأصابع في دينه ودنياه ، وإن الله لا ينظر إلى
صوركم ولكن إلى قلوبكم وأعمالكم" (1).
وروي مثله عن إسحاق بن البهلول ، عن ابن أبي فُدَيْك ، عن محمد بن عبد الواحد
الأخْنَسِيّ ، عن عبد الواحد بن أبي كثير ، عن جابر بن عبد الله مرفوعا ، مثله
(2).
وروي عن الحسن مرسلا نحوه (3) ، فقيل للحسن : فإنه يشار إليك بالأصابع ؟ فقال :
إنما المراد من يشار إليه في دينه بالبدعة وفي دنياه بالفسق (4).
وعن علي ، رضي الله عنه ، قال : لا تبدأ لأن تشتهر ، ولا ترفع شخصك لتذكر ، وتعلم
واكتم ،
واصمت تسلم ، تَسُر الأبرار ، وتغيظ الفجار.
وقال إبراهيم بن أدهم ، رحمه الله : ما صدق الله من أحب الشهرة.
وقال أيوب : ما صدق الله عبده إلا سره ألا يشعر بمكانه.
وقال محمد بن العلاء : من أحب الله أحب ألا يعرفه الناس.
وقال سِمَاك بن سلمة : إياك وكثرة الأخلاء.
وقال أبَان بن عثمان : إن أحببت أن يسلم لك دينك فأقل من المعارف ؛ كان أبو
العالية إذا جلس إليه أكثر من ثلاثة نهض وتركهم.
وقال : حدثنا علي بن الجَعْد ، أخبرنا شعبة ، عن عَوْف ، عن أبي رَجَاء قال : رأى
طلحة قوما يمشون معه ، فقال : ذباب طمع ، وفراش النار.
وقال ابن إدريس ، عن هارون بن عنترة (5) ، عن سليم بن حنظلة قال : بينا نحن حول
أبي إذ علاه عمر بن الخطاب بالدرة وقال : إنها مذلة للتابع ، وفتنة للمتبوع.
وقال ابن عون ، عن الحسن : خرج ابن مسعود فاتبعه أناس ، فقال : والله لو تعلمون ما
أغلِقُ عليه بابي ، ما اتبعني منكم رجلان.
وقال حماد بن زيد : كنا إذا مررنا على المجلس ، ومعنا أيوب ، فسلم ، ردوا ردا
شديدا ، فكان ذلك يَغُمه.
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر : كان أيوب يطيل قميصه ، فقيل له في ذلك ، فقال : إن
الشهرة فيما مضى كانت في طول القميص ، واليوم في تشميره. واصطنع مرة نعلين على حذو
نعلي النبي صلى الله عليه وسلم ، فلبسهما أياما ثم خلعهما ، وقال : لم أر الناس
يلبسونهما.
وقال إبراهيم النَّخَعي : لا تلبس من الثياب ما يُشهر في الفقهاء ، ولا ما يزدريك
السفهاء.
وقال الثوري : كانوا يكرهون من الثياب الجياد ، التي يُشتَهر بها ، ويرفع الناس
إليه فيها أبصارهم. والثياب الرديئة التي يحتقر فيها ، ويستذل دينه.
__________
(1) التواضع والخمول برقم (30) وفيه سنان بن سعد ضعيف.
(2) التواضع والخمول برقم (31) وقال العراقي : "ليس معروفا من حديث جابر إنما
هو معروف من حديث أبي هريرة".
(3) التواضع والخمول برقم (32).
(4) التواضع والخمول برقم (33).
(5) في أ : "هارون بن أبي عشيرة".
(6/343)
وحدثنا خالد
بن خِدَاش : حدثنا حماد ، عن أبي حسنة - صاحب الزيادي - قال : كنا عند أبي قِلابة
إذ دخل عليه رجل عليه أكسية ، فقال : إياكم وهذا الحمار النهاق.
وقال الحسن ، رحمه الله : إن قوما جعلوا الكبر في قلوبهم ، والتواضع في ثيابهم ،
فصاحب الكساء بكسائه أعجب من صاحب المطرف بمطرفه (1) ، ما لهم تفاقدوا.
وفي بعض الأخبار أن موسى ، عليه السلام ، قال لبني إسرائيل : ما لكم تأتوني عليكم
ثياب الرهبان ، وقلوبكم قلوب الذئاب ، البسوا ثياب الملوك ، وألينوا قلوبكم
بالخشية.
فصل في حسن الخلق
قال أبو التياح : عن أنس ، رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من
أحسن الناس خلقا (2).
وعن عطاء ، عن ابن عمر : قيل : يا رسول الله ، أيّ المؤمنين أفضل ؟ قال :
"أحسنهم خلقا" (3).
وعن نوح بن عباد ، عن ثابت ، عن أنس مرفوعا : "إن العبد ليبلغ بحسن خلقه
درجات الآخرة وشرف المنازل ، وإنه لضعيف العبادة. وإنه ليبلغ بسوء خلقه دَرَك جهنم
وهو عابد" (4). وعن سِنَان بن هارون ، عن حميد ، عن أنس مرفوعا : "ذهب
حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة" (5). وعن عائشة مرفوعا : "إن العبد
ليبلغ بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار" (6).
وقال ابن أبي الدنيا : حدثني أبو مسلم عبد الرحمن بن يونس ، حدثنا عبد الله بن
إدريس ، أخبرني أبي وعمي ، عن جدي ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه : سُئل رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يُدخلُ الناسَ الجنة ، فقال : "تقوى الله وحسن
الخلق". وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار ، فقال : "الأجوفان : الفم
والفرج" (7).
وقال أسامة بن شَرِيك : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءته الأعراب من
كل مكان ، فقالوا : يا رسول الله ، ما خير ما أعطي الإنسان ؟ قال : "حسن
الخلق" (8).
وقال يعلى بن مملك (9) : عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء - يبلغ به - قال :
"ما [من] (10) شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق" (11) ، وكذا رواه عطاء
، عن أم الدرداء ، به (12).
وعن مسروق ، عن عبد الله بن عمرو مرفوعا : "إن من خياركم أحاسنكم
أخلاقا" (13).
حدثنا عبد الله بن أبي بدر ، حدثنا محمد بن عبيد (14) ، عن محمد بن أبي سارة ، عن
الحسن
__________
(1) في ت ، أ : "المطرق بمطرقه".
(2) التواضع والخمول برقم (163).
(3) التواضع والخمول برقم (164).
(4) التواضع والخمول برقم (168).
(5) التواضع والخمول برقم (169).
(6) التواضع والخمول برقم (166).
(7) التواضع والخمول برقم (170).
(8) التواضع والخمول برقم (171).
(9) في ت ، أ ، ف ، هـ : "سماك" والصواب ما أثبتناه من كتب الرجال.
(10) زيادة من أ.
(11) التواضع والخمول برقم (172).
(12) التواضع والخمول برقم (173).
(13) التواضع والخمول برقم (174).
(14) في ت ، ف : "عنين" وفي أ : "عيسى" والصواب ما أثبتناه من
التواضع والخمول لابن أبي الدنيا ، وكتب الرجال.
(6/344)
بن علي قال
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله ليعطي العبد من الثواب على
حسن الخلق ، كما يعطي المجاهد في سبيل الله ، يغدو عليه الأجر ويروح" (1).
وعن مكحول ، عن أبي ثعلبة مرفوعا : "إن أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا ،
أحاسنكم أخلاقا ، وإن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني منزلا في الجنة مساويكم أخلاقا ،
الثرثارون المتشدقون المتفيهقون" (2).
وعن أبي أويس ، عن محمد بن المنْكَدِر ، عن جابر مرفوعا : "ألا أخبركم
بأكملكم إيمانا ، أحاسنكم أخلاقا ، الموطؤون أكنافا ، الذين يُؤْلفون
ويَأْلفون" (3).
وقال الليث ، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة ، عن بكر بن أبي الفرات قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "ما حَسَّن الله خَلْق رجل وخُلُقه فَتَطْعَمَه
النار" (4).
وعن عبد الله بن غالب الحُدَّاني ، عن أبي سعيد مرفوعا : "خصلتان لا يجتمعان
في مؤمن : البخل ، وسوء الخلق" (5) ، وقال ميمون بن مِهْرَان ، عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "ما من ذنب أعظم عند الله من سوء الخلق ؛ وذلك أن صاحبه
لا يخرج من ذنب إلا وقع في آخر" (6).
حدثنا علي بن الجعد ، حدثنا أبو المغيرة الأحْمَسِيّ ، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق
، عن رجل من قريش قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من ذنب أعظم
عند الله من سوء الخلق ؛ إن الخلق الحسن ليذيب الذنوب كما تذيب الشمس الجليد ، وإن
الخلق السيئ ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل" (7).
وقال عبد الله بن إدريس ، عن أبيه ، عن جده ، عن أبي هريرة مرفوعا : " إنكم
لا تَسَعُون الناس بأموالكم ، ولكن يَسَعُهم منكم بسط وجوه وحسن خلق" (8).
وقال محمد بن سيرين : حسن الخلق عون على الدين.
فصل في ذم الكبر
قال علقمة ، عن ابن مسعود - رفعه - : "لا يدخل الجنة مَنْ كان في قلبه (9)
مثقال حبة من كِبْر ، ولا يدخل النار من في قلبه مثقال حبة (10) من إيمان"
(11).
وقال إبراهيم بن أبي عَبْلَة ، عن أبي سلمة ، عن عبد الله بن عمرو مرفوعا :
"من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، أكبه الله على وجهه في النار" (12).
حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، حدثنا أبو معاوية ، عن عمر بن راشد ، عن إياس بن سلمة ،
عن أبيه مرفوعا : "لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب عند الله من الجبارين ،
فيصيبه ما أصابهم من العذاب" (13).
وقال مالك بن دينار : ركب سليمان بن داود ، عليهما (14) السلام ، ذات يوم البساط
في مائتي
__________
(1) التواضع والخمول برقم (176).
(2) التواضع والخمول برقم (177).
(3) التواضع والخمول برقم (178).
(4) التواضع والخمول برقم (180).
(5) التواضع والخمول برقم (182).
(6) التواضع والخمول برقم (183).
(7) التواضع والخمول برقم (184).
(8) التواضع والخمول برقم (190).
(9) في ت ، ف ، أ : "ذرة".
(10) في ف ، أ : "ذرة".
(11) التواضع والخمول برقم (192).
(12) التواضع والخمول برقم (196).
(13) التواضع والخمول برقم (198).
(14) في ت : "عليه".
(6/345)
ألف من
الإنس ، ومائتي ألف من الجن ، فَرُفع حتى سمع تسبيح الملائكة في السماء ، ثم خفضوه
حتى مست قدمه ماء البحر ، فسمعوا صوتا لو كان في قلب صاحبكم مثقال ذرة من كبر لخسف
به أبعد مما رفع.
حدثنا أبو خَيثَمة ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس
قال : كان أبو بكر يخطبنا فيذكر بدء خلق الإنسان ، حتى إن أحدنا ليُقذر نفسه ،
يقول : خرج من مجرى البول مرتين (1).
وقال الشعبي : من قتل اثنين فهو جبار ، ثم تلا { أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا
قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرْضِ
} [القصص : 19] وقال الحسن : عجبا لابن آدم ، يغسل الخرء بيده في اليوم مرتين ثم
يتكبر! يعارض جبار السموات ، قال : حدثنا خالد بن خِدَاش ، حدثنا حماد بن زيد ، عن
علي بن الحسن ، عن الضحاك بن سفيان ، فذكر الحديث. ضرب مثل الدنيَا بما يخرج من
ابن آدم (2).
وقال الحسن ، عن يحيى ، عن أبي قال : إن مطعم بن آدم ضرب مثل للدنيا وإن قَزّحَه
ومَلَّحه.
وقال محمد بن الحسين بن علي - من ولد علي رضي الله عنه - : ما دخل قلبَ رجل شيء من
الكبر إلا نقص من عقله بقدر ذلك.
وقال يونس بن عبيد : ليس مع السجود كبر ، ولا مع التوحيد نفاق.
ونظر طاوس إلى عمر بن عبد العزيز وهو يختال في مشيته ، وذلك قبل أن يستخلف ، فطعنه
طاوس في جنبه بأصبعه ، وقال : ليس هذا شأن (3) من في بطنه خرء ؟ فقال له كالمعتذر
إليه : يا عم ، لقد ضرب كل عضو مني على هذه المشية حتى تعلمتها.
قال أبو بكر بن أبي الدنيا : كانت بنو أمية يضربون أولادهم حتى يتعلموا (4) هذه
المشية.
فصل في الاختيال
عن أبي ليلى ، عن ابن بُرَيْدة ، عن أبيه مرفوعا : "مَنْ جَرَّ ثوبه خيلاء لم
ينظر الله إليه" (5).
ورواه عن إسحاق بن إسماعيل ، عن سفيان ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر مرفوعا مثله
(6). وحدثنا محمد بن بَكَّار ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن
الأعرج ، عن أبي هريرة مرفوعًا : "لا ينظر الله يوم القيامة إلى مَنْ جر
إزاره" (7). و"بينما رجل يتبختر في برديه ، أعجبته نفسه ، خسف الله به
الأرض ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة" (8).
وروى الزهري عن سالم ، عن أبيه : "بينما رجل..." إلى آخره (9).
__________
(1) التواضع والخمول برقم (200).
(2) التواضع والخمول برقم (210).
(3) في ف ، أ : "مشي".
(4) في ف ، أ : "يتعلمون".
(5) التواضع والخمول برقم (238).
(6) التواضع والخمول برقم (239).
(7) التواضع والخمول برقم (232).
(8) التواضع والخمول برقم (233).
(9) التواضع والخمول برقم (234).
(6/346)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)
{ أَلَمْ
تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ
وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا
وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى
عَذَابِ السَّعِيرِ (21) }.
يقول تعالى منبها خلقه على نعمه عليهم في الدنيا والآخرة ، بأنه سخر لهم ما في
السموات من نجوم يستضيئون بها في ليلهم ونهارهم ، وما يخلق فيها من سحاب وأمطار
وثلج وبرد ، وجعله إياها لهم سقفا محفوظا ، وما خلق لهم في الأرض من قرار وأنهار
وأشجار وزروع وثمار. وأسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة من إرسال الرسل وإنزال
الكتب ، وإزاحة الشبَه والعلل ، ثم مع هذا كله ما آمن الناس كلهم ، بل منهم من
يجادل في الله ، أي : في توحيده وإرسال الرسل. ومجادلته في ذلك بغير علم ، ولا
مستند من حجة صحيحة ، ولا كتاب مأثور صحيح ؛ ولهذا قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ } أي
: مبين مضيء.
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } أي : لهؤلاء المجادلين في توحيد الله : { اتَّبِعُوا مَا
أَنزلَ اللَّهُ } أي : على رسوله من الشرائع المطهرة ، { قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ
مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } أي : لم يكن لهم حجة إلا اتباع الآباء الأقدمين
، قال الله : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا
يَهْتَدُونَ } [البقرة : 170] أي : فما ظنكم أيها المحتجون بصنيع آبائهم ، أنهم
كانوا على ضلالة وأنتم خلف لهم فيما كانوا فيه ؛ ولهذا قال : { أَوَلَوْ كَانَ
الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ }.
{ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ
فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ
نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) }.
يقول تعالى مخبرًا عمن أسلم وجهه لله ، أي : أخلص له العمل وانقاد لأمره واتبع
شرعه ؛ ولهذا قال : { وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي : في عمله ، باتباع ما به أمر ، وترك
ما عنه زجر ، { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } أي : فقد أخذ موثقا
من الله متينًا أنه لا يعذبه ، { وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ. وَمَنْ
كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ } أي : لا تحزن يا محمد عليهم في كفرهم بالله وبما
جئت به ؛ فإن قدر الله نافذ فيهم ، وإلى الله مرجعهم فينبئهم بما عملوا ، أي :
فيجزيهم عليه ، { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } ، فلا تخفى عليه
خافية.
ثم قال : { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا } أي : في الدنيا ، { ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ } أي
: نلجئهم { إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } أي : فظيع صعب مشق على النفوس ، كما قال تعالى
: { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ. مَتَاعٌ
فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ
الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [يونس : 69 ، 70].
(6/347)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
{ وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي
السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) }.
يقول تعالى مخبرًا عن هؤلاء المشركين به : إنهم يعرفون أن الله خالقُ السموات
والأرض ، وحدَه لا شريك له ، ومع هذا يعبدون معه شركاء يعترفون أنها خَلْقٌ له
وملك له ؛ ولهذا قال : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ
وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ } [أي : إذْ قامت عليكم
الحجة باعترافكم] ، (1) { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ }.
ثم قال : { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } أي : هو خلقه وملكه ، {
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } أي : الغني عما سواه ، وكل شيء فقير
إليه ، الحميد في جميع ما خلق ، له الحمد في السموات والأرض على ما خلق وشرع ، وهو
المحمود في الأمور كلها.
{ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ
بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) }.
يقول تعالى مخبرًا عن عظمته وكبريائه وجلاله ، وأسمائه الحسنى وصفاته العلا
وكلماته التامة التي لا يحيط بها أحد ، ولا اطلاع لبشر على كنهها وإحصائها ، كما
قال سيد البشر وخاتم الرسل : "لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على
نفسك" ، فقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ
وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ
اللَّهِ } [أي : ولو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاما ، وجعل البحر مدادًا ومَده
سبعة أبحر] (2) معه ، فكتبت بها كلمات الله الدالة على عظمته وصفاته وجلاله لتكسرت
الأقلام ، ونَفدَ ماء البحر ، ولو جاء أمثالها مَدَدا.
وإنما ذكرت "السبعة" على وجه المبالغة ، ولم يرد الحصر ولا [أن] (3) ثم
سبعة أبحر موجودة تحيط بالعالم ، كما يقوله من تلقاه من كلام الإسرائيليين التي لا
تصدق ولا تكذب ، بل كما قال تعالى في الآية الأخرى : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ
مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ
رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } [الكهف : 109] ، فليس المراد بقوله :
{ بِمِثْلِهِ } آخر فقط ، بل بمثله ثم بمثله ثم بمثله ، ثم هلم جرا ؛ لأنه لا حصر
لآيات الله وكلماته.
وقال الحسن البصري : لو جعل شجر الأرض أقلاما ، وجعل البحر مدادا ، وقال الله :
"إن من أمري كذا ، ومن أمري كذا" لنفد ما في البحور ، وتكسرت الأقلام.
وقال قتادة : قال المشركون : إنما هذا كلام يوشك أن ينفد ، فقال الله تعالى : {
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ } أي : لو كان شجر الأرض
أقلاما ، ومع البحر سبعة أبحر ، ما كان لتنفد عجائب ربي وحكمته وخلقه وعلمه.
__________
(1) زيادة من ت ، ف ، أ.
(2) زيادة من ت ، ف ، أ.
(3) زيادة من ت ، ف ، أ.
(6/348)
وقال الربيع
بن أنس : إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها ، وقد أنزل
الله ذلك : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ } الآية.
يقول : لو كان البحر مدادا لكلمات الله والأشجار كلها أقلاما ، لانكسرت الأقلام ،
وفني ماء البحر ، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء ؛ لأن أحدا لا يستطيع أن
يقدر قدره ، ولا يثني عليه كما ينبغي ، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه. إن ربنا
كما يقول ، وفوق ما نقول.
وقد روي أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود ، قال ابن إسحاق : حدثني ابن أبي محمد ،
عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ؛ أن أحبار يهود قالوا لرسول الله صلى
الله عليه وسلم بالمدينة : يا محمد ، أرأيت قولك : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ
العِلْمِ إِلا قَلِيلا } ؟ [الإسراء : 85] ، إيانا تريد أم قومك ؟ فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "كلا". فقالوا : ألست تتلو فيما جاءك أنا قد
أوتينا التوراة فيها تبيان لكل شيء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إنها في علم الله قليل ، وعندكم من ذلك ما يكفيكم". وأنزل الله فيما
سألوه عنه من ذلك : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ }
الآية.
وهكذا روي عن عكرمة ، وعطاء بن يَسَار. وهذا يقتضي أن هذه الآية مدنية لا مكية ،
والمشهور أنها مكية ، والله (1) أعلم.
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : عزيز قد عَز كلَّ شيء وقهره وغلبه
، فلا مانع لما أراد ولا مخالف ولا معقب لحكمه ، { حَكِيمٌ } في خلقه وأمره ،
وأقواله وأفعاله ، وشرعه وجميع شؤونه.
وقوله : { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } أي : ما
خَلْقُ جميع الناس وبعثهم يوم المعاد بالنسبة إلى قدرته إلا كنسبة [خلق] (2) نفس
واحدة ، الجميع هين عليه و { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ
يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس : 82] ، { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ
كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [القمر : 50] أي : لا يأمر بالشيء إلا مرة واحدة ، فيكون
ذلك الشيء لا يحتاج إلى تكرره وتوكده (3). { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ
فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } [النازعات : 13 ، 14].
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } أي : كما هو سميع لأقوالهم بصير
بأفعالهم كسمعه وبصره بالنسبة إلى نفس واحدة كذلك قدرته عليهم كقدرته على نفس
واحدة ؛ ولهذا قال : { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ
[إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] } (4).
__________
(1) في ت ، ف : "فالله".
(2) زيادة من ت ، ف ، أ.
(3) في ت ، ف ، أ : "وتوكيده".
(4) زيادة من ت ، ف ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(6/349)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
{ أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي
اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ
الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ
الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) }
يخبر تعالى أنه { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ } بمعنى : يأخذ منه في النهار
، فيطولُ ذلك ويقصر هذا ،
(6/349)
وهذا يكون
زمن الصيف يطول النهار إلى الغاية ، ثم يسرع في النقص فيطول الليل ويقصر النهار ،
وهذا يكون في زمن الشتاء ، { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى } قيل : إلى غاية محدودة. وقيل : إلى يوم القيامة. وكلا المعنيين
صحيح ، ويستشهد للقول الأول بحديث أبي ذر ، رضي الله عنه ، الذي في الصحيحين : أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يا أبا ذر ، أتدري أين تذهب هذه الشمس
؟". قلت : الله ورسوله أعلم. قال : "فإنها تذهب فتسجد تحت العرش ، ثم
تستأذن ربَّها فيوشك أن يقال لها : ارجعي من حيث جئت" (1).
وقال ابن أبي الحاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح ، حدثنا يحيى بن أيوب ، عن ابن
جُرَيْج ، عن عَطَاء بن أبي رباح (2) ، عن ابن عباس أنه قال : الشمس بمنزلة
الساقية ، تجري بالنهار في السماء في فلكها ، فإذا غربت جرت بالليل في فلكها تحت
الأرض حتى تطلع من مشرقها ، قال : وكذلك القمر. إسناده صحيح.
وقوله : { وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } ، كقوله : { أَلَمْ
تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ } [الحج : 70]. (3)
ومعنى هذا : أنه تعالى الخالق العالم بجميع الأشياء ، كقوله : { اللَّهُ الَّذِي
خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ
لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ
أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } [الطلاق : 12].
وقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ الْبَاطِلُ } أي : إنما يظهر لكم آياته لتستدلوا بها على أنه الحق ، أي :
الموجود الحق ، الإله الحق ، وأن كل ما سواه باطل فإنه الغني عما سواه ، وكل شيء
فقير إليه ؛ لأن كل ما (4) في السموات والأرض الجميع خلقه وعبيده ، لا يقدر أحد
منهم على تحريك ذَرّة إلا بإذنه ، ولو اجتمع كل أهل الأرض على أن يخلقوا ذبابا
لعجزوا عن ذلك ؛ ولهذا قال : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا
يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }
أي : العلي : الذي لا أعلى منه ، الكبير : الذي هو أكبر من كل شيء ، فكل (5) شيء
خاضع حقير بالنسبة إليه.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4803) وصحيح مسلم برقم (159).
(2) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
(3) في ت : "السموات" وهو خطأ.
(4) في ت : "من".
(5) في ت ، ف : "وكل".
(6/350)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
{ أَلَمْ
تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ
آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا
غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ
بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) }
يخبر تعالى أنه هو الذي سَخَّر البحر لتجري فيه الفلك بأمره ، أي : بلطفه وتسخيره
؛ فإنه لولا ما جعل في الماء من قوة يحمل بها السفن لما جرت ؛ ولهذا قال : {
لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ } أي : من قدرته ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ
صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي : صبار في الضراء ، شكور في الرخاء.
ثم قال : { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ } أي : كالجبال والغمام ، {
دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } ، كما قال تعالى : { وَإِذَا
مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ } [الإسراء
: 67] ، وقال { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ } [العنكبوت : 65].
ثم قال : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ } قال مجاهد
: أي كافر. كأنه فسر المقتصد هاهنا بالجاحد ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا
نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [العنكبوت : 65].
وقال ابن زيد : هو المتوسط في العمل.
وهذا الذي قاله ابن زيد هو المراد في قوله : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } [فاطر : 32] ،
فالمقتصد هاهنا هو : المتوسط في العمل. ويحتمل أن يكون مرادًا هنا أيضا ، ويكون من
باب الإنكار على من شاهد تلك الأهوال والأمور العظام والآيات الباهرات في البحر ،
ثم بعدما أنعم عليه من الخلاص ، كان ينبغي أن يقابل ذلك بالعمل التام ، والدؤوب في
العبادة ، والمبادرة إلى الخيرات. فمن اقتصد بعد ذلك كان مقصرا والحالة هذه ،
والله أعلم.
وقوله : { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ } : فالختار :
هو الغَدَّار. قاله مجاهد ، والحسن ، وقتادة ، ومالك عن (1) زيد بن أسلم ، وهو
الذي كلما عاهد نقض عهده ، والخَتْر : أتَم الغدر وأبلغه ، قال عمرو بن معد يكرب :
وَإنَّكَ لَو رَأيتَ أبَا عُمَير... مَلأتَ يَديْكَ مِنْ غَدْر وَخَتْر (2)
وقوله : { كَفُورٍ } أي : جحود للنعم لا يشكرها ، بل يتناساها ولا يذكرها.
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي
وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ
وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا
يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) }.
يقول تعالى منذرا للناس يوم المعاد ، وآمرا لهم بتقواه والخوف منه ، والخشية من
يوم القيامة حيث { لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ } أي : لو أراد أن يفديه
بنفسه لما قبل منه. وكذلك الولد لو أراد فداء والده بنفسه لم يتقبل منه.
ثم عاد بالموعظة عليهم بقوله : { فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } [أي
: لا تلهينكم بالطمأنينة فيها عن الدار الآخرة] (3). { وَلا يَغُرَّنَّكُمْ
بِاللَّهِ الْغَرُورُ } يعني : الشيطان. قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ،
وقتادة. فإنه يغر ابن آدم ويَعدهُ ويمنيه ، وليس من ذلك شيء بل كما قال تعالى :
__________
(1) في أ : "و".
(2) البيت في تفسير الطبري (21/54).
(3) زيادة من ت ، ف ، أ.
(6/351)
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
{
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا } [النساء
: 120].
قال وهب بن منبه : قال عزير ، عليه السلام : لما رأيت بلاء قومي اشتد حزني وكثر
همي ، وأرق نومي ، فضرعت (1) إلى ربي وصليت وصمت فأنا في ذلك أتضرع أبكي إذ أتاني
الملك فقلت له : أخبرني هل تشفع أرواح المصدقين (2) للظلمة ، أو الآباء لأبنائهم ؟
قال : إن القيامة فيها (3) فصل القضاء وملك ظاهر ، ليس فيه رخصة ، لا يتكلم فيه
أحد إلا بإذن الرحمن ، ولا يؤخذ فيه والد عن ولده ، ولا ولد عن والده ، ولا أخ عن
أخيه ، ولا عبد عن سيده ، ولا يهتم أحد بغيره (4) ولا يحزن لحزنه ، ولا أحد يرحمه
، كل مشفق على نفسه ، ولا يؤخذ إنسان عن إنسان ، كل يَهُم همه ويبكي عَوله ، ويحمل
وزره ، ولا يحمل وزره معه غيره. رواه ابن أبي حاتم.
{ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا
فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ
بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) }.
هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها ، فلا يعلمها أحد إلا بعد إعلامه
تعالى بها ؛ فعلم وقت الساعة لا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب ، { لا يُجَلِّيهَا
لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ } [الأعراف : 187] ، وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلا الله ،
ولكن إذا أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك ومَنْ شاء الله من خلقه. وكذلك لا
يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه [الله] (5) تعالى سواه ، ولكن إذا أمر بكونه
ذكرا أو أنثى ، أو شقيا أو سعيدا علم الملائكة الموكلون بذلك ، ومَنْ شاء الله من
خلقه. وكذلك لا تدري نفس ماذا تكسب غدا في دنياها وأخراها ، { وَمَا تَدْرِي
نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } في بلدها أو غيره من أي بلاد الله كان ، لا علم
لأحد بذلك. وهذه شبيهة بقوله تعالى : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا
يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ } الآية [الأنعام : 59]. وقد وردت السنة بتسمية هذه الخمس :
مفاتيح الغيب.
قال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني حسين بن واقد ، حدثني عبد الله بن
بُرَيدة ، سمعت أبي - بُرَيدة - (6) يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول : "خمس لا يعلمهن إلا الله عز وجل : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ
مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (7).
هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجوه.
حديث ابن عمر : قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن
دينار ، عن ابن عمر (8) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (9) مفاتيح الغيب
خمس لا يعلمهن إلا الله : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ
الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ
غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
}.
__________
(1) في ف : "وتضرعت".
(2) في ت ، ف : "الصديقين".
(3) في ت ، ف ، أ : "إن يوم القيامة فيه".
(4) في ت "ولا يهتم بهم أحدا".
(5) زيادة من ت ، ف ، أ.
(6) في ت : "ورى الإمام أحمد بإسناده عن بريدة".
(7) المسند (5/353) وقال الهيثمي في المجمع (7/90) "رجال أحمد رجال
الصحيح".
(8) في ت : "وروى البخاري عن عبد الله بن عمر".
(9) في ت : "النبي".
(6/352)
انفرد
بإخراجه البخاري ، فرواه في "كتاب الاستسقاء" من صحيحه ، عن محمد بن
يوسف الفريابي ، عن سفيان بن سعيد الثوري ، به (1). ورواه في التفسير من وجه آخر
فقال :
حدثنا يحيى بن سليمان ، حدثنا ابن وهب ، حدثني عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن
عمر : أن أباه حدثه أن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"مفاتيح الغيب خمس". ثم قرأ : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ } انفرد به أيضا
(2).
ورواه الإمام أحمد عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن عمر بن محمد ؛ أنه سمع أباه يحدث ،
عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أوتيت مفاتيح كل شيء إلا
الخمس : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ
وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا
تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (3).
[حديث ابن مسعود ، رضي الله عنه : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى ، عن شعبة ، حدثني
عمرو بن مُرَّة ، عن عبد الله بن سلمة قال : قال عبد الله (4) : أوتي نبيكم صلى
الله عليه وسلم مفاتيح كل شيء غير خمس : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي
نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } ] (5) (6).
وكذا رواه عن محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، به. وزاد في آخره : قال :
قلت له : أنت سمعته من عبد الله ؟ قال : نعم. أكثر من خمسين مرة (7).
ورواه أيضا عن وَكِيع ، عن مِسْعَر ، عن عمرو بن مرة به (8).
وهذا إسناد حسن على شرط أصحاب السنن ولم يخرجوه.
حديث أبي هريرة : قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا إسحاق ، عن جرير ، عن
أبي حيان ، عن أبي زُرْعَةَ ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه (9) ؛ أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يوما بارزا للناس ، إذ أتاه رجل يمشي ، فقال : يا رسول الله ،
ما الإيمان ؟ قال : "الإيمان : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه ،
وتؤمن بالبعث الآخر". قال : يا رسول الله ، ما الإسلام ؟ قال : "الإسلام
: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة المفروضة ، وتصوم
رمضان". فقال : يا رسول الله ، ما الإحسان ؟ قال : "الإحسان : أن تعبد
الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". قال : يا رسول الله ، متى
الساعة ؟ قال : "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ، ولكن سأحدثك عن أشراطها :
إذا ولدت الأمَةُ رَبَّتَهَا ، فذاك من أشراطها. وإذا كان الحفاة
__________
(1) المسند (2/24) وصحيح البخاري برقم (1035).
(2) صحيح البخاري برقم (4697).
(3) المسند (2/85).
(4) في ت : "وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) المسند (1/386).
(7) المسند (1/438).
(8) المسند (1/445).
(9) في ت : "وروى البخاري".
(6/353)
العُرَاة
رؤوس الناس ، فذاك من أشراطها ، في خمس لا يعلمهن (1) إلا الله. { إِنَّ اللَّهَ
عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ } ،
ثم انصرف الرجل فقال : "ردُّوه عَلَيَّ". فأخذوا ليردوه ، فلم يروا
شيئًا ، فقال : "هذا جبريل ، جاء ليعلم الناس دينهم" (2).
ورواه البخاري أيضا في "كتاب الإيمان" ، ومسلم من طرق ، عن أبي حيان ،
به (3). وقد تكلمنا عليه في أول شرح البخاري. وذكرنا ثم حديث أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب في ذلك بطوله ، وهو من أفراد مسلم (4).
حديث ابن عباس : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا عبد الحميد ، حدثنا
شَهْر ، حدثنا عبد الله بن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : جلس رسول الله صلى الله
عليه وسلم مجلسا له ، فأتاه جبريل فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم (5)
واضعا كفيه على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، [حدثني]
(6) ما الإسلام ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الإسلام أن تسلم وجهك لله عز
وجل ، وتشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله".
قال : فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت ؟ قال : "إذا فعلت ذلك فقد أسلمت". قال :
يا رسول الله ، فحدِّثني ما الإيمان ؟ قال : "الإيمان : أن تؤمن بالله ،
واليوم الآخر ، والملائكة ، والكتاب ، والنبيين ، وتؤمن بالموت ، وبالحياة بعد
الموت ، وتؤمن بالجنة والنار ، والحساب والميزان ، وتؤمن بالقدر كله خيره
وشره". قال : فإذا فعلت ذلك فقد آمنت ؟ قال : "إذا (7) فعلت ذلك فقد
آمنت". قال : يا رسول الله ، حدثني ما الإحسان ؟ قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "الإحسان أن تعمل لله كأنك تراه ، فإن كنت لا تراه فإنه يراك".
قال : يا رسول الله ، فحدثني متى الساعة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"سبحان الله. في خمس لا يعلمهن إلا هو : (8) { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي
نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } ، ولكن إن شئت حدثتك بمعالم لها دون ذلك ؟". قال :
أجل ، يا رسول الله ، فحدثني. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا رأيت
الأمَة ولدت رَبَّتَها - أو : ربها - ورأيت أصحاب الشاء يتطاولون في البنيان ،
ورأيت الحفاة الجياع العالة [كانوا رؤوس الناس ، فذلك من معالم الساعة
وأشراطها". قال : يا رسول الله ، ومَنْ أصحاب الشاء والحفاة الجياع العالة ؟
قال : "العرب"] (9) (10).
حديث غريب ، ولم يخرجوه.
حديث رجل من بني عامر : روى الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن
منصور ، عن رِبْعي بن حِرَاش ، عن رجل من بني عامر ؛ أنه استأذن على النبي صلى
الله عليه وسلم فقال : أألج ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه :
"اخرُجي إليه ، فإنه لا يحسن الاستئذان فقولي له : فليقل : "السلام
عليكم ، أأدخل ؟" قال : فسَمعتهُ يقول ذلك ، فقلت : السلام عليكم ، أأدخل ؟
فأذن ، فدخلت ، فقلت : بم أتيتنا به ؟ قال : "لم آتكم إلا بخير ، أتيتكم أن
تعبدوا الله وحده لا شريك له ، وأن
__________
(1) في ت : "لا يعلمهم".
(2) صحيح البخاري برقم (4777).
(3) صحيح البخاري برقم (50) وصحيح مسلم برقم (9).
(4) صحيح مسلم برقم (8).
(5) في ف ، أ : "بين يديه".
(6) زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
(7) في ف : "فإذا".
(8) في أ : "الله".
(9) زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
(10) المسند (1/318).
(6/354)
تَدَعوا
اللات والعزى ، وأن تصلوا بالليل والنهار خمس صلوات ؛ وأن تصوموا من السنة شهرًا ،
وأن تحجوا البيت ، وأن تأخذوا الزكاة من مال أغنيائكم فتردوها على فقرائكم".
قال : فقال : فهل بقي من العلم شيء لا تعلمه ؟ قال : "قد عَلم الله عز وجل
خيرًا ، وإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل : الخمس : { إِنَّ اللَّهَ
عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ
وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ
تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }. (1) وهذا إسناد صحيح.
وقال ابن أبي نَجِيِح ، عن مجاهد : جاء رجل من أهل البادية فقال : إن امرأتي حبلى
، فأخبرني ما تلد ؟ وبلادنا جَدبَةٌ ، فأخبرني متى ينزل الغيث ؟ وقد عَلمتُ متى
وُلدتُ فأخبرني متى أموت ؟ فأنزل الله عز وجل : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ [وَيُنزلُ الْغَيْثَ ] } (2) ، إلى قوله : { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
خَبِيرٌ }. قال مجاهد : وهي (3) مفاتيح الغيب التي قال الله تعالى : { وَعِنْدَهُ
مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ } [الأنعام : 59]. رواه ابن أبي
حاتم ، وابن جرير.
وقال الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : مَنْ حدثك أنه
يعلم ما في غد فقد كذب ، ثم قرأت : { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا
} (4).
وقوله : { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } : قال قتادة : أشياء
استأثر الله بهن ، فلم يُطلع عليهن مَلَكا مقربًا ، ولا نبيا مرسلا { إِنَّ
اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } ، فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة ،
في أي سنة أو في أي شهر ، أو ليل أو نهار ، { وَيُنزلُ الْغَيْثَ } ، فلا يعلم أحد
متى ينزل الغيث ، ليلا أو نهارًا ، { وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ } ، فلا يعلم
أحد ما في الأرحام ، أذكر أم أنثى ، أحمر أو أسود ، وما هو ، { وَمَا تَدْرِي
نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا } ، أخير أم شر ، ولا تدري يا ابن آدم متى تموت ؟
لعلك الميت غدا ، لعلك المصاب غدا ، { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ
تَمُوتُ } ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض ، أفي بحر أم بر ، أو سهل أو جبل
؟
وقد جاء في الحديث : "إذا أراد الله قبض عبد بأرض ، جعل له إليها حاجة"
، فقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير ، في مسند أسامة بن زيد :
حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن أيوب ، عن أبي
المليح ، عن أسامة (5) بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما
جعل الله ميتَة (6) عبد بأرض إلا جعل له فيها حاجة" (7).
وقال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو داود
الحَفَريّ ، عن
__________
(1) المسند (5/368).
(2) زيادة من ت ، ف ، أ.
(3) في أ : "وهن".
(4) تفسير الطبري (21/56).
(5) في ت : "فروى أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير في مسند أسامة".
(6) في ت ، ف ، أ : "منية".
(7) المعجم الكبير (1/178) وقال الهيثمي في المجمع (7/196) "ورجاله رجال
الصحيح" وفيها : "منية" بدل "ميتة".
(6/355)
سفيان ، عن
أبي إسحاق ، عن مَطَر بن عُكَامِس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) :
إذا قضى الله ميتة عبد بأرض ، جعل له إليها حاجة".
وهكذا رواه الترمذي في "القدر" ، من حديث سفيان الثوري ، به (2). ثم قال
: "حسن غريب ، ولا يعرف لمطر عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث.
وقد رواه أبو داود في "المراسيل" ، (3) فالله أعلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب ، عن أبي المليح بن أسامة (4) عن
أبي عزة (5) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا أراد الله قبض
روح عبد بأرض جعل له فيها - أو قال : بها - حاجة".
وأبو عزة هذا هو : يَسَار (6) بن عبد الله ، ويقال : ابن عبد الهُذَلي.
وأخرجه الترمذي من حديث إسماعيل [بن إبراهيم - وهو ابن عُلَيّة (7) ، وقال : صحيح.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عصام الأصفهاني ، حدثنا المؤمل بن إسماعيل] (8)
، حدثنا عبيد الله بن أبي حميد ، عن أبي المليح ، عن أبي عزة الهذلي قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا أراد الله قبض عبد بأرض ، جعل له إليها
حاجة ، فلم ينته حتى يقدمها". ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ
اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي
الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ
بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (9).
حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أحمد بن ثابت الجَحْدَري ومحمد بن
يحيى القُطَعي قالا حدثنا عُمَر بن علي ، حدثنا إسماعيل ، عن قيس ، عن عبد الله
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل
له إليها حاجة". ثم قال البزار : وهذا الحديث لا نعلم أحدا يرفعه إلا عُمَر
بن علي المُقَدميّ. (10) وقال ابن أبي الدنيا : حدثني سليمان بن أبي مسيح (11) قال
: أنشدني محمد بن الحكم لأعشى هَمْدان :
فَمَا تَزَوّدَ ممَّا كَانَ يَجْمَعُه... سِوَى حَنُوط غَدَاةَ البَيْن مَع
خرَق...
وَغَيْرِ نَفْحة أعْوَاد تُشَبّ لَُه... وَقلّ ذَلكَ مِنْ زَاد لمُنْطَلق!...
لا تَأسَيَنّ عَلَى شَيْء فَكُلّ فَتَى... إلَى مَنيّته سَيَّارُ في عَنَق (12)
وَكُلّ مَنْ ظَنّ أنّ الموتَ يُخْطِئهُ... مُعَلَّلٌ بأعَاليل مِنَ الحَمق...
بأيّمَا بَلْدَة تُقْدَر منيته... إنْ لا يُسَيَّرْ إلَيها طَائعًا يُسَق...
__________
(1) في ت : "روى عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال".
(2) زوائد المسند (5/227) وسنن الترمذي برقم (2146).
(3) لم أجده في المطبوع من المراسيل.
(4) في ت : "وروى الإمام أحمد".
(5) في أ : "عن أبي عزة الهذلي".
(6) في ف : "بشار".
(7) المسند (3/429) وسنن الترمذي برقم (2147).
(8) زيادة من ت ، ف ، أ.
(9) ورواه الطبراني في الأوسط برقم (3248) "مجمع البحرين" من طريق عباد
بن صهيب ، عن عبيد الله بن أبي حميد به ، وعباد ابن صهيب متروك.
(10) ورواه الحاكم في المستدرك (1/367) من طريق محمد بن خالد الوهبي ، عن إسماعيل
بن أبي خالد بنحوه.
(11) في ت ، ف ، أ : "شيخ".
(12) في ت : "يسير في غنق".
(6/356)
أورده
الحافظ ابن عساكر ، رحمه الله ، في ترجمة عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث ، (1)
وهو أعشى هَمْدَان ، وكان الشعبي زوجَ أخته ، وهو مُزَوّج بأخت الشعبي أيضا ، وقد
كان ممن طلب العلم وتَفَقَّه ، ثم عدل إلى صناعة الشعر فعُرف به.
وقد رواه ابن ماجه عن أحمد بن ثابت وعُمَر بن شَبَّة ، كلاهما عن عمر بن علي (2)
مرفوعا : "إذا كان أجل أحدكم بأرض أوثَبَتْه (3) إليها حاجة ، فإذا بلغ أقصى
أثره (4) ، قبضه الله عز وجل ، فتقول الأرض يوم القيامة : رب ، هذا ما
أودعتني" (5).
قال الطبراني : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن أيوب
، عن أبي المليح ، عن أسامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ما جعل
الله منية عبد بأرض ، إلا جعل له إليها حاجة" (6).
[آخر تفسير سورة "لقمان" والحمد لله رب العالمين ، وهو حسبنا ونعم
الوكيل] (7)
__________
(1) لم أجد الأبيات فيما بين يدي من تاريخ دمشق ولا في المختصر لابن منظور.
(2) في ت ، ف : "عكرمة".
(3) في ف : "أتت".
(4) في ت ، ف : "أمره".
(5) سنن ابن ماجه برقم (4263) وقال البوصيري في الزوائد (2/264) : "هذا إسناد
صحيح ورجاله ثقات". والكلام هنا متعلق برواية البزار ولم أستسغ تقديمها ؛
لورودها هكذا في النسخ.
(6) المعجم الكبير (1/178) وقد مر ذكره.
(7) زيادة من ت ، ف ، أ.
(6/357)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
تفسير سورة
السجدة (1)
وهي مكية.
قال البخاري في "كتاب الجمعة" : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن سعد
بن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن هُرْمُز الأعرج ، (2) عن أبي هريرة ، رضي الله عنه
، قال : كان النبي (3) صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة : { الم *
تَنزيلُ } السجدة ، و { هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ }.
ورواه مسلم أيضًا من حديث سفيان الثوري ، به. (4)
وقال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، أخبرنا الحسن بن صالح ، عن لَيْث ، عن
أبي الزبير ، عن جابر قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ { الم
* تَنزيلُ } السجدة و { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } تفرد به أحمد. (5)
{ الم (1) تَنزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ
يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا
أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) }.
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة "البقرة" بما أغنى عن
إعادته.
وقوله : { تَنزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ } أي : لا شك فيه ولا مرية أنه نزل
، (6) { مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ }.
ثم قال مخبرًا عن المشركين : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } ، بل يقولون : {
افْتَرَاهُ } أي : اختلقه من تلقاء نفسه ، { بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ
قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } أي
يتبعون الحق.
__________
(1) في أ : "سورة الم السجدة".
(2) في ت : "وروى البخاري بإسناده".
(3) في ت : "رسول الله".
(4) صحيح البخاري برقم (891) وصحيح مسلم برقم (880).
(5) المسند (3/340).
(6) في ف ، أ : "منزل".
(6/358)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
{ اللَّهُ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا
شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى
الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا
تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
(6) }.
يخبر تعالى أنه الخالق للأشياء ، فخلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، ثم
استوى على العرش. وقد تقدم الكلام على ذلك.
{ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ } أي : بل هو المالك لأزمة
الأمور ، الخالق لكل شيء ، المدبر لكل شيء ، القادر (1) على كل شيء ، فلا ولي
لخلقه سواه ، ولا شفيع إلا من بعد إذنه.
{ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ } يعني : أيها العابدون غيره ، المتوكلون على من عداه -
تعالى وتقدس وتنزه أن يكون له نظير أو شريك أو نديد ، أو وزير أو عديل ، لا إله
إلا هو ولا رب سواه.
وقد أورد النسائي هاهنا حديثا فقال : حدثنا إبراهيم بن يعقوب ، حدثني محمد بن
الصباح ، حدثنا أبو عبيدة الحداد ، حدثنا الأخضر بن عَجْلان ، عن أبي جُريْج المكي
، عن عطاء ، (2) عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيدي فقال :
"إن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، ثم استوى على العرش في
اليوم (3) السابع ، فخلق التربة يوم السبت ، والجبال يوم الأحد ، والشجر يوم
الاثنين ، والمكروه يوم الثلاثاء ، والنور يوم الأربعاء ، والدواب يوم الخميس ،
وآدم يوم الجمعة في آخر ساعة من النهار بعد العصر ، وخلقه من أديم الأرض ، بأحمرها
وأسودها ، وطيبها وخبيثها ، من أجل ذلك جعل الله من بني آدم الطيب والخبيث".
(4)
هكذا أورد هذا الحديث إسنادًا ومتنا ، وقد أخرج مسلم والنسائي أيضا من حديث الحجاج
بن محمد الأعور ، عن ابن جُرَيج ، عن إسماعيل بن أمية ، عن أيوب بن خالد ، عن عبد
الله بن رافع ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من هذا السياق.
(5)
وقد علَّله البخاري في كتاب "التاريخ الكبير" فقال : "وقال بعضهم :
أبو هريرة عن كعب الأحبار وهو أصح" ، (6) وكذا علَّله غير واحد من الحفاظ ،
والله أعلم.
وقوله : { يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ
إِلَيْهِ } أي : يتنزل (7) أمره من أعلى السموات إلى أقصى تخوم الأرض السابعة ،
كما قال الله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ
مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } [الطلاق :
12].
وترفع الأعمال إلى ديوانها فوق سماء الدنيا ، ومسافة ما بينها وبين الأرض [مسيرة]
(8) خمسمائة سنة ، وسمك السماء خمسمائة سنة.
وقال مجاهد ، وقتادة ، والضحاك : النزول من الملك في مسيرة خمسمائة عام ، وصعوده
في مسيرة خمسمائة عام ، ولكنه يقطعها في طرفة عين ؛ ولهذا قال تعالى : { فِي
يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ }.
__________
(1) في ت ، ف ، أ : "القاهر".
(2) في ت : "وروى مسلم والنسائي حديثا".
(3) في ت : "على العرش يوم".
(4) النسائي في السنن الكبرى برقم (11392).
(5) صحيح مسلم برقم (2789) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11010).
(6) التاريخ الكبير للبخاري (1/413 ، 414) وممن أعله من الحفاظ ابن المديني كما
نقل ذلك البيهقي في الأسماء والصفات ص (275) وقد رد ذلك الشيخ ناصر الألباني في
صحيحته برقم (1833) والحديث يحتاج إلى بحث ، والله اعلم.
(7) في ت ، ف : "ينزل".
(8) زيادة من ت ، ف ، أ.
(6/359)
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
{ ذَلِكَ
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } أي : المدبر لهذه الأمور الذي هو شهيد على
أعمال عباده ، يرفع إليه جليلها وحقيرها ، وصغيرها وكبيرها - هو { الْعَزِيزُ }
الذي قد عَزَّ كلَّ شيء فقهره وغلبه ، ودانت له العباد والرقاب ، { الرَّحِيمُ }
بعباده المؤمنين. فهو عزيز في رحمته ، رحيم في عزته [وهذا هو الكمال : العزة مع
الرحمة ، والرحمة مع العزة ، فهو رحيم بلا ذل]. (1)
{ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ
(7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ
وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ
وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ (9) }.
يقول تعالى : إنه الذي أحسن خلق الأشياء وأتقنها وأحكمها.
وقال مالك ، عن زيد بن أسلم : { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } قال :
أحسن خلق كل شيء. كأنه جعله من المقدم والمؤخر.
ثم لما ذكر خلق السموات والأرض ، شرع في ذكر خلق الإنسان فقال : { وَبَدَأَ خَلْقَ
الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ } يعني : خلق أبا البشر آدم من طين.
{ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ } أي : يتناسلون كذلك
من نطفة تخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة.
{ ثُمَّ سَوَّاهُ } يعني : آدم ، لما خلقه من تراب خلقه سويا مستقيما ، { وَنَفَخَ
فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ } ،
يعني : العقول ، { قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ } أي : بهذه القوى التي رزقكموها الله
عز وجل. (2) فالسعيد مَنْ استعملها في طاعة ربه عز وجل.
{ وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ
هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ
الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) }
يقول تعالى مخبرًا عن المشركين في استبعادهم المعاد حيث قالوا : { أَئِذَا
ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ } أي : تمزقت أجسامنا وتفرقت في أجزاء الأرض (3) وذهبت ، {
أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } ؟ أي : أئنا لَنَعُودُ بعد تلك الحال ؟! يستبعدون
ذلك ، (4) وهذا إنما هو بعيد بالنسبة إلى قُدْرَتهم العاجزة ، لا بالنسبة إلى
قُدْرة الذي بدأهم وخلقهم من العدم ، الذي إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن
فيكون ؛ ولهذا قال : { بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ }.
ثم قال : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } ،
الظاهر من هذه الآية أن ملك الموت شخص
__________
(1) زيادة من ت ، ف.
(2) في ف ، أ : "تعالى".
(3) ف أ : "الأرضين".
(4) في أ : "تلك الحال".
(6/360)
معين من
الملائكة ، كما هو المتبادر من حديث البراء المتقدم ذكره في سورة
"إبراهيم" ، (1) وقد سمي في بعض الآثار بعزرائيل ، وهو المشهور ، قاله
قتادة وغير واحد ، وله أعوان. وهكذا (2) ورد في الحديث أن أعوانه ينتزعون الأرواح
من سائر الجسد ، حتى إذا بلغت الحلقوم تناولها ملك الموت.
قال مجاهد : حُويت له الأرض فجعلت له مثل الطست ، يتناول منها حيث يشاء. (3) ورواه
زهير بن محمد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه مرسلا. وقاله ابن عباس ، رضي
الله عنهما.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن أبي يحيى المقري ، حدثنا (4) عمرو
بن شمر (5) عن جعفر بن محمد قال : سمعت أبي يقول : نظر رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :
"يا ملك الموت ، ارفق بصاحبي فإنه مؤمن". فقال مَلَك الموت : يا محمد ،
طِبْ نفسًا وقَر عينًا فإني بكل مؤمن رفيق ، واعلم أن ما في الأرض بيت مَدَر ولا
شَعَر ، في بر ولا (6) بحر ، إلا وأنا أتصفحه في كل يوم خمس مرات ، حتى إني أعرفُ
(7) بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم ، والله يا محمد ، لو أني أردت أن أقبض روح
بعوضة ما قَدَرتُ على ذلك حتى يكون الله هو الآمر بقبضها. (8)
قال جعفر : بلغني أنه إنما يتصفحهم عند (9) مواقيت الصلاة ، فإذا حضرهم عند الموت
فإن كان ممن يحافظ على الصلاة دنا منه الملك ، ودفع عنه الشيطان ، ولقنه المَلَك :
"لا إله إلا الله ، محمد رسول الله" في تلك الحال العظيمة.
وقال عبد الرزاق : حدثنا محمد بن مسلم ، عن إبراهيم بن مَيْسَرة قال : سمعت
مجاهدًا يقول (10) ما على ظهر الأرض من بيت شعر أو مدر إلا وملك الموت يُطيف به كل
يوم مرتين.
وقال كعب الأحبار : والله ما من بيت فيه أحد من أهل الدنيا إلا وملك الموت يقوم
على بابه كل يوم سبع مرات. ينظر هل فيه أحد أمر أن (11) يتوفاه. رواه ابن أبي
حاتم.
وقوله : { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } أي : يوم معادكم وقيامكم من قبوركم
لجزائكم.
__________
(1) عند الآية السابعة والعشرين ، وقد جاء الحديث بتمامه في نسخة ت.
(2) في ت : "كما".
(3) في ت : شاء".
(4) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن".
(5) في ت ، ف ، أ ، هـ ، "عمر بن سمرة" والتصويب من البداية والنهاية والمعجم.
(6) في ت : "أو".
(7) في ف ، أ : "لأعرف".
(8) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (4/220) والبزار في مسنده برقم (784)
"كشف الأستار" من طريق إسماعيل بن أبان ، عن عمرو بن شمر الجعفي ، عن
جعفر بن محمد عن أبيه ، عن الحارث بن الخزرج عن أبيه ، أنه سمع رسول الله صلى الله
عليه وسلم فذكر نحوه ، فأسنده ولم يرسله ، ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة وقال :
"عمرو بن شمر متروك الحديث".
(9) في ف : "في".
(10) في ت : "وقال مجاهد".
(11) في ت ، ف ، أ : "وبه".
(6/361)
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
{ وَلَوْ
تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رؤُُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا
أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)
وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي
لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا
نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ
الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) }.
يخبر تعالى عن حال المشركين يوم القيامة ، وحالهم حين عاينوا البعث ، وقاموا بين
يدي الله حقيرين ذليلين ، ناكسي رؤوسهم ، أي : من الحياء والخجل ، يقولون : {
رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } (1) أي : نحن الآن نسمع قولك ونطيع أمرك ، كما
قال تعالى : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [مريم : 38].
وكذلك يعودون على أنفسهم بالملامة إذا (2) دخلوا النار بقولهم : { لَوْ كُنَّا
نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [الملك : 10].
وهكذا هؤلاء يقولون : { رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا } أي : إلى
الدار الدنيا ، { نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } أي : قد أيقنا وتحققنا أن
وعدك حق ولقاءك حق ، وقد علم الرب تعالى منهم أنه لو أعادهم إلى الدار الدنيا
لكانوا كما كانوا فيها كفارا يكذبون آيات (3) الله ويخالفون رسله ، كما قال : {
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا
نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدَا لَهُمْ
مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ
وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا
نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } [الأنعام : 27 - 29].
وقال هاهنا { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } ، كما قال تعالى {
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا } [يونس : 99].
{ وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } أي : من الصنفين ، فدارهم النار (4) لا محيد لهم عنها
ولا محيص لهم منها ، نعوذ بالله وكلماته التامة من ذلك.
{ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } أي : يقال لأهل النار على
سبيل التقريع والتوبيخ : ذوقوا [هذا] (5) العذاب بسبب تكذيبكم به ، واستبعادكم
وقوعه ، وتناسيكم له ؛ إذ عاملتموه معاملة من هو ناس له ، { إِنَّا نَسِينَاكُمْ }
أي : [إنا] (6) سنعاملكم معاملة الناسي ؛ لأنه تعالى لا ينسى شيئا ولا يضل عنه شيء
، بل من باب المقابلة ، كما قال تعالى : { الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ
لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } [الجاثية : 34].
وقوله : { وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : بسبب
كفركم وتكذيبكم ، (7) كما قال في الآية الأخرى : { لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا
وَلا شَرَابًا. إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا جَزَاءً وِفَاقًا. إِنَّهُمْ كَانُوا لا
يَرْجُونَ حِسَابًا. وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا. وَكُلَّ شَيْءٍ
أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا. فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا } [النبأ : 24
- 30].
{ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا
سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15)
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ
لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) }.
__________
(1) بعدها في ف ، أ : "فارجعنا نعمل صالحا".
(2) في ت : "إذ".
(3) في ت ، ف : "بآيات".
(4) في ت ، ف : "قد ذرأتهم للنار".
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من ت.
(7) في ت : "كفرهم وتكذيبهم".
(6/362)
يقول تعالى
: { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا } أي : إنما يصدق بها { الَّذِينَ إِذَا
ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا } أي : استمعوا لها وأطاعوها قولا وفعلا {
وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ } [أي] (1) عن اتباعها
والانقياد لها ، كما يفعله الجهلة من الكفرة الفجرة ، [وقد] (2) قال الله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ
دَاخِرِينَ } [غافر : 60].
ثم قال [تعالى : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } يعني بذلك : قيام
الليل ، وترك النوم والاضطجاع على الفرش الوطيئة. قال مجاهد والحسن في قوله تعالى]
(3) : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ } يعني بذلك : قيام الليل.
وعن أنس ، وعكرمة ، ومحمد بن المُنْكَدِر ، وأبي حازم ، وقتادة : هو الصلاة بين
العشاءين. وعن أنس أيضًا : هو انتظار صلاة العتمة. رواه ابن جرير بإسناد جيد. (4)
وقال الضحاك : هو صلاة العشاء في جماعة ، وصلاة الغداة في جماعة.
{ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا } أي : خوفًا من وبال عقابه ، وطمعًا في
جزيل ثوابه ، { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } ، فيجمعون بين فعل القربات
اللازمة والمتعدية ، ومقدم هؤلاء وسيدهم وفخرهم في الدنيا والآخرة رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، كما قال عبد الله بن رَوَاحة ، رضي الله عنه :
وَفِينَا رَسُولُ الله يَتْلُو كتَابَه... إذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ الصُّبْحِ
سَاطعُ...
[أرَانَا الهُدَى بَعْدَ العَمَى فَقُلُوبُنَا... به مُوقِنَاتٌ أنَّ مَا قَال
وَاقِعُ] (5)...
يَبيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِه... إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بالْمُشْرِكِين
المَضَاجِعُ...
وقال الإمام أحمد : حدثنا روح وعفان قالا حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا عطاء بن
السائب ، عن مُرَّة الهمداني ، عن ابن مسعود (6) ، عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال : "عجب ربنا من رجلين : رجل ثار من وِطَائه ولحافه ، ومن بين أهله
وَحَيِّه (7) إلى صلاته ، [فيقول ربنا : أيا ملائكتي ، انظروا إلى عبدي ، ثار من
فراشه ووطائه ، ومن بين حيه وأهله إلى صلاته] (8) رغبة فيما عندي ، وشفقة مما
عندي. ورجل غزا في سبيل الله ، عز وجل ، فانهزموا ، فعلم ما عليه من الفرار ، وما
له في
__________
(1) زيادة من ت ، ف.
(2) زيادة من ت.
(3) زيادة من ت ، ف.
(4) تفسير الطبري (21/63).
(5) زيادة من ت ، ف ، أ.
(6) في ت : "وروى الإمام أحمد بإسناده عن ابن مسعود".
(7) في ت ، ف ، أ : "من بين بنيه وأهله".
(8) زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
(6/363)
الرجوع ،
فرجع حتى أهريق دمه ، رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي. فيقول الله ، عز وجل
للملائكة : انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي ، ورهبة مما عندي ، حتى أهريق
دمه".
وهكذا رواه أبو داود في "الجهاد" ، عن موسى بن إسماعيل ، عن حماد بن
سلمة ، به بنحوه. (1)
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن عاصم بن أبي النَّجُود
، عن أبي وائل ، (2) عن معاذ بن جبل قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر
، فأصبحت يوما قريبا منه ، ونحن نسير ، فقلت : يا نبي الله ، (3) أخبرني بعمل
يدخلني الجنة ويباعدني من النار. قال : "لقد سألت عن عظيم ، وإنه ليسير على
من يسره الله عليه ، تعبد الله ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ،
وتصوم رمضان ، وتحج البيت". ثم قال : "ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم
جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة ، وصلاة الرجل في (4) جوف الليل". ثم قرأ : {
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } ، حتى بلغ { يَعْمَلُون }. ثم قال :
"ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟" فقلت : بلى ، يا رسول
الله. فقال : "رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سَنَامه الجهاد في
سبيل الله". ثم قال : "ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟" فقلت : بلى ، يا
نبي الله. فأخذ بلسانه ثم قال : "كُفّ عليك هذا". فقلت : يا رسول الله ،
وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به. فقال : ثكلتك أمك يا معاذ ، وهل يَكُب الناس في النار
على وجوههم - أو قال : على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم".
رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم ، من طرق عن معمر ، به. (5) وقال (6)
الترمذي : حسن صحيح. ورواه ابن جرير من حديث شعبة ، عن الحكم قال : سمعت عُرْوَة
بن النزال (7) يحدث عن معاذ بن جبل ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له :
"ألا أدلك على أبواب الخير : الصوم جنة ، والصدقة تكفر الخطيئة ، وقيام العبد
في جوف الليل" ، وتلا هذه الآية : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ
الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ } (8).
ورواه أيضًا من حديث الثوري ، عن منصور بن المعتمر ، عن الحكم ، عن ميمون بن أبي
شبيب ، عن معاذ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ، ومن حديث الأعمش ، عن حبيب
بن أبي ثابت ، والحكم عن ميمون بن أبي شبيب ، عن معاذ مرفوعا بنحوه. ومن حديث حماد
بن سلمة ، عن عاصم بن أبي النَّجُود ، عن شهر ، عن معاذ بن جبل ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم ، في قوله تعالى : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ }
__________
(1) المسند (1/416) وسنن أبي داود برقم (5236).
(2) في ت : "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(3) في ت : "يا رسول الله".
(4) في ت : "من".
(5) المسند (5/231) وسنن الترمذي برقم (2616) والنسائي في السنن الكبرى برقم
(11394) وسنن ابن ماجه برقم (3973).
(6) في ت : "رواه".
(7) في أ : "الزبير".
(8) تفسير الطبري (21/64).
(6/364)
قال :
"قيام العبد من الليل". (1)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سَنَان الواسطي ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا
فِطْر بن خليفة ، عن حبيب بن أبي ثابت ، والحكم ، وحكيم بن جُبَيْر ، عن ميمون بن
أبي شبيب ، عن معاذ بن جبل قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك
فقال : "إن شئت أنبأتك بأبواب الخير : الصوم جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة ،
وقيام الرجل في جوف الليل" ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : {
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }.
ثم قال : حدثنا أبي ، حدثنا سويد بن سعيد ، حدثنا علي بن مُسْهِر ، عن عبد الرحمن
بن إسحاق ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، (2) عن أسماء بنت يزيد قالت : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة ، جاء مناد
فنادى بصوت يُسمعُ الخلائق : سيعلم أهل الجمع اليوم مَن أولى بالكرم. ثم يرجع
فينادي : ليقم (3) الذين كانت { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } الآية
، فيقومون وهم قليل". (4)
وقال البزار : حدثنا عبد الله بن شَبِيب ، حدثنا الوليد بن عطاء بن الأغر ، حدثنا
عبد الحميد بن سليمان ، حدثني مصعب ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه قال : قال بلال (5)
لما نزلت هذه الآية : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } [الآية] (6) ،
كنا نجلس في المجلس ، وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون بعد
المغرب إلى العشاء ، فنزلت هذه الآية : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ
الْمَضَاجِعِ }.
ثم قال : لا نعلم روى أسلم عن بلال سواه ، وليس له طريق عن بلال غير هذه الطريق
(7).
وقوله : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ
جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : فلا يعلم أحد عظمة ما أخفى الله لهم في
الجنات من النعيم المقيم ، واللذات التي لم يطلع على مثلها أحد ، لَمَّا أخفوا
أعمالهم (8) أخفى الله لهم من الثواب ، جزاء وفاقا ؛ فإن الجزاء من جنس العمل.
قال الحسن [البصري] : (9) أخفى قوم عملهم فأخفى الله لهم ما لم تر عين ، ولم يخطر
(10) على قلب بشر. رواه ابن أبي حاتم.
قال البخاري : قوله : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ
أَعْيُنٍ } الآية : حدثنا علي بن
__________
(1) تفسير الطبري (21/64 ، 65).
(2) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
(3) في ت : "لتقم".
(4) ورواه إسحاق بن راهوية في مسنده ، وأبو يعلى في المسند الكبير كما في المطالب
العالية (4/373) من حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها.
(5) في ت : "وقال البزار بإسناده عن بلال قال".
(6) زيادة من ت ، ف.
(7) مسند البزار برقم (2250) "كشف الأستار" ، وقال الهيثمي في المجمع
(7/90) : "فيه عبد الله بن شبيب وهو ضعيف".
(8) في ت ، ف ، أ : "أعمالهم كذلك".
(9) زيادة من أ.
(10) في ت : "ولا يخطر".
(6/365)
عبد الله ،
حدثنا سفيان ، عن أبي الزِّنَاد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "قال الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين
ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر". قال أبو هريرة :
فاقرؤوا إن شئتم : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ
أَعْيُنٍ }.
قال : وحدثنا سفيان ، حدثنا أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال الله
مثله (1). قيل لسفيان : روايةً ؟ قال : فَأيُّ شيء ؟.
ورواه مسلم والترمذي من حديث سفيان بن عيينة ، به (2). وقال الترمذي : حسن صحيح.
ثم قال البخاري : حدثنا إسحاق بن نصر ، حدثنا أبو أسامة ، عن الأعمش ، حدثنا (3)
أبو صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : "يقول الله تعالى :
أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ،
ذُخْرًا منْ بَله ما أطلعْتم عليه" ، ثم قرأ : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا
أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }.
قال أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، قرأ أبو هريرة : "قُرَّات
أَعْيُنٍ". انفرد به البخاري من هذا الوجه. (4)
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن همام بن مُنَبِّه قال :
هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله تعالى
قال : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب
بشر".
أخرجاه في الصحيحين من رواية عبد الرزاق (5). ورواه الترمذي في التفسير ، وابن
جرير ، من حديث عبد الرحيم بن سليمان ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي
هريرة ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله. ثم قال الترمذي :
هذا حديث حسن صحيح. (6)
وقال حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة (7) ، رضي الله عنه ،
قال حماد : أحسبه عن النبي (8) صلى الله عليه وسلم قال : "من يدخل الجنة ينعم
لا يبأس ، لا تبلى ثيابه ، ولا يفنى شبابه ، في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن
سمعت ، ولا خطر على قلب بشر".
__________
(1) في ف ، أ : "تعالى".
(2) صحيح البخاري برقم (4779) وصحيح مسلم برقم (2824) وسنن الترمذي برقم (3197).
(3) في ف ، أ : "عن".
(4) صحيح البخاري برقم (4780) وفي البخاري "رواية أبي معاوية" بعد
الحديث المتقدم.
(5) المسند (2/313) وصحيح البخاري برقم (8498) من طريق عبد الله عن معمر به ، ولم
أجده في الصحيحين من رواية عبد الرزاق.
(6) سنن الترمذي برقم (3292) وتفسير الطبري (21/66).
(7) في ت : "وروى مسلم عن أبي هريرة".
(8) في ت : "رسول الله".
(6/366)
رواه مسلم من
حديث حماد بن سلمة ، به. (1)
وروى (2) الإمام أحمد : حدثنا هارون ، حدثنا ابن وهب ، حدثني أبو صخر ، أن أبا
حازم حدَّثه قال : سمعت (3) سهل بن سعد الساعدي ، رضي الله عنه ، يقول : شهدت من
رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا وصف فيه الجنة ، حتى انتهى ، ثم قال في آخر
حديثه : "فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر" ،
ثم قرأ هذه الآية : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا] } (4) ، إلى قوله : { يَعْمَلُون }.
وأخرجه مسلم في صحيحه عن هارون بن معروف ، وهارون بن سعيد ، كلاهما عن ابن وهب ،
به. (5)
وقال ابن جرير : حدثني العباس بن أبي طالب ، حدثنا معلى بن أسد ، حدثنا سلام بن
أبي مطيع ، عن قتادة ، عن عقبة بن عبد الغافر ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، يروي عن ربه ، عز وجل ، قال : "أعددت لعبادي الصالحين
ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر". لم يخرجوه. (6)
وقال (7) مسلم أيضا في صحيحه : حدثنا ابن أبي عمر وغيره ، حدثنا سفيان ، حدثنا
مُطَرّف بن طَريف وعبد الملك بن سعيد ، سمعا الشعبي يخبر عن المغيرة بن شعبة قال :
سمعته على المنبر - يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم - قال : "سأل موسى ،
عليه السلام (8) ربه عز وجل : ما أدنى أهل الجنة منزلة ؟ قال : هو رجل يجيء بعدما
أدخل أهل الجنة الجنة ، فيقال له : ادخل الجنة. فيقول : أي رب ، كيف وقد نزل الناس
منازلهم ، وأخذوا أخذاتهم ؟ فيقال له : أترضى أن يكون لك مثل مُلك مَلِكٍ من ملوك
الدنيا ؟ فيقول : رضيت رب. فيقول : لك ذلك ، ومثله ، ومثله ، ومثله ، ومثله ،
فَقَال في الخامسة : رضيت رب. فيقول : هذا لك وعشرة أمثاله (9) ولك ما اشتهت نفسك
ولَذَّت عينك. فيقول : رضيت رب. قال : رب ، فأعلاهم منزلة ؟ قال : أولئك الذين
أرَدتُ ، غَرَسْتُ كرامتهم بيدي ، وختمت عليها ، فلم تر عين ، ولم تسمع (10) أذن ،
ولم يخطر على قلب بشر" ، قال : ومصداقه من كتاب الله : { فَلا تَعْلَمُ
نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ }.
ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر ، وقال : حسن صحيح ، قال : ورواه بعضهم عن الشعبي ،
عن المغيرة ولم يرفعه ، والمرفوع أصح. (11)
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2836).
(2) في أ : "وقال".
(3) في ت : "وروى مسلم أيضا عن".
(4) زيادة من ت ، ف ، أ.
(5) المسند (5/334) وصحيح مسلم برقم (2825).
(6) تفسير الطبري (21/67).
(7) في ت : "وروى".
(8) في ت : "صلى الله عليه وسلم".
(9) في ف ، أ : "وعشرة أمثاله معه".
(10) في ف "تستمع".
(11) صحيح مسلم برقم (189) وسنن الترمذي برقم (3198).
(6/367)
قال ابن أبي
حاتم : حدثنا جعفر بن منير المدائني ، حدثنا أبو بدر شجاعُ بن الوليد ، حدثنا زياد
بن خَيْثَمة ، عن محمد بن جُحَادة ، عن عامر (1) بن عبد الواحد قال : بلغني أن
الرجل من أهل الجنة يمكث في مكانه سبعين سنة ، ثم يلتفت فإذا هو بامرأة أحسن مما
كان فيه ، فتقول له : قد أنَى لك أن يكون لنا منك نصيب ؟ فيقول : من أنت ؟ فتقول :
أنا من المزيد. فيمكث معها سبعين سنة ، ثم يلتفت فإذا هو بامرأة أحسن مما كان فيه
، فتقول له : قد أنى لك أن يكون لنا منك نصيب ، فيقول : من أنت ؟ فتقول : أنا التي
(2) قال الله : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ
}.
وقال ابن لَهِيعَة : حدثني عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جُبَيْر قال : تدخل عليهم
الملائكة في مقدار كل يوم من أيام الدنيا ثلاث مرات ، معهم التحف من الله من جنات
عدن ما ليس في جناتهم ، وذلك قوله : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ
مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } ، ويُخْبَرون أن الله عنهم (3) راض.
وقال ابن جرير : حدثنا سهل بن موسى الرازي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن صفوان بن
عمرو ، عن أبي اليمان الهوزني - أو غيره - قال : الجنة مائة درجة ، أوَّلها درجة
فضة وأرضها فضة ، ومساكنها فضة ، [وآنيتها فضة] (4) وترابها المسك. والثانية ذهب ،
وأرضها ذهب ، ومساكنها ذهب ، وآنيتها ذهب ، وترابها المسك. والثالثة لؤلؤ ، وأرضها
لؤلؤ ، ومساكنها اللؤلؤ ، وآنيتها اللؤلؤ ، وترابها المسك. وسبع وتسعون بعد ذلك ،
ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. ثم تلا هذه الآية : { فَلا
تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ } (5)
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا معتمر بن سليمان ، عن الحكم بن
أبان ، عن الغِطْرِيف ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس (6) عن النبي صلى الله عليه
وسلم ، عن الروح الأمين قال : "يؤتى بحسنات العبد وسيئاته ، ينقص بعضها من
بعض ، فإن بقيت حسنة [واحدة] (7) وسع الله له في الجنة" ، قال : فدخلت على
"يزداد" فَحَدَّث بمثل هذا الحديث ، قال : فقلت : فأين ذهبت الحسنة ؟
قال : { أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا
وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ
الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } [الأحقاف : 16]. قلت : قوله تعالى : { فَلا تَعْلَمُ
نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } ، قال : العبد يعمل سرًّا
أسرَّه إلى الله ، لم يُعلم به الناس ، فأسَرَّ الله له يوم القيامة قُرَّة أعين.
(8)
__________
(1) في ت : "وروى ابن أبي حاتم عن عباس".
(2) في أ : "أنا من الذين".
(3) في ت : "عليهم".
(4) زيادة من ت ، ف ، أ ، والطبري.
(5) تفسير الطبري (21/66).
(6) في ت : "وروى ابن جرير بإسناده عن ابن عباس".
(7) زيادة من ت ، ف ، أ ، والطبري.
(8) تفسير الطبري (21/67).
(6/368)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)
{ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نزلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) }
(6/369)
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
{
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ
ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) }
يخبر تعالى عن عدله [وكرمه] (1) أنه لا يساوي في حُكمه يوم القيامة مَنْ كان
مُؤمنًا بآياته متبعًا لرسله ، بمن كان فاسقا ، أي : خارجا عن طاعة ربه مكذِّبًا
لرُسُله إليه (2) ، كما قال تعالى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا
السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } [الجاثية : 21] ، وقال
تعالى : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ص :
28] ، وقال تعالى : { لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } [الحشر : 20] ؛ ولهذا قال تعالى هاهنا
: { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ } أي : عند
الله يوم القيامة.
وقد ذكر عطاء بن يَسَار والسُّدِّيّ وغيرهما : أنها نزلت في علي بن أبي طالب ،
وعقبة بن أبي مُعَيط ؛ ولهذا فَصَّل حكمهم فقال : { أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي : صدقت قلوبهم بآيات الله وعملوا بمقتضاها (3) ،
وهي الصالحات { فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى } أي : التي فيها المساكن والدور
والغرف العالية { نزلا } أي : ضيافة وكرامة { بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. وَأَمَّا
الَّذِينَ فَسَقُوا } أي : خرجوا عن الطاعة ، { فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا
أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا } كقوله : { كُلَّمَا
أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا } الآية [الحج :
22].
قال الفُضَيل بن عياض : والله إن الأيدي لموثقة ، وإن الأرجل لمقيدة ، وإن اللهب
ليرفعهم والملائكة تقمعهم.
{ وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ }
أي : يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا.
وقوله : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ
الأكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] } (4) قال (5) ابن
عباس : يعني بالعذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها وآفاتها ، وما يحل بأهلها مما
يبتلي الله به عباده ليتوبوا إليه. وروي مثله عن أبي بن كعب ، وأبي العالية ،
والحسن ، وإبراهيم النَّخَعِي ، والضحاك ، وعلقمة ، وعطية ، ومجاهد ، وقتادة ،
وعبد الكريم الجَزَري ، وخَصِيف.
وقال ابن عباس - في رواية عنه - : يعني به إقامة الحدود عليهم.
وقال البراء بن عازب ، ومجاهد ، وأبو عبيدة : يعني به عذاب القبر.
وقال النسائي : أخبرنا عمرو بن علي ، أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن إسرائيل ، عن
أبي
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت ، ف : "لرسل الله".
(3) في ت : "قلوبهم بلقاء الله ومقتضاها".
(4) زيادة من ت.
(5) في ت : "وقال".
(6/369)
إسحاق ، عن
أبي الأحوص وأبي عبيدة (1) ، عن عبد الله : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ
الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ } قال : سنون أصابتهم. (2)
وقال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثني عبد الله بن عُمَر القَوَاريري ، حدثنا يحيى
بن سعيد ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن عَزْرَة (3) ، عن الحسن العُرَني ، عن يحيى بن
الجزار ، عن ابن أبي ليلى (4) عن أبي بن كعب في هذه الآية : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ
مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ } قال : المصيبات (5)
والدخان قد مضيا ، والبطشة واللزام. (6)
ورواه مسلم من حديث شعبة ، به موقوفا نحوه. (7) وعند البخاري عن ابن مسعود ، نحوه.
(8)
وقال عبد الله بن مسعود (9) أيضا ، في رواية عنه : العذاب الأدنى : ما أصابهم من القتل
والسبي يوم بدر. وكذا قال مالك ، عن زيد بن أسلم.
قال السُّدِّي وغيره : لم يبق بيت بمكة إلا دخله الحزن على قتيل لهم أو أسير ،
فأصيبوا أو غَرموا (10) ، ومنهم مَنْ جمع له الأمران.
وقوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا
} أي : لا أظلم ممن ذَكَّرَه الله بآياته وبينها له ووضحها ، ثم بعد ذلك تركها
وجحدها وأعرض عنها وتناساها ، كأنه لا يعرفها.
قال قتادة ، رحمه الله : إياكم والإعراض عن ذكر الله ، فإن مَنْ أعرض عن ذكره فقد
اغتر أكبر الغرَّة ، وأعوز أشد العَوَز (11) ، وعظم من أعظم الذنوب.
ولهذا قال تعالى متهددا لمن فعل ذلك : { إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ
} أي : سأنتقم ممن فعل ذلك أشد الانتقام.
وقال ابن جرير : حدثني عمران بن بكار الكِلاعي ، حدثنا محمد بن المبارك ، حدثنا
إسماعيل بن عياش ، حدثنا عبد العزيز بن عبيد الله ، عن عبادة بن نُسَيّ ، عن جنادة
بن أبي أمية (12) عن معاذ بن جبل قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
"ثلاث من فعلهن فقد أجرم ، من عقد (13) لواء في غير حق ، أو عقَّ والديه ، أو
مشى مع ظالم ينصره ، فقد أجرم ، يقول الله تعالى : { إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ
مُنْتَقِمُونَ } (14)
__________
(1) في ت : "وروى النسائي بإسناده".
(2) النسائي في السنن الكبرى برقم (11395).
(3) في ف ، أ : "عررة".
(4) في ت : "وروى عبد الله بن الإمام أحمد".
(5) في ت ، أ : "المضمار".
(6) زوائد المسند (5/128).
(7) صحيح مسلم برقم (2799).
(8) صحيح البخاري برقم (4820) ولفظه : "مضي خمس : الدخان والروم والقمر
والبطشة واللزام".
(9) في ت : "وعن ابن مسعود".
(10) في ت : "هزموا".
(11) في ت ، أ : "وأعور أشد العورة".
(12) في ت : "وروى ابن جرير بإسناده".
(13) في ت : "اعتقد" وفي أ "أعقد".
(14) تفسير الطبري (21/69).
(6/370)
وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
ورواه ابن
أبي حاتم ، من حديث إسماعيل بن عياش ، به ، وهذا حديث غريب جدًا.
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ
وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً
يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ (25) }
يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله موسى ، عليه السلام ، أنه آتاه الكتاب وهو
التوراة.
وقوله : { فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ } : قال قتادة : يعني به ليلة
الإسراء. (1) ثم روي عن أبي العالية الرّياحي قال : حدثني ابن عم نبيكم - يعني ابن
عباس - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أُريتُ ليلة أسري بي موسى
بن عمران ، رجلا آدم طُوَالا جَعْدًا ، كأنه من رجال شَنُوءة. ورأيت عيسى رجلا
مربوع الخلق ، إلى الحمرة والبياض ، مبسط الرأس ، ورأيت مالكًا خازن النار والدجال
، في آيات أراهن الله إياه" ، { فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ } ،
أنه قد رأى موسى ، ولقي موسى ليلة أسري به. (2)
وقال الطبراني : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا الحسن بن علي
الحُلْوَاني ، حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة ، عن
أبي العالية ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : {
وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } ، قال : جُعل موسى هُدى لبني إسرائيل
، وفي قوله : { فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ } قال : من لقاء موسى ربه
عز وجل. (3)
وقوله : { وَجَعَلْنَاهُ } أي : الكتاب الذي آتيناه { هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ
} ، [كما قال تعالى في سورة الإسراء : { وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ
وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا }
[الإسراء : 2].
وقوله : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا
وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } ، أي : لما كانوا صابرين على أوامر الله وترك
نواهيه وزواجره وتصديق رسله واتباعهم فيما جاؤوهم به ، كان منهم أئمة يهدون إلى
الحق بأمر الله ، ويدعون إلى الخير ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر. ثم لما
بدلوا وحَرَّفوا وأوَّلوا ، سلبوا ذلك المقام ، وصارت قلوبهم قاسية ، يحرفون الكلم
عن مواضعه ، فلا عمل صالحًا ، ولا اعتقاد صحيحًا ؛ (4) ولهذا قال : { وَجَعَلْنَا
مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا } (5) قال قتادة وسفيان
: لما صبروا عن الدنيا : وكذلك قال الحسن بن صالح.
قال سفيان : هكذا كان هؤلاء ، ولا ينبغي للرجل أن يكون إماما يُقتَدى به حتى
يتحامى عن الدنيا.
قال وكيع : قال سفيان : لا بد للدين من العلم ، كما لا بد للجسد من الخبز.
__________
(1) في ت : "الأسرى".
(2) انظر الأثر عند تفسير الآية الأولى من سورة الإسراء وتخريجه هناك.
(3) المعجم الكبير للطبراني (12/160) وقال الهيثمي في المجمع (7/90) : "رجاله
رجال الصحيح".
(4) في ت : "فلا عملا صالحا ولا اعتقادا صحيحا".
(5) في ف ، أ : "ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب".
(6/371)
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
وقال ابن
بنت الشافعي : قرأ أبي على عمي - أو : عمي على أبي - سئل سفيان عن قول علي ، رضي
الله عنه : الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، ألم تسمع قوله : {
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا } ، قال :
لما أخذوا برأس الأمر صاروا رؤوسًا. قال بعض العلماء : بالصبر واليقين تنال
الإمامة في الدين.
ولهذا قال تعالى] : (1) { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ
وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة [وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ
عَلَى الْعَالَمِينَ. وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ] فَمَا اخْتَلَفُوا
إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ } [الجاثية : 16 ، 17] (2) ، كما قال
هنا : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا
كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : من الاعتقادات والأعمال.
{ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ
يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ
بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ
(27) }.
يقول تعالى : أولم يهد لهؤلاء المكذبين بالرسل ما أهلك الله قبلهم من الأمم
الماضية ، بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم إياهم فيما جاؤوهم به من قويم السبل ، فلم يبق
منهم باقية ولا عين ولا أثر ؟ { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ
لَهُمْ رِكْزًا } [مريم : 98] ؛ ولهذا قال : { يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } أي :
وهؤلاء المكذبون يمشون في مساكن أولئك المكذبين فلا يرون فيها أحدا ممن كان يسكنها
ويعمرها ، ذهبوا منها ، { كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا } [الأعراف : 92] ، كما
قال : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا } [النمل : 52] ، وقال : {
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ
عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ. أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ
بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي
الصُّدُورِ } [الحج : 45 ، 46] ؛ ولهذا قال هاهنا : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ }
أي : إن في ذهاب أولئك القوم ودَمَارهم وما حل بهم بسبب تكذيبهم الرسل ، ونجاة من
آمن بهم ، لآيات وعبرا ومواعظ ودلائل (3) متظاهرة.
{ أَفَلا يَسْمَعُونَ } أي : أخبار من تقدم ، كيف كان أمرهم ؟.
وقوله : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ } :
يبين تعالى لطفه بخلقه ، وإحسانه إليهم في إرساله الماء إما من السماء أو من السيح
، وهو : ما تحمله الأنهار وينحدر من الجبال إلى الأراضي المحتاجة إليه في أوقاته ؛
ولهذا قال : { إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ } ، وهي [الأرض] (4) التي لا نبات فيها ،
كما قال تعالى : { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } [الكهف
: 8] ، أي : يَبَسًا لا تنبت شيئًا
__________
(1) زيادة من ت ، ف ، أ.
(2) زيادة من ت ، ف ، أ.
(3) في ت ، أ : "دلالات".
(4) زيادة من ت ، أ.
(6/372)
وليس المراد
من قوله : { إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ } أرض مصر فقط ، بل هي بعض المقصود ، وإن مثل
بها كثير من المفسرين فليست [هي] (1) المقصودة وحدها ، ولكنها مرادة قطعًا من هذه
الآية ، فإنها في نفسها أرض رخوة غليظة تحتاج من الماء ما لو نزل عليها مطرًا
لتهدمت أبنيتها ، فيسوق الله إليها النيل بما يتحمله من الزيادة الحاصلة من أمطار
بلاد الحبشة ، وفيه طين أحمر ، فيغشى أرض مصر ، وهي أرض سبخة مرملة محتاجة إلى ذلك
الماء ، وذلك الطين أيضًا لينبُتَ الزرع فيه ، فيستغلون كل سنة على ماء جديد ممطور
في غير بلادهم ، وطين جديد من غير أرضهم ، فسبحان الحكيم الكريم المنان المحمود
ابتداء.
قال ابن لَهِيعَة ، عن قيس بن حجاج ، عمن حدثه قال : لما فُتِحَت مصر ، أتى أهلها
عمرو بن العاص - [وكان أميرًا بها] (2) - حين دخل بؤونة من أشهر العجم ، فقالوا :
أيها الأمير ، إن لنيلنا سُنَّة لا يجري إلا بها. قال : وما ذاك ؟ قالوا : إذا
كانت ثنتا عشرة ليلة خلت من هذا الشهر عَمَدنا إلى جارية بِكْر بين (3) أبويها ،
فأرضينا أبويها ، وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون ، ثم ألقيناها في
هذا النيل. فقال لهم عمرو : إن هذا لا يكون في الإسلام ، إن الإسلام يهدم ما كان
قبله. فأقاموا بؤونة والنيل لا يجري ، حتى هموا بالجلاء ، فكتب عمرو إلى عمر بن
الخطاب بذلك ، فكتب إليه : إنك قد أصبت بالذي فعلت ، وقد بعثت إليك ببطاقة داخل
كتابي هذا ، فألقها في النيل. فلما قدم كتابه أخذ عمرو البطاقة ففتحها فإذا فيها :
من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر ، أما بعد... فإنك إن كنت إنما
تجري من قبلك فلا تجر ، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله أن
يجريك. قال : فألقى البطاقة في النيل ، وأصبحوا يوم السبت وقد أجرى الله النيل ستة
عشر ذراعًا في ليلة واحدة ، وقطع الله تلك السُّنَّة عن أهل مصر إلى اليوم. رواه
الحافظ أبو القاسم اللالكائي الطبري في كتاب "السنة" له. (4)
ولهذا قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرْضِ
الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ
أَفَلا يُبْصِرُونَ } ، كما قال تعالى : { فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى
طَعَامِهِ. أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقًّا.
فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا. وَعِنَبًا وَقَضْبًا. وَزَيْتُونًا وَنَخْلا.
وَحَدَائِقَ غُلْبًا. وَفَاكِهَةً وَأَبًّا. [مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ] }
[عبس : 24 - 32] ؛ (5) ولهذا قال هاهنا : { أَفَلا يُبْصِرُونَ }. وقال ابن أبي
نَجِيح ، عن رجل ، عن ابن عباس في قوله : { إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ } قال : هي
التي لا تُمطر إلا مطرًا لا يغني عنها شيئا ، إلا ما يأتيها من السيول.
وعن ابن عباس ، ومجاهد : هي أرض باليمن.
وقال الحسن ، رحمه الله : هي قرى فيما بين اليمن والشام.
وقال عِكْرِمة ، والضحاك ، وقتادة ، والسُّدِّيّ ، وابن زيد : الأرض الجرز : التي
لا نبات فيها
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) زيادة من ت.
(3) في أ : "من".
(4) كتاب السنة للالكائي برقم (66) "قسم كرامات الأولياء" حدثنا محمد بن
أبي بكر ، حدثنا محمد بن مخلد ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثنا عبد الله بن صالح ،
عن ابن لهيعة به ، وهو مرسل.
(5) زيادة من ت ، ف ، أ.
(6/373)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
وهي مغبرة.
قلت : وهذا كقوله : { وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا
وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ. وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ
مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ. لِيَأْكُلُوا مِنْ
ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ } [يس : 33 - 35].
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ
الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ
(29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) }.
يقول تعالى مخبرًا عن استعجال الكفار وقوعَ بأس الله بهم ، وحلول غضبه ونقمته
عليهم ، استبعادًا وتكذيبًا وعنادا : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ } ؟ أي
: متى تنصر علينا يا محمد ؟ كما تزعم أن لك وقتًا تُدَال علينا ، ويُنْتَقم لك منا
، فمتى يكون هذا ؟ ما نراك أنت وأصحابك إلا مختفين خائفين ذليلين!
قال الله تعالى : { قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ } أي : إذا حَلَّ بكم بأس الله وسَخَطه
وغضبه في الدنيا وفي الأخرى ، { لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا
هُمْ يُنْظَرُونَ } ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا
كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ. فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا
بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ
يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ
خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } [غافر : 83 - 85] ،
ومَنْ زعم أن المراد من هذا الفتح فتحُ مكة فقد أبعد النَّجْعة ، وأخطأ فأفحش ،
فإن يوم الفتح قد قَبِل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إسلام الطلقاء ، وقد كانوا
قريبًا من ألفين ، ولو كان المراد فتح مكة لما قبل إسلامهم ؛ لقوله : { قُلْ
يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ
يُنْظَرُونَ } ، وإنما المراد الفتح الذي هو القضاء والفصل ، كقوله تعالى : {
فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ } [الشعراء : 118] ، وكقوله : { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا
ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ } [سبأ : 26]
، وقال تعالى : { وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } [إبراهيم :
15] ، وقال : { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا }
[البقرة : 89] ، وقال : { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ }
[الأنفال : 19].
ثم قال : { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ } أي : أعرض
عن هؤلاء المشركين وبلغ ما أنزل إليك من ربك ، كقوله : { اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ }
[الأنعام : 106] ، وانتظر فإن الله سينجز لك ما وعدك ، وسينصرك على من خالفك ، إنه
لا يخلف الميعاد.
وقوله : { إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ } أي : أنت منتظر ، وهم منتظرون ، ويتربصون بكم
الدوائر ، { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ } [الطور
: 30] ، وسترى أنت عاقبة صبرك عليهم وعلى أداء رسالة الله ، في نصرتك وتأييدك ،
وسيجدون غب ما ينتظرونه فيك وفي أصحابك ، من وبيل عقاب الله لهم ، وحلول عذابه بهم
، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، [والله أعلم]. (1)
[آخر تفسير سورة "الم السجدة"] (2)
__________
(1) زيادة من ف.
(2) زيادة من ت.
(6/374)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)
تفسير سورة
الأحزاب
[وهي] (1) مدنية.
قال [عبد الله بن] الإمام أحمد (2) : حدثنا خلف بن هشام ، حدثنا حماد بن زيد ، عن
عاصم بن بَهْدَلَة ، عن زِرِّ قال : قال لي أُبي بن كعب : كَأين تقرأ سورة الأحزاب
؟ أو كَأين تعدها ؟ قال : قلت : ثلاثا وسبعين آية : فقال : قَط! لقد رأيتها وإنها
لتعادل "سورة البقرة" ، ولقد قرأنا فيها : الشيخ والشيخة إذا زنيا
فارجموهما البتة ، نكالا من الله ، والله عليم (3) حكيم" (4).
ورواه النسائي من وجه آخر ، عن عاصم - وهو ابن أبي النجود ، وهو ابن بَهْدَلَة -
به (5). وهذا إسناد حسن ، وهو يقتضي أنه كان (6) فيها قرآن ثم نسخ لفظه وحكمه أيضا
، والله أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ
وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا
يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2)
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (3) }.
هذا تنبيه بالأعلى على الأدنى ، فإنه تعالى إذا كان يأمر عبده ورسوله بهذا ، فَلأن
يأتمر من دونه بذلك بطريق الأولى والأحرى. وقد قال طَلْق بن حبيب : التقوى : أن
تعمل بطاعة الله ، على نور من الله ، ترجو ثواب الله ، وأن تترك معصية الله ، على
نور من الله ، مخافة عذاب الله.
وقوله : { وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } أي : لا تسمع منهم ولا
تستشرهم ، { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي : فهو أحق أن تتبع أوامره
وتطيعه ، فإنه عليم بعواقب الأمور ، حكيم في أقواله وأفعاله. ولهذا قال : {
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } أي : من قرآن وسنة ، { إِنَّ
اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } أي : فلا تخفى عليه خافية.
{ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } أي : في جميع أمورك وأحوالك ، { وَكَفَى بِاللَّهِ
وَكِيلا }
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في هـ : "قال الإمام أحمد : إنما قاله عبد الله بن أحمد" ، وفي ت ،
ف ، أ : "قال الإمام أحمد" وأثبتنا ما بين القوسين ليستقيم السياق ،
والذي في المسند : "حدثنا عبد الله ، حدثنا خلف".
(3) في ت ، أ : "عزيز".
(4) المسند (5/132).
(5) النسائي في السنن الكبرى برقم (7150).
(6) في أ : "أنه قد كان".
(6/375)
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
أي : وكفى
به وكيلا لمن توكل عليه وأناب إليه.
{ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ
أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ
أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ
يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ
أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي
الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ
وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) }.
يقول تعالى موطئا قبل المقصود المعنوي أمرا حسيا معروفا ، وهو أنه كما لا يكون
للشخص الواحد قلبان في جوفه ، ولا تصير زوجته التي يظاهر منها بقوله : أنت عَلَيَّ
كظهر أمي أمًا له ، كذلك لا يصير الدَّعيّ ولدًا للرجل إذا تبنَّاه فدعاه ابنا له
، فقال : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا
جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } ، كقوله :
{ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ
وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا }.[المجادلة : 3].
وقوله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } : هذا هو المقصود بالنفي
؛ فإنها نزلت في شأن زيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه وسلم ، كان النبي صلى
الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة ، وكان يقال له : "زيد بن محمد"
فأراد الله تعالى أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة بقوله : { وَمَا جَعَلَ
أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } كما قال في أثناء السورة : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ
أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ
وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } [الأحزاب : 40] وقال هاهنا : {
ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ } يعني : تبنيكم لهم قول لا يقتضي أن يكون
ابنا حقيقيا ، فإنه مخلوق من صلب رجل آخر ، فما يمكن أن يكون له أبوان ، كما لا
يمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان.
{ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } : قال سعيد بن جبير {
يَقُولُ الْحَقَّ } أي : العدل. وقال قتادة : { وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } أي :
الصراط المستقيم.
وقد ذكر غير واحد : أن هذه الآية نزلت في رجل من قريش ، كان يقال له : "ذو
القلبين" ، وأنه كان يزعم أن له قلبين ، كل منهما بعقل وافر. فأنزل الله هذه
الآية ردا عليه. هكذا روى العَوْفي عن ابن عباس. قاله مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ،
وقتادة ، واختاره ابن جرير.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا زهير ، عن قابوس - يعني ابن أبي ظِبْيَان -
أن أباه حدثه قال : قلت لابن عباس : أرأيت قول الله تعالى (1) : { مَا جَعَلَ
اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } ، ما عنى بذلك ؟ قال : قام رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوما يصلي ، فخَطَر خَطْرَة ، فقال المنافقون الذين يصلون
معه : ألا ترون له قلبين ، قلبا معكم وقلبا معهم ؟ فأنزل الله ، عز وجل : { مَا
جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } (2).
__________
(1) في ف : "عز وجل".
(2) المسند (1/267).
(6/376)
وهكذا رواه
الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، عن صاعد الحراني - وعن عبد بن حميد ،
عن أحمد بن يونس - كلاهما عن زهير ، وهو ابن معاوية ، به. ثم قال : وهذا حديث حسن.
وكذا رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم من حديث زهير ، به. (1)
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، في قوله : { مَا جَعَلَ اللَّهُ
لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } قال : بلغنا أن ذلك كان في زيد بن حارثة
، ضُرب له مثل ، يقول : ليس ابن رجل آخر ابنك (2).
وكذا قال مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد : أنها نزلت في زيد بن حارثة. وهذا يوافق ما
قدَّمناه من التفسير ، والله أعلم.
وقوله : { ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } : هذا أمر ناسخ
لما كان في ابتداء الإسلام من جواز ادعاء الأبناء الأجانب ، وهم الأدعياء ، فأمر
[الله] (3) تعالى برد نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة ، وأن هذا هو العدل والقسط.
قال البخاري ، رحمه الله : حدثنا مُعَلى (4) بن أسد ، حدثنا عبد العزيز بن المختار
، حدثنا موسى بن عقبة قال : حدثني سالم عن عبد الله بن عمر ؛ أن زيدًا بن حارثة
مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد ، حتى نزل
القرآن : { ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ }. وأخرجه مسلم
والترمذي والنسائي ، من طرق ، عن موسى بن عقبة ، به (5).
وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه ، في الخلوة بالمحارم وغير ذلك ؛
ولهذا قالت سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة : يا رسول الله ، كنا (6) ندعو سالما
ابنا ، وإن الله قد أنزل ما أنزل ، وإنه كان يدخل عَلَيّ ، وإني أجد في نفس أبي
حذيفة من ذلك شيئا ، فقال صلى الله عليه وسلم : "أرضعيه تحرمي عليه"
الحديث. (7)
ولهذا لما نسخ هذا الحكم ، أباح تعالى زوجة الدعي ، وتزوج رسول الله صلى الله عليه
وسلم بزينب بنت جحش زوجة (8) زيد بن حارثة ، وقال : { لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ
وَطَرًا } [الأحزاب : 37] ، وقال في آية التحريم : { وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ
الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ } [النساء : 23] ، احترازا عن زوجة الدعيّ ، فإنه ليس
من الصلب ، فأما الابن من الرضاعة ، فمنزل منزلة ابن الصلب شرعا ، بقوله عليه
السلام (9) في الصحيحين : "حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب" (10).
فأما دعوة الغير ابنا على سبيل التكريم والتحبيب ، فليس مما نهى عنه في هذه الآية
، بدليل ما رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا الترمذي ، من حديث سفيان الثوري ، عن
سلمة بن كُهَيْل ،
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3199) وتفسير الطبري (21/74).
(2) تفسير عبد الرزاق (2/92).
(3) زيادة من ت ، ف ، أ.
(4) في ف : "يعلى".
(5) صحيح البخاري برقم (4782) وصحيح مسلم برقم (2425) وسنن الترمذي برقم (3209)
والنسائي في السنن الكبرى برقم (11397).
(6) في ت ، ف ، أ "إنا كنا".
(7) الحديث في صحيح مسلم برقم (1453) عن عائشة ، رضي الله عنها.
(8) في ف : "مطلقة".
(9) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(10) صحيح البخاري برقم (4796) وصحيح مسلم برقم (1445) من حديث عائشة ، رضي الله
عنها.
(6/377)
عن الحسن
العُرَني ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قدمنا على رسول الله صلى الله
عليه وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على حُمُرَات لنا من جَمْع ، فجعل يَلْطَخ
أفخاذنا ويقول : "أُبَيْنيّ لا ترموا الجمرة (1) حتى تطلع الشمس " (2).
قال أبو عبيد وغيره : "أُبَيْنيّ" تصغير بني (3). وهذا ظاهر الدلالة ،
فإن هذا كان في حجة الوداع سنة عشر ، وقوله : { ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ } في شأن
زيد بن حارثة ، وقد قتل في يوم مؤتة سنة ثمان ، وأيضا ففي صحيح مسلم ، من حديث أبي
عَوَانة الوضاح بن عبد الله اليَشْكُري ، عن الجَعْد أبي عثمان البصري ، عن أنس بن
مالك ، رضي الله عنه ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا
بُني". ورواه أبو داود والترمذي (4).
وقوله : { فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ
وَمَوَالِيكُمْ } : أمر [الله] (5) تعالى برد أنساب الأدعياء إلى آبائهم ، إن
عرفوا ، فإن لم يعرفوا (6) آباءهم ، فهم إخوانهم في الدين ومواليهم ، أي : عوضًا
عما فاتهم من النسب. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خرج من مكة عام
عُمرة القضاء ، وتبعتهم ابنة حمزة تنادي : يا عم ، يا عم. فأخذها علي وقال لفاطمة
: دونَك ابنة عَمّك فاحتمليها (7). فاختصم فيها علي ، وزيد ، وجعفر في أيّهم
يكفلها ، فكل أدلى بحجة (8) ؛ فقال علي : أنا أحق بها وهي ابنة عميس - وقال زيد :
ابنة أخي. وقال جعفر بن أبي طالب : ابنة عمي ، وخالتها تحتي - يعني أسماء بنت
عميس. فقضى النبي (9) صلى الله عليه وسلم لخالتها ، وقال : "الخالة بمنزلة
الأم". وقال لعلي : "أنت مني ، وأنا منك". وقال لجعفر :
"أشبهت خَلْقي وخُلُقي". وقال لزيد : "أنت أخونا ومولانا"
(10).
ففي هذا الحديث أحكام كثيرة من أحسنها : أنه ، عليه الصلاة والسلام (11) حكم بالحق
، وأرضى كلا من المتنازعين ، وقال لزيد : "أنت أخونا ومولانا" ، كما قال
تعالى : { فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ }.
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن عيينة بن عبد
الرحمن ، عن أبيه قال : قال أبو بَكْرَة : قال الله ، عز وجل : { ادْعُوهُمْ
لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ
فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } ، فأنا ممن لا يُعرَف أبوه ، وأنا
من إخوانكم في الدين. قال أبي : والله إني لأظنه لو علم أن أباه كان حمارا لانتمى
(12) إليه.
__________
(1) في ف : "جمرة العقبة".
(2) المسند (1/311) وسنن أبي داود برقم (1940) وسنن النسائي (5/270) وسنن ابن ماجه
برقم (3025).
(3) في ت ، ف ، أ : "ابني".
(4) صحيح مسلم برقم (2151) وسنن أبي داود برقم (4964) وسنن الترمذي برقم (4831).
(5) زيادة من ت ، أ.
(6) في أ : "يعلموا".
(7) في ت ، أ : "فاحتملتها".
(8) في أ : "بحجته".
(9) في أ : "فقضى بها النبي".
(10) رواه البخاري في صحيحه برقم (2699) من حديث البراء ، رضي الله عنه.
(11) في ف : "صلى الله عليه وسلم".
(12) في ت : "لانتسب".
(6/378)
وقد جاء في
الحديث : "من ادعى لغير أبيه ، وهو يعلمه ، كفر (1). (2) وهذا تشديد وتهديد
ووعيد أكيد ، في التبري من النسب المعلوم ؛ ولهذا قال : { ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ
أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي
الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ }.
ثم قال : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ } أي : إذا
نسبتم بعضهم إلى غير أبيه في الحقيقة خطأ ، بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع ؛ فإن
الله قد وضع الحرج في الخطأ ورفع إثمه ، كما أرشد إليه في قوله آمرًا عباده أن
يقولوا : { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [البقرة :
286]. وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "قال الله :
قد فعلت" (3). وفي صحيح البخاري ، عن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "إذا اجتهد الحاكم فأصاب ، فله أجران ، وإن اجتهد فأخطأ ،
فله أجر" (4). وفي الحديث الآخر : "إن الله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان
، وما يُكرَهُون (5) عليه".
وقال هاهنا : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ
مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } أي : وإنما
الإثم على مَنْ تعمد الباطل كما قال تعالى (6) : { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ
بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُم
}. وفي الحديث المتقدم : "من ادعى إلى غير أبيه ، وهو يعلمه ، إلا كفر".
وفي القرآن المنسوخ : "فإن (7) كفرًا بكم أن ترغبوا عن آبائكم".
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عبيد الله
بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس ، عن عمر أنه قال : بعث الله (8)
محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق ، وأنزل معه الكتاب ، فكان فيما أنزل عليه آية
الرجم ، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورجمنا بعده. ثم قال : قد كنا نقرأ :
"ولا ترغبوا عن آبائكم [فإنه كفر بكم - أو : إن كفرًا بكم - أن ترغبوا عن
آبائكم] (9) ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تطروني [كما أطري]
(10) عيسى بن مريم ، فإنما أنا عبد ، فقولوا : عبده ورسوله" (11). وربما قال
مَعْمَر : "كما أطرت النصارى ابن مريم" (12).
ورواه في الحديث الآخر : "ثلاث في الناس كفر : الطَّعْن في النَّسبَ ،
والنيِّاحة على الميت ، والاستسقاء بالنجوم" (13).
__________
(1) في أ : "وهو يعلمه إلا كفر".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (3508) من حديث أبي ذر ، رضي الله عنه ، بلفظ
مقارب.
(3) صحيح مسلم برقم (126) من حديث ابن عباس.
(4) صحيح البخاري برقم (7352).
(5) في أ : "والأمر يكرهون".
(6) في ف : "الله".
(7) في أ : "فإنه".
(8) في ت : "إن الله بعث" ، وفي ف : "إن الله ، عز وجل ،
بعث".
(9) زيادة من ت ، ف ، والمسند.
(10) زيادة من ت ، ف ، والمسند.
(11) في ف ، أ : "أنا عبد الله وقولوا عبد الله ورسوله".
(12) المسند (1/47).
(13) المسند (5/342) ورواه مسلم في صحيحه برقم (934) كلاهما عن أبي مالك الأشعري
بلفظ : "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن : الفخر في الأنساب"
ثم ذكر هذه الثلاث.
(6/379)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
{
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ
أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ
اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى
أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) }.
قد علم الله تعالى شفقة رسوله صلى الله عليه وسلم على أمته ، ونصحَه لهم ، فجعله
أولى بهم من أنفسهم ، وحكمه فيهم مُقَدّمًا على اختيارهم لأنفسهم ، كما قال تعالى
: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا
تَسْلِيمًا } [النساء : 65]. وفي الصحيح : "والذي نفسي بيده ، لا يؤمن أحدكم
حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين" (1). وفي الصحيح أيضا
أن عمر ، رضي الله عنه ، قال : يا رسول الله ، والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا
من نفسي. فقال : "لا يا عمر ، حتى أكون أحب إليك من نفسك". فقال : يا
رسول الله (2) لأنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي. فقال : "الآن يا
عمر" (3).
ولهذا قال تعالى في هذه الآية : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
أَنْفُسِهِمْ }.
وقال البخاري عندها : (4) حدثنا إبراهيم بن المنذر ، حدثنا [محمد بن] (5) فُلَيح ،
حدثنا أبي ، عن هلال بن علي ، عن عبد الرحمن بن أبي عَمْرَة ، عن أبي هريرة ، رضي
الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما من مؤمن إلا وأنا أولى
الناس به في الدنيا والآخرة. اقرؤوا إن شئتم : { النَّبِيُّ أَوْلَى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } ، فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عَصَبَتُه مَن
كانوا. فإن ترك دَيْنًا أو ضَياعًا ، فليأتني فأنا مولاه". تفرد به البخاري
(6).
ورواه أيضا في "الاستقراض" وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من طرق ، عن
فليح ، به مثله (7). ورواه الإمام أحمد ، من حديث أبي حصين ، عن أبي صالح ، عن أبي
هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه (8).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الزهري في قوله تعالى : {
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } عن أبي سلمة ، عن جابر
بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : "أنا أولى بكل مؤمن من
نفسه ، فأيما رجل مات وترك دينا ، فإلي. ومَنْ ترك مالا فلورثته " (9). ورواه
أبو داود ، عن أحمد بن حنبل (10) ، به نحوه.
وقوله : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } أي : في الحرمة والاحترام ، والإكرام
والتوقير والإعظام ، ولكن لا
__________
(1) صحيح البخاري برقم (14).
(2) في أ : "فقال : والله يا رسول الله".
(3) صحيح البخاري برقم (6632).
(4) في ف ، ت ، أ : "عند هذه الآية الكريمة".
(5) زيادة من ت ، ف ، أ ، والبخاري.
(6) صحيح البخاري برقم (4781).
(7) صحيح البخاري برقم (2399) وتفسير الطبري (21/77).
(8) المسند (2/334).
(9) في ف : "فهو لورثته".
(10) المسند (3/296) وسنن أبي داود برقم (2956).
(6/380)
تجوز الخلوة
بهن ، ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع ، وإن سمى بعض العلماء
بناتهن أخوات المؤمنين ، كما هو منصوص الشافعي في المختصر ، وهو من باب إطلاق
العبارة لا إثبات الحكم. وهل يقال لمعاوية وأمثاله : خال المؤمنين ؟ فيه قولان
للعلماء. ونص الشافعي على أنه يقال ذلك. وهل يقال لهن : أمهات المؤمنات ، فيدخل
النساء (1) في جمع المذكر السالم تغليبا ؟ فيه قولان : صح عن عائشة ، رضي الله
عنها ، أنها قالت : لا يقال ذلك. وهذا أصح الوجهين في مذهب الشافعي ، رحمه الله.
(2)
وقد روي عن أُبي بن كعب ، وابن عباس أنهما قرآ : "النبي أولى بالمؤمنين من
أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم" ، وروي نحو هذا عن معاوية ، ومجاهد ،
وعِكْرِمة ، والحسن : وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي. حكاه البغوي وغيره ،
واستأنسوا عليه بالحديث الذي رواه أبو داود :
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي ، حدثنا ابن المبارك ، عن محمد بن عَجْلان ، عن
القعقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعَلِّمكم ، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا
يستقبل القبلة ولا يستدبرها ، ولا يستطب بيمينه" ، وكان يأمر بثلاثة أحجار ،
وينهى عن الروث والرمة.
وأخرجه النسائي وابن ماجه ، من حديث ابن عجلان (3).
والوجه الثاني : أنه لا يقال ذلك ، واحتجوا بقوله : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا
أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } : وقوله : { وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى
بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } أي : في حكم الله { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُهَاجِرِينَ } أي : القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار. وهذه
ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة التي كانت بينهم ، كما قال ابن
عباس وغيره : كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته (4) وذوي رحمه ، للأخوة التي
آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذا قال سعيد بن جبير ، وغير واحد من
السلف والخلف.
وقد أورد فيه ابن أبي حاتم حديثا عن الزبير بن العوام ، رضي الله عنه ، فقال :
حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي بكر المصعبي - من ساكني بغداد - عن عبد الرحمن بن
أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن الزبير بن العوام قال : أنزل الله ،
عز وجل ، فينا خاصة معشر قريش والأنصار : { وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلَى بِبَعْضٍ } ، وذلك أنا معشر قريش لما قَدمنا المدينة ، (5) قَدمنا ولا
أموال لنا ، فوجدنا الأنصار نِعْمَ الإخوانُ ، فواخيناهم ووارثناهم. فآخى أبو بكر
خارجة بن زيد ، وآخى عمر فلانا ، وآخى عثمان بن عفان رضي الله عنه رجلا من بني
زُرَيق ، سعد الزرقي ، ويقول بعض الناس غيره. قال الزبير :
__________
(1) في ف ، أ : "فيدخل النساء فيه".
(2) في ت : "رضي الله عنه".
(3) سنن أبي داود برقم (8) وسنن النسائي (1/38) وسنن ابن ماجه برقم (313).
(4) في ت : "أقاربه".
(5) في ت : "لما قدمنا إلى المدينة".
(6/381)
وواخيت أنا
كعب بن مالك ، فجئته فابتعلته فوجدت السلاح قد ثقله فيما يرى ، فوالله يا بني ، لو
مات يومئذ عن الدنيا ، ما ورثه غيري ، حتى أنزل الله هذه الآية فينا معشر قريش
والأنصار خاصة ، فرجعنا إلى مواريثنا.
وقوله : { إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا } أي : ذهب
الميراث ، وبقي النصر والبر والصلة والإحسان والوصية.
وقوله : { كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا } أي : هذا الحكم ، وهو أن أولي
الأرحام بعضهم أولى ببعض ، حكم من الله مقدر مكتوب في الكتاب الأول ، الذي لا يبدل
، ولا يغير. قاله مجاهد وغير واحد. وإن كان قد يقال (1) : قد شرع خلافه في وقت لما
له في ذلك من الحكمة البالغة ، وهو يعلم أنه سينسخه إلى ما هو جار في قدره الأزلي
(2) ، وقضائه القدري الشرعي.
__________
(1) في ت ، ف : "وإن كان تعالى".
(2) في ت : "إلى ما هو جار في قدره الأول" ، وفي ف : "إلى هو جار
في قدره الأزلي".
(6/382)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
{ وَإِذْ
أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)
لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا
أَلِيمًا (8) }.
يقول تعالى مخبرا عن أولي العزم الخمسة ، وبقية الأنبياء : أنه أخذ عليهم العهد
والميثاق في إقامة دين الله ، وإبلاغ رسالته ، والتعاون والتناصر والاتفاق ، كما
قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ
مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ
لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى
ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ
الشَّاهِدِينَ } [آل عمران : 81] فهذا العهد والميثاق أخذ عليهم بعد إرسالهم ،
وكذلك هذا. ونص من بينهم على هؤلاء الخمسة ، وهم أولو العزم ، وهو من باب عطف
الخاص على العام ، وقد صرَّح بذكرهم أيضا في هذه الآية ، وفي قوله : { شَرَعَ
لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ
وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [الشورى : 13] ، فذكر الطرفين والوسط ، الفاتح والخاتم
، ومن بينهما على [هذا] (1) الترتيب. فهذه هي الوصية التي أخذ عليهم الميثاق بها ،
كما قال : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ
نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ [وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ] } (2) ، فبدأ في هذه
الآية بالخاتم ؛ لشرفه - صلوات الله [وسلامه] (3) عليه - ثم رتبهم بحسب وجودهم
صلوات الله [وسلامه] (4) عليهم.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة الدمشقي ، حدثنا محمد بن بكار ، حدثنا سعيد
بن بشير ، حدثني قتادة ، عن الحسن (5) ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، في قول الله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ
مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ } الآية : قال النبي صلى الله عليه وسلم :
"كنت أول النبيين في الخلق
__________
(1) زيادة من ف.
(2) زيادة من ت ، ف.
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ت : "روى ابن أبي الدنيا".
(6/382)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
وآخرهم في
البعث ، [فَبُدئ بي] (1) قبلهم" (2) سعيد بن بشير فيه ضعف.
وقد رواه سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة مرسلا وهو أشبه ، ورواه بعضهم عن قتادة
موقوفا ، والله أعلم.
وقال أبو بكر البزار : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا حمزة الزيات ،
حدثنا علي بن ثابت ، عن أبي حازم (3) ، عن أبى هريرة قال : خيار ولد آدم خمسة :
نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد ، وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم أجمعين
(4). موقوف ، وحمزة فيه ضعف (5).
وقد قيل : إن المراد بهذا الميثاق الذي أخذ منهم حين أخرجوا في صورة الذّر من صلب
آدم ، كما قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن
كعب قال : ورفع أباهم آدم ، فنظر إليهم - يعني : ذريته - وأن فيهم الغني والفقير ،
وحسن الصورة ، ودون ذلك ، فقال : رب ، لو سويتَ بين عبادك ؟ فقال : إني أحببت أن
أشكر. وأرى فيهم الأنبياء مثل السرج ، عليهم كالنور ، وخصوا بميثاق آخر من الرسالة
والنبوة ، فهو الذي يقول الله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ
مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوح [وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ] } (6) الآية. وهذا قول مجاهد أيضا.
وقال ابن عباس : الميثاق الغليظ : العهد.
وقوله : { لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ } ، قال مجاهد : المبلغين
المؤدين عن الرسل.
وقوله : { وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ } أي : من أممهم { عَذَابًا أَلِيمًا } أي :
موجعا ، فنحن نشهد أن الرسل قد بَلَّغُوا رسالات ربهم ، ونصحوا الأمم وأفصحوا لهم
عن الحق المبين ، الواضح الجلي ، الذي لا لبس فيه ، ولا شك ، ولا امتراء ، وإن
كذبهم مَنْ كذبهم من الجهلة والمعاندين والمارقين والقاسطين ، فما جاءت به الرسل
هو الحق ، ومَنْ خالفهم فهو على الضلال.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا
وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ
وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ
الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ (10) }.
يقول تعالى مخبرا عن نعمته وفضله وإحسانه إلى عباده المؤمنين ، في صرفه أعداءهم
وهزمه إياهم عام تألبوا عليهم وتحزبوا وذلك عام الخندق ، وذلك في شوال سنة خمس من
الهجرة على الصحيح
__________
(1) زيادة من ت ، ف ، والدلائل والكامل.
(2) ورواه أبو نعيم في دلائل النبوة ص (6) وابن عدي في الكامل (3/373) وتمام في
الفوائد برقم (1003) من طرق عن سعيد بن بشير عن قتادة به ، وفي إسناده علتان :
الأولى : الحسن البصري مدلس وقد عنعن. الثانية : سعيد بن بشير ضعيف وقد خولف ،
خالفه أبو هلال وسعيد بن أبي عروبة كما ذكره المؤلف فقالا : عن قتادة مرسلا ، ا.هـ
مستفادا من السلسلة الضعيفة برقم (661) للشيخ ناصر الألباني.
(3) في ت : "وروى أبو بكر البزار بإسناده".
(4) مسند البزار برقم (2368) "كشف الأستار".
(5) في ت : "موقوف ضعيف".
(6) زيادة من ت ، ف.
(6/383)
المشهور.
وقال موسى بن عُقْبة وغيره كانت في سنة أربع.
وكان سبب قدوم الأحزاب أن نفرًا من أشراف يهود بني النضير ، الذين كانوا قد أجلاهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى خيبر ، منهم : سلام بن أبي الحُقَيْق
، وسلام بن مِشْكَم ، وكنانة بن الربيع ، خرجوا إلى مكة واجتمعوا بأشراف قريش ،
وأَلّبوهم على حرب رسول الله (1) صلى الله عليه وسلم ووعدوهم من أنفسهم النصر
والإعانة. فأجابوهم إلى ذلك ، ثم خرجوا إلى غطفان فدعوهم فاستجابوا لهم أيضا.
وخرجت قريش في أحابيشها ، ومن تابعها ، وقائدهم أبو سفيان صخر بن حرب ، وعلى غطفان
عُيَينة بن حصن بن بدر ، والجميع قريب من عشرة آلاف ، فلما سمع رسول الله صلى الله
عليه وسلم بمسيرهم أمر المسلمين بحفر الخندق حول المدينة مما يلي الشرق (2) ، وذلك
بإشارة سلمان الفارسي ، فعمل المسلمون فيه واجتهدوا ، ونقل معهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم التراب وحفَر ، وكان في حفره ذلك آيات بينات ودلائل واضحات.
وجاء المشركون فنزلوا شرقي المدينة قريبا من أحد ، ونزلت طائفة منهم في أعالي أرض
المدينة ، كما قال الله تعالى : { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ
أَسْفَلَ مِنْكُمْ } ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن معه من المسلمين ،
وهم نحو ثلاثة آلاف ، وقيل : سبعمائة ، وأسندوا (3) ظهورهم إلى سَلْع ووجوههم إلى
نحو العدو ، والخندق حفير ليس فيه ماء بينهم وبينهم يحجب الرجالة والخيالة أن تصل
إليهم ، وجعل النساء والذراري في آطام المدينة ، وكانت بنو قريظة - وهم طائفة من
اليهود - لهم حصن شرقي المدينة ، ولهم عهد من النبي صلى الله عليه وسلم وذمة ، وهم
قريب من ثمانمائة مقاتل فذهب إليهم حُيَيّ بن أخطب النَّضَري [اليهودي] (4) ، فلم
يزل بهم حتى نقضوا العهد ، ومالؤوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فعَظُم الخَطْب واشتد الأمر ، وضاق الحال ، كما قال الله تعالى : { هُنَالِكَ
ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا }.
ومكثوا محاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قريبًا من شهر ، إلا أنهم لا
يصلون إليهم ، ولم يقع بينهم قتال ، إلا أن عمرو بن عبد ودّ العامري - وكان من
الفرسان الشجعان المشهورين في الجاهلية - ركب ومعه فوارس فاقتحموا الخندق ، وخلصوا
إلى ناحية المسلمين ، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيل المسلمين إليه ، فلم
(5) يبرز إليه أحد ، فأمر عليا فخرج إليه ، فتجاولا ساعة ، ثم قتله علي ، رضي الله
عنه ، فكان علامة على النصر.
ثم أرسل الله عز ، وجل ، على الأحزاب ريحًا شديدة الهبوب قوية ، حتى لم تبق (6)
لهم خيمة ولا شيء ولا تُوقَد لهم نار ، ولا يقر لهم قرار حتى ارتحلوا خائبين
خاسرين ، كما قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا
نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ
رِيحًا } (7).
قال مجاهد : وهي الصبا ، ويؤيده الحديث الآخر : "نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد
بالدبور".
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود ، عن
عِكْرمة قال : قالت
__________
(1) في ف : "النبي".
(2) في ف : "المشرق".
(3) في ت ، ف : "فأسندوا".
(4) زيادة من ت.
(5) في ت ، ف : "فيقال".
(6) في ت : "يبق".
(7) بعدها في ف : (وجنودا لم تروها).
(6/384)
الجنوب
للشمال ليلة الأحزاب : انطلقي ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت الشمال :
إن الحرة لا تسري بالليل. قال : فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا (1).
ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبي سعيد الأشَجّ ، عن حفص بن غياث ، عن داود ، عن عكرمة
، عن ابن عباس ، فذكره.
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا يونس ، حدثنا ابن وَهْب ، حدثني عبيد الله بن عمر ، عن
نافع ، عن عبد الله بن عمر قال : أرسلني خالي عثمان بن مَظْعون ليلة الخندق في برد
شديد وريح إلى المدينة ، فقال : ائتنا بطعام ولحاف. قال : فاستأذنت رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، فأذن لي ، وقال : "من أتيت من أصحابي فمرهم يرجعوا".
قال : فذهبت والريح تسفي كل شيء ، فجعلت لا ألقى أحدا إلا أمرته بالرجوع إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ، قال : فما يلوي أحد منهم عنقه. قال : وكان معي ترس لي ،
فكانت الريح تضربه عليّ ، وكان فيه حديد ، قال : فضربته الريح حتى وقع بعض ذلك
الحديد على كفي ، فأنفدها (2) إلى الأرض. (3)
وقوله : { وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا } وهم الملائكة ، زلزلتهم وألقت في قلوبهم
الرعب والخوف ، فكان رئيس كل قبيلة يقول : يا بني فلان إليَّ. فيجتمعون إليه فيقول
: النجاء ، النجاء. لما ألقى الله تعالى في قلوبهم من الرعب.
وقال محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القُرَظِيّ قال : قال فتى
من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان : يا أبا عبد الله ، رأيتم رسول الله صلى الله
عليه وسلم وصحبتموه ؟ قال : نعم يا ابن أخي. قال : وكيف كنتم تصنعون ؟ قال : والله
لقد كنا نجهد. قال الفتى : والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على
أعناقنا. قال : قال حذيفة : يابن أخي ، والله لو رأيتنا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالخندق وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هُوِيّا من الليل ، ثم التفت
فقال : "مَنْ رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ؟ - يشرط له النبي صلى الله
عليه وسلم أنه يرجع - أدخله الله الجنة". قال : فما قام رجل. ثم صلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم هويًّا من الليل ثم التفت إلينا ، فقال مثله ، فما قام
منا رجل. ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هُويًّا من الليل ثم التفت إلينا
فقال : "من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع - يشترط له رسول الله
صلى الله عليه وسلم الرجعة - أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة". فما قام رجل
من القوم ؛ من شدة الخوف ، وشدة الجوع ، وشدة البرد. فلما لم يقم أحد ، دعاني رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني فقال : "يا حذيفة
، اذهب فادخل في القوم فانظر ما يفعلون ، ولا تُحْدثَنّ شيئا حتى تأتينا".
قال : فذهبت فدخلت [في القوم] (4) ، والريح وجنود الله ، عز وجل ، تفعل بهم ما
تفعل ، لا تُقِرّ لهم قِدْرًا ولا نارًا ولا بناءً ، فقام أبو سفيان فقال : يا
معشر قريش ، لينظر امرؤ مَنْ جليسه. قال حذيفة : فأخذت بيد الرجل الذي إلى جنبي ،
فقلت : مَنْ أنت ؟ فقال : أنا فلان بن فلان ، ثم قال أبو سفيان : يا معشر قريش ،
إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكُرَاع والخُفّ ، وأخلفتنا بنو قريظة
، وبَلَغَنا عنهم الذي نكره ، ولقينا من هذه الريح الذي ترون (5). والله
__________
(1) تفسير الطبري (21/80).
(2) في أ : "فأبعدها".
(3) تفسير الطبري (21/80).
(4) زيادة من ت ، ف ، أ ، والسيرة النبوية.
(5) في أ : "ما ترون".
(6/385)
ما تطمئن
لنا قدر ، ولا تَقُوم لنا نار ، ولا يستمسك لنا بناء ، فارتحلوا ، فإني مُرْتَحل ،
ثم قام إلى جَمَله وهو معقول ، فجلس عليه ، ثم ضربه ، فوثب به على ثلاث ، فما أطلق
عقَالَه إلا وهو قائم. ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي : "ألا
تحدث شيئا حتى تأتيني" ثم شئتُ ، لقتلته بسهم.
قال حذيفة : فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي في مِرْط لبعض
نسائه مُرَحل ، فلما رآني أدخلني بين رجليه ، وطرح علي طرف المرْط ، ثم ركع ، وسجد
وإني لفيه ، فلما سَلَّم أخبرته الخبر ، وسمعت غَطَفان بما فعلت قريش ، فانشمروا
راجعين إلى بلادهم (1).
وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه قال : كنا
عند حذيفة بن اليمان ، رضي الله عنه ، فقال له رجل : لو أدركتُ رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، قاتلتُ معه وأبليتُ. فقال له حذيفة : أنت كنتَ تفعل ذلك ؟ لقد
رَأيتُنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقُرّ
، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا رجل يأتي بخبر القوم ، يكون معي
يوم القيامة ؟". فلم يجبه منا أحد ، ثم الثانية ، ثم الثالثة مثله. ثم قال :
"يا حذيفة ، قم فأتنا بخبر من القوم". فلم أجد بدَّا إذ دعاني باسمي أن
أقوم ، فقال : "ائتني بخبر القوم ، ولا تَذْعَرْهم عَلَيّ". قال : فمضيت
كأنما أمشي في حَمام حتى أتيتهم ، فإذا أبو سفيان يَصْلَى ظهره بالنار ، فوضعت
سهما في كَبِِد قوسي ، وأردت أن أرميَه ، ثم ذكرتُ قولَ رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "لا تَذْعَرْهم عَلَيَّ" ، ولو رَمَيْته لأصبته. قال : فرجعت كأنما
أمشي في حَمّام ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أصابني البرد حين
فَرَغتُ وقُررْتُ فأخبرتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وألبسني من فضل عَبَاءَة
كانت عليه يصلي فيها ، فلم أزل نائما حتى الصبح ، فلما أن أصبحت قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "قم يا نومان (2) (3).
ورواه يونس بن بُكَيْر ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم : أن رجلا قال لحذيفة ،
رضي الله عنه : نشكو إلى الله صحبتكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إنكم
أدركتموه ولم ندركه ، ورأيتموه ولم نره. فقال حذيفة : ونحن نشكو إلى الله إيمانكم
به ولم تروه ، والله لا تدري يا بن أخي لو أدركتَه كيف كنتَ تكون. لقد رأيتنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الخندق في ليلة باردة مَطِيرة... ثم ذكر نحو ما
تقدم مطولا (4).
وروى بلال بن يحيى العَبْسي ، عن حذيفة نحو ذلك أيضا (5).
وقد أخرج الحاكم والبيهقي في "الدلائل" ، من حديث عكرمة بن عمار ، عن
محمد بن عبد الله الدؤلي ، عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة قال : ذَكَر حذيفة مشاهدهم
مع رسول الله (6) صلى الله عليه وسلم ، فقال
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (2/231).
(2) في أ : "نوام".
(3) صحيح مسلم برقم (1788).
(4) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (3/454) من طريق أحمد بن عبد الجبار ، عن يونس
بن بكير به.
(5) أخرجه الحاكم في المستدرك (3/31) ومن طريقه البيهقي في دلائل النبوة (3/450)
عن موسى بن أبي المختار ، عن بلال العبسي ، عن حذيفة.
(6) في ت : "مع النبي".
(6/386)
جلساؤه :
أما والله لو شهدنا ذلك لكنا فعلنا وفعلنا. فقال حذيفة : لا تمنوا ذلك. لقد
رأيتُنا ليلة الأحزاب ونحن صافُّون قُعود ، وأبو سفيان ومَنْ معه من الأحزاب فوقنا
، وقريظة اليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا ، وما أتَت علينا قطّ أشدّ ظلمةً ولا
أشد ريحًا ، في أصوات ريحها أمثال الصواعق ، وهي ظلمة ما يرى أحدنا إصبعه ، فجعل
المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم ، ويقولون : "إن بيوتنا عورة
وما هي بعورة". فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له ، ويأذن لهم فيتسللون ، ونحن
ثلاثمائة ونحو ذلك ، إذ استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رَجُلا رجلا حتى
أتى عَلَيّ وما عَلَيّ جُنَّة (1) من العدو ولا من البرد إلا مِرْط لامرأتي ، ما
يجاوز ركبتي. قال : فأتاني صلى الله عليه وسلم وأنا جَاثٍ على ركبتي فقال :
"مَنْ هذا ؟" فقلت : حذيفة. قال : "حذيفة". فتقاصرت بالأرض
(2) فقلت : بلى يا رسول الله ، كراهية أن أقوم. [قال : قم] (3) ، فقمت ، فقال :
"إنه كائن في القوم خبر فأتني بخبر القوم" - قال : وأنا من أشد [الناس]
(4) ا فزعًا ، وأشدهم قُرًّا - قال : فخرجت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"اللهم ، احفظه من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، ومن فوقه ومن
تحته". قال : فوالله ما خلق الله فزعا ولا قرّا في جوفي إلا خرج من جوفي ،
فما أجد فيه شيئا. قال : فلما وليت قال : "يا حذيفة ، لا تُحدثَنّ في القوم
شيئًا حتى تأتيني". قال : فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار
لهم تَوَقَّدُ ، وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ، ويمسح خاصرته ، ويقول :
الرحيلَ الرحيلَ ، ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك ، فانتزعت سهما من كنانتي أبيض
الريش ، فأضعه في كَبِِد قوسي لأرميه به في ضوء النار ، فذكرت قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "لا تحدثن فيهم شيئا حتى تأتيني" ، [فأمسكت] (5) ورددت
سهمي إلى كنانتي ، ثم إني شَجَّعت نفسي حتى دخلت العسكر ، فإذا أدنى الناس مني بنو
عامر يقولون : يا آل عامر ، الرحيلَ الرحيلَ ، لا مُقام لكم. وإذا الريح في عسكرهم
ما تجاوز عسكرهم شبرا ، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وَفَرَسَتْهُمُ
(6) الريح تضربهم بها ، ثم خرجت نحو النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما انتصفت في
الطريق أو نحوا من ذلك ، إذا أنا بنحو من عشرين فارسًا أو نحو ذلك (7) مُعْتَمّين
، فقالوا : أخْبر صاحبك أن الله تعالى كفَاه القوم. فرجعت إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، وهو مشتمل في شملة يصلي ، فوالله ما عدا أن رجعت رَاجَعَني القُرُّ
وجعلت أقَرْقفُ ، فأومأ إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم [بيده] (8) وهو يصلي ،
فدنوت منه ، فأسبل علي شملته. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبه أمر
صلى ، فأخبرته خبر القوم ، وأخبرته أني تركتهم يترحلون (9) ، وأنزل الله تعالى : {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا
وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } (10).
وأخرج أبو داود في سننه منه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا حزبه أمر ،
من حديث عكرمة بن عمار ، به. (11)
__________
(1) في أ : "جنبة".
(2) في ت : "إلى الأرض".
(3) زيادة من ت ، ف ، والدلائل.
(4) زيادة من ت ، ف : والدلائل.
(5) زيادة من ت ، ف : والدلائل.
(6) في ت ، ف : "وفرشهم".
(7) في ف : "نحوًا من ذلك".
(8) زيادة من ت ، ف ، والدلائل.
(9) في أ : "يرتحلون".
(10) دلائل النبوة للبيهقي (3/451).
(11) سنن أبي داود برقم (1319).
(6/387)
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)
وقوله : {
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ } أي : الأحزاب { وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ }
تقدم عن حذيفة أنهم بنو قريظة ، { وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ
الْحَنَاجِرَ } أي : من شدة الخوف والفزع ، { وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا
}.
قال ابن جرير : ظن بعض مَنْ كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدائرة على
المؤمنين ، وأن الله سيفعل ذلك (1).
وقال محمد بن إسحاق في قوله : { وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ
الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } : ظن المؤمنون (2) كل ظن ،
ونجم النفاق حتى قال مُعَتّب (3) بن قشير - أخو بني عمرو بن عوف - : كان محمد
يَعِدُنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط.
وقال الحسن في قوله : { وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ } : ظنون مختلفة ، ظن
المنافقون أن محمدا وأصحابه يستأصلون ، (4) وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله
حق ، وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
وقال (5) ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عاصم الأنصاري ، حدثنا أبو عامر(ح) وحدثنا
أبي ، حدثنا أبو عامر العقدي ، حدثنا الزبير - يعني : ابن عبد الله ، مولى عثمان
بن عفان - عن ُرَتْيج بن عبد الرحمن بن أبي سعيد ، عن أبيه ، عن أبي سعيد قال :
قلنا يوم الخندق : يا رسول الله ، هل من شيء نقول ، فقد بلغت القلوب الحناجر ؟ قال
صلى الله عليه وسلم : "نعم ، قولوا : اللهم استر عوراتنا ، وآمن
رَوْعاتنا". قال : فضرب وجوه أعدائه بالريح ، فهزمهم بالريح.
وكذا رواه الإمام أحمد بن حنبل ، عن أبي عامر العقدي (6).
{ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا (11)
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا
أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ
النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ
يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا (13) }
يقول تعالى مخبرًا عن ذلك الحال ، حين نزلت الأحزاب حول المدينة ، والمسلمون
محصورون في غاية الجهد والضيق ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم : أنهم
ابتُلوا واختُبروا وزلزلوا زلزالا شديدا ، فحينئذ ظهر النفاق ، وتكلم الذين في
قلوبهم مرض بما في أنفسهم.
{ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا
وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا } أما المنافق ، فنجم نفاقه ، والذي
في قلبه شبهة أو
__________
(1) تفسير الطبري (21/83).
(2) في ت : "ظن المنون".
(3) في أ : "معقب".
(4) في ت : "سيستأصلون".
(5) في ت : "وروى".
(6) المسند (3/3).
(6/388)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)
حَسِيْكَة ،
ضَعُف حاله فتنفس بما يجده من الوسواس في نفسه ؛ لضعف إيمانه ، وشدة ما هو فيه من
ضيق الحال.
وقوم آخرون قالوا كما قال الله : { وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ
يَثْرِبَ } يعني : المدينة ، كما جاء في الصحيح : "أريت [في المنام] (1) دارَ
هجرتكُم ، أرض بين حَرّتين فذهب وَهْلي أنها هَجَر ، فإذا هي يثرب" (2) ، ش
وفي لفظ : "المدينة".
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن مهدي ، حدثنا صالح بن عمر ،
عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن البراء ، رضي الله عنه ،
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من سَمَّى المدينة يثرب ،
فليستغفر الله ، هي طابة ، هي طابة" (3).
تفرد به الإمام أحمد ، وفي (4) إسناده ضعف ، والله أعلم.
ويقال : إنما كان أصل تسميتها "يثرب" برجل نزلها من العماليق ، يقال له
: يثرب بن عبيل بن مهلابيل بن عوص بن عملاق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح. قاله
السهيلي ، قال : وروي عن بعضهم أنه قال : إن لها [في التوراة] (5) أحد عشر اسما :
المدينة ، وطابة ، وطيبة ، المسكينة ، والجابرة ، والمحبة ، والمحبوبة ، والقاصمة
، والمجبورة ، والعذراء ، والمرحومة.
وعن كعب الأحبار قال : إنا نجد في التوراة يقول الله للمدينة : يا طيبة ، ويا طابة
، ويا مسكينة [لا تقلي الكنوز ، أرفع أحاجرك على أحاجر القرى] (6).
وقوله : { لا مُقَامَ لَكُمْ } أي : هاهنا ، يعنون عند النبي صلى الله عليه وسلم
في مقام المرابطة ، { فَارْجِعُوا } أي : إلى بيوتكم ومنازلكم. { وَيَسْتَأْذِنُ
فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ } : قال العوفي ، عن ابن عباس : هم بنو حارثة قالوا :
بيوتنا نخاف عليها السَّرَقَ. وكذا قال غير واحد.
وذكر ابن إسحاق : أن القائل لذلك هو أوس بن قَيظيّ ، يعني : اعتذروا في الرجوع إلى
منازلهم بأنها عَورة ، أي : ليس دونها ما يحجبها عن العدو ، فهم يخشون عليها منهم.
قال الله تعالى : { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ } أي : ليست كما يزعمون ، { إِنْ
يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا } أي : هَرَبًا من الزحف.
{ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ
لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا
اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا
(15) }
__________
(1) زيادة من ت ، ف ، والبخاري.
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (7035) من حديث أبي موسى ، رضي الله عنه.
(3) المسند (4/285).
(4) في ت : "ففي".
(5) زيادة من ت ، ف ، أ.
(6) زيادة من ف ، أ.
(6/389)
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)
{ قُلْ لَنْ
يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا
لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ
اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ
لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (17) }.
يخبر تعالى عن هؤلاء الذين { يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ
بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا } : أنهم لو
(6/389)
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)
دَخل عليهم
الأعداء من كل جانب من جوانب المدينة ، وقُطر من أقطارها ، ثم سئلوا الفتنة ، وهي
الدخول في الكفر ، لكفروا سريعًا ، وهم لا يحافظون على الإيمان ، ولا يستمسكون به
مع أدنى خوف وفزع.
هكذا فسرها قتادة ، وعبد الرحمن بن زيد ، وابن جرير ، وهذا ذم لهم في غاية الذم.
ثم قال تعالى يذكرهم بما كانوا عاهدوا الله من قبل هذا الخوف ، ألا يولوا الأدبار
ولا يفروا (1) من الزحف ، { وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا } أي : وإن الله
تعالى سيسألهم عن ذلك العهد ، لا بد من ذلك.
ثم أخبرهم أن فرَارهم ذلك لا يؤخر آجالهم ، ولا يطول أعمارهم ، بل ربما كان ذلك
سببًا في تعجيل أخذهم غرّة ؛ ولهذا قال : { وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا
} أي : بعد هَرَبكم وفراركم ، { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ
خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى } [النساء : 77 ].
ثم قال : { قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ } أي : يمنعكم ، {
إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا } أي : ليس لهم ولا لغيرهم من دون الله
مجير ولا مغيث (2).
{ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ
هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا (18) أَشِحَّةً
عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ
أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ
سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ
يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرًا (19) }.
يخبر تعالى عن إحاطة علمه بالمعوقين لغيرهم عن شهود الحرب ، والقائلين لإخوانهم ،
أي : أصحابهم (3) وعُشَرائهمِ وخلطائهم { هَلُمَّ إِلَيْنَا } أي : إلى ما نحن فيه
من الإقامة في الظلال والثمار ، وهم مع ذلك { لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا
قَلِيلا. أشحةً عليكم } أي : بخلاء بالمودة ، والشفقة عليكم.
وقال السُّدي : { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } أي : في الغنائم.
{ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ
أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } أي : من شدة خوفه وجزعه
، وهكذا خوف هؤلاء الجبناء من القتال { فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ
بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } أي : فإذا كان الأمن ، تكلموا كلامًا بليغًا فصيحًا عاليًا
، وادعوا لأنفسهم المقامات العالية في الشجاعة والنجدة ، وهم يكذبون في ذلك.
وقال ابن عباس : { سَلَقُوكُمْ (4) } أي : استقبلوكم.
__________
(1) في ت ، ف : "ألا يولون ولا يفرون".
(2) في ت ، ف ، أ : "من دون الله وليًا مجيرًا مغيثًا".
(3) في ت : "أي لأصحابهم".
(4) في أ : "سلقوكم بألسنة".
(6/390)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)
وقال قتادة
: أما عند الغنيمة فأشح قوم ، وأسوأه مقاسمة : أعطونا ، أعطونا ، قد (1) شهدنا
معكم. وأما عند البأس فأجبن قوم ، وأخذله للحق.
وهم مع ذلك أشحة على الخير ، أي : ليس فيهم خير ، قد جَمَعُوا الجبن والكذب وقلة
الخير ، فهم (2) كما قال في أمثالهم الشاعر (3) :
أفي السّلم أعْيَارًا (4) جَفَاءً وغلظَةً... وَفي الحَربْ أمْثَالَ النِّسَاء
العَوَاركِ...
أي : في حال المسالمة كأنهم الحمير. والأعيار : جمع عير ، وهو الحمار ، وفي الحرب
كأنهم النساء الحُيَّض ؛ ولهذا قال تعالى : { أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا
فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } أي :
سهلا هينا عنده.
{ يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأحْزَابُ يَوَدُّوا
لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ
كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا (20) }.
وهذا أيضا من صفاتهم القبيحة في الجبن والخوف والخور ، { يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ
لَمْ يَذْهَبُوا } بل هم قريب منهم ، وإن لهم عودة إليهم { وَإِنْ يَأْتِ
الأحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ
أَنْبَائِكُمْ } أي : ويَوَدّون إذا جاءت الأحزاب أنهم لا يكونون (5) حاضرين معكم
في المدينة بل في البادية ، يسألون عن أخباركم ، وما كان من أمركم مع عدوكم ، {
وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا } أي : ولو كانوا بين أظهركم ،
لما قاتلوا معكم إلا قليلا ؛ لكثرة جبنهم وذلتهم وضعف يقينهم.
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ
يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا
رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)
}.
هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله
وأفعاله وأحواله ؛ ولهذا أمر الناس بالتأسي بالنبي (6) صلى الله عليه وسلم يوم
الأحزاب ، في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه ، عز وجل ،
صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين ؛ ولهذا قال تعالى للذين تقلقوا
وتضجروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي
رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } أي : هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله ؟ ولهذا
قال : { لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ
كَثِيرًا }.
ثم قال تعالى مخبرًا عن عباده المؤمنين المصدقين بموعود الله لهم ، وجَعْله
العاقبةَ حاصلةً لهم في
__________
(1) في أ : "فقد".
(2) في ت : "فيهم".
(3) البيت لهند بنت عتبة ، وهو في السيرة النبوية لابن هشام (1/656).
(4) في ت : "أعيار".
(5) في ت : "لا يكونوا".
(6) في ت : "برسول الله".
(6/391)
الدنيا
والآخرة ، فقال : { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا
وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ }.
قال ابن عباس وقتادة : يعنون قوله تعالى في "سورة البقرة" { أَمْ
حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ
خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا
حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا
إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [البقرة : 214].
أي هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يعقبه النصر
القريب ؛ ولهذا قال : { وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ }.
وقوله : { وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا } : دليل على زيادة
الإيمان وقوته بالنسبة إلى الناس (1) وأحوالهم ، كما قاله جمهور الأئمة : إنه (2)
يزيد وينقص. وقد قررنا ذلك في أول "شرح البخاري" ولله الحمد والمنة.
ومعنى قوله : { وَمَا زَادَهُمْ } أي : ذلك الحال والضيق والشدة [ما زادهم] (3) {
إِلا إِيمَانًا } بالله ، { وَتَسْلِيمًا } أي : انقيادا لأوامره ، وطاعة لرسوله.
__________
(1) في ف : "بالنسبة إلى إيمان الناس".
(2) في ت : "أن الإيمان".
(3) زيادة من ت.
(6/392)
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)
{ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ
قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا (23)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ
شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) }
لمَّا ذكر عن المنافقين أنهم نقضوا العهد الذي كانوا عاهدوا الله عليه لا يولون
الأدبار ، وصف المؤمنين بأنهم استمروا على العهد والميثاق و { صَدَقُوا مَا
عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ } ، قال بعضهم : أجله.
وقال البخاري : عهده. وهو يرجع إلى الأول.
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا } أي : وما غيروا عهد
الله ، ولا نقضوه ولا بدلوه.
قال البخاري : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري قال : أخبرني خارجة بن
زيد بن ثابت ، عن أبيه (1) قال : لما نسخنا الصُّحُف (2) ، فَقَدْتُ آيةً من
"سورة الأحزاب" كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ، لم
أجدها مع أحد إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري - الذي جعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم شهادته بشهادة رجلين - : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا
عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ }
__________
(1) في ت : "روى البخاري عن زيد بن ثابت".
(2) في ت ، أ : "المصحف".
(6/392)
.
انفرد به البخاري دون مسلم. وأخرجه أحمد في مسنده ، والترمذي والنسائي - في
التفسير من سننيهما - من حديث الزهري ، به (1). وقال الترمذي : "حسن
صحيح".
وقال (2) البخاري أيضا : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ،
حدثني أبي ، عن ثُمَامَة ، عن أنس بن مالك قال : نرى هذه الآية نزلت في أنس بن
النضر : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ }
(3).
انفرد به البخاري من هذا الوجه ، ولكن له شواهد من طرق أخر. قال الإمام أحمد :
حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت (4) قال : قال أنس :
عمي أنس بن النضر سُميت به ، لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ،
فشق عليه وقال : أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غُيِّبْتُ (5) عنه ،
لئن أراني الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيَرَيَنَ الله
ما أصنع. قال : فهاب أن يقول غيرها ، فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [يوم]
(6) أحد ، فاستقبل سعدَ بن معاذ فقال له أنس (7) يا أبا عمرو ، أبِنْ. واهًا لريح
الجنة أجده دون أحد ، قال : فقاتلهم حتى قُتل قال : فَوُجد في جسده بضع وثمانون من
ضربة وطعنة ورمية ، فقالت أخته - عمتي الرُّبَيّع ابنة النضر (8) - : فما عرفتُ
أخي إلا ببنانه. قال : فنزلت هذه الآية : { رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا
اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ
وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا }. قال : فكانوا يُرَون أنها نزلت فيه ، وفي أصحابه.
ورواه مسلم والترمذي والنسائي ، من حديث سليمان بن المغيرة ، به (9). ورواه
النسائي أيضا وابن جرير ، من حديث حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، به نحوه
(10).
وقال (11) ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا حميد
، عن أنس أن عمه - يعني : أنس بن النضر - غاب عن قتال بَدر ، فقال : غُيّبتُ عن
أول قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين ، لئن الله أشهدني قتالا
للمشركين ، لَيَرَيَنّ الله ما أصنع. قال : فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون ،
فقال : اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني : أصحابه - وأبرأ إليك مما جاء
هؤلاء - يعني : المشركين - ثم تقدم فلقيه سعد - يعني : ابن معاذ - دون أحد ، فقال
: أنا معك. قال سعد : فلم أستطع أن أصنع ما صنع. قال : فوجد فيه بضع وثمانون ضربة
سيف ، وطَعنةَ رمح ، ورمية سهم. وكانوا (12) يقولون : فيه وفي أصحابه [نزلت] (13)
: { فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ }
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4784) والمسند (5/188) وسنن الترمذي برقم (3104) والنسائي
في السنن الكبرى برقم (11401).
(2) في ت : "روى".
(3) صحيح البخاري برقم (4783).
(4) في ت : "روى الإمام أحمد".
(5) في ت : "غبت".
(6) زيادة من ف ، والمسند.
(7) أنس بن النضر.
(8) في ت : "عمة الربيع بنت النضر".
(9) المسند (4/193) وصحيح مسلم برقم (1903) وسنن الترمذي رقم (3200).
(10) النسائي في السنن الكبرى برقم (11404) وتفسير الطبري (21/93).
(11) في ت : "وروى".
(12) في ت ، ف ، أ : "وطعنة برمح ورمية بسهم فكانوا".
(13) زيادة من ف.
(6/393)
وأخرجه
الترمذي في التفسير عن عبد بن حميد ، والنسائي فيه أيضا ، عن إسحاق بن إبراهيم ،
كلاهما ، عن يزيد بن هارون ، به ، (1) وقال الترمذي : حسن. وقد رواه البخاري في
المغازي ، عن حسان بن حسان ، عن محمد بن طلحة بن مُصَرّف ، عن حميد ، عن أنس ، به
(2) ، ولم يذكر نزول الآية. ورواه بن جرير ، من حديث المعتمر بن سليمان ، عن حميد
، عن أنس ، به (3).سب
وقال (4) ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن الفضل العسقلاني ، حدثنا سليمان بن أيوب بن
سليمان بن عيسى بن موسى بن طلحة بن عبيد الله ، حدثني أبي ، عن جدي ، عن موسى بن
طلحة ، عن أبيه طلحة قال : لما أن رجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد ، صعد
المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وعَزّى المسلمين بما أصابهم ، وأخبرهم بما لهم
فيه من الأجر والذخر ، ثم قرأ هذه الآية : { رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا
اللَّهَ عَلَيْهِ } (5). فقام إليه رجل من المسلمين فقال : يا رسول الله ، مَنْ
هؤلاء ؟ فأقبلت وَعَلَيّ ثوبان أخضران حَضْرَميَّان فقال : "أيها السائل ،
هذا منهم".
وكذا رواه ابن جرير من حديث سليمان بن أيوب الطَّلْحي ، به (6). وأخرجه الترمذي في
التفسير والمناقب أيضا ، وابن جرير ، من حديث يونس بن بُكَيْر ، عن طلحة بن يحيى ،
عن موسى وعيسى ابني طلحة ، عن أبيهما ، به (7). وقال : حسن غريب ، لا نعرفه إلا من
حديث يونس.
وقال أيضا : حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري ، حدثنا أبو عامر - يعني : العقدي -
حدثني إسحاق - يعني : ابن طلحة بن عبيد الله - عن موسى بن طلحة قال : [دخلت على
معاوية ، رضي الله عنه ، فلما خرجت ، دعاني فقال : ألا أضع عندك يا بن أخي حديثا
سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أشهد لَسَمِعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول : "طلحة ممن قضى نحبه" (8).
ورواه (9) ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا عبد الحميد الحِمَّاني ، عن إسحاق
بن يحيى بن طلحة الطَّلْحي ، عن موسى بن طلحة قال] (10) : قام معاوية بن أبي سفيان
فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "طلحة ممن قضى
نحبه" (11).
ولهذا قال مجاهد في قوله : { فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ } قال : عهده ، {
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ } قال : يوما.
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3201) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11403).
(2) صحيح البخاري برقم (4048).
(3) تفسير الطبري (21/93).
(4) في ت : "وروى".
(5) بعدها في ت ، ف ، أ : (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا).
(6) تفسير الطبري (21/94).
(7) سنن الترمذي برقم (3203).
(8) ورواه الترمذي في السنن برقم (3202) من طريق عمرو بن عاصم ، عن إسحاق بن يحيى
بن طلحة ، به. وقال الترمذي : "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ،
وإنما روي عن موسى بن طلحة عن أبيه".
(9) في ت : "وروى".
(10) زيادة من ت ، ف ، أ ، والطبري.
(11) تفسير الطبري (21/93).
(6/394)
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)
وقال الحسن
: { فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ } يعني : موته على الصدق والوفاء. {
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ } الموت على مثل ذلك ، ومنهم مَنْ لم يبدل (1) تبديلا.
وكذا قال قتادة ، وابن زيد.
وقال بعضهم : { نَحْبَهُ } نذره.
وقوله : { وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا } أي : وما غيَّروا عهدهم ، وبدَّلوا الوفاء
بالغدر ، بل استمروا على ما عاهدوا الله عليه ، وما نقضوه كفعل المنافقين الذين
قالوا : { إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا
فِرَارًا } ، { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ
الأدْبَارَ } (2).
وقوله : { لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ
الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } أي : إنما يختبر عباده
بالخوف والزلزال ليميز (3) الخبيث من الطيب ، فيظهر أمر هذا بالفعل ، وأمر هذا
بالفعل ، مع أنه تعالى يعلم الشيء قبل كونه ، ولكن لا يعذب الخلق بعلمه فيهم ، حتى
يعملوا بما يعلمه فيهم (4) ، كما قال تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى
نَعْلَمَ (5) الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ (6)
أَخْبَارَكُمْ } [محمد : 31] ، فهذا علم بالشيء بعد (7) كونه ، وإن كان العلم (8)
السابق حاصلا به قبل وجوده. وكذا قال تعالى : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ
الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } [آل عمران :
179]. ولهذا قال هاهنا : { لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } أي :
بصبرهم على ما عاهدوا الله عليه ، وقيامهم به ، ومحافظتهم عليه. { وَيُعَذِّبَ
الْمُنَافِقِينَ } : وهم الناقضون لعهد الله ، المخالفون لأوامره ، فاستحقوا بذلك
عقابه وعذابه ، ولكن هم تحت مشيئته في الدنيا ، إن شاء استمر بهم على ما فعلوا حتى
يلقوه به فيعذبهم عليه ، وإن شاء تاب عليهم بأن أرشدهم إلى النزوع عن النفاق إلى
الإيمان ، وعمل (9) الصالح بعد الفسوق والعصيان. ولما كانت رحمته ورأفته بخلقه هي
الغالبة لغضبه قال : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا }.
{ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا
وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا
(25) }.
يقول تعالى مخبرًا عن الأحزاب لما أجلاهم عن المدينة ، بما أرسل عليهم من الريح
والجنود الإلهية ، ولولا أن جعل الله رسوله رحمة للعالمين ، لكانت هذه الريح عليهم
أشد من الريح العقيم على عاد ، ولكن قال الله تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ ] } (10) [الأنفال : 33] ، فسلط عليهم هواء فرق شملهم ، كما كان
سبب اجتماعهم من الهَوَى ، وهم أخلاط من قبائل شتى ، أحزاب وآراء ، فناسب أن يرسل
عليهم الهواء الذي فرق
__________
(1) في ت : "من بدل".
(2) في ت : "وقد".
(3) في ت : "فيميز".
(4) في ت : "بما علمه منهم" وفي ف : "بما يعلمه منهم".
(5) في ت : "يعلم".
(6) في ت : "يبلو".
(7) في ف : "قبل".
(8) في ت : "العالم".
(9) في ت ، ف : "والعمل".
(10) زيادة من أ.
(6/395)
جماعتهم ،
وردهم خائبين خاسرين بغيظهم وحَنَقهم ، لم ينالوا خيرًا لا في الدنيا ، مما كان في
أنفسهم من الظفر والمغنم ، ولا في الآخرة بما تحملوه (1) من الآثام في مبارزة
الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، بالعداوة ، وهمهم بقتله ، واستئصال جيشه ،
ومَنْ هَمّ بشيء وصَدق هَمَّه بفعله ، فهو في الحقيقة كفاعله.
وقوله : { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } أي : لم يحتاجوا (2) إلى
منازلتهم ومبارزتهم حتى يجلوهم عن بلادهم ، بل كفى الله وحده ، ونصر عبده ، وأعزَّ
جنده ؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) لا إله إلا الله وحده ، صدق
وعده ، ونصر عبده ، وأعزَّ جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، فلا شيء بعده". أخرجاه
من حديث أبي هريرة (4).
وفي الصحيحين من حديث إسماعيل بن أبي خالد ، عن عبد الله بن أبي أوْفى قال : دعا
رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال : "اللهم منزل الكتاب ، سريع
الحساب ، اهزم الأحزاب. اللهم ، اهزمهم وزلزلهم" (5). وفي قوله : { وَكَفَى
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } : إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبين قريش ،
وهكذا وقع بعدها ، لم يغزهم المشركون ، بل غزاهم المسلمون في بلادهم.
قال محمد بن إسحاق : لما (6) انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم فيما بلغنا : "لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ، ولكنكم
تغزونهم" فلم تغز (7) قريش بعد ذلك ، وكان هو يغزوهم بعد ذلك ، حتى فتح الله
عليه مكة.
وهذا الحديث الذي ذكره محمد بن إسحاق (8) حديث صحيح ، كما قال (9) الإمام أحمد :
حدثنا يحيى ، عن سفيان ، حدثني أبو إسحاق قال : سمعت سليمان بن صُرَد يقول : (10)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : "الآن نغزوهم ولا
يغزونا".
وهكذا رواه البخاري في صحيحه ، من حديث الثوري وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، به (11).
وقوله تعالى : { وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا } أي : بحوله وقوته ، ردهم
خائبين ، لم ينالوا خيرًا ، وأعز الله الإسلام وأهله وصدق وعده ، ونصر رسوله وعبده
، فله الحمد والمنة.
__________
(1) في ت : "مما عملوا".
(2) في أ : "لم تحتاجوا".
(3) في ت : "ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول".
(4) صحيح البخاري برقم (4114) وصحيح مسلم برقم (2724) باختلاف في اللفظ.
(5) صحيح البخاري برقم (2933) وصحيح مسلم برقم (1742).
(6) في ت ، ف : "فلما".
(7) في أ : "تعد".
(8) في ت : "وهذا الذي ذكره ابن إسحاق".
(9) في ت : "رواه".
(10) في ت : "قال".
(11) المسند (4/262) وصحيح البخاري برقم (4109).
(6/396)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
{ وَأَنزلَ
الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي
قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26)
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ
تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) }.
قد تقدم أن بني قريظة لما قدمت جنود الأحزاب ، ونزلوا على المدينة ، نقضوا ما كان
بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد ، وكان ذلك بسفارة حُيَيّ بن
أخطب النَّضَري - لعنه الله - دخل حصنهم ، ولم يزل بسيدهم كعب بن أسد حتى نقض
العهد ، وقال له فيما قال : ويحك ، قد جئتك بعز الدهر ، أتيتك بقريش وأحابيشها ،
وغطفان وأتباعها ، ولا يزالون هاهنا حتى يستأصلوا محمدا وأصحابه. فقال له كعب : بل
والله أتيتني بذُلِّ الدهر. ويحك يا حيي ، إنك مشؤوم ، فدعنا (1) منك. فلم يزل
يفتل في الذِّروة والغَارب حتى أجابه ، واشترط له حُيي (2) إن ذهب الأحزاب ، ولم
يكن من أمرهم شيء ، أن يدخل معهم في الحصن ، فيكون له (3) أسوتهم. فلما نَقَضت
قريظةُ ، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ساءه ، وَشَقَّ عليه وعلى
المسلمين جدًّا ، فلما أيد الله ونَصَر ، وكبت الأعداء وردَّهم خائبين بأخسر صفقة
، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مؤيدا منصورا ، ووضع الناس
السلاح. فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل (4) من وعثاء تلك المرابطة في
بيت أم سلمة إذ تبدى له جبريل معتجرا بعمامة من إستبرق ، على بغلة عليها قطيفة
[من] (5) ديباج ، فقال : أوضَعت السلاح يا رسول الله ؟ قال : "نعم". قال
: لكن الملائكة لم تضع أسلحتها ، وهذا الآن رجوعي من طلب القوم. ثم قال : إن الله
يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة. وفي رواية فقال له : عذيرَك من مقاتل ، أوضعتم
السلاح ؟ قال : "نعم". قال : لكنا لم نضع أسلحتنا بعد ، انهض إلى هؤلاء.
قال : "أين ؟". قال : بني قريظة ، فإن الله أمرني أن أزلزل عليهم. فنهض
رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوره ، وأمر الناس بالمسير إلى بني قريظة ، وكانت
على أميال من المدينة ، وذلك بعد صلاة الظهر ، وقال : "لا يصلين أحد منكم
العصر إلا في بني قريظة". فسار الناس ، فأدركتهم الصلاة في الطريق ، فصلى
بعضهم في الطريق وقالوا : لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعجيل السير
، وقال آخرون : لا نصليها إلا في بني قريظة. فلم يُعَنِّف واحدا من الفريقين.
وتبعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم ،
وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب. ثم نازلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرهم
خمسا وعشرين ليلة ، فلما طال عليهم الحال ، نزلوا على حكم سعد بن معاذ - سيد الأوس
- لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية ، واعتقدوا أنه يحسن إليهم في ذلك ، كما فعل
عبد الله بن أبي بن سلول في مواليه بني قينقاع ، حين استطلقهم من رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، فظن هؤلاء أن سعدا سيفعل فيهم كما فعل ابن أبي في أولئك ، ولم
يعلموا أن سعدا ، رضي الله عنه ، كان قد أصابه سهم في أكحَله أيام الخندق ، فكواه
رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكحله ، وأنزله في قبة في المسجد ليعوده من قريب.
وقال سعد فيما دعا به : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها. وإن كنت
وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها ولا تمتني حتى تُقرّ عيني من بني قريظة. فاستجاب
الله دعاءه ، وقَدّر عليهم أن نزلوا على حكمه باختيارهم طلبا من تلقاء أنفسهم ،
فعند ذلك استدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ليحكم فيهم ، فلما
__________
(1) في ت : "دعنا".
(2) في أ : "حتى".
(3) في ت : "لهم".
(4) في ت : "يغسل رأسه".
(5) زيادة من ت ، ف ، أ.
(6/397)
أقبل وهو
راكب [على حمار] (1) قد وطَّؤوا له عليه ، جعل الأوس يلوذون به ويقولون : يا سعد ،
إنهم مواليك ، فأحسن فيهم. ويرققونه عليهم ويعطفونه ، وهو ساكت لا يرد عليهم. فلما
أكثروا عليه قال : لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم. فعرفوا أنه غير
مستبقيهم ، فلما دنا من الخيمة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "قوموا إلى سيدكم". فقام إليه المسلمون ،
فأنزلوه إعظاما وإكراما واحتراما له في محل ولايته ، ليكون أنفذ لحكمه فيهم. فلما
جلس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن هؤلاء - وأشار إليهم - قد
نزلوا على حكمك ، فاحكم فيهم بما شئت". قال : وحكمي نافذ عليهم ؟ قال :
"نعم". قال : وعلى مَنْ في هذه الخيمة ؟ قال : "نعم". قال :
وعلى مَنْ هاهنا. - وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو
معرض بوجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا (2) وإكرامًا وإعظامًا - فقال
له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نعم". فقال : إني أحكم أن تقتل
مُقَاتلتهم ، وتُسبْى ذريتهم وأموالهم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة" (3). وفي رواية : "لقد
حكمتَ بحكم المَلك". ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأخاديد فَخُدّت
في الأرض ، وجيء بهم مكتفين ، فضرب أعناقهم ، وكانوا ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة
، وسبى مَنْ لم يُنبت منهم مع النساء وأموالهم (4) ، وهذا كله مقرر مفصل بأدلته
وأحاديثه وبسطه في كتاب السيرة ، الذي أفردناه موجزا ومقتصَّا (5). ولله الحمد
والمنة.
ولهذا قال تعالى : { وَأَنزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ } أي : عاونوا الأحزاب
وساعدوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } يعني :
بني قريظة من اليهود ، من بعض أسباط بني إسرائيل ، كان قد نزل آباؤهم الحجاز قديما
، طَمَعًا في اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، {
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِه } [البقرة : 89] ، فعليهم لعنة
الله.
وقوله : { مِنْ صَيَاصِيهِم } يعني : حصونهم. كذا قال مجاهد ، وعِكْرِمة ، وعطاء ،
وقتادة ، والسُّدِّي ، وغيرهم (6) ومنه سميت صياصي البقر ، وهي قرونها ؛ لأنها
أعلى شيء فيها.
{ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } : وهو الخوف ؛ لأنهم كانوا مالؤوا
المشركين على حرب رسول الله (7) صلى الله عليه وسلم ، وليس مَنْ يعلم كمن لا يعلم
، فأخافوا المسلمين وراموا قتلهم ليَعزّوا (8) في الدنيا ، فانعكس
__________
(1) زيادة من ت ، ف ، والبداية والنهاية.
(2) في ت : "إجلالا له".
(3) رواه ابن إسحاق في السيرة كما في البداية والنهاية (4/123) من طريق عاصم بن
عمر ، عن عبد الرحمن بن عمر ، عن علقمة بن وقاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم فذكره ، وأظن في السند خطأ. ورواه ابن سعد في الطبقات (3/426) من طريق محمد
بن صالح التمار ، عن سعد بن إبراهيم ، عن عامر بن سعد ، عن أبيه سعد بن أبي وقاص
مرفوعا بلفظ : "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات" ، وأصله في
صحيح البخاري من دون قوله : "فوق سبع سموات" برقم (3043) من حديث أبي
سعيد الخدري.
(4) السيرة النبوية لابن هشام (2/239).
(5) في ت ، ف ، أ : "وبسيطا".
(6) في ت : "كذا قال مجاهد وغير واحد من السلف" وفي أ : "كذا قال
مجاهد وغيرهم من السلف".
(7) في ف : "النبي".
(8) في ت ، ف ، أ : "ليغزوهم".
(6/398)
عليهم الحال
، وانقلب الفال (1) ، انشمر (2) المشركون ففازوا بصفقة المغبون ، فكما راموا العز
ذلوا (3) ، وأرادوا استئصال المسلمين فاستؤصلوا ، وأضيف إلى ذلك شقاوة الآخرة ،
فصارت الجملة أن هذه هي الصفقة الخاسرة ؛ ولهذا قال تعالى : { فَرِيقًا
تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا } (4) ، فالذين قتلوا هم المقاتلة ، والأسراء
هم الأصاغر والنساء.
قال (5) الإمام أحمد : حدثنا هُشَيْم بن بشير ، أخبرنا عبد الملك بن عمير ، عن
عطية القرظي قال : عُرضتُ على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فشكوا فيَّ ،
فأمر بي النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظروا : هل أنبت بعد ؟ فنظروا فلم يجدوني
أنبت ، فخلى عني وألحقني بالسبي.
وكذا رواه أهل السنن كلهم من طرق ، عن عبد الملك بن عمير ، به (6). وقال الترمذي :
"حسن صحيح". ورواه النسائي أيضا ، من حديث ابن جُرَيْج ، عن ابن أبي
نَجِيح ، عن مجاهد ، عن عطية ، بنحوه (7).
وقوله : { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } أي : جعلها
لكم من قتلكم (8) لهم { وَأَرْضًا لَمْ تَطَؤوهَا } قيل : خيبر. وقيل : مكة. رواه
مالك ، عن زيد بن أسلم. وقيل : فارس والروم. وقال ابن جرير : يجوز أن يكون الجميع
مرادا.
{ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا } : قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد
، أخبرنا محمد بن عمرو ، عن أبيه ، عن جده علقمة بن وقاص قال : أخبرتني (9) عائشة
قالت : خرجت يوم الخندق أقفو الناس ، فسمعت وئيد الأرض ورائي ، فإذا أنا بسعد بن
معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجَنَّه ، قالت : فجلست إلى الأرض ، فمر
سعد وعليه دِرْع من حديد قد خرجت منه أطرافه ، فأنا أتخوف على أطراف سعد ، قالت :
وكان سعد من أعظم الناس وأطولهم ، فمر وهو يرتجز (10) ويقول :
لَبَّثْ قليلا يَشْهدُ الهَيْجَا حَمَلْ... مَا أحْسَنَ الموتَ إذا حَانَ
الأجَلْ...
قالت : فقمت فاقتحمت حديقة ، فإذا فيها نفر من المسلمين ، وإذا فيها عمر بن الخطاب
، وفيهم رجل عليه تَسْبغَة (11) له - تعني المغفر - فقال عمر : ما جاء بك ؟ لعمري
والله إنك لجريئة (12) ، وما يؤمنُك أن يكون بلاء أو يكون تَحَوّز. قالت : فما زال
يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت بي (13)
__________
(1) في ت ، أ : "وانقلب عليهم الفال".
(2) في أ : "اشمر".
(3) في ت : "فلما راموا العز أذلوا".
(4) في ت : "يقتلون ويأسرون".
(5) في ت : "روى".
(6) المسند (5/311) وسنن أبي داود برقم (4404) وسنن الترمذي برقم (1584) وسنن
النسائي (8/92) وسنن ابن ماجه برقم (2542).
(7) النسائي في السنن الكبرى برقم (8619).
(8) في ت ، ف : "قبلكم".
(9) في ت : "وروى الإمام أحمد بإسناده عن".
(10) في ت : "يرتجل".
(11) في ت : "مشيقة" وفي ف : "نشيقة".
(12) في ت : "محدبة".
(13) في ت ، ف : "لي".
(6/399)
ساعتئذ ،
فدخلت فيها ، فرفع الرجل التسبغة (1) عن وجهه ، فإذا هو طلحة بن عبيد الله فقال :
يا عمر ، ويحك ، إنك قد أكثرت منذ اليوم ، وأين التَحَوُّز أو الفرار إلا إلى الله
تعالى ؟ قالت : ويرمي سعدًا رجل من قريش ، يقال له ابن العَرقة بسهم (2) ، وقال له
: خذها وأنا ابن العَرقة فأصابَ أكْحَلَه فقطعه ، فدعا الله سعد فقال : اللهم ، لا
تمتني حتى تُقر عيني من قريظة. قالت : وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية ، قالت :
فرقأ كَلْمُه ، وبعث الله الريح على المشركين ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان
الله قويًّا عزيزًا. فلحق أبو سفيان ومَنْ معه بتهامة ، ولحق عيينة بن بدر ومَنْ
معه بنجد ، ورجعت بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم ، ورجع رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى المدينة وأمر بقبة من أدم فضربت على سعد في المسجد ، قالت : فجاءه جبريل
، عليه السلام ، وإن على ثناياه لنقع الغبار ، فقال : أو قد وضعت السلاح ؟ لا
والله ما وضعت الملائكة بعد السلاح ، اخرج إلى بني قريظة فقاتلهم. قالت : فلبس
رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته ، وأذّن في الناس بالرحيل أن يخرجوا ، [فخرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم] (3) فمر على بني غَنْم (4) وهم جيران المسجد حوله
فقال : ومَنْ مر بكم ؟ قالوا : مر بنا دحية الكلبي - وكان دحية الكلبي تشبه لحيته
، وسنه ووجهه جبريل ، عليه الصلاة والسلام ، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة ، فلما اشتد حصارهم واشتد البلاء قيل لهم : انزلوا على
حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاستشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر ، فأشار
إليهم أنه الذبح. قالوا : ننزل على حكم سعد بن معاذ [فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "انزلوا على حكم سعد بن معاذ". فنزلوا وبعث رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى سعد بن معاذ] (5) فأتي به على حمار عليه إكاف من ليف قد حُمِل عليه
، وحَفّ به قومه ، فقالوا : يا أبا عمرو ، حلفاؤك ومواليك وأهل النّكاية ، ومَنْ
قد علمت ، قالت : ولا يَرْجعُ إليهم شيئا ، ولا يلتفت إليهم ، حتى إذا دنا من
دورهم التفت إلى قومه فقال : قد آن لي ألا أبالي في الله لومة لائم. قال (6) : قال
أبو سعيد (7) : فلما طلع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قوموا إلى
سيدكم فأنزلوه". فقال عمر : سيدنا الله. قال : "أنزلوه". فأنزلوه ،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "احكم فيهم". قال سعد : فإني أحكم
فيهم أن تقتل مقاتلتهم ، وتسبى ذراريهم ، وتقسم أموالهم ، فقال رسول الله :
"لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله". ثم دعا سعد فقال : اللهم ، إن
كنت أبقيتَ على نبيك من حرب قريش شيئًا ، فأبقني لها. وإن كنت قطعت الحرب بينه
وبينهم ، فاقبضني إليك. قال : فانفجر كَلْمُه ، وكان قد برئ منه إلا مثل الخُرْص ،
ورجع إلى قبته التي ضرب عليه رسول الله.
قالت عائشة : فَحَضَره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، وعمر قالت :
فوالذي نفس محمد بيده ، إني لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر ، وأنا في حجرتي.
وكانوا كما قال الله تعالى : { رُحَمَاءُ بَيْنَهُم }.
قال علقمة : فقلت : أيْ أمّه ، فكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ؟ قالت
: كانت عينه لا تدمع على أحد ، ولكنه كان إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته (8).
__________
(1) في ف : "النشيقة".
(2) في ت ، ف : "بسهم له".
(3) زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
(4) في ت ، ف : "تميم".
(5) زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
(6) في ت ، ف ، أ : "قالت".
(7) في أ : "أبو سعد".
(8) المسند (6/141).
(6/400)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)
وقد أخرج
البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن نمير ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن
عائشة نحوًا من هذا ، ولكنه (1) أخصر منه ، وفيه دُعاء سعد ، رضي الله عنه (2).
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا
جَمِيلا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ
فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) }.
هذا أمر من الله لرسوله ، صلوات الله وسلامه عليه (3) ، بأن يخَيّر نساءه بين أن
يفارقهن ، فيذهبن إلى غيره ممن يَحصُل لهن عنده الحياةُ الدنيا وزينتها ، وبين
الصبر على ما عنده من ضيق الحال ، ولهن عند الله في ذلك الثواب الجزيل ، فاخترن ،
رضي الله عنهن وأرضاهن ، الله ورسوله والدار الآخرة ، فجمع الله لهن بعد ذلك بين
خير الدنيا وسعادة الآخرة.
قال (4) البخاري : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، قال : أخبرني أبو
سلمة بن عبد الرحمن ، أن عائشة ، رضي الله عنها ، زوج النبي صلى الله عليه وسلم
أخبرته : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه ،
فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "إني ذاكر لك أمرا ، فلا عليك
أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك" ، وقد عَلمَ أن أبويّ لم يكونا يأمراني
بفراقه. قالت : ثم قال : "وإن الله قال : { يا أيها النبي قل لأزواجك } إلى
تمام الآيتين ، فقلت له : ففي أي هذا أستأمر أبوي ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار
الآخرة (5).
وكذا رواه معلقا عن الليث : حدثني يونس ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ،
فذكره وزاد : قالت : ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت (6).
وقد حكى البخاري أن مَعْمَرًا اضطرب ، فتارة (7) رواه عن الزهري ، عن أبي سلمة ،
وتارة رواه عن الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة (8).
وقال ابن جرير : حدثنا أحمد بن عبَدة الضَّبِّي ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن عمر بن
أبي سلمة ، عن أبيه قال : قالت عائشة : لما نزل الخيار قال لي رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "إني أريد أن أذكر لك أمرا ، فلا تقضي فيه شيئا حتى تستأمري
أبويك". قالت : قلت : وما هو يا رسول الله ؟ قال : فردّه عليها. فقالت : فما
هو يا رسول الله ؟ قالت : فقرأ عليها : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ
لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } إلى
آخر الآية. قالت : فقلت : بل نختار الله ورسوله والدار الآخرة. قالت : ففرح بذلك
النبي صلى الله عليه وسلم (9)
__________
(1) في ت ، أ : "ولكن".
(2) صحيح البخاري برقم (4117) وصحيح مسلم برقم (1769).
(3) في ت : "صلى الله عليه وسلم".
(4) في ت : "فروى".
(5) صحيح البخاري برقم (4785).
(6) صحيح البخاري برقم (4786).
(7) في أ : "فيه قتادة و".
(8) صحيح البخاري (8/520) "فتح".
(9) تفسير الطبري (21/100).
(6/401)
.
وحدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا محمد بن بشر ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن
عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : لما نزلت آية التخيير ، بدأ بي رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، فقال : "يا عائشة ، إني عارض عليك أمرًا ، فلا تُفتياني فيه
[بشيء] (1) حتى تعرضيه على أبويك أبي بكر وأم رومان". فقلت : يا رسول الله ،
وما هو ؟ قال : "قال الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ
لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا
فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا. وَإِنْ
كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ
أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا }.قالت : فإني أريد الله
ورسوله والدار الآخرة ، ولا أؤامر في ذلك أبويّ أبا بكر وأم رومان ، فضحك رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، ثم استقرأ الحُجَر فقال : "إن عائشة قالت كذا
وكذا". فقلن : ونحن نقول مثل ما قالت عائشة ، رضي الله عنهن كلهن (2).
ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبي سعيد الأشَجِّ ، عن أبي أسامة ، عن محمد بن عمرو ،
به.
قال ابن جرير : وحدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، حدثنا أبي ، عن (3) محمد بن إسحاق ،
عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عَمرة ، عن عائشة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لما نزل إلى نسائه أمر أن يخيرهن ، فدخل عَليَّ فقال : "سأذكر لك أمرا فلا
تعجلي حتى تستشيري أباك". فقلت : وما هو يا نبي الله ؟ قال : "إني أمرت
أن أخيركن" ، وتلا عليها آية التخيير ، إلى آخر الآيتين. قالت : فقلت : وما
الذي تقول لا تعجلي حتى تستشيري أباك ؟ فإني اختار الله ورسوله ، فَسُرّ بذلك ،
وعَرَض على نسائه فتتابعن كُلّهن ، فاخترنَ الله ورسوله (4).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يزيد بن سنان البصري ، حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح
، حدثني الليث ، حدثني عُقَيل ، عن الزهري ، أخبرنَي عُبيد الله بن عبد الله بن
أبي ثَور ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قالت عائشة ، رضي الله عنها :
أنزلت آية التخيير فبدأ بي أَوَّلَ امرأة من نسائه ، فقال : "إني ذاكر لك
أمرا ، فلا (5) عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك". قالت : قد عَلِم (6) أن
أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه. قالت : ثم قال : "إن الله قال : { يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ } الآيتين. قالت عائشة : فقلت : أفي هذا
أستأمر أبويّ ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. ثم خير نساءه كلهن ، فقلن
مثل ما قالت عائشة ، رضي الله عنهن.
وأخرجه البخاري ومسلم جميعا ، عن قتيبة ، عن الليث ، عن الزهري ، عن عروة ، عن
عائشة مثله (7).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن مسلم بن صَبِِيح ، عن
مسروق ، عن عائشة قالت : خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه ، فلم يعدها
علينا شيئا. أخرجاه من حديث الأعمش (8)
__________
(1) زيادة من ت ، ف ، والطبري.
(2) تفسير الطبري (21/101).
(3) في أ : "أنبأنا".
(4) تفسير الطبري (21/101).
(5) في أ : "ألا".
(6) في ف : "أعلم".
(7) كذا ولم أجده بهذا السند فيهما ، ولا ذكره المزي في تحفة الأشراف ولعلي
أتداركه فيما بعد.
(8) المسند (6/45) وصحيح البخاري برقم (5262) وصحيح مسلم رقم (1477).
(6/402)
.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو ، حدثنا زكريا بن إسحاق ، عن
أبي الزبير ، عن جابر قال : أقبل أبو بكر ، رضي الله عنه ، يستأذن على رسول الله
صلى الله عليه وسلم والناس ببابه جلوس ، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس : فلم
يؤذن له. ثم أقبل عمر فاستأذن فلم يؤذن له. ثم أذن لأبي بكر وعمر فدخلا والنبي صلى
الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه ، وهو ساكت ، فقال عمر : لأكلمن النبي صلى الله
عليه وسلم لعله يضحك ، فقال عمر : يا رسول الله ، لو رأيت ابنة زيد - امرأة عمر -
سألتني النفقة آنفا ، فوجأت عنقها. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدا ناجذه
(1) وقال : "هن حولي يسألنني النفقة". فقام أبو بكر ، رضي الله عنه ،
إلى عائشة ليضربها ، وقام عمر ، رضي الله عنه ، إلى حفصة ، كلاهما يقولان : تسألان
النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده. فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن
نساؤه : والله لا نسأل رسول الله بعد هذا المجلس ما ليس عنده. قال : وأنزل الله ،
عز وجل ، الخيار ، فبدأ بعائشة فقال : "إني أذكر لك أمرًا ما أحب أن تعجلي
فيه حتى تستأمري أبويك". قالت : وما هو ؟ قال : فتلا عليها : { يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ } الآية ، قالت عائشة ، رضي الله عنها : أفيك أستأمر
أبوي ؟ بل أختار الله ورسوله ، وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت. فقال :
"إن الله تعالى لم يبعثني معنفًا ، ولكن بعثني معلمًا ميسرًا (2) ، لا تسألني
امرأة منهن عما اخترتِ إلا أخبرتُها".
انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري ، فرواه هو والنسائي ، من حديث زكريا بن إسحاق
المكي ، به (3).
وقال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا سُرَيْج بن يونس ، حدثنا علي بن هاشم بن
البريد ، عن محمد بن عبيد [الله بن علي] (4) بن أبي رافع ، عن عثمان بن علي بن
الحسين ، عن أبيه ، عن علي ، رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
خَيَّر نساءه الدنيا والآخرة ، ولم يخيرهن الطلاق (5).
وهذا منقطع ، وقد رُوي عن الحسن وقتادة وغيرهما نحو ذلك. وهو خلاف الظاهر من الآية
، فإنه قال : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا }
أي : أعطيكن حقوقكن وأطلق سراحكن.
وقد اختلف العلماء في جواز تزويج غيره لهن لو طلقهن ، على قولين ، وأصحهما نعم لو
وقع ، ليحصل المقصود من السراح ، والله أعلم.
قال عكرمة : وكان تحته يومئذ تسع نسوة ، خمس من قريش : عائشة ، وحفصة ، وأم حبيبة
، وسودة ، وأم سلمة ، وكانت تحته صلى الله عليه وسلم صفية بنت حُيَيّ النَّضَريَّة
، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث
المصطلقية ، رضي الله عنهن وأرضاهن.
[ولم يتزوج واحدة منهن ، إلا بعد أن توفيت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن
قصي بن كلاب ، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، وهو ابن خمس وعشرين سنة
، وبقيت معه إلى أن أكرمه الله برسالته فآمنت به ونصرته ، وكانت له وزير صدق ،
وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين ، رضي الله عنها ، في الأصح ، ولها خصائص منها : أنه
لم يتزوج عليها غيرها ، ومنها أن أولاده كلهم منها ، إلا إبراهيم ، فإنه من سريته
مارية ، ومنها أنها خير نساء الأمة.
__________
(1) في ف : "نواجذه".
(2) في ت : "مبشرا".
(3) المسند (3/328) وصحيح مسلم برقم (1478) والنسائي في السنن الكبرى برقم (9208).
(4) زيادة من ت ، ف ، والمسند.
(5) زوائد المسند (1/78).
(6/403)
واختلف في
تفضيلها على عائشة على ثلاثة أقوال ، ثالثها الوقف.
وسئل شيخنا أبو العباس بن تيمية عنهما فقال : اختصت كل واحدة منهما بخاصية ،
فخديجة كان تأثيرها في أول الإسلام ، وكانت تُسلِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم
وتثبته ، وتسكنه ، وتبذل دونه مالها ، فأدركت غُرة الإسلام ، واحتملت الأذى في
الله وفي رسوله وكان نصرتها للرسول في أعظم أوقات الحاجة ، فلها من النصرة والبذل
ما ليس لغيرها. وعائشة تأثيرها في آخر الإسلام ، فلها من التفقه في الدين وتبليغه
إلى الأمة ، وانتفاع بنيها بما أدَّت إليهم من العلم ، ما ليس لغيرها. هذا معنى
كلامه ، رضي الله عنه.
ومن خصائصها : أن الله ، سبحانه ، بعث إليها السلام مع جبريل ، فبلغها رسول الله
صلى الله عليه وسلم ذلك. روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال
: أتى جبريل ، عليه السلام ، النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، هذه
خديجة ، قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب ، فإذا هي أتتك فأقرأها السلام
من ربها ومني ، وبشرها ببيت في الجنة ، من قَصَب ، لا صَخَب فيه ولا نَصَب (1)
وهذه لعَمْر الله خاصة ، لم تكن لسواها. وأما عائشة ، رضي الله عنها ، فإن جبريل
سلَّم عليها على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ، فروى البخاري بإسناده أن عائشة
قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا : "يا عائشة ، هذا جبريل
يقرئك السلام". فقلت : وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ، ترى ما لا أرى ،
تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم (2). ومن خواص خديجة ، رضي الله عنها : أنه لم
تسوءه قط ، ولم تغاضبه ، ولم ينلها منه إيلاءً ، ولا عتب قط ، ولا هجر ، وكفى بهذه
منقبة وفضيلة.
ومن خواصها : أنها أول امرأة آمنت بالله ورسوله من هذه الأمة.
فصل :
فلمَّا توفاها الله تزوج بعدها سودة بنت زمعة ، رضي الله عنها ، وهي سودة بنت زمعة
بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن جبل بن عامر بن لؤي ، وكبرت عنده ،
وأراد طلاقها فوهبت يومها لعائشة ، فأمسكها. وهذا من خواصها : أنها آثرت بيومها حب
النبي صلى الله عليه وسلم تقربًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحبا له ،
وإيثارا لمقامها معه ، فكان يقسم لعائشة يومها ويوم سودة ، ويقسم لنسائه ، ولا
يقسم لها وهي راضية بذلك مؤثرة ، لترضي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتزوج الصديقة بنت الصديق عائشة بنت أبي بكر ، رضي الله عنهما ، وهي بنت ست سنين
قبل الهجرة بسنتين ، وقيل : بثلاث ، وبنى بها بالمدينة أول مقدمه في السنة الأولى
، وهي بنت تسع ، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة ، وتوفيت بالمدينة ، ودفنت بالبقيع ،
وأوصت أن يصلي عليها أبو هريرة سنة ثمان وخمسين ، ومن خصائصها : أنها كانت أحب
أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ، كما ثبت ذلك عنه في البخاري وغيره ،
أنه سئل أي الناس أحب إليك ؟ قال : "عائشة". قيل : فمن الرجال ؟ قال :
"أبوها" (3).
ومن خصائصها أيضا : أنه لم يتزوج بكرا غيرها ، ومن خصائصها : أنه كان ينزل عليه
الوحي وهو
__________
(1) صحيح البخاري برقم (3820).
(2) صحيح البخاري برقم (3768).
(3) لم أقف عليه في صحيح البخاري. وهو في سنن الترمذي برقم (3879) من حديث عمرو بن
العاص ، رضي الله عنه
(6/404)
في لحافها
دون غيرها.
ومن خصائصها : أن الله ، عز وجل ، لما أنزل عليه آية التخيير بدأ بها فخيرها ،
فقال : "ولا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك". فقالت : أفي هذا أستأمر
أبويَّ ، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. فاستن بها بقية أزواجه صلى الله
عليه وسلم ، وقلن كما قالت.
ومن خصائصها : أن الله ، سبحانه ، برأها مما رماها به أهل الإفك ، وأنزل في عذرها
، وبراءتها ، وحيا يتلى في محاريب المسلمين ، وصلواتهم إلى يوم القيامة ، وشهد لها
أنها من الطيبات ، ووعدها المغفرة والرزق الكريم ، وأخبر سبحانه ، أن ما قيل فيها
من الإفك كان خيرًا لها ، ولم يكن بذلك الذي قيل فيها شر لها ، ولا عيب لها ، ولا
خافض من شأنها ، بل رفعها الله بذلك ، وأعلى قدرها وعظم شأنها ، وأصار لها ذكرًا
بالطيب والبراءة بين أهل الأرض والسماء ، فيا لها من منقبة ما أجلها. وتأمل هذا
التشريف والإكرام الناشئ عن فرط تواضعها واستصغارها لنفسها ، حيث قالت : ولشأني في
نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بوحي يتلى ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله
صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرئني الله بها ، فهذه صديقة الأمة ، وأم المؤمنين ، وحب
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي تعلم أنها بريئة مظلومة ، وأن قاذفيها ظالمون
مفترون عليها ، قد بلغ أذاهم إلى أبويها ، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وهذا كان احتقارها لنفسها وتصغيرها لشأنها ، فما ظنك بمن قد صام يوما أو يومين ،
أو شهرا أو شهرين ، قد قام ليلة أو ليلتين ، فظهر عليه شيء من الأحوال ، ولاحظوا
أنفسهم بعين استحقاق الكرامات ، وأنهم ممن يتبرك بلقائهم ، ويُغتنم بصالح دعائهم ،
وأنهم يجب على الناس احترامهم وتعظيمهم وتعزيزهم وتوقيرهم ، فيتمسح بأثوابهم ،
ويقبل ثرى أعتابهم ، وأنهم من الله بالمكانة التي تنتقم لهم لأجلها من تنقصهم في
الحال ، وأن يؤخذ من أساء الأدب عليهم من غير إمهال ، وإن إساءة الأدب عليهم ذنب
لا يكفره شيء إلا رضاهم.
ولو كان هذا من وراء كفاية لهان ، ولكن من وراء تخلف ، وهذه الحماقات والرعونات
نتاج الجهل الصميم ، والعقل غير المستقيم ، فإن ذلك إنما يصدر من جاهل معجب بنفسه
، غافل عن جرمه وعيوبه وذنوبه ، مغتر بإمهال الله له عن أخذه بما هو فيه من الكبر
والازدراء على من لعله عند الله خير منه. نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.
وينبغي للعبد أن يستعيذ بالله أن يكون عند نفسه عظيما ، وهو عند الله حقير ، ومن
خصائص عائشة ، رضي الله عنها : أن الأكابر من الصحابة ، رضي الله عنهم ، كان إذا
أشكل الأمر عليهم من الدين ، استفتوها فيجدون علمه عندها.
ومن خصائصها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتها. ومن خصائصها : أن
الملك أرى صورتها للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوجها في خرقة حرير ، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم : "إن يكن هذا من عند الله يمضه" (1). ومن
خصائصها : أن الناس كانوا يتحرون هداياهم يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم
تقربًا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيتحفونه بما يحب في منزل أحب نسائه إليه
، رضي الله عنهم أجمعين ، وتكنى أم عبد الله ، وروي أنها أسقطت من النبي صلى الله
عليه وسلم سقطًا ، ولا يثبت ذلك.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (5078) من حديث عائشة ، رضي الله عنها.
(6/405)
وتزوج رسول
الله صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر بن الخطاب ، وكانت قبله عند حبيش بن حذافة ،
وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وممن شهد بدرا ، توفيت سنة سبع ، وقيل
: ثمان وعشرين ، ومن خواصها : ما ذكره الحافظ أبو محمد المقدسي في مختصره في
السيرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها ، فأتاه جبريل فقال : إن الله يأمرك
أن تراجع حفصة ، فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة.
وقال الطبراني في المعجم الكبير : حدثنا أحمد بن طاهر بن حرملة بن يحيى ، حدثنا
جدي حرملة ، حدثنا ابن وهب ، حدثنا عمرو بن صالح الحضرمي ، عن موسى بن علي بن رباح
، عن أبيه ، عن عقبة بن عامر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ، فبلغ ذلك
عمر بن الخطاب ، فوضع التراب على رأسه ، وقال : ما يعبأ الله بابن الخطاب بعد هذا.
فنزل جبريل ، عليه السلام ، على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله يأمرك أن
تراجع حفصة رحمة لعمر. (1)
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان ، واسمها رملة بنت صخر
بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، هاجرت مع زوجها عبد الله بن جحش إلى أرض
الحبشة ، فتنصر بالحبشة ، وأتم الله لها الإسلام ، وتزوجها رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهي بأرض الحبشة ، وأصدقها عند النجاشي أربعمائة دينار ، وبعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري بها إلى أرض الحبشة ، وولى نكاحها عثمان
بن عفان ، وقيل : خالد بن سعيد بن العاص ، وهي التي أكرمت فراش رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن يجلس عليه أبوها لما قدم أبو سفيان المدينة ، وقالت له : إنك مشرك ،
ومنعته الجلوس عليه.
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة واسمها هند بنت أبي أمية بن المغيرة
بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب ، وكانت قبله
عند أبي سلمة بن عبد الأسد ، توفيت سنة اثنتين وستين ، ودفنت بالبقيع ، وهي آخر
أزواج النبي صلى الله عليه وسلم موتًا ، وقيل : بل ميمونة ، ومن خصائصها : أن
جبريل دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي عنده فرأته في صورة دحية الكلبي.
ففي صحيح مسلم عن أبي عثمان قال : أنبئت أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم ،
وعنده أم سلمة ، فقال : فجعل يتحدث ، ثم قام فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم لأم
سلمة : "من هذا ؟" أو كما قال. قالت : هذا دحية الكلبي. قالت : وايم
الله ، ما حسبته إلا إياه ، حتى سمعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم ، يخبر أنه جبريل
، أو كما قال ، قال سليمان التيمي : فقلت لأبي عثمان : ممن سمعت هذا الحديث ؟ قال
: من أسامة بن زيد (2) وزوَّجها ابنها - عمر - من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وردت طائفة ذلك بأن ابنها لم يكن له من السن حينئذ ما يعقد التزويج ، ورد الإمام
أحمد ذلك ، وأنكر على من قاله ، ويدل على صحة قول أحمد ما رواه مسلم في صحيحه أن
عمر بن أبي سلمة - ابنها - سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم ؟ فقال
: "سل هذه" يعني : أم سلمة فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
يفعله ، فقال : لسنا كرسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحل الله لرسوله ما شاء.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني أتقاكم لله وأعلمكم به" (3)
أو كما قال. ومثل هذا لا يقال لصغير جدا ، وعمر ولد بأرض الحبشة قبل الهجرة. وقال
البيهقي : وقول من زعم أنه كان صغيرا ،
__________
(1) المعجم الكبير (17/291) وقال الهيثمي في المجمع (4/334) : "فيه عمرو بن
صالح الحضرمي ، ولم أعرفه ، وبقية رجاله ثقات".
(2) صحيح مسلم برقم (2451).
(3) صحيح مسلم برقم (1108).
(6/406)
دعوى ولم
يثبت صغره بإسناد صحيح.
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش من بني خزيمة بن مدركة بن إلياس
بن مضر ، وهي بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب ، وكانت قبل عند مولاه زيد بن حارثة ،
فطلقها فزوجه الله إياها من فوق سبع سموات ، وأنزل عليه : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ
مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا } فقام فدخل عليها بلا استئذان ، وكانت تفخر بذلك
على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وتقول : زوَّجكن أهاليكن وزوَّجني الله
من فوق سبع سمواته ، وهذا من خصائصها. توفيت بالمدينة سنة عشرين ، ودفنت بالبقيع.
وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة الهلالية ، وكانت تحت عبد الله بن
جحش ، تزوجها سنة ثلاث من الهجرة ، وكانت تسمى أم المساكين ، ولم تلبث عند رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيرا ، شهرين أو ثلاثة ، وتوفيت ، رضي الله عنها.
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث من بني المصطلق ، وكانت
سبيت في غزوة بني المصطلق ، فوقعت في سهم ثابت بن قيس ، فكاتبها ، فقضى رسول الله
صلى الله عليه وسلم كتابتها ، وتزوجها سنة ست من الهجرة ، وتوفيت سنة ست وخمسين ،
وهي التي أعتق المسلمون بسببها مائة أهل بيت من الرقيق ، وقالوا : أصهار رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك من بركتها على قومها.
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي ، من ولد هارون بن عمران أخي
موسى ، سنة سبع ، فإنها سبيت من خيبر ، وكانت قبله تحت كنانة بن أبي الحقيق ،
فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، توفيت سنة ست وثلاثين ، وقيل : سنة خمسين.
ومن خصائصها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقها وجعل عتقها صداقها. قال أنس
: أمهرها نفسها ، وصار ذلك سنة للأمة إلى يوم القيامة ، ويجوز للرجل أن يجعل عتق
جاريته صداقها ، وتصير زوجته على منصوص الإمام أحمد ، رحمه الله. قال الترمذي :
حدثنا إسحاق بن منصور ، وعبد بن حميد ، قالا حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن ثابت
، عن أنس قال : بلغ صفية أن حفصة قالت : صفية بنت يهودي ، فبكت ، فدخل عليها النبي
صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال : "ما يبكيك ؟" قالت : قالت لي حفصة :
إني ابنة يهودي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إنك لابنة نبي وإن عمك
لنبي ، وإنك لتحت نبي ، فبما تفخر عليك ؟" ثم قال : "اتق الله يا
حفصة". (1) قال الترمذى : هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه. وهذا من خصائصها
، رضي الله عنها.
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث الهلالية ، تزوجها بسَرَف
وهو على تسعة أميال من مكة ، وهي آخر من تزوج من أمهات المؤمنين ، توفيت سنه ثلاث
وستين ، وهي خالة خالد بن الوليد ، وخالة ابن عباس ، فإن أمه أم الفضل بنت الحارث
وهي التي اختلف في نكاح النبي صلى الله عليه وسلم لها. هل نكحها حلالا أو مُحرمًا
؟ والصحيح إنما تزوجها حلالا كما قال أبو رافع الشفير في نكاحها.
قال الحافظ أبو محمد المقدسي وغيره : وعقد على سبع ولم يدخل بهن ، فالصلاة على
أزواجه تابعة لاحترامهن وتحريمهن على الأمة ، وأنهن نساؤه صلى الله عليه وسلم في
الدنيا والآخرة ، فمن فارقها في حياتها ولم يدخل ، لا يثبت لها أحكام زوجاته
اللاتي دخل بهن صلى الله عليه وعلى أزواجه وآله وذريته وسلم تسليما]. (2)
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3894) وقال : "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا
الوجه".
(2) زيادة من ت.
(6/407)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
{ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) }
(6/408)
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
{ وَمَنْ
يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا
مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) }
يقول تعالى واعظًا نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، اللاتي اخترن الله ورسوله
والدار الآخرة ، واستقر (1) أمرهن تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبرهن (2)
بحكمهن [وتخصيصهن] (3) دون سائر النساء ، بأن من يأت منهن بفاحشة مبينة - قال ابن
عباس : وهي النشوز وسوء الخلق. وعلى كل تقدير فهو شرط ، والشرط لا يقتضي الوقوع
كقوله تعالى : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ
لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر : 65] ، وكقوله : { وَلَوْ
أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأنعام : 88] ، { قُلْ
إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } [الزخرف : 81] ،
{ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا
يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [الزمر : 4] ، فلما
كانت محلَّتهن رفيعة ، ناسب أن يجعل الذنب لو وقع منهن مغلظا ، صيانة لجنابهن
وحجابهن الرفيع ؛ ولهذا قال : { مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ
يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ }.
قال مالك ، عن زيد بن أسلم : { يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } قال : في
الدنيا والآخرة.
وعن ابن أبي نجيح [عن مجاهد] (4) مثله.
{ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } أي : سهلا هينا.
ثم ذكر عدله وفضله في قوله : { وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ }
أي : يطع (5) الله ورسوله ويستجب { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا
لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا } أي : في الجنة ، فإنهن في منازل رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، في أعلى عليين ، فوق منازل جميع الخلائق ، في الوسيلة التي هي أقرب منازل
الجنة إلى العرش.
{ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ
فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ
قَوْلا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ
الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ
أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي
بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا
خَبِيرًا (34) }.
هذه آداب أمر الله تعالى بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، ونساء الأمة تبع لهن
في ذلك ، فقال مخاطبا لنساء النبي [صلى الله عليه وسلم] (6) بأنهن إذا اتقين الله
كما أمرهن ، فإنه لا يشبههن أحد من النساء ، ولا يلحقهن في الفضيلة
__________
(1) في ت : "فاستقر.
(2) في أ : "يخبرن".
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من ت ، ف ، أ.
(5) في ت ، ف : "يطيع".
(6) زيادة من ت ، وفي ف : "صلوات الله وسلامه عليه".
(6/408)
والمنزلة ،
ثم قال : { فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ }.
قال السُّدِّي وغيره : يعني بذلك : ترقيق الكلام إذا خاطبن الرجال ؛ ولهذا قال : {
فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } أي : دَغَل ، { وَقُلْنَ قَوْلا
مَعْرُوفًا } : قال ابن زيد : قولا حسنًا جميلا معروفًا في الخير.
ومعنى هذا : أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم ، أي : لا تخاطب المرأة
الأجانب كما تخاطب زوجها.
وقوله : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } أي : الزمن بيوتكن فلا (1) تخرجن لغير
حاجة. ومن الحوائج الشرعية الصلاة في المسجد بشرطه ، كما قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ، وليخرجن وهن تَفِلات"
وفي رواية : "وبيوتهن خير لهن" (2)
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا حميد بن مَسْعَدة (3) حدثنا أبو رجاء الكلبي ،
روح بن المسيب ثقة ، حدثنا ثابت البناني (4) عن أنس ، رضي الله عنه ، قال : جئن
النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن : يا رسول الله ، ذهب الرجال بالفضل
والجهاد في سبيل الله تعالى ، فما لنا عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل الله ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قعد - أو كلمة نحوها - منكن في
بيتها فإنها تدرك عمل المجاهدين (5) في سبيل الله".
ثم قال : لا نعلم رواه عن ثابت إلا روح بن المسيب ، وهو رجل من أهل البصرة مشهور
(6).
وقال (7) البزار أيضا : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عمرو بن عاصم ، حدثنا همام ،
عن قتادة ، عن مُوَرِّق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : "إن المرأة عورة ، فإذا خرجت استشرفها الشيطان ، وأقرب ما تكون
(8) بروْحَة ربها وهي في قَعْر بيتها".
ورواه الترمذي ، عن بُنْدَار ، عن عمرو بن عاصم ، به نحوه (9)
وروى البزار بإسناده المتقدم ، وأبو داود أيضا ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
: "صلاة المرأة في مَخْدعِها أفضل من صلاتها في بيتها ، وصلاتها في بيتها
أفضل من صلاتها في حجرتها" (10) وهذا إسناد (11) جيد.
__________
(1) في ت : "ولا".
(2) رواه بهذا اللفظ أبو داود في السنن برقم (565) من حديث أبي هريرة ، رضي الله
عنه ، وبالرواية الثانية برقم (567) من حديث ابن عمر ، رضي الله عنهما ، وأصله في
الصحيحين من حديث ابن عمر.
(3) في أ : "مسعود".
(4) في ت : "وروى أبو بكر البزار بإسناده".
(5) في ت : "المجاهد".
(6) مسند البزار برقم (1475) "كشف الأستار" ورواه أبو يعلى في المسند
(6/140) وابن حبان في المجروحين (1/299) من طريق أبي رجاء الكلبي بنحوه. قال ابن
حبان : "وكان روح ممن يروي عن الثقات الموضوعات ، ويقلب الأسانيد ، ويرفع
الموقوفات" ثم قال : "لا تحل الرواية عنه ولا كتابة حديثه إلا
للاختبار". وقال ابن عدي في الكامل : "أحاديثه غير محفوظة".
(7) في ت : "وروى".
(8) في أ : "ما يكون".
(9) سنن الترمذي برقم (1173) وقال الترمذي : "هذا حديث حسن غريب". ورواه
ابن خزيمة في صحيحه برقم (1685) ومن طريقه ابن حبان في صحيحه برقم (329)
"موارد" عن عمرو بن عاصم ، به ، وشك ابن خزيمة في سماع قتادة هذا الحديث
من مورق.
(10) سنن أبي داود برقم (570).
(11) في ت : "إسناده".
(6/409)
وقوله تعالى
: { وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى } قال مجاهد : كانت
المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال ، فذلك تبرج الجاهلية.
وقال قتادة : { وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى } يقول : إذا
خرجتن من بيوتكن - وكانت لهن (1) مشية وتكسر وتغنُّج - فنهى الله عن ذلك.
وقال مقاتل بن حيان : { وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى }
والتبرج : أنها تلقي الخمار على رأسها ، ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها ،
ويبدو ذلك كله منها ، وذلك التبرج ، ثم عمت نساء المؤمنين في التبرج. وقال ابن
جرير : حدثني ابن زهير ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا داود - يعني ابن أبي
الفرات - حدثنا علي بن أحمر ، عن عِكْرِمة (2) عن ابن عباس قال : تلا هذه الآية :
{ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى }. قال : كانت فيما بين نوح
وإدريس ، وكانت ألف سنة ، وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل ، والآخر
يسكن الجبل. وكان رجال الجبل صباحا وفي النساء دَمَامة. وكان نساء السهل صباحا وفي
الرجال دمامة ، وإن إبليس أتى رجلا من أهل السهل في صورة غلام ، فآجر نفسه منه ،
فكان يخدمه واتخذ إبليس شيئًا مثل الذي يُزَمّر فيه الرِّعاء ، فجاء فيه بصوت لم يسمَع
الناس مثله ، فبلغ ذلك من حوله ، فانتابوهم يسمعون إليه ، واتخذوا عيدا يجتمعون
إليه في السنة ، فيتبرَّجُ النساء للرجال. قال : ويتزيَّن (3) الرجال لهن ، وإن
رجلا من أهل الجبل هَجَم عليهم في عيدهم ذلك ، فرأى النساء وصَبَاحتهن ، فأتى
أصحابه فأخبرهم بذلك ، فتحولوا إليهن ، فنزلوا معهن وظهرت الفاحشة فيهن ، فهو قوله
تعالى : { وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى } (4).
وقوله : { وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ } ، نهاهن أولا عن الشر ثم أمرهن بالخير ، من إقامة الصلاة - وهي :
عبادة الله ، وحده لا شريك له - وإيتاء الزكاة ، وهي : الإحسان إلى المخلوقين ، {
وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } ، وهذا من باب عطف العام على الخاص. وقوله : {
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } : وهذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
في أهل البيت هاهنا ؛ لأنهن سبب نزول هذه الآية ، وسبب النزول داخل فيه قولا واحدا
، إما وحده على قول أو مع غيره على الصحيح.
وروى ابن جرير : عن عِكْرِمة أنه كان ينادي في السوق : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } ،
نزلت (5) في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، وهكذا روى ابن أبي حاتم قال :
حدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا زيد بن الْحُبَاب ، حدثنا حسين بن واقد ، عن
يزيد النحوي ، عن عكرمة عن (6) ابن عباس في قوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ } قال : نزلت في نساء النبي صلى
الله عليه وسلم خاصة.
__________
(1) في أ : "لها".
(2) في ت : "وروى ابن جرير بإسناده".
(3) في ت ، ف : "وتنزل".
(4) تفسير الطبري (22/4).
(5) في ت : "أنزلت".
(6) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بسنده إلى".
(6/410)
وقال عكرمة
: من شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن كان المراد أنهن كُنّ سبب النزول دون غيرهن فصحيح ، وإن أريد أنهن المراد فقط
دون غيرهن ، ففي هذا نظر ؛ فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك :
الحديث الأول : قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، أخبرنا علي بن زيد
(1) ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول : "الصلاة يا أهل البيت
، { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا }.
ورواه الترمذي ، عن عبد بن حميد ، عن عفان به. وقال : حسن غريب (2). (3)
حديث آخر : قال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا يونس بن أبي
إسحاق ، أخبرني أبو داود ، عن أبي الحمراء قال : رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، [قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم] (4)
إذا طلع الفجر ، جاء إلى باب علي وفاطمة فقال : "الصلاة الصلاة { إِنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيرًا } (5).
أبو داود الأعمى هو : نفيع بن الحارث ، كذاب.
حديث آخر : وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا محمد بن مصعب ، حدثنا الأوزاعي ، حدثنا
شداد أبو عمار (6) قال : دخلت على واثلة بن الأسقع وعنده قوم ، فذكروا عليًّا ،
رضي الله عنه ، فلما قاموا قال لي : ألا أخبرك بما رأيت من رسول الله الله عليه
وسلم ؟ قلت : بلى. قال : أتيت فاطمة أسألها عن علي فقالت : تَوَجه إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فجلست أنتظره حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه
علي وحسن وحسين ، آخذ كل واحد منهما بيده حتى دخل ، فأدنى عليًّا وفاطمة وأجلسهما
بين يديه ، وأجلس حسنًا وحسينًا كل واحد منهما على فخذه ، ثم لفَّ عليهم (7) ثوبه
- أو قال : كساءه - ثم تلا هذه الآية : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } ، اللهم (8)
هؤلاء أهل بيتي ، وأهل بيتي أحق" ، وقد رواه أبو جعفر بن جرير عن عبد الكريم
بن أبي عمير (9) ، عن الوليد بن مسلم ، عن أبي عمرو الأوزاعي بسنده نحوه - زاد في
آخره : قال واثلة : فقلت : وأنا يا رسول الله - صلى الله عليك - من أهلك ؟ قال :
"وأنت من أهلي"قال واثلة : إنها من أرجى ما أرتجي (10).
ثم رواه أيضا عن عبد الأعلى بن واصل ، عن الفضل بن دُكَيْن ، عن عبد السلام بن حرب
، عن كلثوم المحاربي ، عن شداد أبي عمار قال : إني لجالس عند واثلة بن الأسقع إذ
ذكروا عليا
__________
(1) في ت : "فروى الإمام أحمد بإسناده".
(2) في ت : "حديث حسن".
(3) المسند (3/259) وسنن الترمذي برقم (3206).
(4) زيادة من ت ، ف ، أ ، والطبري.
(5) تفسير الطبري (22/6) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (22/200) من طريق منصور
بن الأسود ، عن أبي داود بنحوه.
(6) في ت : "وروى الإمام أحمد بإسناده عن شداد بن عمار".
(7) في ت : "عليهما".
(8) في ت ، ف : "وقال : اللهم".
(9) في أ : "عمر".
(10) المسند (4/107) وتفسير الطبري (22/6).
(6/411)
فشتموه ،
فلما قاموا قال : اجلس حتى أخبرك عن الذي شتموه ، إني عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذ جاء علي وفاطمة وحسن وحسين فألقى صلى الله عليه وسلم عليهم كساء له ، ثم
قال : "اللهم هؤلاء أهل بيتي ، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا".
قلت : يا رسول الله ، وأنا ؟ قال : "وأنت" قال : فوالله إنها لأوثق عملي
عندي (1).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن نمير ، حدثنا عبد الملك بن أبي
سليمان ، عن عطاء بن أبي رباح ، حدثني من سمع أم سلمة تذكر أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان في بيتها ، فأتته فاطمة ، رضي الله عنها ، ببرمة فيها خَزيرة ، فدخلت بها
عليه فقال لها : "ادعي زوجك وابنيك". قالت : فجاء علي وحسن وحسين فدخلوا
عليه ، فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة ، وهو على منامةٍ له على دكان (2) تحته كساء
خيبري ، قالت : وأنا في الحجرة أصلي ، فأنزل الله ، عز وجل ، هذه الآية : {
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا }. قالت : فأخذ فضل الكساء فغطاهم به ، ثم أخرج يده
فألوى بها إلى السماء ، ثم قال : "اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي ، فأذهب عنهم
الرجس وطهرهم تطهيرا" ، قالت : فأدخلت رأسي البيت ، فقلت : وأنا معكم يا رسول
الله ؟ فقال : "إنك إلى خير ، إنك إلى خير" (3).
في إسناده من لم يسم (4) ، وهو شيخ عطاء ، وبقية رجاله ثقات.
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا عوف ، عن أبي المعدل
(5) ، عن عطية الطُّفَاوِيّ ، عن أبيه ؛ أن أم سلمة حدثته قالت (6) : بينما رسول
الله صلى الله عليه وسلم في بيتي يومًا إذ قال الخادم : إن فاطمة وعليا بالسدّة
قالت : فقال لي : "قومي فَتَنَحي عن (7) أهل بيتي". قالت : فقمت فتنحيت
في البيت قريبًا ، فدخل علي وفاطمة ، ومعهما الحسن والحسين ، وهما صبيان صغيران ،
فأخذ الصبيين فوضعهما في حجره فقبَّلهما ، واعتنق عليا بإحدى يديه وفاطمة باليد
الأخرى ، وقَبَّل فاطمة وقَبَّل عليا ، وأغدق عليهم خَميصَة سوداء وقال :
"اللهم ، إليك لا إلى النار أنا وأهل بيتي". قالت : فقلت : وأنا يا رسول
الله ؟ صلى الله عليك. قال : "وأنت" (8).
طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا [الحسن بن عطية ، حدثنا]
(9) فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن أبي سعيد ، عن أم سلمة ؛ أن هذه الآية نزلت في
بيتها : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } قالت : وأنا جالسة على باب البيت فقلت :
يا رسول
__________
(1) تفسير الطبري (22/7) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (22/65) من طريق علي بن
عبد العزيز عن الفضل بن دكين ، أبو نعيم به.
(2) في ف : "وكان".
(3) المسند (6/292) وقد سمى شيخ عطاء في رواية الطبراني في المعجم الكبير (9/11)
فقال عن عطاء بن أبي رباح ، عن عمر بن أبي سلمة بنحوه.
(4) في أ : "يسمع".
(5) في أ : "العدل".
(6) في ت : "وروى الإمام أحمد بسنده أن أم سلمة قالت".
(7) في أ : "فتنحى لي عن".
(8) المسند (6/296).
(9) زيادة من : ت ، ف ، و"الطبري".
(6/412)
الله ، ألستُ
من أهل البيت ؟ فقال : "إنك إلى خير ، أنت من أزواج النبي صلى الله عليه
وسلم" قالت : وفي البيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلي ، وفاطمة ،
والحسن ، والحسين ، رضي الله عنهم (1).
طريق أخرى : رواه ابن جرير أيضا ، عن أبي كُرَيْب ، عن وَكِيع ، عن عبد الحميد بن
بَهْرَام ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن أم سلمة بنحوه (2).
طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا خالد بن مَخْلَد ، حدثني
موسى بن يعقوب ، حدثني هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، عن عبد الله بن وهب بن
زَمْعَة قال : أخبرتني أم سلمة ، رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
جمع فاطمة والحسن والحسين ، ثم أدخلهم تحت ثوبه ، ثم جأر إلى الله ، عز وجل ، ثم
قال : "هؤلاء أهل بيتي". قالت أم سلمة : فقلت : يا رسول الله ، أدخلني
معهم. فقال : "أنت من أهلي" (3).
طريق أخرى : رواه ابن جرير أيضا ، عن أحمد بن محمد الطوسي ، عن عبد الرحمن بن صالح
، عن محمد بن سليمان الأصبهاني ، عن يحيى بن عبيد المكي ، عن عطاء ، عن عمر بن أبي
سلمة ، عن أمه بنحو ذلك (4).
طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا مصعب بن المقدام ، حدثنا
سعيد بن زربي ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن أم سلمة قالت : جاءت فاطمة
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببرمة لها قد صنعت فيها عَصيدَة تحملها على طبق
، فوضعتها بين يديه فقال : "أين ابن عمك وابناك ؟" فقالت : في البيت.
فقال : "ادعيهم". فجاءت إلى علي فقالت : أجِبْ رسول الله أنت وابناك.
قالت أم سلمة : فلما رآهم مقبلين مدَّ يده إلى كساء كان على المنامة ، فمده وبسطه
، وأجلسهم عليه ، ثم أخذ بأطراف الكساء الأربعة بشماله ، فضمه فوق رؤوسهم ، وأومأ
بيده اليمنى إلى ربه ، عز وجل ، فقال : "اللهم ، هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم
الرجس وطهرهم تطهيرا". (5)
طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا عبد الله (6) بن عبد القدوس ،
عن الأعمش ، عن حكيم بن سعد قال : ذكرنا علي بن أبي طالب عند أم سلمة ، فقالت : في
بيتي نزلت : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا }. قالت أم سلمة : جاء رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى بيتي فقال : "لا تأذني لأحد". فجاءت فاطمة فلم أستطع أن
أحجبها عن أبيها. ثم جاء الحسن فلم أستطع أن أحجبه عن أمه وجده ، ثم جاء الحسين
فلم أستطع أن أحجبه ، ثم جاء علي فلم أستطع أن أحجبه ، فاجتمعوا فَجَلّلهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم بكساء كان عليه ، ثم قال : "هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب
عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا". فنزلت هذه الآية حين اجتمعوا على البساط. قالت :
فقلت : يا رسول الله ، وأنا ؟ قالت : فوالله ما أنعم ، وقال : "إنك إلى
خير" (7).
حديث آخر : قال ابن جرير ، حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا محمد بن بشر (8) عن زكريا ،
عن مصعب بن شيبة ، عن صفية بنت شيبة قالت : قالت عائشة ، رضي الله عنها : خرج رسول
الله (9) صلى الله عليه وسلم ذات
__________
(1) تفسير الطبري (22/7) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (23/249) من طريق فضيل
بن مرزوق به مختصرا.
(2) تفسير الطبري (22/6) ورواه الطحاوي في مشكل الآثار برقم (770) من طريق عبد
الحميد بن بهرام ، به. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (23/333) من طريق زبيد ،
عن شهر بن حوشب ، عن أم سلمة.
(3) تفسير الطبري (22/7) ورواه الطحاوي في مشكل الآثار برقم (763) من طريق خالد بن
مخلد القطواني به.
(4) تفسير الطبري (22/7) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (23/286) من طريق شريك ،
عن عطاء ، عن أم سلمة.
(5) تفسير الطبري (22/7).
(6) في أ : "عبد الملك".
(7) تفسير الطبري (22/7) ورواه الطحاوي في مشكل الآثار برقم (762) من طريق جرير بن
عبد الحميد ، عن الأعمش بنحوه.
(8) في أ : "بشير".
(9) في ف : "النبي".
(6/413)
غداة ،
وعليه مِرْط مُرَحَّل من شَعْر أسود ، فجاء الحسن فأدخله معه ، ثم جاء الحسين
فأدخله معه ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها معه ، ثم جاء علي فأدخله معه ، ثم قال : {
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا }.
ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن بشر (1) ، به. (2)
طريق أخرى : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سُرَيج بن يونس أبو الحارث ،
حدثنا محمد بن يزيد ، عن العوام - يعني : ابن حَوْشَب - عن عمٍّ له قال : دخلت مع
أبي على عائشة ، فسألتها عن علي ، رضي الله عنه ، فقالت ، رضي الله عنها : تسألني
عن رجل كان من أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت تحته ابنته
وأحب الناس إليه ؟ لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليا وفاطمة وحسنا
وحسينا ، فألقى عليهم ثوبا فقال : "اللهم ، هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم
الرجس وطهرهم تطهيرا". قالت : فدنوت منه فقلت : يا رسول الله ، وأنا من أهل
بيتك ؟ فقال : "تَنَحّي ، فإنك على خير".
حديث آخر : قال ابن جرير حدثنا المثنى ، حدثنا بكر (3) بن يحيى بن زَبّان العَنزيّ
، حدثنا منْدَل ، عن الأعمش ، عن عطية ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "نزلت هذه الآية في خمسة : فيّ ، وفي علي ، وحسن ، وحسين ،
وفاطمة : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } (4).
قد تقدم أن فضيل بن مرزوق رواه عن عطية ، عن أبي سعيد ، عن أم سلمة ، كما تقدم.
وروى ابن أبي حاتم من حديث هارون بن سعد العِجْلي ، عن عطية ، عن أبي سعيد موقوفا
، فالله أعلم.
حديث آخر : قال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، حدثنا
بُكَيْر بن مسمار قال : سمعت عامر بن سعد قال : قال سعد : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم حين نزل عليه الوحي ، فأخذ عليا وابنيه وفاطمة فأدخلهم تحت ثوبه ، ثم
قال : "رب ، هؤلاء أهلي وأهل بيتي" (5)
حديث آخر : وقال مسلم في صحيحه : حدثني زُهَير بن حرب ، وشُجاع بن مَخْلَد جميعا ،
عن ابن عُلَيَّة - قال زهير : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثني أبو حَيَّان ،
حدثني يزيد بن حَيَّان قال : انطلقت أنا وحُصَين بن سَبْرَةَ وعمر بن مسلم (6) إلى
زيد بن أرقم ، فلما جلسنا إليه قال له حصين : لقد لقيتَ يا زيدُ خيرًا كثيرًا
[رأيتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعتَ حديثه ، وغزوتَ معه ، وصليتَ خلفه ،
لقد لقيت يا زيد خيرًا كثيرًا] (7) ؛ حَدّثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى
الله عليه وسلم. قال : يا بن أخي ، والله لقد
__________
(1) في أ : "بشير".
(2) تفسير الطبري (22/5) وصحيح مسلم برقم (2081).
(3) في ف : "بكير".
(4) تفسير الطبري (22/5).
(5) رواه الطبري في تفسيره (22/7) والنسائي في السنن الكبرى برقم (8439) من طريق
أبي بكر الحنفي ، عن بكير بن مسمار ، به.
(6) في ت ، ف ، أ : "سلمة".
(7) زيادة من ت ، ف ، ومسلم.
(6/414)
كَبرَت (1)
سِنِّي ، وقدم عهدي ، ونسيتُ بعض الذي كنتُ أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فما حَدّثتكُم فاقبلوا ، وما لا فلا تُكَلّفونيه. ثم قال : قام فينا رسول الله صلى
الله عليه وسلم يوما خطيبا بماء يدعى خُمًّا - بين مكة والمدينة - فحمد الله وأثنى
عليه ، ووعظ وَذَكّر ، ثم قال : "أما بعد ، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر
يوشك (2) أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين ، وأولهما كتاب الله ،
فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به". فَحَثّ على كتاب الله
وَرَغَّب فيه ، ثم قال : "وأهل بيتي ، أذَكِّركم الله في أهل بيتي ، أذكِّركم
الله في أهل بيتي" ثلاثا. فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه
من أهل بيته ؟ قال : نساؤه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حُرِمَ الصّدَقة بعده. قال
: ومَنْ هم ؟ قال هم آل علي ، وآل عَقِيل ، وآل جعفر ، وآل عباس. قال : كل هؤلاء
حُرِمَ الصدقة ؟ قال : نعم (3).
ثم رواه عن محمد بن بَكَّار بن الريَّان ، عن حسان بن إبراهيم ، عن سعيد بن مسروق
، عن يزيد بن حَيَّان (4) ، عن زيد بن أرقم ، فذكر الحديث بنحو ما تقدم ، وفيه :
فقلنا له : مَنْ أهل بيته ؟ نساؤه ؟ قال : لا وايم الله ، إن المرأة تكون مع الرجل
العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها. أهل بيته أصله وعَصبَته الذين
حُرموا الصدقة بعده (5).
هكذا وقع في هذه الرواية ، والأولى أولى ، والأخذ بها أحرى. وهذه الثانية تحتمل
أنه أراد تفسير الأهل المذكورين في الحديث الذي رواه ، إنما المراد بهم آله الذين
حُرموا الصدقة ، أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج فقط ، بل هم مع آله ، وهذا
الاحتمال أرجح ؛ جمعا بينها وبين الرواية التي قبلها ، وجمعا أيضا بين القرآن
والأحاديث المتقدمة إن صحت ، فإن في بعض أسانيدها نظرًا ، والله أعلم. ثم الذي لا
يشك فيه من تَدَبَّر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في قوله
تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } ، فإن سياق الكلام معهن ؛ ولهذا قال تعالى
بعد هذا كله : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ
وَالْحِكْمَةِ } أي : اعملن بما ينزل الله على رسوله في بيوتكن من الكتاب والسنة.
قاله قتادة وغير واحد ، واذكرن هذه النعمة التي خصصتن (6) بها من بين الناس ، أن
الوحي ينزل في بيوتكن دون سائر الناس ، وعائشة [الصديقة] (7) بنت الصديق
أَوْلاهُنَّ بهذه النعمة ، وأحظاهن بهذه الغنيمة ، وأخصهن من هذه الرحمة العميمة ،
فإنه لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحيُ في فراش امرأة سواها ، كما
نص على ذلك صلوات الله وسلامه عليه (8). قال بعض العلماء ، رحمه الله : لأنه لم
يتزوج بكرا سواها ، ولم ينم معها رجل في فراشها سواه ، فناسب أن تخصص بهذه المزية
، وأن تفرد بهذه الرتبة العلية. ولكن إذا كان أزواجه من أهل
__________
(1) في أ "كبر".
(2) في ف : "فيوشك".
(3) صحيح مسلم برقم (2408).
(4) في أ : "حسان".
(5) صحيح مسلم برقم (2408).
(6) في أ : "خصصتهن".
(7) زيادة من أ.
(8) في ت : "رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(6/415)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
بيته ،
فقرابته أحق بهذه التسمية ، كما تقدم في الحديث : "وأهل بيتي أحق". وهذا
يشبه ما ثبت في صحيح مسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المسجد
الذي أسس على التقوى من أول يوم ، فقال : "هو مسجدي هذا" (1). فهذا من
هذا القبيل ؛ فإن الآية إنما نزلت في مسجد قُباء ، كما ورد في الأحاديث الأخر.
ولكن إذا كان ذاك أسّسَ على التقوى من أول يوم ، فمسجد رسول الله صلى الله عليه
وسلم أولى بِتَسمِيَته بذلك ، والله أعلم.
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن
حُصَين بن عبد الرحمن ، عن أبي جميلة (2) قال : إن الحسن بن علي استُخلفَ حين
قُتِل علي ، رضي الله عنهما (3) قال : فبينما هو يصلي إذ وثب عليه رجل فطعنه بخنجر
وزعم حصين أنه بلغه أن الذي طعنه رجل من بني أسد ، وحسن ساجد قال : فيزعمون أن
الطعنة وقعت في وركه ، فمرض منها أشهرا ، ثم بَرَأ فقعد على المنبر ، فقال : يا
أهل العراق ، اتقوا الله فينا ، فإنا أمراؤكم وضيفانكم ، ونحن أهل البيت الذي قال
الله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } قال : فما زال يقولها حتى ما بقي أحد من
أهل المسجد إلا وهو يَحِنّ بكاء.
وقال السُّدِّي ، عن أبي الديلم قال : قال علي بن الحسين لرجل من أهل الشام : أما
قرأت في الأحزاب : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ
أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } ؟ قال : نعم ، ولأنتم هم ؟ قال :
نعم.
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا } أي : بلطفه بكن بلغتن هذه
المنزلة ، وبخبرته (4) بكن وأنكن أهل لذلك ، أعطاكن ذلك وخصكن بذلك.
قال ابن جرير ، رحمه الله : واذكرن نعمة الله عليكن بأن جعلكن في بيوت تتلى فيها
آيات الله والحكمة ، فاشكرن الله على ذلك واحمدنه.
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا } أي : ذا لطف بكن ، إذ جعلكن في البيوت
التي تتلى فيها آياته والحكمة. وهي السنة ، خبيرًا بكنَّ إذ اختاركن لرسوله
أزواجًا.
وقال قتادة : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ
وَالْحِكْمَةِ } قال : يمتنُّ عليهن بذلك. رواه ابن جرير.
وقال عطية العَوْفي في قوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا } يعني :
لطيف باستخراجها ، خبير بموضعها. رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : وكذا روى الربيع بن
أنس ، عن قتادة (5).
{ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ
وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ
وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ
وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ
اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) }.
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1398) من حديث أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه.
(2) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بسنده".
(3) في ت ، ف ، أ : "عنه".
(4) في ت : "بمخبرته".
(5) في ت : "وقتادة".
(6/416)
قال الإمام
أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا عثمان بن حكيم ، حدثنا (1)
عبد الرحمن بن شيبة ، سمعت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول : قلت للنبي
صلى الله عليه وسلم : ما لنا لا نُذْكَرُ في القرآن كما يذكر الرجال ؟ قالت (2) :
فلم يَرعني منه ذات يوم إلا ونداؤه على المنبر ، قالت ، وأنا أسَرّح شعري ، فلففت
شعري ، ثم خرجت إلى حُجْرة من حُجَر بيتي ، فجعلت سمعي عند الجريد ، فإذا هو يقول
عند المنبر : "يا أيها الناس ، إن الله يقول : إن المسلمين والمسلمات
والمؤمنين والمؤمنات" إلى آخر الآية.
وهكذا رواه النسائي وابن جرير ، من حديث عبد الواحد بن زياد ، به مثله (3).
طريق أخرى عنها : قال النسائي أيضا : حدثنا محمد بن حاتم ، حدثنا سُوَيْد ، أخبرنا
عبد الله بن شَريك ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أم سلمة أنها قالت للنبي
صلى الله عليه وسلم : يا نبي الله ، ما لي أسمع الرجال يذكرون في القرآن ، والنساء
لا يذكرن ؟ فأنزل الله { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ } (4).
وقد رواه ابن جرير ، عن أبي كُرَيْب ، عن أبي معاوية ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي
سلمة : أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، حدثه عن أم سلمة ، رضي الله عنها ، قالت :
قلت : يا رسول الله ، أيذكر الرجال في كل شيء ولا نذكر ؟ فأنزل الله : { إِنَّ
الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } الآية (5)
طريق أخرى : قال سفيان الثوري ، عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد قال : قالت أم سلمة :
يا رسول الله ، يذكر الرجال ولا نذكر ؟ فأنزل الله : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِمَاتِ } الآية.
حديث آخر : قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب قال : حدثنا سَيَّار بن مظاهر
العَنزي (6) حدثنا أبو كُدَيْنة يحيى بن المهلَّب ، عن قابوس بن أبي ظِبْيَان ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قال : قال النساء للنبي صلى الله عليه وسلم : ما له يذكر
المؤمنين ولا يذكر المؤمنات ؟ فأنزل الله : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِمَاتِ } الآية (7).
وحدثنا بشر (8) حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد (9) ؛ عن قتادة قال : دخل نساء على نساء
النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلن : قد ذَكَركُنّ الله في القرآن ، ولم نُذكَر بشيء
، أما فينا ما يذكر ؟ فأنزل الله عز وجل : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِمَاتِ } الآية (10).
__________
(1) في ت : "وروى الإمام احمد بإسناده عن".
(2) في ف : "قال".
(3) المسند (6/305) والنسائي في السنن الكبرى برقم (1405) وتفسير الطبري (22/9).
(4) النسائي في السنن الكبرى برقم (1404).
(5) تفسير الطبري (22/8).
(6) في ف ، أ : "سنان بن مظاهر العمرى".
(7) تفسير الطبري (22/8).
(8) في ف ، أ : "بشير".
(9) في ف ، أ : "سعد".
(10) تفسير الطبري (22/8).
(6/417)
فقوله : {
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } دليل
على أن الإيمان غير الإسلام ، وهو أخص منه ، لقوله (1) تعالى : { قَالَتِ
الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا
يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [الحجرات : 14]. وفي الصحيحين : "لا
يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن". فيسلبه (2) الإيمان ، ولا يلزم من ذلك كفره
بإجماع المسلمين ، فدل على أنه أخص منه كما قررناه في أول شرح البخاري.
[وقوله] (3) : { وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ } القنوت : هو الطاعة في سكون ،
{ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ
الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } [الزمر : 9] ، وقال تعالى : { وَلَهُ مَنْ
فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } [الروم : 26] ، { يَا
مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } [آل
عمران : 43] ، { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } [البقرة : 238]. فالإسلام بعده
مرتبة (4) يرتقي إليها ، ثم القنوت ناشئ عنهما.
{ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ } : هذا في الأقوال ، فإن الصدق خصلة محمودة ؛
ولهذا كان بعض الصحابة لم تُجَرّب عليه كِذْبة لا في الجاهلية ولا في الإسلام (5)
، وهو علامة على الإيمان ، كما أن الكذب أمارة على النفاق ، ومَنْ صدق نجا ،
"عليكم بالصدق ؛ فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة. وإياكم
والكذب ؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار. ولا يزال الرجل
يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ، ولا يزال الرجل يكذب ويتَحرَّى الكذب
حتى يكتب عند الله كذابا" (6). والأحاديث فيه كثيرة جدا.
{ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ } : هذه سَجِيّة الأثبات ، وهي الصبر على
المصائب ، والعلم بأن المقدور كائن لا محالة ، وَتَلَقّي ذلك بالصبر والثبات ،
وإنما الصبر عند الصدمة الأولى ، أي : أصعبه في أول وهلة ، ثم ما بعده أسهل منه ،
وهو صدق السجية وثباتها.
{ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ } الخشوع (7) : السكون والطمأنينة ، والتؤدة
والوقار والتواضع. والحامل عليه الخوف من الله ومراقبته ، [كما في الحديث] (8) :
"اعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
{ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ } : الصدقة : هي الإحسان إلى الناس
المحاويج الضعفاء ، الذين لا كَسْبَ لهم ولا كاسب ، يعطون من فضول الأموال (9)
طاعة لله ، وإحسانا إلى خلقه ، وقد ثبت في الصحيحين : "سبعة يظلهم الله في
ظله يوم لا ظل إلا ظله" فذكر منهم : "ورجل تصدق بصدقة
__________
(1) في أ : "كقوله".
(2) في ت ، ف ، أ : "فسلبه".
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) في ت : "قربة".
(5) في ت ، ف : "جاهلية ولا إسلام".
(6) في ت ، ف ، أ : "أتى بعجز الحديث وأخر صدره".
(7) في ت ، ف ، أ : "أي".
(8) زيادة من ت ، ف ، أ.
(9) في أ : "الأعمال".
(6/418)
فأخفاها ،
حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" (1). وفي الحديث الآخر : "والصدقة
تطفئ الخطيئة ، كما يطفئ الماء النار" (2).
[وفي الترمذي عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال
: "إن الصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء".
وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما
منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ، ليس بينه وبينه ترجمان ، فينظر أيمن منه ، فلا يرى
إلا ما قدَّم ، وينظر أشأم منه ، فلا يرى إلا ما قدم ، وينظر بين يديه فلا يرى إلا
النار تلقاء وجهه. فاتقوا النار ولو بشق تمرة".
وفي حديث أبي ذر أنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا ينجي العبد من
النار ؟ قال : "الإيمان بالله". قلت : يا نبي الله ، مع الإيمان عمل ؟
قال : "ترضخ مما خوَّلك الله" ، أو "ترضخ مما رزقك الله" ؛
ولهذا لما خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد قال في خطبته : "يا معشر
النساء تصدَّقْنَ ولو من حليكن ، فإني رأيتكن أكثر أهل النار". وكأنه حثهن
ورغبهن على ما يفدين به أنفسهن من النار ، وقال عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه :
ذكر لي أن الأعمال تتباهى ، فتقول الصدقة : أنا أفضلكم.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مثل البخيل
والمتصدق ، كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد ، أو جنتان من حديد. قد اضطرت أيديهما
إلى ثديهما وتراقيهما ، فجعل المتصدق ، كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه ، حتى تغشى
أنامله ، وتعفو أثره ، وجعل البخيل كلما همَّ بصدقة قلصت ، وأخذت كل حلقة مكانها.
قال أبو هريرة : فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بإصبعه هكذا في
جيبه. فلو رأيته يوسعها ولا يتسع. وقد قال تعالى : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [التغابن : 16] فجود الرجل يحببه إلى أضداده ،
وبخله يبغضه إلى أولاده. كما قيل :
وَيُظْهر عيبَ المرء في الناس بخلُه... وتستره عنهم جميعا سخاؤه...
تَغَطَّ بأثواب السخاء فإنني... أرى كل عيب والسخاء غطاؤه] (3)...
والأحاديث في الحث عليها كثيرة جدا ، له موضع بذاته.
{ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ } : في الحديث الذي رواه ابن ماجه :
"والصوم زكاة البدن" أي : تزكيه وتطهره وتنقيه من الأخلاط الرديئة طبعا
وشرعا.
قال (4) سعيد بن جبير : من صام رمضان وثلاثة أيام من كل شهر ، دخل في قوله : {
وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ }.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (1423) وصحيح مسلم برقم (1031).
(2) رواه الترمذي في السنن برقم (614) من حديث كعب بن عجرة ، رضي الله عنه ، وقال
: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه" ورواه أحمد في المسند 3/321 من حديث
جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه ، ورواه الترمذي في السنن برقم (2616) وابن ماجه
في السنن برقم (3973) من حديث معاذ ، رضي الله عنه.
(3) زيادة من ت.
(4) في أ : "كما قال".
(6/419)
ولما كان
الصوم من أكبر العون على كسر الشهوة - كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"يا معشر الشباب ، مَنْ استطاع منكم الباء فليتزوج ، فإنه أغَضُّ للبصر ،
وأحْصَن للفرج ، ومَنْ لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاء" (1) - ناسب أن
يذكر بعده : { وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ } أي : عن المحارم
والمآثم إلا عن المباح ، كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ
حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ
غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ
} [المؤمنون : 5 - 7 ].
وقوله : { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ } قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عبيد الله ، حدثنا محمد بن جابر ، عن علي بن الأقمر ،
عن الأغَرِّ أبي مسلم (2) ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : "إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل ، فصليا ركعتين ، كتبا
(3) تلك الليلة من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات".
وقد رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، من حديث الأعمش ، [عن علي بن الأقمر]
(4) ، عن الأغر أبي مسلم ، عن أبي سعيد وأبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم
، بمثله (5).
وقال (6) الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا دَرَّاج ، عن أبي
الهيثم ، عن أبي سعيد الخُدْري ، رضي الله عنه ، أنه قال : قلت : يا رسول الله ،
أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال : "الذاكرون الله كثيرا
والذاكرات".
قال : قلت : يا رسول الله ، ومن الغازي في سبيل الله ؟ قال : "لو ضرب بسيفه
في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما لكان الذاكرون الله أفضل منه" (7).
وقال (8) الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ، عن العلاء ،
عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يسير
في طريق مكة ، فأتى على جُمْدان فقال : "هذا جُمْدان ، سيروا فقد سبق
المُفَرّدون". قالوا : وما المُفَرّدون (9) ؟ قال : "الذاكرون الله
كثيرا (10) ". ثم قال : "اللهم اغفر للمحلقين". قالوا : والمقصرين
؟ قال : "اللهم ، اغفر للمحلقين". قالوا : والمقصرين ؟ قال :
"والمقصرين".
تفرد به من هذا الوجه ، ورواه مسلم دون آخره (11).
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5066) وصحيح مسلم برقم (1400).
(2) في ت : "روى ابن أبي حاتم بإسناده".
(3) في ت ، أ : "كانا".
(4) زيادة من ت ، ف ، وسنن أبي داود وابن ماجه.
(5) سنن أبي داود برقم (1309) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11406) وسنن ابن
ماجه برقم (1335).
(6) في ت : "وروى".
(7) المسند (3/75) ودراج عن أبي الهيثم ضعيف.
(8) في ت : "وروى".
(9) في ف ، أ : "وما المفردون يا رسول الله ؟"
(10) في ف ، أ : "الذاكرون الله كثيرا والذاكرات".
(11) المسند (2/411) وصحيح مسلم برقم (1302) وإنما رواه مسلم دون أوله ، والله
اعلم.
(6/420)
وقال (1)
الإمام أحمد : حدثنا حُجَيْن بن المثنى ، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة ، عن زياد
بن أبي زياد - مولى عبد الله بن عَيَّاش (2) بن أبي ربيعة - أنه بلغه عن معاذ بن
جبل ، رضي الله عنه ، أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما عمل
آدمي عملا قط أنجى له من عذاب الله من ذكر الله". وقال معاذ : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "ألا أخبركم بخير أعمالكم ، وأزكاها عند مليككم ،
وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من تعاطي الذهب والفضة ، ومن أن تلقوا عدوكم غدا
فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم" ؟ قالوا : بلى يا رسول الله. قال :
"ذكر الله عز وجل" (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا زَبَّان بن فائد ، عن
سهل بن معاذ بن أنس الجُهَنيّ ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن
رجلا سأله فقال : أي المجاهدين أعظم أجرًا يا رسول الله ؟ فقال : "أكثرهم (4)
لله ذكرًا". قال : فأي الصائمين أكثر أجرًا ؟ قال : "أكثرهم لله
ذكرا". ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة ، كل ذلك يقول رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "أكثرهم لله ذكرا". فقال أبو بكر لعمر ، رضي الله
عنهما : ذهب الذاكرون بكل خير. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"أجل" (5).
وسنذكر بقية الأحاديث الواردة في كثرة الذكر عند قوله تعالى في هذه السورة : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ
بُكْرَةً وَأَصِيلا } الآية [الأحزاب : 41 ، 42] ، إن شاء الله تعالى.
وقوله : { أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } أي : هيأ لهم
(6) منه لذنوبهم مغفرة وأجرا عظيما وهو الجنة.
__________
(1) في ت : "وروى".
(2) في ف ، أ : "عباس".
(3) المسند (5/239).
(4) في أ : "أكثرهم".
(5) المسند (3/438) وقال الهيثمي في المجمع (10/74) : "وفيه زبان بن فائد وهو
ضعيف ، وقد وثق ، وكذلك ابن لهيعة ، وبقية رجاله ثقات".
(6) في ت ، ف : "أعد لهم".
(6/421)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
{ وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ
يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا (36) }.
قال العوفي ، عن ابن عباس : قوله : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ }
الآية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة
، فدخل على زينب بنت جحش الأسدية فخطبها ، فقالت : لست بناكحته ، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "بل فانكحيه". قالت : يا رسول الله ، أؤامر في
نفسي. فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسوله صلى الله عليه وسلم : {
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا
} الآية ، قالت : قد رضيته لي منكحا يا رسول الله ؟ قال : "نعم". قالت :
إذًا لا أعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد أنكحته نفسي (1).
__________
(1) تفسير الطبري (22/9).
(6/421)
وقال ابن
لَهِيعة ، عن ابن أبي عمرة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : خطب رسول الله صلى الله
عليه وسلم زينب بنت جحش لزيد بن حارثة ، فاستنكفت منه ، وقالت : أنا خير منه حسبا
- وكانت امرأة فيها حدة - فأنزل الله ، عز وجل : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا
مُؤْمِنَةٍ } الآية كلها.
وهكذا قال مجاهد ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان : أنها نزلت في زينب بنت جحش [الأسدية]
(1) حين خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على مولاه زيد بن حارثة ، فامتنعت ثم
أجابت.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، نزلت في أم كلثوم (2) بنت عقبة بن أبي مُعَيْط ،
وكانت أول مَنْ هاجر من النساء - يعني : بعد صلح الحديبية - فوهبت نفسها للنبي صلى
الله عليه وسلم ، فقال : قد قبلت. فزوجها زيد بن حارثة - يعني والله أعلم بعد
فراقه زينب - فسخطت هي وأخوها وقالا إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فزوّجَنا عبده. قال : فنزل القرآن : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ
إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا } إلى آخر الآية. قال : وجاء أمر أجمع من
هذا : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِم } قال : فذاك خاص
وهذا جماع.
وقال (3) الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن ثابت البُنَاني ،
عن أنس قال : خطب النبي صلى الله عليه وسلم على جُلَيْبيب امرأة من الأنصار إلى
أبيها ، فقال : حتى أستأمر أمها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فنعم (4) إذًا.
قال : فانطلق الرجل إلى امرأته ، [فذكر ذلك لها] (5) ، فقالت : لاها الله ذا (6) ،
ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جلَيبيبا ، وقد منعناها من فلان وفلان ؟
قال : والجارية في سترها (7) تسمع. قال : فانطلق الرجل يريد أن يخبر النبي صلى
الله عليه وسلم بذلك. فقالت الجارية : أتريدون أن تَرُدّوا على رسول الله صلى الله
عليه وسلم أمره ؟ إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه. قال : فكأنها جَلَّت عن أبويها ،
وقالا صدقت. فذهب أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن كنت رضيته فقد
رضيناه. قال : "فإني قد رضيته". قال : فزوجها (8) ، ثم فزع أهل المدينة
، فركب جُلَيْبيب فوجدوه قد قتل ، وحوله ناس من المشركين قد قتلهم ، قال أنس :
فلقد رأيتها [وإنها] (9) لمن أنفق بيت بالمدينة (10).
وقال (11) الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد - يعني : ابن سلمة - عن ثابت ،
عن كنانة بن نعيم العدوي ، عن أبي برزة الأسلمي أن جليبيبا كان امرأ يدخل على النساء
يَمُرّ بهن ويلاعبهن ، فقلت لامرأتي : لا يدخلن اليوم عليكم (12) جُليبيبُ ، فإنه
إن دخل عليكم (13) لأفعلن ولأفعلن. قال : وكانت الأنصار إذا كان لأحدهم أيّم لم
يزوجها حتى يعلم : هل لنبي الله صلى الله عليه وسلم فيها حاجة أم لا ؟ فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار : "زوجني ابنتك". قال : نعم ،
وكرامة يا رسول الله (14) ، ونُعْمَة عين. فقال : إني لست أريدها لنفسي. قال :
فلمن يا رسول الله ؟ قال : لجليبيب.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ : "أم مكتوم".
(3) في ت : "وروى".
(4) في ف : "لنعم".
(5) زيادة من ت ، ف ، والمسند.
(6) في هـ ، أ : "إذا" والمثبت من ت ، ف والنهاية لابن الأثير.
(7) في ت : "خدرها".
(8) في أ : "فتزوجها".
(9) زيادة من ت ، ف ، والمسند.
(10) المسند (3/136).
(11) في ت : "وروى".
(12) في أ : "عليكن".
(13) في أ : "عليكن".
(14) في أ : "برسول الله".
(6/422)
فقال : يا
رسول الله ، أشاور أمها. فأتى أمها فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب
ابنتك ؟ فقالت : نعم ونُعمة عين. فقال : إنه ليس يخطبها لنفسه ، إنما يخطبها
لجليبيب. فقالت : أَجُلَيبيب إنيه (1) ؟ أجليبيب إنيِه (2) ؟ لا لعمر الله لا تزَوّجُه.
فلما أراد أن يقوم ليأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره بما قالت أمها ،
قالت الجارية : مَنْ خطبني إليكم ؟ فأخبرتها أمها. قالت : أتردون على رسول الله
صلى الله عليه وسلم أمره ؟! ادفعوني إليه ، فإنه لن يضيعني. فانطلق أبوها إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال : شأنَك بها. فَزَوّجها جليبيبا. قال : فخرج رسول
الله صلى الله عليه وسلم في غزاة له ، فلما أفاء الله عليه قال لأصحابه : "هل
تفقدون من أحد" ؟ قالوا : نفقد فلانا ونفقد فلانا. قال : "انظروا هل
تفقدون من أحد ؟" قالوا : لا. قال : "لكني أفقد جليبيبا". قال :
"فاطلبوه في القتلى". فطلبوه فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه.
[قالوا : يا رسول الله ، ها هو ذا إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه] (3). فأتاه
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عليه ، فقال : قتل سبعة [وقتلوه] (4) ، هذا مني
وأنا منه. مرتين أو ثلاثا ، ثم وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ساعديه
[وحفر له ، ما له سرير إلا ساعد النبي صلى الله عليه وسلم] (5). ثم وضعه في قبره ،
ولم يذكر أنه غسله ، رضي الله عنه. قال ثابت : فما كان في الأنصار أيّم أنفق منها.
وحدث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ثابتا : هل تعلم ما دعا لها رسول الله صلى
الله عليه وسلم ؟ فقال : "اللهم ، صب عليها [الخير] (6) صبا ، ولا تجعل عيشها
كدا" كذا قال ، فما كان في الأنصار أيم أنفق منها.
هكذا أورده الإمام أحمد بطوله (7) ، وأخرج منه مسلم والنسائي في الفضائل قصة قتله
(8). وذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر في "الاستيعاب" أن الجارية لما
قالت في خدرها : أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ؟ تلت (9) هذه
الآية : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } (10).
وقال ابن جُرَيْج [أخبرني عامر بن مصعب ، عن طاوس قال : إنه سأل ابن عباس عن
ركعتين بعد العصر ، فنهاه ، وقرأ ابن عباس ، رضي الله عنه (11) : { وَمَا كَانَ
لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ
(12) لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } ] (13).
فهذه الآية عامة في جميع الأمور ، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء ، فليس لأحد
مخالفته ولا اختيار لأحد هاهنا ، ولا رأي ولا قول ، كما قال تعالى : { فَلا
وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا
يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }
[النساء : 65] وفي الحديث : "والذي نفسي بيده ، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه
تبعًا لما جئت به". ولهذا شدد في خلاف ذلك ، فقال : { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا } ، كقوله تعالى : { فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور : 63].
__________
(1) في هـ ، ت ، ف ، أ : "ابنه" والتصويب من المسند.
(2) في هـ ، ت ، ف ، أ : "ابنه" والتصويب من المسند.
(3) زيادة من ت ، ف ، والمسند.
(4) زيادة من ت ، ف ، والمسند.
(5) زيادة من ت ، ف ، والمسند.
(6) زيادة من ت ، ف ، والمسند.
(7) المسند (4/422).
(8) صحيح مسلم برقم (2482) والنسائي في السنن الكبرى برقم (8246).
(9) في أ : "نزلت".
(10) الاستيعاب (1/259).
(11) في أ : "عنهما".
(12) في ت : "تكون".
(13) زيادة من ت ، ف ، أ.
(6/423)
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
{ وَإِذْ تَقُولُ
لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ
زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ
وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ
مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ
فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ
اللَّهِ مَفْعُولا (37) }.
يقول تعالى مخبرا عن نبيه ، صلوات الله وسلامه عليه ، إنه قال لمولاه زيد بن حارثة
وهو الذي أنعم الله عليه ، أي : بالإسلام ، ومتابعة الرسول ، عليه أفضل الصلاة
والسلام : { وَأَنْعَمْتَ عَلَيْه } أي : بالعتق من الرق ، وكان سيدًا كبير الشأن
جليل القدر ، حبيبًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، يقال له : الحِبّ ، ويقال
لابنه أسامة : الحِبّ ابن الحِبّ. قالت عائشة ، رضي الله عنها : ما بعثه رسول الله
صلى الله عليه وسلم في سرية إلا أمره عليهم ، ولو عاش بعده لاستخلفه. رواه أحمد عن
سعيد بن محمد الوراق ومحمد بن عبيد ، عن وائل بن داود ، عن عبد الله البهي عنها
(1).
وقال (2) البزار : حدثنا خالد بن يوسف ، حدثنا أبو عَوَانة(ح) ، وحدثنا محمد بن
مَعْمَر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أبو عوانة ، أخبرني عمران بن أبي سلمة (3) ، عن
أبيه : حدثني أسامة بن زيد قال : كنت في المسجد ، فأتاني العباس وعلي بن أبي طالب
، رضي الله عنهما ، فقالا يا أسامة ، استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه
وسلم. قال : فأتيتُ رسولَ الله فأخبرته ، فقلت : علي والعباس يستأذنان ؟ فقال :
"أتدري ما حاجتهما ؟" قلت : لا يا رسول الله. فقال : "لكني
أدري" ، قال : فأذن لهما. قالا يا رسول الله ، جئناك لتخبرنا : أيُّ أهلك
أحبُّ إليك ؟ فقال : "أحب أهلي إليَّ فاطمة بنت محمد" قالا يا رسول الله
، ما نسألك عن فاطمة. قال : "فأسامة بن زيد بن حارثة ، الذي أنعم الله عليه
وأنعمت عليه" (4).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زَوّجه بابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية -
وأمها أميمة (5) بنت عبد المطلب - وأصدقها عشرة دنانير ، وستين درهما ، وخِمارا ،
ومِلْحَفة ، ودرْعًا ، وخمسين مُدّا من طعام ، وعشرة أمداد من تمر. قاله مقاتل بن
حيان ، فمكثت عنده قريبا من سنة أو فوقها ، ثم وقع بينهما ، فجاء زيد يشكوها إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل رسول الله يقول له : "أمسك عليك زوجك ،
واتق الله". قال الله تعالى : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ
مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ }.
ذكر ابن جرير ، وابن أبي حاتم هاهنا آثارًا عن بعض السلف ، رضي الله عنهم ، أحببنا
أن نضرب
__________
(1) المسند (6/227).
(2) في ت : "وروى".
(3) في ت ، ف ، أ ، هـ : "عمر بن أبي سلمة" ، والصواب ما أثبتناه.
(4) ورواه الترمذي في السنن برقم (3819) من طريق أبي عوانة بنحوه ، وقال الترمذي :
"حديث حسن صحيح".
(5) في ت : "أمية".
(6/424)
عنها صفَحا
لعدم صحتها فلا نوردها.
وقد روى الإمام أحمد هاهنا أيضا حديثًا ، من رواية حماد بن زيد ، عن ثابت ، عن أنس
فيه غرابة تركنا سياقه أيضا (1).
وقد روى البخاري أيضا بعضه مختصرا فقال : حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا
مُعَلَّى (2) بن منصور ، عن حماد بن زيد ، حدثنا ثابت ، عن أنس بن مالك قال : إن
هذه الآية : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ } نزلت في شأن زينب
بنت جحش ، وزيد بن حارثة ، رضي الله عنهما (3).
وقال (4) ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن هاشم بن مرزوق ، حدثنا ابن
عيينة ، عن علي بن زيد بن جُدْعان قال : سألني علي بن الحسين ما يقول الحسن في
قوله : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ [وَتَخْشَى النَّاسَ
وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ] } (5) ؟ فذكرت له فقال : لا ولكن الله أعلم
نبيه أنها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها ، فلما أتاه زيد ليشكوها إليه قال : اتق
الله ، وأمسك عليك زوجك. فقال : قد أخبرتك أني مُزَوّجكها ، وتخفي في نفسك ما الله
مبديه.
وهكذا رُوي عن السُّدِّي أنه قال نحو ذلك.
وقال (6) ابن جرير : حدثني إسحاق بن شاهين ، حدثني خالد ، عن داود عن عامر ، عن
عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : لو كتم محمد صلى الله عليه وسلم شيئًا مما
أوحي إليه من كتاب الله ، لكتم : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ
وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } (7).
وقوله : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا } : الوطر : هو
الحاجة والأرب ، أي : لما فَرَغ منها ، وفارقها ، زَوّجناكها ، وكان الذي وَلي
تزويجها منه هو الله ، عز وجل ، بمعنى : أنه أوحى إليه أن يدخل عليها بلا ولي ولا
مهر ولا عقد ولا شهود من البشر.
قال (8) الإمام أحمد : حدثنا هاشم - يعني : ابن القاسم أبو النضر - حدثنا سليمان
بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس ، رضي الله عنه ، قال : لما انقضت عدة زينب قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة : "اذهب فاذكرها علي".
فانطلق حتى أتاها وهي تُخَمِّر عَجينها ، قال : فلما رأيتها عظمت في صدري - حتى ما
أستطيع أن أنظر إليها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها ، فوليتها ظهري
ونكصت (9) على عقبي ، وقلت : يا زينب ، أبشري ، أرسلني رسول الله صلى الله عليه
وسلم يذكرك. قالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى
__________
(1) الحديث في المسند (3/149) والغرابة من قوله : "فرأى رسول الله صلى الله
عليه وسلم امرأته زينب وكأنه دخله" فقد شك مؤمل في الرواية ، وهو سيئ الحفظ.
(2) في أ : "يعلى".
(3) صحيح البخاري برقم (4787).
(4) في ت : "وروى".
(5) زيادة من ف.
(6) في ت : "وروى".
(7) تفسير الطبري (22/11) وأصله في الصحيح بلفظ : "من حدثك بثلاث".
(8) في ت : "وروى".
(9) في ف ، أ : "وركضت".
(6/425)
أؤامر ربي ،
عز وجل. فقامت إلى مسجدها ، ونزل القرآن ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل
عليها بغير إذن. ولقد رأيتنا حين دَخَلَتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم
أطعمنا عليها الخبز واللحم ، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام ،
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم [واتبعته] (1) فجعل يتتبع حُجر نسائه يسلم
عليهن ، ويقلن : يا رسول الله ، كيف وجدت أهلك ؟ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد
خرجوا أو أخبر. قال : فانطلق حتى دخل البيت ، فذهبت أدخل معه ، فألقي الستر بيني
وبينه ، ونزل الحجاب ، ووعظ القوم بما وعظوا به : { لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ
النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ } الآية.
ورواه مسلم والنسائي من طرق ، عن سليمان (2) بن المغيرة ، به. (3)
وقد روى البخاري ، رحمه الله ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، أن زينب بنت جحش
كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول : زوجكن أهاليكن وزوجني الله
من فوق سبع سموات (4).
وقد قدمنا في "سورة النور" عن محمد بن عبد الله بن جحش قال : تفاخرت
زينب وعائشة ، فقالت زينب ، رضي الله عنها (5) : أنا التي نزل تزويجي من السماء ،
وقالت عائشة : أنا التي نزل عُذْري من السماء ، فاعترفت لها زينب ، رضي الله عنها.
(6)
وقال (7) ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن المغيرة ، عن الشعبي قال :
كانت زينب تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إني لأدل عليك بثلاث ، ما من نسائك امرأة
تدل بهن : إن جدي وجدك واحد ، وإني أنكحنيك الله من السماء ، وإن السفير جبريل
عليه السلام. (8)
وقوله : { لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ
أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا } أي : إنما أبحنا لك تزويجها
وفعلنا ذلك ؛ لئلا يبقى حرج على المؤمنين في تزويج مطلقات الأدعياء ، وذلك أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة قد تبنى زيد بن حارثة ، فكان يقال له :
"زيد بن محمد" ، فلما قطع الله هذه النسبة بقوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ
أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ
يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ
عِنْدَ اللَّهِ } ، ثم زاد ذلك بيانا وتأكيدا بوقوع تزويج رسول الله صلى الله عليه
وسلم بزينب بنت جحش لما طلقها زيد بن حارثة ؛ ولهذا قال في آية التحريم : {
وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُم } [النساء : 23] ليحترز من
الابن الدَّعِي ؛ فإن ذلك كان كثيرًا فيهم.
وقوله : { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا } أي : وكان هذا الأمر الذي وقع قد
قدره الله تعالى وحَتَّمه ، وهو كائن لا محالة ، كانت زينب في علم الله ستصير من
أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
(2) في أ : "سليم".
(3) المسند (3/195) وصحيح مسلم برقم (1428) وسنن النسائي (6/79).
(4) صحيح البخاري برقم (7420).
(5) في ت : "عنهما".
(6) عند الأية 11.
(7) في ت : "وروى".
(8) تفسير الطبري (22/11).
(6/426)
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
{ مَا كَانَ
عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي
الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) }.
يقول تعالى : { مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ
لَهُ } أي : فيما أحل له وأمره به من تزويج زينب التي طلقها دَعِيُّه زيد بن
حارثة.
وقوله : { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ } أي : هذا حكم الله
في الأنبياء قبله ، لم يكن ليأمرهم بشيء وعليهم في ذلك حَرج ، وهذا رَدٌّ على مَنْ
تَوَهَّم مِن المنافقين نقصًا في تزويجه امرأة زيد مولاه ودَعيه ، الذي كان قد
تبناه.
{ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا } أي : وكان أمره الذي يقدِّره
كائنًا لا محالة ، وواقعًا لا محيد عنه ولا معدل ، فما شاء [الله] (1) كان ، وما
لم يشأ لم يكن.
{ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ
أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا
أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ
وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) }.
يمدح تعالى (2) : { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ } أي : إلى خلقه
ويؤدونها بأمانتها { وَيَخْشَوْنَهُ } أي : يخافونه ولا يخافون أحدًا سواه فلا
تمنعهم سطوة أحد عن إبلاغ رسالات الله ، { وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا } أي : وكفى
بالله ناصرًا ومعينًا. وسيد الناس في هذا المقام - بل وفي كل مقام - محمد رسول
الله صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه قام بأداء الرسالة وإبلاغها إلى أهل المشارق
والمغارب ، إلى جميع أنواع بني آدم ، وأظهر الله كلمته ودينه وشرعه على جميع
الأديان والشرائع ، فإنه قد كان النبي يبعث (3) إلى قومه خاصة ، وأما هو ، صلوات
الله عليه ، فإنه بُعث إلى جميع الخلق عَرَبهم وعجمهم ، { قُلْ يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [الأعراف : 158] ، ثم ورث
مقام البلاغ عنه أمته من بعده ، فكان أعلى مَنْ قام بها بعده أصحابه ، رضي الله
عنهم ، بلغوا عنه كما أمرهم به في جميع أقواله وأفعاله وأحواله ، في ليله ونهاره ،
وحَضَره وسفره ، وسره وعلانيته ، فرضي الله عنهم وأرضاهم. ثم ورثه كل خلف عن سلفهم
إلى زماننا هذا ، فبنورهم يقتدي المهتدون ، وعلى منهجهم يسلك الموفقون. فنسأل الله
الكريم المنان أن يجعلنا من خلفهم.
قال (4) الإمام أحمد : حدثنا ابن نُمَيْر ، أخبرنا الأعمش ، عن عمرو بن مُرَّة ،
عن أبي البَخْتَري ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر الله فيه مقال ثم لا (5)
يقوله ، فيقول الله : ما يمنعك أن تقول فيه ؟ فيقول : رب ، خشيت الناس. فيقول :
فأنا أحق أن يخشى (6) ".
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت ، ف : "يمدح الله تعالى" وفي أ : "يمدح الله عز
وجل".
(3) في ت ، ف ، أ : "وكان النبي قبله إنما يبعث".
(4) في ت : "روي".
(5) في ت : "أن لا".
(6) في أ : "يخشاه".
(6/427)
ورواه أيضا
عن عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن زبيد ، عن عمرو بن مرة (1).
ورواه ابن ماجه ، عن أبي كُرَيْب ، عن عبد الله بن نمير وأبي معاوية ، كلاهما عن
الأعمش ، به (2).
وقوله : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } ، نهى (3) [تعالى]
(4) أن يقال بعد هذا : "زيد بن محمد" أي : لم يكن أباه وإن كان قد تبناه
، فإنه ، صلوات الله عليه وسلامه ، لم يعش له ولد ذكر حتى بلغ الحلم ؛ فإنه ولد له
القاسم ، والطيب ، والطاهر ، من خديجة فماتوا صغارا ، وولد له إبراهيم من مارية
القبطية ، فمات أيضا رضيعا (5) ، وكان له من خديجة أربع بنات : زينب ، ورقية ، وأم
كلثوم ، وفاطمة ، رضي الله عنهم (6) أجمعين ، فمات في حياته ثلاث وتأخرت فاطمة حتى
أصيبت به ، صلوات الله وسلامه عليه ، ثم ماتت بعده لستة أشهر.
وقوله : { وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } كقوله : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ
} [الأنعام : 124] فهذه الآية نص في (7) أنه لا نبي بعده ، وإذا كان لا نبي بعده
فلا رسول [بعده] (8) بطريق الأولى والأحرى ؛ لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة
، فإن كل رسول نبي ، ولا ينعكس. وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم من حديث جماعة من الصحابة.
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر الأزدي ، حدثنا زُهَيْر بن محمد ، عن عبد الله
بن محمد بن عقيل ، عن الطفيل بن أبيّ بن كعب (9) ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : "مثلي في النبيين كمثل رجل بنى دارًا فأحسنها وأكملها ، وترك
فيها موضع لَبنة لم يَضَعها ، فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ، ويقولون :
لو تمَّ موضع هذه اللبنة ؟ فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة".
ورواه الترمذي ، عن بُنْدَار ، عن أبي عامر العقدي ، به (10) ، وقال : حسن صحيح.
حديث آخر : قال (11) الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا
المختار بن فُلفُل ، حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إن الرسالة والنبوة قد انقطعت ، فلا رسول بعدي ولا نبي." قال : فشَقّ
ذلك على الناس قال : قال (12) : ولكن المبشرات". قالوا : يا رسول الله ، وما
المبشرات ؟ قال : "رؤيا الرجل المسلم ، وهي جزء من أجزاء النبوة".
وهكذا روى الترمذي عن الحسن بن محمد الزعفراني ، عن عفان بن مسلم ، به (13) وقال :
صحيح غريب من حديث المختار بن فُلفُل.
__________
(1) المسند (3/ 30 ، 73).
(2) سنن ابن ماجه برقم (4008) وقال البوصيري في الزوائد (3/242) : "هذا إسناد
صحيح".
(3) في أ : "ينهى".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ : "أيضا صغيرا رضيعا".
(6) في أ : "عنهن".
(7) في أ : "على".
(8) زيادة من أ.
(9) في ت : "وروى الإمام أحمد بإسناده عن أبي بن كعب".
(10) المسند (5/136) وسنن الترمذي برقم (3613) ".
(11) في ت : "وروي".
(12) في ت ، ف ، أ : "فقال".
(13) المسند (3/267) وسنن الترمذي برقم (2272).
(6/428)
حديث آخر :
قال أبو داود الطيالسي : حدثنا سَليم بن حَيَّان ، عن سعيد بن ميناء ، عن جابر بن
عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مثلي ومثل الأنبياء كمثل
رجل بنى دارًا فأكملها وأحسنها إلا موضع لَبنة ، فكان مَنْ دخلها فنظر إليها قال :
ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة! فأنا موضع اللبنة ، ختم بي الأنبياء ، عليهم
السلام".
ورواه البخاري ، ومسلم ، والترمذي من طرق ، عن سليم (1) بن حيان ، به. (2) وقال
الترمذي : صحيح غريب من هذا الوجه.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن
أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثلي
ومثل النبيين [من قبلي] (3) كمثل رجل بنى دارا فأتمها إلا لَبنَة واحدة ، فجئت أنا
فأتممت تلك اللبنة". انفرد بإخراجه مسلم من رواية الأعمش ، به (4).
حديث آخر : قال [الإمام] (5) أحمد : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا حماد بن زيد ،
حدثنا عثمان بن عُبَيد الراسبي قال : سمعت أبا الطفيل قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "لا نبوة بعدي إلا المبشرات". قال : قيل : وما
المبشرات يا رسول الله ؟ قال : "الرؤيا الحسنة - أو قال - الرؤيا
الصالحة." (6)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن هَمَّام بن
مُنَبِّه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة (7) قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتا فأحسنها وأكملها
وأجملها ، إلا موضع لَبنة من زاوية من زواياها ، فجعل الناس يطوفون ويعجبهم
البنيان ويقولون : ألا وَضَعْتَ هاهنا لبنة فيتم بنيانك ؟!" قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "فكنت أنا اللبنة".
أخرجاه من حديث عبد الرزاق. (8)
حديث آخر : عن أبي هريرة أيضا : قال (9) الإمام مسلم : حدثنا يحيى بن أيوب (10)
وقتيبة وعلي بن حجر قالوا : حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي
هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "فُضلت على
الأنبياء بست : أعْطِيتُ جوامع الكلم ، ونُصِرْتُ بالرعب ، وأحِلَّت لي الغنائم ،
وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون".
__________
(1) في ف : "سليمان".
(2) مسند الطيالسي برقم (1785) وصحيح البخاري برقم (3534) وصحيح مسلم برقم (2287)
وسنن الترمذي برقم (2862).
(3) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(4) المسند (3/9) وصحيح مسلم برقم (2286).
(5) زيادة من أ.
(6) المسند (5/454) وقال الهيثمي في المجمع (7/173) : "ورجاله ثقات".
(7) في ت : "وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة ، رضي الله عنه".
(8) المسند (2/312) وصحيح مسلم برقم (2286) ولم أجده في البخاري ولم يعزه المزي في
تحفة الأشراف إلا لمسلم.
(9) في ت : "وروى".
(10) في أ : "يعقوب".
(6/429)
ورواه
الترمذي وابن ماجه ، من حديث إسماعيل بن جعفر ، وقال الترمذي : حسن صحيح. (1)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن
أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مثلي ومثل
الأنبياء من قبلي ، كمثل رجل بنى دارًا فأتمها إلا موضع لبنة واحدة ، فجئت أنا
فأتممت تلك اللبنة".
ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ، وأبي كُرَيْب ، كلاهما عن أبي معاوية ، به.
(2)
حديث آخر : قال (3) الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا معاوية بن
صالح عن سعيد بن سُويد الكلبي ، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي ، عن العِرْباض بن
سارية قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إني عند الله لخاتم النبيين وإن
آدم لمنْجَدِل في طينته." (4)
حديث آخر : قال (5) الزهري : أخبرني محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، رضي الله
عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن لي أسماء : أنا
محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي
يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب الذي ليس بعده (6) نبي." أخرجاه في
الصحيحين (7).
وقال (8) الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن عبد الله بن
هُبَيْرة ، عن عبد الرحمن بن جبير قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : خرج علينا
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما كالمودّع ، فقال : "أنا محمد النبي الأمي
- ثلاثا - ولا نبي بعدي ، أوتيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه ، وعلمت كم خزنة
النار وحملة العرش ، وتجوز بي ، وعُوفيتُ وعُوفيتْ (9) أمتي ؛ فاسمعوا وأطيعوا ما
دمت فيكم ، فإذا ذُهب بي فعليكم بكتاب الله ، أحلّوا حلاله ، وحرّموا حرامه".
تفرد به الإمام أحمد. (10)
ورواه (11) [الإمام] (12) أحمد أيضا عن يحيى بن إسحاق ، عن ابن لَهِيعة ، عن عبد
الله بن هبيرة ، عن عبد الله بن مريج (13) الخولاني ، عن أبي قيس - مولى عمرو بن
العاص - عن عبد الله بن عمرو فذكر مثله سواء (14) (15).
والأحاديث في هذا كثيرة ، فمن رحمة الله تعالى بالعباد إرسال محمد ، صلوات الله
وسلامه عليه ، إليهم ، ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به ، وإكمال الدين
الحنيف له. وقد أخبر تعالى في كتابه ، ورسوله في السنة المتواترة عنه : أنه لا نبي
بعده ؛ ليعلموا أن كل مَنِ ادعى هذا المقام بعده
__________
(1) صحيح مسلم برقم (523) وسنن الترمذي برقم (1553) وسنن ابن ماجه برقم (567).
(2) تقدم الحديث من قريب.
(3) في ت : "وروى".
(4) المسند (4/127).
(5) في ت : "وقال".
(6) في أ : "بعدي".
(7) صحيح البخاري برقم (3532) وصحيح مسلم برقم (2354).
(8) في ت : "وروى".
(9) في ت : "وعرفت".
(10) المسند (2/12) وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف.
(11) في ف : "وحدثني".
(12) زيادة من ف ، أ.
(13) في أ : "سريح".
(14) في أ : "سواه".
(15) المسند (2/172) وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف.
(6/430)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)
فهو كذاب
أفاك ، دجال ضال مضل ، ولو تخرق (1) وشعبذ ، وأتى بأنواع السحر والطلاسم
والنَيرجيَّات (2) ، فكلها محال وضلال عند أولي الألباب ، كما أجرى الله ، سبحانه
وتعالى ، على يد الأسود العَنْسي باليمن ، ومسيلمة الكذاب باليمامة ، من الأحوال
الفاسدة والأقوال الباردة ، ما علم كل ذي لب وفهم وحِجى أنهما كاذبان ضالان ،
لعنهما الله. وكذلك كل مدع لذلك إلى يوم القيامة حتى يختموا بالمسيح الدجال ، [
فكل واحد من هؤلاء الكذابين] (3) يخلق الله معه من الأمور ما يشهد العلماء
والمؤمنون بكذب مَنْ (4) جاء بها. وهذا من تمام لطف الله تعالى بخلقه ، فإنهم
بضرورة الواقع لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر إلا على سبيل الاتفاق ، أو لما
لهم فيه من المقاصد إلى غيره ، ويكون في غاية الإفك والفجور في أقوالهم وأفعالهم ،
كما قال تعالى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنزلُ الشَّيَاطِينُ * تَنزلُ
عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } الآية [الشعراء : 221 ، 222]. وهذا بخلاف الأنبياء
، عليهم السلام ، فإنهم في غاية البر والصدق (5) والرشد والاستقامة[ والعدل] (6)
فيما يقولونه ويفعلونه ويأمرون به وينهون عنه ، مع ما يؤيدون به من الخوارق
للعادات ، والأدلة الواضحات ، والبراهين الباهرات ، فصلوات الله وسلامه عليهم
دائما مستمرا ما دامت الأرض والسموات.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)
وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ
وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) }
__________
(1) في أ : "تمخرق".
(2) في أ : "النيرنجيات".
(3) زيادة من أ.
(4) في أ : "ما".
(5) في أ : "الصدقة".
(6) زيادة من أ.
(6/431)
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
{
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
}.
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بكثرة ذكرهم لربهم تعالى ، المنعم عليهم بأنواع
النعم وأصناف (1) المنن ، لما لهم في ذلك من جزيل الثواب ، وجميل المآب.
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبد الله بن سعيد (2) ، حدثني مولى بن
عياش (3) عن أبي بَحرية (4) ، عن أبي الدرداء ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم ،
وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إعطاء الذهب والوَرق ، وخير لكم من أن تلقوا
عدوكم فتضربوا أعناقهم ، ويضربوا أعناقكم ؟" قالوا : وما هو يا رسول الله ؟
قال : "ذكر الله عز وجل".
وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه ، من حديث عبد الله بن سعيد بن أبي هند ، عن زياد -
مولى ابن عياش (5) - عن أبي بَحرية - واسمه عبد الله بن قيس التراغمي - عن أبي
الدرداء ، به (6). قال الترمذي : ورواه بعضهم عنه فأرسله.
__________
(1) في أ : "وصنوف".
(2) في أ : "سعد".
(3) في أ : "عباس".
(4) في أ : "عن أبي عرة".
(5) في أ : "عباس".
(6) المسند (5/195) وسنن الترمذي برقم (3377) وسنن ابن ماجه برقم (3790).
(6/431)
قلت : وقد
تقدم هذا الحديث عند قوله تعالى : { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا
وَالذَّاكِرَاتِ } في مسند [الإمام] (1) أحمد ، من حديث زياد بن أبي زياد مولى عبد
الله بن عَيَّاش : أنه بلغه عن معاذ بن جبل ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
بنحوه ، فالله أعلم.
وقال (2) الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا فرج بن فَضَالة ، عن أبي سعد
الحِمْصي قال : سمعت أبا هريرة يقول : دعاء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا أدعه : "اللهم ، اجعلني أعظم شكرك ، وأتبع نصيحتك ، وأكثر ذكرك ، وأحفظ
وصيتك". (3)
ورواه الترمذي عن يحيى بن موسى ، عن وكيع ، عن أبي فضالة الفرج بن فضالة ، عن أبي
سعيد الحمصي ، عن أبي هريرة ، فذكر مثله وقال : غريب. (4)
وهكذا رواه الإمام أحمد أيضا عن أبي النضر هاشم بن القاسم ، عن فرج بن فضالة ، عن
أبي سعيد المدني (5) عن أبي هريرة فذكره. (6)
وقال (7) الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي ، عن معاوية بن صالح ، عن
عمرو بن قيس قال : سمعت عبد الله بن بُسْر يقول : جاء أعرابيان إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، فقال أحدهما : يا رسول الله ، أي الناس خير ؟ قال : "مَنْ
طال عمره وحسن عمله". وقال الآخر : يا رسول الله ، إن شرائع الإسلام قد كثرت
علينا (8) ، فمرني بأمر أتشبث به. قال : "لا يزال لسانك رَطْبًا بذكر
الله". (9)
وروى الترمذي وابن ماجه [منه] (10) الفصل الثاني ، من حديث معاوية بن صالح ، به.
(11) وقال الترمذي : حسن غريب.
وقال (12) الإمام أحمد : حدثنا سُرَيج (13) ، حدثنا ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث
قال : إنّ دَرّاجا أبا السمح حدثه ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ؛ أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال : "أكثروا ذكر الله حتى يقولوا : مجنون."
(14)
وقال الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا عقبة بن مُكرم العَمِّي ، حدثنا
سعيد بن سفيان (15) الجَحْدَرِي ، حدثنا الحسن بن أبي جعفر ، عن عقبة بن أبي
ثُبَيت (16) الراسبي ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "اذكروا الله ذكرا كثيرا [حتى] (17) يقول
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت : "وروى".
(3) المسند (2/477).
(4) سنن الترمذي برقم (3604).
(5) في أ : "المزني".
(6) المسند (2/311).
(7) في ت : "وروى".
(8) في ت : "عليَّ".
(9) المسند (4/190).
(10) زيادة من ف ، أ.
(11) سنن الترمذي برقم (3375) وسنن ابن ماجه برقم (3793).
(12) في ت : "وروى".
(13) في أ : "شريح".
(14) المسند (3/68) وفيه دراج ، عن أبي الهيثم ضعيف.
(15) في أ : "سفر".
(16) في أ : "سبب".
(17) زيادة من ت ، ف ، أ ، والمعجم.
(6/432)
المنافقون :
تراءون." (1)
وقال (2) الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا شداد أبو طلحة
الراسبي ، سمعت أبا الوازع جابر بن عمرو يحدث عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "ما من قوم جلسوا مجلسا لم يذكروا الله فيه ، إلا
رأوه حسرة يوم القيامة." (3)
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا
كَثِيرًا } : إن الله لم يفرض [على عباده] (4) فريضة إلا [جعل لها حدا معلوما ،
ثم] (5) عذر أهلها في حال عذر ، غير الذكر ، فإن الله لم يجعل له حدًّا ينتهي إليه
، ولم يعذر أحدًا في تركه ، إلا مغلوبا على تركه ، فقال : { فَاذْكُرُوا اللَّهَ
قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ } [النساء : 103] ، بالليل والنهار ، [في
البر والبحر] (6) ، وفي السفر والحضر ، والغنى والفقر ، والصحة والسقم ، والسر
والعلانية ، وعلى كل حال ، وقال : { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا } فإذا فعلتم
ذلك صلى عليكم هو وملائكته.
والأحاديث والآيات والآثار في الحث على ذكر الله كثيرة جدا ، وفي هذه الآية
الكريمة الحث على الإكثار (7) من ذلك.
وقد صنف الناس في الأذكار المتعلقة بآناء الليل والنهار كالنسائي والمعمري وغيرهما
(8) ، ومن أحسن الكتب المؤلفة في ذلك كتاب الأذكار للشيخ محيي الدين النووي ، رحمه
الله تعالى (9)
__________
(1) المعجم الكبير للطبراني (12/169) وقال الهيثمي في المجمع (10/76) : "فيه
الحسين بن أبي جعفر الجعفري وهو ضعيف".
(2) في أ : "زاده".
(3) المسند (2/224) وقال الهيثمي في المجمع (10/80) : "رجاله رجال
الصحيح".
(4) زيادة من ت ، ف ، أ.
(5) زيادة من ت ، ف ، أ.
(6) زيادة من ت ، ف ، أ.
(7) في أ : "الإكثرار".
(8) في ت : "والمعمري والكلم الطيب لشيخ الإسلام وغيرهم".
(9) وقد طبع كتاب الأذكار بتحقيق الشيخ عبد القادر الأرناؤوط في دار الهدى وعليه
تخريج لابن علان اسمه : "الفتوحات الربانية" طبع في الهند.
هذا وقد جاء في نسخة "ت" بعد هذه الفقرة ما يلي :
"فذكر الله أصل موالاة الله ، عز وجل ، ورأسها. والغفلة أصل معاداته ورأسها ،
فإن العبد لا يزال يذكر ربه حتى يحبه فيواليه ، ولا يزال يغفل عنه حتى يبغضه
ويعاديه. قال الله تعالى : (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره
فرطا) وما استجلبت نعم الله تعالى واستدفعت نقمة بمثل ذكر الله ، فالذكر جلاب
النعم دفاع النقم. قال تعالى : (إن الله يدفع عن الذين آمنوا) وفي القراءة الأخرى
: (يدافع عن الذين آمنوا) فدفعه ودفاعه عنهم بحسب قوة إيمانهم وكماله ومادة
الإيمان وقوته بذكر الله ، فمن كان أكمل إيمانا وأكثر ذكرا كان دفاع الله عنه ،
ودفعه أعظم. ومن نقص نقص ذكر بذكر ونسيان بنسيان ، وقال تعالى : (وإذ تأذن ربكم
لئن شكرتم لأزيدنكم) والذكر رأس الشكر ، والشكر جلاب النعم ، موجب للمزيد. قال بعض
السلف : ما أقبح الغفلة عن ذكر من لا يغفل عن برك. ومجالس الذكر رياض الجنة كما
روى ابن أبي الدنيا من حديث جابر ، عن عبد الله قال : خرج علينا رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، فقال : "يأيها الناس ارتعوا في رياض الجنة" قلنا يا
رسول الله : وما رياض الجنة ؟ قال : "مجالس الذكر" ، ثم قال :
"اغدوا وروحوا فاذكروا فمن كان يحب أن يعلم منزلته عند الله ، فلينظر كيف
منزلة الله عنده ، فإن الله ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه". فمجالس الذكر
مجالس الملائكة كما في الصحيحين عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "إن لله ملائكة فَضْلا عن كتاب الناس يطوفون في
الطريق يلتمسون أهل الذكر ، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تنادوا هلم إلى حاجتكم ،
فتحف بأجنحتها إلى السماء الدنيا ، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم : ما يقول عبادي ؟
قال : يقولون : يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك قال : وهل رأوني ؟ قال :
يقولون : لا والله يا ربنا ما رأوك ، فيقول : كيف لو أنهم رأوني ؟ قال : فيقولون :
لو أنهم رأوك كانوا أشد عبادة وأشد تحميدا وتمجيدا ، وأكثر تسبيحا ، فيقول : ما
يسألوني ؟ فيقولون : يسألونك الجنة ، فيقول : وهل رأوها ؟ فيقولون : لا والله يا
ربنا ما رأوها ، فيقول : كيف لو رأوها ؟ فيقولون : لو رأوها كانوا أشد حرصا عليها
، وأشد لها طلبا ، وأعظم فيها رغبة ، فيقول : مم يتعوذون ؟ قال : فيقولون : من
النار ، فيقول : هل رأوها ؟ فيقولون : لا والله يا ربنا ما رأوها ، فيقول : كيف لو
رأوها ؟ فيقولون : لو رأوها كانوا أشد منها فرارا وأشد لها مخافة ، فيقول :
فأشهدكم أني قد غفرت لهم ، فيقول ملك من الملائكة : إن فيهم فلانا ليس منهم ، إنما
جاء لحاجة. قال : هم القوم لا يشقى بهم جليسهم" ، فهذا من بركتهم على نفوسهم
وعلى جليسهم ، فلهم نصيب من قوله : (وجعلني مباركا أينما كنت) [مريم : 31] وإن
الله ، عز وجل ، ليباهى بالذاكرين الملائكة ، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد
الخدري قال : خرج معاوية على حلقة في المسجد ، فقال : ما أجلسكم ؟ قالوا : جلسنا نذكر
الله. قال : ما أجلسكم إلا ذلك ؟ قالوا : والله ما أجلسنا إلا ذلك. قال : أما إني
لم أسألكم تهمة لكم ، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل
عنه حديثا مني ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه. قالوا
: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ، ومَنْ علينا بك. قال :
"آلله ما أجلسكم إلا ذلك ؟" قالوا : آلله ما أجلسنا إلا ذلك ؟ قال :
"أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ، ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم
الملائكة" فهذه المباهاة من الرب تبارك وتعالى ، دليل على شرف الذكر عنده
ومحبته له وأن له مزية على غيره من الأعمال.
والذكر نوعان : أحدهما : ذكر أسماء الرب وصفاته والثناء عليه ، وتنزيهه وتقديسه
عما لا يليق به وهذا أيضا نوعان : أحدهما : إنشاء الثناء بها من الذاكر ، وهذا
النوع هو المذكور في الحديث نحو : سبحان الله والحمد لله ، ولا إله إلا الله والله
أكبر ، وسبحان الله وبحمده ، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله
الحمد وهو على كل شيء قدير ، ونحو ذلك ، فأفضل هذا النوع أجمعه للثناء وأعمه نحو :
سبحان الله عدد خلقه ، فهذا أفضل من مجرد سبحان الله ، وقول : الحمد لله عدد ما
خلق في السماء ، وعدد ما خلق في الأرض ، وعدد ما خلق بينهما ، وعدد ما هو خالق ،
أفضل من مجرد قولك : الحمد لله ، وهذا في حديث جويرية أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال لها : "لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم ،
لوزنتهن : سبحان الله عدد خلقه ، سبحان الله رضا نفسه ، سبحان الله زنة عرشه ،
سبحان الله مداد كلماته". رواه مسلم. وفي الترمذي وسنن أبي داود عن سعد بن
أبي وقاص أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة بين يديها نوى أو حصى
تسبح به ، فقال : "أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا وأفضل ؟" فقال : سبحان
الله عدد ما خلق في السماء ، وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض ، وسبحان الله عدد
ما بين ذلك ، وسبحان الله عدد ما هو خالق ، والله أكبر مثل ذلك ، ولا إله إلا الله
مثل ذلك ، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك".
والنوع الثاني : الخبر عن الرب تبارك وتعالى بأحكام أسمائه وصفاته نحو قولك : إن
الله ، عز وجل ، يسمع أصوات عباده ، ويرى حركاتهم ، ولا يخفى عليه خافية من
أعمالهم ، وهو أرحم من آبائهم وأمهاتهم ، وهو على كل شيء قدير ، وهو أفرح بتوبة
عبده من الفاقد الواجد ونحو ذلك. وأفضل هذا النوع الثناء عليه بما أثنى به على
نفسه ، وبما أثنى عليه رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير
تشبيه ولا تمثيل كما قال : (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) ، وهذا النوع أيضا
ثلاثة أنواع : حمد ، وثناء ، ومجد.
فالحمد : الإخبار عنه بصفات كماله مع محبته والرضا عنه ، ولا يكون المحب الساكت
حامدا ، ولا المثنى بلا محبة حامدا ، حتى يجمع له المحبة والثناء ، فإن كرر
المحامد شيئا بعد شيء ، كانت ثناء ، فإن كان المدح بصفات الجلال والعظمة والكبرياء
والملك كان مجدا. قد جمع الله تعالى لعبده الأنواع الثلاثة فى أول سورة فاتحة
الكتاب ، فإذا قال العبد : (الحمد لله رب العالمين) قال الله : حمدني عبدي ، وإذا
قال : (الرحمن الرحيم) قال : أثنى عَلَيَّ عبدي. وإذا قال : (مالك يوم الدين) قال
: مجدني عبدي.
والنوع الثاني من الذكر : ذكر أمره ونهيه وأحكامه ، وهذا أيضا نوعان : أحدهما :
ذكره بذلك إخبارا عنه بأنه أمر بكذا ونهى عن كذا وأحب كذا وسخط كذا ، والثاني :
ذكره عند أمره فيبادر إليه ، وعند نهيه فيهرب منه ، فذكر أمره ونهيه شيء ، وذكره
عند أمره ونهيه شيء آخر ، فإذا اجتمعت هذه الأنواع للذاكر ، فذكره أفضل الذكر
وأجله وأعظمه.
فائدة :
فهذا ذكره هو الفقه الأكبر ، وما دونه من أفضل الذكر إذا صحت فيه النية ، ومن ذكره
تعالى ذكر آلائه وإنعامه وإحسانه وأياديه ومواقع فضله على عبيده ، وهذا من أجل
أنواع الذكر ، فهذه خمسة أنواع ، وهي تكون بالقلب واللسان ، وإنما كان ذكر القلب
وحده أفضل من ذكر اللسان ؛ لأن ذكر القلب يثمر المعرفة ، ويصح المحبة ، ويثير
الحياء ، ويبعث على المخافة ، ويدعو إلى المراقبة ، ويردع عن التقصير في الطاعة
والتهاون في المعاصي والسيئات ، وذكر اللسان وحده لا يوجب شيئا ما من تلك الأثمار
، وإن أثمر شيئا ما ، فثمرته ضعيفة.
والذكر أفضل من الدعاء ؛ لأن الذكر ثناء على الله ، عز وجل ، بجميل صفاته وآلائه
وأسمائه ، والدعاء سؤال العبد حاجته ، فأين هذا من هذا ؟ ولهذا جاء في الحديث :
"مَنْ شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين". ولهذا كان
مستحبا في الدعاء أن يبدأ الداعي بحمد الله والثناء عليه بين يدي حاجته ، ثم يسأل
حاجته كما جاء في حديث فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا
يدعو في صلاته لم يحمد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "لقد عجل هذا" ، ثم دعاه فقال له أو لغيره :
"إذا صلى أحدكم ، فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه ، ثم يصلي على النبي صلى
الله عليه وسلم ، ثم يدعو بما شاء ". رواه الإمام أحمد والترمذي ، وقال :
حديث حسن صحيح. وهكذا دعا ذو النون الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم :
"دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه : لا إله إلا أنت
سبحانك إني كنت من الظالمين" وفي الترمذي : دعوة أخي ذي النون إذ دعا بها في
بطن الحوت : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، فإنه لم يدع بها مسلم في
شيء قط إلا استجاب الله له". وهكذا عامة الأدعية النبوية ، ومنه
قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الكرب : "لا إله إلا الله رب العرش
العظيم ، لا إله إلا الله رب السموات السبع ورب الأرض ورب العرش الكريم".
ومنه حديث بريدة الأسلمي ، رواه أهل السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع
رجلا يدعو وهو يقول : اللهم أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت
الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، فقال : "والذي
نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به
أعطى". وروى أبو داود والنسائي من حديث أنس أنه كان مع النبي صلى الله عليه
وسلم جالسا ورجل يصلي ثم دعا : اللهم أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت بديع
السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي : "لقد دعا
الله باسمه العظيم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى" وروى أبو داود
والنسائي من حديث أنس ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدعاء يستجاب إذا
تقدمه هذا الثناء والذكر ، وأنه اسم الله الأعظم ، فكان ذكر الله والثناء عليه
أنجح ما سأل به حوائجه ، فهذا من فوائد الذكر ، وهو أنه يجعل الدعاء مستجابا فلهذا
قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا) فالدعاء
الذي يتقدمه الذكر والثناء أقرب إلى الإجابة من الدعاء المجرد ، فإن انضاف إلى ذلك
إخبار العبد بحاله ومسكنته وافتقاره واعترافه ، كان أبلغ في الإجابة وأفضل. فإنه
يكون قد توسل إلى المدعو بصفات كماله وإحسانه وفضله ، وعرض ، بل صرح ، بشدة حالته
وضرورته وفقره ومسكنته ، فهذا المقتضى منه وأوصاف المسؤول مقتضى منه ، فاجتمع
المقتضى من السائل والمقتضى من المسؤول في الدعاء ، فكان أبلغ وألطف موقعا وأتم
معرفة وعبودية ، وأنت ترى في الشاهد ولله المثل الأعلى أن الرجل إذا توسل إلى من
يريد معروفه بكرمه وجوده وبره ، وذكر حاجته هو وفقره ومسكنته ، كان أعطف لقلب
المسؤول وأقرب إلى قضاء حاجته من أن يقول له ابتداء أعطني كذا وكذا ، فإذا عرف هذا
فتأمل قول موسى ، عليه السلام : (رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير) وقول ذي النون
في دعائه : (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) وقول أبينا آدم : (ربنا
ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) وفي الصحيحين أن أبا
بكر الصديق رضي الله عنه ؛ قال يا رسول الله ، علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال :
"قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة
من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" فجمع في هذا الدعاء الشريف العظيم
القدر بين الاعتراف بحاله ، والتوسل إلى ربه بفضله وجوده ، وأنه المتفرد بغفران
الذنوب ثم سأل حاجته بعد التوسل بالأمرين معا فهكذا آداب الدعاء والعبودية.
وقراءة القرآن أفضل الأذكار وهي أفضل من الذكر ، والذكر أفضل من الدعاء ، وهذا من
حيث النظر إلى كل واحد منهما مجردا ، وقد تعرض للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل ،
بل تعينه فلا يجوز أن يعدل عنه إلى الفاضل ، وهذا كالتسبيح في الركوع والسجود ،
فإنه أفضل من قراءة القرآن ، وكذلك التشهد ، وكذلك رب اغفر لي بين السجدتين ، وقول
رب اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني بين السجدتين أفضل من القراءة. وكذلك
الذكر عقيب السلام من الصلاة ، ذكر التهليل والتسبيح والتكبير والتحميد أفضل من
الاشتغال عنه بالقراءة. وكذلك إجابة المؤذن ، والقول كما يقول ، أفضل من القراءة ،
وإن كان فضل القرآن على كل كلام كفضل الله على خلقه ، لكن لكل مقام مقال ، متى فات
مقاله فيه وعدل عنه إلى غيره ، واختلت الحكمة ، وفقدت المصلحة المطلوبة منه ،
وهكذا الأذكار المفيدة بمحال مخصوصة أفضل من القراءة المطلقة اللهم إلا أن يعرض
للعبد ما يجعل الذكر أو الدعاء أنفع له من قراءة القرآن ، مثاله أن يحدث له من
التفكر في ذنوبه فيحصل له توبة واستغفار أو يحصل له ما يخاف أذاه من شياطين الإنس
والجن ، فيعدل إلى الأذكار والدعوات التي تحصنه وتحوطه ، وكذلك أيضا قد يعرض للعبد
حاجة ضرورية إذا اشتغل عن سؤالها بقراءة القرآن ، لم يحضر قلبه فيها. وإذا أقبل
على الذكر والدعاء إليها اجتمع قلبه كله على الله ، وأحدث له تضرعا وخشوعا
وابتهالا ، فهذا قد يكون اشتغاله بالدعاء والحالة هذه أنفع له ، وإن كان كل من
القراءة والذكر أفضل وأكثر أجرا ، وهذا باب نافع يحتاج إلى فقه نص وفرقان بين
فضيلة الشيء في نفسه وبين فضيلته العارضة ، فيعطي كل ذي حق حقه ويضع كل شيء موضعه
، فللعين موضع ، وللرجل موضع ، وللماء موضع ، وللحم موضع ، وحفظ المراتب هو من
تمام الحكمة التي هي نظام الأمر والنهي ، والله الموفق.
وهكذا الصابون والأشنان أنفع للثوب في وقت ، والتحمير وماء الورد أنفع له في وقت.
وقلت لشيخ الإسلام ابن تيمية ، رحمه الله ، يوما : سئل بعض أهل العلم : أيما أنفع
للعبد التسبيح أو الاستغفار ؟ فقال : إذا كان الثوب نقيا فالبخور وماء الورد نافع
له ، وإن كاد دنسا فالصابون والماء الجاري أنفع له فقال : كيف والثياب لا تزال
دنسة ؟.
ومن هذا الباب أن سورة (قل هو الله أحد الله) تعدل ثلث القرآن ، ومع هذا فلا تقوم
مقام آيات المواريث والطلاق والخلع والعدد ونحوها ، بل هذه الآيات في وقتها ، وعند
الحاجة إليها أنفع من تلاوة سورة الإخلاص. ولما كانت الصلاة مشتملة على القراءة
والذكر والدعاء ، وهي جامعة لأجزاء العبودية على أتم الوجوه ، فكانت أفضل من كل
القراءة والذكر والدعاء بمفرده بجمعها ذلك كله مع عبودية سائر الأعضاء فهذا أصل
نافع جدا للعبد يفتح للعبد باب معرفة مراتب الأعمال وينزلها منازلها لئلا يشتغل
بمفضولها عن فاضلها فيرنح عليه إبليس الفضل الذي بينهما أو ينظر إلى فاضلها فيشتغل
عن مفضولها ، وإن كان ذلك وقته فتفوته مصلحته بالكلية لظنه أن اشتغاله به أكثر
ثوابا وأعظم أجرا". اهـ.
(6/433)
وقوله : {
وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا } أي : عند الصباح والمساء ، كقوله : {
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ } [الروم : 17 ، 18]
وقوله : { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ } : هذا تهييج إلى
الذكر ، أي : إنه سبحانه يذكركم فاذكروه أنتم ، كقوله تعالى : { كَمَا أَرْسَلْنَا
فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ
وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا
تَعْلَمُونَ. فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ } [البقرة
: 151 ، 152]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "يقول الله : مَنْ ذكرني في
نفسه ذكرته في نفسي ، ومَنْ ذكرني في مَلأ ذكرته في ملأ خير منهم" (1)
والصلاة من الله ثناؤه على العبد عند الملائكة ، حكاه البخاري عن أبي العالية.
ورواه أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عنه.
وقال غيره : الصلاة من الله : الرحمة [ورد بقوله : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ
صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } ] (2)
وقد يقال : لا منافاة بين القولين والله أعلم.
وأما الصلاة من الملائكة ، فبمعنى الدعاء للناس والاستغفار (3) ، كقوله : {
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ
شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ
وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي
وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ } الآية. [غافر : 7
- 9].
وقوله : { لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } أي : بسبب رحمته بكم
وثنائه عليكم ، ودعاء ملائكته لكم ، يخرجكم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى
واليقين. { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } أي : في الدنيا والآخرة ، أما في
الدنيا : فإنه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم ، وبَصّرهم الطريق الذي ضَلَّ عنه
وحاد عنه من سواهم من الدعاة إلى الكفر أو البدعة وأشياعهم (4) من الطغام (5).
وأما رحمته بهم في الآخرة : فآمنهم من الفزع الأكبر ، وأمر ملائكته يتلقونهم
بالبشارة بالفوز بالجنة والنجاة من النار ، وما ذاك إلا لمحبته لهم ورأفته بهم.
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن حميد ، عن أنس ، رضي الله عنه ، قال
: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه وصبي في الطريق ، فلما رأت
أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ ، فأقبلت تسعى وتقول : ابني ابني ، وَسَعَت
فأخذته ، فقال القوم : يا رسول الله ، ما كانت
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (7405) ومسلم في صحيحه برقم (2675) من حديث أبي
هريرة ، رضي الله عنه.
(2) زيادة من ت.
(3) في ت : "والاستغفار إليهم".
(4) في ت ، أ : "وأتباعهم".
(5) في أ : "الطغاة".
(6/436)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
هذه لتلقي
ابنها في النار. قال : فَخَفَّضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : "ولا
الله (1) ، لا يلقي حبيبه في النار".
إسناده على شرط الصحيحين ، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة (2) ، ولكن في صحيح
الإمام البخاري ، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
رأى امرأة من السبي قد أخذت صبيا لها ، فألصقته إلى صدرها ، وأرضعته فقال :
"أترون هذه تلقي ولدها في النار وهي تقدر على ذلك ؟" قالوا : لا. قال :
"فوالله ، لله أرحم بعباده من هذه بولدها" (3).
وقوله : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ } الظاهر أن المراد - والله
أعلم - { تَحِيَّتُهُمْ } أي : من الله تعالى يوم يلقونه { سَلامٌ } أي : يوم يسلم
عليهم كما قال تعالى : { سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } [يس : 58].
وزعم قتادة أن المراد أنهم يحيي (4) بعضهم بعضا بالسلام ، يوم يلقون الله في الدار
الآخرة. واختاره ابن جرير.
قلت : وقد يستدل بقوله (5) تعالى : { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ
وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ } [يونس : 10] ، وقوله : { وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا } (6)
يعني : الجنة وما فيها من المآكل والمشارب ، والملابس والمساكن ، والمناكح والملاذ
والمناظر وما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا
(45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا (47) وَلا تُطِعِ
الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى
بِاللَّهِ وَكِيلا (48) }.
قال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا فُلَيْح بن سليمان ، عن هلال بن علي
(7) عن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت : أخبرني عن صفة
رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. قال : أجل ، والله إنه لموصوف في
التوراة بصفته في القرآن : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ
شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } وحرزا للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سميتك
المتوكل ، لست بفظ (8) ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ، ولا يدفع السيئة بالسيئة ،
ولكن يعفو ويغفر (9) ، ولن يقبضَه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن لا إله
إلا الله ، فيفتح بها أعينا عميا ، وآذانا صما ، وقلوبا غلفا".
__________
(1) في أ : "لا والله".
(2) المسند (3/104).
(3) صحيح البخاري برقم (5999).
(4) في ت : "يحيون".
(5) في ت ، ف ، أ : "وقد يستدل له بقوله".
(6) في ت : "عظيما" وهو خطأ.
(7) في ت : "روى الإمام أحمد بإسناده".
(8) في ت : "لا بفظ" وفي أ : "لا فظ".
(9) في ف : "يعفو ويصفح ويغفر".
(6/437)
وقد رواه
البخاري في "البيوع" عن محمد بن سنان ، عن فُلَيْح بن سليمان ، عن هلال
بن علي به. ورواه في التفسير عن عبد الله - قيل : ابن رجاء ، وقيل : ابن صالح - عن
عبد العزيز بن أبي سلمة ، عن هلال ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن عمرو ، به
(1). ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن عبد الله بن رجاء ، عن عبد العزيز بن أبي
سلمة الماجشون ، به.
وقال البخاري في البيوع : وقال سعيد ، عن هلال ، عن عطاء ، عن عبد الله بن سلام.
وقال وهب بن منبه : إن الله أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل - يقال له : شعياء
- أن قم في قومك بني إسرائيل ، فإني منطق لسانك بوحي وأبعث أميا من الأميين ،
أبعثه [مبشرا] (2) ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ، لو يمر إلى جنب سراج لم
يطفئه ، من سكينته ، ولو يمشي على القصب لم يسمع من تحت قدميه ، أبعثه مبشرا
ونذيرا ، لا يقول الخنا ، أفتح به أعينا كُمْهًا (3) ، وآذانا صما ، وقلوبا غلفا ،
أسَدّده لكل أمر جميل ، وأهب له كل خلق كريم ، وأجعل السكينة لباسه ، والبر شعاره
، والتقوى ضميره ، والحكمة منطقه ، والصدق والوفاء طبيعته ، والعفو والمعروف خلقه
، والحق شريعته ، والعدل سيرته ، والهدى إمامه ، والإسلام ملته ، وأحمد اسمه ،
أهدي به بعد الضلالة ، وأعلم به بعد الجهالة ، وأرفع به بعد الخَمَالة ، وأعرف به
بعد النُّكْرَة ، وأكثر به بعد القلة ، وأغني به بعد العَيْلَة ، وأجمع به بعد
الفرقة ، وأؤلف به بين أمم متفرقة ، وقلوب مختلفة ، وأهواء متشتتة ، وأستنقذ به
فِئامًا من الناس عظيمة (4) من الهلكة ، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس ، يأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر ، موحدين مؤمنين مخلصين ، مصدقين لما جاءت به رسلي (5)
، ألهمهم التسبيح والتحميد ، والثناء والتكبير والتوحيد ، في مساجدهم ومجالسهم ،
ومضاجعهم ومنقلبهم ومثواهم ، يصلون لي قياما وقعودا ، ويقاتلون في سبيل الله (6)
صفوفا وزُحوفا ، ويخرجون من ديارهم ابتغاء مرضاتي ألوفا ، يطهرون الوجوه والأطراف
، ويشدون الثياب في الأنصاف ، قربانهم دماؤهم ، وأناجيلهم في صدورهم ، رهبان
بالليل ليُوث بالنهار ، وأجعل في أهل بيته وذريته السابقين والصديقين والشهداء
والصالحين ، أمته من بعده يهدون بالحق وبه يعدلون ، أعز مَنْ نصرهم ، وأؤيد مَنْ
دعا لهم ، وأجعل دائرة السوء على مَنْ خالفهم أو بغى عليهم ، أو أراد أن ينتزع
شيئا مما في أيديهم. أجعلهم ورثة لنبيهم ، والداعية إلى ربهم ، يأمرون بالمعروف
وينهون عن المنكر ، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، ويوفون بعهدهم ، أختم بهم
الخير الذي بدأته بأولهم ، ذلك فضلي أوتيه من أشاء ، وأنا ذو الفضل العظيم.
هكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن وهب بن منبه اليماني ، رحمه الله.
ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الرحمن بن صالح ، حدثنا عبد الرحمن
بن محمد
__________
(1) المسند (2/174) وصحيح البخاري برقم (2125) ورقم (4838).
(2) زيادة من ت ، ف.
(3) في ت : "أعينا عميا كمها".
(4) في ت : "عظيم".
(5) في ت : "الرسل".
(6) في أ : "في سبيلي".
(6/438)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
بن عبيد
الله العَرْزَمي (1) ، عن شَيْبَان النحوي ، أخبرني قتادة ، عن عِكْرِمة ، عن ابن
عباس (2) قال : لما نزلت : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا
وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } - وقد كان أمر عليا ومعاذا أن يسيرا إلى اليمن - فقال :
"انطلقا فبشرا ولا تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا ، إنه قد أنزل علي : { يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا }.
ورواه الطبراني عن محمد بن نصر بن حميد البزاز البغدادي ، عن عبد الرحمن بن صالح
الأزدي ، عن عبد الرحمن [بن محمد] (3) بن عبيد الله العرزمي ، بإسناده مثله (4).
وقال في آخره : "فإنه قد أنزل (5) علي : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا على
أمتك ومبشرا بالجنة ، ونذيرا من النار ، وداعيا إلى شهادة أن لا إله إلا الله
بإذنه ، وسراجا منيرا بالقرآن".
وقوله : { شَاهِدًا } أي : لله بالوحدانية ، وأنه لا إله غيره ، وعلى الناس
بأعمالهم يوم القيامة ، { وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } ، [كقوله : {
لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }
] (6) [البقرة : 143].
وقوله : { وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } أي : بشيرا للمؤمنين بجزيل الثواب ، ونذيرا
للكافرين من وبيل العقاب.
وقوله : { وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ } أي : داعيا للخلق إلى عبادة ربهم
عن أمره لك بذلك ، { وَسِرَاجًا مُنِيرًا } أي : وأمرُك ظاهر فيما جئت به من الحق
، كالشمس في إشراقها وإضاءتها ، لا يجحدها إلا معاند.
وقوله : { وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ } ، أي :
لا تطعهم و[لا] (7) تسمع منهم في الذي يقولونه (8) { وَدَعْ أَذَاهُمْ } أي : اصفح
وتجاوز عنهم ، وكِلْ أمرهم إلى الله ، فإن فيه كفايةً لهم ؛ ولهذا قال : {
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا }.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ
عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا (49)
}.
هذه الآية الكريمة فيها أحكام (9) كثيرة. منها : إطلاق النكاح على العقد وحده ،
وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منها ، وقد اختلفوا في النكاح : هل هو حقيقة في
العقد وحده ، أو في الوطء ، أو فيهما ؟ على ثلاثة أقوال ، واستعمال القرآن إنما هو
في العقد والوطء بعده ، إلا في هذه الآية فإنه استعمل في العقد وحده ؛ لقوله : {
إِذَا نَكَحْتُمُ (10) الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ }. وفيها دلالة لإباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها.
__________
(1) في أ : "عبد الله القرشي".
(2) في ت : "ثم روى ابن أبي حاتم بإسناده إلى ابن عباس".
(3) زيادة من ت ، ف ، والمعجم.
(4) المعجم الكبير (11/312) وقال الهيثمي في المجمع (7/92) : "وفيه عبد الرحمن
بن محمد بن عبيد الله العرزمي وهو ضعيف".
(5) في ت ، أ : "أنزلت".
(6) زيادة من ت ، ف ، أ.
(7) زيادة من ت.
(8) في أ : "في الذين يتولونهم".
(9) في ت "اشتملت على أحكام".
(10) في ت : "نكحتموا".
(6/439)
وقوله : {
الْمُؤْمِنَاتِ } خرج مخرج الغالب ؛ إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في
ذلك بالاتفاق. وقد استدل ابن عباس ، وسعيد بن المسَيَّب ، والحسن البصري ، وعلي بن
الحسين ، زين العابدين ، وجماعة من السلف بهذه الآية على أن الطلاق لا يقع إلا إذا
تقدمه نكاح ؛ لأن الله تعالى قال : { إِذَا نَكَحْتُمُ (1) الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ } ، فعقب النكاح بالطلاق ، فدل على أنه لا يصح ولا يقع قبله.
وهذا مذهب الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وطائفة كثيرة من السلف والخلف ، رحمهم الله
تعالى.
وذهب مالك وأبو حنيفة ، رحمهما الله ، إلى صحة الطلاق قبل النكاح ؛ فيما إذا قال :
"إن تزوجت فلانة فهي طالق". فعندهما متى تزوجها طلقت منه. واختلفا فيما
إذا قال : "كل امرأة أتزوجها فهي طالق". فقال مالك : لا تطلق حتى يعين
المرأة. وقال أبو حنيفة ، رحمه الله : كل امرأة يتزوجها بعد هذا الكلام تطلق منه ،
فأما الجمهور فاحتجوا على عدم وقوع الطلاق بهذه الآية.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور المروزي ، حدثنا النضر بن شُمَيْل ، حدثنا
يونس - يعني : ابن أبي إسحاق - سمعت آدم مولى خالد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن
عباس قال : [إذا قال] (2) : كل امرأة أتزوجها فهي طالق ، قال : ليس بشيء من أجل أن
الله تعالى يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ
الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } الآية.
وحدثنا محمد بن إسماعيل الأحْمَسِي ، حدثنا وَكِيع ، عن مطر ، عن الحسن بن مسلم بن
يَنّاق (3) ، عن ابن عباس قال : إنما قال الله تعالى : { إِذَا نَكَحْتُمُ
الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } ، ألا ترى أن الطلاق بعد النكاح ؟!
وهكذا روى محمد بن إسحاق ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال
الله : { إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } فلا طلاق
[قبل النكاح] (4).
وقد ورد الحديث بذلك عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك". رواه الإمام أحمد
والترمذي ، وأبو داود ، وابن ماجه (5). وقال الترمذي : "هذا حديث حسن".
وهو أحسن شيء روي في هذا الباب. وهكذا روى ابن ماجه عن علي ، والمِسْوَر بن
مَخْرَمَة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا طلاق قبل
نكاح" (6).
[وفي الآية دليل على أن المسيس مطلق ، ويراد به الوطء] (7).
__________
(1) في ت : "نكحتموا".
(2) زيادة من ت.
(3) في ت : "وروى أيضا بإسناده".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) المسند (2/189) وسنن الترمذي برقم (1181) وسنن أبي داود برقم (2191) وسنن ابن
ماجه برقم (2047).
(6) سنن ابن ماجه برقم (2048) من طريق علي بن الحسين ، عن هشام بن سعد ، عن الزهري
، عن عروة ، عن المسور ، به. وقال البوصيري في الزوائد (2/132) : "هذا إسناد
حسن ، علي بن الحسين وهشام بن سعد مختلف فيهما". وبرقم (2049) من طريق جويبر
، عن الضحاك ، عن النزال بن سبرة ، عن علي ، به. وقال البوصيري في الزوائد (2/132)
: "هذا إسناد ضعيف لاتفاقهم على ضعف جويبر بن سعيد البجلي ، لكن لم ينفرد به
جويبر ، فقد رواه البيهقي في الكبرى (7/320) من طريق معاذ العنبري ، عن حميد
الطويل ، عن الحسن عن علي به ، ثم رواه من طريق سعيد عن جويبر به موقوفا من
الطريقين معا".
(7) زيادة من ت.
(6/440)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
وقوله (1) :
{ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } : هذا أمر مجمع عليه
بين العلماء : أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها لا عدة عليها فتذهب فتتزوج في
فورها مَنْ (2) شاءت ، ولا يستثنى من هذا إلا المتوفى عنها زوجها ، فإنها تعتد منه
أربعة أشهر وعشرا ، وإن لم يكن دخل بها بالإجماع أيضا.
وقوله : { فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا } : المتعة هاهنا أعم
من أن تكون نصف الصداق المسمى ، أو المتعة الخاصة إن لم يكن قد سمى لها ، قال الله
تعالى : { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ
فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [البقرة : 237] ، وقال {
لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ
تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى
الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ }
[البقرة : 236].
وفي صحيح البخاري ، عن سهل بن سعد وأبي أسيد ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
تزوج أميمة بنت شَرَاحيل ، فلما أدخلت (3) عليه بسط يده إليها ، فكأنها كرهت ذلك ،
فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقيَّين (4).
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما : إن كان سمى لها صداقا ،
فليس لها إلا النصف ، وإن لم يكن سمى لها صداقا فأمتعها على قدر عسره ويسره ، وهو
السراح الجميل.
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ
أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ
عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي
هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ
إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ
غَفُورًا رَحِيمًا (50) }.
يقول تعالى مخاطبا نبيه ، صلوات الله وسلامه عليه ، بأنه قد أحل له من النساء
أزواجه اللاتي أعطاهن مُهُورَهُنَّ ، وهي الأجور هاهنا. كما قاله مجاهد وغير واحد
، وقد كان مَهْرُه لنسائه اثنتي (5) عشرة أوقية ونَشّا وهو نصف (6) أوقية ،
فالجميع خمسمائة درهم ، إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان فإنه أمهرها عنه النجاشي ،
رحمه الله ، أربعمائة دينار ، وإلا صفية بنت حُيَيّ فإنه اصطفاها من سَبْي خيبر ،
ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها. وكذلك جُوَيرية بنت الحارث المصطلقية ، أدى عنها
كتابتها إلى ثابت بن قيس بن شماس وتزوجها ، رضي الله عن جميعهن (7).
__________
(1) في هـ : "قال".
(2) في ت : "في فورها متى" وفي أ : "في قرئها من".
(3) في ت : "فلما دخلت" وفي ف ، أ : "فلما أن دخلت".
(4) صحيح البخاري برقم (5256 ، 5257).
(5) في ت : "ثنتي".
(6) في ت : "والنش النصف".
(7) في ت : "رضي الله عنهن أجمعين".
(6/441)
وقوله : {
وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ } أي : وأباح لك التسري
مما أخذت من المغانم (1) ، وقد ملك صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما. وملك ريحانة
بنت شمعون النضرية ، ومارية القبطية أم ابنه إبراهيم ، عليه السلام ، وكانتا من
السراري ، رضي الله عنهما.
وقوله : { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ
خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } : هذا عدل وَسط بين الإفراط والتفريط ؛ فإن
النصارى لا يتزوجون المرأة إلا إذا كان الرجل بينه وبينها سبعة أجداد فصاعدا ،
واليهود يتزوج أحدهم بنت أخيه وبنت أخته ، فجاءت هذه الشريعة الكاملة الطاهرة بهدم
إفراط النصارى ، فأباح بنت العم والعمة ، وبنت الخال والخالة ، وتحريم (2) ما
فَرّطت (3) فيه اليهود من إباحة بنت الأخ والأخت ، وهذا بشع (4) فظيع.
وإنما قال : { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ
وَبَنَاتِ خَالاتِكَ } فَوَحَّدَ لفظ الذكر لشرفه ، وجمع الإناث لنقصهن كقوله : {
عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ } [النحل : 48] ، { يُخْرِجُهُمْ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [البقرة : 257] ، { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ
وَالنُّورَ } [الأنعام : 1] ، وله نظائر كثيرة.
وقوله : { اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } قال ابن أبي حاتم ، رحمه الله :
حدثنا محمد بن عمار بن (5) الحارث الرازي ، حدثنا عبيد الله (6) بن موسى ، حدثنا
إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي صالح (7) ، عن أم هانئ قالت : خطبني رسول الله صلى
الله عليه وسلم فاعتذرت إليه بعذري ، ثم أنزل الله : { إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ
أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا
أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ } إلى قوله : { اللاتِي هَاجَرْنَ
مَعَكَ } قالت : فلم أكن أحل له ، ولم أكن ممن هاجر معه ، كنت من الطلقاء. ورواه
ابن جرير عن أبي كُرَيْب ، عن عبيد الله بن موسى ، به (8).
ثم رواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، عنها بنحوه.
ورواه الترمذي في جامعه (9). وهكذا قال أبو رَزين وقتادة : إن المراد : من هاجر
معه إلى المدينة. وفي رواية عن قتادة : { اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } أي : أسلمن.
وقال الضحاك : قرأ ابن مسعود : "واللاتي هَاجَرْنَ مَعَك".
وقوله : { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ
أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا } أي : ويحل لك - يأيها النبي - المرأة
المؤمنة إذا وهبت نفسها لك أن تتزوجها بغير مهر إن شئت ذلك. وهذه الآية توالى فيها
شرطان ، كقوله تعالى إخبارًا عن نوح ، عليه السلام ، أنه قال لقومه : { وَلا
يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ
يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ } [هود : 34] ، وكقول موسى : { يَا قَوْمِ إِنْ
كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ }
[يونس : 84].
__________
(1) في أ : "الغنائم".
(2) في أ : "وحرم".
(3) في ت : "ما حرموا".
(4) في ف ، أ : "شنيع".
(5) في أ : "و".
(6) في أ : "عبد الله".
(7) في ت : "روى ابن أبي حاتم بإسناده".
(8) تفسير الطبري (22/15).
(9) سنن الترمذي برقم (3214) وقال : "هذا حديث حسن صحيح لا أعرفه إلا من هذا
الوجه من حديث السدي".
(6/442)
وقال هاهنا
: { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ
النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا } وقد قال الإمام أحمد (1) :
حدثنا إسحاق ، أخبرنا مالك ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد الساعدي ؛ أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت : يا رسول الله ، إني قد وَهَبت نفسي لك.
فقامت قياما طويلا فقام رجل فقال : يا رسول الله ، زَوّجنيها إن لم يكن لك بها
حاجة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هل عندك من شيء تُصدقها
إياه" ؟ فقال : ما عندي إلا إزاري هذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إن أعطيتها إزارك جلستَ لا إزار لك ، فالتمس شيئا". فقال : لا أجد
شيئا. فقال : "التمس ولو خاتما من حديد" فالتمس فلم يجد شيئا ، فقال له
النبي صلى الله عليه وسلم : "هل معك من القرآن شيء ؟" قال : نعم ؛ سورة
كذا ، وسورة كذا - لسور يسميها - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"زوجتكها بما معك من القرآن".
أخرجاه من حديث مالك (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان (3) ، حدثنا مرحوم ، سمعت ثابتا يقول (4) : كنت مع
أنس جالسا وعنده ابنة له ، فقال أنس : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقالت : يا نبي الله ، هل لك فيّ حاجة ؟ فقالت ابنته : ما كان أقل حياءها. فقال :
"هي خير منك ، رغبت في النبي ، فعرضت عليه نفسها".
انفرد بإخراجه البخاري ، من حديث مرحوم بن عبد العزيز [العطار] (5) ، عن ثابت
البُنَاني ، عن أنس ، به (6).
وقال (7) أحمد أيضا : حدثنا عبد الله بن بكر ، حدثنا سِنان بن ربيعة ، عن الحضرمي
، عن أنس بن مالك : أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ،
ابنة لي كذا وكذا. فذكرت من حسنها وجمالها ، فآثرتك بها. فقال : "قد
قبلتها".فلم تزل تمدحها حتى ذكرت أنها لم تصدع ولم تَشْتَك شيئًا قط ، فقال :
"لا حاجة لي في ابنتك". لم يخرجوه (8).
وقال (9) ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا منصور بن أبي مُزَاحم ، حدثنا ابن أبي
الوضاح - يعني : محمد بن مسلم - عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت :
التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم (10).
وقال ابن وهب ، عن سعيد بن عبد الرحمن وابن أبي الزِّنَاد ، عن هشام بن عروة ، عن
أبيه : أن خولة بنت حكيم بن الأوقص ، من بني سُلَيم ، كانت من اللاتي وَهَبْن
أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم (11).
وفي رواية له عن سعيد بن عبد الرحمن ، عن هشام ، عن أبيه : كنا نتحدث أن خولة بنت
حكيم
__________
(1) في ت : "وقد روى البخاري ومسلم".
(2) المسند (5/336) وصحيح البخاري برقم (5135) وصحيح مسلم برقم (1425) ولكنه عند
مسلم من طريق يعقوب وعبد العزيز بن أبي حازم وسفيان بن عيينة والدراوردي وزائدة
كلهم عن أبي حازم بنحوه.
(3) في أ : "عثمان".
(4) في ت : "وروى البخاري أن ثابتا قال".
(5) زيادة من أ.
(6) المسند (3/268) وصحيح البخاري برقم (5120).
(7) في ت : "وروى".
(8) المسند (3/155).
(9) في ت : "وروى".
(10) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (7/55) من طريق منصور بن أبي مزاحم ، به.
(11) رواه الطبري في تفسيره (22/23).
(6/443)
كانت وهبت نفسها
لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت امرأة صالحة (1).
فيحتمل أن أم سليم هي خولة بنت حكيم ، أو هي امرأة أخرى.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحْمَسِي ، حدثنا وَكِيع ، حدثنا
موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب ، وعمر بن الحكم ، وعبد الله بن عبيدة قالوا :
تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة امرأة ، ست من قريش ، خديجة ، وعائشة
، وحفصة ، وأم حبيبة ، وسودة ، وأم سلمة. وثلاث من بني عامر بن صَعْصَعَة ،
وامرأتان من بني هلال بن عامر : ميمونة بنت الحارث ، وهي التي وهبت نفسها للنبي
صلى الله عليه وسلم ، وزينب أم المساكين - امرأة من بني أبي بكر بن كلاب من
القرطاء - وهي التي اختارت الدنيا ، وامرأة من بني الجون ، وهي التي استعاذت منه ،
وزينب بنت جحش الأسدية ، والسبيتان صفية بنت حيي بن أخطب ، وجويرية بنت الحارث بن
عمرو بن المصطلق الخزاعية (2).
وقال سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن ابن عباس : { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً
إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } قال : هي ميمونة بنت الحارث.
فيه انقطاع : هذا مرسل ، والمشهور أن زينب التي كانت تدعى أم المساكين هي زينب بنت
خُزَيمة الأنصارية ، وقد ماتت عند النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ، فالله
أعلم.
والغرض من هذا أن اللاتي وهبن أنفسهن من النبي صلى الله عليه وسلم كثير ، كما قال
(3) البخاري ، حدثنا زكريا بن يحيى ، حدثنا أبو أسامة قال : هشام بن عروة حدثنا عن
أبيه ، عن عائشة قالت : كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن من النبي صلى الله عليه
وسلم وأقول : أتهب امرأة (4) نفسها ؟ فلما أنزل الله : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ
مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ
فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ } قلت : ما أرى ربك إلا يُسَارع في هواك (5).
وقد قال (6) ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن منصور الجعفي ،
حدثنا يونس بن بُكَيْر ، عن عَنْبَسَة بن الأزهر ، عن سِماك ، عن عِكْرِمة ، عن
ابن عباس قال : لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له.
ورواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب ، عن يونس بن بُكَيْر (7). أي : إنه لم يقبل واحدة
ممن وهبت نفسها له ، وإن كان ذلك مباحا له ومخصوصا به ؛ لأنه مردود إلى مشيئته ،
كما قال الله تعالى : { إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا } أي : إن
اختار ذلك.
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره (22/23).
(2) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (5/270) من طريق وكيع بلفظ : "تزوج رسول
الله صلى الله عليه وسلم امرأة من بني الجون فطلقها وهي التي استعاذت منه".
(3) في ت : "كما روى".
(4) في ت ، أ : "المرأة".
(5) صحيح البخاري برقم (4788).
(6) في ت : "وروى".
(7) تفسير الطبري (22/17).
(6/444)
وقوله : {
خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } قال عكرمة : أي : لا تحل الموهوبة
لغيرك ، ولو أن امرأة وهبت نفسها لرجل لم تحل له حتى يعطيها شيئا. وكذا قال مجاهد
والشعبي وغيرهما.
أي : إنها إذا فوضت المرأة نفسها إلى رجل ، فإنه متى دخل بها وجب لها عليه بها مهر
مثلها ، كما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم في بَرْوَع (1) بنت واشق لما
فوضت ، فحكم لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بصداق مثلها لما توفي عنها زوجها ،
والموت والدخول سواء في تقرير (2) المهر وثبوت مهر المثل في المفوضة لغير النبي صلى
الله عليه وسلم فأما هو ، عليه السلام ، فإنه لا يجب عليه للمفوضة شيء ولو دخل بها
؛ لأن له أن يتزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود ، كما في قصة زينب بنت جحش ، رضي
الله عنها. ولهذا قال قتادة في قوله : { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
} ، يقول : ليس لامرأة تهب نفسها لرجل بغير ولي ولا مهر إلا للنبي صلى الله عليه
وسلم.
[وقوله تعالى : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ
وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } ] (3) قال أبي بن كعب ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة
وابن جرير في قوله : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ
} أي : من حَصْرِهم في أربع نسوة حرائر وما شاءوا (4) من الإماء ، واشتراط الولي
والمهر والشهود عليهم ، وهم الأمة ، وقد رخصنا لك في ذلك ، فلم نوجب عليك شيئا منه
؛ { لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }.
__________
(1) في أ : "تزويج".
(2) في ت : "تقدير".
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) في ت : "وما يشاء".
(6/445)
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
{ تُرْجِي
مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ
عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا
يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي
قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) }.
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بشر (1) ، حدثنا هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه (2)
عن عائشة ، رضي الله عنها ؛ أنها كانت تُعَيِّر (3) النساء اللاتي وهبن أنفسهن
لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : ألا تستحي المرأة أن تعرض نفسها بغير صداق
؟ فأنزل الله ، عز وجل : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ
مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ } ، قالت
: إني أرَى رَبَّك إلا يُسَارع في هواك (4).
وقد تقدم أن البخاري رواه من حديث أبى أسامة ، عن هشام بن عُرْوَة ، فدل هذا على
أن المراد بقوله : { تُرْجِي } أي : تؤخر { مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ } أي : من
الواهبات [أنفسهن] (5) { وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } أي : مَنْ شئت قبلتها
، ومَنْ شئت رددتها ، ومَنْ رددتها فأنت فيها أيضا بالخيار بعد ذلك ، إن
__________
(1) في أ : "بشير".
(2) في ت : "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(3) في ف : "تغير من النساء" وفي أ : "تغير النساء".
(4) المسند (6/158).
(5) زيادة من ت.
(6/445)
شئت عُدْتَ
فيها فآويتها ؛ ولهذا قال : { وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ
عَلَيْكَ }. قال عامر الشعبي في قوله : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي
إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } : كن نساء وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم فدخل
ببعضهن وأرجأ بعضهن لم يُنْكحن بعده ، منهن أم شريك.
وقال آخرون : بل المراد بقوله : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي
إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } أي : من أزواجك ، لا حرج عليك أن تترك القَسْم لهن ،
فتقدم من شئت ، وتؤخر من شئت ، وتجامع من شئت ، وتترك من شئت.
هكذا يروى عن ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، وأبي رَزين ، وعبد الرحمن بن
زيد بن أسلم ، وغيرهم ، ومع هذا كان ، صلوات الله وسلامه عليه ، يقسم لهن ؛ ولهذا
ذهب طائفة من الفقهاء من الشافعية وغيرهم إلى أنه لم يكن القسم واجبا عليه ، صلوات
الله وسلامه عليه ، واحتجوا بهذه الآية الكريمة.
وقال (1) البخاري : حدثنا حبّان بن موسى ، حدثنا عبد الله - هو ابن المبارك -
أخبرنا عاصم الأحول ، عن مُعَاذة (2) عن عائشة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن نزلت هذه الآية : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ
مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ
فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ } ، فقلت لها : ما كنت تقولين ؟ فقالت : كنت أقول : إن كان
ذاك إليَّ فإني لا أريد يا رسول الله أن أؤثر عليك أحدا (3).
فهذا الحديث عنها يدل على أن المراد من (4) ذلك عدم وجوب القسم ، وحديثها الأول
يقتضي أن الآية نزلت في الواهبات ، ومن هاهنا اختار ابن جرير أن الآية عامة في
الواهبات وفي النساء اللاتي عنده ، أنه مخير فيهن إن شاء قسم وإن شاء لم يقسم.
وهذا الذي اختاره حسن جيد قوي ، وفيه جمع بين الأحاديث ؛ ولهذا قال تعالى : {
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا
آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } أي : إذا علمن أن الله قد وضع عنك (5) الحَرَج في القسم
، فإن شئت قسمت ، وإن شئت لم تقسم ، لا جناح عليك في أي ذلك فعلت ، ثم مع هذا أنت
تقسم لهن اختيارا منك لا أنه على سبيل الوجوب ، فرحن بذلك واستبشرن به وحملن جميلك
في ذلك ، واعترفن بمنتك (6) عليهن في قسمك لهن وتسويتك بينهن وإنصافك لهن وعدلك
فيهن.
وقوله : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } أي : من الميل إلى بعضهن دون
بعض ، مما لا يمكن دفعه ، كما قال (7) الإمام أحمد :
حدثنا يزيد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن أبي قِلابة ، عن عبد الله بن يزيد
، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ، ثم
يقول : "اللهم هذا فعلي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك".
__________
(1) في ت : "وروى".
(2) في أ : "معاذ".
(3) صحيح البخاري برقم (4789).
(4) في أ : "في".
(5) في أ : "عليك".
(6) في أ : "بأمانتك".
(7) في ت : "كما روى".
(6/446)
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
ورواه أهل
السنن الأربعة ، من حديث حماد بن سلمة - (1) وزاد أبو داود بعد قوله : فلا تلمني
(2) فيما تملك ولا أملك : يعني القلب. وإسناده صحيح ، ورجاله كلهم ثقات. ولهذا عقب
ذلك بقوله : { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا } أي : بضمائر السرائر ، { حَلِيمًا } أي
: يحلم ويغفر.
{ لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ
أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ
اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) }.
ذكر غير واحد من العلماء - كابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وابن زيد ،
وابن جرير ، وغيرهم - أن هذه الآية نزلت مجازاة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم
ورضًا عنهن ، على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة ، لما خيرهن
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما تقدم في الآية. فلما اخترن رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، كان جزاؤهن أن [الله] (3) قَصَره عليهن ، وحرم عليه أن يتزوج بغيرهن ،
أو يستبدل بهن أزواجا غيرهن ، ولو أعجبه حسنهن إلا الإماء والسراري فلا حجر عليه
فيهن. ثم إنه تعالى رفع عنه الحجر (4) في ذلك ونسخ حكم هذه الآية ، وأباح له
التزوج (5) ، ولكن لم يقع منه بعد ذلك تَزَوّج لتكون المنة للرسول (6) صلى الله
عليه وسلم عليهن.
قال (7) الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن عائشة ، رضي الله
عنها ، قالت : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له النساء (8).
ورواه أيضا من حديث ابن جُرَيْج ، عن عَطاء ، عن عبيد بن عمير (9) ، عن عائشة.
ورواه الترمذي والنسائي في سننيهما (10).
وقال (11) ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الملك بن
شيبة ، حدثني عمر بن أبي بكر ، حدثني المغيرة بن عبد الرحمن الحزامي (12) ، عن أبي
النضر مولى عمر بن عبيد الله (13) ، عن عبد الله بن وهب بن زَمْعَة ، عن أم سلمة
أنها قالت : لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلَّ الله له أن يتزوج من
النساء ما شاء ، إلا ذات محرم ، وذلك قول الله ، عز وجل : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ
مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ }.
فجعلت هذه ناسخة للتي بعدها في التلاوة ، كآيتي عدة الوفاة في البقرة ، الأولى
ناسخة للتي بعدها ، والله (14) أعلم.
__________
(1) المسند (6/144) وسنن أبي داود برقم (2134) وسنن الترمذي برقم (1140) وسنن
النسائي (7/63) وسنن ابن ماجه برقم (1971).
(2) في أ : "فلا تملني".
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) في ت : "الحرج".
(5) في أ : "التزويج".
(6) في ف : "لرسول الله".
(7) في ت : "روى".
(8) المسند (6/41).
(9) في أ : "عن عمير بن عبيد".
(10) المسند (6/180) وسنن الترمذي برقم (3216) وسنن النسائي (6/56).
(11) في ت : "وروى".
(12) في أ : "الخزاعي".
(13) في أ : "عبد الله".
(14) في ت : "فالله".
(6/447)
وقال آخرون
: بل معنى الآية : { لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } أي : من بعد ما
ذكرنا لك من صفة النساء اللاتي أحللنا لك من نسائك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت
يمينك ، وبنات العم والعمات (1) والخال والخالات (2) والواهبة وما سوى ذلك من أصناف
النساء فلا يحل لك. هذا مرويّ عن أبي بن كعب ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ، والضحاك - في
رواية - وأبي رَزِين - في رواية عنه - وأبي صالح ، والحسن ، وقتادة - في رواية -
والسدي ، وغيرهم.
قال ابن جرير : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن داود بن أبي هند ، حدثني محمد
بن أبي موسى ، عن زياد - رجل من الأنصار (3) - قال : قلت لأبي بن كعب : أرأيت لو
أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تُوُفين ، أما كان له أن يتزوج ؟ فقال : وما
يمنعه من ذلك ؟ قال : قلت : قوله : { لا يَحِلُّ (4) لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ
}. فقال : إنما أحل الله له ضربا من النساء ، فقال : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } إلى قوله : { إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا
لِلنَّبِيِّ } ثم قيل له : { لا يَحِلُّ (5) لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ }.
ورواه عبد الله بن أحمد من طرق ، عن داود ، به (6). وروى الترمذي ، عن ابن عباس ،
رضي الله عنهما ، قال : نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء ، إلا
ما كان من المؤمنات المهاجرات بقوله : { لا يَحِلُّ (7) لَكَ النِّسَاءُ مِنْ
بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ
إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } ، فأحل الله فتياتكم المؤمنات { وَامْرَأَةً
مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } ، وحرم كل ذات دين غير الإسلام
، ثم قال : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي
الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } و قال { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا
أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ
يَمِينُكَ } (8) إلى قوله : { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } ، وحرم
ما سوى ذلك من أصناف النساء (9).
وقال مجاهد : { لا يَحِلُّ (10) لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } أي : من بعد ما سمى
لك ، لا (11) مسلمة ولا يهودية ولا نصرانية ولا كافرة.
وقال أبو صالح : { لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } (12) : أمر ألا يتزوج
أعرابية ولا غربية (13) ، ويتزوج بعد من نساء تهامة ، وما شاء من بنات العم والعمة
، والخال والخالة ، إن شاء ثلاثمائة.
وقال عكرمة : { لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } (14) أي : التي سمى
الله.
__________
(1) في ت : "وبنات العمات".
(2) في أ : "الخالة".
(3) في ت : "فروى ابن جرير بإسناده عن رجل من الأنصار".
(4) في ت ، أ : "لا تحل".
(5) في ت ، أ : "لا تحل".
(6) تفسير الطبري (22/21) وزوائد المسند (5/132).
(7) في أ : "لا تحل".
(8) بعدها في أ : "مما أفاء الله عليك".
(9) سنن الترمذي برقم (3215) وقال : "هذا حديث حسن إنما نعرفه من حديث عبد
الحميد بن بهرام ، قال : سمعت أحمد بن الحسن يقول : قال أحمد بن حنبل : لا بأس
بحديث عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب".
(10) في أ : "لا تحل".
(11) في أ : "من".
(12) في أ : "لا تحل".
(13) في أ : "عربية".
(14) في أ : "لا يحل".
(6/448)
واختار ابن
جرير ، رحمه الله ، أن الآية عامة فيمن ذكر من أصناف النساء ، وفي النساء اللواتي
في عصمته وكن تسعا. وهذا الذي قاله جيد ، ولعله مراد كثير ممن حكينا عنه من السلف
؛ فإن كثيرا منهم روي عنه هذا وهذا ، ولا منافاة ، والله أعلم.
ثم أورد ابن جرير على نفسه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم
راجعها ، وعزم على فراق سودة حتى وهبته يومها لعائشة ، ثم أجاب بأن هذا كان قبل
نزول قوله : { لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ
بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } ، وهذا الذي قاله من أن
هذا كان قبل نزول الآية صحيح ، ولكن لا يحتاج إلى ذلك ؛ فإن الآية إنما دلت على
أنه لا يتزوج بمن عدا اللواتي في عصمته ، وأنه لا يستبدل بهن غيرهن ، ولا يدل ذلك
على أنه لا يطلق واحدة منهن من غير استبدال ، والله أعلم.
فأما قَضية سَوْدَة ففي الصحيح عن عائشة ، رضي الله عنها ، وهي سبب نزول قوله
تعالى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا [ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ (1)
] } الآية [النساء : 128] (2).
وأما قضية (3) حفصة فروى أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه ، من طرق
عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن صالح بن صالح بن حي (4) عن سلمة أن بن كُهَيْل
، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق
حفصة ثم راجعها. وهذا إسناد (5) قوي (6).
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا يونس بن بُكَيْر ، عن الأعمش ،
عن أبي صالح (7) ، عن ابن عمر قال : دخل عمر على حفصة وهي تبكي ، فقال : ما يبكيك
؟ لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقك ؟ إنه قد كان طلقك مرة ثم راجعك من أجلي
؛ والله لئن كان طلقك مرة أخرى لا أكلمك أبدا. ورجاله على شرط الصحيحين (8).
وقوله : { وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ
حُسْنُهُنَّ } ، فنهاه عن الزيادة عليهن ، أو طلاق واحدة منهن واستبدال غيرها بها
إلا ما ملكت يمينه (9).
وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثا مناسبا ذكَرُه هاهنا ، فقال :
حدثنا إبراهيم بن نصر ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن
إسحاق بن عبد الله (10) القرَشي ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يَسَار (11) عن أبي
هُرَيرة ، رضي الله عنه ،
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) انظر تخريج هذا الحديث عند تفسير الآية : 128 من سورة النساء.
(3) في ت : "قصة".
(4) في أ : "يحيى"
(5) في ت : "إسناده".
(6) سنن أبي داود برقم (2283) وسنن النسائي (6/213) وسنن ابن ماجه برقم (2016).
(7) في ت : "وروى الإمام الحافظ أبو يعلى بسنده".
(8) مسند أبي يعلى (1/160).
(9) في أ : "يمينك".
(10) في أ : "عبيد الله".
(11) في ت : "وروى البزار بإسناده".
(6/449)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)
قال : كان
البَدلُ في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل : بادلني امرأتك وأبادلُك بامرأتي : أي :
تنزل لي عن امرأتك ، وأنزل لك عن امرأتي. فأنزل الله : { وَلا أَنْ تَبَدَّلَ
بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } قال : فدخل عيينة بن حصن
(1) على النبي صلى الله عليه وسلم ، وعنده عائشة ، فدخل بغير إذن ، فقال له رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "فأين الاستئذان ؟" فقال يا رسول الله ، ما
استأذنت على رجل من مُضَر منذ أدركت. ثم قال : من هذه الحُمَيْراء إلى جنبك ؟ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هذه عائشة أم المؤمنين". قال : أفلا
أنزل لك عن أحسن الخلق (2) ؟ قال : "يا عيينة إن الله قد حرم ذلك". فلما
أن خرج قالت عائشة : مَنْ هذا ؟ قال : هذا أحمق مطاع ، وإنه على ما ترين لسيد
قومه".
ثم قال البزار إسحاق (3) بن عبد الله : لين الحديث جدا ، وإنما ذكرناه لأنا لم
نحفظه إلا من هذا الوجه ، وبينا العلة فيه (4).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ
يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا
دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ
لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ
وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا
فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ
وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ
تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ
اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ
كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) }.
هذه آية الحجاب ، وفيها أحكام وآداب شرعية ، وهي مما وافق تنزيلها قول (5) عمر بن
الخطاب ، رضي الله عنه ، كما ثبت ذلك في الصحيحين عنه أنه قال : وافقت ربي في ثلاث
، فقلت : يا رسول الله ، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ؟ فأنزل الله : {
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [البقرة : 125]. وقلت : يا
رسول الله ، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر ، فلو حجبتهن ؟ فأنزل الله آية
الحجاب. وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما تمالأن عليه في الغيرة : {
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ }
[التحريم : 5] ، فنزلت كذلك (6).
وفي رواية لمسلم ذكر أسارى بدر ، وهي قضية رابعة.
وقد قال (7) البخاري : حدثنا مُسَدَّد ، عن يحيى ، عن حُمَيْد ، أن أنس بن مالك
قال : قال عمر بن
__________
(1) في أ : "عيينة الفزاري".
(2) في ت : "قال انزل لي عنها وأنا أنزل لك عن أحسن الخلق". وفي أ :
"قال أنزل لك عن أحسن الخلق".
(3) في ت : "ثم قال البزار : في إسناده إسحاق".
(4) مسند البزار برقم (2251) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع
(7/92) : "وفيه إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة وهو متروك".
(5) في ت : "لقول".
(6) صحيح البخاري برقم (402).
(7) في ت : "وروى".
(6/450)
الخطاب : يا
رسول الله ، يدخل عليك البر والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ؟ فأنزل
الله آية الحجاب (1).
وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ، التي
تولى الله تعالى تزويجها بنفسه ، وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة ، في قول
قتادة والواقدي وغيرهما.
وزعم أبو عُبَيدة معمر بن المثنى ، وخليفة بن خياط : أن ذلك كان في سنة ثلاث ،
فالله أعلم.
قال (2) البخاري : حدثنا محمد بن عبد الله الرَّقاشي ، حدثنا مُعْتَمر بن سليمان ،
سمعت أبي ، حدثنا أبو مِجْلَز ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : لما تزوج
رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش ، دعا القوم فَطَعموا ثم جلسوا يتحدثون
، فإذا هو [كأنه] (3) يتهيأ (4) للقيام فلم يقوموا. فلما رأى ذلك قام ، فلما قام
[قام] (5) مَنْ قام ، وقعد ثلاثة نفر. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل ، فإذا
القوم جلوس ، ثم إنهم قاموا فانطلقت ، فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم
قد انطلقوا. فجاء حتى دخل ، فذهبت أدخل ، فألقي [الحجاب] (6) بيني وبينه ، فأنزل
الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ }
الآية.
وقد رواه أيضا في موضع آخر ، ومسلم والنسائي ، من طرق ، عن معتمر بن سليمان ، به
(7). ثم رواه البخاري منفردا به من حديث أيوب ، عن أبي قِلابة ، عن أنس بن مالك ،
رضي الله عنه ، [بنحوه (8). ثم قال (9) : حدثنا أبو معمر ، حدثنا عبد الوارث ،
حدثنا عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس بن مالك] (10) قال : بُني [على] (11) النبي صلى
الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم ، فأرسلْتُ على الطعام داعيا ، فيجيء قوم
فيأكلون ويخرجون ، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون. فدعوتُ حتى ما أجد أحدا أدعوه ،
فقلت : يا نبي الله ، ما أجد أحدا أدعوه. قال : "ارفعوا طعامكم" ، وبقي
ثلاثة رهط يتحدثون في البيت ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة
عائشة ، فقال : "السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته". قالت :
وعليك السلام ورحمة الله ، كيف وجدت أهلك ، بارك الله لك ؟ فَتَقَرّى حجر نسائه
كُلّهن ، يقول لهن كما يقول لعائشة ، ويقلن له كما قالت عائشة. ثم رجع رسول الله
(12) صلى الله عليه وسلم فإذا رهط ثلاثة [في البيت] (13) يتحدثون. وكان النبي صلى
الله عليه وسلم شديد الحياء ، فخرج منطلقا نحو حُجْرة عائشة ، فما أدري أخبرتُه أم
أخبر أن القوم خَرَجُوا ؟ فرجع حتى إذا وضع رجله في أُسْكُفة الباب داخله ، وأخرى
خارجة ، أرْخَى الستر بيني وبينه ، وأنزلت آية الحجاب.
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2399).
(2) في ت : "وروى".
(3) زيادة من ت ، ف ، أ ، والبخاري.
(4) في ت : "تهيأ".
(5) زيادة من ت ، ف ، أ ، والبخاري.
(6) زيادة من ت ، ف ، أ ، والبخاري.
(7) صحيح البخاري برقم (4791) وبرقم (6239 ، 6271) وصحيح مسلم برقم (1428)
والنسائي في السنن الكبرى برقم (11420).
(8) صحيح البخاري برقم (4792).
(9) في ت : "قال البخاري".
(10) زيادة من ت ، ف ، أ.
(11) زيادة من ت ، ف ، والبخاري ، وفي أ : "بنى الله على النبي".
(12) في ت : "النبي".
(13) زيادة من ت ، ف ، أ ، والبخاري.
(6/451)
انفرد به
البخاري من بين أصحاب الكتب [الستة] (1) ، سوى النسائي في اليوم والليلة ، من حديث
عبد الوارث (2).
ثم رواه عن إسحاق - هو ابن منصور - عن عبد الله بن بكر (3) السهمي ، عن حُمَيد ،
عن أنس ، بنحو ذلك (4) ، وقال : "رجلان" انفرد به من هذا الوجه. وقد
تقدم في أفراد مسلم من حديث سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس.
وقال ابن أبي حاتم (5) : حدثنا أبي ، حدثنا أبو المظفر ، حدثنا جعفر بن سليمان ،
عن الجعد - أبي عثمان اليَشْكُرِي - عن أنس بن مالك قال : أعرس رسول الله صلى الله
عليه وسلم ببعض نسائه ، فصنعت أم سليم حيسا ثم وضعته (6) في تَوْر ، فقالت : اذهب
بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقرئه مني السلام ، وأخبره أن هذا منا
له قليل - قال أنس : والناس يومئذ في جَهد - فجئت به فقلت : يا رسول الله ، بعثت
بهذا أم سُلَيم إليك ، وهي تقرئك السلام ، وتقول : أخبره أن هذا منا له قليل ،
فنظر إليه ثم قال : "ضعه" فوَضَعته في ناحية البيت ، ثم قال :
"اذهب فادع لي فلانا وفلانا". وسمى رجالا كثيرا ، وقال : "ومَنْ
لقيتَ من [المسلمين". فدعوتُ مَنْ قال لي ، ومَنْ لقيت من] (7) المسلمين ،
فجئت والبيت والصُّفَّة والحجرة مَلأى من الناس - فقلت : يا أبا عثمان ، كم كانوا
؟ فقال : كانوا زهاء ثلاثمائة - قال أنس : فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"جِئْ به". فجئتُ به إليه ، فوضع يده عليه ، ودعا وقال : "ما شاء
الله". ثم قال : "ليتَحَلَّق عَشَرة عَشَرة ، وليسموا (8) ، وليأكل كل
إنسان مما يليه". فجعلوا يسمون ويأكلون ، حتى أكلوا كلهم. فقال لي رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "ارفعه". قال : فجئتُ فأخذت التَّورَ فما أدري أهو
حين وضعت أكثر أم حين أخذت ؟ قال : وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول الله ، وزَوجُ
رسول الله صلى الله عليه وسلم التي دخل بها معهم مُولّية وجهها إلى الحائط ،
فأطالوا الحديث ، فشقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أشد الناس حياء -
ولو أعلموا (9) كان ذلك عليهم عزيزًا - فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج
فسلم على حُجَره وعلى نسائه ، فلما رأوه قد جاء ظنوا أنهم قد ثَقَّلوا عليه ،
ابتدروا الباب فخرجوا ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر ، ودخل
البيت وأنا في الحجرة ، فمكث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بيته يسيرا ، وأنزل
الله عليه القرآن ، فخرج وهو يقرأ هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ
نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ
فَانْتَشِرُوا } إلى قوله : { بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }. قال أنس : فقرأهن عَليّ
قبل الناس ، فأنا أحْدثُ الناس بهن عهدا.
__________
(1) زيادة من ت ، ف ، أ.
(2) صحيح البخاري برقم (4793) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10101).
(3) في أ : "بكير".
(4) صحيح البخاري برقم (4794).
(5) في ت : "روى مسلم والنسائي".
(6) في ت ، ف : "جعلت".
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) في ت ، ف ، أ : "ويسموا".
(9) في ت ، ف ، أ : "علموا".
(6/452)
وقد رواه
مسلم والترمذي والنسائي جميعا ، عن قتيبة ، عن جعفر بن سليمان ، به (1). وقال
الترمذي : حسن صحيح وعَلَّقه البخاري في كتاب النكاح فقال :
وقال إبراهيم بن طَهْمَان ، عن الجَعْد أبي عثمان ، عن أنس ، فذكر نحوه (2).
ورواه مسلم أيضا عن محمد بن رافع ، عن عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الجعد ، به
(3). وقد روى هذا الحديث عبد الله بن المبارك ، عن شَرِيك ، عن بيان بن بشر ، عن
أنس ، بنحوه.
وروى (4) البخاري والترمذي ، من طريقين آخرين ، عن بَيَان بن بشر الأحَمَسِي
الكوفي ، عن أنس ، بنحوه (5).
ورواه ابن أبي حاتم أيضا ، من حديث أبي نَضْرَة العبدي ، عن أنس بن مالك ، بنحوه
(6) ورواه ابن جرير من حديث عمرو بن سعيد ، ومن حديث الزهري ، عن أنس ، بنحو ذلك
(7).
وقال الإمام أحمد : حدثنا بَهْزُ وهاشم بن القاسم قالا حدثنا سليمان بن المغيرة ،
عن ثابت ، عن أنس قال : لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ليزيد "اذهب فاذكرها علي". قال : فانطلق زيد حتى أتاها ، قال : وهي
تُخَمِّر عجينها ، فلما رأيتُها عَظُمت في صدري... وذكر تمام الحديث ، كما قدمناه
عند قوله : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا } ، وزاد في آخره بعد قوله :
وَوَعَظ القوم بما وعظوا به. قال هاشم في حديثه : { لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ
النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ
وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا
مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي
مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ }.
وقد أخرجه مسلم والنسائي ، من حديث سليمان بن المغيرة (8) ، به (9).
وقال (10) ابن جرير : حدثني أحمد بن عبد الرحمن - ابن أخي ابن وهب - حدثني عمي عبد
الله بن وهب ، حدثني يونس عن الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : إن أزواج رسول
الله صلى الله عليه وسلم كُنّ يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع - وهو صعيد أفيح
- وكان عمر يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : احجب نساءك. فلم يكن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ليفعل ، فخرجت سودة بنت زمعة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم
، وكانت امرأة طويلة ، فناداها عمر بصوته الأعلى : قد عرفناك يا سودة. حرْصًا أن
(11) ينزل الحجاب ، قالت (12) : فأنزل الله الحجاب (13).
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1428) وسنن الترمذي برقم (3218) وسنن النسائي (6/136).
(2) صحيح البخاري برقم (5163).
(3) صحيح مسلم برقم (1428).
(4) في أ : "ورواه".
(5) صحيح البخاري برقم (5170) وسنن الترمذي برقم (3219).
(6) في أ : "بنحوه ولم يخرجوه".
(7) تفسير الطبري (22/27).
(8) في هـ ، أ : "جعفر بن سليمان" والتصويب من ت ، ف ، ومسلم.
(9) المسند (3/195) ، وصحيح مسلم برقم (1428) ، وسنن النسائي (6/79)".
(10) في ت : "وروى".
(11) في ف ، أ : "حرصا أن أن".
(12) في ت : "قال".
(13) تفسير الطبري (22/28).
(6/453)
هكذا وقع في
هذه الرواية. والمشهور أن هذا كان بعد نزول الحجاب ، كما رواه الإمام أحمد
والبخاري ومسلم ، من حديث هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ،
قالت : خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها ، وكانت امرأة جَسيمَةً لا تخفَى على
مَنْ يعرفها ، فرآها عمر بن الخطاب فقال : يا سودة ، أما والله ما تَخْفَين علينا
، فانظري كيف تخرجين ؟ قالت : فانكفأت راجعة ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في
بيتي ، وإنه ليتعشى ، وفي يده عَرْق ، فدخلت فقالت : يا رسول الله ، إني خرجت لبعض
حاجتي ، فقال لي عمر كذا وكذا. قالت : فأوحى الله إليه ، ثم رُفعَ عنه وإن العَرْق
في يده ، ما وضعه. فقال : "إنه قد أذنَ لكن أن تخرجن لحاجتكن". لفظ
البخاري (1).
فقوله : { لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ } : حَظَر على المؤمنين أن يدخلوا
منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذن ، كما كانوا قبل ذلك يصنعون في
بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام ، حتى غار الله لهذه الأمة ، فأمرهم بذلك ،
وذلك من إكرامه تعالى هذه الأمة ؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إياكم والدخول على النساء" (2).
ثم استثنى من ذلك فقال : { إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ
نَاظِرِينَ إِنَاهُ }.
قال مجاهد وقتادة وغيرهما : أي غير متحينين نضجه واستواءه ، أي : لا ترقبوا الطعام
حتى (3) إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول ، فإن هذا يكرهه الله ويذمه. وهذا دليل
على تحريم التطفيل ، وهو الذي تسميه العرب الضيفن ، وقد صنف الخطيب البغدادي في
ذلك كتابا في ذم الطفيليين. وذكر من أخبارهم أشياء يطول إيرادها.
ثم قال تعالى : { وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ
فَانْتَشِرُوا }. وفي صحيح مسلم عن ابن عمر ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "إذا دعا أحدكم أخاه فَلْيجب ، عُرسًا كان أو
غيره" (4). وأصله في الصحيحين وفي الصحيح أيضا ، عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "لو دُعيت إلى ذراع لأجبت ، ولو أهدي إليَّ كُرَاع لقبلت ، فإذا
فَرَغتم من الذي دُعيتم إليه فخففوا عن أهل المنزل ، وانتشروا في الأرض" (5)
؛ ولهذا قال : { وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } أي : كما وقع لأولئك النفر
الثلاثة الذين استرسل بهم الحديث ، ونسُوا أنفسهم ، حتى شَقّ ذلك على رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، كما قال [الله] (6) تعالى : { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي
النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ } (7).
وقيل : المراد أن دخولكم منزله بغير إذنه (8) كان يشق عليه ويتأذى به ، لكن كان
يكره أن ينهاهم عن ذلك من شدة حيائه ، عليه السلام ، حتى أنزل الله عليه النهي عن
ذلك ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ } أي : ولهذا نهاكم
عن ذلك وزجرَكم عنه.
__________
(1) المسند (6/56) وصحيح البخاري برقم (4795) وصحيح مسلم برقم (2170).
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (5232) ومسلم في صحيحه برقم (2172) من حديث عقبة
بن عامر ، رضي الله عنه.
(3) في أ : "الطعام إذا طبخ حتى".
(4) صحيح مسلم برقم (1429).
(5) في صحيح البخاري برقم (2568) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(6) زيادة من ف.
(7) بعدها في أ : "والله لا يستحيي من الحق".
(8) في أ : "إذن".
(6/454)
ثم قال
تعالى : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ
حِجَابٍ } أي : وكما نهيتكم عن الدخول عليهن ، كذلك لا تنظروا إليهن بالكلية ، ولو
كان لأحدكم (1) حاجة يريد تناولها منهن فلا ينظر إليهن ، ولا يسألهن حاجة إلا من
وراء حجاب.
وقال (2) ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن
مِسْعَر ، عن موسى بن أبي كثير ، عن مجاهد ، عن عائشة قالت : كنت آكل مع النبي (3)
صلى الله عليه وسلم حَيْسًا في قَعْب ، فمر عمر فدعاه ، فأصابت إصبعه إصبعي ، فقال
: حَسِّ (4) - أو : أوّه - لو أطاع فيكن ما رأتك (5) عين. فنزل الحجاب (6).
{ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } أي : هذا الذي أمرتكم به
وشرعته لكم من الحجاب أطهر وأطيب.
وقوله : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا
أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا
} : قال (7) ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن أبي حماد ، حدثنا
مهْرَان ، عن سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله
تعالى : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ } قال : نزلت في
رَجُل هَمّ أن يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم. قال رجل لسفيان : أهي
عائشة ؟ قال : قد ذكروا ذاك.
وكذا قال مقاتل بن حَيَّان ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وذكر بسنده عن السدي أن
الذي عزم على ذلك طلحة بن عبيد الله ، رضي الله عنه ، حتى نزل التنبيه على تحريم
ذلك ؛ ولهذا أجمع العلماء قاطبة على أن من توفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم
من أزواجه (8) أنه يحرم على غيره تزويجها من بعده ؛ لأنهن أزواجه في الدنيا
والآخرة وأمهات المؤمنين ، كما تقدم. واختلفوا فيمن دخل بها ثم طلقها في حياته (9)
هل يحل لغيره أن يتزوجها ؟ على قولين ، مأخذهما : هل دخلت هذه في عموم قوله : {
مِنْ بَعْدِهِ } أم لا ؟ فأما من تزوجها ثم طلقها قبل أن يدخل بها ، فما نعلم في
حلها لغيره - والحالة هذه - نزاعا ، والله أعلم.
وقال (10) ابن جرير : حدثني [محمد] (11) بن المثنى ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا
داود ، عن عامر ؛ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم مات وقد ملك قيلة بنت (12)
الأشعث - يعني : ابن قيس - فتزوجها عكرمة بن أبي جهل بعد ذلك ، فشق ذلك على أبي
بكر مشقة شديدة ، فقال له عمر : يا خليفة رسول الله ، إنها ليست من نسائه ، إنها
لم يُخَيّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يحجبها ، وقد برأها الله منه
بالردة التي ارتدت
__________
(1) في ت : "لأحدهم".
(2) في ت : "وروى".
(3) في ت : "رسول الله".
(4) في هـ : "خير" وفي ت ، ف ، أ : "حسن" والمثبت من النهاية
لابن الأثير 1/385.
(5) في ت ، أ : "ما رأتكن".
(6) ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (11419) من طريق زكريا بن يحيى عن ابن أبي
عمر ، به.
(7) في ت : "روى".
(8) في ف ، أ : "زوجاته".
(9) في ت : "حياتها".
(10) في ت : "وروى".
(11) زيادة من ف ، أ ، والطبري.
(12) في أ : "قتيلة ابنة".
(6/455)
مع قومها. قال
: فاطمأن أبو بكر ، رضي الله عنهما (1) وسكن (2).
وقد عظم الله تبارك وتعالى ذلك ، وشدد فيه وتوعد عليه بقوله : { إِنَّ ذَلِكُمْ
كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا } ، ثم قال : { إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ
تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } أي : مهما تكنه
ضمائركم وتنطوي عليه سرائركم ، فإن الله (3) يعلمه ؛ فإنه لا تخفى (4) عليه خافية
، { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } [غافر : 19].
__________
(1) في ت ، ف : "عنه".
(2) تفسير الطبري (22/29).
(3) في ف : "فإنه".
(4) في ت ، ف : "لا يخفى".
(6/456)
لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
{ لا
جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ
وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ
وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) }.
لما أمر تعالى النساء بالحجاب من الأجانب ، بيَّن أن هؤلاء الأقارب لا يجب
الاحتجاب منهم ، كما استثناهم في سورة النور ، عند قوله : { وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ
أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ
بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ } إلى آخرها ،
[النور : 31] ، وفيها زيادات على هذه. وقد تقدم تفسيرها والكلام عليها بما أغنى عن
إعادته. وقد سأل بعض السلف فقال : لِم لَمْ يذكر العم والخال في هاتين الآيتين ؟
فأجاب عكرمة والشعبي : بأنهما لم يذكرا ؛ لأنهما قد يصفان ذلك لبنيهما. قال ابن
جرير : حدثني محمد بن المثنى ، حدثنا حجاج بن مِنْهال ، حدثنا حماد ، حدثنا داود ،
عن الشعبي وعكرمة في قوله : { لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا
أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ
أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } قلت : ما
شأن العم والخال لم يذكرا ؟ قالا هما (1) ينعتانها لأبنائهما. وكرها أن تضع خمارها
عند خالها وعمها.
وقوله : { وَلا نِسَائِهِنَّ } : يعني بذلك : عَدَم الاحتجاب من النساء المؤمنات.
وقوله : { وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } يعني به : أرقاءَهن من الذكور
والإناث ، كما تقدم التنبيه عليه ، وإيراد الحديث فيه (2).
قال سعيد بن المسيب : إنما يعني به : الإماء فقط. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله : { وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا }
أي : واخشينه في الخلوة والعلانية ، فإنه شهيد على كل شيء ، لا تخفى عليه خافية ،
فراقبن الرقيب.
__________
(1) في أ : "لأنهما".
(2) تقديم تخريج الحديث عند تفسير الآية : 31 من سورة النور.
(6/456)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
{ إِنَّ
اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) }
قال البخاري : قال أبو العالية : صلاة الله : ثناؤه عليه عند الملائكة ، وصلاة
الملائكة : الدعاء. وقال ابن عباس : يصلون : يبرِّكون. هكذا علقه البخاري عنهما
(1).
وقد رواه أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية كذلك. وروي مثله عن
الربيع أيضا. وروى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس كما قاله سواء ، رواهما ابن أبي
حاتم.
وقال أبو عيسى الترمذي : وروي عن سفيان الثوري وغير واحد من أهل العلم قالوا :
صلاة الرب : الرحمة ، وصلاة الملائكة : الاستغفار.
ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو الأوْديّ ، حدثنا وَكِيع ، عن الأعمش ، عن عمرو
بن مرة ، قال الأعمش عن عطاء (2) بن أبي رباح { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } قال : صلاته تبارك وتعالى : سُبّوح قدوس ، سبقت
رحمتي غضبي.
والمقصود من هذه الآية : أن الله سبحانه أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في
الملأ الأعلى ، بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين ، وأن الملائكة تصلي عليه.
ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه ، ليجتمع الثناء عليه من
أهل العالمين العلوي والسفلي جميعا.
وقد قال (3) ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ،
حدثني أبي ، عن أبيه ، عن أشعث بن إسحاق ، عن جعفر - يعني : ابن المغيرة - عن سعيد
بن جبير ، عن ابن عباس : أن بني إسرائيل قالوا لموسى عليه السلام : هل يصلي ربك ؟
فناداه ربه : يا موسى ، سألوك : "هل يصلي ربك ؟" فقل : نعم ، إنما أصلي
أنا وملائكتي على أنبيائي ورسلي. فأنزل الله عز وجل ، على نبيه صلى الله عليه وسلم
: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }.
وقد أخبر أنه سبحانه وتعالى (4) ، يصلي على عباده المؤمنين في قوله تعالى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ
بُكْرَةً وَأَصِيلا. هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ
لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ
رَحِيمًا } [الأحزاب : 41 - 43]. وقال تعالى : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (5).
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [البقرة : 155 - 157]. وفي الحديث : "إن
الله وملائكته يصلون على ميامِن الصفوف". وفي
__________
(1) صحيح البخاري (8/532) "فتح".
(2) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بسنده عن عطاء".
(3) في ت : "وقد روى".
(4) في ت : "وقد أخبر الله تعالى" وفي ف : "وقد أخبر أنه سبحانه
بأنه".
(5) في ت : "المؤمنين " وهو خطأ.
(6/457)
الحديث
الآخر : "اللهم ، صل على آل أبي أوفى". وقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم لامرأة جابر - وقد سألته أن يصلي عليها وعلى زوجها - "صلى الله عليك ،
وعلى زوجك (1) (2).
وقد جاءت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بالصلاة عليه
، وكيفية الصلاة عليه ، ونحن نذكر منها إن شاء الله تعالى ما تيسر ، والله
المستعان.
قال البخاري - عند تفسير هذه الآية (3) - : حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد ، حدثنا
أبي ، عن مِسْعَر ، عن الحكم ، عن ابن أبي ليلى ، عن كعب بن عُجْرَة قال : قيل :
يا رسول الله ، أما السلام عليك فَقد عرفناه ، فكيف الصلاة ؟ فقال : "قولوا :
اللهم ، صل على محمد ، وعلى آل محمد ، [كما صليت على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد.
اللهم ، بارك على محمد وعلى آل محمد] (4) كما باركت على آل إبراهيم ، إنك حميد
مجيد" (5).
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة (6) ، عن الحكم قال : سمعت
ابن أبي ليلى قال : لقيني كعب بن عُجْرَةَ فقال : ألا أهدي لك هدية ؟ خرج علينا
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : يا رسول الله ، قد علمنا - أو : عرفنا - كيف
السلام (7) ، عليك ، فكيف الصلاة ؟ قال : "قولوا : اللهم ، صل على محمد وعلى
آل محمد ، كما صليت على [آل] (8) إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم ، بارك على محمد
وعلى آل محمد ، كما باركت على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد".
وهذا الحديث قد أخرجه الجماعة في كتبهم ، من طرق متعددة ، عن الحكم - وهو ابن عتبة
(9) زاد البخاري : وعبد الله بن عيسى ، كلاهما عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، فذكره
(10).
وقال ابن أبي حاتم (11) : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا هُشَيْم بن بُشَير ، عن
يزيد بن أبي زياد ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عُجْرَة قال : لما
نزلت : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }. قال : قلنا : يا
رسول الله ، قد علمنا السلام (12) فكيف الصلاة عليك ؟ قال : "قولوا : اللهم
صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد
مجيد. وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما
__________
(1) في ف ، أ : "وعلى آل زوجك".
(2) رواه أحمد في مسنده (3/398) وابن حبان في صحيحه برقم (1951) "موارد"
من طريق الأسود بن قيس عن نبيح العنزي عن جابر رضي الله عنه.
(3) في ت : "روى البخاري في صحيحه".
(4) زيادة من ت ، ف ، والبخاري.
(5) صحيح البخاري برقم (4797).
(6) في ت : "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(7) في أ : "نسلم".
(8) زيادة من ت ، ف ، والمسند.
(9) في أ : "عيينة".
(10) المسند (4/241) وصحيح البخاري برقم (3370) وبرقم (6357) وبرقم (4797) وصحيح
مسلم برقم (406) وسنن أبي داود برقم (976) وسنن الترمذي برقم (483) وسنن النسائي
(3/47) وسنن ابن ماجه برقم (904).
(11) في أ : "وقال البخاري".
(12) في ت ، ف ، أ : "السلام عليك".
(6/458)
باركت على
إبراهيم وعلى آل إبراهيم. إنك حميد مجيد". وكان عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول
: وعلينا معهم.
ورواه الترمذي بهذه الزيادة (1).
ومعنى قولهم : "أما السلام عليك فقد عرفناه" : هو الذي في التشهد الذي
كان يعلمهم إياه ، كما كان يعلمهم السورة من القرآن ، وفيه : "السلام عليك
أيها النبي ورحمة الله وبركاته".
حديث آخر : قال (2) البخاري : حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا الليث ، عن ابن (3)
الهاد ، عن عبد الله بن خباب ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : قلنا :
يا رسول الله ، هذا السلام (4) فكيف نصلي عليك : قال : "قولوا : اللهم صل على
محمد عبدك ورسولك ، كما صليت على آل إبراهيم. وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما
باركت على آل إبراهيم". [وفي رواية] (5) : قال أبو صالح ، عن الليث :
"على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على آل إبراهيم".
حدثنا إبراهيم بن حمزة ، حدثنا ابن أبى حازم والدّرَاوَرْدي ، عن يزيد - يعني :
ابن الهاد - قال : "كما صليت على إبراهيم ، وبارك على محمد وآل محمد ، كما
باركت على إبراهيم وآل إبراهيم".
وأخرجه النسائي وابن ماجة ، من حديث ابن الهاد ، به (6).
حديث آخر : قال (7) الإمام أحمد : قرأت على عبد الرحمن : مالك ، عن عبد الله بن
أبي بكر ، عن أبيه ، عن عمرو بن سُلَيم أنه قال : أخبرني أبو حميد الساعدي أنهم
قالوا : يا رسول الله ، كيف نصلي عليك ؟ قال : "قولوا : اللهم" صل على
محمد وأزواجه وذريته ، كما صليت على [آل] (8) إبراهيم ، وبارك على محمد وأزواجه
وذريته ، كما باركت على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد".
وقد أخرجه بقية الجماعة ، سوى الترمذي ، من حديث مالك ، به (9).
حديث آخر : قال مسلم : حدثنا يحيى التميمي قال : قرأت على مالك ، عن نُعَيم بن عبد
الله المُجمَّر ، أخبرني محمد بن عبد الله بن زيد الأنصاري - قال : وعبد الله بن
زيد هو الذي كان أُرِيَ النداء بالصلاة - أخبره عن أبي مسعود الأنصاري - قال :
أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونحن في مجلس سعد بن عُبَادة ، فقال له
بَشير بن سعد : أمرنا الله أن نصلي عليك [يا رسول الله] ، (10) فكيف نصلي عليك ؟
قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله ، ثم قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "قولوا : اللهم صل على محمد ، وعلى آل محمد ، كما
صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على آل إبراهيم في
العالمين ، إنك حميد مجيد ، والسلام كما قد عَلِمْتُمْ".
وقد رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي من حديث مالك ، به (11). وقال الترمذي :
حسن
__________
(1) سنن الترمذي برقم (483) وقال : "حديث حسن صحيح".
(2) في ت : "روى".
(3) في أ : "أبي".
(4) في أ : "هذا السلام عليك".
(5) زيادة من ت.
(6) صحيح البخاري برقم (4798).
(7) في ت : "وروى".
(8) زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
(9) المسند (5/424) وصحيح البخاري برقم (3369) وصحيح مسلم برقم (407) وسنن أبي
داود برقم (979) وسنن النسائي (3/49) وسنن ابن ماجه برقم (905).
(10) زيادة من ت ، ف ، أ ، ومسلم.
(11) صحيح مسلم برقم (405) وسنن أبي داود برقم (980) وسنن الترمذي برقم (3220)
وسنن النسائي (3/45).
(6/459)
صحيح.
وروى الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن خُزَيمة ، وابن حبّان ، والحاكم
في مستدركه ، من حديث محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن محمد بن عبد
الله بن زيد بن عبد ربه ، عن أبي مسعود البدري أنهم قالوا : يا رسول الله ، أما
السلام فقد عرفناه ، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا ؟ فقال : "قولوا
: اللهم ، صَل على محمد وعلى آل محمد..." وذكره (1).
ورواه الشافعي ، رحمه الله ، في مسنده ، عن أبي هريرة ، بمثله (2). ومن هاهنا ذهب
الشافعي ، رحمه الله ، إلى أنه يجب على المصلي أن يصلي على رسول الله صلى الله
عليه وسلم في التشهد الأخير ، فإن تركه لم تصح صلاته. وقد شَرَع بعض المتأخرين من
المالكية وغيرهم يُشنع على الإمام الشافعي في اشتراطه ذلك في الصلاة ، ويزعم أنه
قد تفرد بذلك ، وحكى الإجماع على خلافه أبو جعفر الطبري والطحاوي والخطابي وغيرهم
، فيما نقله القاضي عياض. وقد تَعَسّف القائل (3) في رده على الشافعي ، وتكلف في
دعواه الإجماع في ذلك ، [وقال ما لم يحط به علما] (4) ، فإنه قد روينا وجوب ذلك
والأمر بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة كما هو ظاهر الآية ،
ومفسر (5) بهذا الحديث عن جماعة من الصحابة ، منهم : ابن مسعود ، وأبو مسعود
البدري ، وجابر بن عبد الله ، ومن التابعين : الشعبي ، وأبو جعفر الباقر ، ومقاتل
بن حيان. وإليه ذهب الشافعي ، لا خلاف عنه في ذلك ولا بين (6) أصحابه أيضا ، وإليه
ذهب [الإمام] (7) أحمد أخيرا فيما حكاه عنه أبو زُرْعَة الدمشقي ، به. وبه قال
إسحاق بن راهويه ، والفقيه الإمام محمد بن إبراهيم المعروف بابن الموّاز المالكي ،
رحمهم الله ، حتى إن بعض أئمة الحنابلة أوجب أن يقال في الصلاة عليه صلى الله عليه
وسلم كما علمهم أن يقولوا لما سألوه ، وحتى إن بعض أصحابنا أوجب الصلاة على الآل
ممن (8) حكاه البَنْدَنيجِيّ ، وسُلَيم الرازي ، وصاحبه نصر بن إبراهيم المقدسي ،
ونقله إمام الحرمين وصاحبه الغزالي قولا عن الشافعي. والصحيح أنه وجه ، على أن
الجمهور على خلافه ، وحكوا الإجماع على خلافه ، وللقول بوجوبه ظواهر الحديث ،
والله أعلم.
والغَرَض أن الشافعي ، رحمه الله ، لقوله (9) بوجوب الصلاة على النبي صلى الله
عليه وسلم في الصلاة - سَلَفٌ وَخَلَفٌ (10) كما تقدم ، لله الحمد والمنة ، فلا
إجماع على خلافه في هذه المسألة لا قديما ولا حديثا ، والله أعلم.
ومما يؤيد ذلك : الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي - وصححه -
والنسائي وابن خزيمة ، وابن حبان في صحيحيهما ، من رواية حَيْوة بن شُرَيْح المصري
، عن أبي هانئ حميد بن
__________
(1) المسند (4/119) وسنن أبي داود برقم (981) والنسائي في السنن الكبرى برقم
(9877) والمستدرك (1/668) وقال الحاكم : "هذا حديث صحيح على شرط مسلم".
(2) مسند الشافعي برقم (268) "بدائع المنن" ورواه النسائي في السنن
الكبرى برقم (9875) من طريق داود بن قيس ، عن نعيم بن عبد الله ، عن أبي هريرة رضي
الله عنه.
(3) في أ : "تعسف هذا القائل".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ت : "ومشعر".
(6) في أ : "من".
(7) زيادة من ت ، ف ، أ.
(8) في ف : "فيما" وفي أ : "فيمن".
(9) في أ : "يقول".
(10) في أ : "سلفا وخلفا".
(6/460)
هانئ ، عن
عمرو بن مالك أبي علي الجَنْبي (1) ، عن فضالة بن عبيد ، رضي الله عنه ، قال : سمع
رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته ، لم يمجد الله ولم يصل على
النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "عَجل
هذا". ثم دعاه فقال له ولغيره : "إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله ، عز
وجل ، والثناء عليه ، ثم ليصل على النبي ثم ليدعُ [بعد] (2) بما شاء" (3).
وكذا الحديث الذي رواه ابن ماجه ، من رواية عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد
الساعدي ، عن أبيه ، عن جده ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا
صلاة لمن لا وضوء له ، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ، ولا صلاة لمن لم يصل
على النبي ، ولا صلاة لمن لم يحب الأنصار (4).
ولكن عبد المهيمن هذا متروك. وقد رواه الطبراني من رواية أخيه "أبي بن
عباس" ، ولكن في ذلك نظر (5). وإنما يعرف من رواية "عبد المهيمن" ،
والله أعلم.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا إسماعيل ، عن أبي داود
الأعمى ، عن بُرَيدة قال : قلنا : يا رسول الله ، قد علمنا كيف نسلم عليك ، فكيف
نصلي عليك ؟ قال : "قولوا : اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وعلى
آل محمد ، كما جعلتها على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد".
أبو داود الأعمى اسمه : نفيع بن الحارث ، متروك (6).
حديث آخر موقوف : رويناه من طريق سعيد بن منصور وزيد بن الحباب ويزيد بن هارون ،
ثلاثتهم عن نوح بن قيس : حدثنا سلامة الكندي : أن عليا ، رضي الله عنه ، كان يعلم
الناس هذا الدعاء : اللهم داحي المدْحُوَّات ، وبارئ المسموكات ، وَجَبَّار القلوب
على فطْرَتها شقيها وسعيدها. اجعل شرائف صلواتك ، ونوامي بركاتك ، ورأفة تحننك ،
على محمد عبدك ورسولك ، الخاتم لما سبق ، والفاتح لما أغلق ، والمعلن الحق بالحق ،
والدامغ جيشات الأباطيل ، كما حُمِّل فاضطلع بأمرك لطاعتك ، مستوفزا في مرضاتك ،
غير نَكل في قَدَم ، ولا وهن في عزم ، واعيا لوحيك ، حافظا لعهدك ، ماضيا على نفاذ
أمرك ، حتى أورى قبسا لقابس ، آلاء الله تصل بأهله أسبابه ، به هديت القلوب بعد
خوضات الفتن والإثم ، [وأقام] (7) مُوضحات الأعلام ، ومُنِيرات الإسلام ونائرات
الأحكام ، فهو أمينك المأمون ، وخازن علمك المخزون ، وشهيدك يوم الدين ، وبَعيثُك
نعمة ، ورسولك بالحق رحمة. اللهم افسح له مُفسحَات في عدلك ، واجزه مضاعفات الخير
من فضلك. مهنَّآت له غير مكدرات ، من فوز ثوابك المعلول ، وجزيل عطائك المجمول.
اللهم ، أعل على بناء البانين
__________
(1) في أ : "الحسيني".
(2) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(3) المسند (6/18) وسنن أبي داود برقم (1481) وسنن الترمذي برقم (3477) وسنن
النسائي (3/44).
(4) سنن ابن ماجه برقم (400) وقال البوصيري في الزوائد (1/167) "هذا إسناد
ضعيف لاتفاقهم على ضعف عبد المهيمن".
(5) المعجم الكبير للطبراني (6/121).
(6) المسند (5/353).
(7) زيادة من ت ، ف.
(6/461)
بنيانه (1)
وأكرم مثواه لديك ونزله. وأتمم (2) له نوره ، واجزه من ابتعاثك له مقبول الشهادة ،
مرضي المقالة ، ذا منطق عدل ، وخُطَّة فصل ، وحجة وبرهان عظيم (3).
هذا مشهور من كلام علي ، رضي الله عنه ، وقد تكلم عليه ابن قتيبة في مشكل الحديث ،
وكذا أبو الحسين أحمد بن فارس اللغوي في جزء جمعه في فضل الصلاة على النبي صلى
الله عليه وسلم ، إلا أن في إسناده نظرا.
قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي : سلامة (4) الكندي هذا ليس بمعروف ، ولم يدرك
عليا (5). كذا قال. وقد روى الحافظ أبو القاسم الطبراني هذا الأثر عن محمد بن علي
الصائغ ، عن سعيد بن منصور ، حدثنا نوح بن قيس ، عن سلامة الكندي قال : كان علي ،
رضي الله عنه ، يعلمنا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : "اللهم ،
داحي المَدْحُوّات" وذكره (6).
حديث آخر موقوف : قال ابن ماجه : [حدثنا الحُسَين بن بَيَان] (7) ، حدثنا زياد بن
عبد الله ، حدثنا المسعودي ، عن عون بن عبد الله ، عن أبي فَاخِتة ، عن الأسود بن
يزيد (8) ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : إذا صليتم على رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأحسنوا الصلاة عليه ؛ فإنكم لا تدرون لعل ذلك يُعْرَض عليه.
قال : فقالوا له : فَعَلّمنا. قال : قولوا : اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على
سيد المرسلين ، وإمام المتقين ، وخاتم النبيين ، محمد عبدك ورسولك ، إمام الخير
وقائد الخير ، ورسول الرحمة. اللهم ابعثه مقاما محمودا يَغْبِطُه به الأولون
والآخرون ، اللهم صل على محمد [وعلى آل محمد] (9) ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل
إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على
إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. (10)
وهذا موقوف ، وقد روى إسماعيل القاضي عن عبد الله بن عمرو - أو : عمر - على الشك
من الراوي قريبا من هذا (11).
حديث آخر : قال (12) قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا مالك بن إسماعيل ،
حدثنا أبو
__________
(1) في أ : "اللهم عَلِّ بناء الناس بناءه".
(2) في أ : "وأتم".
(3) رواه أبو نعيم في عوالي سعيد بن منصور برقم (18) فقال : حدثنا سليمان بن أحمد
، حدثنا مسعدة بن سعد ، حدثنا سعيد بن منصور فذكره ، ورواه الحنائي في الفوائد
(10/162/ب) - كما في حاشية العوالي - من طريق يزيد بن هارون ، به.
(4) في ف : "سلام".
(5) سلامة الكندي ذكره البخاري في التاريخ الكبير (4/195) وابن أبي حاتم في الجرح
والتعديل (4/300) وأشار ابن أبي حاتم إلى هذا الحديث وقال : "مرسل".
(6) المعجم الأوسط برقم (4653) "مجمع البحرين" لكن فيه : "حدثنا
مسعدة بن سعد ، حدثنا سعيد بن منصور" فلعل الحافظ نقله هنا من مسند العشرة.
(7) زيادة من ت ، ف ، وابن ماجه.
(8) في ت : "وروى ابن ماجه بإسناده".
(9) زيادة من ت ، ف ، وابن ماجه.
(10) سنن ابن ماجه برقم (906) وقال البوصيري في الزوائد (1/311) : "هذا إسناد
رجاله ثقات إلا أن المسعودي واسمه عبد الرحمن بن عتبة بن مسعود اختلط بآخره ، ولم
يتميز حديثه الأول بالآخر ، فاستحق الترك. قاله ابن حبان".
(11) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (62).
(12) في ت : "وروى".
(6/462)
إسرائيل ،
عن يونس بن خَبَّاب قال : خطبنا بفارس فقال : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ
وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } ، فقال : أنبأني من سمع ابن عباس يقول : هكذا أنزل.
فقلنا - أو : قالوا - يا رسول الله ، عَلمنا السلام عليك ، فكيف الصلاة عليك ؟
فقال : "اللهم ، صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وآل
إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، وارحم محمدا وآل محمد ، كما رحمت آل إبراهيم ، إنك حميد
مجيد ، [وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم ، إنك حميد مجيد]
(1) (2).
فيستدل بهذا الحديث من ذهب إلى جواز الترحم على النبي صلى الله عليه وسلم ، كما هو
قول الجمهور : ويعضده حديث الأعرابي الذي قال : اللهم ، ارحمني ومحمدا ، ولا ترحم
معنا أحدا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لقد حجرت (3) واسعا".
وحكى القاضي عياض عن جمهور المالكية منعه ، قال : وأجازه أبو محمد بن أبي زيد.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، أخبرنا شعبة ، عن عاصم بن عبيد
الله (4) قال : سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يحدث عن أبيه قال : سمعت النبي (5)
صلى الله عليه وسلم يقول : "مَنْ صلى علي صلاة لم تزل الملائكة تصلي عليه ما
صلى علي ، فَلْيُقِلَّ عبد من ذلك أو ليكثر".
ورواه ابن ماجه ، من حديث شعبة ، به (6).
حديث آخر : قال (7) الإمام أحمد : حدثنا أبو سلمة منصور بن سلمة الخزاعي ، ويونس -
هو ابن محمد - قالا حدثنا ليث ، عن يزيد بن الهاد ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن أبي
الحويرث ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن عبد الرحمن بن عوف قال : خرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم فاتبعته حتى دخل نخلا فسجد فأطال السجود ، حتى خفت - أو : خشيت
- أن يكون الله قد توفاه أو قبضه. قال : فجئت أنظر ، فرفع رأسه فقال : "ما لك
يا عبد الرحمن ؟" قال : فذكرت ذلك له فقال : "إن جبريل ، عليه السلام ،
قال لي : ألا أبشرك ؟ إن الله ، عز وجل ، يقول : مَنْ صلى عليك صليت عليه ، ومَنْ
سَلَّمَ عليك سلمتُ عليه" (8).
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا سليمان بن
بلال ، حدثنا عمرو بن أبي عمرو ، من عبد الواحد بن محمد بن عبد الرحمن بن عوف ، عن
عبد الرحمن بن عوف قال : خرج (9) رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوجه نحو صدقته ،
فدخل فاستقبل القبلة ، فخر ساجدا ، فأطال
__________
(1) زيادة من ت ، أ ، والطبري.
(2) تفسير الطبري (22/31).
(3) في أ : "تحجرت".
(4) في أ : "عبد الله".
(5) في ف : "رسول الله".
(6) المسند (3/445) وسنن ابن ماجه برقم (907).
(7) في ت : "وروى".
(8) المسند (1/191)
(9) في هـ : "قال" وفي ت ، ف ، أ : "قام" والمثبت من المسند.
(6/463)
السجود ،
حتى ظننت أن الله قد قبض نفسه فيها ، فدنوت منه ثم جلست ، فرفع رأسه فقال :
"مَنْ هذا ؟" فقلت : عبد الرحمن. قال : "ما شأنك ؟" قلت : يا
رسول الله ، سجدت سجدة خشيت أن [يكون] (1) الله ، عز وجل ، قبض نفسك فيها. فقال :
"إن جبريل أتاني فبشرني أن الله ، عز وجل ، يقول لك : من صلى عليك صليت عليه
، ومن سلم عليك سلمت عليه - فسجدتُ لله عز وجل ، شكرا" (2).
حديث آخر : قال (3) [الحافظ] (4) أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الرحيم
بن بَحير بن عبد الله بن معاوية بن بحير بن ريسان ، [حدثنا عمرو بن الربيع بن
طارقة] (5) ، حدثنا يحيى بن أيوب ، حدثنا عبد الله (6) بن عمر ، عن الحكم بن عتيبة
(7) ، عن إبراهيم النَّخَعي ، عن الأسود بن يزيد ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله
عنه ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة فلم يجد أحدا يتبعه ، ففزع
عمر ، فأتاه بِمطْهَرة من خلفه ، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم ساجدا في مَشربة
(8) ، فتنحّى عنه من خلفه حتى رفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه ، فقال :
"أحسنت يا عمر حين وجدتني ساجدا فتنحيت عني ، إن جبريل أتاني فقال : من صلى
عليك من أمتك واحدة ، صلى الله عليه عشر صلوات (9) ، ورفعه عشر درجات".
وقد اختار هذا الحديث الحافظ الضياء المقدسي في كتابه "المستخرج (10) على
الصحيحين" (11).
وقد رواه إسماعيل القاضي ، عن القعنبي ، عن سلمة بن وَرْدان ، عن أنس ، عن عمر
بنحوه (12).
ورواه أيضا عن يعقوب بن حميد ، عن أنس بن عياض ، عن سلمة بن وَرْدان ، عن مالك بن
أوس بن الحدثان ، عن عمر بن الخطاب ، بنحوه (13).
حديث آخر : قال (14) أبو عيسى الترمذي : حدثنا بُنْدَار ، حدثنا محمد بن خالد بن
عَثْمَةَ ، حدثني موسى بن يعقوب الزَّمْعِيّ ، حدثني عبد الله بن كَيْسَان ؛ أن
عبد الله بن شداد أخبره ، عن عبد الله بن مسعود ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : "أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة".
تفرد بروايته الترمذي ، رحمه الله ، ثم قال : هذا حديث حسن غريب (15).
حديث آخر : قال إسماعيل القاضي : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، عن يعقوب
بن زيد بن طلحة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتاني آت من ربي
فقال لي : ما من عبد يصلي عليك صلاة إلا
__________
(1) زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
(2) المسند (1/191).
(3) في ت : "وروى".
(4) زيادة من ت.
(5) زيادة من المعجم الصغير.
(6) في أ : "عبيد الله".
(7) في أ "عيينة".
(8) في أ : "مسرية".
(9) في ت ، ف : "عشرا".
(10) في ف ، أ : "المختارة".
(11) المعجم الصغير (2/89) والمختارة برقم (93). وقال الطبراني : "لم يروه عن
عبيد الله بن عمر إلا يحيى بن أيوب ، تفرد به عمرو بن الربيع".
(12) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (4).
(13) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (5).
(14) في ت : "وروى".
(15) سنن الترمذي برقم (484).
(6/464)
صلى الله
عليه بها عشرًا". فقام رجل (1) فقال : يا رسول الله ، ألا أجعل نصف دعائي لك
؟ قال : "إن شئت". قال : ألا أجعل ثلثي دعائي لك ؟ قال : "إن
شئت". قال : ألا أجعل دعائي لك كله ؟ قال : "إذن يكفيك الله هم الدينا
وهم الآخرة". فقال شيخ - كان بمكة ، يقال له : مَنِيع (2) - لسفيان : عمن
أسنده ؟ قال : لا أدري (3).
حديث آخر : قال إسماعيل القاضي : حدثنا سعيد بن سَلام العطار ، حدثنا سفيان - يعني
: الثوري - عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الطفيل بن أبي بن كعب ، عن أبيه قال
: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في جوف الليل فيقول : "جاءت الراجفة
، تتبعها الرادفة ، جاء الموت بما فيه". قال أبي : يا رسول الله ، إني أصلي
من الليل ، أفأجعل لك ثلث صلاتي ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"الشطر". قال : أفأجعل لك شطر صلاتي ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: "الثلثان". قال أفأجعل لك صلاتي كلها ؟ قال : "إذن يغفر الله
ذنبك كله" (4).
وقد رواه (5) الترمذي بنحوه فقال : حدثنا هَنّاد ، حدثنا قَبِيصة ، حدثنا سفيان ،
عن عبد الله بن محمد بن عَقِيل ، عن الطفيل بن أبي بن كعب ، عن أبيه قال : كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال : "يا أيها الناس
، اذكروا الله ، اذكروا الله ، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة ، جاء الموت بما فيه ،
جاء الموت بما فيه". قال أبي : قلت : يا رسول الله ، إني أكثر الصلاة عليك ،
فكم أجعل لك من صلاتي ؟ قال : "ما شئت". قلت : الربع ؟ قال : "ما
شئت ، فإن زدت فهو خير لك". قلت : فالنصف ؟ قال : "ما شئت ، فإن زدت فهو
خير لك". قلت : فالثلثين ؟ قال : "ما شئت ، فإن زدت فهو خير لك".
قلت : أجعل لك صلاتي كلها ؟ قال : "إذن تكفى همّك ، ويغفر لك ذنبك".
ثم قال : هذا حديث حسن (6).
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن محمد بن عَقِيل ،
عن الطفيل بن أبي ، عن أبيه قال : قال رجل : يا رسول الله ، أرأيت إن جعلتُ صلاتي
كلها عليك ؟ قال : "إذن يكفيك الله ما أهَمَّك من دنياك وآخرتك" (7).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو كامل ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن
سليمان مولى الحسن بن علي ، عن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أبيه ؛ أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم جاء ذات يوم ، والسرور يرى في وجهه ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا
لنرى السرور في وجهك. فقال : "إنه أتاني الملك فقال : يا محمد ، أما يرضيك أن
ربك ، عز وجل ، يقول : إنه لا يصلي عليك أحد من أمتك
__________
(1) في أ : "فقام إليه رجل".
(2) في أ : "سبع".
(3) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (13).
(4) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (14).
(5) في ت : "وروى".
(6) سنن الترمذي برقم (2457).
(7) المسند (5/136).
(6/465)
إلا صلَّيت
عليه عشرًا ، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشرا ؟ قال : بلى".
ورواه النسائي من حديث حماد بن سلمة ، به (1). وقد رواه إسماعيل القاضي ، عن
إسماعيل ابن أبي أويس ، عن أخيه ، عن سليمان بن بلال ، عن عبيد الله بن عمر ، عن
ثابت ، عن أبي طلحة ، بنحوه (2) ، (3).
طريق أخرى : قال [الإمام] (4) أحمد : حدثنا سُرَيْج (5) ، حدثنا أبو مَعْشَر ، عن
إسحاق بن كعب بن عُجْرَة ، عن أبي طلحة الأنصاري قال : أصبح رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوما طيب النفس ، يُرى في وجهه البشر ، قالوا : يا رسول الله ، أصبحت
اليوم طيب النفس ، يُرى في وجهك البشر ؟ قال : "أجل ، أتاني آتٍ من ربي ، عز
وجل ، فقال : مَنْ صلى عليك من أمتك صلاة ، كتب الله له بها عشر حسنات ، ومحا عنه
عشر سيئات ، ورفع له عشر درجات ، ورد عليه مثلها" (6).
وهذا أيضا إسناد جيد ، ولم يخرجوه.
حديث آخر : روى (7) مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ، من حديث إسماعيل بن جعفر ،
عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ؛ عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من صلى عَلَيّ واحدة ، صلى الله عليه بها
عشرا".
قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف ، وعامر بن
ربيعة ، وعمار ، وأبي طلحة ، وأنس ، وأبي بن كعب (8).
وقال (9) الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا شريك ، عن ليث ، عن كعب ، عن
أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "صلوا علي ؛ فإنها زكاة لكم.
وسلوا الله لي الوسيلة ؛ فإنها درجة في أعلى الجنة ، لا ينالها إلا رجل ، وأرجو أن
أكون أنا هو". تفرد به أحمد (10) ، وقد رواه البزار من طريق مجاهد ، عن أبى
هريرة ، بنحوه فقال : حدثنا محمد بن إسحاق البَكَّالي ، حدثنا عثمان بن سعيد ،
حدثنا داود بن عُلَيَّة ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "صلوا علي ؛ فإنها زكاة لكم ، وسلوا الله لي الدرجة
الوسيلة من الجنة" فسألناه - أو : أخبرنا - فقال : "هي درجة في أعلى
الجنة ، وهي لرجل ، وأنا أرجو أن أكون ذلك الرجل".
__________
(1) المسند (4/30) والنسائي في السنن الكبرى برقم (9888).
(2) في ف : "بمثله".
(3) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (1).
(4) زيادة من ف.
(5) في أ : "شريح".
(6) المسند (4/29).
(7) في ت : "وروى".
(8) صحيح مسلم برقم (408) وسنن أبي داود برقم (1530) وسنن الترمذي برقم (485) وسنن
النسائي (3/50).
(9) في ت : "وروى".
(10) المسند (2/365).
(6/466)
في إسناده
بعض من تُكُلِّم فيه (1).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لَهِيعة ، [عن عبد
الله بن هبيرة] (2) ، عن عبد الرحمن بن مريج الخولاني ، سمعت أبا قيس - مولى عمرو
بن العاص - سمعت عبد الله بن عمرو يقول : مَنْ صلى على رسول الله صلى الله عليه
وسلم صلاة ، صلى الله عليه وملائكته بها سبعين صلاة ، فَلْيُقِلَّ عبد من ذلك أو
ليكثر. وسمعت عبد الله بن عمرو يقول : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوما كالمودع فقال : "أنا محمد النبي الأمي - قاله ثلاث مرات - ولا نبي بعدي
، أوتيت فواتح الكلام (3) وخواتمه وجوامعه ، وعَلمتُ كم خزنة النار وحملة العرش ،
وتجوز بي ، عُوفيت وعوفيت أمتي ، فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم ، فإذا ذُهِب بي
فعليكم بكتاب الله ، أحلوا حلاله ، وحرموا حرامه" (4).
حديث آخر : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا أبو سَلَمة الخراساني ، حدثنا أبو إسحاق
، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من ذُكرت عنده فَلْيصلّ
علي ، ومَنْ صَلَّى علي مرة واحدة صلى الله عليه عشرا".
ورواه النسائي في "اليوم والليلة" ، من حديث أبي داود الطيالسي ، عن أبي
سلمة - وهو المغيرة بن مسلم الخراساني - عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السَّبِيعي
، عن أنس ، به (5).
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا يونس بن عمرو - يعني : يونس بن أبي
إسحاق - عن بُرَيد (6) بن أبي مريم ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "مَنْ صلى علي صلاة واحدة ، صلى الله عليه عشر صلوات ، وحطَّ عنه عشر
خطيئات" (7).
حديث آخر : قال (8) الإمام أحمد : حدثنا عبد الملك بن عمرو وأبو سعيد [قالا] (9) :
حدثنا سليمان بن بلال ، عن عمارة بن غَزِيَّة (10) ، عن عبد الله بن الحسين ، عن
أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"البخيل من ذُكرت عنده ، ثم لم يصل علي". وقال أبو سعيد : "فلم يصل
علي".
ورواه الترمذي من حديث سليمان بن بلال ، ثم قال : هذا حديث حسن غريب صحيح (11).
ومن الرواة مَنْ جعله من مسند "الحسين بن علي" ، ومنهم مَنْ جعله من
مسند "علي" نفسه.
__________
(1) مسند البزار برقم (363) "كشف الأستار" وقال الهيثمي : "فيه
داود بن علية ، ضعفه ابن معين والنسائي وغيرهما ووثقه ابن نمير ، وقال موسى بن
داود الضبي : ثنا ذؤاد بن علبة وأثنى عليه خيرا ، وقال ابن عدي : هو في جملة
الضعفاء ممن يكتب حديثه". كذا فيه ذؤاد بن علبة وهو الصواب. انظر : الكامل
(3/121) والتهذيب (3/221) والميزان (2/32).
(2) زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
(3) في ف ، أ : "الكلم".
(4) المسند (2/172).
(5) السنن الكبرى برقم (9889).
(6) في أ : "زيد".
(7) المسند (3/102).
(8) في ت : "وروى".
(9) زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
(10) في أ : "نمير".
(11) المسند (1/201).
(6/467)
حديث آخر :
قال إسماعيل القاضي : حدثنا حجاج بن مِنْهال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن معبد بن
هلال العَنزي ، حدثنا رجل من أهل دمشق ، عن عوف بن مالك ، عن أبي ذر ، رضي الله
عنه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن أبخل الناس من ذُكرت عنده
فلم يصل علي" (1).
حديث آخر مرسل : قال إسماعيل : وحدثنا سليمان بن حَرب ، حدثنا جرير بن حازم ، سمعت
الحسن يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بحسب امرئ من البخل أن
أذْكر عنده فلا يُصَلِّي علي" (2) ، صلوات الله عليه.
حديث آخر : قال (3) الترمذي : حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي ، حدثنا رِبْعي بن
إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُرِي ، عن أبي
هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "رغم أَنف رجل ذكرت عنده فلم
يصل علي. [ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ، ثم انسلخ قبل أن يغفر له] (4) ، ورغم
أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة". ثم قال : حسن غريب (5).
قلت : وقد رواه البخاري في الأدب ، عن محمد بن عبيد الله ، حدثنا ابن أبي حازم ،
عن كثير بن زيد ، عن الوليد بن رباح ، عن أبي هريرة مرفوعا ، بنحوه (6). ورويناه
من حديث محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبى هريرة ، به. قال الترمذي : وفي الباب
عن جابر وأنس.
قلت : وابن عباس ، وكعب بن عُجْرَة ، وقد ذكرت طرق هذا الحديث في أول كتاب الصيام
وعند قوله تعالى : { إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ
كِلاهُمَا } [الإسراء : 23].
وهذا الحديث والذي قبله دليل على وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كلما ذكر ،
وهو مذهب طائفة من العلماء [منهم الطحاوي والحليمي] (7) ، ويتقوى بالحديث الآخر
الذي (8) رواه ابن ماجه :
حدثنا جبُارة بن المغَلِّس ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا عمرو بن دينار ، عن جابر
بن زيد ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من نسي
الصلاة عَلَيَّ خَطئ طريق الجنة" (9).
جُبَارة ضعيف. ولكن رواه إسماعيل القاضي من غير وجه ، عن أبي جعفر محمد بن علي
الباقر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من نسي الصلاة عليّ خَطئ
طريق الجنة". وهذا مرسل يتقوى بالذي قبله [والله أعلم] (10). (11)
وذهب آخرون إلى أنه تجب الصلاة في المجلس مرة واحدة ، ثم لا تجب في بقية ذلك
المجلس ، بل
__________
(1) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (37).
(2) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (38).
(3) في ت : "وروى".
(4) زيادة من ت ، ف ، أ ، والترمذي.
(5) سنن الترمذي برقم (3545).
(6) الأدب المفرد للبخاري برقم (21).
(7) زيادة من ت ، ف ، أ.
(8) في ت : بما".
(9) سنن ابن ماجه برقم (908) وقال البوصيري في الزوائد (1/313) : "هذا إسناد
ضعيف لضعف جبارة بن المغلس".
(10) زيادة من ف ، أ.
(11) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (41).
(6/468)
تستحب. نقله
الترمذي عن بعضهم ، ويتأيد بالحديث الذي رواه الترمذي :
حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن صالح - مولى
التَّوْءَمة - عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما جلس قوم
مجلسا لم يذكروا الله فيه ، ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم تِرَةٌ ، فإن شاء
عذبهم ، وإن شاء غفر لهم".
تفرد به الترمذي من هذا الوجه. ورواه الإمام أحمد عن حجاج ويزيد بن هارون ، كلاهما
عن ابن أبي ذئب ، عن صالح - مولى التوءمة - عن أبي هريرة ، مرفوعا مثله. ثم قال
الترمذي : هذا حديث حسن. (1)
وقد رُوي عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، من غير وجه ، وقد رواه
إسماعيل القاضي من حديث شعبة ، عن سليمان ، عن ذَكْوَان ، عن أبي سعيد قال :
"ما من قوم يقعدون ثم يقومون ولا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا
كان عليهم حسرة ، وإن دخلوا الجنة لما يرون [من] (2) الثواب" (3).
وحكي عن بعضهم أنه إنما تجب الصلاة عليه ، عليه السلام ، في العمر مرة واحدة ،
امتثالا لأمر الآية ، ثم هي مستحبة في كل حال ، وهذا هو الذي نصره القاضي عياض
بعدما حكى الإجماع على وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في الجملة. قال : وقد
حكى الطبراني (4) أن محمل الآية على الندب ، وادعى فيه الإجماع. قال : ولعله فيما
زاد على المرة ، والواجب منه مرة كالشهادة له بالنبوة ، وما زاد على ذلك فمندوب
مُرَغَّب فيه من سنن الإسلام ، وشعار أهله.
قلت : وهذا قول غريب ، فإنه قد ورد الأمر بالصلاة عليه في أوقات كثيرة ، فمنها
واجب ، ومنها مستحب على ما نبينه.
فمنه : بعد النداء للصلاة ؛ للحديث الذي رواه الإمام أحمد :
حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا حيوة ، حدثنا كعب بن علقمة ، أنه سمع عبد الرحمن بن
جبير يقول : إنه سمع (5) عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : إنه سمع رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول : "إذا سمعتم مؤذنا فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي ؛
فإنه من صلى عَليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرا ، ثم سلوا لي الوسيلة ، فإنها
منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل
لي الوسيلة حلت عليه (6) الشفاعة".
وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ، من حديث كعب بن علقمة (7)
طريق أخرى : قال إسماعيل القاضي : حدثنا محمد بن أبي بكر ، حدثنا عمرو بن علي ، عن
أبي
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3380) والمسند (2/453).
(2) زيادة من ت ، ف ، أ ، وفضل الصلاة.
(3) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (55).
(4) في ت : "الطبري".
(5) في ت : "عن".
(6) في ت : "له".
(7) المسند (2/168) وصحيح مسلم برقم (384) وسنن أبي داود برقم (523) وسنن الترمذي
برقم (3614) وسنن النسائي (2/25).
(6/469)
بكر
الجُشَمي ، عن صفوان بن سليم ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "من سأل الله لي الوسيلة ، حقت عليه شفاعتي يوم القيامة"
(1).
حديث آخر : قال إسماعيل القاضي : حدثنا سليمان (2) بن حرب ، حدثنا سعيد بن زيد ،
عن ليث ، عن كعب - هو كعب الأحبار - عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "صلوا عَليَّ ، فإن صلاتكم عليّ زكاة لكم ، وسلوا
الله لي الوسيلة". قال : فإما حَدّثنا وإما سَألناه ، فقال : "الوسيلة
أعلى درجة في الجنة ، لا ينالها إلا رجل ، وأرجو أن أكون ذلك (3) الرجل".
ثم رواه عن محمد بن أبي بكر ، عن معتمر ، عن ليث - وهو ابن أبي سليم - به (4).
وكذا الحديث الآخر :
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا بكر بن سوادة ،
عن زياد بن نعيم ، عن وَفاء (5) الحضرمي ، عن رُوَيْفع بن ثابت الأنصاري ؛ أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال : "من صلى على محمد وقال : اللهم ، أنزله المقعد
المقرب عندك يوم القيامة ، وجبت له شفاعتي".
وهذا إسناد لا بأس به ، ولم يخرجوه (6).
أثر آخر (7) قال إسماعيل القاضي : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، حدثني
مَعْمَر ، عن ابن (8) طاوس ، عن أبيه ، سمعت ابن عباس يقول : اللهم تقبل شفاعة
محمد الكبرى ، وارفع درجته العليا ، وأعطه سُؤْلَه في الآخرة والأولى ، كما آتيت
إبراهيم وموسى ، عليهما السلام. إسناد جَيّد قوي صحيح (9).
ومن ذلك : عند دخول المسجد والخروج منه : للحديث الذي رواه الإمام أحمد (10) :
حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا ليث بن أبي سليم ، عن عبد الله بن الحسن (11) ،
عن أمه فاطمة بنت الحسين ، عن جدته [فاطمة] (12) بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم وقال :
"اللهم اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك". وإذا خرج صلى على محمد
وسلم ، ثم قال : "اللهم اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب فضلك" (13).
وقال إسماعيل القاضي : حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثنا سفيان (14) بن عمر
التميمي ، عن
__________
(1) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (50).
(2) في أ : "سليم".
(3) في ف ، أ : "أكون أنا ذلك".
(4) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (46 ، 47).
(5) في أ ، أ : "ورقاء".
(6) المسند (4/108).
(7) في أ : "حسن".
(8) في أ : "أبي".
(9) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (52).
(10) في ت : "ومنه عند دخول المسجد لما روى الإمام أحمد".
(11) في ت ، أ : "الحسين".
(12) زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
(13) المسند (6/282).
(14) في أ : "سيف".
(6/470)
سليمان
الضَّبِّيّ ، عن علي بن الحسين قال : قال علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه (1) :
إذا مررتم بالمساجد فصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم (2). وأما الصلاة عليه صلى
الله عليه وسلم في الصلاة ، فقد قدمنا الكلام عليها في التشهد الأخير ، ومَنْ ذهب
إلى ذلك من العلماء مع (3) الشافعي ، رحمه الله (4). وأما التشهد الأول فلا تجب
فيه قولا واحدا ، وهل تستحب ؟ على قولين للشافعي.
ومن ذلك (5) الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في صلاة الجنازة : فإن السنة أن يقرأ
في التكبيرة الأولى فاتحة الكتاب ، وفي الثانية أن يصلي على النبي صلى الله عليه
وسلم ، وفي الثالثة يدعو للميت ، وفي الرابعة يقول : اللهم لا تحرمنا أجره ، ولا
تفتنا بعده.
قال الشافعي ، رحمه الله : حدثنا مُطَرَّف بن مازن ، عن مَعْمَر ، عن الزهري :
أخبرني أبو أمامة بن (6) سهل بن حُنَيف أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم : أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب
بعد التكبيرة الأولى سرا في نفسه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويخلص
الدعاء للجنازة ، وفي التكبيرات لا يقرأ في شيء منها ، ثم يسلم سرا في نفسه (7)
ورواه النسائي ، عن أبي أمامة نفسه أنه قال : من السنة ، فذكره (8).
وهذا من الصحابي في حكم المرفوع على الصحيح.
ورواه إسماعيل القاضي ، عن محمد بن المثنى ، عن عبد الأعلى ، عن معمر ، عن الزهري
، عن أبي أمامة بن سهل ، عن سعيد بن المسيب أنه قال : السنة في الصلاة على
الجنازة... فذكره (9).
وهكذا رُوي عن أبي هريرة ، وابن عمر ، والشعبي.
ومن ذلك (10) : في صلاة العيد : قال إسماعيل القاضي (11) : حدثنا مسلم بن إبراهيم
، حدثنا هشام الدَّسْتَوَائي ، حدثنا حَمَّاد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم ، عن
(12) علقمة : أن ابن مسعود وأبا موسى وحذيفة خرج عليهم الوليد بن عقبة يوما قبل
العيد (13) ، فقال لهم : إن هذا العيد قد دنا ، فكيف التكبير فيه ؟ قال عبد الله :
تبدأ فتكبر تكبيرة تفتتح بها الصلاة ، وتحمد ربك وتصلي على
__________
(1) في ت : "وعن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال".
(2) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (80).
(3) في ت ، أ : "منهم".
(4) في ت ، أ : "مع الشافعي وأحمد ، رحمهما الله".
(5) في ت : "ومنه".
(6) في ت : "فروى الشافعي ، رحمه الله ، بإسناده عن".
(7) الأم (1/239).
(8) سنن النسائي (4/75).
(9) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (94).
(10) في ت : "ومنه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم".
(11) في ت : "روى القاضي إسماعيل".
(12) في ت : "بن".
(13) في ت ، أ : "عقبة صلى العيد يوما".
(6/471)
النبي صلى
الله عليه وسلم ثم تدعو ، وتكبر وتفعل مثل ذلك ، ثم تكبر وتفعل مثل ذلك ، ثم تكبر
وتفعل مثل ذلك ، ثم تقرأ ، ثم تكبر وتركع ، ثم تقوم فتقرأ وتحمد ربك وتصلي على
النبي صلى الله عليه وسلم ثم تدعو وتكبر ، وتفعل مثل ذلك ، ثم تركع. فقال حذيفة
وأبو موسى : صدق أبو عبد الرحمن. إسناد (1) صحيح (2)
ومن ذلك : أنه يُستَحَبّ ختم الدعاء بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم قال الترمذي
:
حدثنا أبو داود ، أخبرنا النضر بن شميل (3) ، عن أبي قُرّة الأسدي ، عن سعيد بن
المسيَّب ، عن عمر بن الخطاب (4) قال : الدعاء موقوف بين السماء والأرض ، لا يصعد
حتى تصلي على نبيك (5).
وهكذا رواه أيوب بن موسى ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر بن الخطاب ، قوله. ورواه
معاذ بن الحارث ، عن أبي قرة ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر مرفوعا (6). وكذا رواه
رَزِين بن معاوية (7) في كتابه مرفوعا ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"الدعاء موقوف بين السماء والأرض ، لا يصعد حتى يصلى علي ، فلا تجعلوني كَغُمَر
الراكب ، صلوا علي أول الدعاء وأوسطه وآخره" (8).
وهذه الزيادة إنما تروى من رواية جابر بن عبد الله في مسند الإمام عبد بن حُميد
الكَشي [حيث] (9) قال : حدثنا جعفر بن عون ، أخبرنا موسى بن عُبَيدة ، عن إبراهيم
بن محمد بن إبراهيم ، عن أبيه قال : قال جابر : قال لنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "لا تجعلوني كقدح الراكب ، إذا علق تعاليقه أخذ قدحه فملأه من الماء ،
فإن كان له حاجة في الوضوء توضأ ، وإن كان له حاجة في الشرب شرب وإلا أهراق ما فيه
، اجعلوني في أول الدعاء ، وفي ، وسط الدعاء ، وفي آخر الدعاء". فهذا حديث
غريب ، وموسى بن عبيدة ضعيف الحديث (10).
ومن [آكد] (11) ذلك : دعاء القنوت : لما رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، وابن خزيمة
(12) ، وابن حبَّان ، والحاكم ، من حديث أبي الحورَاء (13) ، عن الحسن بن علي ،
رضي الله عنهما ، قال : علَّمَني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في
الوتر : "اللهم اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ،
__________
(1) في ت ، ف ، أ : "إسناده"
(2) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (88).
(3) في أ : "سهيل".
(4) في ت : "روى الترمذي بإسناده عن عمر بن الخطاب".
(5) سنن الترمذي برقم (486).
(6) أخرجه الواحدي ومن طريقه الحافظ الرهاوي في الأربعين كما في تخريج الكشاف
للحافظ ابن حجر (ص 137).
(7) في ت : "ورواه رزين بن أبي معاوية".
(8) ذكره ابن الأثير في جامع الأصول (4/155) رواية رزين.
(9) زيادة من ف ، أ.
(10) المنتخب لعبد بن حميد برقم (1130) ورواه البزار في مسنده برقم (3156)
"كشف الأستار" من طريق موسى بن عبيدة به.
(11) زيادة من ت ، أ.
(12) في أ : "وابن جرير".
(13) في أ : "الجوزاء".
(6/472)
وتولني فيمن
توليت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، وإنه
لا يَذِلّ من واليت (1) تباركت [ربنا] (2) وتعاليت" (3).
وزاد النسائي في سننه بعد هذا : وصلى الله على النبي محمد.
ومن ذلك : أنه يستحب الإكثار من الصلاة عليه [في] (4) يوم الجمعة وليلة الجمعة :
قال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن علي الجَعْفِي ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ،
عن أبي الأشعث الصنعاني (5) ، عن أوس بن أوس الثقفي ، رضي الله عنه ، قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أفضل أيامكم يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ،
وفيه قبض ، وفيه النفخة ، وفيه الصعقة ، فأكثروا علي من الصلاة فيه ، فإن صلاتكم
معروضة علي". قالوا : يا رسول الله ، وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمتْ ؟ -
يعني : وقد بليت - قال : "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد
الأنبياء".
ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه ، من حديث حسين بن علي الجعفي (6). وقد صحح هذا
الحديث ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني ، والنووي في الأذكار.
حديث آخر : قال أبو عبد الله بن ماجه : حدثنا عمرو بن سَوَّاد المصري (7) ، حدثنا
عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن زيد بن أيمن (8)
، عن عُبَادة بن نُسَيّ ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: "أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة ؛ فإنه مشهود تشهده الملائكة. وإن أحدا لا
يصلي علي إلا عُرضت عَلَيّ صلاته حتى يفرغ منها". قال : قلت : وبعد الموت ؟
قال : "[وبعد الموت] (9) ، إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد
الأنبياء" [فنبي الله حي يرزق] (10).
هذا حديث غريب من هذا الوجه ، وفيه انقطاع بين عُبادة بن نَسي وأبي الدرداء ، فإنه
لم يدركه (11) ، والله أعلم.
وقد روى البيهقي من حديث أبي أمامة وأبي مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في
الأمر بالإكثار من الصلاة عليه ليلة الجمعة ويوم الجمعة (12) ، ولكن في إسنادهما
ضعف ، والله أعلم. وروي مرسلا عن الحسن
__________
(1) في ف ، أ : "واليت ، ولا يعز من عاديت".
(2) زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
(3) المسند (1/199) وسنن أبي داود برقم (1425) وسنن الترمذي برقم (464) وسنن
النسائي (3/248) وسنن ابن ماجه برقم (1178) وصحيح ابن خزيمة (1095) وصحيح ابن حبان
(2/148) والمستدرك (3/171).
(4) زيادة من ت.
(5) في ت : "روى الإمام أحمد بإسناده".
(6) المسند (4/8) وسنن أبي داود برقم (1047) وسنن النسائي (3/91) وسنن ابن ماجه
برقم (1636).
(7) في أ : "عمرو بن ندار المقري".
(8) في ف : "ثابت".
(9) زيادة من ت ، ف ، وابن ماجه.
(10) زيادة من ت ، ف ، وابن ماجه.
(11) سنن ابن ماجه برقم (1637).
(12) السنن الكبرى للبيهقي (3/249) من حديث أبي أمامة ، رضي الله عنه ، ولم أجده
عنده من حديث أبي مسعود وإنما هو من حديث أنس ، رضي الله عنه.
(6/473)
البصري ،
فقال إسماعيل القاضي :
حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا جرير بن حازم ، سمعت الحسن - هو البصري - يقول : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تأكل الأرض جَسَدَ من كَلّمه (1) روح
القدس". مرسل حسن (2).
وقال الشافعي : أخبرنا إبراهيم بن محمد ، أخبرنا صفوان بن سليم (3) أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : "إذا كان يوم الجمعة وليلة الجمعة ، فأكثروا الصلاة
علي". هذا مرسل (4).
وهكذا يجب على الخطيب أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر
في الخطبتين ، ولا تصح الخطبتان إلا بذلك ؛ لأنها (5) عبادة ، وذكر الله فيها شرط
(6) ، فوجب ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فيها كالأذان والصلاة. هذا مذهب الشافعي
وأحمد ، رحمهما الله.
ومن ذلك : أنه يستحب الصلاة والسلام عليه عند زيارة قبره ، صلوات الله وسلامه عليه
: قال (7) أبو داود :
حدثنا ابن عوف - هو محمد - حدثنا (8) المقري ، حدثنا حَيْوَة ، عن أبي صخر حميد بن
زياد ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : "ما من (9) أحد يسلم علي إلا رَدّ الله علي روحي ، حتى أرد عليه
السلام".
تفرد به أبو داود ، وصححه النووي في الأذكار (10). ثم قال (11) أبو داود :
حدثنا أحمد بن صالح قال : قرأت على عبد الله بن نافع ، أخبرني ابن أبي ذئب ، عن
سعيد المَقْبُرِي ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"لا تجعلوا بيوتكم قُبُورًا ، ولا تجعلوا قبري عيدا ، وصلوا علي ، فإن صلاتكم
تبلغني حيثما كنتم".
تفرد به أبو داود أيضا (12). وقد رواه الإمام أحمد عن سُرَيْج ، عن عبد الله بن
نافع - وهو الصائغ - به (13). وصححه النووي أيضا. وقد روي من وجه آخر عن علي ، رضي
الله عنه. قال القاضي إسماعيل (14) بن إسحاق في كتابه "فضل الصلاة على النبي
صلى الله عليه وسلم" :
حدثنا إسماعيل بن أبي أُوَيْس ، حدثنا جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله
بن جعفر بن أبي طالب [عمن أخبره] (15) من أهل بيته ، عن علي بن الحسين بن علي : أن
رجلا كان يأتي كل
__________
(1) في أ : "كلم".
(2) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (23).
(3) في أ : "صفوان بن أبي سليم".
(4) الأم (1/184).
(5) في ت : "لأنهما".
(6) في ت : "مشروط".
(7) في ت : "فروى".
(8) في أ : "بن".
(9) في أ : "ما منكم من".
(10) سنن أبي داود برقم (2041).
(11) في ت : "روى".
(12) سنن أبي داود برقم (2042).
(13) المسند (2/367).
(14) في أ : "القاضي ابن إسماعيل".
(15) زيادة من أ ، وفي هـ : "عن أخيه" والمثبت من ت ، ف ، أ.
(6/474)
غداة فيزور
قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي عليه ، ويصنع من ذلك ما اشتهر عليه علي بن
الحسين ، فقال له علي بن الحسين : ما يحملك على هذا ؟ قال : أحب السلام على النبي
صلى الله عليه وسلم. فقال له علي بن الحسين : هل لك أن أحدثك حديثا عن أبي ؟ قال :
نعم. فقال له علي بن الحسين : أخبرني أبي ، عن جدي أنه قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "لا تجعلوا قبري عيدا ، ولا تجعلوا بيوتكم قبورا ، وصلوا
علي وسلموا حيثما كنتم فتبلغني (1) صلاتكم وسلامكم".
في إسناده رجل مبهم لم يُسَمَّ (2) وقد رُوي من وجه آخر مرسلا قال عبد الرزاق في
مصنفه ، عن الثوري ، عن ابن عجلان ، عن رجل - يقال له : سهيل - عن الحسن بن الحسن
بن علي ؛ أنه رأى قوما عند القبر فنهاهم ، وقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال
: "لا تتخذوا قبري عيدا ، ولا تتخذوا بيوتكم قبورا ، وصلوا علي حيثما كنتم ؛
فإن صلاتكم تبلغني" (3). فلعله رآهم يسيئون الأدب برفع أصواتهم [فوق الحاجة]
(4) ، فنهاهم.
وقد روي أنه رأى رجلا ينتاب القبر فقال : يا هذا ، ما أنت ورجل بالأندلس منه إلا
سواء ، أي : الجميع يبلغه ، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين.
وقال الطبراني في معجمه الكبير : حدثنا أحمد بن رِشْدين المصري ، حدثنا سعيد بن
أبي مريم ، حدثنا محمد بن جعفر ، أخبرني حميد بن أبي زينب ، عن حسن بن حسن بن علي
بن أبي طالب ، رضي الله عنهم ، عن أبيه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"صلوا علي حيثما كنتم ، فإن صلاتكم تبلغني" (5).
ثم قال الطبراني : حدثنا العباس بن حمدان الأصبهاني ، حدثنا شعيب بن عبد الحميد
الطحان ، أخبرنا يزيد بن هارون عن (6) شيبان ، عن الحكم بن عبد الله بن خطاف (7) ،
عن أم أنيس بنت الحسن بن علي ، عن أبيها قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"أرأيت قول الله ، عز وجل : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى
النَّبِي } ؟" فقال : "إن هذا هو المكتوم ، ولولا أنكم سألتموني عنه لما
أخبرتكم ، إن الله وكل بي ملكين لا أُذْكَرُ عند عبد مسلم فيصلي علي إلا قال ذانك
الملكان : "غفر الله لك". وقال الله وملائكته جوابا لذينك الملكين :
"آمين". ولا يصلي أحد إلا قال ذانك الملكان : "غفر الله لك".
ويقول الله وملائكته جوابا لذينك الملكين : "آمين".
غريب جدا ، وإسناده فيه ضعف شديد (8)
__________
(1) في ف ، أ : "فستبلغني".
(2) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (20).
(3) المصنف برقم (6726).
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) المعجم الكبير (3/82) وقال الهيثمي في المجمع (10/162) : "فيه حميد بن
أبي زينب لم أعرفه ، وبقية رجاله رجال الصحيح".
(6) في هـ ، ت ، أ ، ف : "بن أبي" والصواب ما أثبتناه من المعجم الكبير
للطبراني.
(7) في هـ ، ت ، أ ، ف : "خطاب" والصواب ما أثبتناه من المعجم الكبير
للطبراني وكتب الرجال.
(8) المعجم الكبير (3/89) وقال الهيثمي في المجمع (7/93) : "فيه الحكم بن عبد
الله بن خطاف وهو كذاب".
(6/475)
وقد قال
الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، عن سفيان ، عن عبد الله بن السائب ، عن زاذان ، عن
عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"إن لله ملائكة سياحين في الأرض ، يبلغوني من (1) أمتي السلام".
وهكذا رواه النسائي من حديث سفيان الثوري وسليمان بن مِهْرَان الأعمش ، كلاهما عن
عبد الله بن السائب ، به (2)
فأما الحديث الآخر : "مَنْ صلى عَلَيّ عند قبري سمعته ، ومَنْ صلى علي من
بعيد بُلغته" - ففي إسناده نظر ، تفرد به محمد بن مروان السدي الصغير ، وهو
متروك ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة مرفوعا (3).
قال أصحابنا : ويستحب للمحرم إذا لبى وفرغ من تلبيته أن يصلي على النبي صلى الله
عليه وسلم : لما روي (4) عن الشافعي والدارقطني من رواية صالح بن محمد بن زائدة ،
عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال : كان يُؤمر الرجل إذا فرغ من تلبيته أن
يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم على كل حال (5).
وقال إسماعيل القاضي : حدثنا عارم بن الفضل ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا
زكريا ، عن الشعبي ، عن وهب بن الأجدع قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : إذا قدمتم
فطوفوا بالبيت سبعا ، وصلوا عند المقام ركعتين ، ثم ائتوا الصفا فقوموا عليه من
حيث ترون البيت ، فكبروا سبع تكبيرات ، تكبيرًا بين حمد لله وثناء عليه ، وصلاة
على النبي صلى الله عليه وسلم ، ومسألة لنفسك ، وعلى المروة مثل ذلك (6).
إسناد جيد حسن قوي.
وقالوا : ويستحب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مع ذكر الله عند الذبح :
واستأنسوا بقوله (7) تعالى : { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك } [الشرح : 4] ، قال بعض
المفسرين : يقول الله تعالى : "لا أذكر إلا ذكرت معي". وخالفهم في ذلك
الجمهور ، وقالوا : هذا موطن يفرد فيه ذكر الرب تعالى ، كما عند الأكل ، والدخول ،
والوقاع وغير ذلك ، مما لم ترد فيه السنة بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
حديث آخر : قال إسماعيل القاضي : حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا عمر بن
هارون ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن ثابت ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : "صلوا على أنبياء الله ورسله ؛ فإن الله بعثهم كما
بعثني".
في إسناده ضعيفان ، وهما عمر بن هارون وشيخه (8) ، والله أعلم. وقد رواه عبد
الرزاق ، عن الثوري ، عن موسى بن عبيدة الربذي ، به (9).
__________
(1) في ف ، أ : "عن".
(2) المسند (1/441) وسنن النسائي (3/43).
(3) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (3/292) من طريق الأصمعي عن السدي به ، ثم روى
بإسناده عن ابن قتيبة قال : سألت ابن نمير عن حديث : "من صلى علي عند
قبري" فقال : "دع ذا ، محمد بن مروان ليس بشيء".
(4) في ت : "لما رواه".
(5) الأم (2/134).
(6) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (81).
(7) في ف : "بقول الله".
(8) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (45) وعمر بن هارون متروك ،
وموسى بن عبيدة ضعيف.
(9) المصنف لعبد الرزاق برقم (3118).
(6/476)
ومن ذلك :
أنه يستحب الصلاة عليه عند طنين الأذن ، إن صح الخبر في ذلك ، على أن الإمام أبا
بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة قد رواه في صحيحه فقال : حدثنا زياد بن يحيى ، حدثنا
مَعْمَر بن محمد بن عبيد الله ، عن أبيه محمد (1) ، عن أبيه أبي رافع (2) قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا طنت أذن أحدكم فليذكرني وليصل علي ،
وَلْيَقُل : ذَكَر الله مَن ذكرني بخير". إسناده غريب ، وفي ثبوته نظر (3)
والله أعلم.
[وهاهنا مسألة] (4) :
وقد استحب أهل الكتابة أن يكرر الكاتب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كلما
كتبه ، وقد ورد في الحديث من طريق كادح بن رحمة ، عن نَهْشَل ، عن الضحاك ، عن ابن
عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من صلى عليّ في كتاب ، لم
تزل الصلاة جارية له ما دام اسمي في ذلك الكتاب" (5).
وليس هذا الحديث بصحيح من وجوه كثيرة ، وقد رُوي من حديث أبي هريرة ، ولا يصح أيضا
(6) ، قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي شيخُنا : أحسبه موضوعا. وقد رُوي نَحوُه عن
أبي بكر ، وابن عباس. ولا يصح من ذلك شيء (7) ، والله أعلم. وقد ذكر الخطيب
البغدادي في كتابه : "الجامع لآداب الراوي والسامع (8) ، قال : رأيت بخط
الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله : كثيرا ما يكتب اسم النبي صلى الله عليه وسلم من
غير ذكر الصلاة عليه كتابة ، قال : وبلغني أنه كان يصلي عليه لفظا (9).
[فصل] (10)
وأما الصلاة على غير الأنبياء ، فإن كانت (11) على سبيل التبعية كما تقدم في
الحديث : "اللهم ، صل على محمد وآله وأزواجه وذريته" ، فهذا جائز
بالإجماع ، وإنما وقع النزاع فيما إذا أفرد غير الأنبياء بالصلاة عليهم :
__________
(1) في هـ ، ت ، ف ، أ : "عن علي بن أبي رافع" والصواب ما أثبتناه.
(2) في ت : "بإسناده عن أبي رافع".
(3) ورواه الطبراني في المعجم الصغير (2/120) وابن عدي في الكامل (6/451) من طريق
معمر به ، وقال ابن عدي : "معمر بن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه
منكر الحديث ، ومقدار ما يرويه لا يتابع عليه".
(4) زيادة من ت.
(5) أخرجه أبو القاسم الأصبهاني في الترغيب والترهيب برقم (1699) من طريق أحمد بن
جعفر الهاشمي عن سليمان بن الربيع عن كادح بن رحمة به.
(6) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (234) "مجمع البحرين" من طريق
يزيد بن عياض عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(7) أما حديث ابن عباس فسبق ، وأما حديث أبي بكر فرواه ابن عدي في الكامل (3/249)
من طريق أبي داود النخعي ، عن أيوب بن موسى ، عن القاسم ، عن أبي بكر ، رضي الله
عنه ، وداود النخعي وضاع.
(8) في ت : "والسائل".
(9) الجامع لأخلاق الراوي (1/271) ثم قال عقبه : "وقد خالفه غيره من الأئمة
المتقدمين في ذلك".
(10) زيادة من ف ، أ.
(11) في ت ، ف ، أ : "كان".
(6/477)
فقال قائلون
: يجوز ذلك ، واحتجوا بقوله : { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ
} ، وبقوله { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } [البقرة
: 157] ، وبقوله تعالى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ
وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا (1) وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } [التوبة
: 103] ، وبحديث عبد الله بن أبي أوْفَى قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : "اللهم صل عليهم". وأتاه أبي بصدقته فقال :
"اللهم صل على آل أبي أوفى". أخرجاه في الصحيحين. وبحديث جابر : أن
امرأته قالت : يا رسول الله ، صل عَلَيَّ وعلى زوجي. فقال : "صلى الله عليكِ
وعلى زوجك" (2).
وقال الجمهور من العلماء : لا يجوز إفراد غير الأنبياء بالصلاة ؛ لأن هذا قد صار
شعارا للأنبياء إذا ذكروا ، فلا يلحق بهم غيرهم ، فلا يقال : "قال أبو بكر
صلى الله عليه". أو : "قال علي صلى الله عليه". وإن كان المعنى
صحيحا ، كما لا يقال : "قال محمد ، عز وجل" ، وإن كان عزيزا جليلا ؛ لأن
هذا من شعار ذكر الله ، عز وجل. وحملوا ما ورد في ذلك من الكتاب والسنة على الدعاء
لهم ؛ ولهذا لم يثبت شعارا لآل أبي أوفى ، ولا لجابر وامرأته. وهذا مسلك حسن.
وقال آخرون : لا يجوز ذلك ؛ لأن الصلاة على غير الأنبياء قد صارت من شعار أهل
الأهواء ، يصلون على من يعتقدون فيهم ، فلا يقتدى بهم في ذلك ، والله أعلم.
ثم اختلف المانعون من ذلك : هل هو من باب التحريم ، أو الكراهة التنزيهية ، أو
خلاف الأولى ؟ على ثلاثة أقوال ، حكاه الشيخ أبو زكريا النووي في كتاب الأذكار. ثم
قال : والصحيح الذي عليه الأكثرون أنه مكروه كراهة تنزيه ؛ لأنه شعار أهل البدع ،
وقد نهينا عن شعارهم ، والمكروه هو ما ورد فيه نهي مقصود. قال أصحابنا : والمعتمد
في ذلك أن الصلاة صارت مخصوصة في اللسان (3) بالأنبياء ، صلوات الله وسلامه عليهم
، كما أن قولنا : "عز وجل" ، مخصوص بالله سبحانه وتعالى ، فكما لا يقال
: "محمد عز وجل" ، وإن كان عزيزا جليلا لا يقال : "أبو بكر - أو :
علي - صلى الله عليه". هذا لفظه بحروفه. قال : وأما السلام فقال الشيخ أبو
محمد الجُوَيني من أصحابنا : هو في معنى الصلاة ، فلا يستعمل في الغائب ، ولا يفرد
به غير الأنبياء ، فلا يقال : "علي عليه السلام" ، وسواء في هذا الأحياء
والأموات ، وأما الحاضر فيخاطب به ، فيقال : سلام عليكم ، أو سلام عليك ، أو
السلام عليك أو عليكم. وهذا مجمع عليه. انتهى ما ذكره (4).
قلت : وقد غلب هذا في عبارة كثير من النساخ للكتب ، أن يفرد علي ، رضي الله عنه ،
بأن يقال : "عليه السلام" ، من دون سائر الصحابة ، أو : "كرم الله
وجهه" وهذا وإن كان معناه
__________
(1) في ت ، ف : "تطهرهم بها وتزكيهم" وهو خطأ.
(2) تقدم تخريج هذين الحديثين في هذه السورة.
(3) في ت ، ف ، أ : "في لسان السلف".
(4) الأذكار ص (159 ، 160).
(6/478)
صحيحا ، لكن
ينبغي أن يُسَاوى بين الصحابة في ذلك ؛ فإن هذا من باب التعظيم والتكريم ،
فالشيخان وأمير المؤمنين عثمان [بن عفان] (1) أولى بذلك منه ، رضي الله عنهم
أجمعين.
قال إسماعيل القاضي : حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ،
حدثني عثمان بن حكيم بن عَبَّاد بن حُنَيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : لا
تصح (2) الصلاة على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن يدعى للمسلمين
والمسلمات بالمغفرة (3) (4).
وقال أيضا : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا حسين بن علي ، عن جعفر بن بَرْقان
قال : كتب عمر بن عبد العزيز ، رحمه الله : أما بعد ، فإن أناسا من الناس قد
التمسوا الدنيا بعمل الآخرة ، وإن ناسا من القصاص قد أحدثوا في الصلاة على خلفائهم
وأمرائهم عدْلَ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا جاءك كتابي هذا
فمُرْهم أن تكون صلاتهم على النبيين ودعاؤهم للمسلمين عامة ، ويدعوا ما سوى ذلك.
أثر حسن (5).
قال إسماعيل القاضي : حدثنا معاذ بن أسد ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا ابن
لَهِيعة ، حدثني خالد بن يَزيد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن نُبَيه بن وهب ؛ أن
كعبا دخل على عائشة ، رضي الله عنها ، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
كعب : ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألفا من الملائكة حتى يحفوا بالقبر يضربون
بأجنحتهم ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم ، سبعون ألفا بالليل ، وسبعون ألفا
بالنهار ، حتى إذا انشقت عنه الأرض خرج في سبعين ألفا من الملائكة يزفونه (6).
[فرع] (7) :
قال النووي : إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فليجمع بين الصلاة والتسليم ،
فلا يقتصر على أحدهما فلا يقول : "صلى الله عليه فقط" ، ولا "عليه
السلام" فقط ، وهذا الذي قاله منتزع من هذه الآية الكريمة ، وهي قوله : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } ، فالأولى
أن يقال : صلى الله عليه وسلم تسليما.
__________
(1) زيادة من ف.
(2) في ت ، ف ، أ : "لا تصلح".
(3) في ت ، ف ، أ : "بالاستغفار".
(4) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (75) ولفظه عنده "لا تصلوا
على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات
بالاستغفار".
(5) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (76).
(6) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم (102).
(7) زيادة من : ت ، أ.
(6/479)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
{ إِنَّ
الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا
وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا
بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) }
يقول تعالى : متهددا ومتوعدا مَنْ آذاه ، بمخالفة أوامره وارتكاب زواجره وإصراره
على ذلك ، وأذَى رسوله بعيب أو تنقص ، عياذا بالله من ذلك.
قال عِكْرِمة في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } : نزلت
في المصوّرين.
وفي الصحيحين ، من حديث سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيَّب ، عن
أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يقول الله ، عز وجل :
يؤذيني ابن آدم ، يَسُبّ الدهر ، وأنا الدهر ، أقلب ليله ونهاره" (1).
ومعنى هذا : أن الجاهلية كانوا يقولون : يا خيبة الدهر ، فعل بنا كذا وكذا.
فيسندون أفعال الله تعالى إلى الدهر ، ويسبونه ، وإنما الفاعل لذلك هو الله ، عز
وجل ، فنهى عن ذلك. هكذا قرره الشافعي وأبو عبيد وغيرهما من العلماء ، رحمهم الله.
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس في قوله : { يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } : نزلت
في الذين طعنوا [على النبي صلى الله عليه وسلم] (2) في تزويجه صفية بنت حُيَي بن
أخطب.
والظاهر أن الآية عامة في كل من آذاه بشيء ، ومن آذاه فقد آذى الله ، ومن (3)
أطاعه فقد أطاع الله ، كما قال (4) الإمام أحمد :
حدثنا يونس ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن عَبيدة بن أبي رائطة الحذاء التميمي ، عن
عبد الرحمن [بن زياد] (5) ، عن عبد الله بن المغفل المزني قال : قال النبي صلى
الله عليه وسلم : "الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غَرَضا بعدي ، فمن أحبهم
فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد
آذى الله ، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه".
وقد رواه الترمذي من حديث عَبيدة بن أبي رائطة ، عن عبد الرحمن بن زياد ، عن عبد
الله بن المغفل ، به. ثم قال : وهذا حديث غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه
وقوله : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا
اكْتَسَبُوا } أي : ينسبون إليهم ما هم بُرَآء منه لم يعملوه ولم يفعلوه ، {
فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } وهذا هو البهت البين أن يحكى
أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه ، على سبيل العيب والتنقص (6) لهم ،
ومَنْ أكثر مَنْ يدخل في هذا الوعيد الكفرةُ بالله ورسوله (7) ، ثم الرافضة الذين
يتنقصون الصحابة ويعيبونهم بما قد بَرَّأهم الله منه ، ويصفونهم بنقيض ما أخبر
الله عنهم ؛ فإن الله ، عز وجل ، قد أخبر أنه قد رضي عن المهاجرين
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4826) وصحيح مسلم برقم (2246).
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) في أ : "كما أن من".
(4) في ت : "كما روى".
(5) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(6) في ت : "والنقص".
(7) في أ : "ورسله".
(6/480)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
والأنصار
ومدحهم ، وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبونهم ويتنقصونهم (1) ، ويذكرون عنهم ما لم يكن
ولا فعلوه أبدا ، فهم في الحقيقة منكوسو القلوب (2) يذمون الممدوحين ، ويمدحون
المذمومين.
وقال (3) أبو داود : حدثنا القَعْنَبِيّ ، حدثنا عبد العزيز - يعني : ابن محمد -
عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أنه قيل : يا رسول الله ، ما الغيبة ؟ قال :
"ذكرُكَ أخاك بما يكره". قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال :
"إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد
بَهَتَّه".
وهكذا رواه الترمذي ، عن قتيبة ، عن الدراوردي ، به. قال : حسن صحيح (4).
وقد قال (5) ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سلمة ، حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا
معاوية بن هشام ، عن عمار بن أنس ، عن ابن أبي مُلَيْكَة ، عن عائشة ، قالت : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : "أيُّ الربا أربى عند الله ؟"
قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : "أربى الربا عند الله استحلالُ عرض امرئ
مسلم" ، ثم قرأ : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا }
(6).
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ
يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا
يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ
الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي
الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا
(60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا (61)
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ
تَبْدِيلا (62) }.
يقول تعالى آمرا رسوله ، صلى الله عليه وسلم تسليما ، أن يأمر النساء المؤمنات -
خاصة أزواجه وبناته لشرفهن - بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ، ليتميزن عن سمات نساء
الجاهلية وسمات الإماء. والجلباب هو : الرداء فوق الخمار. قاله ابن مسعود ، وعبيدة
، وقتادة ، والحسن البصري ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم النخعي ، وعطاء الخراساني ،
وغير واحد. وهو بمنزلة الإزار اليوم.
قاله الجوهري : الجلباب : الملحفة ، قالت امرأة من هذيل ترثي قتيلا لها :
تَمْشي النُّسور إليه وَهْيَ لاهيةٌ... مَشْيَ العَذَارى عَلَيْهِنَّ الجَلابيبُ
(7)
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أمر الله نساء المؤمنين (8) إذا خرجن من
بيوتهن في
__________
(1) في أ : "وينتقصونهم".
(2) في ت : "قلوبهم منكوسة".
(3) في ت : "وروى".
(4) سنن أبي داود برقم (4874) وسنن الترمذي برقم (1934).
(5) في ت : "وروى".
(6) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (6711) من طريق يحيى بن واضح عن عمار بن
أنس ، به
(7) الصحاح (1/101).
(8) في ت ، ف ، أ : "المؤمنات".
(6/481)
حاجة أن
يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ، ويبدين عينًا واحدة.
وقال محمد بن سيرين : سألت عَبيدةَ السّلماني عن قول الله تعالى : { يُدْنِينَ
عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ } ، فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى.
وقال عكرمة : تغطي ثُغْرَة نحرها بجلبابها تدنيه عليها.
وقال (1) ابن أبي حاتم : أخبرنا أبو عبد الله الظَّهراني (2) فيما كتب إليّ ،
حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن خُثَيْم ، عن صفية بنت شيبة ، عن أم
سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ }
، خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة ، وعليهن أكسية سود يلبسنها
(3).
وقال (4) ابن أبي حاتم ، حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح ، حدثني الليث ، حدثنا يونس
بن يزيد قال : وسألناه (5) يعني : الزهري - : هل على الوليدة خمار متزوجة أو غير
متزوجة ؟ قال : عليها الخمار إن كانت متزوجة ، وتنهى عن الجلباب لأنه يكره لهن أن
يتشبهن بالحرائر إلا محصنات (6). وقد قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ
مِنْ جَلابِيبِهِنَّ }.
وروي عن سفيان الثوري أنه قال : لا بأس بالنظر إلى زينة نساء أهل الذمة ، إنما
ينهى عن ذلك لخوف الفتنة ؛ لا لحرمتهن ، واستدل بقوله تعالى : { وَنِسَاءِ
الْمُؤْمِنِينَ }.
وقوله : { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ } أي : إذا فعلن ذلك
عُرِفْنَ أنَّهن حرائر ، لسن بإماء ولا عواهر ، قال السدي في قوله تعالى : { [ يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ] قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ
يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا
يُؤْذَيْنَ } (7) قال : كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط
الظلام إلى طرق المدينة ، يتعرضون للنساء ، وكانت مساكن أهل المدينة ضَيِّقة ،
فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطرق يقضين حاجتهن ، فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك
منهن ، فإذا رأوا امرأة عليها جلباب قالوا : هذه حرة ، كفوا عنها. وإذا رأوا
المرأة ليس عليها جلباب ، قالوا : هذه أمة. فوثبوا إليها (8).
وقال مجاهد : يتجلببن فيعلم أنهن حرائر ، فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة.
وقوله : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } أي : لما سلف في أيام الجاهلية حيث
لم يكن عندهن علم بذلك.
ثم قال تعالى متوعدًا للمنافقين ، وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر : {
وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } قال عكرمة وغيره : هم الزناة هاهنا {
وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ } يعني : الذين يقولون : "جاء
__________
(1) في ت : "وروى".
(2) في أ : "الطبراني".
(3) تفسير عبد الرزاق (2/101) ورواه الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة عن عائشة مثله
، وأخرجه البخاري في صحيحه برقم (4759).
(4) في ت : "وروى".
(5) في ت : "سئل".
(6) في أ : "بالحرائر المحصنات".
(7) زيادة من أ.
(8) في ت ، ف : "عليها".
(6/482)
الأعداء"
و"جاءت الحروب" ، وهو كذب وافتراء ، لئن لم ينتهوا عن ذلك ويرجعوا إلى
الحق { لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أي : لنسلطنَّك
عليهم. وقال قتادة ، رحمه الله : لنحرّشَنَّك بهم. وقال السدي : لنعلمنك بهم.
{ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا } أي : في المدينة { إِلا قَلِيلا *
مَلْعُونِينَ } حال منهم في مدة إقامتهم في المدينة مدة قريبة مطرودين مبعدين ، {
أَيْنَمَا ثُقِفُوا } أي : وجدوا ، { أُخِذُوا } لذلتهم وقلتهم ، { وَقُتِّلُوا
تَقْتِيلا }.
ثم قال : { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ } أي : هذه سنته في
المنافقين إذا تمردوا على نفاقهم وكفرهم ولم يرجعوا عما هم فيه ، أن أهل الإيمان
يسلطون عليهم ويقهرونهم ، { وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا } أي :
وسنة الله في ذلك لا تبدل ولا تغير.
(6/483)
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
{
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ
الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا
يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ
يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ (66) وَقَالُوا
رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ
(67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا
(68) }.
يقول تعالى مخبرا لرسوله صلى الله عليه وسلم : أنه لا علم له بالساعة ، وإن سأله
الناس عن ذلك. وأرشده أن يرد علمها إلى الله ، عز وجل ، كما قال له في سورة
"الأعراف" ، وهي مكية وهذه مدنية ، فاستمر الحال في رَدّ علمها إلى الذي
يقيمها ، لكن (1) أخبره أنها قريبة بقوله : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ
تَكُونُ قَرِيبًا } ، كَمَا قَالَ : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَر
} [القمر : 1] ، وقال { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ
مُعْرِضُون } [الأنبياء : 1] ، وقال { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ
} [النحل : 1].
ثم قال : { إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ } أي : أبعدهم عن رحمته {
وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا } أي : في الدار الآخرة.
{ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } أي : ماكثين مستمرين ، فلا خروج لهم منها ولا زوال
لهم عنها ، { لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا } أي : وليس لهم مغيث ولا معين
ينقذهم مما هم فيه.
ثم قال : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا
أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا } أي : يسحبون في النار على وجوههم ،
وتلوى وجوههم على جهنم ، يقولون وهم كذلك ، يتمنون أن لو كانوا في الدار الدنيا
ممن أطاع الله وأطاع الرسول ، كما أخبر الله عنهم في حال العرصات بقوله : {
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ
مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا. يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا
* لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ
لِلإنْسَانِ خَذُولا } [الفرقان : 27 - 29] ،
__________
(1) في ت : "لكنه".
(6/483)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
وقال تعالى
: { رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } [الحجر : 2] ،
وهكذا أخبر عنهم في حالتهم (1) هذه أنهم يودون أن لو كانوا أطاعوا الله ، وأطاعوا
الرسول في الدنيا.
{ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا
السَّبِيلا }. وقال طاوس : سادتنا : يعني الأشراف ، وكبراءنا : يعني العلماء. رواه
ابن أبي حاتم.
أي : اتبعنا السادة وهم الأمراء والكبراء من المشيخة ، وخالفنا الرسل واعتقدنا أن
عندهم شيئا ، وأنهم على شيء فإذا هم ليسوا على شيء.
{ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ } أي : بكفرهم وإغوائهم إيانا ، {
وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } (2). قرأ بعض القراء بالباء الموحدة. وقرأ آخرون
بالثاء المثلثة ، وهما قريبا المعنى ، كما في حديث عبد الله بن عمرو : أن أبا بكر
قال : يا رسول الله ، علمني دعاء أدعو به في صلاتي. قال : "قل : اللهم ، إني
ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك ،
وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم". أخرجاه في الصحيحين (3) ، يُروى
"كبيرا" و"كثيرا" ، وكلاهما بمعنى صحيح.
واستحب بعضهم أن يجمع الداعي بين اللفظين في دعائه ، وفي ذلك نظر ، بل الأولى أن
يقول هذا تارة ، وهذا تارة ، كما أن القارئ مخير بين القراءتين أيتهما قرأ فَحَسَن
، وليس له الجمع بينهما ، والله أعلم.
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا ضِرَار بن
صُرَد ، حدثنا علي بن هاشم ، عن [محمد بن] (4) عبيد الله بن أبي رافع ، عن أبيه
(5) ، في تسمية مَنْ شهد مع علي ، رضي الله عنه : الحجاج بن عمرو بن غَزيَّة ، وهو
الذي كان يقول عند اللقاء : يا معشر الأنصار ، أتريدون أن تقولوا لربنا إذا لقيناه
: { رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا
السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا
كَبِيرًا } ؟ (6).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى
فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) }.
قال البخاري عند تفسير (7) هذه الآية : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا روح بن
عبادة ، حدثنا عوف ، عن الحسن [ومحمد] (8) وخلاس ، عن أبي هريرة قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : إن موسى كان رجلا حَيِيا ، وذلك قوله : { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ
مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا } (9).
__________
(1) في ت ، ف ، أ : "حالهم".
(2) في ت : "كثيرا كبيرا أو كلاهما" وفي ف ، أ : "كبيرا".
(3) صحيح البخاري رقم (834) وصحيح مسلم برقم (2705).
(4) زيادة من المعجم الكبير للطبراني.
(5) في ت : "وروى أبو القاسم الطبراني بإسناده عن أبي رافع".
(6) المعجم الكبير (3/223).
(7) في ت : "روى البخاري عند تفسيره".
(8) زيادة من ت ، أ ، والبخاري.
(9) صحيح البخاري برقم (4799).
(6/484)
هكذا أورد
هذا الحديث هاهنا مختصرًا جدًا ، وقد رواه في أحاديث "الأنبياء" بهذا
السند بعينه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن
موسى ، عليه السلام ، كان رجلا حَيِيا سِتِّيرا ، لا يُرَى من جلده شَيء استحياء
منه ، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل ، فقالوا : ما يتستر هذا التستر إلا من عيب
بجلده ، إما برص وإما أدْرَة وإما آفة ، وإن الله ، عز وجل ، أراد أن يُبرئَه مما
قالوا لموسى عليه السلام ، فخلا يوما وحده ، فخلع ثيابه على حجر ، ثم اغتسل ،
فلمَّا فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها ، وإن الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصاه وطلب
الحجر ، فجعل يقول : ثوبي حَجَر ، ثوبي حَجَر ، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل
، فرأوه عُريانا أحسن ما خلق الله ، عز وجل ، وأبرأه مما يقولون ، وقام الحجر ،
فأخذ ثوبَه فلبسه ، وطَفقَ بالحجر ضربًا بعصاه ، فوالله إن بالحجر لَنَدبًا من أثر
ضربه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا - قال : فذلك قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا
لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها }.
وهذا سياق حسن مطول ، وهذا الحديث من أفراد البخاري دون مسلم (1)
وقال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا عوف ، عن الحسن ، عن النبي صلى الله عليه
وسلم - وخلاس ، ومحمد ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه
الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى
فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا } قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن
موسى كان رجلا حَيِيا ستِّيرا ، لا يكاد يُرَى من جلده شَيء استحياء منه"
(2).
ثم ساق الحديث كما رواه البخاري مطولا ورواه في تفسيره (3). عن روح ، عن عوف ، به.
ورواه ابن جرير من حديث الثوري ، عن جابر الجعفي ، عن عامر الشعبي ، عن أبي هريرة
، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو هذا (4). وهكذا رواه من حديث سليمان بن
مِهْرَان الأعمش ، عن المنْهَال بن عمرو ، عن سعيد بن جُبَيْر ، وعبد الله بن
الحارث ، عن ابن عباس في قوله : { لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى } قال :
قال قومه له : إنك آدر. فخرج ذات يوم يغتسل ، فوضع ثيابه على صخرة ، فخرجت الصخرة
تشتد بثيابه ، وخرج يتبعها عريانا حتى انتهت به مجالس بني إسرائيل ، قال : فرأوه
ليس بآدر ، فذلك قوله : { فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا }.
وهكذا رواه العوفي ، عن ابن عباس سواء.
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا روح بن حاتم وأحمد بن المعلى الآدميّ قالا
حدثنا يحيى بن حماد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أنس ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : "كان موسى ، عليه السلام ، رجلا حَيِيا ، وإنه أتى -
أحسبه قال : الماء - ليغتسل ، فوضع ثيابه على صخرة ، وكان لا يكاد تبدو عورته ،
فقال (5) بنو إسرائيل : إن موسى آدر - أو : به آفة ، يعنون : أنه لا يضع ثيابه -
__________
(1) صحيح البخاري برقم (3404).
(2) المسند (3/514).
(3) في أ : "ورواه عنه في تفسيره".
(4) تفسير الطبري (22/36).
(5) في ف ، أ : "فقالت".
(6/485)
فاحتملت
الصخرة ثيابه حتى صارت بحذاء مجالس بني إسرائيل ، فنظروا إلى موسى كأحسن الرجال ،
أو كما قال ، فذلك قوله : { فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ
اللَّهِ وَجِيهًا } (1).
وقال ابن أبي حاتم ، حدثنا أبي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عباد بن العوام ،
عن سفيان بن حسين ، حدثنا الحكم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس (2) عن علي بن
أبي طالب ، رضي الله عنهم ، في قوله : { فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا } قال
: صعد موسى وهارون الجبل ، فمات هارون ، عليه السلام ، فقال بنو إسرائيل لموسى ،
عليه السلام : أنت قتلته ، كان ألين لنا منك وأشد حياء. فآذوه من ذلك ، فأمر الله
الملائكة فحملته ، فمروا (3) به على مجالس بني إسرائيل ، فتكلمت بموته ، فما عرف
موضع قبره إلا الرَّخَم ، وإن الله جعله أصم أبكم.
وهكذا رواه ابن جرير ، عن علي بن موسى الطوسي ، عن عباد بن العوام ، به (4).
ثم قال : وجائز أن يكون هذا هو المراد بالأذى ، وجائز أن يكون الأول هو المراد ،
فلا قول أولى من قول الله ، عز وجل.
قلت : يحتمل أن يكون الكل مرادا ، وأن يكون معه غيره ، والله أعلم.
قال (5) الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن شَقيق ، عن عبد الله
قال : قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم قسما ، فقال رجل من الأنصار : إن
هذه القسمة (6) ما أريد بها وجه الله. قال : فقلت : يا عدو الله ، أما لأخبرن رسول
الله صلى الله عليه وسلم بما قلت. قال : فذكر (7) ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم
فاحمرَّ وجهه ، ثم قال : "رحمة الله على موسى ، فقد أوذي بأكثر من هذا
فصبر".
أخرجاه في الصحيحين (8) من حديث سليمان بن مهران الأعمش ، به (9).
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، سمعت إسرائيل بن يونس ، عن الوليد بن
أبي هاشم (10) - مولى الهمداني ، عن زيد بن زائد ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : "لا يبلِّغني أحد من أصحابي عن أحد
شيئا ، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا [سليم الصدر]" (11). فأتى رسول الله صلى
الله عليه وسلم مالٌ فقسمه ، قال : فمررت برجلين وأحدهما يقول لصاحبه : والله ما
أراد محمد بقسمته وجه الله ولا الدار الآخرة. قال : فَتَثَبَّتُ حتى سمعت (12) ما
قالا ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، إنك قلت لنا :
"لا يبلغني أحد عن أصحابي شيئا" ، وإني مررت بفلان وفلان ، وهما يقولان
كذا وكذا. فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشَقَّ عليه ، ثم قال :
"دعنا منك ، لقد أوذي موسى بأكثر من هذا ، فصبر" (13).
__________
(1) مسند البزار برقم (2252) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع
(7/92) : "وفيه إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة وهو متروك".
(2) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
(3) في أ : "فمرت".
(4) تفسير الطبري (22/37).
(5) في ت : "وروى".
(6) في أ : "لقسمة".
(7) في ت ، أ : "فذكرت".
(8) في ت : "أخرجه البخاري ومسلم".
(9) المسند (1/380) وصحيح البخاري برقم (3405) وصحيح مسلم برقم (1062).
(10) في أ : "هشام".
(11) زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
(12) في أ : "فقلت حين سمعت".
(13) المسند (1/395).
(6/486)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
وقد رواه
أبو داود في الأدب ، عن محمد [بن يحيى الذُّهْلي ، عن محمد بن يوسف الفريابي ، عن
إسرائيل عن الوليد] (1) بن أبي هاشم (2) به مختصرًا : "لا يبلغني أحد [من
أصحابي] (3) عن أحد شيئا ؛ إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر" (4)
وكذا رواه الترمذي في "المناقب" ، عن الذهلي سواء ، إلا أنه قال :
"زيد بن زائدة". ورواه أيضا عن محمد بن إسماعيل ، عن عبد الله بن محمد ،
عن عبيد الله بن موسى وحسين بن محمد كلاهما عن إسرائيل ، عن السدي ، عن الوليد بن
أبي هاشم ، به مختصرا أيضا ، فزاد في إسناده السدي ، ثم قال : غريب من هذا الوجه
(5).
وقوله : { وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا } أي : له وجاهة وجاه عند ربه ، عز
وجل.
قال الحسن البصري : كان مستجابَ الدعوة عند الله. وقال غيره من السلف : لم يسأل
الله شيئا إلا أعطاه. ولكن منع الرؤية لما يشاء الله ، عز وجل.
وقال بعضهم : من وجاهته العظيمة [عند الله] (6) : أنه شفع في أخيه هارون أن يرسله
الله معه ، فأجاب الله سؤاله ، وقال : { وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا
أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا } [مريم : 53].
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا
(70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) }
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بتقواه ، وأن يعبدوه عبادة مَنْ كأنه يراه ، وأن
يقولوا { قَوْلا سَدِيدًا } أي : مستقيما لا اعوجاج فيه ولا انحراف. ووعدهم أنهم
إذا فعلوا ذلك ، أثابهم عليه بأن يصلح لهم أعمالهم ، أي : يوفقهم للأعمال الصالحة
، وأن يغفر لهم الذنوب الماضية. وما قد يقع منهم في المستقبل يلهمهم التوبة منها.
ثم قال : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } :
وذلك أنه يجار من النار ، ويصير إلى النعيم المقيم.
قال (7) ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن عَوْن ، حدثنا خالد ، عن لَيْث
، عن أبي بُرْدَة ، عن أبي موسى الأشعري قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم صلاة الظهر ، فلما انصرف أومأ إلينا بيده فجلسنا ، فقال : "إن الله
أمرني أن آمركم ، أن تتقوا الله وتقولوا قولا سديدا". ثم أتى النساء فقال :
"إن الله أمرني أن آمركن : أن تتقين الله وتقلن قولا سديدا" (8).
وقال (9) ابن أبي الدنيا في كتاب "التقوى" : حدثنا محمد بن عباد بن موسى
، حدثنا عبد
__________
(1) زيادة من ت ، ف ، أ ، وأبي داود.
(2) في ف ، أ : "هشام".
(3) زيادة من ت ، ف ، أ ، وأبي داود.
(4) سنن أبي داود برقم (4860).
(5) سنن الترمذي برقم (3896).
(6) زيادة من ت.
(7) في ت : "وروى".
(8) ورواه أحمد في مسنده (4/391) من طريق شيبان عن ليث ، به.
(9) في ت : "وروى".
(6/487)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
العزيز بن
عمران الزهري ، حدثنا عيسى بن سَمُرة ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه (1) ، عن
عائشة رضي الله عنها ، قالت : ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر إلا
سمعته يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا
سَدِيدًا } الآية. غريب جدًا.
وروى من حديث عبد الرحيم بن زيد العَمِّي ، عن أبيه ، عن محمد بن كعب ، عن ابن
عباس موقوفا (2) ، من سره أن يكون أكرم الناس ، فليتق الله.
قال عكرمة : القول السديد : لا إله إلا الله.
وقال غيره : السديد : الصدق. وقال مجاهد : هو السداد. وقال غيره : هو الصواب.
والكل حق.
{ إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ
أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ
ظَلُومًا جَهُولا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ
وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73) }
قال العوفي ، عن ابن عباس : يعني بالأمانة : الطاعة ، وعرضها عليهم قبل أن يعرضها
على آدم ، فلم يطقنها (3) ، فقال لآدم : إني قد عرضتُ الأمانة على السموات والأرض
والجبال فلم يطقنها (4) ، فهل أنت آخذ بما فيها ؟ قال : يا رب ، وما فيها ؟ قال :
إن أحسنت جزيت ، وإن أسأت عوقبت. فأخذها آدم فتحمَّلها ، فذلك قوله : {
وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا }.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، الأمانة : الفرائض ، عرضها الله على السموات
والأرض والجبال ، إن أدوها أثابهم. وإن ضيعوها عذبهم (5) ، فكرهوا ذلك وأشفقوا من
غير معصية ، ولكن تعظيمًا لدين الله ألا يقوموا بها ، ثم عرضها على آدم فقبلها بما
فيها ، وهو (6) قوله : { وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا }
يعني : غرًا بأمر الله.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن أبي بشر (7) ، عن سعيد
بن جبير ، عن (8) ابن عباس أنه قال في هذه الآية : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ
عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا
وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } قال : عرضت على آدم فقال : خذها بما فيها ، فإن أطعت
غَفَرت لك ، وإن عَصَيت عذبتك. قال : قبلت ، فما كان إلا قدر ما بين العصر إلى
الليل من ذلك اليوم ، حتى أصاب الخطيئة.
وقد روى الضحاك ، عن ابن عباس ، قريبا من هذا. وفيه نظر وانقطاع بين الضحاك وبينه
، والله أعلم. وهكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، والحسن البصري ، وغير
واحد :
__________
(1) في ت : "بسنده".
(2) في ت : "مرفوعا".
(3) في ت : "يطقها" وفي أ : "يطعنها".
(4) في أ : "يطعنها".
(5) في ت ، أ : "عذبهم الله".
(6) في أ : "وهي".
(7) في أ : "حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر".
(8) في ت : "وروى ابن جرير بسنده إلى".
(6/488)
[ألا] (1)
إن الأمانة هي الفرائض.
وقال آخرون : هي الطاعة.
وقال الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق [قال] (2) : قال أبي بن كعب : من الأمانة
أن المرأة اؤتمنت على فرجها.
وقال قتادة : الأمانة : الدين والفرائض والحدود.
وقال بعضهم : الغسل من الجنابة.
وقال مالك ، عن زيد بن أسلم قال : الأمانة ثلاثة : الصلاة ، والصوم ، والاغتسال من
الجنابة.
وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها ، بل هي (3) متفقة وراجعة إلى أنها التكليف ،
وقبول الأوامر والنواهي بشرطها ، وهو أنه إن قام بذلك أثيب ، وإن تركها عُوقِبَ ،
فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه ، إلا مَنْ وفق اللَّهُ ، وبالله المستعان.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة [البصري] (4) ، حدثنا
حماد بن واقد - يعني : أبا عمر الصفار - سمعت أبا معمر (5) - يعني : عون بن معمر -
يحدث عن الحسن - يعني : البصري (6) - أنه تلا هذه الآية : { إِنَّا عَرَضْنَا
الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ } قال : عرضها على السبع
الطباق الطرائق التي زينت بالنجوم ، وحملة العرش العظيم ، فقيل لها : هل تحملين
الأمانة وما فيها ؟ قالت : وما فيها ؟ قال : قيل لها : إن أحسنت جُزِيت ، وإن أسأت
عوقبت. قالت : لا. ثم عرضها على الأرضين السبع الشداد ، التي شدت بالأوتاد ، وذللت
بالمهاد ، قال : فقيل لها : هل تحملين الأمانة وما فيها ؟ قالت : وما فيها ؟ قال :
قيل لها : إن أحسنت جزيت ، وإن أسأت عوقبت. قالت : لا. ثم عرضها على الجبال الشم
(7) الشوامخ الصعاب الصلاب ، قال : قيل لها : هل تحملين الأمانة وما فيها ؟ قالت :
وما فيها ؟ قال : قيل لها : إن أحسنت جزيت ، وإن أسأت عوقبت. قالت : لا.
وقال مقاتل بن حيان : إن الله حين خلق خلقه ، جمع بين الإنس والجن ، والسموات
والأرض والجبال ، فبدأ بالسموات فعرض عليهن الأمانة وهي الطاعة ، فقال لهن :
أتحملن هذه الأمانة ، ولكن على الفضل والكرامة والثواب في الجنة... ؟ فقلن : يا رب
، إنا لا نستطيع هذا الأمر ، وليست بنا قوة ، ولكنا لك مطيعين. ثم عرض الأمانة على
الأرضين ، فقال لهن : أتحملن هذه الأمانة وتقبلنها مني ، وأعطيكن الفضل والكرامة
(8) ؟ فقلن : لا صبر لنا على هذا يا رب ولا نطيق ، ولكنا لك سامعين مطيعين ، لا
نعصيك في شيء تأمرنا به. ثم قرب آدم فقال له : أتحمل هذه الأمانة وترعاها حق
رعايتها ؟ فقال عند ذلك آدم : ما لي عندك ؟ قال : يا آدم ، إن أحسنت وأطعت ورعيت
الأمانة ، فلك عندي الكرامة والفضل وحسن الثواب في الجنة. وإن عصيت ولم ترْعَها حق
رعايتها
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) في ت : "وهي".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ : "أبا عمر".
(6) في ت : "وروى ابن أبي حاتم عن الحسن البصري".
(7) في أ : "الصم".
(8) في أ : "والكرامة في الدنيا".
(6/489)
وأسأت ،
فإني معذبك ومعاقبك وأنزلك النار. قال : رضيت [يا] (1) رب. وتَحمَّلها (2) ، فقال
الله عز وجل : قد حَمَّلْتُكَهَا. فذلك قوله : { وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ }. رواه
ابن أبي حاتم.
وعن (3) مجاهد أنه قال : عرضها على السموات فقالت : يا رب ، حملتني الكواكب وسكان
السماء وما ذكر ، وما أريد ثوابا ولا أحمل فريضة. قال : وعرضها على الأرض فقالت :
يا رب ، غرست فيّ الأشجار ، وأجريت فيّ الأنهار وسكان الأرض وما ذكر ، وما أريد
ثوابا ولا أحمل فريضة. وقالت الجبال مثل ذلك ، قال الله تعالى : { وَحَمَلَهَا
الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا } في عاقبة أمره. وهكذا قال ابن
جُرَيْج.
وعن ابن أشوع أنه قال : لما عرض الله عليهن حمل الأمانة ، ضَجَجْنَ إلى الله ثلاثة
أيام ولياليهن ، وقلن : ربنا. لا طاقة لنا بالعمل ، ولا نريد الثواب.
ثم قال (4) ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء الموصلي
، حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم في هذه الآية : { إِنَّا
عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ } [الآية] (5) ،
فقال الإنسان : بين أذني وعاتقي فقال الله تعالى (6) : إني مُعينك عليها ، أي :
معينك على عينيك بطبقتين ، فإذا نازعاك إلى ما أكره فأطبق. ومعينك على لسانك
بطبقتين ، فإذا نازعك إلى ما أكره فأطبق. ومعينك على فرجك بلباس ، فلا تكشفه إلى
ما أكره.
ثم روي عن أبي حازم نحو هذا.
وقال ابن جرير : حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله ، عز
وجل : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ
فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } قال : إن الله عرض عليهن
الأمانة أن يفترض عليهن الدين ، ويجعل لهن ثوابا وعقابا ، ويستأمنهن على الدين.
فقلن : لا نحن مسخرات لأمرك ، لا نريد ثوابا ولا عقابا. قال (7) : وعرضها الله على
آدم فقال : بين أذني وعاتقي. قال ابن زيد : فقال الله تعالى له : أما إذْ تحملت
هذا فسأعينك ، أجعل لبصرك حجابا ، فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل لك فأرخ عليه
حجابه ، واجعل للسانك بابا وغلقا ، فإذا خشيت فأغلق ، وأجعل لفرجك لباسا فلا تكشفه
إلا على ما أحللت لك.
وقال ابن جرير : حدثني سعيد (8) بن عمرو السَّكُوني ، حدثنا بقِيَّة ، حدثنا عيسى
بن إبراهيم ، عن موسى بن أبي حبيب ، عن (9) الحكم بن عمير - وكان من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم - قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الأمانة
والوفاء نزلا على ابن آدم مع الأنبياء ، فأرسلوا به ، فمنهم رسول الله ، ومنهم نبي
، ومنهم نبي رسول ، ونزل القرآن وهو كلام الله ، ونزلت العربية والعجمية ، فعلموا
أمر القرآن وعلموا أمر السنن بألسنتهم ، ولم يدع الله شيئا من أمره مما يأتون وما
يجتنبون وهي الحجج عليهم ، إلا بينه لهم. فليس أهل لسان إلا وهم يعرفون الحسن
والقبيح ، ثم الأمانة أول شيء يرفع ويبقى
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ : "وتحملتها".
(3) في ت : "وقال".
(4) في ت : "ثم روى".
(5) زيادة من ت ، ف ، أ.
(6) في ت ، ف : "عز وجل".
(7) في أ : "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(8) في أ : "سعد".
(9) في ت : "وروى ابن جرير بإسناده إلى".
(6/490)
أثرها في
جذور (1) قلوب الناس ، ثم يرفع الوفاء والعهد والذمم وتبقى الكتب (2) ، فعالم يعمل
، وجاهل يعرفها وينكرها ولا يحملها ، حتى وصل إليّ وإلى أمتي ، ولا يهلك على الله
إلا هالك ، ولا يغفله إلا تارك. فالحذر أيها الناس ، وإياكم والوسواس الخناس ،
فإنما يبلوكم أيكم أحسن عملا (3).
هذا حديث غريب جدا ، وله شواهد من وجوه أخرى.
ثم قال ابن جرير : حدثنا محمد بن خلف العسقلاني ، حدثنا عبد الله بن عبد المجيد
الحنفي ، أخبرنا أبو العوام القطان ، حدثنا قتادة ، وأبان بن أبي عياش (4) ، عن
خُليَد العَصَري (5) ، عن أبي الدرداء ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "خمس من جاء بهن يوم القيامة مع إيمان دخل الجنة : من حافظ
على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن ، وأعطى الزكاة من ماله
طيب النفس بها - وكان يقول ، وايم الله لا يفعل ذلك إلا مؤمن - [وصام رمضان ، وحج
البيت إن استطاع إلى ذلك سبيلا] (6) ، وأدى الأمانة". قالوا : يا أبا الدرداء
، وما أداء الأمانة ؟ قال : الغسل من الجنابة ، فإن الله لم يأمن ابن آدم على شيء
من دينه غيره.
وهكذا رواه أبو داود عن محمد بن عبد الرحمن العنبري ، عن أبي علي عبيد الله بن عبد
المجيد (7) الحنفي ، عن أبي العوام عمران بن دَاور (8) القطان ، به (9).
وقال ابن جرير (10) أيضا : حدثنا تميم بن المنتصر ، أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن
الأعمش ، عن عبد الله (11) بن السائب ، عن زاذان ، عن عبد الله بن مسعود ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها -
أو قال : يكفر كل شيء - إلا الأمانة ، يؤتى بصاحب الأمانة فيقال له : أدِّ أمانتك.
فيقول : أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقال له : أدِّ أمانتك. فيقول : أنى يا رب ،
وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقال له : أدِّ أمانتك. فيقول : أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا ؟
فيقول : اذهبوا به إلى أمه الهاوية. فيذهب به إلى الهاوية ، فيهوي فيها حتى ينتهي
إلى قعرها ، فيجدها هنالك كهيئتها ، فيحملها فيضعها على عاتقه ، فيصعد بها إلى
شفير جهنم ، حتى إذا رأى أنه قد خرج زلَّت فهوى في أثرها أبد الآبدين". وقال
: والأمانة في الصوم ، والأمانة في الوضوء ، والأمانة في الحديث ، وأشد ذلك
الودائع. فلقيت البراء فقلت : ألا تسمع إلى ما يقول أخوك عبد الله ؟ فقال : صدق.
قال شريك : وحدثنا عياش (12) العامري ، عن زاذان ، عن (13) عبد الله بن مسعود ،
رضي
__________
(1) في أ : "صدور".
(2) في ت : "الكسب".
(3) تفسير الطبري (22/39) وله شاهد من حديث حذيفة أخرجه البخاري في صحيحه برقم
(6497) وسيأتي.
(4) في أ : "أبي عباس".
(5) في ت : "ثم روى ابن جرير بإسناده".
(6) زيادة من ت ، ف ، أ ، وتفسير الطبري.
(7) في أ : "عبد الحميد".
(8) في أ : "داود".
(9) تفسير الطبري (22/39) وسنن أبي داود برقم (429).
(10) في ت : "وروى ابن أبي جرير".
(11) في أ : "عبيد الله".
(12) في أ : "عباس".
(13) في ت : "وعن".
(6/491)
الله عنه ،
عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. ولم يذكر : "الأمانة في الصلاة وفي كل
شيء" (1). إسناده جيد ، ولم يخرجوه.
ومما يتعلق بالأمانة الحديث الذي رواه الإمام أحمد (2) :
حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن حذيفة قال : حدثنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر ، حدثنا "أن
الأمانة نزلت في جذر (3) قلوب الرجال ، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من
السنة". ثم حدثنا عن رفع الأمانة ، فقال : "ينام الرجل النومة فتقبض
الأمانة من قلبه ، فيظل أثرها مثل أثر [الوكت ، فتقبض الأمانة من قلبه ، فيظل
أثرها مثل أثر] (4) المجل كجمر دحرجته [على رجلك ، تراه مُنتبرا وليس فيه
شيء". قال : ثم أخذ حصى (5) فدحرجه] (6) على رجله ، قال : "فيصبح الناس
يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة ، حتى يقال : إن في بني فلان رجلا أمينا ، حتى
يقال للرجل : ما أجلده وأظرفه وأعقله. وما في قلبه حبة من خردل من إيمان. ولقد أتى
عَلَيَّ زمان وما أبالي أيكم بايعت ، إن كان مسلما ليردنه على دينه ، وإن كان
نصرانيا أو يهوديا ليردنه عليّ ساعيه ، فأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانا
وفلانا".
وأخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش ، به (7).
وقال (8) الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن الحارث بن يزيد (9)
الحضرمي ، عن عبد الله بن عمرو ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"أربع إذا كُنَّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : حِفْظ أمانة ، وصِدْق حديث
، وحُسْن خليقة ، وعِفَّة طُعمة".
هكذا رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص (10).
وقد قال الطبراني في مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب : حدثني يحيى بن أيوب العلاف
المصري (11) ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن الحارث بن يزيد ،
عن ابن حُجَيرة ، عن عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : حفظ أمانة ،
وصدق حديث ، وحسن خليقة ، وعفة طعمة". فزاد في الإسناد : "ابن
حُجَيرة" ، وجعله من (12) مسند ابن عمر (13).
__________
(1) تفسير الطبري (22/40).
(2) في ت : "الذي في الصحيحين".
(3) في أ : "صدر".
(4) زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
(5) في ت ، أ : "حصاة".
(6) زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
(7) المسند (5/283) وصحيح البخاري برقم (6497) وصحيح مسلم برقم (143).
(8) في ت : "وروى".
(9) في أ : "زيد".
(10) المسند (2/177).
(11) في ف ، أ : "المقري".
(12) في أ : "في".
(13) مجمع الزوائد (4/145) وقال الهيثمي : "رواه أحمد والطبراني في الكبير ،
وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن ، وبقية رجاله رجال الصحيح".
(6/492)
وقد ورد
النهي عن الحلف بالأمانة ، قال عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد (1) : حدثنا
شريك ، عن أبي إسحاق الشيباني ، عن خُنَاس بن سُحَيم - أو قال : جَبَلَة بن سُحَيم
- قال : أقبلت مع زياد بن حُدَيْر من الجابية فقلتُ في كلامي : لا والأمانة. فجعل
زياد يبكي ويبكي ، فظننت أني أتيتُ أمرا عظيما ، فقلت له : أكان يكره هذا ؟ قال :
نعم. كان عمر بن الخطاب ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي (2).
وقد ورد في ذلك حديث مرفوع ، قال (3) أبو داود : حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ،
حدثنا زهير ، حدثنا الوليد بن ثعلبة الطائي ، عن ابن بريدة ، عن أبيه قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من حلف بالأمانة فليس منا" ، تفرد به
أبو داود ، رحمه الله (4).
وقوله تعالى : { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ
وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ } أي : إنما حمل ابن آدم الأمانة وهي التكاليف
ليعذب الله المنافقين منهم والمنافقات ، وهم الذين يظهرون الإيمان خوفا من أهله
ويبطنون الكفر متابعة لأهله ، { وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ } ، وهم الذين
ظاهرهم وباطنهم على الشرك بالله ، عز وجل ، ومخالفة رسله ، { وَيَتُوبَ اللَّهُ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } أي : وليرحم (5) المؤمنين من الخلق (6)
الذين آمنوا بالله ، وملائكته وكتبه ورسله العاملين بطاعته { وَكَانَ اللَّهُ
غَفُورًا رَحِيمًا }. [آخر تفسير سورة "الأحزاب"] (7)
__________
(1) في ت : "فروى ابن المبارك بإسناد".
(2) الزهد برقم (213).
(3) في ت : "رواه".
(4) سنن أبي داود برقم (3253) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (1318)
"موارد" من طريق وكيع عن الوليد بن ثعلبة ، به.
(5) في أ : "وليرحم الله".
(6) في أ : "الحلف".
(7) زيادة من ف.
(6/493)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
تفسير سُورة
سَبأ
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَهُ
الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ
فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ
فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) }.
يخبر تعالى عن نفسه الكريمة : أن له الحمدَ المطلق في الدنيا والآخرة ؛ لأنه
المنعم المتفضل على أهل الدنيا والآخرة ، المالك لجميع ذلك ، الحاكم في جميع ذلك ،
كما قال : { وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى
وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [القصص : 70] ؛ ولهذا قال
هاهنا : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ
} أي : الجميع ملكه وعبيده وتحت قهره وتصرفه ، كما قال : { وَإِنَّ لَنَا
لَلآخِرَةَ وَالأولَى } [الليل : 13].
ثم قال : { وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ } ، فهو المعبود (1) أبدا ، المحمود
على طول المدى. وقال : { وَهُوَ الْحَكِيمُ } أي : في أقواله وأفعاله وشرعه
وقَدَره ، { الْخَبِيرُ } الذي لا تخفى عليه خافية ، ولا يغيب عنه شيء.
وقال مالك عن الزهري : خبير بخلقه ، حكيم بأمره ؛ ولهذا قال : { يَعْلَمُ مَا
يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } أي : يعلم عدد القطر النازل في أجزاء
الأرض ، والحب المبذور والكامن فيها ، ويعلم ما يخرج من ذلك : عدده وكيفيته وصفاته
، { وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ } أي : من قطر ورزق ، { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا }
أي : من الأعمال الصالحة وغير ذلك ، { وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ } أي : الرحيم
بعباده فلا يعاجل عُصاتهم بالعقوبة ، الغفور (2) عن ذنوب [عباده] (3) التائبين
إليه المتوكلين عليه.
__________
(1) في أ : "المحمود".
(2) في ت : "العفو".
(3) زيادة من أ.
(6/494)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
{ وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ
الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي
الأرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ
أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ الَّذِي أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى
صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) }.
هذه إحدى الآيات الثلاث التي لا رابع لهن ، مما أمر الله رسولَه صلى الله عليه
وسلم أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد لَمَّا أنكره مَنْ أنكره من أهل الكفر
والعناد ، فإحداهن في سورة يونس : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي
وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } [يونس : 53] ، والثانية
هذه : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي
لَتَأْتِيَنَّكُمْ } ، والثالثة في التغابن : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ
لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا
عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [التغابن : 7] ، فقوله : { قُلْ
بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } (1) ، ثم وصفه بما يؤكد ذلك ويقرره : {
عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا
فِي الأرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }.
قال مجاهد وقتادة : { لا يَعْزُبُ عَنْهُ } لا يغيب عنه ، أي : الجميع مندرج تحت
علمه فلا يخفى عليه منه شيء ، فالعظام وإن تلاشت وتفرقت وتمزقت ، فهو عالم أين
ذهبت وأين (2) تفرقت ، ثم يعيدها كما بدأها أول مرة ، فإنه بكل شيء عليم.
ثم بين حكمته في إعادة الأبدان وقيام الساعة بقوله : { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } أي : سعوا في الصد عن سبيل الله
وتكذيب رسله ، { أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ } أي : لينعم
السعداء من المؤمنين ، ويعذب الأشقياء من الكافرين ، كما قال : { لا يَسْتَوِي
أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ
الْفَائِزُونَ } [الحشر : 20] ، وقال تعالى : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ
الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ص : 28].
وقوله : { وَيَرَى (3) الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ }. هذه حكمة أخرى معطوفة على التي قبلها ، وهي أن المؤمنين
بما أنزل على الرسل إذا شاهدوا قيام الساعة ومجازاة الأبرار والفجار بالذي كانوا
قد علموه من كتب الله في الدنيا رأوه حينئذ عين اليقين ، ويقولون يومئذ أيضًا : {
لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } [الأعراف : 43] ، ويقال أيضًا : {
هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ } [يس : 52] ، { لَقَدْ
لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ
} [الروم : 56] ، { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزلَ إِلَيْكَ
مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }.
العزيز هو : المنيع الجناب (4) ، الذي لا يُغالب ولا يُمَانع ، بل قد قهر كل شيء ،
الحميد في جميع أقواله وأفعاله وشرعه ، وقدره ، وهو المحمود في ذلك كله.
__________
(1) في ت : "ليأتينكم".
(2) في أ : "وإن".
(3) في س : "وترى".
(4) في أ : "الجبار".
(6/495)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) }
(6/496)
أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
{ أَفْتَرَى
عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى
مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنْ نَشَأْ
نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ
فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) }.
هذا إخبار من الله عن استبعاد الكفرة الملحدين قيامَ الساعة واستهزائهم بالرسول
صلى الله عليه وسلم في إخباره بذلك : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ
نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي :
تفرقت (1) أجسادكم في الأرض وذهبت فيها كل مذهب وتمزقت كل ممزق : { إِنَّكُمْ } أي
: بعد هذا الحال { لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } أي : تعودون أحياء ترزقون بعد ذلك ، وهو
في هذا الإخبار لا يخلو أمره من قسمين : إما أن يكون قد تعمد الافتراء على الله
أنه قد أوحى إليه ذلك ، أو أنه لم يتعمد لكن لُبّس عليه كما يُلَبَّس على المعتوه
والمجنون ؛ ولهذا قالوا : { أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ }
؟ قال الله تعالى رادًا عليهم : { بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي
الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ } أي : ليس الأمر كما زعموا ولا كما ذهبوا إليه
، بل محمد صلى الله عليه وسلم هو الصادق البار الراشد الذي جاء بالحق ، وهم الكذبة
الجهلة الأغبياء ، { فِي الْعَذَابِ } أي : [في] (2) الكفر المفضي بهم إلى عذاب
الله ، { وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ } من (3) الحق في الدنيا.
ثم قال منبهًا لهم على قدرته في خلق السموات والأرض ، فقال : { أَفَلَمْ يَرَوْا
إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } أي :
حيثما (4) توجهوا وذهبوا فالسماء مظلة مُظلَّلة عليهم ، والأرض تحتهم ، كما قال :
{ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ. وَالأرْضَ
فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ } [الذاريات : 47 ، 48].
قال (5) عبد بن حميد : أخبرنا عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : { أَفَلَمْ
يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ
} ؟ قال : إنك إن نظرت عن يمينك أو عن شمالك ، أو من بين يديك أو من خلفك ، رأيت
السماء والأرض.
وقوله : { إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا
مِنَ السَّمَاءِ } أي : لو شئنا لفعلنا بهم ذلك لظلمهم وقدرتنا عليهم ، ولكن نؤخر
ذلك لحلمنا وعفونا.
ثم قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } قال مَعْمَر ، عن
قتادة : { مُنِيبٍ } : تائب.
وقال سفيان (6) عن قتادة : المنيب : المقبل إلى (7) الله عز وجل.
أي : إن في النظر إلى خلق السماء والأرض لدلالة لكل عبد فَطِن لبيب رَجَّاع إلى
الله ، على قدرة الله على بعث الأجساد ووقوع المعاد ؛ لأن مَنْ قدر على خلق هذه
السموات في ارتفاعها (8) واتساعها ، وهذه الأرضين في انخفاضها وأطوالها وأعراضها ،
إنه لقادر على إعادة الأجسام ونشر الرميم من العظام ، كما قال تعالى : {
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ
مِثْلَهُمْ (9) بَلَى } [يس : 81] ، وقال : { لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ
أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ }
[غافر : 57].
__________
(1) في ت : "فرقت".
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) في أ : "عن".
(4) في ت ، س : "حيث".
(5) في ت : "روى".
(6) في أ : "شيبان".
(7) في ت ، أ : "على".
(8) في ت ، س : "وارتفاعها".
(9) في ت ، س ، أ : "على أن يحيي الموتى" والصواب ما أثبتناه.
(6/496)
وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
{ وَلَقَدْ
آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ
وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ
وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) }.
يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله داود ، صلوات الله وسلامه عليه ، مما آتاه
من الفضل المبين ، وجمع له بين النبوة والملك المتمكن ، والجنود ذوي العَدَد
والعُدَد ، وما أعطاه ومنحه من الصوت العظيم ، الذي كان إذا سبح به تسبح معه
الجبال الراسيات ، الصم الشامخات ، وتقف له الطيور السارحات ، والغاديات والرائحات
، وتجاوبه بأنواع اللغات. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت أبي
موسى الأشعري يقرأ من الليل ، فوقف فاستمع لقراءته (1) ، ثم قال " لقد أوتي
هذا مِزْمَارًا من مزامير آل داود".
وقال أبو عثمان النهدي : ما سمعت صوت صَنج ولا بَرْبَط ولا وَتَر أحسن من صوت أبي
موسى الأشعري ، رضي الله عنه. (2)
ومعنى قوله : { أَوِّبِي } أي : سبحي. قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وغير واحد.
وزعم أبو (3) ميسرة أنه بمعنى سَبّحي بلسان الحبشة. وفي هذا نظر ، فإن التأويب في
اللغة هو الترجيع ، فأمرت الجبال والطير أن ترجع معه بأصواتها.
وقال أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي في كتابه "الجُمل" في باب
النداء منه : { يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ } أي : سيري معه بالنهار كله ،
والتأويب : سير النهار كله ، والإسآد (4) : سير الليل كله. وهذا لفظه ، وهو غريب
جدًا لم أجده (5) لغيره ، وإن كان له مساعدة من حيث اللفظ في اللغة ، لكنه بعيد في
معنى الآية هاهنا. والصواب أن المعنى في قوله تعالى : { أَوِّبِي مَعَهُ } أي :
رَجّعي معه مُسَبّحة معه ، كما تقدم ، والله أعلم.
وقوله : { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ } : قال الحسن البصري ، وقتادة ، والأعمش
وغيرهم : كان لا يحتاج أن يُدخلَه نارًا ولا يضربه بمطرقة ، بل كان يفتله بيده مثل
الخيوط ؛ ولهذا قال : { أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ } وهي : الدروع. قال قتادة : وهو
أول من عملها من الخلق ، وإنما كانت قبل ذلك صفائح.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا ابن سَمَاعة ، حدثنا ابن ضَمْرَة
(6) ، عن ابن شَوْذَب قال : كان داود ، عليه السلام ، يرفع في كل يوم درعًا
فيبيعها بستة آلاف درهم : ألفين له ولأهله ، وأربعة آلاف درهم يطعم بها بني
إسرائيل خبز الحُوّاري.
__________
(1) في ت : "فاستمع رسول الله لقراءته".
(2) سبق تخريج الحديث والأثر في فضائل القرآن.
(3) في أ : "ابن".
(4) في أ : "والآباد".
(5) في أ : "لم أر" ، وفي ت : "لم أره".
(6) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
(6/497)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
{ وَقَدِّرْ
فِي السَّرْدِ } : هذا إرشاد من الله لنبيه داود ، عليه السلام ، في تعليمه صنعة
الدروع.
قال مجاهد في قوله : { وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } : لا تُدِقّ المسمار فَيقلَق في
الحلقة ، ولا تُغَلّظه فيفصمها ، واجعله بقدر.
وقال الحكم بن عُتيبة (1) : لا تُغَلظه فيفصم ، ولا تُدِقّه فيقلَق (2). وهكذا روي
عن قتادة ، وغير واحد.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : السرد : حَلَق (3) الحديد. وقال بعضهم :
يقال : درع مسرودة : إذا كانت مسمورة الحلق ، واستشهد بقول الشاعر : (4)
وَعَليهما مَسْرُودَتَان قَضَاهُما... دَاودُ أو صنعَ السَّوابغ تُبّعُ...
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة داود ، عليه والسلام ، (5) من طريق إسحاق بن
بشر - وفيه كلام - عن أبي إلياس ، عن وهب بن مُنَبه ما مضمونه : أن داود ، عليه
السلام ، كان يخرج متنكرًا ، فيسأل الركبان عنه وعن سيرته ، فلا يسأل أحدًا إلا
أثنى عليه خيرًا في عبادته وسيرته ومعدلته ، صلوات الله وسلامه عليه. قال وهب :
حتى بعث الله مَلَكًا في صورة رجل ، فلقيه داود فسأله كما كان يسأل غيره ، فقال :
هو خير الناس لنفسه ولأمته ، إلا أن فيه خصلة لو لم تكن فيه كان كاملا قال : ما هي
؟ قال : يأكل ويطعم عياله من مال المسلمين ، يعني : بيت المال ، فعند ذلك نصب داود
، عليه السلام ، إلى ربه في الدعاء أن يعلمه عملا بيده يستغني به ويغني به عياله ،
فألان له الحديد ، وعلمه صنعة الدروع ، فعمل الدرع (6) ، وهو أول مَنْ عملها ،
فقال الله : { أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } يعني : مسامير
الحلق ، قال : وكان يعمل الدرع (7) ، فإذا ارتفع من عمله درع باعها ، فتصدق بثلثها
، واشترى بثلثها ما يكفيه وعياله ، وأمسك الثلث يتصدق به يوما بيوم إلى أن يعمل
غيرها. وقال : إن الله أعطى داود شيئًا لم يعطه غيره من حسن الصوت ، إنه كان إذا
قرأ الزبور تسمع الوحش (8) حتى يؤخذ بأعناقها وما تنفر ، وما صنعت الشياطين المزامير
والبرابط والصنوج إلا على أصناف صوته. وكان شديد الاجتهاد ، وكان إذا افتتح الزبور
بالقراءة كأنما ينفخ في المزامير ، وكأن (9) قد أعطي سبعين مزمارًا في حلقه.
وقوله : { وَاعْمَلُوا صَالِحًا } أي : في الذي أعطاكم الله من النعم ، { إِنِّي
بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : مراقب لكم ، بصير بأعمالكم وأقوالكم ، لا يخفى
علي من ذلك شيء.
{ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا
لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ
رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ
(12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ
كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ
عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) }
__________
(1) في س ، أ : "عيينة".
(2) في ت ، أ : "فيفلق".
(3) في ت ، س : "هو".
(4) هو أبو ذؤيب الهذلي ، والبيت في اللسان مادة (قضى).
(5) تاريخ دمشق (5/708 المخطوط).
(6) في ت ، أ : "الدروع".
(7) في ت ، أ : "الدروع".
(8) في ت ، س ، أ : "تجتمع الوحوش إليه".
(9) في ت ، س : "وكان".
(6/498)
لما ذكر
تعالى ما أنعم به على داود ، عطف بذكر ما أعطى ابنه سليمان (1) ، من تسخير الريح
له تحمل بساطه ، غدوها شهر ورواحها شهر.
قال الحسن البصري : كان يغدو على بساطه من دمشق فينزل بإصطخر يتغذّى (2) بها ،
ويذهب رائحا من إصطخر فيبيت بكابل ، وبين دمشق وإصطخر شهر كامل للمسرع ، وبين
إصطخر وكابل شهر كامل للمسرع.
وقوله : { وَأَسَلْنَا لَهُ (3) عَيْنَ الْقِطْرِ } قال ابن عباس ، ومجاهد ،
وعكرمة ، وعطاء الخراساني ، وقتادة ، والسدي ، ومالك عن زيد بن أسلم ، و (4) عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغير واحد : القطر : النحاس. قال قتادة : وكانت باليمن ،
فكل ما يصنع الناس مما أخرج الله تعالى لسليمان ، عليه السلام.
قال السدي : وإنما أسيلت له ثلاثة أيام.
وقوله : { وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ } أي :
وسخرنا له الجن يعملون بين يديه بإذن الله ، أي : بقدره (5) ، وتسخيره لهم بمشيئته
ما يشاء من البنايات وغير ذلك. { وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا } أي :
ومَنْ يعدل ويخرج منهم عن الطاعة { نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ } وهو
الحريق.
وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثا غريبا فقال : حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح ،
حدثنا معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن جبير بن نُفَير (6) ، عن أبي ثعلبة
الخُشَنيّ ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الجن على ثلاثة أصناف :
صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء ، وصنف حيات وكلاب ، وصنف يحلون ويظعنون".
رفعه غريب جدًا. (7)
وقال (8) أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا حَرْمَلة ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني بكر (9) بن
مُضَر ، عن محمد ، عن ابن أنعم أنه قال : الجن ثلاثة : صنف لهم الثواب وعليهم
العقاب ، وصنف طيارون فيما بين السماء والأرض ، وصنف حيات وكلاب.
قال بكر بن مضر : ولا أعلم إلا أنه قال : حدثني أن الإنس ثلاثة (10) : صنف يظلهم
الله بظل عرشه يوم القيامة. وصنف كالأنعام بل هم أضل سبيلا. وصنف في صُوَر الناس
على قلوب الشياطين.
__________
(1) في ت ، أ : "ما أعطى ابنه سليمان بن داود" وفي س : "ما أعطى
ابنه سليمان".
(2) في ت : "فيتغذى".
(3) في ت : "واسالنا"
(4) في ت : "بن".
(5) في ت ، أ : "أي الإذن القدرى" وفي س : "أى القدرى".
(6) في ت : "وقد روى ابن حاتم هاهنا حديثًا غريبًا بإسناده".
(7) ورواه الحاكم في المستدرك (2/456) وصححه ، ووافقه الذهبي ، والطبراني في
الكبير (22/214) من طريق عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح به ، ورواه ابن حبان
في صحيحه برقم (2007) من طريق ابن وهب عن معاوية بن صالح ، به.
(8) في ت : "وروى".
(9) في أ : "بكير".
(10) في أ : "ثلاثة أصناف".
(6/499)
وقال أيضا
(1) : حدثنا أبي : حدثنا علي بن هاشم بن مرزوق حدثنا سلمة - يعني ابن الفضل - عن
إسماعيل ، عن الحسن (2) قال : الجن ولد إبليس ، والإنس ولد آدم ، ومن هؤلاء مؤمنون
ومن هؤلاء مؤمنون ، وهم شركاؤهم في الثواب والعقاب ، ومَنْ كان من هؤلاء وهؤلاء
مؤمنا فهو ولي الله ، ومَنْ كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان.
وقوله : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ } : أما
المحاريب فهي البناء الحسن ، وهو أشرف شيء في المسكن وصدره.
وقال مجاهد : المحاريب بنيان دون القصور. وقال الضحاك : هي المساجد. وقال قتادة :
هي المساجد والقصور ، وقال ابن زيد : هي المساكن. وأما التماثيل فقال عطية العوفي
، والضحاك والسدي : التماثيل : الصور. قال مجاهد : وكانت من نحاس. وقال قتادة : من
طين وزجاج.
وقوله : { وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ } الجواب : جمع جابية ،
وهي الحوض الذي يجبى فيه الماء ، كما قال الأعشى ميمون بن قيس :
تَرُوحُ عَلَى آل المَحَلَّق جَفْنَةٌ... كَجَابِيَة الشَّيخ العِراقي تَفْهَق (3)
(4)
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { كَالْجَوَابِ } أي : كالجوبة من الأرض.
وقال العوفي ، عنه : كالحياض. وكذا قال مجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك وغيرهم.
والقدور الراسيات : أي الثابتات ، في أماكنها (5) لا تتحول ولا تتحرك عن أماكنها
لعظمها. كذا قال مجاهد ، والضحاك ، وغيرهما.
وقال عكرمة : أثافيها منها.
وقوله : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا } أي : وقلنا لهم اعملوا شكرًا على ما
أنعم به عليكم في الدنيا والدين.
وشكرًا : مصدر من غير الفعل ، أو أنه مفعول له ، وعلى التقديرين فيه دلالة على أن
الشكر يكون بالفعل كما يكون بالقول وبالنية ، كما قال :
أفَادَتْكُمُ النّعْمَاء منِّي (6) ثَلاثةً : ... يدِي ، ولَسَاني ، وَالضَّمير
المُحَجَّبَا...
قال أبو عبد الرحمن الحُبلي (7) : الصلاة شكر ، والصيام شكر ، وكل خير تعمله لله
شكر. وأفضل الشكر الحمد. رواه ابن جرير.
وروى هو وابن أبي حاتم ، عن محمد بن كعب القُرَظي قال : الشكر تقوى الله والعمل
الصالح.
__________
(1) في ت : "وروى ابن أبي حاتم أيضا".
(2) في ت : "الحسين".
(3) في ت : "بقهق".
(4) البيت في تفسير الطبرى (22/49).
(5) في ت ، س ، أ : "أماكنهم".
(6) في ت : "عندى".
(7) في هـ ، ت ، س ، أ : "السلمى" والتصويت من الطبري 22/50 ، مستفادا
من طبعة الشعب.
(6/500)
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
وهذا يقال
لمن هو متلبس بالفعل ، وقد كان آل داود ، عليه السلام ، كذلك قائمين بشكر الله
قولا وعملا.
قال (1) ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن أبي بكر ، حدثنا جعفر -
يعني : ابن سليمان - عن ثابت البُنَاني قال : كان داود ، عليه السلام ، قد جزأ على
أهله وولده ونسائه الصلاة ، فكان لا تأتي عليهم (2) ساعة من الليل والنهار إلا
وإنسان من آل داود قائم يصلي ، فغمرتهم هذه الآية : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ
شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ }.
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن أحب الصلاة إلى
الله صلاةُ داودَ ، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ، وأحب الصيام إلى
الله صيام داود ، كان يصوم يوما ويفطر يوما. ولا يَفر إذا لاقى". (3)
وقد روى أبو عبد الله بن ماجه من حديث سُنيْد بن داود ، حدثنا يوسف بن محمد بن
المُنْكَدِر ، عن أبيه ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"قالت أمّ سليمان بن داود لسليمان : يا بني ، لا تكثر النوم بالليل ، فإن
كثرة النوم بالليل تترك الرجل فقيرًا يوم القيامة". (4)
وروى ابن أبي حاتم عن داود ، عليه السلام ، هاهنا أثرا غريبا مطولا جدا ، وقال
أيضًا :
حدثنا أبي ، حدثنا عمران بن موسى ، حدثنا أبو يزيد (5) فيض بن إسحاق الرقي (6) قال
: قال فضيل في قوله تعالى : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا }. فقال داود : يا رب
، كيف أشكرك ، والشكر نعمة منك ؟ قال : "الآن شكرتني حين علمت (7) أن النعمة
(8) مني".
وقوله : { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } إخبار عن الواقع.
{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا
دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ
لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
}.
يذكر تعالى كيفية موت سليمان ، عليه السلام ، وكيف عَمَّى الله موته على الجانّ
المسخرين له في الأعمال الشاقة ، فإنه مكث متوكئًا على عصاه - وهي مِنْسَأته - كما
قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة وغير واحد - مدة طويلة نحوا من سنة ،
فلما أكلتها (9) دابةُ الأرض ، وهي الأرضة ، ضعفت (10) وسقط (11) إلى الأرض ، وعلم
أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة - تبينت الجن والإنس أيضًا أن الجن لا يعلمون الغيب
، كما كانوا يتوهمون ويوهمون الناس ذلك.
__________
(1) في ت : "روى".
(2) في ت : "لا يأتي عليهن" ، وفي أ : "لا يأتي عليهم".
(3) صحيح البخاري برقم (1131) وصحيح مسلم برقم (1159).
(4) سنن ابن ماجه برقم (1332) وقال البوصيري في الزوائد (1/433) : "هذا إسناد
ضعيف".
(5) في هـ : "زيد" والمثبت من ت ، س ، أ ، والجرح والتعديل 3/2/88
مستفادا من طبعة الشعب.
(6) في أ : "المرى".
(7) في ت ، س : "قلت".
(8) في أ : "النعم".
(9) في ت : "فلما أكلت العصا".
(10) في ت ، س ، أ : "فضعفت".
(11) في أ : "وسقطت".
(6/501)
قد ورد في
ذلك حديث مرفوع غريب ، وفي صحته نظر ، قال ابن جرير :
حدثنا أحمد بن منصور ، حدثنا موسى بن مسعود أبو حذيفة ، حدثنا إبراهيم بن طَهْمَان
، عن عطاء ، عن السائب ، عن سعيد بن جبير (1) عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : "كان سليمان نبي الله ، عليه السلام ، إذا صلى رأى شجرة نابتة بين
يديه فيقول لها : ما اسمك ؟ فتقول : كذا. فيقول : لأي شيء أنت ؟ فإن كانت لغرس
غُرِسَتْ ، وإن كانت لدواء كُتِبَتْ. فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه
، فقال لها : ما اسمك ؟ قالت : الخروب. قال : لأي شيء أنت ؟ قالت : لخراب هذا
البيت. فقال سليمان : اللهم ، عَمّ على الجن موتتي (2) حتى يعلم الإنس أن الجن لا
يعلمون الغيب. فنحتها عصًا ، فتوكأ عليها حولا ميتا ، والجن تعمل. فأكلتها الأرضة
، فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا [حولا] (3) في العذاب
المهين".
قال : وكان ابن عباس يقرؤها كذلك قال : "فشكرت الجن الأرضة (4) ، فكانت
تأتيها بالماء" (5).
وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، من حديث إبراهيم بن طَهْمان ، به. وفي رفعه غرابة
ونكارة ، والأقرب أن يكون موقوفًا ، وعطاء بن أبي مسلم الخراساني له غرابات ، وفي
بعض حديثه نكارة.
وقال السُّدِّي ، في حديث ذكره عن أبي مالك عن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرة
الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال :
كان سليمان يتحرر في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين ، وأقل من ذلك
وأكثر ، يدخل طعامه وشرابه ، فأدخله في المرة التي توفي فيها ، وكان بدء ذلك أنه
لم يكن يوم يصبح فيه إلا نبتت في بيت المقدس شجرة ، فيأتيها فيسألها ، فيقول : ما
اسمك ؟ فتقول : اسمي كذا وكذا. فإن كانت لغرس غرسها ، وإن كانت نبْتَ دواء قالت :
نَبَتُّ دواء لكذا وكذا. فيجعلها (6) كذلك ، حتى نبتت شجرة يقال لها : الخرّوبة ،
فسألها : ما اسمك ؟ فقالت : أنا الخروبة. قال : ولأي شيء نَبَتِّ ؟ قالت : نبت
لخراب هذا المسجد. قال سليمان : ما كان الله ليُخَرِّبه وأنا حي ؟ أنت التي على
وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس. فنزعها وغرسها في حائط له ، ثم دخل المحراب فقام
يصلي متكئا على عصاه ، فمات ولم تعلم (7) به الشياطين ، وهم في ذلك يعملون له ،
يخافون أن يخرج فيعاقبهم. وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب ، وكان المحراب له
كُوى بين يديه وخلفه ، فكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول : ألست جلدا (8) إن
دخلت فخرجت من ذلك الجانب ؟ فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر ، فدخل شيطان من أولئك
فمر ، ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان في المحراب إلا احترق. فمر ولم يسمع صوت
سليمان ، ثم رجع فلم يسمع ، ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق. ونظر إلى سليمان ، عليه
السلام ، قد سقط ميتا. فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات. ففتحوا (9) عنه
__________
(1) في ت : "رواه ابن جرير بإسناده".
(2) في ت : "موتى".
(3) زيادة من ت ، س ، أ ، والطبري.
(4) في ت ، س ، أ : "للأرضة".
(5) تفسير الطبري (22/51).
(6) في ت ، س : "فيجعل الشجرة".
(7) في أ : "ولم يعلم".
(8) في ت : "جليدا".
(9) في هـ ، س : : فتنحوا".
(6/502)
فأخرجوه.
وَوَجدوا منسأته - وهي : العصا بلسان الحبشة - قد أكلتها الأرضة ، ولم يعلموا منذ
كم مات ؟ فوضعوا الأرضة على العصا ، فأكلت منها يوما وليلة ، ثم حسبوا على ذلك
النحو ، فوجدوه قد مات منذ سنة. وهي في قراءة ابن مسعود : فمكثوا يدأبون له من بعد
موته حولا (1) ، فأيقن الناس عند ذلك أن الجن كانوا يكذبونهم ولو أنهم علموا الغيب
، لعلموا بموت سليمان ولم يلبثوا في العذاب يعملون له سنة ، وذلك قول الله (2) عز
وجل : { مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ
مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ
الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ }. يقول : تبين أمرهم للناس
أنهم كانوا يكذبونهم ، ثم إن الشياطين قالوا للأرضة : لو كنت تأكلين الطعام أتيناك
بأطيب الطعام ، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب ، ولكنا سننقل إليك
الماء والطين - قال : فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت - قال : ألم تر إلى الطين
الذي يكون في جوف الخشب ؟ فهو ما تأتيها به الشياطين ، شكرًا (3) لها. (4)
وهذا الأثر - والله أعلم - إنما هو مما تُلُقِّي من علماء أهل الكتاب ، وهي وَقْفٌ
، لا يصدق منها (5) إلا ما وافق الحق ، ولا يُكذب منها إلا ما خالف الحق ، والباقي
لا يصدق ولا يكذب (6).
وقال ابن وهب وأصبغ بن الفرج ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { مَا
دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ } قال :
قال سليمان عليه السلام لملك الموت : إذا أُمِرْتَ بي فأعلمني. فأتاه فقال : يا
سليمان ، قد أمرت بك ، قد بقيت لك سويعة. فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير
، وليس له باب ، فقام يصلي فاتكأ على عصاه ، قال : فدخل عليه ملك الموت ، فقبض
روحه وهو متكئ على عصاه ، ولم يصنع ذلك فرارًا من ملك الموت. قال : والجن يعملون
(7) بين يديه وينظرون إليه ، يحسبون أنه حي. قال : فبعث الله ، عز وجل ، دابة
الأرض. قال : والدابة تأكل العيدان - يقال لها : القادح - فدخلت فيها فأكلتْها ،
حتى إذا أكلت جوف العصا ضعفت ، وثقل عليها فخر ميتًا ، فلما رأت ذلك الجن انفضوا
وذهبوا. قال : فذلك قوله : { مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ
تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهِ }. قال أصبغ : بلغني عن غيره أنها قامت (8) سنة تأكل منها قبل
أن يخر (9). وقد ذكر غير واحد من السلف نحوًا من هذا ، والله أعلم.
__________
(1) في ت ، س ، أ : "حولا كاملا".
(2) في ت : "قوله".
(3) في ت ، س ، أ : "تشكرا".
(4) تفسير الطبري (22/51).
(5) في س ، أ : "لا نصدق منه".
(6) في ت ، أ : "لا تصدق ولا تكذب".
(7) في ت ، س ، أ : "تعمل".
(8) في ت : "أقامت".
(9) في أ : "تخر".
(6/503)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)
{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ (17) }.
(6/503)
كانت سبأ
ملوكَ اليمن وأهلها ، وكانت التبابعة منهم ، وبلقيس - صاحبة سليمان - منهم (1) ،
وكانوا في نعمة وغبطة في بلادهم ، وعيشهم واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم. وبعث
الله إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه ، ويشكروه (2) بتوحيده وعبادته ،
فكانوا كذلك ما شاء الله ثم أعرضوا عما أمروا به ، فعوقبوا بإرسال السيل والتفرق
في البلاد أيدي سبأ ، شذر مَذرَ ، كما يأتي تفصيله وبيانه قريبًا إن شاء الله
تعالى وبه الثقة.
قال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن عبد
الله بن هُبَيْرة ، عن عبد الرحمن بن وَعْلة قال : سمعت ابن عباس يقول (3) : إن
رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ : ما هو ؟ رجل (4) أم امرأة أم أرض
؟ قال : "بل هو رجل ، ولد عَشَرة (5) ، فسكن اليمن منهم ستة ، وبالشام منهم
أربعة ، فأما اليمانيون : فَمَذْحِجُ ، وكِنْدَةُ ، والأزد ، والأشعريون ، وأنمار
، وحمير. وأما الشامية فلخم ، وجذام ، وعاملة ، وغسان.
ورواه عَبد ، عن الحسن بن موسى ، عن ابن لَهِيعة ، به (6). وهذا إسناد (7) حسن ،
ولم يخرجوه ، [وقد روي من طرق متعددة] (8). وقد رواه الحافظ أبو عمر بن عبد البر
في كتاب "القصد والأمَمْ ، بمعرفة أصول أنساب العرب والعجم" ، من حديث
ابن لهيعة ، عن علقمة بن وعلة ، عن ابن عباس فذكر نحوه. وقد روي نحوه من وجه آخر.
وقال [الإمام] أحمد (9) أيضا وعبد بن حميد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا أبو
جَنَاب يحيى بن أبي حيَّة الكلبي ، عن يحيى بن هانئ بن عُرْوَة ، عن فروة بن
مُسيَك قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، أقاتل
بمقبل قومي مدبرهم ؟ قال : "نعم ، فقاتل بمقبل قومك مدبرهم". فلما وليت
دعاني فقال : "لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام". فقلت : يا رسول الله
، أرأيت سبأ ؛ أواد هو ، أو رجل (10) ، أو ما هو ؟ قال : " [لا] (11) ، بل
رجل من العرب ، ولد له عشرة فَتَيَامَنَ ستة وتشاءم أربعة ، تيامن الأزد ، والأشعريون
، وحمير ، وكندة ، ومذحج ، وأنمار الذين يقال لهم : بجيلة وخثعم. وتشاءم لخم ،
وجذام ، وعاملة ، وغسَّان".
وهذا أيضًا إسناد جيد (12) وإن كان فيه أبو جَنَاب الكلبي ، وقد تكلموا فيه (13).
لكن رواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب ، عن العَنْقَزِي (14) ، عن أسباط بن نصر ، عن
يحيى بن هانئ المرادي ، عن عمه أو عن أبيه - يشك أسباط - قال : قدم فروة بن مُسَيك
على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكره. (15)
طريق أخرى لهذا الحديث : قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن
وهب ، حدثني ابن لهيعة ، عن توبة بن نَمر (16) ، عن عبد العزيز بن يحيى أنه أخبره
قال : كنا عند عبيدة (17)
__________
(1) في ت ، س ، أ : "من جملتهم".
(2) في أ : "ويشكروا له".
(3) في ت : "وروى الإمام أحمد بإسناده عن ابن عباس قال".
(4) في ت ، س : "أرجل".
(5) في أ : "ولد له عشرة".
(6) المسند (1/316).
(7) في ت : "وإسناده".
(8) زيادة من ت.
(9) زيادة من ت ، س ، أ.
(10) في أ : "أم جبل".
(11) زيادة من أ.
(12) في أ : "حسن".
(13) ذكره الحافظ ابن حجر في أطراف المسند (5/178) وليس في المطبوع من المسند.
(14) في أ : "العبقري".
(15) تفسير الطبري (22/53).
(16) في س ، أ : "نمير".
(17) في أ : "عبدة".
(6/504)
بن عبد
الرحمن بأفريقية فقال يومًا : ما أظن قوما بأرض إلا وهم من أهلها. فقال علي بن
رباح : كلا قد حدثني فلان أن فروة بن مُسَيك الغُطَيفي (1) قدم على رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال : يا رسول (2) الله ، إن سبأ قوم كان لهم عز في الجاهلية ،
وإني أخشى أن يرتدّوا عن الإسلام ، أفأقاتلهم ؟ فقال : "ما أمرت فيهم بشيء
بعد". فأنزلت هذه الآية : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ }
الآيات ، فقال له رجل : يا رسول الله ، ما سبأ ؟ فذكر مثل هذا الحديث الذي قبله :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن سبأ : ما هو ؟ أبلد ، أم رجل ، أم امرأة
؟ قال : "بل رجل ، وَلَد له عَشَرَة فسكن اليمن منهم ستة ، والشام أربعة ،
أما اليمانيون : فمذحج ، وكندة ، والأزد ، والأشعريون ، وأنمار ، وحمير غير ما
حلها. وأما الشام : فلخم ، وجذام ، وغسان ، وعاملة".
فيه غرابة من حيث ذكر [نزول] (3) الآية بالمدينة ، والسورة مكية كلها ، والله (4)
أعلم.
طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا أبو أسامة ، حدثني الحسن بن
الحكم ، حدثنا أبو (5) سَبْرَة النَّخَعِي ، عن فَرْوَة بن مُسَيْك الغُطَيْفي (6)
قال : قال رجل : يا رسول الله ، أخبرني عن سبأ : ما هو ؟ أرض ، أم امرأة ؟ قال :
"ليس بأرض ولا امرأة ، ولكنه رجل ولد له عشرة من الولد ، فتيامن ستة وتشاءم
أربعة ، فأما الذين تشاءموا : فلخم وجذام وعاملة وغسان ، وأما الذين تيامنوا :
فكندة ، والأشعريون ، والأزد ، ومذحج ، وحمير ، وأنمار". فقال رجل : ما أنمار
؟ قال : "الذين منهم خثعم وبجيلة".
ورواه الترمذي في جامعه ، عن أبي كُرَيْب وعبد بن حميد قالا حدثنا أبو أسامة ،
فذكره أبسط من هذا ، ثم قال : هذا حديث حسن غريب. (7)
وقال أبو عمر بن عبد البر : حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ،
حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي ، حدثنا ابن كثير - هو
عثمان بن كثير - عن الليث بن سعد ، عن موسى بن على ، عن يزيد بن حصين ، عن تميم
الداري ؛ أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن سبأ ، فذكر مثله ،
فقوي هذا الحديث وحَسّن. (8)
قال علماء النسب ، منهم محمد بن إسحاق : اسم سبأ : عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن
قحطان.
وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبأ في العرب ، وكان يقال له : الرائش ؛ لأنه أول من
غنم في الغزو فأعطى قومه ، فسمي الرائش ، والعرب تسمي المال : ريشا ورياشا. وذكروا
أنه بشَّر برسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه (9) المتقدم ، وقال في ذلك
شعرًا :
__________
(1) في أ : "القطيعي".
(2) في س ، أ : "يا نبي".
(3) زيادة من أ.
(4) في س : "فالله".
(5) في أ : "ابن".
(6) في أ : "القطيعي".
(7) تفسير الطبري (22/53) وسنن الترمذي برقم (3222).
(8) القصد والأمم ص (20).
(9) في ت ، أ : "الزمان".
(6/505)
سَيَمْلِكُ
بَعْدَنَا مُلْكًا عَظيمًا... نَبيّ لا يُرَخِّصُ في الحَرَام...
وَيَْملك بَعْدَه منْهُم مُلُوك... يدينوه العبادَ بغَير ذام...
ويَملك بَعدهم منا مُلُوك... يَصير المُلك فينَا باقْتسَام...
وَيَمْلك بَعَْد قَحْطَان نَبي... تَقي خَبْتَة خير الأنام...
وسُميَ أحْمَدًا يَا لَيْتَ أني... أُعَمَّرُ بَعْد مَبْعَثه بعام...
فأعضُده وأَحْبوه بنَصْري... بكُل مُدَجّج وبكُل رام...
متى يَظْهَرْ فَكُونُوا نَاصريه... وَمَنْ يَلْقَاهُ يُبْلغه سَلامي...
ذكر ذلك الهمداني في كتاب "الإكليل".
واختلفوا في قحطان على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه من سلالة إرم بن سام بن نوح ، واختلفوا في كيفية اتصال نسبه به على
ثلاث (1) طرائق.
والثاني : أنه من سلالة عَابَر ، وهو هود ، عليه الصلاة والسلام ، واختلفوا في
كيفية اتصال نسبه به على ثلاث طرائق أيضًا.
والثالث : أنه من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل ، عليهما السلام ، واختلفوا في
كيفية اتصال نسبه به على ثلاث طرائق أيضا. وقد ذكر ذلك مستقصى الإمام الحافظ أبو
عمر بن عبد البر النَّمري ، رحمه الله ، في كتابه [المسمى] (2) : "الإنباه
على ذكر أصول القبائل الرواة" (3).
ومعنى قوله عليه السلام : "كان رجلا من العرب" يعني : العرب العاربة
الذين كانوا قبل الخليل ، عليه السلام ، من سلالة سام بن نوح. وعلى القول الثالث :
كان من سلالة الخليل ، عليه السلام ، وليس هذا بالمشهور عندهم ، والله أعلم. ولكن
في صحيح البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بنفر من
"أسلَمَ" ينتضلون ، فقال : "ارموا بني إسماعيل ، فإن أباكم كان
راميا" (4). فأسلم قبيلة من الأنصار ، والأنصار أوسها وخزرجها من غسان من عرب
اليمن من سبأ ، نزلوا بيثرب لما تفرقت سبأ في البلاد ، حين بعث الله عليهم سيل
العرم ، ونزلت طائفة منهم بالشام ، وإنما (5) قيل لهم : غَسَّان بماء نزلوا عليه
قيلَ : باليمن. وقيل : إنه قريب من المُشَلَّل (6) ، كما قال حسان بن ثابت :
إمَّا سَألت فَإنَّا مَعْشَرٌ نُجُبٌ... الأزْدُ نِسْبَتُنَا ، والماء غَسَّانُ
(7)
ومعنى قوله : "ولد له عشرة من العرب" أي : كان (8) من نسله هؤلاء العشرة
الذين يرجع
__________
(1) في أ : "ثلاثة".
(2) زيادة من أ.
(3) في ت : "بالرواة".
(4) صحيح البخاري برقم (3507) من حديث سلمة ، رضي الله عنه.
(5) في ت : "وإن".
(6) في ت : "المسلك" وفي أ : "المسكن".
(7) البيت في السيرة النبوية لابن هشام (1/10).
(8) في ت : "كانوا".
(6/506)
إليهم أصول
القبائل من عرب اليمن ، لا أنهم ولدوا من صلبه ، بل منهم من بينه وبينه الأبوان
والثلاثة والأقل والأكثر ، كما هو مقرر مبين في مواضعه من (1) كتب النسب.
ومعنى قوله : "فتيامن منهم ستة ، وتشاءم منهم أربعة" أي : بعد ما أرسل
الله عليهم سيل العرم ، منهم مَنْ أقام ببلادهم ، ومنهم مَنْ نزح عنها إلى غيرها ،
وكان من أمر السد أنه كان الماء يأتيهم من بين جبلين وتجتمع إليه أيضا سيول
أمطارهم وأوديتهم ، فعَمَدَ ملوكهم الأقادم ، فبنوا بينهما سدًا عظيما محكما حتى
ارتفع الماء ، وحُكمَ على حافات ذينك الجبلين ، فغرسوا الأشجار واستغلوا الثمار في
غاية ما يكون من الكثرة والحسن ، كما ذكر غير واحد من السلف ، منهم قتادة : أن
المرأة كانت تمشي تحت الأشجار وعلى رأسها مكتل أو زنبيل ، وهو الذي تخترف (2) فيه
الثمار ، فيتساقط من الأشجار في ذلك ما يملؤه من غير أن يحتاج إلى كلفة ولا
قُطَّاف ، لكثرته ونضجه واستوائه ، وكان هذا السد بمأرب : بلدة بينها وبين صنعاء
ثلاث مراحل ، ويعرف بسد مأرب.
وذكر آخرون أنه لم يكن ببلدهم شيء من الذباب ولا البعوض ولا البراغيث ، ولا شيء من
الهوام ، وذلك لاعتدال الهواء وصحة المزاج وعناية الله بهم ، ليوحدوه ويعبدوه ،
كما قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ } ، ثم فسرها
بقوله : { جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ } أي : من ناحيتي الجبلين والبلدة
بين (3) ذلك ، { كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ
طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } أي : غفور لكم إن استمررتم على التوحيد.
وقوله : { فَأَعْرَضُوا } أي : عن توحيد الله وعبادته وشكره على ما أنعم به عليهم
، وعدلوا إلى عبادة الشمس ، كما قال هدهد سليمان : { وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ
بِنَبَإٍ يَقِينٍ. إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ
شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ. وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ
السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ } [النمل : 22 ، 24].
وقال محمد بن إسحاق ، عن وهب بن مُنَبّه : بعث الله إليهم ثلاثة عشر نبيا.
وقال السُّدِّي : أرسل الله إليهم اثني عشر ألف نبي ، والله (4) أعلم.
وقوله : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ } : قيل : المراد بالعرم
المياه. وقيل : الوادي. وقيل : الجُرَذ. وقيل : الماء الغزير. فيكون من باب إضافة
الاسم إلى صفته ، مثل : "مسجد الجامع". و"سعيد كُرْز" حكى ذلك
السهيلي. (5)
وذكر غير واحد منهم ابن عباس ، ووهب بن منبه ، وقتادة ، والضحاك ؛ أن الله ، عز
وجل ، لما أراد عقوبتهم بإرسال العرم عليهم ، بعث على السد دابة من الأرض ، يقال
لها : "الجُرَذ" نقبته - قال وهب بن منبه : وقد كانوا يجدون في كتبهم أن
سبب خراب هذا السد هو الجُرَذ فكانوا يرصدون عنده السنانير برهة من الزمان ، فلما
جاء القدر غلبت الفأر السنانير ، وولجت إلى السَّدّ فنقبته ، فانهار عليهم.
__________
(1) في ت : "في".
(2) في ت : "يحترق".
(3) في أ : "من".
(4) في ت ، س : "فالله".
(5) الروض الأنف (1/15).
(6/507)
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
وقال قتادة
وغيره : الجُرَذ : هو الخَلْد ، نقبت أسافله حتى إذا ضَعف ووَهَى ، وجاءت أيام
السيول ، صَدمَ الماءُ البناءَ فسقط ، فانساب الماء في أسفل (1) الوادي ، وخرّبَ
ما بين يديه من الأبنية والأشجار وغير ذلك ، ونضب الماء عن الأشجار التي في
الجبلين عن يمين وشمال ، فيبست وتحطمت ، وتبدلت تلك الأشجار المثمرة الأنيقة
النضرة ، كما قال الله وتعالى : { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ
ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ }.
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ، وعطاء الخُرَاساني ، والحسن ، وقتادة ،
والسُّدِّي : وهو الأراك ، وأكلة البَرير.
{ وَأَثْل } : قال العوفي ، عن ابن عباس : هو الطَّرْفاء.
وقال غيره : هو شجر يشبه الطرفاء. وقيل : هو السّمُر. فالله أعلم.
وقوله : { وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ } : لما كان أجودَ هذه الأشجار المبدل بها
هو السّدْر قال : { وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ } ، فهذا الذي صار أمر تَيْنك
(2) الجنتين إليه ، بعد الثمار النضيجة والمناظر الحسنة ، والظلال العميقة
والأنهار الجارية ، تبدلت إلى شجر الأراك والطرفاء والسّدْر ذي الشوك الكثير
والثمر القليل. وذلك بسبب كفرهم وشركهم بالله ، وتكذيبهم الحق وعدولهم عنه إلى
الباطل ؛ ولهذا قال : { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا (3) وَهَلْ نُجَازِي
إِلا الْكَفُورَ } أي : عاقبناهم بكفرهم.
قال مجاهد : ولا يعاقب إلا الكفور.
وقال الحسن البصري : صدق الله العظيم. لا يعاقب بمثل فعله إلا الكفور. وقال طاوس :
لا يناقش إلا الكفور.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو عمر بن النحاس الرملي ،
حدثنا حجاج بن محمد ، حدثنا أبو البيداء ، عن هشام بن صالح التغلبي (4) ، عن ابن
خيرة - وكان من أصحاب علي ، رضي الله عنه - قال : جزاء المعصية الوهن في العبادة ،
والضيق في المعيشة ، والتعسر في اللذة. قيل : وما التعسر في اللذة ؟ قال : لا
يصادف لذة حلالا (5) إلا جاءه مَنْ يُنَغِّصه إياها.
{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى
ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا
آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ
فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) }.
يذكر تعالى ما كانوا فيه من الغِبْطة والنعمة ، والعيش الهني الرغيد ، والبلاد
الرخية ، والأماكن الآمنة ، والقرى المتواصلة المتقاربة ، بعضها من بعض ، مع كثرة
أشجارها وزروعها وثمارها ، بحيث
__________
(1) في ت : "أصل".
(2) في ت ، أ : "تللك".
(3) في ت : "بكفرهم" وهو خطأ.
(4) في ت : "وقال ابن أبي حاتم بإسنادة".
(5) في ت : "حلالاً".
(6/508)
إن مسافرهم
لا يحتاج إلى حَمل زاد ولا ماء ، بل حيث نزل وجد ماء وثمرا ، ويَقيل في قرية ويبيت
في أخرى ، بمقدار ما يحتاجون إليه في سيرهم ؛ ولهذا قال تعالى : { وَجَعَلْنَا
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } ، قال وهب بن منبه : هي
قرى بصنعاء. وكذا قال أبو مالك.
وقال مجاهد ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، ومالك عن زيد بن أسلم ، وقتادة ، والضحاك ،
والسُّدِّي ، وابن زيد وغيرهم (1) : يعني : قرى الشام. يعنون أنهم كانوا يسيرون من
اليمن إلى الشام في قرى ظاهرة متواصلة.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : القرى التي باركنا فيها (2) : بيت المقدس.
وقال العوفي ، عنه أيضا : هي قرى عربية بين المدينة والشام.
{ قُرًى ظَاهِرَةً } أي : بينة واضحة ، يعرفها المسافرون ، يَقيلون في واحدة ،
ويبيتون في أخرى ؛ ولهذا قال : { وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ } أي : جعلناها
بحسب ما يحتاج المسافرون إليه ، { سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ
} أي : الأمن حاصل لهم في سيرهم ليلا ونهارا.
{ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } ،
وقرأ آخرون : "بعد بين أسفارنا " ، وذلك أنهم بَطروا هذه النعمة - كما
قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وغير واحد - وأحبوا مفاوز ومهامه يحتاجون في
قطعها إلى الزاد والرواحل والسير في الحَرُور والمخاوف ، كما طلب بنو إسرائيل من
موسى أن يخرج الله لهم مما تنبت الأرض ، من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ،
مع أنهم كانوا في عيش رغيد في مَنّ وسلوى وما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس مرتفعة
؛ ولهذا قال لهم : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ
خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } [البقرة : 61] ،
وقال تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } [القصص
: 58] ، وقال تعالى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً
مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ
بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا
كَانُوا يَصْنَعُونَ } [النحل : 112]. وقال في حق هؤلاء : { وَظَلَمُوا (3)
أَنْفُسَهُمْ } أي : بكفرهم ، { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ
كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي : جعلناهم حديثا للناس ، وَسمَرًا يتحدثون به من (4) خبرهم ،
وكيف مكر الله بهم ، وفرق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء تفرقوا في
البلاد هاهنا وهاهنا ؛ ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا : "تفرقوا أيدي
سبأ" "وأيادي سبأ" و "تفرقوا شَذَرَ مَذَرَ". (5)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا إبراهيم بن
حبيب بن الشهيد ، سمعت أبي يقول : سمعت (6) عكرمة يحدث بحديث أهل سبأ ، قال : {
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ [عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ
] } (7) إلى قوله : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ } وكانت فيهم
__________
(1) في ت : "وخلق غيرهما".
(2) في ت : "هي".
(3) في ت ، س ، أ : "فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا".
(4) في ت : "في".
(5) في ت : "ومدر".
(6) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بسنده إلى عكرمة".
(7) زيادة من ت ، س ، أ.
(6/509)
كهنة ،
وكانت الشياطين يسترقون السمع ، فأخبروا الكهنة (1) بشيء من أخبار (2) السماء ،
فكان (3) فيهم رجل كاهن شريف كثير المال ، وإنه خُبّر أن زوال أمرهم قد دنا ، وأن
العذاب قد أظلهم (4). فلم يدر كيف يصنع ؛ لأنه كان له مال كثير من عقار ، فقال
لرجل من بنيه - وهو أعزهم أخوالا - : إذا كان غدا وأمرتك بأمر فلا تفعل ، فإذا
انتهرتك فانتهرني ، فإذا تناولتك فالطمني. فقال : يا أبت ، لا تفعل ، إن هذا أمر
عظيم ، وأمر شديد ، قال : يا بني ، قد حدث أمر لا بد منه. فلم يزل به حتى وافاه
على ذلك. فلما أصبحوا واجتمع الناس ، قال : يا بني ، افعل كذا وكذا. فأبى ،
فانتهره أبوه ، فأجابه ، فلم يزل ذلك بينهما حتى تناوله أبوه ، فوثب على أبيه
فلطمه ، فقال : ابني يلطمني ؟ عَلَيّ بالشفرة. قالوا : وما تصنع بالشفرة ؟ قال :
أذبحه. قالوا : تذبح ابنك. الطمه أو اصنع ما بدا لك. قال : فأبى ، قال : فأرسلوا
إلى أخواله فأعلموهم ذلك ، فجاء أخواله فقالوا : خذ منا ما بدا لك. فأبى إلا أن
يذبحه. قالوا : فلتموتن قبل أن تذبحه. قال : فإذا كان الحديث هكذا فإني لا أرى أن
أقيم ببلد يحال بيني وبين ولدي (5) فيه ، اشتروا مني دوري ، اشتروا مني أرضي ، فلم
يزل حتى باع دوره وأرضيه وعقاره ، فلما صار الثمن في يده وأحرزه ، قال : أي قوم ،
إن العذاب قد أظلكم ، وزوال أمركم قد دنا ، فمن أراد منكم دارا جديدا ، وجملا
شديدا ، وسفرا بعيدا ، فليلحق بعمان. ومن أراد منكم الخَمْر والخَمير والعَصير -
وكلمة ، قال (6) إبراهيم : لم أحفظها - فليلحق (7) ببصْرَى ، ومن أراد الراسخات في
الوحل ، المطعمات في المحل ، المقيمات في الضحل ، فليلحق (8) بيثرب ذات نخل.
فأطاعه قومه (9) فخرج أهل عمان إلى عمان. وخرجت غسان إلى بصرى. وخرجت الأوس
والخزرج وبنو عثمان إلى يثرب ذات النخل. قال : فأتوا على بطن مر فقال بنو عثمان :
هذا مكان صالح ، لا نبغي به بدلا. فأقاموا به ، فسموا لذلك خزاعة ، لأنهم انخزعوا
من أصحابهم ، واستقامت الأوس والخزرج حتى نزلوا المدينة ، وتوجه أهل عمان إلى عمان
، وتوجهت غسان إلى بصرى.
هذا أثر غريب عجيب ، وهذا الكاهن هو عمرو بن عامر أحد رؤساء اليمن وكبراء سبأ
وكهانهم. (10)
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في أول السيرة ما كان من أمر عمرو بن عامر الذي كان
أول من خرج من بلاد اليمن ، بسبب استشعاره بإرسال العَرم فقال : وكان سبب خروج
عمرو بن عامر من اليمن - فيما حدثني أبو زيد الأنصاري - : أنه رأى جرذًا يَحفر
(11) في سد مأرب ، الذي كان يحبس عنهم الماء فيصرفونه حيث شاؤوا من أرضهم. فعلم
أنه لا بقاء للسد على ذلك ، فاعتزم على النَّقُلة عن اليمن فكاد (12) قومه ، فأمر
أصغر أولاده إذا أغلظ له ولطمه أن يقوم إليه فيلطمه ، ففعل ابنه ما أمره به ، فقال
عمرو : لا أقيم ببلد لَطَم وجهي فيها أصغر ولدي (13). وعرض أمواله ، فقال
__________
(1) في س : "فأخبروا به الكهنة".
(2) في أ : "خبر".
(3) في س : "وكان".
(4) في أ : "أضلهم".
(5) في ت ، س : "ابنى".
(6) في ت : "قالها".
(7) في ت : "فيحق".
(8) في ت : "فليحق".
(9) في س : "قومنا".
(10) في ت : "كهناتهم".
(11) في س : "تحفر".
(12) في ت ، س : "وكاد".
(13) في ت : "أولادى".
(6/510)
أشراف من
أشراف اليمن : اغتنموا غَضْبَةَ عمرو. فاشتروا منه أمواله ، وانتقل هو في ولده
وولد ولده. وقالت الأزد : لا نتخلف عن عمرو بن عامر. فباعوا أموالهم ، وخرجوا معه
فساروا (1) حتى نزلوا بلاد "عك" مجتازين يرتادون البلدان ، فحاربتهم عك
، وكانت حربهم سجَالا. ففي ذلك يقول عباس بن مرداس السلمي :
وَعَكَ بنُ عَدنَانَ الذين تَغَلَّبُوا... بِغَسَّانَ ، حتى طُرّدُوا كُلّ
مَطْرَد...
وهذا البيت من (2) قصيدة له.
قال : ثم ارتحلوا عنهم فتفرقوا في البلاد ، فنزل آل جَفْنَة بن عمرو بن عامر الشام
، ونزلت الأوس والخزرج يثرب ، ونزلت خزاعة مَرّا. ونزلت أزد السراة السراة ، ونزلت
أزد عُمَان عُمان ، ثم أرسل الله على السد السيل فهدمَه ، وفي ذلك أنزل الله عز
وجل هذه الآيات. (3)
وقد ذكر السدي قصة عمرو بن عامر بنحو مما ذكر محمد بن إسحاق ، إلا أنه قال :
"فأمر ابن أخيه" ، مكان "ابنه" ، إلى قوله : "فباع ماله
وارتحل بأهله ، فتفرقوا". رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، أخبرنا [سلمة] (4) ، عن ابن إسحاق قال : يزعمون
أن عمرو بن عامر - وهو عم القوم - كان كاهنًا ، فرأى في كهانته أن قومه سَيمَزّقون
ويباعَدُ بين أسفارهم. فقال لهم : إني قد علمت أنكم ستمزقون ، فمن كان منكم ذا
هَمٍّ بعيد وجمل شديد ، ومَزَاد جَديد - فليلحق بكاس أو كرود. قال : فكانت وادعة
بن عمرو. ومَنْ كان منكم ذا هَمّ مُدْن ، وأمر دَعْن ، فليلحق بأرض شَنْ. فكانت
عوف بن عمرو ، وهم الذين يقال لهم : بارق. ومَنْ كان منكم يريد عيشا آنيا ، وحرما
آمنا ، فليلحق بالأرزين. فكانت خزاعة. ومَنْ كان منكم يريد الراسيات في الوحل ،
المطعمات في المحل ، فليلحق بيثرب ذات النخل. فكانت الأوس والخزرج ، وهما هذان
الحيان من الأنصار. ومَنْ كان منكم يريد خمرا وخَميرا ، وذهبا وحريرا ، وملكا
وتأميرا ، فليلحق بكُوثي وبُصرى ، فكانت غسانَ بنو جَفنة (5) ملوكُ الشام. ومَنْ
كان منهم بالعراق. قال ابن إسحاق : وقد سمعت بعض أهل العلم يقول : إنما قالت هذه
المقالة طريفةُ امرأة عمرو بن عامر ، وكانت كاهنة ، فرأت في كهانتها ذلك ، فالله
أعلم أيّ ذلك كان. (6)
وقال سعيد ، عن قتادة ، عن الشعبي : أما غسان فلحقوا بالشام ، وأما الأنصار فلحقوا
بيثرب ، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة ، وأما الأزد فلحقوا بعمان ، فمزقهم الله كل
ممزق. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
ثم قال محمد بن إسحاق : حدثني أبو عبيدة قال : قال الأعشى - أعشى بني قيس بن ثعلبة
- واسمه : ميمون بن قيس :
__________
(1) في ت : "فسار".
(2) في ت ، س : "في".
(3) السيرة النبوية لابن هشام (1/10).
(4) زيادة من ت ، والطبري.
(5) في ت : "بنو حنيفة".
(6) تفسير الطبري (22/59).
(6/511)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
وَفي ذَاكَ
للمُؤتَسي (1) أسْوَةٌ... ومَأربُ عَفّى عَلَيها العَرمْ...
رُخَام بَنَتْهُ لَهُمْ حِمْيرُ... إذا جاءَ مَوَارهُ لم يَرمْ...
فَأرْوَى الزُّرُوعَ وَأعنَابَها... عَلَى سَعَة مَاؤهُمْ إذْ (2) قُسِم...
فَصَارُوا أيَادي مَا يَقْدرُو... نَ منْه عَلَى شُرب طِفْل فُطِم (3)
وقوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي : إن في
هذا الذي حل بهؤلاء من النقمة والعذاب ، وتبديل النعمة وتحويل العافية ، عقوبةَ
على ما ارتكبوه من الكفر والآثام - لعبرةً وَدَلالةً لكل عبد صبار (4) على المصائب
، شكور على النعم.
قال (5) الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن وعبد الرزاق المعني ، قالا أخبرنا سفيان ،
عن أبي إسحاق ، عن العَيْزَار بن حُرَيث عن عمر بن سعد ، عن أبيه - هو سعد بن أبي
وقاص ، رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "عجبت من
قضاء الله تعالى للمؤمن ، إن أصابه خير حَمدَ رَبَّه وشكر ، وإن أصابته مصيبة
حَمِد ربه وصَبَر ، يؤجر المؤمن في كل شيء ، حتى في اللقمة يرفعها إلى في
امرأته".
وقد رواه النسائي في "اليوم والليلة" ، من حديث أبي إسحاق السَّبِيعي ،
به (6) - وهو حديث عزيز - من رواية عمر بن سعد ، عن أبيه. ولكن له شاهد في
الصحيحين من حديث أبي هريرة : "عجبًا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان
خيرا (7) ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له.
وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن". (8)
قال عبد : حدثنا يونس ، عن شيبان ، عن (9) قتادة { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ
لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } قال : كان مطرّف يقول : نعم العبد الصبار الشكور ،
الذي إذا أعطي شكر ، وإذا ابتلي صبر.
{ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا
لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) }.
لما ذكر [الله] (10) تعالى قصة سبأ وما كان من أمرهم في اتباعهم الهوى والشيطان ،
أخبر عنهم وعن أمثالهم ممن اتبع إبليس والهوى ، وخالف الرشاد والهدى ، فقال : {
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ }.
__________
(1) في ت : "وفي ذلك للمتوسى".
(2) في ت : "إذا".
(3) السيرة النبوية لابن هشام (1/14).
(4) في ت : "صبار شكور على".
(5) في ت : "وروى".
(6) المسند (1/173) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10906).
(7) في ت ، س : "خيرًا له".
(8) لم أجده من حديث أبي هريرة ، وقد رواه مسلم في صحيحه برقم (2999) من حديث صهيب
، رضي الله عنه.
(9) في ت : "وعن".
(10) زيادة من ت.
(6/512)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
قال ابن
عباس وغيره : هذه الآية كقوله تعالى إخبارًا عن إبليس حين امتنع من السجود لآدم ،
ثم قال : { أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا } [الإسراء :
62] ، ثم قال : (1) { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ
خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ
شَاكِرِينَ } [الأعراف : 17] والآيات في هذا كثيرة.
وقال الحسن البصري : لما أهبط الله آدم من الجنة ومعه حواء ، هبط (2) إبليس فَرحا
بما أصاب منهما ، وقال : إذا أصبت من الأبوين ما أصبت ، فالذرية أضعف وأضعف. وكان
ذلك ظنًّا من إبليس ، فأنزل الله عز وجل : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ
إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } فقال عند
ذلك إبليس : "لا أفارق ابن آدم ما دام فيه الروح ، أعدُه (3) وأُمَنّيه
وأخدعه". فقال الله : "وعزتي لا أحجب عنه التوبة ما لم يُغَرغِر بالموت
، ولا يدعوني إلا أجبته ، ولا يسألني إلا أعطيته ، ولا يستغفرني إلا غفرت
له". رواه ابن أبي حاتم.
وقوله : { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ } قال ابن عباس : أي من
حجة.
وقال الحسن البصري : والله ما ضربهم بعصا ، ولا أكرههم على شيء ، وما كان إلا
غرورا وأماني دعاهم إليها فأجابوه.
وقوله : { إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي
شَكٍّ } أي : إنما سلطناه عليهم ليظهرَ أمر مَنْ هو مؤمن بالآخرة وقيامها والحساب
فيها والجزاء ، فيُحسِنَ عبادة ربه عز وجل في الدنيا ، ممن هو منها في شك.
وقوله : { وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } أي : ومع حفظه ضَلّ من ضَلّ من
اتباع إبليس ، وبحفظه وكلاءته سَلِم مَنْ سلم من المؤمنين أتباع الرسل.
{ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ
وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) }
__________
(1) في ت ، س : "وقال".
(2) في أ : "أهبط".
(3) في ت ، س : "أغره".
(6/513)
وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
{ وَلا تَنْفَعُ
الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ
قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْكَبِيرُ (23) }.
بَيَّن (1) تعالى أنه الإله الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لا نظير له ولا شريك
له ، بل هو المستقل بالأمر وحده ، من غير مشارك ولا منازع ولا معارض ، فقال : {
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي : من الآلهة التي عبدت
من دونه { لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ }
، كما قال تبارك وتعالى : { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ
مِنْ قِطْمِيرٍ } [فاطر : 13].
وقوله : { وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ } أي : لا يملكون شيئا استقلالا ولا
على سبيل الشركة ، { وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } أي : وليس لله من (2) هذه
الأنداد من ظهير يستظهر به في الأمور ، بل
__________
(1) في ت ، س ، أ : "يبين".
(2) في ت : "في".
(6/513)
الخلق كلهم
فقراء إليه ، عبيد لديه.
قال قتادة في قوله : { وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } ، من عون يعينه بشيء.
وقال : (1) { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } أي :
لعظمته [وجلاله] (2) وكبريائه لا يجترئ أحد أن يشفع عنده تعالى في شيء إلا بعد
إذنه له في الشفاعة ، كما قال تعالى : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا
بِإِذْنِهِ } [البقرة : 255] ، وقال : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا
تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ
يَشَاءُ [وَيَرْضَى (3) ] } [النجم : 26] ، وقال : { وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ
ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [الأنبياء : 28].
ولهذا ثبت في الصحيحين (4) ، من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو
سيد ولد آدم ، وأكبر شفيع عند الله - : أنه حين يقوم المقام المحمود ليشفع في
الخلق كلّهم أن يأتي ربّهم لفصل القضاء ، قال : "فأسجد لله فيدعني ما شاء
الله أن يدعني ، ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن ، ثم يقال : يا محمد ، ارفع رأسك
، وقل يُسمع (5) ، وسل تُعْطَه واشفع تشفع" الحديث بتمامه.
وقوله : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ
قَالُوا الْحَقَّ }. وهذا أيضا مقام رفيع في العظمة. وهو أنه تعالى إذا تكلم
بالوحي ، سمع أهل السموات كلامه ، أرْعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي. قاله
ابن مسعود ومسروق ، وغيرهما.
{ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِم } أي : زال الفزع عنها. قال ابن عباس ،
وابن عمر وأبو عبد الرحمن السلمي والشعبي ، وإبراهيم النَّخَعيّ ، والضحاك والحسن
، وقتادة في قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِم } يقول : جُلِّى
عن قلوبهم ، وقرأ بعض السلف - وجاء مرفوعا - : " [حَتَّى] (6) إذَا فرغ"
بالغين (7) المعجمة ، ويرجع إلى الأول.
فإذا كان كذلك يسأل بعضهم بعضا : ماذا قال ربكم ؟ فيخبر بذلك حملة العرش للذين
يلونهم ، ثم الذين يلونهم لمن تحتهم ، حتى ينتهي الخبر إلى أهل السماء الدنيا ؛
ولهذا قال : { قَالُوا الْحَقّ } أي : أخبروا بما قال من غير زيادة ولا نقصان ، {
وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }.
وقال آخرون : بل معنى قوله : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } يعني :
المشركين عند الاحتضار ، ويوم القيامة إذا استيقظوا مما كانوا فيه من الغفلة في
الدنيا ، ورجعت إليهم عقولهم يوم القيامة ، قالوا : ماذا قال ربكم ؟ فقيل لهم :
الحق وأخبروا به مما كانوا عنه لاهين في الدنيا.
قال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } : كشف
عنها الغطاء يوم القيامة.
وقال الحسن : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } يعني : ما فيها من الشك
والتكذيب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ
قُلُوبِهِمْ } يعني : ما فيها من الشك ،
__________
(1) في ت : "ثم قال".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) تقدمت أحاديث الشفاعة عند تفسير الآية : 79 من سورة الإسراء.
(5) في س ، أ : "تسمع".
(6) زيادة من أ.
(7) في ت : "بالعين".
(6/514)
قال : فزع
الشيطان عن قلوبهم وفارقهم وأمانيهم وما كان يضلهم ، { قَالُوا مَاذَا قَالَ
رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } قال : وهذا في بني آدم
، هذا عند الموت ، أقروا حين لا ينفعهم الإقرار.
وقد اختار ابن جرير القول الأول : أن الضمير عائد على الملائكة (1). هذا هو الحق
الذي لا مرية فيه ، لصحة الأحاديث فيه والآثار ، ولنذكر منها طرفا يدل على غيره :
قال البخاري عند تفسير هذه الآية الكريمة في صحيحه : حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان
، حدثنا عمرو ، سمعت عِكْرِمة ، سمعت أبا هُرَيرة (2) يقول : إن نبي الله صلى الله
عليه وسلم قال : "إذا قضى الله الأمرَ في السماء ، ضربت الملائكة بأجنحتها
خُضعانًا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوانَ ، فإذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال
ربكم ؟ قالوا للذي قال : الحقّ ، وهو العلي الكبير فيسمعها مُسْتَرق السمع ،
ومسترق السمع - هكذا بعضه (3) فوق بعض - ووصف سفيان بيده - فَحَرّفها وبَدّد (4)
بين أصابعه - فَيسمع الكلمة ، فيلقيها إلى مَنْ تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى مَنْ
تحته ، حتى يلقيَها على لسان الساحر (5) أو الكاهن ، فَربما أدركه الشّهاب قبل أن
يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه ، فيكذب معها مائة كَذْبَة ، فيقال : أليس قد
قال لنا يومَ كذا وكذا : كذا (6) وكذا ؟ فيصدّق بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء.
انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم من هذا الوجه. وقد رواه أبو داود ، والترمذي ،
وابن ماجه ، من حديث سفيان بن عيينة ، به. (7)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر وعبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ،
أخبرنا الزهري ، عن علي بن الحسين ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم [جالسًا] (8) في نفر من أصحابه - قال عبد الرزاق : "من
الأنصار" - فَرُميَ بنجم فاستنار ، [قال] (9) : " ما كنتم تقولون إذا
كان مثلُ هذا في الجاهلية ؟" قالوا : كنا نقول يُولَد عظيم ، أو يموت (10)
عظيم - قلت للزهري : أكان يرمى بها في الجاهلية ؟ قال : نعم ، ولكن غُلّظت حين بعث
النبي صلى الله عليه وسلم - قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ، ولكن ربنا ، تبارك وتعالى ، إذا
قضى أمرا سبح حَمَلةُ العرش [ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ، حتى يبلغ التسبيح
هذه (11) الدنيا ، ثم يستخبر أهل السماء الذين يَلُونَ حملة العرش ، فيقول الذين
يلون حملة العرش لحملة العرش] (12) : ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم ، ويخبر أهل كل
سماء سماء ؛ حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء ، وتخطف الجن السمع فيرمون ، فما
جاؤوا به على وجهه فهو حق ، ولكنهم يفرقون فيه ويزيدون.
هكذا رواه الإمام أحمد (13). وقد أخرجه مسلم في صحيحه ، من حديث صالح بن كَيْسَان
،
__________
(1) تفسير الطبري (22/64).
(2) في ت : "قال البخاري عند تفسيره هذه الآية الكريمة في صحيحه بإسناده عن
أبي هريرة".
(3) في أ : "بعضهم".
(4) في أ : "وسدد".
(5) في أ : "الآخر".
(6) في أ : "وكذا ، يوم كذا".
(7) صحيح البخاري برقم (4800) وسنن أبي داود برقم (3989) وسنن الترمذي برقم (3223)
وسنن ابن ماجه برقم (194).
(8) زيادة من ت ، س ، والمسند.
(9) زيادة من ت ، س ، والمسند.
(10) في ت ، س : "ويموت".
(11) في تـ س : "السماء".
(12) زيادة من ت ، س ، والمسند.
(13) المسند (1/218).
(6/515)
والأوزاعي ،
ويونس ومَعْقِل بن عبيد الله (1) ، أربعتهم عن الزهري ، عن علي بن الحسين ، عن ابن
عباس عن رجل من الأنصار ، به (2). ورواه وقال يونس : عن رجال من الأنصار (3) ،
وكذا رواه النسائي (4) في "التفسير" من حديث الزبيدي ، عن الزهري ، به
(5). ورواه الترمذي فيه عن الحُسَين بن حريث ؛ عن الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ،
عن الزهري ، عن عُبَيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن رجل من الأنصار ، رضي
الله عنه (6) ، والله (7) أعلم.
حديث آخر : قال ابن أبى حاتم : حدثنا محمد بن عوف وأحمد بن منصور بن سيار الرمادي
- والسياق لمحمد بن عوف - قالا حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا الوليد - هو ابن مسلم -
عن عبد الرحمن بن يزيد (8) بن جابر ، عن عبد الله بن أبي زكرياء ، عن رجاء بن حيوة
، عن النواس بن سَمْعان (9) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا
أراد الله أن يوحي بأمره تكلم بالوحي ، فإذا تكلم أخذت السموات منه (10) رجفة - أو
قال : رعدة - شديدة ؛ من خوف الله ، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله
سجدا ، فيكون أول مَنْ يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد ، فيمضي به
جبريل على الملائكة ، كلما مَرّ بسماء سماء سأله ملائكتها : ماذا قال ربنا يا
جبريل ؟ فيقول : قال : الحقّ ، وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل ،
فينتهي جبريل بالوحي حيث أمره الله من السماء والأرض".
وكذا رواه ابن جرير وابن خُزَيمة ، عن زكريا بن أبان المصري ، عن نعيم بن حماد ،
به. (11)
قال ابن أبي حاتم : سمعت أبي يقول : ليس هذا الحديث بالشام عن الوليد بن مسلم ،
رحمه الله.
وقد روى ابن أبي حاتم من حديث العَوفي ، عن ابن عباس - وعن قتادة : أنهما فسرا هذه
الآية بابتداء إيحاء الله سبحانه إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد الفترة التي
كانت بينه وبين عيسى ، ولا شك أن هذا أولى ما دخل في هذه الآية.
__________
(1) في س : "بن عبد الله".
(2) صحيح مسلم برقم (2229).
(3) صحيح مسلم برقم (2229).
(4) في ت : "وكذا رواه النسائي والترمذي".
(5) سنن الترمذي برقم (3224).
(6) النسائي في السنن الكبرى برقم (11272).
(7) في س : "فالله".
(8) في أ : "زيد".
(9) في ت : "حديث آخر رواه ابن جرير بإسناده عن النواس بن سمعان".
(10) في أ : "منها".
(11) تفسير الطبري (22/63) والتوحيد لابن خزيمة ص (95) ورواه ابن عاصم في السنة
برقم (515) من طريق محمد بن عوف ، عن نعيم بن حماد ، به.
(6/516)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
{ قُلْ مَنْ
يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ
لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا
أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا
رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلا بَلْ هُوَ اللَّهُ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) }.
يقول تعالى مقررًا تفرُّدَه بالخلق والرزق (1) ، وانفراده بالإلهية أيضا ، فكما
كانوا يعترفون بأنه لا يرزقهم من السماء (2) والأرض - أي : بما ينزل من المطر
وينبت من الزرع - إلا الله ، فكذلك فليعلموا أنه لا إله غيره.
وقوله : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } :
هذا من باب اللف والنشر ، أي : واحد من الفريقين مبطل ، والآخر محق ، لا سبيل إلى
أن تكونوا أنتم ونحن على الهدى أو على الضلال ، بل واحد منا مصيب ، ونحن قد أقمنا
البرهان على التوحيد ، فدل على بطلان ما أنتم عليه من الشرك بالله ؛ ولهذا قال : {
وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ }.
قال قتادة : قد قال ذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم للمشركين : والله ما نحن
وإياكم على أمر واحد ، إن أحد الفريقين لمهتد.
وقال عِكْرِمة وزياد بن أبي مريم : معناه : إنا نحن لعلى هدى ، وإنكم لفي ضلال
مبين.
وقوله : { قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا
تَعْمَلُونَ } : معناه التبري منهم ، أي : لستم منا ولا نحن منكم ، بل ندعوكم إلى
الله وإلى توحيده وإفراد العبادة له ، فإن أجبتم فأنتم منا ونحن منكم ، وإن كذبتم
فنحن برآء منكم وأنتم بُرآء منا ، كما قال تعالى : { وَإِنْ (3) كَذَّبُوكَ فَقُلْ
لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا
بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } [يونس : 41] ، وقال : { قُلْ يَا أَيُّهَا
الْكَافِرُونَ. لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا
أَعْبُدُ. وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ. وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا
أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [سورة الكافرون].
وقوله : { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا } أي : يوم القيامة ، يجمع [بين] (4)
الخلائق في صعيد واحد ، ثم يفتح بيننا بالحق ، أي : يحكم بيننا بالعدل ، فيجزي كل
عامل بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. وستعلمون يومئذ لمن العزة والنصرة
والسعادة الأبدية ، كما قال تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ
يَتَفَرَّقُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي
رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } [الروم : 14 - 16]
؛ ولهذا قال تعالى : { وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ } أي : الحاكم (5) العادل
العالم بحقائق الأمور.
وقوله : { قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ } أي : أروني هذه
الآلهة التي جعلتموها لله أندادا وصيَّرتموها له عدْلا. { كَلا } أي : ليس له نظير
ولا نَديد ، ولا شريك ولا عديل ، ولهذا قال : { بَلْ هُوَ اللَّهُ } : أي : الواحد
الأحد الذي لا شريك له { الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي : ذو العزة التي قد قهر
__________
(1) في ت : "بفرضه بالرزق والخلق".
(2) في ت ، أ : "السموات".
(3) في هـ ، ت ، س ، أ : "فإن" والصواب ما أثبتناه.
(4) زيادة من ت.
(5) في ت ، أ : "الحكام".
(6/517)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
بها كل شيء
، وَغَلَبت كل شيء ، الحكيم في أفعاله وأقواله ، وشرعه وقدره ، تعالى وتقدس.
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ
سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30) }.
يقول تعالى لعبده ورسوله محمد ، صلوات الله وسلامه عليه (1) : { وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ (2) } : أي : إلا إلى جميع الخلق من
المكلفين ، كقوله (3) تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ
اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [الأعراف : 158] ، { تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ
الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } [الفرقان : 1].
{ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } أي تبشر (4) مَنْ أطاعك بالجنة ، وتنذر مَنْ عصاك بالنار.
{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } ، كقوله (5) تعالى : { وَمَا
أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف : 103] ، { وَإِنْ
تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [الأنعام : 116].
قال محمد بن كعب في قوله : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ } يعني
: إلى الناس عامة.
وقال قتادة في هذه الآية : أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى العرب والعجم ،
فأكرمُهم على الله أطوعهم لله عز وجل.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله الظهراني ، حدثنا حفص بن عمر العَدَني ،
حدثنا الحكم - يعني : ابن أبان (6) - عن عِكْرِمة قال : سمعت ابن عباس يقول : إن
الله فضل محمدًا صلى الله عليه وسلم على أهل السماء وعلى الأنبياء. قالوا : يا بن
عباس ، فيم فضله الله (7) على الأنبياء ؟ قال : إن الله قال : { وَمَا أَرْسَلْنَا
مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } ، وقال للنبي صلى الله
عليه وسلم : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ } ، فأرسله الله إلى
الجن والإنس.
وهذا الذي قاله ابن عباس قد ثبت في الصحيحين رَفْعهُ عن جابر قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت
بالرعب مسيرة شهر. وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة
فليصل. وأحلت لي الغنائم ، ولم تحل لأحد قبلي. وأعطيت الشفاعة. وكان النبي يبعث
إلى قومه ، وبعثت إلى الناس عامة". (8)
وفي الصحيح أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "بعثت إلى الأسود
والأحمر" (9) : قال مجاهد. يعني : الجن والإنس. وقال غيره : يعني : العرب
والعجم. والكل صحيح.
ثم قال تعالى مخبرا عن الكفار في استبعادهم قيام الساعة : { وَيَقُولُونَ مَتَى
هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
__________
(1) في ت : "صلى الله عليه وسلم".
(2) في ت : "للناس بشيرا".
(3) في ت ، س : "لقوله".
(4) في س : "يبشر".
(5) في ت ، س : "لقوله".
(6) في ت : "روى ابن أبي حاتم بإسناده".
(7) في ت ، س : "فما فضله".
(8) صحيح البخاري برقم (335) وصحيح مسلم برقم (521).
(9) وهو قطعة من حديث جابر السابق عند مسلم في صحيحه برقم (521).
(6/518)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)
، كما قال
تعالى : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا
مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ } الآية [الشورى : 18].
ثم قال : { قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا
تَسْتَقْدِمُونَ } أي : لكم ميعاد مؤجل معدود محرر ، لا يزداد ولا ينتقص ، فإذا
جاء فلا يؤخر ساعة ولا يقدم ، كما قال تعالى : { إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ
لا يُؤَخَّرُ } [نوح : 4] ، وقال { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ.
يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ
} [هود : 104 ، 105].
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي
بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) }
(6/519)
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
{ قَالَ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ
الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ
تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا
النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ
الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) }.
يخبر تعالى عن تمادي الكفار في طغيانهم وعنادهم وإصرارهم على عدم الإيمان بالقرآن
وما أخبر به من أمر المعاد ؛ ولهذا قال : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ
نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ }. قال الله تعالى
متهددا لهم ومتوعدا ، ومخبرا عن مواقفهم الذليلة بين يديه في حال تخاصمهم وتحاجهم
: { يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
} منهم وهم الأتباع { لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا } وهم قادتهم وسادتهم : { لَوْلا
أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } أي : لولا أنتم تصدونا ، لكنا اتبعنا الرسل وآمنا
بما جاؤونا به. فقال لهم القادة والسادة ، وهم الذين استكبروا : { أَنَحْنُ
صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ } أي : نحن ما فعلنا بكم (1)
أكثر من أنَّا دعوناكم فاتبعتمونا من غير (2) دليل ولا برهان ، وخالفتم الأدلة
والبراهين والحجج التي جاءت بها الأنبياء ، لشهوتكم واختياركم لذلك ؛ ولهذا قالوا
: { بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ. وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَار } أي : بل كنتم تمكرون بنا ليلا
ونهارا ، وتَغُرّونا وتُمَنّونا ، وتخبرونا أنا على هدى وأنا على شيء ، فإذا جميع ذلك
باطل وكَذبٌ ومَيْن.
قال قتادة ، وابن زيد (3) : { بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } يقول : بل
مكرهم بالليل والنهار. وكذا قال مالك ، عن زيد بن أسلم : مكرهم بالليل والنهار.
{ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا } أي
نظراء وآلهة معه ، وتقيموا لنا شُبَهًا وأشياءَ من
__________
(1) في س ، أ : "بكم ذلك".
(2) في ت ، س ، أ : "بغير".
(3) في ت ، أ : "ابن زيد بن أسلم".
(6/519)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
المحال
تضلونا بها { وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ } أي : الجميع
من السادة والأتباع ، كُلٌّ نَدم على ما سَلَف منه.
{ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا } : وهي السلاسل التي
تجمع أيديهم مع أعناقهم ، { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (1)
أي : إنما نجازيكم بأعمالكم (2) ، كُلٌّ بحسبه ، للقادة عذاب بحسبهم ، وللأتباع
بحسبهم { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ } [الأعراف : 38].
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا فَرْوَة بن أبي المغراء ، حدثنا محمد بن
سليمان (3) بن الأصبهاني ، عن أبي سنان ضرار بن صُرَد ، عن عبد الله بن أبي
الهُذَيل (4) ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "إن جهنم لما سيق إليها أهلها تَلَقَّاهم لهبها ، ثم لَفَحَتْهُم
لفحةً فلم يبق لحم (5) إلا سقط على العرقوب". (6)
وحدثنا (7) أبي ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري ، حدثنا الطيب أبو الحسن ، عن الحسن
بن يحيى الخُشَني قال : ما في جهنم دار ولا مغار ولا غل ولا سلسلة ولا قيد ، إلا
اسم صاحبها عليه مكتوب. قال : فحدثته أبا سليمان - يعني : الداراني ، رحمة الله
عليه (8) - فبكى ثم قال : ويحك. فكيف به لو جمع هذا كله عليه ، فجعل القيد في
رجليه ، والغُلّ في يديه والسلسلة في عنقه ، ثم أدخل النار وأدخل المغار ؟!
{ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا
بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا
وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ
(36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا
زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ
بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي
آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ
رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا
أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) }.
يقول تعالى مسليا لنبيه ، وآمرا له بالتأسي بمن قبله من الرسل ، ومخبره بأنه ما
بعث نبيا في قرية إلا كذبه (9) مترفوها ، واتبعه ضعفاؤهم ، كما قال قوم نوح : {
أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ } [الشعراء : 111] ، { وَمَا نَرَاكَ
اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ } [هود : 27] ،
وقال الكبراء من قوم صالح : { لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ
أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا
أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ. قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي
آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [الأعراف : 75 ، 76]
__________
(1) في ت ، س : "هل تجزون إلا ما كنتم تعلمون".
(2) في أ : "نجازيهم بأعمالهم".
(3) في أ : "سليم".
(4) في ت : "روى ابن أبي حاتم بإسناده".
(5) في ت : "فلم يبق لهم لحم".
(6) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (4848) "مجمع البحرين" وأبو
نعيم في الحلية (4/363) من طرق عن محمد بن سليمان الأصبهاني ، به. وقال الهيثمى في
المجمع (10/389) : "وفيه محمد بن سليمان الأصبهاني وهو ضعيف".
(7) في ت : "وروى".
(8) في ت : "رحمه الله".
(9) في ت : "إلا كفر به".
(6/520)
وقال تعالى
: { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ }
[الأنعام : 53] ؟ وقال : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ
مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا } [الأنعام : 122] وقال : { وَإِذَا أَرَدْنَا
أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [فَحَقَّ
عَلَيْهَا الْقَوْلُ (1) ] } [الإسراء : 16]. وقال هاهنا : { وَمَا أَرْسَلْنَا
فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ } أي : نبي أو رسول { إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا } ، وهم
أولو النعمة والحشمة والثروة والرياسة.
قال قتادة : هم جَبَابرتهم وقادتهم ورؤوسهم في الشر. { إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ
بِهِ كَافِرُونََ } أي : لا نؤمن به ولا نتبعه.
قال (2) ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا هارون بن إسحاق ، حدثنا محمد
بن عبد الوهاب عن سفيان عن عاصم ، عن أبي رَزِين قال : كان رجلان شريكان (3) خرج
أحدهما إلى الساحل وبقي الآخر ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى صاحبه
يسأله : ما فعل ؟ فكتب إليه أنه لم يتبعه أحد من قريش ، إنما (4) اتبعه أراذل (5)
الناس ومساكينهم. قال : فترك تجارته ثم أتى صاحبه فقال : دلني عليه - قال : وكان
يقرأ الكتب ، أو بعض الكتب - قال : فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إلام
تدعو ؟ قال : "إلى كذا وكذا". قال : أشهد أنك رسول الله. قال :
"وما علمك بذلك ؟" قال : إنه لم يبعث نبي إلا اتبعه رُذَالة الناس
ومساكينهم. قال : فنزلت هذه الآية (6) : { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ
نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ }
]الآيات] (7) ، قال : فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله قد أنزل
تصديق ما قلت". (8)
وهكذا قال هرقل لأبي سفيان حين سأله عن تلك المسائل ، قال فيها : وسألتك : أضعفاء
الناس اتبعه أم أشرافهم فزعمت : بل ضعفاؤهم ، وهم أتباع الرسل.
وقوله تعالى إخبارا عن المترفين المكذبين : { وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا
وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينََ } أي : افتخروا بكثرة الأموال والأولاد
، واعتقدوا أن ذلك دليل على محبة الله لهم واعتنائه بهم ، وأنه ما كان ليعطيهم هذا
في الدنيا ، ثم يعذبهم في الآخرة ، وهيهات لهم ذلك. قال الله : { أَيَحْسَبُونَ
أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ. نُسَارِعُ لَهُمْ فِي
الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } [المؤمنون : 55 ، 56] وقال : { فَلا تُعْجِبْكَ
أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [التوبة :
55] ، (9) وقال تعالى : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا. وَجَعَلْتُ لَهُ
مَالا مَمْدُودًا. وَبَنِينَ شُهُودًا. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا. ثُمَّ
يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا. سَأُرْهِقُهُ
صَعُودًا. } [المدثر : 11 - 17].
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت : "روى".
(3) في ت ، س : "شريكين".
(4) في س : "إلا".
(5) في ت ، س : "رذالة".
(6) في ت ، س : "الآيات".
(7) زيادة من ت ، س.
(8) ورواه ابن أبي شيبة وابن المنذر كما في الدر المنثور (6/704) ووقع في الدر :
"ابن زيد" بدل : "أبو رزين".
(9) في ت ، س : "أن يعذبهم".
(6/521)
وقد أخبر
الله عن صاحب تينك الجنتين : أنه كان ذا مال وولد وثمر ، ثم لم تُغن عنه شيئا ، بل
سُلب ذلك كله في الدنيا قبل الآخرة ؛ ولهذا قال تعالى هاهنا : { قُلْ إِنَّ رَبِّي
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ } أي : يعطي المال لمن يحب ومَنْ لا
يحب ، فيفقر مَنْ يشاء ويغني مَنْ يشاء ، وله الحكمة التامة البالغة ، والحجة
الدامغة القاطعة { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونََ }.
ثم قال : { وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ
عِنْدَنَا زُلْفَى } أي : ليست هذه دليلا على محبتنا لكم ، ولا اعتنائنا بكم.
قال (1) الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا كَثير ، حدثنا جعفر ، حدثنا يزيد بن
الأصم ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2) : إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم
وأعمالكم". [و] (3) رواه مسلم وابن ماجة ، من حديث كثير بن هشام ، عن جعفر بن
بُرْقَان ، به. (4)
ولهذا قال : { إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا } أي : إنما يقربكم عندنا زلفى
الإيمان والعمل الصالح ، { فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا }
أي : تضاعف (5) لهم الحسنة بعشرة (6) أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف { وَهُمْ فِي
الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } أي : في منازل الجنة العالية آمنون من كل بأس وخوف وأذى ،
ومن كل شر يُحْذَر منه.
قال (7) ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا فَرْوَة بن أبي المغراء الكندي ، حدثنا
القاسم وعلي بن مُسْهِر ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن النعمان بن سعد ، عن علي ،
رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن في الجنة
لَغرفا ترى ظهورها من بطونها ، وبطونها من ظهورها". فقال أعرابي : لمن هي ؟
قال : "لمن طيب الكلام ، وأطعم الطعام ، وأدام الصيام ، [وصلى بالليل والناس
نيام]" (8) (9).
{ وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } أي : يسعون في الصد عن
سبيل الله ، واتباع الرسل والتصديق بآياته ، { أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ
مُحْضَرُونَ } أي : جميعهم مَجْزيون بأعمالهم فيها بحسبهم.
وقوله : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
وَيَقْدِرُ لَهُ } أي : بحسب مَا لَه في ذلك من الحكمة ، يبسط على هذا من المال
كثيرا ، ويضيق على هذا ويقتر على هذا رزقه جدًا ، وله في ذلك من الحكمة ما لا
يدركها غيره ، كما قال تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى
بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا } [الإسراء : 21] أي
: كما هم متفاوتون في الدنيا : هذا فقير مدقع ، وهذا غني
__________
(1) في ت : "كما روى".
(2) في ت ، س : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال".
(3) زيادة من س.
(4) المسند (2/539) وصحيح مسلم برقم (2564) وسنن ابن ماجه برقم (4143).
(5) في س : "يضاعف".
(6) في ت ، س ، أ : "بعشر".
(7) في ت : "وروى".
(8) زيادة من ت ، أ.
(9) ورواه الترمذي في السنن برقم (1984) من طريق على بن مسهر عن عبد الرحمن بن
إسحاق بأطول منه ، وقال : "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن
إسحاق ، وقد تكلم أهل الحديث في عبد الرحمن بن إسحاق هذا من قبل حفظه وهو
كوفي". قلت : وله شواهد من حديث عبد الله بن عمرو وأبي مالك الأشعري وأبي
معانق الأشعري ، رضي الله عنهم.
(6/522)
مُوَسَّع
عليه ، فكذلك هم في الآخرة : هذا في الغُرفات في أعلى الدرجات ، وهذا في الغَمرَات
في أسفل الدركات. وأطيب الناس في الدنيا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"قد أفلح مَنْ أسلم ورُزق كَفَافا ، وقَنَّعه الله بما آتاه". رواه مسلم
من حديث ابن عَمْرو. (1)
وقوله : { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } أي : مهما أنفقتم
من شيء فيما أمركم به وأباحه لكم ، فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل ، وفي الآخرة
بالجزاء والثواب ، كما ثبت في الحديث (2) : يقول الله تعالى : أنْفق (3) أنْفق
عليك" (4). وفي الحديث : أن ملكين يَصيحان كل يوم ، يقول أحدهما :
"اللهم أعط مُمْسِكا تَلَفًا" ، ويقول الآخر : "اللهم أعط منفقا
خَلَفًا" (5) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنفق بلالا ولا تخش من
ذي العرش إقلالا" (6).
وقال (7) ابن أبي حاتم عن يزيد بن عبد العزيز الطلاس ، حدثنا هُشَيْم عن الكوثر بن
حكيم ، عن مكحول قال : بلغني عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"ألا إن بعدكم (8) زمان عضوض ، يعض الموسر على ما في يده (9) حذار
الإنفاق". ثم تلا هذه الآية : { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ
يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينََ } (10)
وقال (11) الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا روح بن حاتم ، حدثنا هُشَيم ، عن
الكوثر بن حكيم عن مكحول قال : بلغني عن حذيفة أنه قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض ، يعض الموسر على ما في يديه
حذار الإنفاق" ، قال الله تعالى : { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ
يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينََ } ، وَيَنْهَل شرار الخلق يبايعون كل
مضطر ، ألا إن بيع المضطرين حرام ، [ألا إن بيع المضطرين حرام] (12) المسلم أخو
المسلم. لا يظلمه ولا يخذله ، إن كان عندك معروف ، فَعُد به على أخيك ، وإلا فلا
تَزده هلاكا إلى هلاكه".
هذا حديث غريب من هذا الوجه ، وفي إسناده ضعف. (13)
وقال سفيان الثوري ، عن أبي يونس الحسن بن يزيد قال : قال مجاهد : لا يتأولن أحدكم
هذه
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1054).
(2) في ت : "في الصحيح".
(3) في أ : "ابن آدم أنفق".
(4) رواه البخاري في صحيحه برقم (4684) ومسلم في صحيحه برقم (993) من حديث أبي
هريرة ، رضي الله عنه.
(5) رواه البخاري في صحيحه برقم (1442) ومسلم في صحيحه برقم (1010) من حديث أبي
هريرة ، رضي الله عنه.
(6) جاء عن جماعة من الصحابة ، فرواه الطبراني في المعجم الكبير (1/340) من طريق
قيس بن الربيع عن أبي حصين ، عن يحيي بن وثاب ، عن مسروق عن ابن مسعود ، رضى الله
عنه ، وقيس بن الربيع ضعفوه. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (1/342) ، وأبو يعلى
في مسنده (10/429) وأبو نعيم في الحلية (2/280) عن هشام بن حسان عن محمد بن سيربن
عن أبي هريرة ، رضى الله عنه. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (1/359) من طريق
أبي إسحاق عن مسروق عن بلال ، رضي الله عنه ، وفيه ابن زبالة وهو ضعيف.
(7) في ت : "وروي".
(8) في س : "بعدكم هذا زمان".
(9) في ت ، س : "يديه".
(10) ذكره السيوطي في الدر (6/707) وقال : "أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم وابن
مردويه بسند ضعيف فذكره".
(11) في ت : "وروى".
(12) زيادة من ت ، س.
(13) ذكره الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (1/261) وعزاه لأبي يعلى في مسنده.
(6/523)
الآية : { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهَ } : إذا كان عند أحدكم ما يقيمه فليقصد فيه ، فإن الرزق مقسوم.
(6/524)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آَتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
{ وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ
كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ
بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)
فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا
تُكَذِّبُونَ (42) }.
يخبر تعالى أنه يقرع المشركين يوم القيامة على رؤوس الخلائق ، فيسأل الملائكة
الذين كان المشركون يزعمون أنهم يعبدون الأنداد التي هي على صورة الملائكة
ليقربوهم إلى الله زلفى ، فيقول للملائكة : { أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا
يَعْبُدُونَ } ؟ أي : أنتم أمرتم هؤلاء بعبادتكم ؟ كما قال في سورة الفرقان : {
أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ }
[الفرقان : 17] ، وكما يقول لعيسى : { أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي
وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ
أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } [المائدة : 116]. وهكذا تقول الملائكة : {
سُبْحَانَكَ } أي : تعاليتَ وتقدست عن أن يكون معك إله { أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ
دُونِهِمْ } أي : نحن عبيدك ونبرأ إليك من هؤلاء ، { بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ
الْجِنَّ } يعنون : الشياطين ؛ لأنهم هم الذين (1) يزينون لهم عبادة الأوثان
ويضلونهم (2) ، { أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } ، كما قال تعالى : { إِنْ
يَدْعُونَ (3) مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ (4) إِلا شَيْطَانًا
مَرِيدًا } [النساء : 117].
قال الله تعالى : { فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا
ضَرًّا } أي : لا يقع لكم نفع ممن كنتم ترجون نفعه اليوم من الأنداد والأوثان ،
التي ادخرتم عبادتها لشدائدكم وكُرَبكم ، اليوم لا يملكون لكم نفعا ولا ضرا ، {
وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا } - وهم المشركون - { ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ
الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } أي : يقال لهم ذلك ، تقريعا وتوبيخا.
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ
يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا
إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ
إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ
يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ
فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) }.
يخبر تعالى عن الكفار أنهم يستحقون منه العقوبة والأليم من العذاب ؛ لأنهم كانوا
إذا تتلى
__________
(1) في هـ : "الشياطين ثم الذين" والمثبت من ت ، س.
(2) في س : "ويضلوهم".
(3) في س : "تدعون".
(4) في س : "تدعون".
(6/524)
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
عليهم آياته
بينات يسمعونها غَضَّةً طرية من لسان رسوله (1) صلى الله عليه وسلم ، { قَالُوا
مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ
} ، يعنون أن دين آبائهم هو الحق ، وأن ما جاءهم به الرسول عندهم باطل - عليهم
وعلى آبائهم لعائن الله - { وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى } يعنون :
القرآن ، { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا
إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ }. قال الله تعالى : { وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ
يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ } أي : ما
أنزل الله على العرب من كتاب قبل القرآن ، وما أرسل إليهم نبيًا قبل محمد صلى الله
عليه وسلم ، وقد كانوا يَوَدّون ذلك ويقولون : لو جاءنا نذير أو أنزل علينا كتاب ،
لكنا أهدى من غيرنا ، فلما مَنَّ الله عليهم بذلك كذبوه وعاندوه وجحدوه. ثم قال :
{ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي : من الأمم ، { وَمَا بَلَغُوا
مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ } قال ابن عباس : أي من القوة في الدنيا. وكذلك (2)
قال قتادة ، والسدّي ، وابن زيد. كما قال تعالى : { وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا
إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً
فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ
شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا
بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [الأحقاف : 26] ، { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ
فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ
مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً } [غافر : 82] ، أي : وما دفع ذلك عنهم عذاب الله ولا
رده ، بل دمر الله عليهم لما كذبوا رسله ؛ ولهذا قال : { فَكَذَّبُوا رُسُلِي
فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي : فكيف كان نكالي وعقابي وانتصاري لرسلي (3) ؟
{ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى
وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا
نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) }.
يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء الكافرين الزاعمين أنك مجنون : { إِنَّمَا
أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ } أي : إنما آمركم بواحدة ، وهي : { أَنْ تَقُومُوا
لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ }
أي : تقوموا قياما خالصًا لله ، من غير هوى ولا عصبية ، فيسأل بعضكم بعضا : هل
بمحمد من جنون ؟ فينصح بعضكم بعضا ، { ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } أي : ينظر الرجل
لنفسه في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، ويسأل غيره من الناس عن شأنه إن أشكل عليه
، ويتفكر في ذلك ؛ ولهذا قال : { أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ
تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ }.
هذا معنى ما ذكره مجاهد ، ومحمد بن كعب ، والسُّدِّيّ ، وقتادة ، وغيرهم ، وهذا هو
المراد من الآية.
فأما الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا
صدقة بن خالد ، حدثنا عثمان بن أبي العاتكة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي
أمامة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : "أعطيت ثلاثا لم يعطهن
مَن قبلي ولا فخر : أحلت لي الغنائم ، ولم تحل لمن قبلي ، كانوا قبلي يجمعون
غنائمهم فيحرقونها. وبُعثت إلى كل أحمر وأسود ، وكان كل نبي يبعث
__________
(1) في ت : "رسول الله".
(2) في ت ، س : "وكذا".
(3) في ت : "أى فكيف كان عقابي وانتصاري لرسلي".
(6/525)
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)
إلى قومه ،
وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا ، أتيمم بالصعيد ، وأصلي حيث أدركتني الصلاة ، قال
الله : { أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى } وأعنت بالرعب مسيرة شهر بين
يدي" - فهو حديث ضعيف الإسناد ، وتفسير الآية بالقيام في الصلاة في جماعة
وفرادى بعيد ، ولعله مقحم في الحديث من بعض الرواة ، فإن أصله ثابت في الصحاح
وغيرها (1) والله أعلم.
وقوله : { إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } : قال (2)
البخاري عندها :
حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا محمد بن خَازم ، حدثنا الأعمش ، عن عمرو بن مرَّة ،
عن سعيد بن جُبَيْر (3) ، عن ابن عباس قال : صَعدَ النبي صلى الله عليه وسلم الصفا
ذات يوم ، فقال : "يا صباحاه". فاجتمعت إليه قريش ، فقالوا : ما لك ؟
فقال : "أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يُصَبّحكم أو يُمَسّيكم ، أما كنتم
تصدقوني ؟" قالوا : بلى. قال : "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد".
فقال أبو لهب : تبا لك! ألهذا جمعتنا ؟ فأنزل الله : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ
وَتَبَّ } [المسد]. (4)
وقد تقدم عند قوله : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } [ الشعراء : 214 ].
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا بشير بن المهاجر ، حدثني عبد الله بن
بريدة ، (5) عن أبيه قال : خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فنادى
ثلاث مرات فقال : "أيها الناس ، أتدرون ما مثلي ومثلكم ؟" قالوا : الله
ورسوله أعلم. قال : "إنما مثلي ومثلكم مثلُ قوم خافوا عدوا يأتيهم ، فبعثوا
رجلا يتراءى لهم ، فبينما هو كذلك أبصر العدو ، فأقبل لينذرهم وخشي أن يدركه العدو
قبل أن ينذر قومه ، فأهوى بثوبه : أيها الناس ، أوتيتم. أيها الناس ، أوتيتم -
ثلاث مرات".
وبهذا الإسناد (6) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بعثت أنا والساعة
جميعًا ، إن كادت لتسبقني". تفرد به الإمام أحمد في مسنده. (7)
{ قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى
اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ (48) }.
__________
(1) سبق تخريج حديث جابر ، رضي الله عنه ، في الصحيحين عند تفسير الآية : 28 من
هذه السورة.
(2) في ت : "روى".
(3) في ت : "بإسناده".
(4) صحيح البخاري برقم (4801).
(5) في ت : "وروى الإمام أحمد بإسناده عن عبد الله بن زيد".
(6) في ت "وبإسناده".
(7) المسند (5/348).
(6/526)
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
{ قُلْ
جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ
فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ
رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) }.
يقول تعالى آمرًا رسوله أن يقول للمشركين : { مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ
لَكُمْ } أي : لا أريد منكم جُعلا ولا عَطاء على أداء رسالة الله إليكم ، ونصحي
إياكم ، وأمركم بعبادة الله ، { إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ } أي : إنما
أطلب ثواب ذلك من عند الله { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي : عالم بجميع
الأمور ، بما أنا عليه من إخباري عنه بإرساله إياي إليكم ، وما أنتم عليه.
وقوله : {
(6/526)
قُلْ إِنَّ
رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ } ، كقوله تعالى : { يُلْقِي
الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } [غافر : 15]. أي :
يرسل الملك إلى مَنْ يشاء من عباده من أهل الأرض ، وهو علام الغيوب ، فلا تخفى
عليه خافية في السموات ولا في الأرض.
وقوله : { قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } أي :
جاء الحق من الله والشرع العظيم ، وذهبَ الباطل وزهق واضمحل ، كقوله : { بَلْ
نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ [فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ (1) ] }
[الأنبياء : 18] ، ولهذا لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام يوم
الفتح ، ووجد تلك الأصنام منصوبة حول الكعبة ، جعل يَطعنُ الصنم (2) بسِيَة
قَوْسِه ، ويقرأ : { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ
كَانَ زَهُوقًا } ، { قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا
يُعِيدُ }. رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وحده عند هذه الآية ، كلهم من
حديث الثوري ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن أبي مَعْمَر عبد الله بن
سَخبَرَةَ ، عن ابن مسعود ، به (3).
أي : لم يبق للباطل مقالة ولا رياسة ولا كلمة.
وزعم قتادة والسدي : أن المراد بالباطل ها هنا إبليس ، إنه لا يخلق أحدا ولا يعيده
، ولا يقدر على ذلك. وهذا وإن كان حقًا ولكن ليس هو المراد هاهنا (4) والله أعلم.
وقوله : { قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ
اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي } أي : الخير كله من عند الله ، وفيما
أنزله الله عز وجل من الوحي والحق المبين فيه الهدى والبيان والرشاد ، ومَنْ ضل
فإنما يضل من تلقاء نفسه ، كما قال عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، لما سئل عن
تلك المسألة في المفوَضة : أقول فيها برأيي ، فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن
خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه. (5)
وقوله : { إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } أي : سميع لأقوال عباده ، قريب مجيب دعوة
الداعي إذا دعاه. وقد روى النسائي هاهنا حديث أبي موسى الذي في الصحيحين [أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال] (6) : "إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، إنما
تدعون سميعا " (7) قريبا مجيبا". (8)
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت ، س ، أ : "الصنم منها".
(3) صحيح البخاري برقم (2478 ، 4287) وصحيح مسلم برقم (1781) وسنن الترمذي برقم
(3138) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11428).
(4) في ت : "الآية"
(5) انظر الأثر في المسند (1/477).
(6) زيادة من ت ، أ.
(7) في أ : "سميعا بصيرا".
(8) النسائي في السنن الكبرى برقم (11427) وصحيح البخاري برقم (4205) وصحيح مسلم
برقم (2704).
(6/527)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
{ وَلَوْ
تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا
آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ
كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53)
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ
قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) }.
يقول تعالى : ولو ترى - يا محمد - إذ فَزِع هؤلاء المكذبون (1) يوم القيامة ، {
فَلا فَوْتَ } أي : فلا مفر لهم ، ولا وزر ولا ملجأ { وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ
قَرِيبٍ } أي : لم يكونوا يُمنعون في الهرب (2) بل أخذوا من أول وهلة.
قال الحسن البصري : حين خرجوا من قبورهم.
وقال مجاهد ، وعطية العوفي ، وقتادة : من تحت أقدامهم.
وعن ابن عباس والضحاك : يعني : عذابهم في الدنيا.
وقال عبد الرحمن بن زيد : يعني : قتلهم يوم بدر.
والصحيح : أن المراد بذلك يوم القيامة ، وهو الطامة العظمى ، وإن كان ما ذكر متصلا
بذلك.
وحكى ابن جرير عن بعضهم قال : إن المراد بذلك جيش يخسف بهم بين مكة والمدينة في
أيام بني العباس ، ثم أورد في ذلك حديثا موضوعا بالكلية. ثم لم ينبه على ذلك ،
وهذا أمر عجيب غريب منه
{ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ } أي : يوم القيامة يقولون : آمنا بالله وبكتبه ورسله
(3) ، كما قال تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤوسِهِمْ
عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ
صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } [السجدة : 12] ؛ ولهذا قال تعالى : { وَأَنَّى
لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } أي : وكيف لهم تعاطي (4) الإيمان وقد
بعدوا عن محل قبوله منهم وصاروا إلى الدار الآخرة ، وهي دار الجزاء لا دار
الابتلاء ، فلو كانوا آمنوا في الدنيا لكان ذلك نافعهم ، ولكن بعد مصيرهم إلى
الدار الآخرة لا سبيل لهم إلى قبول الإيمان ، كما لا سبيل إلى حصول الشيء لمن
يتناوله من بعيد.
قال مجاهد : { وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ } قال : التناول لذلك.
وقال الزهري : التناوش : تناولهم الإيمان وهم في الآخرة ، وقد انقطعت عنهم الدنيا.
وقال الحسن البصري : أما إنهم طلبوا الأمر من حيث لا ينال ، تعاطوا الإيمان من
مكان بعيد.
وقال ابن عباس : طلبوا الرجعة إلى الدنيا والتوبة مما هم فيه ، وليس بحين (5) رجعة
ولا توبة. وكذا قال محمد بن كعب القرظي ، رحمه الله.
وقوله : { وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ } أي : كيف يحصل لهم الإيمان في الآخرة
، وقد كفروا بالحق في الدنيا وكذبوا بالرسل ؟
{ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } : قال مالك ، عن زيد بن أسلم
: { وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ } قال : بالظن.
__________
(1) في ت : "المكذبين".
(2) في ت : "لم يمكنوا أي يمنعوا عن الهرب" ، وفي س ، أ : "لم
يمكنوا أن يمنعوا في الهرب"
(3) في ت ، أ : "وبرسله".
(4) في ت ، س ، أ : "تعاطى عن".
(5) في ت ، أ : "وليس هو حين".
(6/528)
قلت : كما
قال تعالى : { رَجْمًا بِالْغَيْبِ } [الكهف : 22] ، فتارة يقولون : شاعر. وتارة
يقولون : كاهن. وتارة يقولون : ساحر. وتارة يقولون : مجنون. إلى غير ذلك من
الأقوال الباطلة ، ويكذبون بالغيب (1) والنشور والمعاد ، ويقولون : { إِنْ نَظُنُّ
إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } [الجاثية : 32].
قال قتادة : يرجمون بالظن ، لا بعث ولا جنة ولا نار.
وقوله : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } : قال الحسن البصري ،
والضحاك ، وغيرهما : يعني : الإيمان.
وقال السُّدِّي : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } وهي : التوبة.
وهذا اختيار ابن جرير ، رحمه الله.
وقال مجاهد : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } من هذه الدنيا ، من
مال وزهرة وأهل. وروي [ذلك] (2) عن ابن عباس وابن عمر والربيع بن أنس. وهو قول
البخاري وجماعة. والصحيح : أنه لا منافاة بين القولين ؛ فإنه قد حيل بينهم وبين
شهواتهم في الدنيا وبين ما طلبوه في الآخرة ، فمنعوا منه.
وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا أثرًا غريبا [عجيبا] (3) جدًا ، فلنذكره بطوله فإنه
قال : حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا بشر بن حجر السامي (4) ، حدثنا علي بن منصور
الأنباري ، عن الشَّرَقيّ ابن قُطَامي ، عن سعيد بن طريف ، عن عِكْرِمة ، عن ابن
عباس في قول الله عز وجل : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } إلى
آخر الآية ، قال : كان رجل من بني إسرائيل فاتحًا - أي فتح الله له مالا - فمات
فورثه ابن له تافه - أي : فاسد - فكان يعمل في مال الله بمعاصي الله. فلما رأى ذلك
إخوان أبيه أتوا الفتى فعذلوه ولاموه ، فضجر الفتى فباع عقاره بصامت ، ثم رحل فأتى
عينا ثجاجَة فسرَح فيها ماله ، وابتنى قصرًا. فبينما هو ذات يوم جالس إذ شمَلت
عليه [ريح] (5) بامرأة من أحسن الناس وجهًا وأطيبهم أرَجا - أي : ريحًا - فقالت :
من أنت يا عبد الله ؟ فقال : أنا امرؤ من بني إسرائيل قالت : فلك هذا القصر ، وهذا
المال ؟ قال : نعم. قالت : فهل لك من زوجة ؟ قال : لا. قالت : فكيف يَهْنيك العيش
ولا زوجة لك ؟ قال : قد كان ذلك. فهل لك من بَعل ؟ قالت : لا. قال : فهل لك إلى أن
أتزوجك ؟ قالت : إني امرأة منك على مسيرة ميل ، فإذا كان غد فتزوّد زاد يوم وأتني
، وإن رأيت في طريقك هولا فلا يَهُولنَّكَ. فلما كان من الغد تزود زاد يوم ،
وانطلق فانتهى إلى قصر ، فقرع رتاجه ، فخرج إليه شاب من أحسن الناس وجهًا وأطيبهم
أرَجًا - أي : ريحًا - فقال : من أنت يا عبد الله ؟ فقال : أنا الإسرائيلي. قال
فما حاجتك ؟ قال : دعتني صاحبة هذا القصر إلى نفسها. قال : صدقت ، قال فهل رأيت في
طريقك [هولا ؟] (6) قال : نعم ، ولولا أنها أخبرتني أن لا بأس عليّ ، لهالني الذي
رأيت ؛ أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل ، إذا أنا بكلبة فاتحة
__________
(1) في ت ، س ، أ : "بالبعث".
(2) زيادة من ت.
(3) زيادة من س ، أ.
(4) في ت : "الشامي".
(5) زيادة من ت ، س ، والدر المنثور.
(6) زيادة من ت ، س ، والدر المنثور.
(6/529)
فاها ،
ففزعت ، فَوَثَبت فإذا أنا من ورائها ، وإذا جراؤها ينبحن في بطنها. فقال له الشاب
: لست تدرك هذا ، هذا يكون في آخر الزمان ، يقاعد الغلام المشيخة في مجلسهم
ويَبُزّهم حديثهم.
قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل ، إذا أنا بمائة عنز حُفَّل ، وإذا فيها
جَدْي يمصّها ، فإذا أتى عليها وظن أنه لم يترك شيئًا ، فتح فاه يلتمس الزيادة.
فقال : لست تدرك هذا ، هذا يكون في آخر الزمان ، ملك يجمع صامت الناس كلّهم ، حتى
إذا ظن أنه لم يترك شيئًا فتح فاه يلتمس الزيادة.
قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بشجر ، فأعجبني غصن من شجرة منها
ناضر ، فأردت قطعة ، فنادتني شجرة أخرى : "يا عبد الله ، مني فخذ". حتى
ناداني الشجر أجمع : "يا عبد الله ، منا فخذ". قال : لست تدرك هذا ، هذا
يكون في آخر الزمان ، يقل الرجال ويكثر (1) النساء ، حتى إن الرجل ليخطب المرأة
فتدعوه العشر والعشرون إلى أنفسهن.
قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا برجل قائم على عين ، يغرف لكل
إنسان من الماء ، فإذا تَصَدعوا عنه صَبّ في جَرّته فلم تَعلَق جَرته من الماء
بشيء. قال : لست تدرك هذا ، هذا يكون في آخر الزمان ، القاص يعلم الناس العلم ثم
يخالفهم إلى معاصي الله.
قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بعنز وإذا بقوم قد أخذوا بقوائمها
، وإذا رجل قد أخذ بقرنيها ، وإذا رجل قد أخذ بذَنَبها ، وإذا رجل (2) قد ركبها ،
وإذا رجل يحلبها. فقال : أما العنز فهي الدنيا ، والذين أخذوا بقوائمها يتساقطون
من عيشها ، وأما الذي قد أخذ بقرنيها فهو يعالج من عيشها ضيقًا ، وأما الذي أخذ
بذنبها فقد أدبرت عنه ، وأما الذي ركبها (3) فقد تركها. وأما الذي يحلبها فَبخٍ [
بخٍ ] (4) ، ذهب ذلك (5) بها.
قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل ، وإذا أنا برجل يمْتح على قَليب ، كلما
أخرج (6) دلوه صبَّه في الحوض ، فانساب الماء راجعًا إلى القليب. قال : هذا رجل
رَدّ الله [عليه] (7) صالح عمله ، فلم يقبله.
قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل ، إذا أنا برجل يبذُر بذرًا فيستحصد ،
فإذا حنطة طيبة. قال : هذا رجل قبل الله صالح عمله ، وأزكاه (8) له.
قال : ثم أقبلت حتى [إذا] (9) انفرج بي السبيل ، إذا أنا برجل مستلق على قفاه ،
قال : يا عبد الله ، ادن مني فخذ بيدي وأقعدني ، فوالله ما قعدت منذ خلقني الله
فأخذت بيده ، فقام يسعى حتى ما أراه. فقال له الفتى : هذا عمْر الأبعد نَفَد ، أنا
ملك الموت وأنا المرأة التي أتتك... (10) أمرني الله بقبض روح الأبعد في هذا
المكان ، ثم أصيره إلى نار جهنم قال : ففيه نزلت هذه : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } الآية.
__________
(1) في ت : "وتكثر".
(2) في ت ، س ، أ : "راكب".
(3) في ت ، س ، أ : "الذي قد ركبها".
(4) زيادة من ت ، س ، أ ، والدر المنثور.
(5) في ت ، س ، أ : "ذاك".
(6) في أ : "فلما أن خرج".
(7) زيادة من ت ، س ، أ.
(8) في أ : "وزكاه".
(9) زيادة من ت ، س.
(10) في أ : "أتيتك".
(6/530)
هذا أثر
غريب (1) ، وفي صحته نظر ، وتنزيل [هذه] (2) الآية عليه وفي حقه بمعنى أن الكفار
كلهم يتوفون وأرواحهم متعلقة بالحياة الدنيا ، كما جرى لهذا المغرور المفتون ، ذهب
يطلب مراده فجاءه الموت فجأة بغتة ، وحيل بينه وبين ما يشتهي.
وقوله : { كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ } أي : كما جرى للأمم الماضية
المكذبة للرسل ، لما جاءهم بأس الله تمنوا أن لو آمنوا فلم يقبل منهم ، { فَلَمَّا
رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا
بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا
بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ
الْكَافِرُونَ } [غافر : 84 ، 85].
وقوله : { إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ } أي : كانوا في الدنيا في شك
وريبة ، فلهذا لم يتقبل منهم الإيمان عند معاينة العذاب.
قال قتادة : إياكم والشك والريبة. فإن من مات على شك بُعِثَ عليه ، ومن مات على
يقين بعث عليه.
آخر تفسير سورة "سبأ" ولله الحمد والمنة.
__________
(1) الأثر ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/716) وعزاه لابن أبي حاتم.
(2) زيادة من ت.
(6/531)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
تفسير سورة
فاطر
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا
أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) }.
قال سفيان الثوري ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : كنت لا
أدري ما فاطر السموات والأرض ، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما
[لصاحبه] : (1) أنا فطرتها ، أنا بدأتها. فقال ابن عباس أيضًا : { فَاطِرِ
السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } بديع السموات والأرض. (2)
وقال الضحاك : كل شيء في القرآن فاطر السموات والأرض فهو : خالق السموات والأرض.
وقوله : { جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا } أي : بينه وبين أنبيائه ، { أُولِي
أَجْنِحَةٍ } أي : يطيرون بها ليبلغوا ما أمروا به سريعًا { مَثْنَى وَثُلاثَ
وَرُبَاعَ } أي : منهم مَنْ له جناحان ، ومنهم مَنْ له ثلاثة (3) ومنهم مَنْ له
أربعة ، ومنهم مَنْ له أكثر من ذلك ، كما جاء في الحديث : أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم رأى جبريل ليلة الإسراء وله ستمَائة جناح ، بين كل جناحين كما بين
المشرق والمغرب ؛ ولهذا قال : { يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }. قال السدي : يزيد في الأجنحة وخلقهم ما يشاء.
وقال الزهري ، وابن جُرَيْج (4) في قوله : { يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ }
يعني : حسن الصوت. رواه عن الزهري البخاري في الأدب ، وابن أبي حاتم في تفسيره.
وقرئ في الشاذ : "يَزِيدُ في الحلق" ، بالحاء المهملة ، والله أعلم.
{ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا
يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) }.
يخبر تعالى أنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وأنه لا مانع لما أعطى ، ولا
معطي لما منع. قال (5) الإمام أحمد : حدثنا علي بن عاصم ، حدثنا مغيرة ، أخبرنا
عامر ، عن ورَّاد - مولى المغيرة بن شعبة - قال : كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة
: اكتب لي بما سمعتَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدعاني المغيرة فكتبت إليه
: إني سمعت (6) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من الصلاة قال : "لا
__________
(1) زيادة من ت ، س ، أ.
(2) رواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (1682) من طريق يحيي بن سعيد عن سفيان به.
(3) في ت : "ثلاثة أجنحة".
(4) في ت : "جرير".
(5) في ت : "وروي".
(6) في أ : "سمعت من".
(6/532)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
إله إلا
الله ، وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، اللهم لا مانع
لما أعطيت ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدّ" ، وسمعته ينهى
عن قيل وقال ، وكثرة السؤال وإضاعة المال ، وعن وأد البنات ، وعقوق الأمهات ،
ومَنْع وهَات.
وأخرجاه من طرق عن وَرّاد ، به. (1)
وثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول : "سمع الله لمن حمده ، اللهم
ربنا لك الحمد ، ملء السماء (2) والأرض (3) وملء ما شئت من شيء بعد. اللهم ، أهلَ
الثناء والمجد. أحقّ ما قال العبد ، وكلنا لك عبد. اللهمّ لا مانع لما أعطيت ، ولا
معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجدّ". (4)
وهذه الآية كقوله تعالى : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ
إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ } [يونس : 107]. ولهذا
(5) نظائر كثيرة.
وقال الإمام مالك : كان أبو هريرة إذا مُطِروا يقول : مُطِرنا بِنَوْء الفتح ، ثم
يقرأ هذه الآية : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ
لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ }. ورواه ابن أبي حاتم ، عن يونس عن ابن وهب ، عنه. (6)
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ
غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) }.
ينبه تعالى عباده ويرشدهم إلى الاستدلال على توحيده في إفراد العبادة له ، كما أنه
المستقل بالخلق والرزق فكذلك فَليفرد بالعبادة (7) ، ولا يشرك به غيره من الأصنام
والأنداد والأوثان ؛ ولهذا قال : { لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ }
(8) ، أي : فكيف تؤفكون (9) بعد هذا البيان ، ووضوح هذا البرهان ، وأنتم بعد هذا
تعبدون الأنداد والأوثان ؟
__________
(1) المسند (4/254) وصحيح البخاري برقم (844) وصحيح مسلم برقم (593).
(2) hID=1 onMouseOver="this.href=GetDiacraticStatus(this.href)">86 87 88 89 90 91 92 93
94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112
(3) في ت ، س ، أ : "وملء الأرض".
(4) صحيح مسلم برقم (477).
(5) في ت : "ولهما" ، وفي س : "ولها".
(6) الموطأ (1/ 192).
(7) في أ : "بالعبادة وحده".
(8) في س ، أ : "يؤفكون".
(9) في س ، أ : "يؤفكون".
(6/533)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)
{ وَإِنْ
يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الأمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا
تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ
(5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو
حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) }.
يقول : وإن يكذبك - يا محمد - هؤلاء المشركون بالله ويخالفوك فيما جئتهم به من
التوحيد ، فلك فيمن سلف قبلك من الرسل أسوة ، فإنهم كذلك جاؤوا قومهم بالبينات
وأمروهم بالتوحيد
(6/533)
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
فكذبوهم
وخالفوهم ، { وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } أي : وسنجزيهم على ذلك أوفر
الجزاء.
ثم قال : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } أي : المعاد كائن
لا محالة ، { فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } أي : العيشة الدنيئة
(1) بالنسبة إلى ما أعد (2) الله لأوليائه وأتباع رسله من الخير العظيم فلا
تَتَلَهَّوا (3) عن ذلك (4) الباقي بهذه الزهرة الفانية ، { وَلا يَغُرَّنَّكُمْ
بِاللَّهِ الْغَرُورُ } وهو الشيطان. قاله ابن عباس. أي : لا يفتننكم الشيطان
ويصرفنكم عن اتباع رسل الله وتصديق كلماته فإنه غرَّار كذاب أفاك. وهذه الآية
كالآية التي في آخر لقمان : { فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا
يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } [لقمان : 33]. قال مالك ، عن زيد بن أسلم :
هو الشيطان. كما قال : يقول المؤمنون للمنافقين يوم القيامة حين يضرب { بَيْنَهُمْ
بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ
الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ
فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ
حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } [الحديد : 13 ،
14].
ثم بين تعالى عداوة إبليس لابن آدم فقال : { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ
فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } (5) أي : هو مبارز لكم بالعداوة ، فعادوه أنتم أشد
العداوة ، وخالفوه وكذبوه فيما يغركم به ، { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ
لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } أي : إنما يقصد أن يضلكم حتى تدخلوا معه
إلى عذاب السعير ، فهذا هو العدو المبين. فنسأل الله القوي العزيز أن يجعلنا أعداء
الشيطان (6) ، وأن يرزقنا اتباع كتابه ، والاقتفاء بطريق رسوله ، إنه على ما يشاء
قدير ، وبالإجابة جدير. وهذه كقوله : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا
لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ
أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ
بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا } [الكهف : 50].
[وقال بعض العلماء : وتحت هذا الخطاب نوع لطيف من العتاب كأنه يقول : إنما عاديت
إبليس من أجل أبيكم ومن أجلكم ، فكيف يحسن بكم أن توالوه ؟ بل اللائق بكم أن
تعادوه وتخالفوه ولا تطاوعوه]. (7)
{ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ
سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي
مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
بِمَا يَصْنَعُونَ (8) }.
لما ذكر [الله] (8) تعالى أن أتباع إبليس مصيرهم إلى [عذاب] (9) السعير ، ذكر بعد
ذلك أن الذين كفروا لهم عذاب شديد (10) ؛ لأنهم أطاعوا الشيطان وعَصَوا الرحمن ،
وأن الذين آمنوا بالله
__________
(1) في أ : "المعيشة الدنية".
(2) في ت : "ما وعد".
(3) في أ : "فلا يلتهوا".
(4) في س : "ذاك".
(5) في س بعدها : "إنما يدعو حزبه".
(6) في ت : "للشياطين".
(7) زيادة من ت ، أ.
(8) زيادة من ت.
(9) زيادة من ت ، أ.
(10) في ت : "للذين كفروا عذا با شديدا".
(6/534)
ورسله {
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ } أي : لما كان منهم من ذنب ، {
وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } على ما عملوه من خير.
ثم قال : { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا } يعني :
كالكفار والفجار ، يعملون أعمالا سيئة ، وهم في ذلك يعتقدون ويحسون (1) أنهم
يحسنون صنعًا ، أي : أفمن كان هكذا قد أضله الله ، ألك فيه حيلة ؟ لا حيلة لك فيه
، { فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } أي : بقدره
كان ذلك ، { فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } أي : لا تأسف على ذلك
فإن الله حكيم في قدره ، إنما يضل من يضل (2) ويهدي من يهدي (3) ، لما له في ذلك
من الحجة البالغة ، والعلم التام ؛ ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا
يَصْنَعُونَ }.
وقال (4) ابن أبي حاتم عند هذه الآية : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن عوف الحِمْصي ،
حدثنا محمد بن كثير ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي عمرو السَّيباني - أو : ربيعة
- عن عبد الله بن الديلمي قال : أتيت عبد الله بن عمرو ، وهو في حائط بالطائف يقال
له : الوهط ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله خلق
خلقه في ظلمة ، ثم ألقى عليهم من نوره ، فمن أصابه من نوره يومئذ فقد اهتدى ، ومن
أخطأه منه ضل ، فلذلك أقول : جف القلم على ما علم الله عز وجل". (5)
ثم قال : حدثنا يحيى بن عبدك القزويني ، حدثنا حسان بن حسان البصري ، حدثنا
إبراهيم بن بشر (6) حدثنا يحيى بن معين (7) حدثنا إبراهيم القرشي ، عن سعد بن
شرحبيل (8) عن زيد بن أبي أوفى قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
: "الحمد لله الذي يهدي من (9) الضلالة ، ويلبس الضلالة على من أحب".
(10)
وهذا أيضًا حديث غريب جدًّا.
__________
(1) في ت ، س ، أ : "يحسبون".
(2) في أ : "يشاء".
(3) في أ : "يشاء".
(4) في ت : "وروى".
(5) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (1812) "موارد" والحاكم في المستدرك
(1/30) من طريق الأوزاعي عن ربيعة بن يزيد ، عن عبد الله الديلمي بنحوه ، ورواه
الترمذي في السنن برقم (2642) من طريق إسماعيل بن عياش عن يحيى بن أبي عمرو
السيباني عن عبد الله الديلمي بنحوه ، وقال الترمذي : "هذا حديث حسن".
(6) في هـ ، ت ، س ، أ : "بشير" ، والصواب ما أثبتناه.
(7) في هـ ، ت ، س ، أ : "معن" ، والصواب ما أثبتناه.
(8) في ت : "ثم روي بسنده".
(9) في ت ، أ : "يهدي من يشاء من".
(10) ورواه البخاري في التاريخ الأوسط (1/250) : حدثنا حسان بن حسان عن إبراهيم بن
بشر عن يحيى بن معين المدني عن إبراهيم القرشي عن سعيد بن شرحبيل عن زيد بن أبي
أوفى ، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (5/220) من طريق عبد المؤمن بن عباد عن
يزيد بن معن عن عبد الله بن شرحبيل عن رجل من قريش عن زيد بن أبي أوفى بأطول منه ،
ورواه ابن الأثير في أسد الغابة (2/126) من طريق شعيب بن يونس عن موسى بن صهيب عن
يحيى بن زكريا عن عبد الله بن شرحبيل عن رجل من قريش عن زيد بن أبي أوفى ، وقال
البخاري بعدما أورده : "وهذا إسناد مجهول لا يتابع عليه ، ولا يعرف سماع
بعضهم من بعض ، رواه بعضهم عن إسماعيل بن خالد عن عبد الله بن أبي أوفى ، عن النبي
صلى الله عليه وسلم ولا أصل له".
(6/535)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
{ وَاللَّهُ
الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ
فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ
يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ
الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ
السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ
أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَمَا
يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ
ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) }.
كثيرا ما يستدل تعالى على المعاد بإحيائه الأرض بعد موتها - كما في [أول] (1) سورة
الحج - ينبه عباده أن يعتبروا بهذا على ذلك ، فإن الأرض تكون ميتة هامدة لا نبات
فيها ، فإذا أرسل إليها (2) السحاب تحمل الماء وأنزله عليها ، { اهْتَزَّتْ
وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [الحج : 5] ، كذلك الأجساد (3)
، إذا أراد الله سبحانه بعثها ونشورها ، أنزل من تحت العرش مطرا يعم (4) الأرض
جميعًا فتنبت الأجساد في قبورها كما ينبت (5) الحب في الأرض ؛ ولهذا جاء في الصحيح
: "كل ابن آدم يبلى إلا عَجْب الذَّنَب ، منه خلق ومنه يركب" ؛ ولهذا
قال تعالى : { كَذَلِكَ النُّشُورُ }.
وتقدم في "الحج" (6) حديث أبي رَزِين : قلت : يا رسول الله ، كيف يحيي
الله الموتى ؟ وما آية ذلك في خلقه ؟ قال : "يا أبا رزين ، أما مررت بوادي
قومك محْلا (7) ثم مررت به يهتز خَضِرًا ؟" قلت : بلى. قال : "فكذلك
يحيي الله الموتى".
وقوله : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا } أي :
مَنْ كان يحب أن يكون عزيزًا في الدنيا والآخرة ، فليلزم طاعة الله ، فإنه يحصل له
مقصوده ؛ لأن الله مالك الدنيا والآخرة ، وله العزة جميعها ، كما قال تعالى : {
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا }
[النساء : 139].
وقال تعالى : { وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا }
[يونس : 65] ، وقال : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ } [المنافقون : 8].
قال مجاهد : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ } بعبادة الأوثان ، { فَإِنَّ
الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا }.
وقال قتادة : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا } أي
: فليتعزز بطاعة الله عز وجل.
وقيل : مَنْ كان يريد علْم العزة ، لمن هي ، { فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ
جَمِيعًا } ، حكاه ابن جرير.
وقوله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } يعني : الذكر والتلاوة
والدعاء. قاله غير واحد من السلف.
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن إسماعيل الأحْمَسِيّ ، أخبرني جعفر بن عَوْن ، عن
عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي ، عن عبد الله بن المخارق ، عن أبيه المخارق بن
سليم (8) قال :
__________
(1) زيادة من ت ، س ، أ.
(2) في ت : "عليها".
(3) في ت ، س : "الأجسام".
(4) في أ : "فعم".
(5) في ت : "كما تنبت".
(6) عند الآيات : 12 - 16.
(7) في ت ، س ، أ : "ممحلا".
(8) في ت : "وروى ابن جرير بإسناده عن عبد الله بن أبي المخارق بن
سليم".
(6/536)
قال لنا عبد
الله - هو ابن مسعود - إذا حدثناكم حديثا أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله : إن
العبد المسلم إذا قال : "سبحان الله وبحمده ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله
، والله أكبر ، تبارك الله" ، أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه ، ثم صَعد بهن إلى
السماء فلا يمُرّ بهن على جمْعٍ من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن ، حتى يجيء بهن
وجه الرحمن عز وجل ، ثم قرأ عبد الله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ }.
وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، أخبرنا سعيد الجُرَيْرِي (1) ، عن
عبد الله بن شقيق قال (2) : قال كعب الأحبار : إن لـ "سبحان الله ، والحمد
لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر" لدويا حول العرش كدويّ النحل ،
يُذَكِّرْنَ بصاحبهن ، والعمل الصالح في الخزائن. (3)
وهذا إسناد صحيح إلى كعب الأحبار ، رحمه الله ، وقد روي مرفوعًا.
قال الإمام أحمد : حدثنا ابن نُمَيْر ، حدثنا موسى - يعني : ابن مسلم الطحان - عن
عون بن عبد الله ، عن أبيه - أو : عن أخيه (4) - عن النعمان بن بشير قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الذين يذكرون من جلال الله ، من تسبيحه
وتكبيره وتحميده وتهليله ، يتعاطفن حول العرش ، لهن دوي كدوي النحل ، يذكرون
بصاحبهن ألا يحب أحدكم ألا يزال له عند الله شيء يذكر به ؟". (5)
وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بشر بكر بن خلف ، عن يحيى بن سعيد (6) القطان ، عن
موسى بن أبي [عيسى] (7) الطحان ، عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن أبيه -
أو : عن أخيه - عن النعمان بن بشير ، به. (8)
وقوله : { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } : قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن
عباس : الكلم الطيب : ذكر الله ، يصعد به إلى الله ، عز وجل ، والعمل الصالح :
أداء فرائضه. ومن ذكر الله ولم يؤد فرائضه ، رد كلامه على عمله ، فكان أولى به.
وكذا قال مجاهد : العمل الصالح يرفع الكلام الطيب. وكذا قال أبو العالية ، وعكرمة
، وإبراهيم النَّخعِيّ ، والضحاك ، والسُّدِّيّ ، والربيع بن أنس ، وشَهْر بن
حَوْشَب ، وغير واحد [من السلف]. (9)
وقال إياس بن معاوية القاضي : لولا العمل الصالح لم يرفع الكلام.
وقال الحسن ، وقتادة : لا يقبل قولٌ إلا بعمل.
وقوله : { وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ } : قال مجاهد ، وسعيد بن
جُبَيْر ، وشَهْر بن حَوْشَب : هم المراؤون بأعمالهم ، يعني : يمكرون بالناس ،
يوهمون أنهم في طاعة الله ، وهم بُغَضَاء إلى الله
__________
(1) في أ : "سعيد بن الجريري".
(2) في ت : "وروى بإسناده".
(3) تفسير الطبري (22/80).
(4) في ت : "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(5) المسند (4/268).
(6) في أ : "عيسى".
(7) زيادة من ت ، س ، وابن ماجه.
(8) سنن ابن ماجه برقم (3809) وقال البوصيري في الزوائد (3/193) : "هذا إسناد
صحيح رجاله ثقات".
(9) زيادة من ت.
(6/537)
عز وجل ،
يراؤون بأعمالهم ، { وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا } [النساء : 142].
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم المشركون.
والصحيح أنها عامة ، والمشركون داخلون بطريق الأولى ، ولهذا قال : { لَهُمْ
عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ } ، أي : يفسد ويبطل ويظهر زيفهم
عن قريب لأولي البصائر والنهى ، فإنه ما أسر عبد (1) سريرة إلا أبداها الله على
صفحات وجهه وفلتات لسانه ، وما أسر أحد سريرة إلا كساه الله رداءها ، إن خيرًا
فخير ، وإن شرًّا فشر. فالمرائي لا يروج أمره ويستمر إلا على غبي ، أما المؤمنون
المتفرسون فلا يروج ذلك عليهم ، بل يُكشَف (2) لهم عن قريب ، وعالم الغيب لا تخفى
عليه خافية.
وقوله : { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } أي : ابتدأ
خلق أبيكم آدم من تراب ، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ، { ثُمَّ جَعَلَكُمْ
أَزْوَاجًا } أي : ذكرًا وأنثى ، لطفًا منه ورحمة أن جعل لكم أزواجًا من جنسكم ،
لتسكنوا إليها.
وقوله : { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ } أي : هو
عالم بذلك ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، بل { مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا
يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا
فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [الأنعام : 59]. وقد تقدم الكلام على قوله تعالى : {
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ [وَمَا
تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ. عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
الْكَبِيرُ] الْمُتَعَالِ } [الرعد : 8 ، 9]. (3)
وقوله : { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي
كِتَابٍ } أي : ما يعطى بعض النطف من العمر الطويل يعلمه ، وهو عنده في الكتاب
الأول ، { وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } الضمير عائد على الجنس ، لا على العين ؛
لأن العين الطويل للعمر في الكتاب وفي علم الله لا ينقص من عمره ، وإنما عاد
الضمير على الجنس.
قال ابن جرير : وهذا كقولهم : "عندي ثوب ونصفه" أي : ونصف آخر.
وروي من طريق العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ
وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
} ، يقول : ليس أحد قضيت له طول عُمُر (4) وحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر
وقد قضيت ذلك له ، فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت لا يزاد عليه ، وليس أحد
قَضَيْتُ له أنه قصير العمر والحياة ببالغ للعمر ، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي
كتبت له ، فذلك قوله : { وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ
ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } ، يقول : كل ذلك في كتاب عنده.
وهكذا قال الضحاك بن مزاحم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه : { وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا
فِي كِتَابٍ } قال : ما لَفَظت الأرحام من الأولاد من غير تمام.
__________
(1) في أ : "أحد".
(2) في ت ، س ، أ : "ينكشف".
(3) زيادة من ت ، س ، أ ، وفي هـ : "إلى قوله".
(4) في ت ، س : "العمر".
(6/538)
وقال عبد
الرحمن في تفسيرها : ألا ترى الناس ، يعيش الإنسان مائة سنة ، وآخر يموت حين يولد
فهذا هذا.
وقال قتادة : والذي ينقص من عمره : فالذي يموت قبل ستين سنة.
وقال مجاهد : { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا
فِي كِتَابٍ } أي : في بطن أمه يكتب له ذلك ، لم يخلق الخلق على عمر واحد ، بل
لهذا عمر ، ولهذا عمر هو أنقص من عمره ، وكل ذلك مكتوب لصاحبه ، بالغ ما بلغ.
وقال بعضهم : بل معناه : { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ } أي : ما يكتب من
الأجل { وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } ، وهو ذهابه قليلا قليلا الجميع معلوم عند
الله سنة بعد سنة ، وشهرًا بعد شهر ، وجمعة بعد جمعة ، ويومًا بعد يوم ، وساعة بعد
ساعة ، الجميع مكتوب عند الله في كتاب.
نقله (1) ابن جرير عن أبي مالك ، وإليه ذهب السُّدِّيّ ، وعطاء الخراساني. واختار
ابن جرير [القول] (2) الأول ، وهو كما قال.
وقال النسائي عند تفسير هذه الآية الكريمة : حدثنا أحمد بن يحيى بن أبي زيد بن
سليمان ، سمعت ابن وهب يقول : حدثني يونس ، عن ابن شهاب ، عن أنس بن مالك ، رضي
الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "مَنْ سرَّه أن
يُبْسَط له في رزقه ، ويُنْسَأ له في أجله (3) فليصل رَحِمَه".
وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود ، من حديث يونس بن يزيد الأيلي ، به (4).
وقال (5) ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا الوليد بن عبد الملك بن عبيد
الله أبو مسرح ، حدثنا عثمان بن عطاء ، عن مسلمة (6) بن عبد الله ، عن عمه أبي
مَشْجَعَة بن ربعي ، عن أبي الدرداء ، رضي الله عنه ، قال : ذكرنا عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال : "إن الله لا يؤخر نفسًا إذا جاء أجلها ، وإنما
زيادة العمر بالذرية الصالحة يرزقها العبد ، فيدعون له من بعده ، فيلحقه دعاؤهم في
قبره ، فذلك زيادة العمر".
وقوله : { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } أي : سهل عليه ، يسير لديه علمه
بذلك وبتفصيله في جميع مخلوقاته ، فإن علمه شامل لجميع ذلك لا يخفى منه عليه شيء.
__________
(1) في أ : "رواه".
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) في ت ، س ، أ : "أثره".
(4) النسائي في السنن الكبرى برقم (11429) وصحيح البخاري برقم (2067) وصحيح مسلم
برقم (2557) وسنن أبي داود برقم (1693).
(5) في ت : "وروى".
(6) في أ : "سلمة".
(6/539)
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
{ وَمَا
يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ
أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) }.
يقول تعالى منبها على قدرته العظيمة في خلقه الأشياء المختلفة : وخلق البحرين
العذب الزلال ،
(6/539)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
وهو هذه
الأنهار السارحة بين الناس ، من كبار وصغار ، بحسب الحاجة إليها في الأقاليم
والأمصار ، والعمران والبراري والقفار ، وهي عذبة سائغ شرابها لمن أراد ذلك ، {
وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } ، وهو البحر الساكن الذي تسير فيه السفن الكبار ، وإنما
تكون مالحة زُعَاقًا مُرَّة ، ولهذا قال : { وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } ، أي :
مُرّ.
ثم قال : { وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا } يعني : السمك ، {
وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } ، كما قال تعالى : { يَخْرُجُ
مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }
[الرحمن : 22 ، 23].
وقوله : { وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ } (1) أي : تمخره وتشقه بحيزومها ،
وهو مقدمها المُسَنَّم الذي يشبه جؤجؤ الطير - وهو : صدره.
وقال مجاهد : تمخر الريح السفن ، ولا يمخر الريح من السفن إلا العظام.
وقوله : { لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } أي : بأسفاركم بالتجارة ، من قطر إلى قطر
، وإقليم إلى إقليم ، { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي تشكرون ربكم على تسخيره
لكم هذا الخلق العظيم ، وهو البحر ، تتصرفون فيه كيف شئتم ، وتذهبون أين أردتم ،
ولا يمتنع عليكم شيء منه ، بل بقدرته قد سخر لكم ما في السموات وما في الأرض ،
الجميع من فضله ومن رحمته.
{ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ
لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ
قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا
اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا
يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) }.
وهذا أيضًا من قدرته التامة وسلطانه العظيم ، في تسخيره الليل بظلامه والنهار
بضيائه ، ويأخذ من طول هذا فيزيده في قصر هذا (2) فيعتدلان. ثم يأخذ من هذا في هذا
، فيطول هذا ويقصر هذا ، ثم يتقارضان صيفًا وشتاء ، { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ } أي : والنجوم السيارات ، والثوابت الثاقبات بأضوائهن أجرام السموات
، الجميع يسيرون بمقدار معين ، وعلى منهاج مقنن محرر ، تقديرًا من عزيز عليم.
{ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى } (3) أي : إلى يوم القيامة.
{ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ } أي : الذي فعل هذا هو الرب العظيم ، الذي لا إله
غيره ، { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } أي : من الأنداد والأصنام التي هي
على صورة من تزعمون (4) من الملائكة المقربين ، { مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ
}.
__________
(1) في ت ، س : "وترى الفلك مواخر فيه". ولعلهما أرادا الآية : 14 من
سورة النحل.
(2) في ت ، أ : "فيزيد في قصر هذا".
(3) في ت ، س : "إلى أجل مسمى".
(4) في س : "يزعمون".
(6/540)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
قال ابن
عباس ، ومجاهد ، وعِكْرِمَة ، وعطاء وعطية العَوْفي ، والحسن ، وقتادة وغيرهم :
القطمير : هو اللفافة التي تكون على نواة التمرة ، أي : لا يملكون من السموات
والأرض شيئًا ، ولا بمقدار هذا القطمير.
ثم قال : { إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ } يعني : الآلهة التي
تدعونها من دون الله لا يسمعون (1) دعاءكم (2) ؛ لأنها جماد لا أرواح فيها {
وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ } أي : لا يقدرون (3) على ما تطلبون منها
، { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } ، أي : يتبرؤون منكم ، كما
قال تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا
يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ
وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ
كَافِرِينَ } [الأحقاف : 5 ، 6] ، وقال : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ
آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ
وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } [مريم : 81 ، 82].
وقوله : { وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } أي : ولا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها
وما تصير إليه ، مثلُ خبير بها.
قال قتادة : يعني نفسه تبارك وتعالى ، فإنه أخبر بالواقع لا محالة.
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ
(16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ
وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ
بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى
لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) }.
يخبر تعالى بغنائه عما سواه ، وبافتقار المخلوقات كلها إليه ، وتذللها بين يديه ،
فقال : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ } أي : هم
محتاجون إليه في جميع الحركات والسكنات ، وهو الغني عنهم بالذات ؛ ولهذا قال : {
وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } أي : هو المنفرد (4) بالغنى وحده لا شريك
له ، وهو الحميد في جميع ما يفعله ويقوله ، ويقدره ويشرعه.
وقوله : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } أي : لو شاء
لأذهبكم أيها الناس وأتى بقوم غيركم ، وما هذا عليه بصعب ولا ممتنع ؛ ولهذا قال :
{ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ }.
وقوله : { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } أي : يوم القيامة ، { وَإِنْ
تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا } أي : وإن تدع نفس مثقلة بأوزارها إلى أن
تُسَاعَد على حمل ما عليها من الأوزار أو بعضه ، { لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ
وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } ، أي : ولو كان قريبًا إليها ، حتى ولو كان أباها أو
ابنها ، كل مشغول بنفسه وحاله ، [كما قال تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ
أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } ] [عبس : 34 - 37]. (5)
قال (6) عكرمة في قوله : { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا } الآية ،
قال : هو الجار يتعلق بجاره يوم
__________
(1) في ت ، أ : "يسمعوا".
(2) في أ : "دعاءهم".
(3) في ت : "يقيمون".
(4) في ت ، س : "المتفرد".
(5) زيادة من ت.
(6) في ت : "كما قال".
(6/541)
القيامة ،
فيقول : يا رب ، سل هذا : لم كان يغلق بابه دوني. وإن الكافر ليتعلق بالمؤمن يوم
القيامة ، فيقول له : يا مؤمن ، إن لي عندك يدًا ، قد عرفت كيف كنت لك في الدنيا ؟
وقد احتجت إليك اليوم ، فلا يزال المؤمن يشفع له عند ربه حتى يرده إلى [منزل دون]
(1) منزله (2) ، وهو في النار. وإن الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة ، فيقول : يا
بني ، أيّ والد كنتُ لك ؟ فيثني خيرا ، فيقول له : يا بني إني قد احتجت إلى مثقال
ذرة من حسناتك أنجو بها مما ترى. فيقول له ولده : يا أبت ، ما أيسر ما طلبت ،
ولكني أتخوف مثل ما تتخوف ، فلا أستطيع أن أعطيك شيئا ، ثم يتعلق بزوجته فيقول :
يا فلانة - أو : يا هذه - أي زوج كنت لك ؟ فتثني خيرا ، فيقول لها : إني أطلب إليك
حسنة واحدة تَهَبِينَها لي ، لعلي أنجو بها مما ترين. قال : فتقول : ما أيسر ما
طلبت. ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا ، إني أتخوف مثل الذي تتخوف ، يقول الله : {
وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا } (3) الآية ، ويقول الله : { لا
يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا
} [لقمان : 33] ، ويقول تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ
شَأْنٌ يُغْنِيهِ } رواه ابن أبي حاتم رحمه الله ، عن أبي عبد الله الطهراني (4) ،
عن حفص بن عمر ، عن الحكم بن أبان ، عن عِكْرِمة ، به.
ثم قال : { إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ
وَأَقَامُوا الصَّلاةَ } (5) أي : إنما يتعظ بما جئت به أولو البصائر والنهى ،
الخائفون من ربهم ، الفاعلون ما أمرهم به ، { وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا
يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } أي : ومَنْ عمل صالحا فإنما يعود نفعه على نفسه ، {
وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } أي : وإليه المرجع والمآب ، وهو سريع الحساب ،
وسيجزي كل عامل بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرًّا فشر.
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في ت : "في منزلة دون منزلته".
(3) زيادة من ت ، س ، أ.
(4) في أ : "الطبراني".
(5) في س : "ينذر".
(6/542)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
{ وَمَا
يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا
الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ إِنَّ
اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)
إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا
وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ
وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا
فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) }.
يقول تعالى : كما لا تستوي هذه الأشياء المتباينة المختلفة ، كالأعمى والبصير لا
يستويان ، بل بينهما فرق وبون كثير ، وكما لا تستوي الظلمات ولا النور ولا الظل
ولا الحرور ، كذلك لا تستوي الأحياء ولا الأموات ، وهذا مثل ضربه الله للمؤمنين
وهم الأحياء ، وللكافرين وهم الأموات ، كقوله تعالى : { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا
فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ
مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } [الأنعام : 122] ،
(6/542)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
وقال تعالى
: { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأعْمَى وَالأصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ
يَسْتَوِيَانِ مَثَلا } [هود : 24] فالمؤمن سميع بصير في نور يمشي ، على صراط
مستقيم في الدنيا والآخرة ، حتى يستقر به الحال في الجنات ذات الظلال والعيون ،
والكافر أعمى أصم ، في ظلمات يمشي ، لا خروج له منها ، بل هو يتيه في غَيِّه
وضلاله في الدنيا والآخرة ، حتى يفضي به ذلك إلى الحرور والسموم والحميم ، {
وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ } [الواقعة : 43 ، 44].
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ } أي : يهديهم إلى سماع الحجة
وقبولها والانقياد لها { وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } أي : كما
لا [يسمع و] (1) ينتفع الأموات بعد موتهم وصيرورتهم إلى قبورهم ، وهم كفار
بالهداية والدعوة إليها ، كذلك هؤلاء المشركون الذين كُتِب عليهم الشقاوة لا حيلةَ
لك فيهم ، ولا تستطيع هدايتهم.
{ إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ } أي : إنما عليك البلاغ والإنذار ، والله يضل من يشاء
ويهدي من يشاء.
{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } أي : بشيرًا للمؤمنين
ونذيرًا للكافرين ، { وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ } أي : وما من
أمة خلت من بني آدم إلا وقد بعث الله إليهم النُّذر ، وأزاح عنهم العلل ، كما قال
تعالى : { إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [الرعد : 7] ، وكما
قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا
اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ
حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ } الآية [النحل : 136] ، والآيات في هذا كثيرة.
وقوله تبارك وتعالى : { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } وهي : المعجزات الباهرات ،
والأدلة القاطعات ، { وَبِالزُّبُرِ } وهي الكتب ، { وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ }
أي : الواضح البين.
{ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : ومع هذا كله كَذّب أولئك رسلَهم فيما
جاؤوهم به ، فأخذتهم ، أي : بالعقاب والنكال ، { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي :
فكيف رأيت (2) إنكاري عليهم عظيما شديدًا بليغا ؟
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ
ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ
مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ
وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) }
يقول تعالى منبها على كمال قدرته في خلقه الأشياء المتنوعة المختلفة من الشيء
الواحد ، وهو الماء الذي ينزله من السماء ، يخرج به ثمرات مختلفا ألوانها ، من
أصفر وأحمر وأخضر وأبيض ، إلى غير ذلك من ألوان الثمار ، كما هو المشاهد من تنوع
ألوانها وطعومها وروائحها ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : { وَفِي الأرْضِ
قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ
وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى (3) بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى
بَعْضٍ فِي الأكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الرعد : 4].
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في ت : "رأيت كان".
(3) في ت ، س : "تسقى".
(6/543)
وقوله تبارك
وتعالى : { وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا } أي
: وخلق الجبال كذلك مختلفة الألوان ، كما هو المشاهد أيضا من بيض وحمر ، وفي بعضها
طرائق - وهي : الجُدَد ، جمع جُدّة - مختلفة الألوان أيضا.
قال ابن عباس ، رضي الله عنهما : الجُدَد : الطرائق. وكذا قال أبو مالك ، والحسن ،
وقتادة ، والسدي. (1)
ومنها { وَغَرَابِيبُ سُودٌ } ، قال عكرمة : الغرابيب : الجبال الطوال السود. وكذا
قال أبو مالك ، وعطاء الخراساني وقتادة.
وقال ابن جرير : والعرب إذا وصفوا الأسود بكثرة السواد ، قالوا : أسود غربيب.
ولهذا قال بعض المفسرين في هذه الآية : هذا من المقدم والمؤخر في قوله تعالى : {
وَغَرَابِيبُ سُودٌ } أي : سود غرابيب. وفيما قاله نظر.
وقوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ
أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ } أي : [و] (2) كذلك الحيوانات من الأناسي والدواب - وهو :
كل ما دب على قوائم - والأنعام ، من باب عطف الخاص على العام. كذلك هي مختلفة أيضا
، فالناس منهم بربر وحُبُوش وطُمَاطم في غاية السواد ، وصقالبة وروم في غاية
البياض ، والعرب بين ذلك ، والهنود دون ذلك ؛ ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى : {
وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ
لِلْعَالِمِينَ } [الروم : 22]. وكذلك الدواب والأنعام مختلفة الألوان ، حتى في
الجنس الواحد ، بل النوع الواحد منهن مختلف الألوان ، بل الحيوان الواحد يكون أبلق
، فيه من هذا اللون وهذا اللون ، فتبارك الله أحسن الخالقين.
وقد قال (3) الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا الفضل بن سهل ، حدثنا عبد
الله بن عمر بن أبان بن صالح ، حدثنا زياد بن عبد الله ، عن عطاء بن السائب ، عن
سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال :
أيصبغ ربك ؟ قال : "نعم صبغا لا يُنفَض ، أحمر وأصفر وأبيض". (4) ورُوي
مرسلا وموقوفا ، والله أعلم.
ولهذا قال تعالى بعد هذا : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ } أي : إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به ؛ لأنه كلما كانت
المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى -
كلما كانت المعرفة به أتمّ والعلم به أكمل ، كانت الخشية له أعظم وأكثر.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ
مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } قال : الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير.
وقال ابن لَهِيعَة ، عن ابن أبي عمرة ، عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس (5) قال :
العالم بالرحمن (6) مَنْ لم يشرك به شيئا ، وأحل حلاله ، وحرم حرامه ، وحفظ وصيته
، وأيقن أنه ملاقيه ومحاسب بعمله.
__________
(1) في ت : "وكذلك قال غيره".
(2) زيادة من ت ، س ، أ.
(3) في ت : "وقد روى".
(4) مسند البزار برقم (2944) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع
(5/128) : "وفيه عطاء بن السائب وقد اختلط".
(5) في ت : "وعنه".
(6) في أ : "بالرحمن من عباده".
(6/544)
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
وقال سعيد
بن جبير : الخشية هي التي تحول بينك وبين معصية الله عز وجل.
وقال الحسن البصري : العالم مَن خشي الرحمن بالغيب ، ورغب فيما رغب الله فيه ،
وزهد فيما سَخط الله فيه ، ثم تلا الحسن : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }.
وعن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، أنه قال : ليس العلم عن كثرة الحديث ، ولكن العلم
عن (1) كثرة الخشية.
وقال أحمد بن صالح المصري ، عن ابن وهب ، عن مالك قال : إن العلم ليس بكثرة
الرواية ، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب.
قال أحمد بن صالح المصري (2) : معناه : أن الخشية لا تدرك بكثرة الرواية ، وأما
العلم الذي فرض (3) الله ، عز وجل ، أن يتبع فإنما هو الكتاب والسنة ، وما جاء عن
الصحابة ، رضي الله عنهم ، ومن بعدهم من أئمة المسلمين ، فهذا لا يدرك إلا
بالرواية ويكون تأويل قوله : "نور" يريد به فهم العلم ، ومعرفة معانيه.
وقال سفيان الثوري ، عن أبي حيان [التميمي] (4) ، عن رجل قال : كان يقال : العلماء
ثلاثة : عالم بالله عالم بأمر الله ، وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله ، وعالم
بأمر الله ليس بعالم بالله. فالعالم بالله وبأمر الله : الذي يخشى الله ويعلم
الحدود والفرائض. والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله : الذي يخشى الله ولا يعلم
الحدود ولا الفرائض. والعالم بأمر الله ليس بعالم بالله : الذي يعلم الحدود
والفرائض ، ولا يخشى الله عز وجل.
{ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا
مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ
(30) }.
يخبر تعالى عن عباده المؤمنين الذين يتلون كتابه ويؤمنون به ويعملون بما فيه ، من
إقام الصلاة ، والإنفاق مما رزقهم الله في الأوقات المشروعة ليلا ونهارا ، سرا
وعلانية ، { يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ } أي : يرجون ثوابا عند الله لا بد
من حصوله. كما قدمنا في أول التفسير عند فضائل القرآن أنه يقول لصاحبه : "إن
كل تاجر من وراء تجارته ، وإنك اليوم من وراء كل تجارة" ؛ ولهذا قال تعالى :
{ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } أي : ليوفيهم ثواب
ما فعلوه ويضاعفه لهم بزيادات لم تخطر لهم ، { إِنَّهُ غَفُورٌ } أي : لذنوبهم ، {
شَكُورٌ } للقليل من أعمالهم.
قال قتادة : كان مُطَرف ، رحمه الله ، إذا قرأ هذه الآية يقول : هذه آية القراء.
__________
(1) في ت ، س : "من".
(2) في ت : "المري".
(3) في ت ، س : "فرضه".
(4) زيادة من ت ، س ، أ.
(6/545)
قال (1)
الإمام أحمد : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا حيوة ، حدثنا سالم بن غيلان أنه سمع
دَرَّاجا أبا السمح يحدث عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخُدْريّ ، رضي الله عنه ،
أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله تعالى (2) إذا رضي عن
العبد أثنى عليه سَبْعةَ (3) أصناف من الخير لم يعمله ، وإذا سخط على العبد أثنى
عليه سَبْعة (4) أصناف من الشر لم يعمله (5) ، غريب جدا.
__________
(1) في ت : "وروى".
(2) في أ : "عز وجل".
(3) في ت ، س ، أ : "بسبعة".
(4) في ت ، س ، أ : "بسبعة".
(5) المسند (3/38) ودراج له مناكير وروايته عن أبي الهيثم ضعيفة.
(6/546)
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)
{ وَالَّذِي
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) }.
يقول تعالى : { وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } يا محمد من الكتاب ، وهو القرآن
{ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : من الكتب المتقدمة
يصدقها ، كما شهدت (1) له بالتنويه (2) ، وأنه منزل من رب العالمين.
{ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } أي : هو خبير بهم ، بصير بمن
يستحق ما يفضله به على مَنْ سواه. ولهذا فضل الأنبياء والرسل على جميع البشر ،
وفضل النبيين بعضهم على بعض ، ورفع بعضهم درجات ، وجعل منزلة محمد صلى الله عليه
وسلم فوق جميعهم ، صلوات الله عليهم أجمعين.
{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) }.
يقول تعالى : ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم ، المصدق لما بين يديه من الكتب ،
الذين اصطفينا من عبادنا ، وهم هذه الأمة ، ثم قسمهم إلى ثلاثة أنواع (3) ، فقال :
{ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } وهو : المفرط في فعل بعض الواجبات ، المرتكب
لبعض المحرمات. { وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ } وهو : المؤدي للواجبات ، التارك
للمحرمات ، وقد يترك بعض المستحبات ، ويفعل بعض المكروهات. { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ } وهو : الفاعل للواجبات والمستحبات ، التارك
للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ
الَّذِينَ [ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ] } (4) ، قال : هم أمة محمد صلى الله
عليه وسلم وَرَّثهم الله كل كتاب (5) أنزله ، فظالمهم يُغْفَر له ، ومقتصدهم يحاسب
حسابا يسيرا ، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح ، وعبد الرحمن بن معاوية
العُتْبِيّ قالا حدثنا أبو الطاهر بن السرح ، حدثنا موسى بن عبد الرحمن الصنعاني ،
حدثني ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن (6) ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال ذات يوم : "شفاعتي لأهل الكبائر من
__________
(1) في ت ، س ، أ : "شهدت هي".
(2) في ت ، أ : "بالنبوة".
(3) في ت : "أقسام".
(4) زيادة من ت ، س.
(5) في ت : "ورثهم الله كتابا".
(6) في ت : "وروى القاسم الطبراني بسنده إلى".
(6/546)
أمتي".
قال ابن عباس : السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب ، والمقتصد يدخل الجنة برحمة
الله ، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد صلى الله عليه
وسلم. (1)
وهكذا (2) رُوي عن غير واحد من السلف : أن الظالم لنفسه من هذه الأمة من المصطفين
، على ما فيه من عوج وتقصير.
وقال آخرون : بل الظالم لنفسه ليس من هذه الأمة ، ولا من المصطفين الوارثين
الكتاب.
قال ابن أبي حاتم ، حدثنا أبي ، حدثنا علي بن هاشم بن مرزوق ، حدثنا ابن عيينة ،
عن عمرو (3) ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما : (4) { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ
لِنَفْسِهِ } قال : هو الكافر. وكذا رَوَى عنه عكرمة ، وبه قال عكرمة أيضا فيما
رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد في قوله : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } قال
: هم أصحاب المشأمة.
وقال مالك عن زيد بن أسلم ، والحسن ، وقتادة : هو المنافق.
ثم قد قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة : وهذه الأقسام الثلاثة كالأقسام الثلاثة
المذكورة في أول سورة "الواقعة" وآخرها.
والصحيح : أن الظالم لنفسه من هذه الأمة وهذا اختيار ابن جرير كما هو ظاهر الآية ،
وكما جاءت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من طرق يشد بعضها بعضا ،
ونحن نورد منها ما تيسر :
الحديث الأول : قال (5) الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن
الوليد بن العيزار ، أنه سمع رجلا من ثقيف يُحَدِّث عن رجل من كنانة ، عن أبي سعيد
الخدري ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية : {
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ
بِإِذْنِ اللَّهِ } ، قال : "هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة".
هذا (6) حديث غريب من هذا الوجه وفي إسناده من لم يسمّ ، وقد رواه ابن جرير وابن
أبي حاتم ، من حديث شعبة ، به نحوه. (7)
ومعنى قوله : "بمنزلة واحدة" أي : في أنهم من هذه الأمة ، وأنهم من أهل
الجنة ، وإن كان بينهم فرق في المنازل في الجنة.
الحديث الثاني : قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا أنس بن عياض
الليثي أبو ضَمْرة ، عن موسى بن عقبة ، عن [علي] (8) بن عبد الله الأزدي ، عن أبي
الدرداء ، (9) رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
"قال الله : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ
عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ } ، فأما الذين سبقوا فأولئك الذين يدخلون الجنة
بغير حساب ، وأما الذين اقتصدوا فأولئك (10) يحاسبون حسابا يسيرا ، وأما
__________
(1) المعجم الكبير (11/189) وابن جرير مدلس وقد عنعن.
(2) في ت ، س : "وكذا".
(3) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بسنده".
(4) في ت ، س : "عنه".
(5) في ت : "رواه".
(6) في ت : "وهذا".
(7) المسند (3/78) وتفسير الطبري (22/90).
(8) زيادة من س ، أ.
(9) في ت : "رواه الإمام أحمد بسنده عن أبي الدرداء".
(10) في أ : "فأولئك الذين".
(6/547)
الذين ظلموا
أنفسهم فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر ، ثم هم الذين تلافاهم (1) برحمته ، فهم
الذين يقولون : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ
رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ
لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } (2).
طريق أخرى : (3) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أسيد بن عاصم ، حدثنا الحسين بن حفص ،
حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن رجل ، عن أبي ثابت ، عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } قال : "فأما
الظالم لنفسه فيحبس حتى يصيبه الهم والحزن ، ثم يدخل الجنة".
ورواه ابن جرير من حديث سفيان الثوري ، عن الأعمش قال : ذكر أبو ثابت أنه دخل
المسجد ، فجلس إلى جنب أبي الدرداء ، فقال : اللهم ، آنس وحشتي ، وارحم غربتي ،
ويسر لي جليسا صالحا. قال أبو الدرداء : لئن كنت صادقا لأنا أسعد بك منك ، سأحدثك
حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أحدث به منذ سمعته منه ، ذكر هذه
الآية : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالْخَيْرَاتِ } ، فأما السابق بالخيرات فيدخلها بغير حساب وأما المقتصد فيحاسب
حسابا يسيرا ، وأما الظالم لنفسه فيصيبه في ذلك المكان من الغم والحزن ، وذلك قوله
: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } (4).
الحديث الثالث : قال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا عبد الله بن محمد بن
العباس ، حدثنا ابن مسعود ، أخبرنا سهل بن عبد ربه (5) الرازي ، حدثنا عمرو بن أبي
قيس ، عن ابن أبي ليلى ، عن أخيه ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى (6) ، عن أسامة بن
زيد : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالْخَيْرَاتِ } الآية ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كلهم من
هذه الأمة". (7)
الحديث الرابع : قال (8) ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عَزيز ، حدثنا سلامة ، عن
عَقِيل ، عن ابن شهاب ، عن عَوْف (9) بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال : "أمتي ثلاثة أثلات : فثلث يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ، وثلث
يحاسبون حسابا يسيرا ثم يدخلون الجنة ، وثلث يُمَحَّصون ويكشفون ، ثم تأتي
الملائكة فيقولون : وجدناهم يقولون : "لا إله إلا الله وحده". يقول الله
عز وجل : صدقوا ، لا إله إلا أنا ، (10) أدخلوهم الجنة بقولهم : "لا إله إلا
الله وحده" واحملوا خطاياهم على أهل النار ، وهي التي قال الله تعالى : {
وَلَيَحْمِلُنَّ (11) أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ } [العنكبوت :
13] ، وتصديقها في التي فيها ذكر الملائكة ، قال الله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } فجعلهم ثلاثة أنواع (12) ،
وهم أصناف كلهم ، فمنهم ظالم
__________
(1) في ت ، س ، أ : "تلافاهم الله".
(2) المسند (5/198).
(3) في ت : "وروي من طريق أخرى".
(4) تفسير الطبري (22/90) ورواه الحاكم في المستدرك (2/426) ومن طريقه البيهقي في
البعث برقم (62) من طريق الأعمش ، به.
(5) في أ : "عبد الله".
(6) في ت : "رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني بإسناده".
(7) المعجم الكبير (1/167) وقد وقع في إسناده سقط ، ورواه البيهقي في البعث برقم
(64) من طريق محمد بن سعيد ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن ابن أبي ليلى ، عن أخيه عيسى
، عن أبيه ، عن أسامة بن زيد ، به ، ورواه أيضا برقم (63) من طريق حصين بن نمير عن
ابن أبي ليلى ، عن أخيه ، عن أبيه ، عن أسامة بن زيد ، بنحوه.
(8) في ت : "رواه".
(9) في أ : "أنس".
(10) في س : "إلا الله".
(11) في س : "ولتحملن".
(12) في ت ، س : "أفواج".
(6/548)
لنفسه ،
فهذا الذي يكشف ويمحص". غريب جدا. (1)
أثر عن ابن مسعود : قال ابن جرير : حدثني ابن حميد ، حدثنا الحكيم بن بشير ، عن
عمرو بن قيس ، عن عبد الله بن عيسى ، عن يزيد بن الحارث ، عن شَقِيق أبي وائل ، عن
عبد الله بن مسعود ، أنه قال : هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة : ثلث يدخلون
الجنة بغير حساب ، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ، وثلث يجيئون بذنوب عظام حتى يقول :
ما هؤلاء ؟ - وهو أعلم تبارك وتعالى - فتقول الملائكة : هؤلاء جاءوا بذنوب عظام ،
إلا أنهم لم يشركوا بك فيقول الرب عز وجل : أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي : وتلا عبد
الله هذه الآية : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ
عِبَادِنَا [فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ] } (2) الآية.
أثر آخر : قال أبو داود الطيالسي ، عن الصلت بن دينار أبو شُعيب (3) ، عن عقبة بن
صُهْبَان الهُنَائي قال : سألت عائشة ، رضي الله عنها ، عن قول الله : { ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ
لِنَفْسِهِ } الآية ، فقالت لي : يا بني ، هؤلاء في الجنة ، أما السابق بالخيرات
فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ، شهد له رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالحياة والرزق ، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به ، وأما
الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم. قال : فجعلت نفسها معنا. (4)
وهذا منها ، رضي الله عنها ، من باب الهَضْم والتواضع ، وإلا فهي من أكبر السابقين
بالخيرات ؛ لأن فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام.
وقال عبد الله بن المبارك ، رحمه الله : قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي
الله عنه : في قوله تعالى : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } قال : هي لأهل
بدونا ، ومقتصدنا أهل حضرنا ، وسابقنا أهل الجهاد. رواه ابن أبي حاتم.
وقال عَوْف الأعرابي : حدثنا عبد الله بن الحارث بن نوفل قال : حدثنا كعب الأحبار
قال : إن الظالم لنفسه من هذه الأمة ، والمقتصد والسابق بالخيرات كلهم في الجنة ،
ألم تر أن الله تعالى قال : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ
الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } إلى قوله : { وَالَّذِينَ
كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ } قال : فهؤلاء أهل النار.
[و] (5) رواه ابن جرير من طرق ، عن عوف ، به. ثم قال :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، أخبرنا حميد ، عن إسحاق بن عبد
الله بن الحارث ، عن أبيه أن ابن عباس سأل كعبا (6) عن قوله : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } إلى قوله : { بِإِذْنِ
اللَّهِ } قال : تماسَّت مناكبهم ورَب كعب (7) ، ثم أعطوا الفضل بأعمالهم.
__________
(1) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (18/80) من طريق محمد بن عزيز ، به ، وقال
الهيثمي في المجمع (7/96) : "فيه سلامة بن روح وثقه ابن حبان ، وضعفه جماعة ،
وبقية رجاله ثقات".
(2) زيادة من أ.
(3) في هـ ، س : "دينار بن الأشعث" ، وفي أ : "عن الأشعث" ،
والمثبت من مسند الطيالسي.
(4) مسند الطيالسي برقم (1489).
(5) زيادة من ت.
(6) في ت : "ثم روي عن ابن عباس أنه سأل كعبا".
(7) في أ : "الكعبة".
(6/549)
ثم قال ابن
جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا الحكم بن بشير ، حدثنا عمرو بن قيس ، عن أبي إسحاق
السَّبِيعي في هذه الآية : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا
مِنْ عِبَادِنَا } الآية ، قال أبو إسحاق : أما ما سمعت منذ ستين سنة فكلهم ناج.
ثم قال : حدثنا ابن حميد ، حدثنا الحكم ، حدثنا عمرو ، عن (1) محمد بن الحنفية قال
: إنها أمة مرحومة ، الظالم مغفور له ، والمقتصد في الجنان عند الله ، والسابق
بالخيرات في الدرجات عند الله.
ورواه الثوري ، عن إسماعيل بن سَمِيع ، عن رجل ، عن محمد بن الحنفية ، بنحوه.
وقال أبو الجارود : سألت محمد بن علي - يعني : الباقر - عن قوله : { فَمِنْهُمْ
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } فقال : هو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا.
فهذا ما تيسر من إيراد الأحاديث والآثار المتعلقة بهذا المقام. وإذا تقرر هذا فإن
الآية عامة في جميع الأقسام الثلاثة من هذه الأمة ، فالعلماء أغبط الناس بهذه
النعمة ، وأولى الناس بهذه الرحمة ، فإنهم كما قال الإمام أحمد ، رحمه الله :
حدثنا محمد بن يزيد ، حدثنا عاصم بن رجاء بن حَيْوَة (2) ، عن قيس بن كثير قال :
قدم رجل من أهل المدينة إلى أبي الدرداء - وهو بدمشق - فقال : ما أقدمك أيْ أخي ؟
قال : حديث بلغني أنك تحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أما قدمت
لتجارة ؟ قال : لا. قال : أما قدمت لحاجة ؟ قال : لا ؟ قال : أما قدمت إلا في طلب
هذا الحديث ؟ قال : نعم. قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
"من سلك طريقا يطلب فيه (3) علمًا ، سلك الله به طريقا إلى الجنة ، وإن
الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم ، (4) وإنه ليستغفر للعالم مَنْ في
السموات والأرض حتى الحيتان في الماء ، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على
سائر الكواكب. إن العلماء هم ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا
درهما ، وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر".
وأخرجه (5) أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، من حديث كثير بن قيس - ومنهم من
يقول : قيس بن كثير - عن أبي الدرداء (6). وقد ذكرنا طرقه واختلاف الرواة فيه في
شرح "كتاب العلم" من "صحيح البخاري" ، ولله الحمد والمنة.
وقد تقدم في أول "سورة طه" حديث ثعلبة بن الحكم ، عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : "يقول الله تعالى يوم القيامة للعلماء : إني لم أضع علمي
وحكمي فيكم إلا وأنا أريد [أن] (7) أغفر لكم ، على ما كان منكم ، ولا أبالي".
(8)
__________
(1) في ت : "وعن".
(2) في ت : "كما روى الإمام أحمد رحمه الله بإسناده".
(3) في س : "فيها".
(4) في أ : "العلم رضا بما يصنع".
(5) في ت : "رواه".
(6) المسند (5/196) وسنن أبي داود برقم (3641) وسنن الترمذي برقم (2682) وسنن ابن
ماجه برقم (223).
(7) زيادة من ت ، س ، أ.
(8) تقدم تخريج الحديث عند تفسير الآية (2) من سورة طه.
(6/550)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
{ جَنَّاتُ
عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا
وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ
عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ
الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا
لُغُوبٌ (35) }.
يخبر تعالى أن مأوى هؤلاء المصطفين من عباده ، الذين أورثوا الكتاب المنزل من رب
العالمين يوم القيامة { جَنَّاتُ عَدْنٍ } أي : جنات الإقامة يدخلونها يوم معادهم
وقدومهم على ربهم ، عز وجل ، { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ
وَلُؤْلُؤًا } ، كما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال : "تبلغ الحلية (1) من المؤمن حيث يبلغ الوضوء".
(2)
{ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } ولهذا كان محظورا عليهم في الدنيا ، فأباحه الله
لهم في الدار الآخرة ، وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة". وقال : "[لا تشربوا
في آنية الذهب والفضة] (3) هي لهم في الدنيا ولكم (4) في الآخرة".
وقال (5) ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن سواد السَّرْحي ، أخبرنا ابن وهب ، عن ابن
لَهِيعَة ، عن عقيل بن خالد ، عن الحسن ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ؛ أن أبا
أمامة حدث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم ، وذكر حلي أهل الجنة فقال :
"مسورون بالذهب والفضة ، مُكَلَّلة بالدّر ، وعليهم أكاليل من دُرّ وياقوت
متواصلة ، وعليهم تاج كتاج الملوك ، شباب جُرْدٌ مُردٌ مكحَّلُون". (6)
{ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } وهو الخوف من
المحذور ، أزاحه عنا ، وأراحنا مما كنا نتخوفه ، ونحذره من هموم الدنيا والآخرة.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم "ليس على أهل "لا إله إلا الله" وحشة في قبورهم ولا
في منشرهم ، وكأني بأهل "لا إله إلا الله" ينفضون التراب عن رؤوسهم ،
ويقولون : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } رواه ابن أبي
حاتم من حديثه. (7)
وقال (8) الطبراني : حدثنا جعفر بن محمد الفريابي ، حدثنا يحيى بن موسى (9)
المروزي ، حدثنا سليمان بن عبد الله بن وهب الكوفي ، عن عبد العزيز بن حكيم ، عن ابن
عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليس على أهل "لا إله إلا
الله" وحشة في الموت ولا في قبورهم ولا في النشور. (10) وكأني أنظر إليهم عند
الصيحة ينفضون رؤوسهم من التراب ، يقولون : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ
عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } (11)
__________
(1) في ت : "الحليلة" ، وفي أ : "الحلة".
(2) صحيح مسلم برقم (246).
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) في س : "ولنا".
(5) في ت : "وروى".
(6) ورواه أبو نعيم في صفة الجنة برقم (267) من طريق علي بن الحسن عن عمرو بن سواد
، به. والحسن البصري لم يسمع من أبي هريرة.
(7) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (4531) "مجمع البحرين" وابن
عدي في الكامل (4/271) من طريق يحيى الحماني عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، به.
وقال ابن عدي في ترجمة عبد الرحمن بن زيد : "أحاديثه غير محفوظة". وقال
المنذري في الترغيب (2/416) : "في متنه نكارة".
(8) في ت : وروى.
(9) في هـ ، ت ، س ، أ : "موسى بن يحيى" والصواب ما أثبتناه من الإكمال
وتخريج الكشاف للزيلعي.
(10) في س : "منشرهم".
(11) قال الهيثمي في المجمع (10/333) : "رواه الطبراني وفيه جماعة لم
أعرفهم". ورواه ابن عدي في الكامل (2/65) والبيهقي في البعث برقم (88) من
طريق الحسن عن بهلول بن عبيد عن سلمة بن كهيل عن ابن عمر بنحوه ، وقال البيهقي :
"هذا مرسل عن سلمة بن كهيل وابن عمر ، وبهلول تفرد به وليس بالقوي".
(6/551)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
قال ابن
عباس ، وغيره : غَفَر لهم الكثير (1) من السيئات ، وشكر لهم اليسير من الحسنات.
{ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ } : يقولون : الذي أعطانا
هذه المنزلة ، وهذا المقام من فضله وَمَنِّه (2) ورحمته ، لم تكن أعمالنا تساوي
ذلك. كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لن يدخل أحدا
منكم عمله الجنة". قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : "ولا أنا ، إلا
أن يَتَغَمَّدَنِي الله برحمة منه وفضل". (3)
{ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } أي : لا يمسنا
فيها عناء ولا إعياء.
والنصَب واللغوب : كل منهما يستعمل في التعب ، وكأن المراد ينفي هذا وهذا عنهم
أنهم لا تعب على أبدانهم ولا أرواحهم (4) ، والله أعلم. فمن ذلك أنهم كانوا
يُدْئبُون أنفسهم في العبادة في الدنيا ، فسقط عنهم التكليف بدخولها ، وصاروا في
راحة دائمة مستمرة ، قال الله تعالى : { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا
أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ } [الحاقة : 24].
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا
وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ
الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ
تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ
(37) }.
لما ذكر تعالى حال السعداء ، شرع في بيان مآل الأشقياء ، فقال : { وَالَّذِينَ
كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا } ، كما قال
تعالى : { لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا } [طه : 74]. وثبت في صحيح مسلم : أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أما أهل النار الذين هم أهلها ، فلا
يموتون فيها ولا يحيون". (5) قال [الله] (6) تعالى : { وَنَادَوْا يَامَالِكُ
لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ } [الزخرف : 77]. فهم في
حالهم ذلك يرون موتهم راحة لهم ، ولكن لا سبيل إلى ذلك ، قال الله تعالى : { لا
يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا } ، كما
قال تعالى : { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لا
يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } [الزخرف : 74 ، 75] ، وقال {
كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } [الإسراء : 97]{ فَذُوقُوا فَلَنْ
نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا } [النبأ : 30].
ثم قال : { كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ } أي : هذا جزاء كل من كفر بربه وكذب
بالحق.
وقوله : { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا } أي : ينادون فيها ، يجأرون إلى الله ، عز
وجل بأصواتهم : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا
نَعْمَلُ } أي : يسألون الرجعة إلى الدنيا ، ليعملوا غير عملهم
__________
(1) في أ : "الكبير".
(2) في س : "ومنته".
(3) صحيح البخاري برقم (5673) وصحيح مسلم برقم (2816).
(4) في ت ، أ : "ولا على أرواحهم".
(5) صحيح مسلم برقم (185).
(6) زيادة من ت ، س.
(6/552)
الأول ، وقد
علم الرب ، جل جلاله ، أنه لو ردهم إلى الدار الدنيا ، لعادوا لما نهوا عنه ،
وإنهم لكاذبون. فلهذا لا يجيبهم إلى سؤالهم ، كما قال تعالى مخبرا عنهم في قولهم :
{ فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ
وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا } [غافر : 11 ، 12] ، أي :
لا يجيبكم إلى ذلك لأنكم كنتم كذلك ، ولو رددتم لعدّتم إلى ما نهيتم عنه ؛ ولهذا
قال هاهنا : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } أي
: أوما عشتم في الدنيا أعمارا لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم ؟
وقد اختلف المفسرون في مقدار العمر المراد هاهنا فروي عن علي بن الحسين زين
العابدين أنه قال : مقدار سبع عشرة سنة.
وقال قتادة : اعلموا أن طول العمر حجة ، فنعوذ بالله أن نُعَيَّر (1) بطول العمر ،
قد نزلت هذه الآية : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ
تَذَكَّرَ } ، وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة ، وكذا قال أبو غالب الشيباني.
وقال عبد الله بن المبارك ، عن مَعْمَر ، عن رجل ، عن وهب بن مُنَبِّه في قوله : {
أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } قال : عشرين (2)
سنة.
وقال هشيم ، عن منصور ، عن زاذان ، عن الحسن في قوله : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ
مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } قال : أربعين سنة.
وقال هُشَيْم [أيضا] (3) ، عن مجاهد ، عن الشعبي ، عن مسروق أنه كان يقول : إذا
بلغ أحدكم أربعين سنة ، فليأخذ حذره من الله عز وجل.
وهذه رواية عن ابن عباس فيما قال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا بشر بن
المفضل ، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم ، عن مجاهد قال : سمعت ابن عباس يقول
: العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ
فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } أربعون سنة.
هكذا رواه من هذا الوجه ، عن ابن عباس. وهذا القول هو اختيار ابن جرير. ثم رواه من
طريق الثوري وعبد الله بن إدريس ، كلاهما عن عبد الله بن عثمان بن خثيم (4) ، عن
مجاهد (5) ، عن ابن عباس قال : العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم في قوله : {
أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } ستون سنة.
فهذه الرواية أصح عن ابن عباس ، وهي الصحيحة في نفس الأمر أيضًا ، لما ثبت في ذلك
من الحديث - كما سنورده - لا كما زعمه ابن جرير ، من أن الحديث لم يصح ؛ لأن في
إسناده مَنْ يجب التثبت في أمره.
وقد روى (6) أصبغ بن نُباتة ، عن علي ، رضي الله عنه ، أنه قال : العمر الذي
عَيَّرهم الله به في قوله تعالى : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ
مَنْ تَذَكَّرَ } ستون سنة.
__________
(1) في أ : "نغتر".
(2) في ت ، س ، أ : "عشرون".
(3) زيادة من س.
(4) في أ : "خيثم".
(5) في ت : "وفي رواية أخرى".
(6) في ت : "فروى".
(6/553)
وقال ابن
أبي حاتم : حدثنا أبي : حدثنا دُحَيْم ، حدثنا ابن أبي فُدَيْك ، حدثني إبراهيم بن
الفضل المخزومي ، عن ابن أبي حُسَين المكي ؛ أنه حدثه عن عَطاء - هو ابن أبي رباح
- عن (1) ابن عباس رضي الله عنهما (2) ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا
كان يوم القيامة قيل : أين أبناء الستين ؟ وهو العمر الذي قال الله فيه : {
أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ
النَّذِير }.
وكذا رواه ابن جرير ، عن علي بن شعيب ، عن محمد بن إسماعيل (3) بن أبي فُدَيك ،
به. وكذا رواه الطبراني من طريق ابن أبي فديك ، به (4). وهذا الحديث فيه نظر ؛
لحال إبراهيم بن الفضل ، والله أعلم.
حديث آخر : قال (5) الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن رَجُل من
بني غفَار ، عن سعيد المَقْبُرِيّ ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال : "لقد أعذر الله إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة ، لقد
أعذر الله إليه ، لقد أعذر الله إليه". (6)
وهكذا رواه الإمام البخاري في "كتاب الرقاق" من صحيحه : حدثنا عبد
السلام بن مُطَهَّر ، عن عُمَر بن علي ، عن مَعْن بن محمد الغفَاري ، عن سعيد
المَقْبُرِيّ ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "أعذر الله عز وجل إلى امرئ أخَّر عمره حتى بَلَّغَه ستين سنة".
ثم قال البخاري : تابعه أبو حازم وابن عَجْلان ، عن سعيد المَقْبُرِيّ. (7)
فأما أبو حازم فقال ابن جرير : حدثنا أبو صالح الفَزَاريّ ، حدثنا محمد بن سَوَّار
، أخبرنا يعقوب بن عبد الرحمن بن عبد القاريّ الإسكندريّ ، حدثنا أبو حازم ، عن
سعيد المَقْبُرِيّ ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"[من عَمَّرَه] (8) الله ستين سنة ، فقد أعذر إليه في العمر".
وقد رواه الإمام أحمد والنسائي في الرقاق جميعا عن قتيبة ، عن يعقوب بن عبد الرحمن
به. (9)
ورواه البزار قال : حدثنا هشام بن يونس ، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم ، عن أبيه
، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة". يعني : { أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } (10).
وأما متابعة "ابن عجلان" فقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو السفر يحيى بن
محمد بن عبد الملك بن قرعة بسامراء ، حدثنا أبو عبد الرحمن المقري ، حدثنا سعيد بن
أبي أيوب ، حدثني محمد بن
__________
(1) في ت : "فقال ابن أبي حاتم بإسناده إلى".
(2) في ت ، س : "عنه".
(3) في جميع النسخ : "عن إسماعيل ، والمثبت من الطبري".
(4) تفسير الطبري (22/93) والمعجم الكبير للطبراني (11/177) وقال الهيثمي في
المجمع (7/97) : "وفيه إبراهيم بن الفضل المخزومي وهو ضعيف".
(5) في ت : "وروى".
(6) المسند (2/275).
(7) صحيح البخاري برقم (6419).
(8) زيادة من ت ، والطبري.
(9) تفسير الطبري (22/93) والمسند (2/417) والنسائي في السنن الكبرى كما في تحفة
الأشراف للمزي (9/472).
(10) ورواه ابن مردويه في تفسيره كما في تخريج الكشاف للزيلعي (3/155) من طريق
سليمان بن حرب ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، وربما لم يقل : عن سهل ، فذكر نحوه
دون الآية ، والمحفوظ عن أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(6/554)
عجلان ، عن
سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "مَنْ أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله ، عز وجل ، إليه في
العمر". وكذا رواه الإمام أحمد عن أبي عبد الرحمن هو المقرئ (1) ، به. (2)
ورواه أحمد أيضًا عن خلف عن أبي مَعْشَر ، عن سعيد المَقْبُرِيّ.
طريق أخرى عن أبي هريرة : قال ابن جرير : حدثني أحمد بن الفرج أبو عُتْبَة (3)
الحِمْصِي ، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد ، حدثنا المطرف بن مازن الكناني ، حدثني
مَعْمَر بن راشد قال : سمعت محمد بن عبد الرحمن الغفَاري يقول : سمعت أبا هريرة
يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لقد أعذر الله عز وجل ، إلى صاحب
الستين سنة والسبعين". (4)
فقد صح هذا الحديث من هذه الطرق ، فلو لم يكن (5) إلا الطريق التي ارتضاها أبو عبد
الله البخاري شيخ هذه الصناعة لكفت. وقول ابن جرير : (إن في رجاله بعض من يجب
التثبت في أمره) ، لا يلتفت إليه مع تصحيح البخاري ، والله أعلم.
وذكر بعضهم أن العمر الطبيعي عند الأطباء مائة وعشرون سنة ، فالإنسان لا يزال في
ازدياد إلى كمال الستين ، ثم يشرع بعد هذا في النقص والهرم ، كما قال الشاعر :
إذَا بَلَغَ الفتَى ستينَ عَاما... فقد ذَهَبَ المَسَرَّةُ والفَتَاءُ (6)
ولما كان هذا هو العمر الذي يعذر الله إلى عباده به ، ويزيح به عنهم العلل ، كان
هو الغالب على أعمار هذه الأمة ، كما ورد بذلك الحديث ، قال الحسن بن عرفة ، رحمه
الله :
حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، حدثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي
هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أعمار أمتي ما بين الستين
إلى السبعين ، وأقلهم مَن يجوز ذلك".
وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه جميعا في كتاب الزهد ، عن الحسن بن عرفة ، به. ثم
قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه (7).
وهذا عَجَب من الترمذي ، فإنه قد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا من وجه آخر وطريق
أخرى ، عن أبي هريرة حيث قال :
حدثنا سليمان (8) بن عمر ، عن محمد بن ربيعة ، عن كامل أبي العلاء ، عن أبي صالح ،
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أعمار أمتي ما بين
الستين إلى السبعين ، وأقلهم من يجوز ذلك".
وقد رواه الترمذي في "كتاب الزهد" أيضا ، عن إبراهيم بن سعيد الجوهري ،
عن محمد بن ربيعة ، به. (9) ثم قال : هذا حديث حسن غريب ، من حديث أبي صالح عن أبي
هريرة ، وقد
__________
(1) في أ : "المقبري".
(2) المسند (2/320).
(3) في أ : "أبو عيينة".
(4) تفسير الطبري (22/93).
(5) في س : "لم تكن".
(6) البيت نسبه أبو عبيدة للربيع بن ضبع الفزاري مستفادا من حاشية طبعة الشعب.
(7) سنن الترمذي برقم (3550) وسنن ابن ماجه برقم (4236).
(8) في أ : "سليم".
(9) سنن الترمذي برقم (2331).
(6/555)
روي من غير
وجه عنه. هذا نصه بحروفه في الموضعين ، والله أعلم.
وقال (1) الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو موسى الأنصاري ، حدثنا ابن أبي فُدَيْك ،
حدثني إبراهيم بن الفضل - مولى بني مخزوم - عن المَقْبُريّ ، عن أبي هريرة ، قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مُعْتَرك المنايا ما بين الستين إلى
السبعين".
وبه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أقل أمتي أبناء سبعين".
إسناده ضعيف. (2)
حديث آخر في معنى ذلك : قال (3) الحافظ أبو بكر البزار في مسنده :
حدثنا إبراهيم بن هانئ ، حدثنا إبراهيم بن مهدي ، حدثنا عثمان بن مطر ، عن أبي
مالك ، عن رِبْعِي عن حذيفة أنه قال : يا رسول الله ، أنبئنا بأعمار أمتك. قال :
"ما بين الخمسين إلى الستين" قالوا : يا رسول الله ، فأبناء السبعين ؟
قال : "قَلّ مَنْ يبلغها من أمتي ، رحم الله أبناء السبعين ، ورحم الله أبناء
الثمانين".
ثم قال البزار : لا يروى بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد ، وعثمان بن مطر من أهل
البصرة ليس بقوي. (4)
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش ثلاثا وستين سنة. وقيل :
ستين. وقيل : خمسًا وستين سنة. والمشهور الأول ، والله أعلم.
وقوله : { وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ } : روي عن ابن عباس ، وعِكْرِمَة ، وأبي جعفر
الباقر ، وقتادة ، وسفيان بن عُيَيْنَة أنهم قالوا : يعني : الشيب.
وقال السُّدِّيّ ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني به الرسول صلى الله عليه
وسلم وقرأ ابن زيد : { هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى } [النجم : 56]. وهذا
هو الصحيح عن قتادة ، فيما رواه شيبان ، عنه أنه قال : احتج عليهم بالعمر والرسل.
وهذا اختيار ابن جرير ، وهو الأظهر ؛ لقوله تعالى : { وَنَادَوْا يَامَالِكُ
لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ
بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } [الزخرف : 77 ، 78] ،
أي : لقد بينا لكم الحق على ألسنة الرسل ، فأبيتم وخالفتم ، وقال تعالى : { وَمَا
كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [الإسراء : 15] ، وقال تبارك
وتعالى : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ
يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا
مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ } [الملك : 8
، 9].
وقوله : { فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } أي : فذوقوا عذابَ النار
جزاء على مخالفتكم للأنبياء في مدة أعماركم ، فما لكم اليوم ناصر ينقذكم مما أنتم
فيه من العذاب والنكال والأغلال.
__________
(1) في ت : "وروى".
(2) مسند أبي يعلى (11/422 ، 423) وفيه إبراهيم بن الفضل وهو متروك.
(3) في ت : "وروى".
(4) مسند البزار برقم (3586) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع
(10/206) : "وفيه عثمان بن مطر وهو ضعيف".
(6/556)
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)
{ إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) }
(6/557)
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)
{ هُوَ
الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا
يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ
الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا (39) }.
يخبر تعالى بعلمه غيب السموات والأرض ، وأنه يعلم ما تكنه السرائر وتنطوي عليه
الضمائر ، وسيجازي كل عامل بعمله.
ثم قال : { هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ } أي : يخلف قوم لآخرين
قبلهم ، وجيل لجيل قبلهم ، كما قال : { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ } [النمل
: 62]{ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } أي : فإنما يعود وبال ذلك (1) على
نفسه (2) دون غيره ، { وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ
إِلا مَقْتًا } أي : كلما استمروا على كفرهم أبغضهم الله ، وكلما استمروا فيه
خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، بخلاف المؤمنين فإنهم كلما طال عمر أحدهم
وحَسُن عمله ، ارتفعت درجته ومنزلته في الجنة ، وزاد أجره وأحبه خالقه وبارئه رب
العالمين ، [فسبحان المقدر المدبر رب العالمين]. (3)
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ
آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ
وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ
بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) }.
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين : { أَرَأَيْتُمْ
شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي : من الأصنام والأنداد
، { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ }
أي : ليس لهم شيء من ذلك ، ما يملكون من قطمير.
وقوله : { أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ } أي : أم
أنزلنا عليهم كتابا بما يقولون من الشرك والكفر ؟ ليس الأمر كذلك ، { بَلْ إِنْ
يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا } أي : بل إنما اتبعوا في
ذلك أهواءهم وآراءهم وأمانيهم التي تمنوها لأنفسهم ، وهي غرور وباطل وزور.
ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة التي بها تقوم السماء والأرض عن أمره ، وما جعل
فيهما من القوة الماسكة لهما ، فقال : { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ
وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا } أي : أن تضطربا عن أماكنهما ، كما قال : { وَيُمْسِكُ
السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ } [الحج : 65] ، وقال تعالى
: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ } [الروم :
25]{ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ } أي : لا
يقدر على دوامهما وإبقائهما إلا هو ، وهو مع ذلك حليم غفور ، أي : يرى عباده وهم
يكفرون به ويعصونه ، وهو يحلم (4) فيؤخر وينظر ويؤجل ولا يَعْجَل ، ويستر آخرين
ويغفر ؛ ولهذا قال : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا }.
__________
(1) في ت ، س ، أ : "وبال كفره ذلك".
(2) في ت : "وعليه".
(3) زيادة من أ.
(4) في ت ، أ : "يحلم عنهم".
(6/557)
وقد أورد
ابن أبي حاتم هاهنا حديثا غريبا بل منكرًا ، فقال : حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد
، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثني هشام بن يوسف ، عن أمية بن شبل ، عن الحكم بن
أبان ، عن عِكْرِمَة ، عن (1) أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يحكي عن موسى ، عليه السلام (2) على المنبر قال : "وقع في نفس موسى عليه
السلام : هل ينام الله عز وجل فأرسل الله إليه ملكا ، فأرقه ثلاثا (3) ، وأعطاه
قارورتين ، في كل يد قارورة ، وأمره أن (4) يحتفظ بهما. قال : فجعل ينام وتكاد
يداه تلتقيان ، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما (5) عن الأخرى ، حتى نام نومه ، فاصطفقت
يداه فَتَكَسَّرت القارورتان. قال : ضرب الله له مثلا إن الله لو كان ينام لم
تستمسك السماء والأرض". (6)
والظاهر أن هذا الحديث ليس بمرفوع ، بل من الإسرائيليات المنكرة فإن موسى عليه
السلام أجَلّ من أن يُجَوّز على الله سبحانه وتعالى النوم ، وقد أخبر الله تعالى
في كتابه العزيز بأنه : { الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ
لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } [البقرة : 255]. وثبت في الصحيحين
عن أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القِسْطَ ويرفعه ، يرفع إليه
عمل الليل قبل النهار ، وعمل النهار قبل الليل ، حجابه النور أو النار ، لو كشفه
لأحرقت سبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه". (7)
وقد قال أبو جعفر بن جرير (8) : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان
، عن الأعمش ، عن أبي وائل قال : جاء رجل إلى عبد الله - هو ابن مسعود - فقال : من
أين جئت ؟ قال : من الشام. قال : مَنْ لقيت ؟ قال : لقيت كعبًا. قال : ما حدثك كعب
؟ قال : حدثني أن السموات تدور على مِنْكَب مَلَك. قال : أفصدقته أو كذبته ؟ قال :
ما صدقته ولا كذبته. قال : لوددت أنك افتديت مَن رحلتك إليه براحلتك ورَحْلِها ،
كَذَب كعب. إن الله تعالى يقول : { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ
أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ }
(9).
وهذا إسناد صحيح إلى كعب وإلى ابن مسعود. ثم رواه ابن جرير عن ابن حميد ، عن جرير
، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : ذهب جُنْدب البَجَلي إلى كعب بالشام ، فذكر نحوه.
(10) وقد رأيت في مصنف الفقيه (11) يحيى بن إبراهيم بن مُزَين الطليطلي ، سماه
"سير الفقهاء" ، أورد هذا الأثر عن محمد بن عيسى بن الطَّبَّاع ، عن
وَكِيع ، عن الأعمش ، به. ثم قال : وأخبرنا زونان - يعني : عبد الملك بن الحسن -
عن ابن وهب ، عن مالك أنه قال : السماء لا تدور. واحتج بهذه الآية ، وبحديث :
"إن بالمغرب بابا للتوبة لا يزال مفتوحا حتى تطلع الشمس منه".
__________
(1) في ت : "بسنده إلى أبي هريرة".
(2) في ت : "صلى الله عليه وسلم".
(3) في ت : "ثلثا".
(4) في ت : "بأن".
(5) في س : "أحدهما".
(6) ورواه أبو يعلى في مسنده (12/21) من طريق إسحاق بن إبراهيم ، به ، وسبق أيضا
تخريج هذا الحديث عند تفسير الآية : 255 من سورة البقرة.
(7) صحيح مسلم برقم (179) وليس في صحيح البخاري ، فإن الحافظ ذكره عند تفسير الآية
: 255 من سورة البقرة فقال : "وفي الصحيح هكذا بالإفراد".
(8) في ت : "وروى ابن جرير".
(9) تفسير الطبري (22/94).
(10) تفسير الطبري (22/95).
(11) في س ، أ : "للفقيه".
(6/558)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
قلت : وهذا
الحديث في الصحيح ، (1) والله أعلم.
{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ
لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا
زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الأرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا
يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ
الأوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ
اللَّهِ تَحْوِيلا (43) }.
يخبر تعالى عن قريش والعرب أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم ، قبل إرسال الرسول
إليهم : { لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ }
أي : من جميع الأمم الذين أرسل إليهم الرسل. قاله الضحاك وغيره ، كقوله تعالى : {
أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا
وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزلَ
عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ
وَصَدَفَ عَنْهَا } [الأنعام : 156 ، 157] ، (2) وكقوله تعالى : { وَإِنْ كَانُوا
لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ
اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [الصافات : 167 -
170].
قال الله تعالى : { فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ } - وهو : محمد صلى الله عليه وسلم
- بما أنزل معه من الكتاب العظيم ، وهو القرآن المبين ، { مَا زَادَهُمْ إِلا
نُفُورًا } ، أي : ما ازدادوا (3) إلا كفرًا إلى كفرهم ، ثم بين ذلك بقوله : {
اسْتِكْبَارًا فِي الأرْضِ } أي : استكبروا عن اتباع آيات الله ، { وَمَكْرَ
السَّيِّئِ } أي : ومكروا بالناس في صدِّهم إياهم عن سبيل الله ، { وَلا يَحِيقُ
الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ } [أي : وما يعود وبال ذلك إلا عليهم (4)
أنفسهم دون غيرهم.
قال (5) ابن أبي حاتم : ذكر علي بن الحسين ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن
أبي زكريا الكوفي عن رجل حدثه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إياك
ومكر السيئ ، فإنه لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله] (6) ، ولهم من الله طالب"
، (7) ، وقد قال محمد بن كعب القُرَظِي : ثلاث من فعلهن لم ينجُ حتى ينزل به من
مكر أو بغي أو نكث ، وتصديقها في كتاب الله : { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ
إِلا بِأَهْلِهِ }. { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } [يونس : 23] ، {
فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ } [الفتح : 10].
وقوله : { فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأوَّلِينَ } يعني : عقوبة الله لهم
على تكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره (8) ، { فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ
تَبْدِيلا } أي (9) لا تغير ولا تبدل ، بل هي جارية كذلك في كل
__________
(1) لم أعثر على الحديث في الصحيحين ، وهو في سنن الترمذي برقم (3536) وصحيح ابن
خزيمة برقم (193) والمسند للإمام أحمد (4/240) ما يوافق ذلك من حديث صفوان بن عسال
، رضي الله عنه ، ولفظه عند ابن خزيمة : "إن بالمغرب بابا مفتوحا للتوبة
مسيرته سبعون سنة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها" نحوه.
(2) في ت : "أو يقولوا".
(3) في ت : "ما زادوهم".
(4) في ت : "على".
(5) في ت : "روى".
(6) زيادة من ت ، س ، أ.
(7) وهذا مرسل ولم أجد مَنْ أخرجه غير ابن أبي حاتم ، وقد روى ابن المبارك في
الزهد برقم (725) عن الزهري مرسلا نحوه.
(8) في ت : "على تكذيبهم أمره ومخالفتهم رسله".
(9) في ت : "يعني".
(6/559)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)
مكذب ، {
وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا } أي : { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ
بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ } [الرعد : 11] ، ولا يكشف ذلك عنهم ، ويحوله
عنهم أحد.
{ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ إِنَّهُ كَانَ
عَلِيمًا قَدِيرًا (44) }.
(6/560)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
{ وَلَوْ
يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ
دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45) }.
يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به من الرسالة : سيروا في
الأرض ، فانظروا كيف كان عاقبة الذين كذبوا الرسل ؟ كيف دمر الله عليهم وللكافرين
أمثالها ، فَخُلِيَتْ منهم منازلهم ، وسلبوا ما كانوا فيه من النَّعَم بعد كمال القوة
، وكثرة العدد والعُدَد ، وكثرة الأموال والأولاد ، فما أغنى ذلك شيئا ، ولا دفع
(1) عنهم من عذاب الله من شيء ، لما جاء أمر ربك لأنه تعالى لا يعجزه شيء ، إذا
أراد كونه في السموات والأرض ؟ { إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا } أي : عليم
بجميع الكائنات ، قدير على مجموعها.
ثم قال تعالى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ
عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } أي : لو آخذهم (2) بجميع ذنوبهم ، لأهلك جميع أهل
الأرض ، وما يملكونه من دواب وأرزاق.
قال (3) ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنان ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان
الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله قال : كاد الجَعْلُ أن يعذب
في جُحْره بذنب ابن آدم ، ثم قرأ : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا
كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ }.
وقال سعيد بن جُبَيْر ، والسُّدِّيّ في قوله : { مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ
دَابَّةٍ } أي : لما سقاهم المطر ، فماتت جميع الدواب.
{ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } أي : ولكن يُنْظرهُم إلى يوم
القيامة ، فيحاسبهم يومئذ ، ويوفي كل عامل بعمله ، فيجازي بالثواب أهلَ الطاعة ،
وبالعقاب أهل المعصية ؛ ولهذا قال تعالى : { فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ
اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا }.
آخر تفسير سورة "فاطر" ولله الحمد والمنة.
__________
(1) في ت ، س : "ولا يدفع".
(2) في ت ، أ : "يؤاخذهم".
(3) في ت : "روى".
(6/560)
تفسير سورة
يس
[وهي] (1) مكية.
قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا قتيبة وسفيان بن وَكِيع ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن
الرُّؤاسي ، عن الحسن بن صالح ، عن هارون أبي محمد ، عن مقاتل بن حيان ، عن قتادة
(2) ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن لكل شيء قلبا ،
وقلب القرآن يس. ومَنْ قرأ يس كَتَبَ الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر
مرات".
ثم قال : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حُميد بن عبد الرحمن. وهارون أبو
محمد شيخ مجهول. وفي الباب عن أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، ولا يصح لضعف
إسناده ، وعن أبي هريرة منظور فيه. (3)
أما حديث الصديق فرواه الحكيم الترمذي في كتابه نوادر الأصول. (4) وأما حديث أبي
هريرة فقال (5) أبو بكر البزار : حدثنا عبد الرحمن بن الفضل ، حدثنا زيد - هو ابن
الحباب - حدثنا حُميد - هو المكي ، مولى آل علقمة - عن عطاء - هو ابن أبي رباح -
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن لكل شيء قلبا ،
وقلب القرآن يس".
ثم قال : لا نعلم رواه إلا زيد ، عن حميد. (6)
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل ، حدثنا حجاج بن محمد ، عن
هشام بن زياد ، عن الحسن قال : سمعت أبا هريرة يقول (7) : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "من قرأ يس في ليلة أصبح مغفورًا له. ومن قرأ : "حم"
التي فيها الدخان أصبح مغفورًا له". إسناد (8) جيد. (9)
وقال (10) ابن حبان في صحيحه : حدثنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم - مولى ثقيف -
حدثنا الوليد بن شجاع بن الوليد السكوني ، حدثنا أبي ، حدثنا زياد بن خَيْثَمة ،
حدثنا محمد بن جُحَادة ،
__________
(1) زيادة من ت ، س ، أ.
(2) في ت : " روى أبو عيسى الترمذي بإسناده".
(3) سنن الترمذي برقم (2887) وقال ابن أبي حاتم في العلل (2/56) بعد ما ذكر الحديث
: "قال أبي : مقاتل هذا هو مقاتل بن سليمان رأيت هذا الحديث في أول كتاب وضعه
مقاتل وهو حديث باطل لا أصل له. قلت لأبي : مقاتل أدرك قتادة ؟ قال : وأكبر من
قتادة أبو الزبير".
(4) نوادر الأصول ص (335) ورواه ابن الضريس في فضائل القرآن برقم (217) والبيهقي
في شعب الإيمان برقم (2465) وابن الجوزي في الموضوعات (1/247) من طرق عن إسماعيل
بن أبي أويس عن محمد بن عبد الرحمن الجدعاني عن سليمان بن مرقاع عن هلال بن الصلت
عن أبي بكر ، رضي الله عنه. وقال ابن الجوزى : "هذا الحديث من جميع طرقه باطل
لا أصل له".
(5) في ت : "وروى".
(6) مسند البزار برقم (2304) "كشف الأستار".
(7) في ت : "وروى الحافظ أبو يعلى عن أبي هريرة قال".
(8) في ت : "إسناده".
(9) مسند أبي يعلى (11/93) وفي إسناده هشام بن زياد ضعفه الأئمة ، وقال ابن حبان :
"كان ممن يروى الموضوعات عن الثقات ، والمقلوبات عن الأثبات حتى يسبق إلى قلب
المستمع أنه كان المعتمد لها ، لا يجوز الاحتجاج به". والحسن لم يسمع من أبي
هريرة ، وانظر التعليق على أبي يعلى عند قوله : "سمعت".
(10) في ت ، أ : "وروى".
(6/561)
عن الحسن ،
عن جُنْدَب بن (1) عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من
قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله ، غفر له". (2)
وقد قال (3) الإمام أحمد : حدثنا عارم ، حدثنا معتمر ، عن أبيه ، عن رجل ، عن أبيه
، عن معقل بن يَسَار ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"البقرة سِنام القرآن وذِرْوَته ، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكا ، واستخرجت
{ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [البقرة : 255] من تحت
العرش فوصلت بها - أو : فوصلت بسورة البقرة - ويس قلب القرآن ، لا يقرؤها رجل يريد
الله والدار الآخرة ، إلا غفر له ، واقرؤوها على موتاكم".
وكذا رواه النسائي في "اليوم والليلة" عن محمد بن عبد الأعلى ، عن معتمر
بن سليمان ، به (4).
ثم قال الإمام أحمد : حدثنا عارم ، حدثنا ابن المبارك ، حدثنا سليمان التيمي ، عن
أبي عثمان - وليس بالنهدي - عن أبيه ، عن مَعْقِل بن يَسَار قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "اقرؤوها على موتاكم" - يعني : يس.
ورواه أبو داود ، والنسائي في "اليوم والليلة" وابن ماجه من حديث عبد
الله بن المبارك ، به (5) إلا أن في رواية النسائي : عن أبي عثمان ، عن معقل بن
يسار.
ولهذا قال بعض العلماء : من خصائص هذه السورة : أنها لا تقرأ عند أمر عسير إلا
يسره الله. وكأن قراءتها عند الميت لتنزل الرحمة والبركة ، وليسهل (6) عليه خروج
الروح ، والله أعلم.
قال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان قال : كان المشيخة
يقولون : إذا قرئت - يعني يس - عند الميت خُفِّف عنه بها. (7)
وقال (8) البزار : حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان ، عن أبيه
، عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس قال : قال النبي (9) صلى الله عليه وسلم :
"لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي" - يعني : يس. (10)
__________
(1) في أ : "عن".
(2) صحيح ابن حبان برقم (665) "موارد" والحسن لم يسمع من جندب ، قاله
أبو حاتم.
(3) في ت : "وروى".
(4) المسند (5/26) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10914) وقد أعله ابن القطان كما
في التلخيص لابن حجر (2/104) بثلاث علل : الاضطراب في الإسناد ، وبالوقف ، وبجهالة
حال أبي عثمان وأبيه. ثم نقل عن الدارقطنى قوله : "هذا حديث ضعيف الإسناد ،
مجهول المتن ، ولا يصحح في الباب حديث".
(5) المسند (5/26) وسنن أبي داود برقم (3121) والنسائي في السنن الكبرى برقم
(10913) وسنن ابن ماجه برقم (1448).
(6) في ت ، س : "ولتسهل".
(7) المسند (4/105).
(8) في ت : "وروي".
(9) في ت : "رسول الله".
(10) مسند البزار برقم (2305) "كشف الأستار".
(6/562)
يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
بسم الله
الرحمن الرحيم
{ يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنزيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا
مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى
أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) }.
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول "سورة البقرة" ، ورُوي عن ابن
عباس وعِكْرِمَة ، والضحاك ، والحسن وسفيان بن عُيَيْنَة (1) أن "يس"
بمعنى : يا إنسان.
وقال سعيد بن جبير : هو كذلك في لغة الحبشة.
وقال مالك ، عن زيد بن أسلم : هو اسم من أسماء الله تعالى.
{ وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ } أي : المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
خلفه.
{ إِنَّكَ } يا محمد { لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي :
على منهج ودين قويم ، وشرع مستقيم.
{ تَنزيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } أي : هذا الصراط والمنهج والدين الذي جئت به
مُنزل من رب العزة ، الرحيم بعباده المؤمنين ، كما قال تعالى : { وَإِنَّكَ
لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي
السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ } [الشورى :
52 ، 53].
وقوله تعالى : { لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ }
يعني بهم : العرب ؛ فإنه ما أتاهم من نذير من قبله. وذكرهم وحدهم لا ينفي مَنْ
عداهم [كما زعمه بعض النصارى] (2) ، كما أن ذكر بعض الأفراد لا ينفي العموم. وقد
تقدم ذكر الآيات والأحاديث المتواترة في عموم بعثته ، صلوات الله وسلامه عليه ،
عند قوله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ
جَمِيعًا } [الأعراف : 158].
قوله : { لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ } : قال ابن جرير : لقد وجب
العذاب على أكثرهم بأن [الله قد] (3) حتم عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون ، {
فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } بالله ، ولا يصدقون رسله.
{ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ
مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ
سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ
أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ
مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ
بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ
مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
}
يقول تعالى : إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء نسبتهم إلى الوصول إلى الهدى
كنسبة من جُعل في عنقه غل ، فجَمَع يديه مع عنقه تحت ذقنه ، فارتفع رأسُه ، فصار
مقمَحا ؛ ولهذا قال : { فَهُمْ مُقْمَحُونَ } والمقمح : هو الرافع رأسه ، كما قالت
أم زَرْع في كلامها : "وأشرب فأتقمَّح" أي :
__________
(1) في ت : "وعكرمة وغيرهما".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من ت ، س.
(6/563)
أشرب فأروى
، وأرفع رأسي تهنيئا وتَرَوّيا. واكتفى بذكر الغل في العنق عن ذكر اليدين ، وإن
كانتا مرادتين ، كما قال الشاعر (1) :
فَمَا أدْري إذَا يَمَّمْتُ أرْضًا... أريد الخَيْرَ أيّهما يَليني...
أالْخَيْرُ الذي أنَا أبْتَغيه... أم الشَّرّ الذي لا يَأتَليني...
فاكتفى بذكر الخير عن ذكر الشر لَمّا دل السياق والكلام عليه ، (2) وكذا هذا ، لما
كان الغُلّ إنما يعرف فيما جَمَع اليدين مع العنق ، اكتفى بذكر العنق عن اليدين.
قال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ
أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ } قال : هو كقول الله (3)
تعالى : { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ } [الإسراء : 29] يعني
بذلك : أن أيديهم موثقة (4) إلى أعناقهم ، لا يستطيعون أن يبسطوها بخير.
وقال مجاهد : { فَهُمْ مُقْمَحُونَ } قال : رافعو (5) رؤوسهم ، وأيديهم موضوعة على
أفواههم ، فهم مغلولون عن كل خير.
وقوله : { وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا } : قال مجاهد : عن الحق ،
{ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا } قال مجاهد : عن الحق ، فهم يترددون. وقال قتادة : في
الضلالات.
وقوله : { فَأَغْشَيْنَاهُمْ } أي : أغشينا أبصارهم عن الحق ، { فَهُمْ لا
يُبْصِرُونَ } أي : لا ينتفعون بخير ولا يهتدون إليه.
قال ابن جرير : وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ : "فأعشيناهم" بالعين
المهملة ، من العشا وهو داء في العين.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : جعل الله هذا السد بينهم وبين الإسلام والإيمان
، فهم لا يخلصون إليه ، وقرأ : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ
الألِيمَ } [يونس : 96 ، 97] ثم قال : من منعه الله لا يستطيع.
وقال عكرمة : قال أبو جهل : لئن رأيتُ محمدًا لأفعلن ولأفعلن ، فأنزلت : { إِنَّا
جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا } إلى قوله : { [فَهُمْ ] لا يُبْصِرُونَ }
(6) ، قال : وكانوا يقولون : هذا محمد. فيقول : أين هو أين هو ؟ لا يبصره. رواه
ابن جرير.
وقال محمد بن إسحاق : حدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب قال : قال أبو جهل وهم
جلوس : إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه (7) كنتم ملوكا ، فإذا متم (8) بعثتم بعد
موتكم ، وكانت لكم جِنَانٌ خير من جنان الأرْدُن وأنكم إن خالفتموه كان لكم منه
ذبح ، ثم بعثتم بعد موتكم وكانت لكم نار تُعَذَّبون بها. وخرج [عليهم] (9) رسول
الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك ، وفي يده حفنة من تراب ، وقد أخذ الله على
أعينهم دونه ، فجعل يَذُرّها على رؤوسهم ، ويقرأ : { يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ
}
__________
(1) البيت في تفسير الطبري (22/98).
(2) في ت : "لما دل عليه السياق".
(3) في ت : "كقوله".
(4) في ت : "موثوقة".
(5) في ت ، س : "رافعى".
(6) زيادة من ت ، أ.
(7) في ت : " بايعتموه".
(8) في ت : "أنتم".
(9) زيادة من أ.
(6/564)
حتى انتهى
إلى قوله : { وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ
سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ } ، وانطلق رسول الله صلى الله
عليه وسلم لحاجته ، وباتوا رُصَدَاء على بابه ، حتى خرج عليهم بعد ذلك خارج من
الدار ، فقال : ما لكم ؟ قالوا : ننتظر محمدًا. قال قد خرج عليكم ، فما بقي منكم
من رجل إلا [قد] (1) وضع على رأسه ترابا ، ثم ذهب لحاجته. فجعل كل رجل منهم ينفض
ما على رأسه من التراب. قال : وقد بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم قول أبي (2) جهل
فقال : "وأنا أقول ذلك : إن لهم مني لذبحا ، وإنه أحدهم".
وقوله : { وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ } أي : قد ختم الله عليهم بالضلالة ، فما يفيد فيهم الإنذار ولا
يتأثرون به.
وقد تقدم نظيرها في أول سورة البقرة ، (3) وكما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ
عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ
حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [يونس : 96 ، 97].
{ إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ } أي : إنما ينتفع بإنذارك المؤمنون
الذين يتبعون الذكر ، وهو القرآن العظيم ، { وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ } أي : حيث لا
يراه أحد إلا الله ، يعلم أن الله مطلع عليه ، وعالم بما يفعله ، { فَبَشِّرْهُ
بِمَغْفِرَةٍ } أي : لذنوبه ، { وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } أي : كبير واسع حسن جميل ، كما
قال : { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [الملك : 12].
ثم قال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى } أي : يوم القيامة ، وفيه
إشارة إلى أن الله تعالى يحيي قلب مَنْ يشاء من الكفار الذين قد ماتت قلوبهم
بالضلالة ، فيهديهم بعد ذلك إلى الحق ، كما قال تعالى بعد ذكر قسوة القلوب : {
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ
الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [الحديد : 17].
وقوله : { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا } أي : من الأعمال.
وفي قوله : { وَآثَارَهُمْ } قولان :
أحدهما : نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم ، وآثارهم التي أثروها من بعدهم ،
فنجزيهم على ذلك أيضًا ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًّا فشر ، كقوله صلى الله عليه
وسلم : "مَنْ سن في الإسلام سنة حسنة ، كان له أجرها وأجر من عمل (4) بها من
بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا ، ومَنْ سن في الإسلام سنة سيئة ، كان عليه
وزرها ووزرُ مَنْ عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا".
رواه مسلم ، من رواية شعبة ، عن عون بن أبي جُحَيْفة ، عن المنذر بن جرير ، عن
أبيه جرير بن عبد الله البجلي ، رضي الله عنه ، وفيه قصة مُجْتَابِي النَّمَّار المُضريَّين.
(5) ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه ، عن يحيى بن سليمان الجعفي ، عن أبي المحياة يحيى
بن يَعْلَى ، عن عبد الملك بن عمير ، عن جرير بن عبد الله ، فذكر الحديث بطوله ،
ثم تلا هذه الآية : { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ }.
وقد رواه مسلم من رواية أبي عَوَانة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن المنذر بن جرير ،
عن أبيه ، فذكره. (6)
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت : "قول أبا" وهو خطأ.
(3) عند تفسير الآية السادسة.
(4) في أ : "يعمل".
(5) صحيح مسلم برقم (1017).
(6) صحيح مسلم برقم (1017).
(6/565)
وهكذا الحديث
الآخر الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "إذا مات ابن آدم ، انقطع عمله إلا من ثلاث : من علم ينتفع
به ، أو ولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية من بعده". (1)
وقال سفيان الثوري ، عن أبي سعيد قال : سمعت مجاهدًا يقول في قوله : (2) { إِنَّا
نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } قال : ما
أورثوا من الضلالة.
وقال ابن لَهِيعَة ، عن عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير في قوله : { وَنَكْتُبُ
مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } يعني : ما أثروا. يقول : ما سنوا من سنة ، فعمل (3)
بها قوم من بعد موتهم ، فإن كان خيرًا فله مثل أجورهم ، لا ينقص من أجر مَنْ عمله
شيئا ، وإن كانت شرًّا فعليه مثل أوزارهم ، ولا ينقص من أوزار من عمله شيئًا.
ذكرهما ابن أبي حاتم.
وهذا القول هو اختيار البَغَوِيّ. (4)
والقول الثاني : أن المراد بذلك آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية.
قال ابن أبي نَجِيح وغيره ، عن مجاهد : { مَا قَدَّمُوا } : أعمالهم. {
وَآثَارَهُمْ } قال : خطاهم بأرجلهم. وكذا قال الحسن وقتادة : { وَآثَارَهُمْ }
يعني : خطاهم. قال قتادة : لو كان الله تعالى (5) مُغفلا شيئًا من شأنك يا بن آدم
، أغفل ما تعفي الرياح من هذه الآثار ، ولكن أحصى على ابن آدم أثره وعمله كله ،
حتى أحصى هذا الأثر فيما هو من طاعة الله أو من معصيته ، فمن استطاع منكم أن يكتب
أثره في طاعة الله ، فليفعل.
وقد وَرَدَت في هذا المعنى أحاديث :
الحديث الأول : قال (6) الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا أبي ، حدثنا
الجُرَيْري ، عن أبي نَضْرَة ، عن جابر بن عبد الله قال : خلت البقاع حول المسجد ،
فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فقال لهم : "إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد". قالوا : نعم
، يا رسول الله ، قد أردنا ذلك. فقال : "يا بني سلمة ، دياركم تكتب آثاركم ،
دياركم تكتب آثاركم".
وهكذا رواه مسلم ، من حديث سعيد الجريري وكَهْمس بن الحسن ، كلاهما عن أبي نضرة -
واسمه : المنذر بن مالك بن قطْعَة العَبْدِي - عن جابر. (7)
الحديث الثاني : قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن الوزير الواسطي ، حدثنا إسحاق
الأزرق ، عن سفيان الثوري ، عن أبي سفيان ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري قال
: كانت بنو سلَمة في ناحية من المدينة ، فأرادوا أن ينتقلوا إلى قريب من المسجد ،
فنزلت : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا
وَآثَارَهُمْ }
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1631).
(2) في ت : "وعن مجاهد في قوله".
(3) في أ : "يعمل".
(4) معالم التنزيل للبغوي (7/9).
(5) في ت ، س ، أ : "عز وجل".
(6) في ت : "رواه".
(7) المسند (3/332) وصحيح مسلم برقم (665).
(6/566)
فقال لهم
النبي صلى الله عليه وسلم : "إن آثاركم تُكْتبُ". فلم ينتقلوا.
انفرد بإخراجه الترمذي (1) عند تفسير هذه الآية الكريمة ، عن محمد بن الوزير ، به.
(2) ثم قال : "حسن غريب من حديث الثوري". (3)
ورواه ابن جرير ، عن سليمان بن عمر بن خالد الرقي ، عن ابن المبارك ، عن سفيان
الثوري ، عن طريف - وهو ابن شهاب أبو سفيان السعدي - عن أبي نضرة ، به. (4)
وقد رُوِيَ من غير طريق الثوري ، فقال الحافظ أبو بكر البزار :
حدثنا عباد بن زياد الساجي ، حدثنا عثمان بن عمر ، حدثنا شعبة ، عن سعيد الجُرَيري
، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد قال : إن بني سَلَمة شَكوا إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعد منازلهم من المسجد ، فنزلت : { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا
وَآثَارَهُمْ } ، فأقاموا في مكانهم.
وحدثنا ابن المثنى (5) ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا الجريري ، عن أبي نضرة ، عن أبي
سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه.
وفيه غرابة من حيث ذكْرُ نزول هذه الآية ، والسورة بكمالها مكية ، فالله أعلم.
الحديث الثالث : قال ابن جرير :
حدثنا نصر بن علي الجَهْضَمِي ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا إسرائيل ، عن
سِمَاك ، عن عِكْرِمَة ، عن (6) ابن عباس قال : كانت منازل الأنصار متباعدة من
المسجد ، فأرادوا أن ينتقلوا إلى المسجد ، فنزلت : { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا
وَآثَارَهُمْ } فقالوا : نثبت مكاننا. هكذا رواه وليس فيه شيء مرفوع. (7)
ورواه الطبراني عن عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم ، عن محمد بن يوسف
الفريابي ، عن إسرائيل ، عن سِمَاك ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كانت
الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد ، فأرادوا أن يتحولوا إلى المسجد ، فنزلت : {
وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } فثبتوا في منازلهم. (8)
الحديث الرابع : قال (9) الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، حدثني
حُيَيّ بن عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي ، عن عبد الله بن عمرو قال :
توفي رجل بالمدينة ، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : "يا ليته مات
في غير مولده". فقال رجل من الناس ولم يا رسول الله ؟ فقال رسول الله (10)
صلى الله عليه وسلم : "إن الرجل إذا توفي في غير مولده ، قِيس له من مولده
إلى منقطع أثره
__________
(1) في أ : "مسلم".
(2) سنن الترمذي برقم (3226).
(3) في ت : "أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن غريب".
(4) تفسير الطبري (22/100).
(5) في س ، أ : "وحدثناه محمد بن المثني".
(6) في ت : "رواه ابن جرير بإسناده إلى".
(7) تفسير الطبري (22/100).
(8) المعجم الكبير (12/8) وشيخه عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم ضعيف.
(9) في ت : "رواه".
(10) في ت ، س : "النبي".
(6/567)
في
الجنة".
ورواه النسائي عن يونس بن عبد الأعلى ، وابن ماجه عن حرملة ، كلاهما عن ابن وهب ،
عن حيي بن (1) عبد الله ، به. (2)
وقال (3) ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا أبو تُمَيْلَةَ ، حدثنا الحسين ، عن
ثابت قال : مشيت مع أنس فأسرعت المشي ، فأخذ بيدي فمشينا رويدًا ، فلما قضينا
الصلاة قال أنس : مشيت مع زيد بن ثابت فأسرعت المشي ، فقال : يا أنس ، أما
شَعَرْتَ أن الآثار تكتب ؟ أما شَعَرْتَ أن الآثار تكتب ؟ (4).
وهذا القول لا تنافي بينه وبين الأول ، بل في هذا تنبيه ودلالة على ذلك (5) بطريق
الأولى والأحرى ، فإنه إذا كانت هذه الآثار تُكتَب ، فلأن تُكْتَبَ تلك التي فيها
قُدوة بهم من خير أو شر بطريق الأولى ، والله أعلم.
وقوله : { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } أي : جميع الكائنات
مكتوب في كتاب مسطور مضبوط في لوح محفوظ ، والإمام المبين هاهنا هو أم الكتاب.
قاله مجاهد ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وكذا في قوله تعالى : {
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } [الإسراء : 71] أي : بكتاب أعمالهم
الشاهد عليهم بما عملوه من خير و شر ، كما قال تعالى : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ
وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ } [الزمر : 69] ، وقال تعالى : { وَوُضِعَ
الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا
وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا
أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا }
[الكهف : 49].
__________
(1) في أ : "عن".
(2) المسند (2/177) وسنن النسائي (4/7) وسنن ابن ماجه برقم (1614).
(3) في ت : "وروى".
(4) تفسير الطبري (22/100).
(5) في أ : "ذاك".
(6/568)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)
{ وَاضْرِبْ
لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ
أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ
فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ
مِثْلُنَا وَمَا أَنزلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ
(15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا
عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) }.
يقول تعالى : واضرب - يا محمد - لقومك الذين كذبوك { مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ
إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ }.
قال ابن إسحاق - فيما بلغه عن ابن عباس ، وكعب الأحبار ، ووهب بن منبه - : إنها
مدينة أنطاكية ، وكان بها ملك يقال له : أنطيخس بن أنطيخس بن أنطيخس ، وكان يعبد
الأصنام ، فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل ، وهم : صادق وصدوق وشلوم ، (1) فكذبهم.
__________
(1) في ت : "وشكوم".
(6/568)
قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
وهكذا رُوي
عن بُرَيدة بن الحُصَيب ، وعِكْرِمَة ، وقتادة ، والزهري : أنها أنطاكية.
وقد استشكل بعض الأئمة كونَها أنطاكية ، بما سنذكره بعد تمام القصة ، إن شاء الله
تعالى.
وقوله : { إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا } أي : بادروهما
بالتكذيب ، { فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } أي : قويناهما (1) وشددنا أزرهما برسول
ثالث.
قال ابن جُرَيْج ، عن وهب بن سليمان ، عن شعيب الجبائي قال : كان اسم الرسولين
الأولين شمعون ويوحنا ، واسم الثالث بولص ، والقرية أنطاكية.
{ فَقَالُوا } أي : لأهل تلك القرية : { إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ } أي : من
ربكم الذي خلقكم ، نأمركم بعبادته وحده لا شريك له. قاله أبو العالية.
وزعم قتادة بن دعامة : أنهم كانوا رسل المسيح ، عليه السلام ، إلى أهل أنطاكية. {
قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا } أي : فكيف أوحيَ إليكم وأنتم بشر
ونحن بشر ، فلم لا أوحيَ إلينا مثلكم ؟ ولو كنتم رسلا لكنتم ملائكة. وهذه شبه (2)
كثير من الأمم المكذبة ، كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُ
كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا
} [التغابن : 6] ، فاستعجبوا (3) من ذلك وأنكروه. وقوله : { قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ
إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا
فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } [إبراهيم : 10]. وقوله حكاية عنهم في قوله : {
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ } [المؤمنون
: 34] ، { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا
أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا } ؟ [الإسراء : 94]. ولهذا قال
هؤلاء : { مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزلَ الرَّحْمَنُ مِنْ
شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا
إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } أي : أجابتهم رسلهم الثلاثة قائلين : الله يعلم أنا
رسله إليكم ، ولو كنا كَذَبة عليه لانتقم منا أشد الانتقام ، ولكنه سيعزنا وينصرنا
عليكم ، وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار ، كقوله تعالى : { قُلْ كَفَى بِاللَّهِ
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالَّذِينَ
آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
[العنكبوت : 52]. (4)
{ وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } يقولون إنما علينا أن نبلغكم ما
أرسلنا به إليكم ، فإذا أطعتم كانت لكم السعادة في الدنيا والآخرة ، وإن لم تجيبوا
فستعلمون غِبَّ ذلك ، والله أعلم.
{ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ
وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ
أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) }
فعند ذلك قال لهم أهل القرية : { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } أي : لم نرَ على
وجوهكم خيرًا في عيشنا.
وقال قتادة : يقولون إن أصابنا شر فإنما هو من أجلكم.
وقال مجاهد : يقولون : لم يدخل مثلكم إلى قرية إلا عذب أهلها.
{ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ } : قال قتادة : بالحجارة. وقال مجاهد
: بالشتم.
__________
(1) في ت : "قويناهما بثالث".
(2) في ت ، س : "شبهة".
(3) في ت ، س : "أي استعجبوا".
(4) في ت ، س ، أ ، هـ : "يعلم ما في السموات وما في الأرض" والصواب ما
أثبتناه.
(6/569)
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)
{
وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : عقوبة شديدة. فقالت لهم رسلهم :
{ طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } أي : مردود عليكم ، كقوله تعالى في قوم فرعون : {
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ
اللَّهِ } [الأعراف : 131] ، وقال قوم صالح : (1) { اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ
مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ } [النمل : 47]. وقال قتادة ، ووهب بن
منبه : أي أعمالكم معكم. وقال تعالى : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا
هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ
عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا
يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } [النساء : 78].
وقوله : { أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ } أي : من أجل أنا
ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد الله وإخلاص العبادة له ، قابلتمونا بهذا الكلام ،
وتوعدتمونا وتهددتمونا ؟ بل أنتم قوم مسرفون.
وقال قتادة : أي إن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا ، بل أنتم قوم مسرفون.
{ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا
الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ
(21) وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ
عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ
مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) }.
قال ابن إسحاق - فيما بلغه عن ابن عباس وكعب الأحبار ووهب بن منبه - : إن أهل
القرية هَمّوا بقتل رسلهم فجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى ، أي : لينصرهم من قومه
- قالوا : وهو حبيب ، وكان يعمل الجرير - وهو (2) الحبال - وكان رجلا سقيما (3) قد
أسرع فيه الجذام ، وكان كثير الصدقة ، يتصدق بنصف كسبه ، مستقيم النظرة. (4)
وقال ابن إسحاق عن رجل سماه ، عن الحكم ، عن مِقْسَم - أو : عن مجاهد - عن ابن
عباس قال : [كان] (5) اسم صاحب يس حبيب ، وكان الجذام قد أسرع فيه.
وقال الثوري ، عن عاصم الأحول ، عن أبي مجْلَز : كان اسمه حبيب بن مري.
وقال شبيب بن بشر ، (6) عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس [أيضا] (7) قال : اسم صاحب يس
حبيب النجار ، فقتله قومه.
وقال السدي : كان قَصَّارا. وقال عمر بن الحكم : كان إسكافا. وقال قتادة : كان
يتعبد في غار هناك.
{ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ } : يحض قومه على اتباع الرسل الذين
أتوهم ، { اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا } أي : على إبلاغ الرسالة ، {
وَهُمْ مُهْتَدُونَ } فيما يدعونكم إليه ، من عبادة الله وحده لا شريك له.
__________
(1) في ت ، س : "لوط" وفي أ : "شعيب".
(2) في ت ، س ، أ : "يعنى".
(3) في أ : "مستقيما".
(4) في أ : "الفطرة".
(5) زيادة من ت ، س.
(6) في أ : "بشير".
(7) زيادة من ت.
(6/570)
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
{ وَمَا
لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي } أي : وما يمنعني من إخلاص العبادة للذي
خلقني وحده لا شريك له ، { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي : يوم المعاد ، فيجازيكم
على أعمالكم ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًّا فشر.
{ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً } ؟ استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع ، { إِنْ
يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا
يُنْقِذُونِ } أي : هذه الآلهة التي تعبدونها من دونه لا يملكون من الأمر شيئا.
فإن الله لو أرادني بسوء ، { فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ } [يونس : 107] وهذه
الأصنام لا تملك دفع ذلك ولا منعه ، ولا ينقذونني مما أنا فيه ، { إِنِّي إِذًا
لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي : إن اتخذتها آلهة من دون الله.
وقوله : { إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } : قال ابن إسحاق - فيما بلغه
عن ابن عباس وكعب ووهب - يقول لقومه : { إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ } الذي كفرتم
به ، { فَاسْمَعُونِ } أي : فاسمعوا قولي.
ويحتمل أن يكون خطابه للرسل بقوله : { إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ } أي : الذي
أرسلكم ، { فَاسْمَعُونِ } أي : فاشهدوا لي بذلك عنده. وقد حكاه ابن جرير فقال :
وقال آخرون : بل خاطب بذلك الرسل ، وقال لهم : اسمعوا قولي ، لتشهدوا لي بما أقول
لكم عند ربي ، إني [قد] (1) آمنت بربكم واتبعتكم. (2)
وهذا [القول] (3) الذي حكاه هؤلاء أظهر في المعنى ، والله أعلم.
قال ابن إسحاق - فيما بلغه عن ابن عباس وكعب ووهب - : فلما قال ذلك وثبوا عليه
وثبة رجل واحد فقتلوه ، ولم يكن له أحد يمنع عنه.
وقال قتادة : جعلوا يرجمونه بالحجارة ، وهو يقول : "اللهم اهد قومي ، فإنهم
لا يعلمون". فلم يزالوا به حتى أقعصوه وهو يقول كذلك ، فقتلوه ، رحمه الله.
{ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا
غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) }
__________
(1) زيادة من ت.
(2) تفسير الطبري (22/104).
(3) زيادة من ت.
(6/571)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)
{ وَمَا
أَنزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا
مُنزلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ
(29) }.
قال محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن ابن مسعود : إنهم وطئوه بأرجلهم حتى خرج
قُصْبُه من دبره وقال الله له : { ادْخُلِ الْجَنَّةَ } ، فدخلها فهو يرزق منها ،
قد أذهب الله عنه سُقْم الدنيا وحزنها ونَصَبها.
وقال مجاهد : قيل لحبيب النجار : ادخل الجنة. وذلك أنه قُتل فوجبت له (1) ، فلما
رأى الثواب { قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ }.
قال قتادة : لا تلقى المؤمن إلا ناصحا ، لا تلقاه غاشا ؛ لَمَّا عاين [ما عاين]
(2) من كرامة الله
__________
(1) في ت ، س ، أ : "له الجنة".
(2) زيادة من ت ، أ.
(6/571)
{ قَالَ يَا
لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ
الْمُكْرَمِينَ }. تمنى على الله أن يعلم قومه ما عاين من كرامة الله [له] ، (1)
وما هجم عليه.
وقال ابن عباس : نصح قومه في حياته بقوله : { يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا
الْمُرْسَلِينَ } [يس : 20] ، وبعد مماته في قوله : { يَا لَيْتَ قَوْمِي
يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ } رواه
ابن أبي حاتم.
وقال سفيان الثوري ، عن عاصم الأحول ، عن أبي مِجْلَز : { بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي
وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ } بإيماني بربي وتصديقي المرسلين.
ومقصوده أنهم لو اطلعوا على ما حصل من هذا الثواب والجزاء والنعيم المقيم ، لقادهم
ذلك إلى اتباع الرسل ، فرحمه الله ورضي عنه ، فلقد كان حريصا على هداية قومه.
قال (2) ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عبيد الله ، حدثنا ابن جابر -
وهو محمد - عن (3) عبد الملك - يعني : ابن عمير - قال : قال عروة بن مسعود الثقفي
للنبي صلى الله عليه وسلم : ابعثني إلى قومي أدعوهم إلى الإسلام. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "إني أخاف أن يقتلوك". فقال : لو وجدوني نائما ما
أيقظوني. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "انطلق". فانطلق فمر
على اللات والعزى ، فقال : لأصبحَنَّك غدًا بما يسوءك. فغضبت ثقيف ، فقال : يا
معشر ثقيف ، إن اللات لا لات ، وإن العُزى لا عُزى ، أسلموا تسلموا. يا معشر
الأحلاف ، إن العزى لا عزى ، وإن اللات لا لات ، أسلموا تسلموا. قال ذلك ثلاث مرات
، فرماه رجل فأصاب أكْحَله فقتله ، فبلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال :
"هذا مثله كمثل صاحب يس ، { قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا
غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ } (4)
وقال محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن مَعْمَر بن حَزْم : أنه حدث عن
كعب الأحبار : أنه ذكر له حبيب بن زيد بن عاصم - أخو بني مازن بن النجار - الذي
كان مسيلمة الكذاب قَطَّعه باليمامة ، حين جعل يسأله عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، فجعل يقول : أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ فيقول : نعم. ثم يقول : أتشهد أني
رسول الله ؟ فيقول : لا أسمع. فيقول له مسيلمة : أتسمع هذا ولا تسمع ذاك ؟ فيقول :
نعم. فجعل يُقَطِّعه عضوا عضوا ، كلما سأله لم يزده على ذلك حتى مات في يديه. فقال
كعب حين قيل له : اسمه حبيب ، وكان والله صاحب يس اسمه حبيب. (5)
وقوله : { وَمَا أَنزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ
السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزلِينَ } : يخبر تعالى أنه انتقم من قومه بعد قتلهم
إياه ، غضبًا منه تعالى عليهم ؛ لأنهم كذبوا رسله ، وقتلوا وليه. ويذكر تعالى :
أنه ما أنزل عليهم ، وما احتاج في إهلاكه إياهم إلى إنزال جند من الملائكة عليهم ،
بل الأمر كان أيسر من ذلك. قاله ابن مسعود ، فيما رواه ابن إسحاق ، عن بعض أصحابه
، عنه أنه قال في قوله : { وَمَا أَنزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ
جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزلِينَ } أي : ما كاثرناهم بالجموع الأمر
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت : "روى".
(3) في أ : "بن".
(4) ورواه الحاكم في المستدرك (3/615) والطبراني في المعجم الكبير (17/148) من
طريق ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة بن الزبير ، بنحوه. ورواه الطبراني في
المعجم الكبير (17/148) من طريق موسى بن عقبة ، عن الزهري ، بنحوه. وقال الهيثمى
في المجمع (9/386) : "وكلاهما مرسل ، وإسنادهما حسن".
(5) رواه الطبري في تفسيره (22/103).
(6/572)
كان أيسر
علينا من ذلك ، { إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ }
قال : فأهلك الله ذلك الملك ، وأهلك أهل أنطاكية ، فبادوا عن وجه الأرض ، فلم يبق
(1) منهم باقية.
وقيل : { وَمَا كُنَّا مُنزلِينَ } أي : وما كنا ننزل الملائكة على الأمم إذا
أهلكناهم ، بل نبعث عليهم عذابًا يدمرهم.
وقيل : المعنى في قوله : { وَمَا أَنزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ
جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ } أي : من رسالة أخرى إليهم. قاله مجاهد وقتادة. قال قتادة
: فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله ، { إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً
فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ }.
قال ابن جرير : والأول أصح ؛ لأن الرسالة لا تسمى جندًا.
قال المفسرون : بعث الله إليهم جبريل ، عليه السلام ، فأخذ بعضادتي باب بلدهم ، ثم
صاح بهم صيحة واحدة فإذا هم خامدون عن آخرهم ، لم يبق فيهم روح تتردد في جسد.
وقد تقدم عن كثير من السلف أن هذه القرية هي أنطاكية ، وأن هؤلاء الثلاثة كانوا
رسلا من عند المسيح ، عليه السلام ، كما نص عليه قتادة وغيره ، وهو الذي لم يذكر
عن (2) واحد من متأخري المفسرين غيره ، وفي ذلك نظر من وجوه :
أحدها : أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله ، عز وجل ، لا من جهة
المسيح ، كما قال تعالى : { إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ
فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ
} إلى أن قالوا : { رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا
عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } [يس : 14 - 17]. ولو كان هؤلاء من
الحواريين لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح ، عليه السلام ، والله أعلم. ثم
لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم : { مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا } [يس
: 15].
الثاني : أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم ، وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح
؛ ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأربعة اللاتي فيهن بتَاركة ، وهن القدس
لأنها بلد المسيح ، وأنطاكية لأنها أول بلدة آمنت بالمسيح عن آخر أهلها ،
والإسكندرية لأن فيها (3) اصطلحوا على اتخاذ البتاركة والمطارنة والأساقفة
والقساوسة (4) والشمامسة والرهابين. ثم رومية لأنها مدينة الملك قسطنطين الذي نصر
دينهم وأطَّدَه. ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البترك من رومية إليها ، كما ذكره
غير واحد ممن ذكر تواريخهم كسعيد بن بطريق وغيره من أهل الكتاب والمسلمين ، فإذا
تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت ، فأهل هذه القرية قد ذكر الله تعالى أنهم كذبوا
رسله (5) ، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم (6) ، فالله أعلم.
الثالث : أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة ، وقد ذكر
أبو سعيد الخدري وغير واحد من السلف : أن الله تعالى بعد إنزاله التوراة لم يهلك
أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم ، بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال
المشركين ، ذكروه عند قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ
بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى } [القصص : 43]. فعلى هذا يتعين أن هذه
القرية
__________
(1) في س : "تبق".
(2) في أ : "غير"
(3) في ت ، س : "منها".
(4) في ت ، س : "القساقسة".
(5) في ت : "رسلهم".
(6) في ت ، س : "أخذتهم".
(6/573)
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
المذكورة في
القرآن [العظيم] (1) قرية أخرى غير أنطاكية ، كما أطلق ذلك غير واحد من السلف
أيضا. أو تكون أنطاكية إن كان لفظها محفوظا في هذه القصة مدينة أخرى غير هذه
المشهورة المعروفة ، فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية ولا قبل
ذلك ، والله ، سبحانه وتعالى ، أعلم.
فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا الحسين بن إسحاق
التُّسْتري ، حدثنا الحسين بن أبي السري العسقلاني ، حدثنا حُسَين الأشقر ، حدثنا
ابن عُيَيْنة ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن (2) ابن عباس ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : "السُّبَّق ثلاثة : فالسابق إلى موسى يوشع بن نون ،
والسابق إلى عيسى صاحب يس ، والسابق إلى محمد علي بن أبي طالب" ، (3) فإنه
حديث منكر ، لا يعرف إلا من طريق (4) حسين الأشقر ، وهو شيعي متروك ، [والله
أعلم]. (5)
{ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ
أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا
مُحْضَرُونَ (32) }
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ }
أي : يا ويل العباد.
وقال قتادة : { يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ } : أي يا حسرة العباد على أنفسها ،
على ما ضيعت من أمر الله ، فرطت في جنب الله. قال : وفي بعض القراءة : "يا
حسرة (6) العباد على أنفسها".
ومعنى هذا : يا حسرتهم وندامتهم يوم القيامة إذا عاينوا العذاب ، كيف كذبوا رسل
الله ، وخالفوا أمر الله ، فإنهم كانوا في الدار الدنيا المكذبون منهم.
{ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي : يكذبونه
ويستهزئون به ، ويجحدون ما أرسل به من الحق.
ثم قال تعالى : { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ
أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ } أي : ألم يتعظوا بمن أهلك الله قبلهم من
المكذبين للرسل ، كيف لم تكن لهم إلى هذه الدنيا كرة ولا رجعة ، ولم يكن الأمر كما
زعم كثير من جهلتهم وفَجَرتهم من (7) قولهم : { إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا
الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا } [المؤمنون : 37] ، وهم القائلون بالدور من الدهرية
، وهم الذين يعتقدون جهلا منهم أنهم يعودون إلى الدنيا كما كانوا فيها ، فرد الله
تعالى عليهم باطلهم ، فقال : { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ
الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ }.
وقوله : { وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ } أي : وإن جميع
الأمم الماضية والآتية ستحضر
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت : "رواه الحافظ الطبراني بإسناده إلى".
(3) المعجم الكبير (11/93) ورواه ابن مردويه في تفسيره ، والعقيلي في الضعفاء كما
في تخريج الكشاف للزيلعي (3/162) من طريق حسين الأشقر ، به ، وأعله العقيلي بحسين
الأشعري كما ذكر الحافظ ابن كثير هنا وقال : "إنه شيعي متروك ولا يعرف هذا
إلا من جهته ، وهو حديث منكر".
(4) في أ : "حديث".
(5) زيادة من ت ، س.
(6) في ت ، س ، أ : "حسرة على".
(7) في أ : "مثل".
(6/574)
وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
للحساب يوم
القيام بين يدي الله ، عز وجل ، فيجازيهم بأعمالهم كلها خيرها وشرها ، ومعنى هذه
كقوله تعالى : { وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ }
[هود : 111].
وقد اختلف القراء في أداء هذا الحرف ؛ فمنهم مَنْ قرأ : "وَإن كل لَمَا"
بالتخفيف ، فعنده أن "إن" للإثبات ، ومنهم مَنْ شدد "لَمَّا"
، وجعل "إن" نافية ، و "لمَّا" بمعنى "إلا" تقديره
: وما كل إلا جميع لدينا محضرون ، ومعنى القراءتين واحد ، والله أعلم.
{ وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا
حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ
وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ
وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ
الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا
يَعْلَمُونَ (36) }.
يقول تعالى : { وَآيَةٌ لَهُمُ } أي : دلالة لهم على وجود الصانع وقدرته التامة
وإحيائه الموتى { الأرْضُ الْمَيْتَةُ } أي : إذا كانت ميتة هامدة لا شيء فيها من
النبات ، فإذا أنزل الله عليها الماء اهتزت وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج ؛ ولهذا
قال : { أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } أي :
جعلناه رزقا لهم ولأنعامهم ، { وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ
وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ } أي : جعلنا فيها أنهارًا سارحة
في أمكنة ، يحتاجون إليها ليأكلوا من ثمره. لما امتن على خلقه بإيجاد الزروع لهم
عَطَف بذكر الثمار وتنوعها وأصنافها.
وقوله : { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } أي : وما ذاك كله إلا من رحمة الله بهم
، لا بسعيهم ولا كدهم ، ولا بحولهم وقوتهم. قاله ابن عباس وقتادة ؛ ولهذا قال : {
أَفَلا يَشْكُرُونَ } ؟ أي : فهلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم من هذه النعم التي
لا تعد ولا تحصى ؟ واختار ابن جرير - بل جزم به ، ولم يحك غيره إلا احتمالا - أن
"ما" في قوله : { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } بمعنى :
"الذي" ، تقديره : ليأكلوا من ثمره ومما عملته أيديهم ، أي : غرسوه
ونصبوه ، قال : وهي كذلك في قراءة ابن مسعود { لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا
عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ }.
ثم قال : { سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ
} أي : من زروع وثمار ونبات. { وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ } فجعلهم ذكرًا وأنثى ، {
وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ } أي : من مخلوقات شتى لا يعرفونها ، كما قال تعالى : {
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الذاريات :
49].
{ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
(38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ
(39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ
سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) }
يقول تعالى : ومن الدلالة لهم على قدرته تعالى العظيمة خلق الليل والنهار ، هذا
بظلامه وهذا
(6/575)
بضيائه ،
وجعلهما يتعاقبان ، يجيء هذا فيذهب هذا ، ويذهب هذا فيجيء هذا ، كما قال : {
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } [الأعراف : 54] ؛ ولهذا قال
عز وجل هاهنا : { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ } أي :
نصرمه منه فيذهب ، فيقبل الليل ؛ ولهذا قال : { فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ } كما
جاء في الحديث : "إذا أقبل الليل من هاهنا ، وأدبر النهار من هاهنا ، وغربت
الشمس ، فقد أفطر الصائم". (1)
هذا هو الظاهر من الآية ، وزعم قتادة أنها كقوله تعالى : { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي
النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } [الحج : 61] وقد ضعف ابن جرير
قولَ قتادة هاهنا ، وقال : إنما معنى الإيلاج : الأخذ من هذا في هذا ، وليس هذا
مرادًا في هذه الآية. وهذا الذي قاله ابن جرير حق.
وقوله : { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ } ، في معنى قوله : { لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا } قولان :
أحدهما : أن المراد : مستقرها المكاني ، وهو تحت العرش مما يلي الأرض في ذلك
الجانب ، وهي أينما كانت فهي تحت العرش وجميع المخلوقات ؛ لأنه سقفها ، وليس بكرة
كما يزعمه كثير من أرباب الهيئة ، وإنما هو قبة ذات قوائم تحمله الملائكة ، وهو
فوق العالم مما يلي رؤوس الناس ، فالشمس إذا كانت في قبة الفلك وقت الظهيرة تكون
أقرب ما تكون من العرش ، فإذا استدارت في فلكها الرابع إلى مقابلة هذا المقام ،
وهو وقت نصف الليل ، صارت أبعد ما تكون من العرش ، فحينئذ تسجد وتستأذن في الطلوع
، كما جاءت بذلك الأحاديث.
قال البخاري : حدثنا أبو نُعَيْم ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم [التيمي] ، (2) عن
أبيه ، عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في
المسجد عند غروب الشمس ، فقال : "يا أبا ذر ، أتدري أين تغربُ الشمس ؟"
قلت : الله ورسوله أعلم. قال : "فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش ، فذلك قوله :
{ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ }.
حدثنا عبد الله بن الزبير الحُميديّ ، حدثنا وَكِيع عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن
أبيه ، عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : {
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا } ، قال : "مستقرها تحت
العرش". (3)
كذا أورده هاهنا. وقد أخرجه في أماكن متعددة (4) ، ورواه بقية الجماعة إلا ابن
ماجه ، من طرق ، عن الأعمش ، به. (5)
وقال (6) الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ،
عن أبيه ، عن أبي ذر قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد حين
وجبت الشمس ، فقال : "يا أبا ذر ، أتدري أين تذهب الشمس ؟" قلت : الله
ورسوله أعلم. قال : "فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (1954) ومسلم في صحيحه برقم (1100) من حديث عمر
رضي الله عنه.
(2) زيادة من ت ، س ، أ.
(3) صحيح البخاري برقم (4802 ، 4803).
(4) صحيح البخاري برقم (3199 ، 7424 ، 7433).
(5) صحيح مسلم برقم (159) وسنن أبي داود برقم (4002) وسنن الترمذي برقم (3227)
والنسائي في السنن الكبرى برقم (11430).
(6) في ت : "وروى".
(6/576)
ربها عز وجل
، فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها ، وكأنها قد قيل لها : ارجعي من حيث جئت. فترجع إلى
مطلعها ، وذلك مستقرها ، ثم قرأ : { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا }
(1)
وقال سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن أبي ذر ، رضي
الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس :
"أتدري أين هذا ؟" قلت : الله ورسوله أعلم. قال : "فإنها تذهب حتى
تسجد تحت العرش ، فتستأذن فيؤذن لها ، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها ، وتستأذن فلا
يؤذن لها ، ويقال لها : ارجعي من حيث جئت. فتطلع من مغربها ، فذلك قوله : {
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
} (2).
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن أبي إسحاق ، عن وهب بن جابر ، عن عبد الله
بن عمرو قال في قوله : { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا } ، قال : إن
الشمس تطلع فتردها ذنوب بني آدم ، حتى إذا غربت سلَّمت وسجدت واستأذنت فيؤذن لها ،
حتى إذا كان يوم غربت فسلمت وسجدت ، واستأذنت فلا يؤذن لها ، فتقول : إن المسير
بعيد وإني إلا يؤذن لي لا أبلغ ، فتحبس ما شاء الله أن تحبس ، ثم يقال لها :
"اطلعي من حيث غربت". قال : "فمن يومئذ إلى يوم القيامة لا ينفع
نفسًا إيمانها ، لم تكن آمنت من قبل ، أو كسبت في إيمانها خيرًا". (3)
وقيل : المراد بقوله : { لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا } هو انتهاء سيرها وهو غاية ارتفاعها
في السماء في الصيف وهو أوجها ، ثم غاية انخفاضها في الشتاء وهو الحضيض.
والقول الثاني : أن المراد بمستقرها هو : منتهى سيرها ، وهو يوم القيامة ، يبطل
سيرها وتسكن حركتها وتكور ، وينتهي هذا العالم إلى غايته ، وهذا هو مستقرها
الزماني.
قال قتادة : { لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا } أي : لوقتها ولأجل لا تعدوه.
وقيل : المراد : أنها لا تزال تنتقل في مطالعها الصيفية إلى مدة لا تزيد عليها ،
يروى هذا عن عبد الله بن عمرو.
وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس : "وَالشَّمْسُ تَجْرِي لا مُسْتَقَرَّ
لَهَا" أي : لا قرار لها ولا سكون ، بل هي سائرة ليلا ونهارًا ، لا تفتر ولا
تقف. كما قال تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ }
[إبراهيم : 33] أي : لا يفتران ولا يقفان إلى يوم القيامة.
{ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ } أي : الذي لا يخالَف ولا يُمانَع ، { الْعَلِيم }
بجميع الحركات والسكنات ، وقد قدر ذلك وقَنَّنَه على منوال لا اختلاف فيه ولا
تعاكس ، كما قال تعالى : { فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }
[الأنعام : 96]. وهكذا ختم آية (4) حم السجدة" بقوله : { ذَلِكَ تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [فصلت : 12]. ثم قال : { وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ
مَنَازِلَ } أي : جعلناه يسير سيرًا آخر يستدل به على مضي الشهور ، كما أن
__________
(1) المسند (5/152).
(2) في ت : "واسالنا"
(3) تفسير عبد الرزاق (2/115) ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (628) من طريق عبد
الرزاق.
(4) في ت : "ختم آخر آية".
(6/577)
الشمس يعرف
بها الليل والنهار ، كما قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ
مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } [البقرة : 189] ، وقال { هُوَ الَّذِي جَعَلَ
الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } الآية [يونس : 5] ، وقال : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ
مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ
وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا } [الإسراء : 12] ، فجعل
الشمس لها ضوء يخصها ، والقمر (1) له نور يخصه ، وفاوت بين سير هذه وهذا ، فالشمس
تطلع كل يوم وتغرب في آخره على ضوء واحد ، ولكن تنتقل في مطالعها ومغاربها صيفًا
وشتاء ، يطول بسبب ذلك النهار ويقصر الليل ، ثم يطول الليل ويقصر النهار ، وجعل
سلطانها بالنهار ، فهي كوكب نهاري. وأما القمر ، فقدره منازل ، يطلع في أول ليلة
من الشهر ضئيلا قليل النور ، ثم يزداد نورًا في الليلة الثانية ، ويرتفع (2) منزلة
، ثم كلما ارتفع ازداد ضياء ، وإن كان مقتبسًا من الشمس ، حتى يتكامل نوره (3) في
الليلة الرابعة عشرة ، ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر ، حتى يصير كالعرجون
القديم.
قال ابن عباس : وهو أصل العِذْق.
وقال مجاهد : العرجون القديم : أي العذق اليابس.
يعني ابن عباس : أصل العنقود من الرطب إذا عتق ويبس وانحنى ، وكذا قال غيرهما. ثم
بعد هذا يبديه الله جديدًا في أول الشهر الآخر ، والعرب تسمي كل ثلاث (4) ليال من
الشهر باسم باعتبار القمر ، فيسمون الثلاث الأول "غُرَر" واللواتي بعدها
"نفل" ، واللواتي بعدها "تُسع" ؛ لأن أخراهن التاسعة ،
واللواتي بعدها "عُشَر" ؛ لأن أولاهن العاشرة ، واللواتي بعدها
"البيض" ؛ لأن ضوء القمر فيهن إلى آخرهن ، واللواتي بعدهن
"دُرَع" جمع دَرْعاء ؛ لأن أولهن سُود (5) ؛ لتأخر القمر في أولهن ،
ومنه الشاة الدرعاء وهي التي رأسها أسود. وبعدهن ثلاث "ظُلم" ثم ثلاث
"حَنَادس" ، وثلاث "دآدئ" (6) وثلاث "مَحاق" ؛
لانمحاق القمر أواخر الشهر فيهن. وكان أبو عُبيد (7) ينكر التُّسع والعشَر. كذا
قال في كتاب "غريب المصنف".
وقوله : { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ } : قال مجاهد :
لكل منهما حد لا يعدوه ولا يقصر دونه ، إذا جاء سلطان هذا ذهب هذا ، وإذا ذهب
سلطان هذا جاء سلطان هذا.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن الحسن في قوله : { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي
لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ } قال : ذلك ليلة الهلال.
وروى ابن أبي حاتم هاهنا عن عبد الله بن المبارك أنه قال : إن للريح جناحًا ، وإن
القمر يأوي إلى غلاف من الماء.
وقال الثوري ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي (8) صالح : لا يدرك هذا ضوء هذا ،
ولا هذا ضوء هذا. (9)
__________
(1) في س : "وللقمر".
(2) في ت : "فترتفع".
(3) في أ : "ضوؤه".
(4) في ت : "ثلاثه" وهو خطأ.
(5) في ت ، أ : "أسود".
(6) في أ : "درارى".
(7) في أ : "أبو عبيدة".
(8) في ت ، س : "أبو".
(9) في س : "لا يدرك هذا ضر هذا ولا هذا ضر هذا".
(6/578)
وقال عكرمة
في قوله (1) { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ } : يعني :
أن لكل منهما سلطانا ، فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل.
وقوله : { وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ } : يقول : لا ينبغي إذا كان الليلُ
أن يكون ليل آخر حتى يكون النهار ، فسلطان الشمس بالنهار ، وسلطان القمر بالليل.
وقال الضحاك : لا يذهب الليل من هاهنا حتى يجيء النهار من هاهنا. وأومأ بيده إلى
المشرق.
وقال مجاهد : { وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ } يطلبان حثيثين ، ينسلخ أحدهما
من الآخر.
والمعنى في هذا : أنه لا فترة بين الليل والنهار ، بل كل منهما يعقب الآخر بلا
مهلة ولا تراخ ؛ لأنهما مسخران دائبين يتطالبان طلبا حثِيثًا.
وقوله : { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } يعني : الليل والنهار ، والشمس والقمر
، كلهم يسبحون ، أي : يدورون في فلك السماء. قاله ابن عباس ، وعِكْرِمة ، والضحاك
، والحسن ، وقتادة ، وعطاء الخراساني. (2)
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : في فلك بين السماء والأرض. رواه ابن أبي حاتم ،
وهو غريب جدًّا ، بل منكر.
قال ابن عباس وغير واحد من السلف : في فَلْكَةٍ كفَلْكَة المغْزَل.
وقال مجاهد : الفَلَك كحديد الرَّحَى ، أو كفلكة المغزل ، لا يدور المغزل إلا بها
، ولا تدور إلا به.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت : "قاله ابن عباس وغيره".
(6/579)
وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
{ وَآيَةٌ
لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)
وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ
نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلا رَحْمَةً
مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) }
يقول تعالى : ودلالة لهم أيضًا على قدرته تعالى : تسخيره البحر ليحمل (1) السفن ،
فمن ذلك - بل أوله - سفينة نوح ، عليه السلام ، التي أنجاه الله تعالى فيها بمن
معه من المؤمنين ، الذين لم يبق على وجه الأرض من ذرية آدم غيرهم ؛ ولهذا قال : {
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ } أي : آباءهم ، { فِي الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ } أي : في السفينة [الموقرة] (2) المملوءة من الأمتعة والحيوانات ،
التي أمره الله أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين.
قال ابن عباس : المشحون : المُوقَر. وكذا قال سعيد بن جبير ، والشعبي ، وقتادة ،
[والضحاك] (3) والسدي.
وقال الضحاك ، وقتادة ، وابن زيد : وهي سفينة نوح ، عليه السلام.
وقوله : { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } : قال العَوْفي ،
عن ابن عباس : يعني بذلك : الإبل ، فإنها سفن البر يحملون عليها ويركبونها. وكذا
قال عكرمة ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة - في رواية - عبد الله بن شَداد ، وغيرهم.
(4)
وقال السدي - في رواية - : هي الأنعام.
__________
(1) في أ : "ليحمل فيه".
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) زيادة من أ.
(4) في ت : "عكرمة وغيره".
(6/579)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)
وقال ابن
جرير : حدثنا الفضل بن الصباح ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبَير
(1) ، عن ابن عباس قال : تدرون ما { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا
يَرْكَبُونَ } ؟ قلنا : لا. قال : هي السفن ، جعلت من بعد سفينة نوح على مثلها.
وكذا قال [غير واحد و] (2) أبو مالك ، والضحاك ، وقتادة ، وأبو صالح ، والسدي
أيضًا : المراد بقوله : (3) { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ }
: أي السفن.
ويُقَوِّي هذا المذهب في المعنى قوله تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ
حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا
أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [الحاقة : 11 ، 12].
وقوله : { وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ } يعني : الذين في السفن ، { فَلا صَرِيخَ
لَهُمْ } أي : فلا مغيث لهم مما هم فيه ، { وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ } أي : مما
أصابهم. { إِلا رَحْمَةً مِنَّا } وهذا استثناء منقطع ، تقديره : ولكن برحمتنا
نسيركم في البر والبحر ، ونُسَلِّمكم إلى أجل مسمى ؛ ولهذا قال : { وَمَتَاعًا
إِلَى حِينٍ } أي : إلى وقت معلوم عند الله.
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ
إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ
لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) }
يقول تعالى مخبرًا عن تمادي المشركين في غيهم وضلالهم ، وعدم اكتراثهم بذنوبهم
التي أسلفوها ، وما هم يستقبلون بين أيديهم يوم القيامة : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ
اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ } قال مجاهد : من الذنوب. وقال
غيره بالعكس ، { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي : لعل الله باتقائكم ذلك يرحمكم
ويؤمنكم من عذابه. وتقدير كلامه : أنهم لا يجيبون إلى ذلك ويعرضون عنه. واكتفى عن
ذلك بقوله : { وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ } أي : على
التوحيد وصدق الرسل { إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ } أي : لا يتأملونها ولا
ينتفعون (4) بها.
وقوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } أي : وإذا
أمروا بالإنفاق مما رزقهم الله على الفقراء والمحاويج من المسلمين { قَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا } أي : عن الذين آمنوا من الفقراء ، أي :
قالوا لمن أمرهم من المؤمنين بالإنفاق محاجين لهم فيما أمروهم به : { أَنُطْعِمُ
مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ } أي : وهؤلاء الذين أمرتمونا بالإنفاق
عليهم ، لو شاء الله لأغناهم ولأطعمهم من رزقه ، فنحن نوافق مشيئة الله فيهم ، {
إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي : في أمركم لنا بذلك.
قال ابن جرير : ويحتمل أن يكون من قول الله للكفار حين ناظروا المسلمين (5) وردوا
عليهم ، فقال لهم : { إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } (6) ، وفي هذا نظر.
__________
(1) في ت : "وروى ابن جرير بإسناده".
(2) زيادة من ت.
(3) زيادة من أ.
(4) في أ : "ولا يشعرون".
(5) في أ : "المؤمنين".
(6) تفسير الطبري (23/9).
(6/580)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
{
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا
يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا
يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) }
يخبر تعالى عن استبعاد الكفرة لقيام الساعة في قولهم : { مَتَى هَذَا الْوَعْدُ [
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ] } ؟ (1) { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِهَا } [الشورى : 18] ، قال الله تعالى : { مَا يَنْظُرُونَ إِلا
صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ } أي : ما ينتظرون (2) إلا
صيحة واحدة ، وهذه - والله أعلم - نفخة الفزع ، ينفخ في الصور نفخة الفزع ، والناس
في أسواقهم ومعايشهم يختصمون ويتشاجرون على عادتهم ، فبينما هم كذلك إذ أمر الله
تعالى إسرافيل فنفخ في الصور نفخة يُطَوِّلُها ويَمُدُّها ، فلا يبقى أحد على وجه
الأرض إلا أصغى ليتًا ، ورفع ليتًا - وهي (3) صفحة العنق - يتسمع الصوت من قبل
السماء. ثم يساق الموجودون من الناس إلى محشر القيامة بالنار ، تحيط بهم من
جوانبهم ؛ ولهذا قال : { فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً } أي : على ما يملكونه ،
الأمر أهم من ذلك ، { وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ }.
وقد وردت هاهنا آثار وأحاديث ذكرناها في موضع آخر (4) ثم يكون (5) بعد هذا نفخة
الصعق ، التي تموت بها الأحياء كلهم ما عدا الحي القيوم ، ثم بعد ذلك نفخة البعث.
{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ
يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا
مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً
وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا
تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) }
هذه هي النفخة الثالثة (6) ، وهي نفخة البعث والنشور للقيام من الأجداث والقبور ؛
ولهذا قال : { فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ }
والنَّسلان هو : المشي السريع ، كما قال تعالى : { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ
الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } [المعارج : 43].
{ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا } ؟ يعنون : [من] (7)
قبورهم التي كانوا يعتقدون في الدار الدنيا أنهم لا يبعثون منها ، فلما عاينوا ما
كذبوه في محشرهم { قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا } ،
وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم ؛ لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد.
وقال أُبَيّ بن كعب ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة : ينامون نومة قبل البعث.
قال قتادة : وذلك بين النفختين.
فلذلك يقولون : { مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا } ، فإذا قالوا ذلك أجابهم
المؤمنون - قاله غير واحد من
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ : "ما ينظرون".
(3) في أ : "وهو".
(4) عند تفسير الآية : 73 من سورة الأنعام.
(5) في ت ، س ، أ : "ثم يكون".
(6) في ت : "الثانية".
(7) زيادة من ت.
(6/581)
السلف - : {
هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ }. وقال الحسن : إنما
يجيبهم بذلك الملائكة.
ولا منافاة إذ الجمع ممكن ، والله أعلم.
وقال عبد الرحمن بن زيد : الجميع من قول الكفار : { يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا
مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ }.
نقله ابن جرير ، واختار الأول ، وهو أصح ، (1) وذلك كقوله تعالى في الصافات : {
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي
كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } [الصافات : 20 ، 21 ] ، وقال [الله] (2) تعالى : {
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ
كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ
لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ
الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [الروم : 55 ، 56 ].
وقوله : { إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا
مُحْضَرُونَ } ، كقوله : { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ
بِالسَّاهِرَةِ } [النازعات : 13 ، 14 ]. وقال تعالى : { وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ
إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [النحل : 77] ، (3) وقال : { يَوْمَ
يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا
قَلِيلا } [الإسراء : 52].
أي : إنما نأمرهم أمرًا واحدًا ، فإذا الجميع محضرون ، { فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ
نَفْسٌ شَيْئًا } أي : من عملها ، { وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ }
__________
(1) في أ : "وهو صحيح".
(2) زيادة من أ.
(3) في ت : "وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر أو هو أقرب" وهو خطأ.
(6/582)
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
{ إِنَّ
أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ
فِي ظِلالٍ عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ
مَا يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) }
يخبر تعالى عن أهل الجنة : أنهم يوم القيامة إذا ارتحلوا من العَرَصات فنزلوا في
روضات الجنات : أنهم { فِي شُغُلٍ [ فَاكِهُونَ } أي : في شغل] (1) عن غيرهم ، بما
هم فيه من النعيم المقيم ، والفوز العظيم.
قال الحسن البصري : وإسماعيل بن أبي خالد : { فِي شُغُلٍ } عما فيه أهل النار من
العذاب.
وقال مجاهد : { فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } أي : في نعيم معجبون ، أي : به. وكذا قال
قتادة.
وقال ابن عباس : { فَاكِهُونَ } أي فرحون.
قال عبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد بن المُسَيّب ، وعِكْرِمَة ، والحسن ،
وقتادة ، والأعمش ، وسليمان التيمي ، والأوزاعي في قوله : { إِنَّ أَصْحَابَ
الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } قالوا : شغلهم افتضاض الأبكار.
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(6/582)
وقال ابن
عباس - في رواية عنه (1) - : { فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } أي بسماع الأوتار.
وقال أبو حاتم : لعله غلط من المستمع ، وإنما هو افتضاض الأبكار.
وقوله : { هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ } قال مجاهد : وحلائلهم { فِي ظِلالٍ } أي : في
ظلال الأشجار { عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ }.
قال ابن عباس ، ومجاهد وعكرمة ، ومحمد بن كعب ، والحسن ، وقتادة ، والسُّدِّيّ ،
وخُصَيْف (2) : { الأرَائِكِ } هي السرر تحت الحجال.
قلت : نظيره في الدنيا هذه التخوت (3) تحت البشاخين ، والله أعلم.
وقوله : { لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ } أي : من جميع أنواعها ، { وَلَهُمْ مَا
يَدَّعُونَ } أي : مهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذ.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف الحمصي ، حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير بن
دينار ، حدثنا محمد بن مهاجر ، عن الضحاك المَعَافري ، عن سليمان (4) بن موسى ،
حدثني كُرَيْب ؛ أنه سمع أسامة بن زيد يقول (5) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: "ألا هل مُشَمِّر إلى الجنة ؟ فإن الجنة لا خَطر لها هي - ورب الكعبة - نور
كلها يتلألأ وريحانة تهتز ، وقصر مَشيد ، ونهر مُطَّرد ، وثمرة نضيجة ، وزوجة
حسناء جميلة ، وحلل كثيرة ، ومقام في أبد ، في دار سلامة ، وفاكهة خضرة وحَبْرَة
ونعمة ، ومحلة عالية بَهيَّة". قالوا : نعم يا رسول الله ، نحن المشمرون لها.
قال : "قولوا : إن شاء الله". قال القوم : إن شاء الله.
وكذا رواه ابن ماجه في "كتاب الزهد" من سننه ، من حديث الوليد بن مسلم ،
عن محمد بن مُهَاجر ، به. (6)
وقوله : { سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } قال ابن جريج : قال ابن عباس في
قوله : { سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } فإن الله نفسه سلام على أهل الجنة.
وهذا الذي قاله ابن عباس كقوله تعالى : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ
سَلامٌ } [الأحزاب : 44]
وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثا ، وفي إسناده نظر ، فإنه قال : حدثنا موسى بن
يوسف ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، حدثنا أبو عاصم العَبَّاداني ،
حدثنا الفضل الرَّقاشيّ ، عن محمد بن المُنْكَدِر ، عن جابر بن عبد الله ، رضي
الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بينا أهل الجنة في
نعيمهم ، إذ سطع لهم نور ، فرفعوا رؤوسهم ، فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من
فوقهم ، فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة. فذلك قوله : { سَلامٌ قَوْلا مِنْ
رَبٍّ رَحِيمٍ }. قال : "فينظر إليهم وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلى شيء من
النعيم ما داموا ينظرون إليه ، حتى يحتجب عنهم ، ويبقى نوره وبركته عليهم وفي
ديارهم".
__________
(1) في ت : "وفي رواية عن ابن عباس".
(2) في ت : "ومحمد بن كعب وغيرهم".
(3) في أ : "النحوت".
(4) في أ : "سليم".
(5) في ت : "روى ابن أبي حاتم عن أسامة بن زيد قال".
(6) سنن ابن ماجه برقم (4332) وقال البوصيري في الزوائد (3/325) : "هذا إسناد
فيه مقال ، الضحاك المعافري ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال الذهبي في طبقات
التهذيب : مجهول وسليمان الأموى مختلف فيه وباقي رجال الإسناد ثقات".
(6/583)
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)
ورواه ابن
ماجه في "كتاب السنة" من سننه (1) ، عن محمد بن عبد الملك بن أبي
الشوارب ، (2) به.
وقال (3) ابن جرير : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، حدثنا حَرْمَلة
، عن سليمان بن حُمَيد قال : سمعت محمد بن كعب القُرَظِي يحدّث عن عمر بن عبد
العزيز قال : إذا فرغ الله من أهل الجنة والنار ، أقبل في ظُلَل من الغمام
والملائكة ، قال : فيسلم على أهل الجنة ، فيردون عليه السلام - قال القرظي : وهذا
في كتاب الله { سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } - فيقول : سلوني. فيقولون :
ماذا نسألك أيْ ربّ ؟ قال : بلى سلوني. قالوا : نسألك - أيْ رب - رضاك. قال : رضائي
أحلكم دار كرامتي. قالوا : يا رب ، فما الذي نسألك ، فوعزتك وجلالك وارتفاع مكانك
، لو قسمت علينا رزق الثقلين لأطعمناهم ولأسقيناهم ولألبسناهم ولأخدمناهم ، لا
ينقصنا ذلك شيئًا. قال : إن لديَّ مزيدًا. قال فيفعل ذلك بهم في درجهم ، حتى يستوي
في مجلسه. قال : ثم تأتيهم التحف من الله ، عز وجل ، تحملها إليهم الملائكة. ثم
ذكر نحوه.
وهذا أثر غريب ، أورده ابن جرير من طرق. (4)
{ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ
إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ
مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ
مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) }.
يقول تعالى مخبرًا عمّا يؤول إليه حال الكفار يوم القيامة من أمره لهم أن يمتازوا
، بمعنى : (5) يتميزون عن المؤمنين في موقفهم ، كقوله تعالى : { وَيَوْمَ
نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ
وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } [يونس : 28] ، وقال تعالى : { وَيَوْمَ
تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [الروم : 14] ، { يَوْمَئِذٍ
يَصَّدَّعُونَ } [الروم : 43] أي : يصيرون صدْعَين فرقتين ، { احْشُرُوا الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } [الصافات : 22 ، 23].
وقوله تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا
الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } : هذا تقريع من الله للكفرة من بني
آدم ، الذين أطاعوا الشيطان وهو عدو لهم مبين ، وعصوا الرحمن وهو الذي خلقهم
ورزقهم ؛ ولهذا قال : { وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } أي : قد
أمرتكم في دار الدنيا بعصيان الشيطان ، وأمرتكم بعبادتي ، وهذا هو الصراط المستقيم
، فسلكتم غير ذلك واتبعتم الشيطان فيما أمركم به ؛ ولهذا قال : { وَلَقَدْ أَضَلَّ
مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا } ، يقال : "جِبِلا" بكسر الجيم ، وتشديد اللام.
ويقال : "جُبُلا" بضم الجيم والباء ، وتخفيف اللام. ومنهم من يسكن
الباء. والمراد
__________
(1) في ت : "رواه ابن ماجه في سننه".
(2) سنن ابن ماجه برقم (184) وقال البوصيري في الزوائد (1/86) : "هذا إسناد
ضعيف لضعف الفضل بن عيسى بن أبان القرشي".
(3) في ت : "وروى".
(4) تفسير الطبري (23/15).
(5) في ت : "يعنى".
(6/584)
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)
بذلك الخلق
الكثير ، قاله مجاهد ، والسُّدِّيّ ، وقتادة ، وسفيان بن عيينة.
وقوله : { أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ } ؟ أي : أفما (1) كان لكم عقل في
مخالفة ربكم فيما أمركم به من عبادته (2) وحده لا شريك له ، وعُدُولُكم إلى اتباع
الشيطان ؟!
قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن
إسماعيل بن رافع ، عمن حدثه عن محمد بن كعب القرظي ، (3) عن أبي هريرة ، رضي الله
عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا كان يوم القيامة أمر الله
جهنم فيخرج منها عُنق ساطع مظلم ، يقول : (4) { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا
بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ *
وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا
كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ
تُوعَدُونَ } امتازوا اليوم أيها المجرمون. فيتميز الناس ويجثون ، وهي التي يقول
الله تعالى : { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى
كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (5) } [الجاثية : 28].
{ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا
كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا
أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ
نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى
يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا
اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) }
يقال للكفرة من بني آدم يوم القيامة ، وقد برزَت الجحيم لهم تقريعًا وتوبيخًا : {
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } أي : هذه التي حذرتكم الرسل
فكذبتموهم ، { اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } ، كما قال تعالى
: { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي
كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ }
[الطور : 13 - 15].
وقوله تعالى : { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا
أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } : هذا حال
الكفار والمنافقين يوم القيامة ، حين ينكرون ما اجترموه في الدنيا ، ويحلفون ما
فعلوه ، فيختم الله على أفواههم ، ويستنطق جوارحهم بما عملت.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن أبي شيبة ، حدثنا
مِنْجَاب بن الحارث التميمي ، حدثنا أبو عامر الأسدي ، حدثنا سفيان ، عن عبيد
المُكتب ، عن الفُضَيْل بن عمرو ، عن الشعبي ، (6) عن أنس بن مالك قال : كنا عند
النبي صلى الله عليه وسلم ، فضحك حتى بدت نواجذه ، ثم قال : " أتدرون مم أضحك
؟ " قلنا : الله ورسوله أعلم. قال : "من مجادلة العبد ربه يوم القيامة ،
يقول : رب (7) ألم تجرني من الظلم ؟ فيقول : بلى. فيقول : لا أجيز علي إلا شاهدًا
من نفسي.
__________
(1) في ت ، س : "أما".
(2) في ت ، س : "عبادة الله".
(3) في ت : "وروى ابن جرير بإسناده".
(4) في ت ، س ، أ : "ثم يقول".
(5) تفسير الطبري (23/16).
(6) في ت : "روى النسائي ومسلم".
(7) في ت ، س : "يارب".
(6/585)
فيقول كفى
بنفسك اليوم عليك حَسيبًا ، وبالكرام الكاتبين (1) شهودا. فيختم على فيه ، ويُقال
لأركانه : انطقي. فتنطق بعمله ، ثم يخلى بينه وبين الكلام ، فيقول : بُعدًا
لَكُنَّ وسُحقًا ، فعنكنَّ كنتُ أناضل".
وقد رواه مسلم والنسائي ، كلاهما عن أبي بكر بن أبي النضر ، عن أبي النضر ، عن
عُبيد الله بن عبد الرحمن الأشجعي ، عن سفيان - هو الثوري - به. (2) ثم قال
النسائي : [لا أعلم (3) أحدًا روى هذا الحديث عن سفيان غير الأشجعي ، وهو حديث
غريب ، والله تعالى أعلم.
كذا قال ، وقد تقدم من رواية أبي عامر عبد الملك بن عمرو الأسدي - وهو العَقَدِيّ
- عن سفيان.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن بَهز (4) بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إنكم تُدْعَون مُفَدَّمة (5) أفواهكم
بالفِدَام ، فأول ما يسأل عن أحدكم فخذه وكتفه". رواه النسائي] (6) عن محمد
بن رافع ، عن عبد الرزاق ، به. (7)
وقال سفيان بن عيينة ، عن سُهَيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث القيامة الطويل ، قال فيه : "ثم يلقى
(8) الثالث فيقول : ما أنت ؟ فيقول : أنا عبدك ، آمنت بك وبنبيك وبكتابك ، وصمت
وصليت وتصدقت - ويثني بخير ما استطاع - قال : فيقال له : ألا نبعث عليك شاهدنا (9)
؟ قال : فيفكر في نفسه ، من الذي يشهد عليه ، فيُختَم على فيه ، ويقال لفخذه :
انطقي. فتنطق (10) فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل ، وذلك المنافق ، وذلك ليعذر من
نفسه. وذلك الذي سخط الله عليه".
ورواه مسلم وأبو داود ، من حديث سفيان بن عيينة ، به بطوله. (11)
ثم قال ابن أبي حاتم ، رحمه الله : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا
إسماعيل بن عياش ، حدثنا ضَمْضَم بن زُرْعَة عن شُرَيْح بن عبيد ، (12) عن عقبة بن
عامر ؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن أول عظم من الإنسان
يتكلم يوم يُختَم على الأفواه ، فَخذُه من الرِّجل اليسرى". (13).
ورواه ابن جرير عن محمد بن عوف ، عن عبد الله بن المبارك ، عن إسماعيل بن عياش ،
به مثله. (14)
وقد جَوَّد إسناده الإمام أحمد ، رحمه الله ، فقال : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا
إسماعيل بن عياش ، عن ضَمْضَم بن زُرْعَة ، عن شُرَيْح بن عُبَيد الحضرمي ، عمن
حَدَّثه عن عقبة بن عامر ؛ أنه
__________
(1) في ت : "الكاتبين عليك".
(2) صحيح مسلم برقم (2969) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11653).
(3) في س : "ما أعلم".
(4) في ت ، س : "يزيد" ، وفي أ : "زيد".
(5) في س : "مفدما".
(6) زيادة من ت ، س ، والسنن الكبرى.
(7) النسائي في السنن الكبرى برقم (11469).
(8) في ت : "يأتي".
(9) في ت ، أ : "شاهدا".
(10) في ت ، س : "قال فتنطق".
(11) صحيح مسلم برقم (2968) وسنن أبي داود برقم (4730).
(12) في ت : "وروى الإمام أحمد".
(13) في ت : "الشمال".
(14) تفسير الطبري (23/17).
(6/586)
سمع رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يُختَم على
الأفواه ، فَخذه من الرجل الشمال". (1)
وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، حدثنا يونس بن عُبَيد
، عن حُمَيد بن هلال قال : قال أبو بردة : قال أبو موسى (2) هو الأشعري ، رضي الله
عنه - : يُدعى المؤمن للحساب يوم القيامة ، فَيَعْرضُ عليه (3) رَبُّه عملَه فيما
بينه وبينه ، فيعترف (4) فيقول : نعم أيْ رب ، عملتُ عملتُ عملت. قال : فيغفر الله
له ذنوبه ، ويستره منها. قال : فما على الأرض خَليقة ترى (5) من تلك الذنوب شيئًا
، وتبدو حسناته ، فَوَدَّ أن الناس كلهم يرونها ، ويُدعى الكافر والمنافق للحساب ،
فَيَعرضُ رَبُّه عليه عمله ، فيجحد وفيقول : أي رب ، وعزتك لقد كتب علي هذا الملك
ما لم أعمل. فيقول له الملك : أما عملت كذا ، في يوم كذا ، في مكان كذا ؟ فيقول :
لا وعزتك أيْ رب ما عملتُه. فإذا فعل ذلك خُتِم على فيه. قال أبو موسى الأشعري :
فإني أحسب أول ما ينطق منه الفخذ (6) اليمنى ، ثم تلا { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى
أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ } (7).
وقوله : { وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا
الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ } : قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في
تفسيرها : يقول : ولو نشاء لأضللناهم عن الهدى ، فكيف يهتدون ؟ وقال مرة (8) :
أعميناهم.
وقال الحسن البصري : لو شاء الله لطمس على أعينهم ، فجعلهم عُميًا يترددون.
وقال السدي : لو شِئْنا أعمينا أبصارهم.
وقال مجاهد ، وأبو صالح ، وقتادة ، والسدي : { فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ } يعني :
الطريق.
وقال ابن زيد : يعني بالصراط هاهنا : الحق ، { فَأَنَّى يُبْصِرُونَ } وقد طمسنا
على أعينهم ؟
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { فَأَنَّى يُبْصِرُونَ } ]يقول] (9) : لا يبصرون
الحق.
وقوله : { وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِم } قال العوفي عن ابن
عباس : أهلكناهم.
وقال السدي : يعني : لَغَيَّرْنَا خَلْقَهم.
وقال أبو صالح : لجعلناهم حجارة.
وقال الحسن البصري ، وقتادة : لأقعدهم على أرجلهم.
ولهذا قال تعالى : { فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا } أي : إلى أمام ، { وَلا
يَرْجِعُونَ } أي : إلى وراء ، بل يلزمون حالا واحدًا ، لا يتقدمون ولا يتأخرون.
__________
(1) المسند (4/151) وقال الهيثمي في المجمع (1/351) : "إسناده جبد".
(2) في ت : "وروى ابن جرير بإسناده عن أبي موسى.
(3) في ت ، أ : "على".
(4) في ت : "فيعرف".
(5) في ت : "يرى".
(6) في ت ، س : "لفخده".
(7) تفسير الطبرى (23/17).
(8) في أ : "غيره".
(9) زيادة من أ.
(6/587)
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
{ وَمَنْ
نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا
عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ
مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى
الْكَافِرِينَ (70) }
يخبر تعالى عن ابن (1) آدم أنه كلما طال عمره ردّ إلى الضعف بعد القوة والعجز بعد
النشاط ، كما قال تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ
مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } [الروم : 54]. وقال : {
وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ
عِلْمٍ شَيْئًا } [الحج : 5].
والمراد من هذا - والله أعلم - الإخبارُ عن هذه الدار بأنها دار زوال وانتقال ، لا
دار دوام واستقرار ؛ ولهذا قال : { أَفَلا يَعْقِلُونَ } أي : يتفكرون بعقولهم في
ابتداء خلقهم ثم صيرورتهم إلى [نفس] (2) الشَّبيبَة ، ثم إلى الشيخوخة ؛ ليعلموا
أنهم خُلقوا لدار أخرى ، لا زوال لها ولا انتقال منها ، ولا محيد عنها ، وهي الدار
الآخرة.
وقوله : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } : يقول تعالى
مخبرًا عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم (3) : أنه ما علمه الشعر ، { وَمَا
يَنْبَغِي لَهُ } أي : وما هو في طبعه ، فلا يحسنه ولا يحبه ، ولا تقتضيه
جِبِلَّته ؛ ولهذا وَرَدَ أنه ، عليه الصلاة والسلام ، كان لا يحفظ بيتًا على وزنٍ
منتظم ، بل إن أنشده زَحَّفه أو لم يتمه.
وقال أبو زُرْعة الرازي : حُدِّثت عن إسماعيل بن مجالد ، عن أبيه ، عن الشعبي أنه
قال : ما وَلَد عبد المطلب ذكرًا ولا أنثى إلا يقول الشِّعر ، إلا رسول الله صلى
الله عليه وسلم. ذكره ابن عساكر في ترجمة "عتبة بن أبي لهب" الذي أكله
السَّبُع بالزرقاء. (4)
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن
زيد ، عن الحسن (5) - هو البصري - قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يتمثل بهذا البيت :
كَفَى بالإسْلام والشيْب للمرْء نَاهيًا
فقال أبو بكر : يا رسول الله :
كَفى الشيب والإسلام للمرء ناهيًا...
قال أبو بكر ، أو عمر : أشهد أنك رسول الله ، يقول الله : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ
الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } (6).
وهكذا روى البيهقي في الدلائل : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : للعباس بن
مرداس السلمي : "أنت القائل :
أتجعل نَهبي ونَهْب العُبَيد بين الأقرع وعيينة".
فقال : إنما هو : "بين عيينة والأقرع" فقال : "الكل سواء".
(7)
__________
(1) في أ : "بنى".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : "صلوات الله وسلامه عليه.
(4) لم أجد ترجمته فيما بين يدي من تاريخ دمشق ، ولا في المختصر لابن منظور.
(5) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن الحسن".
(6) ورواه ابن سعد في الطبقات (1/382) من طريق عارم عن حماد بن زيد عن على بن زيد
عن الحسن به مرسلاً.
(7) دلائل النبوة للبيهقي (5/181).
(6/588)
يعني : في
المعنى ، صلوات الله وسلامه عليه.
وقد ذكر السهيلي في "الروض الأنف" لهذا التقديم والتأخير الذي وقع في
كلامه ، عليه السلام ، في هذا البيت مناسبة أغرب فيها ، حاصلها شَرَفُ الأقرع بن
حابس على عُيَيْنَة بن بدر الفزاري ؛ لأنه ارتد أيام الصديق ، بخلاف ذاك ، والله
أعلم.
وهكذا روى الأموي في مغازيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يمشي بين
القتلى يوم بدر ، وهو يقول : "نُفلق
هَامًا..................................".
فيقول الصديق ، رضي الله عنه ، متمما للبيت :
..... مِنْ رجَال أعزَّةٍ... عَلَيْنَا وَهُم كَانُوا أعَقَّ وَأظلما...
وهذا لبعض شعراء العرب في قصيدة له ، وهي في الحماسة. (1)
وقال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيْم ، حدثنا مغيرة ، عن (2) الشعبي ، عن عائشة ، رضي
الله عنها ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراث الخبر ، تمثل فيه
ببيت طَرَفَة :
ويَأْتِيكَ بالأخْبار مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ
وهكذا رواه النسائي في "اليوم والليلة" من طريق إبراهيم بن مهاجر ، عن
الشعبي ، (3) عنها. ورواه الترمذي والنسائي أيضًا من حديث المقدام بن شُرَيْح بن
هانئ ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، كذلك. ثم قال (4) الترمذي. هذا حديث
حسن صحيح. (5)
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا أسامة ، عن زائدة ، عن
سِمَاك ، عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يتمثل من الأشعار :
وَيَأتيكَ بالأخْبَار مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ...
ثم قال : رواه (6) غير زائدة ، عن سِمَاك ، عن عِكرمة ، عن عائشة. (7)
وهذا في شعر طرفة بن العبد ، في معلقته المشهورة ، وهذا المذكور [هو عجز بيت] (8)
منها ، أوله :
سَتُبْدي لكَ الأيامُ مَا كُنْتَ جَاهلا... وَيَأتيك بالأخْبَارِ مَنْ لَمْ
تُزَوِّدِ...
وَيَأتيكَ بالأخْبَار مَنْ لَمْ تَبِع لهُ... بَتَاتا ولم تَضرب له وَقْتَ
مَوْعِدِ (9)
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الحافظ ، حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد
بن
__________
(1) الحماسة لأبي تمام (1/107).
(2) في ت : "وروى الإمام أحمد بإسناده إلى".
(3) المسند (6/31) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10834).
(4) في ت : "وقال".
(5) سنن الترمذي برقم (2848) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10835) وقال الترمذي
: "هذا حديث حسن صحيح".
(6) في س : "ورواه".
(7) رواه ابن سعد في الطبقات (1/383) من طريق الوليد بن أبي ثور عن سماك عن عكرمة
قال : سئلت عائشة فذكره نحوه.
(8) زيادة من أ.
(9) انظر ديوان طَرَفَةَ بن العبد ص (66).
(6/589)
نعيم - وكيل
المتقي ببغداد - حدثنا أبو محمد عبد الله بن هلال النحوي الضرير ، حدثنا علي بن
عمرو الأنصاري ، حدثنا سفيان بن عيينة (1) ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، رضي
الله عنها ، قالت : ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت شعر قط ، إلا بيتا
واحدًا. (2)
تَفَاءلْ بما تَهْوَى يَكُنْ فَلَقَلَّمَا... يُقَالُ لِشَيْءٍ كَانَ إلا
تَحَقَّقَا (3)
سألت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزّي عن هذا الحديث ، فقال : هو منكر. ولم يعرف
شيخ الحاكم ، ولا الضرير.
وقال سعيد بن أبي عَرُوبة عن قتادة : قيل لعائشة : هل كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يتمثل بشيء من الشعر ؟ قالت : كان أبغضَ الحديث إليه ، غير أنه كان يتمثل
ببيت أخي بني قيس ، فيجعل أوله آخره ، وآخره أوله. فقال أبو بكر ليس هكذا. فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني والله ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي".
رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، وهذا لفظه. (4)
وقال معمر عن قتادة : بلغنى أن عائشة سُئلت : هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يتمثل بشيء من الشعر ؟ فقالت : لا إلا بيت طَرَفَة :
سَتُبْدي لكَ الأيامُ مَا كُنْتَ جَاهلا... وَيَأْتيك بالأخبارِ مَنْ لَمْ
تُزَوِّدِ...
فجعل يقول : "مَن لم تُزَوّد بالأخبار". فقال أبو بكر : ليس هذا هكذا.
فقال : "إني لست بشاعر ، ولا ينبغي لي" (5)
وثبت في الصحيحين أنه ، عليه الصلاة والسلام ، تمثل يوم حفر الخندق بأبيات عبد
الله بن رواحة ، ولكن تبعًا لقول أصحابه ، فإنهم يرتجزون وهم يحفرون ، فيقولون :
لاهُمَّ لوْلا أنت (6) مَا اهْتَدَيْنَا مَا اهْتَدَيْنَا... وَلا تَصَدَّقْنَا
وَلا صَلَّيْنَا...
فَأَنزلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا... وَثَبِّت الأقْدَامَ إنْ لاقَيْنَا...
إنّ الألى قَدْ بَغَوا عَليْنَا... إذَا أرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا...
ويرفع صوته بقوله : "أبينا" ويمدها (7). وقد روي هذا بزحاف في الصحيح
أيضًا. وكذلك ثبت أنه قال يوم حنين وهو راكب البغلة ، يُقدم بها في نحور العدو :
أنا النَّبِيّ لا كَذِبْ... أنَا ابْنُ عُبْد المُطَّلِبْ (8)
لكن قالوا : هذا وقع اتفاقًا من غير قصد لوزن شعر ، بل جرى على اللسان من غير قصد
إليه.
وكذلك ما ثبت في الصحيحين عن جُنْدَب بن عبد الله قال : كنا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم في غار
__________
(1) في س : "حاشية بخط جمال الدين المزي هذا موضوع على ابن عيينة".
(2) في أ : "واحدا فقال".
(3) السنن الكبرى للبيهقي (7/43) وقال : "لم أكتبه إلا بهذا الإسناد ، وفيهم
مَنْ يجهل حاله".
(4) تفسير الطبرى (23/19).
(5) رواه عبد الرزاق في تفسيره (2/117) عن معمر عن قتادة ، به.
(6) في ت : "لولا الله".
(7) صحيح البخاري برقم (7236) وصحيح مسلم برقم (1803) من حديث البراء بن عازب ،
رضي الله عنه.
(8) صحيح البخاري برقم (2864) وصحيح مسلم برقم (1776).
(6/590)
@ فَنَكِبت
أصبعه ، فقال :
هَلْ أنْت إلا إصْبَعٌ دَمِيت... وفي سَبيل الله مَا لَقِيت (1)
وسيأتي عند قوله تعالى : { إِلا اللَّمَمَ } [النجم : 32] إنشاد (2)
إنْ تَغْفر اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا... وَأيُّ عَبْدٍ لكَ مَا ألَمَّا...
وكل هذا لا ينافي كونه صلى الله عليه وسلم ما عُلِّم شعرًا ولا ينبغي له ؛ فإن
الله تعالى إنما علمه القرآن العظيم ، الذي { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت : 42]. وليس هو
(3) بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش ، ولا كهانة ، ولا مفتعل ، ولا سحر
يُؤثر ، كما تنوعت فيه أقوال الضُّلال (4) وآراء الجُهَّال. وقد كانت سجيته صلى
الله عليه وسلم تأبى صناعة الشعر طبعًا وشرعًا ، كما رواه أبو داود قال :
حدثنا عبيد الله بن عُمَر ، حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ،
حدثنا شرحبيل بن يزيد المَعَافري ، عن عبد الرحمن (5) بن رافع التنوخي قال : سمعت
عبد الله بن عمرو يقول (6) : [سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول] (7) : ما
أبالي ما أوتيت إن أنا شَربت ترياقًا ، أو تعلقت تميمة ، أو قلت الشعر من قبل
نفسي". تفرد به أبو داود. (8)
وقال (9) الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن الأسود بن
شيبان ، عن أبي نوفل قال : سألتُ عائشة : أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يتسامع عنده الشعر ؟ فقالت : كان أبغض الحديث إليه. وقال عن عائشة : كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يعجبه الجوامع من الدعاء ، ويدع ما بين ذلك. (10)
وقال أبو داود : حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، حدثنا شعبة ، عن الأعمش ، عن أبي
صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : "لأن
يمتلئ جوف أحدكم قيحًا ، خير له من أن يمتلئ شعرًا". تفرد به من هذا الوجه ،
وإسناده على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه. (11)
وقال الإمام أحمد : حدثنا بريد ، حدثنا قَزَعةُ بن سُوَيْد الباهلي ، عن عاصم بن
مَخْلَد ، عن أبي الأشعث ، الصنعاني(ح) وحدثنا الأشيب فقال : عن ابن عاصم ، عن
[أبي] (12) الأشعث (13) عن شَدَّاد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: "من قرض بيت شعر بعد العشاء الآخرة ، لم تقبل له (14) صلاة تلك
الليلة". (15)
__________
(1) صحيح البخاري برقم (2802) وصحيح مسلم برقم (1796).
(2) في أ : "إنشاده".
(3) في أ : "هذا".
(4) في ت : "أقوال أهل الضلال".
(5) في أ : "عبد الله".
(6) في ت : "كما رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو قال".
(7) زيادة من ت ، س ، وأبي داود.
(8) سنن أبي داود برقم (3869).
(9) في ت : "وروى".
(10) المسند (6/148).
(11) سنن أبي داود برقم (5009).
(12) زيادة من ت ، س ، والمسند.
(13) في ت : " وروى الإمام أحمد بإسناده".
(14) في ت : "لم يقبل الله له".
(15) المسند (4/125).
(6/591)
وهذا حديث
غريب من هذا الوجه ، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة. والمراد بذلك نظمه لا
إنشاده ، والله أعلم. على أن الشعر فيه ما هو مشروع ، وهو هجاء المشركين الذي كان
يتعاطاه شعراء الإسلام ، كحسان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، وعبد الله بن رَوَاحة ،
وأمثالهم وأضرابهم ، رضي الله عنهم أجمعين. ومنه ما فيه حكم ومواعظ وآداب ، كما
يوجد في شعر جماعة من الجاهلية ، ومنهم أمية بن أبي الصلت الذي قال فيه النبي الله
صلى الله عليه وسلم : "آمن شعره وكفر قلبه". (1) وقد أنشد بعض الصحابة
منه للنبي صلى الله عليه وسلم مائة بيت ، يقول عقب كل بيت : "هيه". يعني
يستطعمه ، فيزيده من ذلك. (2)
وقد روى أبو داود من حديث أُبي بن كعب ، وبُريدة بن الحُصَيْب (3) ، وعبد الله بن
عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن من البيان سحرًا ، وإن من
الشعر حكما" (4).
ولهذا قال تعالى : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ } يعني : محمدًا صلى الله عليه
وسلم ما علمه الله شعرًا ، { وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } أي : وما يصلح له ، { إِنْ
هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ } أي : ما هذا الذي علمناه ، { إِلا ذِكْرٌ
وَقُرْآنٌ مُبِينٌ } أي : بين واضح جلي لمن تأمله وتدبره. ولهذا قال : {
لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا } أي : لينذر هذا القرآن البيّن كلّ حي على وجه
الأرض ، كقوله : { لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [الأنعام : 19] ، وقال : {
وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [هود : 17]. وإنما
ينتفع بنذارته من هو حَيّ القلب ، مستنير البصيرة ، كما قال قتادة : حي القلب ، حي
البصر. وقال الضحاك : يعني : عاقلا { وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ }
أي : هو رحمة للمؤمن ، وحجة على الكافر.
__________
(1) رواه ابن عبد البر في التمهيد (4/7) من طريق أبي بكر الهذلي عن عكرمة عن ابن
عباس ، رضي الله عنه.
(2) رواه مسلم في صحيحه برقم (2255) من حديث الشريد ، رضي الله عنه.
(3) في أ : "الخصيف".
(4) سنن أبي داود برقم (5010 - 5012).
(6/592)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)
{ أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ
لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا
يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73)
}
يذكر تعالى ما أنعم به على خلقه من هذه الأنعام التي سخرها لهم ، { فَهُمْ لَهَا
مَالِكُونَ } : قال قتادة : مطيقون (1) أي : جعلهم يقهرونها (2) وهي ذليلة لهم ،
لا تمتنع منهم ، بل لو جاء صغير إلى بعير لأناخه ، ولو شاء لأقامه وساقه ، وذاك
ذليل منقاد معه. وكذا لو كان القطَارُ مائة بعير أو أكثر ، لسار الجميع بسيرِ
صغيرٍ.
وقوله : { فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } أي : منها ما يركبون في
الأسفار ، ويحملون عليه الأثقال ، إلى سائر الجهات والأقطار. { وَمِنْهَا
يَأْكُلُونَ } إذا شاؤوا نحروا واجتزروا.
{ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } أي : من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا
إلى حين ، { وَمَشَارِبُ } أي : من ألبانها وأبوالها لمن يتداوى ، ونحو ذلك. {
أَفَلا يَشْكُرُونَ } ؟ أي : أفلا يُوَحِّدُون خالق ذلك ومسخره ، ولا يشركون به
غيره ؟
__________
(1) في أ : "مطيعون".
(2) في أ : "يرونها".
(6/592)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)
{
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا
يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ
قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) }
يقول تعالى منكرًا على المشركين في اتخاذهم الأنداد آلهة مع الله ، يبتغون بذلك أن
تنصرهم تلك الآلهة وترزقهم وتقربهم إلى الله زلفى.
قال الله تعالى : { لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ } أي : لا تقدر الآلهة على نصر
(1) عابديها ، بل هي أضعف من ذلك وأقل وأذل وأحقر وأدخر ، بل لا تقدر على الانتصار
لأنفسها ، ولا الانتقام ممن أرادها بسوء ؛ لأنها جماد لا تسمع ولا تعقل.
وقوله : { وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ } : قال مجاهد : يعني : عند الحساب ،
يريد أن هذه الأصنام محشورة مجموعة يوم القيامة ، محضرة عند حساب عابديها ؛ ليكون
ذلك أبلغ في خِزْيهم ، وأدل عليهم في إقامة الحجة عليهم.
وقال قتادة : { لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ } يعني : الآلهة ، { وَهُمْ لَهُمْ
جُنْدٌ مُحْضَرُونَ } ، والمشركون يغضبون للآلهة في الدنيا وهي لا تسوق إليهم
خيرًا ، ولا تدفع عنهم سوءا ، إنما هي أصنام.
وهكذا قال الحسن البصري. وهذا القول حسن ، وهو اختيار ابن جرير ، رحمه الله.
وقوله : { فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ } أي : تكذيبهم لك (2) وكفرهم بالله ، {
إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } أي : نحن نعلم جميع ما هم
عليه ، وسنجزيهم وصْفَهم ونعاملهم (3) على ذلك ، يوم لا يفقدون من أعمالهم جليلا
ولا حقيرًا ، ولا صغيرًا ولا كبيرًا ، بل يعرض عليهم جميع ما كانوا يعملون قديمًا
وحديثًا.
{ أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ
خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي
الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ
الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) }
قال مجاهد ، وعِكْرِمَة ، وعروة بن الزبير ، والسُّدِّي. وقتادة : جاء أُبي بن خلف
[لعنه الله] (4) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم وهو
يُفَتِّتُه ويذريه (5) في الهواء ، وهو يقول : يا محمد ، أتزعم أن الله يبعث هذا ؟
فقال : "نعم ، يميتك الله تعالى ثم يبعثك ، ثم يحشرك إلى النار". ونزلت
هذه الآيات من آخر "يس" : { أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا
خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ } ، إلى آخرهن.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد ، حدثنا محمد بن العلاء ،
حدثنا عثمان بن سعيد الزيات ، عن هُشَيْم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير (6) ، عن
ابن عباس ، أن العاصى (7) بن وائل أخذ عظما من البطحاء ففتَّه بيده ، ثم قال لرسول
الله صلى الله عليه وسلم : أيحيي الله هذا بعد ما أرى ؟ (8) فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "نعم ، يميتك الله ثم يحييك ، ثم يدخلك جهنم". قال :
__________
(1) في أ : "نصرة".
(2) في أ : "ذلك".
(3) في أ : "ونقابلهم".
(4) زيادة من س ، أ.
(5) في أ : "ويذروه".
(6) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بسنده".
(7) في ت ، س ، أ : "العاص".
(8) في أ : "أرم".
(6/593)
ونزلت
الآيات من آخر "يس".
ورواه ابن جرير عن يعقوب بن إبراهيم ، عن هُشَيْمٍ ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير
، فذكره ولم يذكر "ابن عباس" (1).
وروي من طريق العوفي ، عن ابن عباس قال : جاء عبد الله بن أبي بعظم ففَتَّه وذكر
نحو ما تقدم.
وهذا منكر ؛ لأن السورة مكية ، وعبد الله بن أبي بن سلول إنما كان بالمدينة. وعلى
كل تقدير سواء كانت هذه الآيات قد نزلت في أُبي بن خلف ، أو [في] (2) العاص [بن
وائل] ، (3) أو فيهما ، فهي عامة في كل مَنْ أنكر البعث. والألف واللام في قوله :
{ أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ } للجنس ، يعم كل (4) منكر للبعث.
{ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ } أي : أولم
يستدل مَنْ أنكر البعث بالبدء على الإعادة ، فإن الله ابتدأ خلق الإنسان من سلالة
من ماء مهين ، فخلقه من شيء حقير ضعيف مهين ، كما قال تعالى : { أَلَمْ
نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى
قَدَرٍ مَعْلُومٍ } [المرسلات : 20 - 22]. وقال { إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ
مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ } [الإنسان : 2] أي : من نطفة من أخلاط
متفرقة ، فالذي خلقه من هذه النطفة الضعيفة أليس بقادر على إعادته بعد موته ؟ كما
قال (5) الإمام أحمد في مسنده :
حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا حَريز ، حدثني عبد الرحمن بن مَيْسَرة ، عن جُبَيْر بن
نفير ، عن بُسْر ابن جَحَّاش ؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَصق يوما في
كفِّه ، فوضع عليها أصبعه ، ثم قال : "قال الله تعالى : ابن آدم ، أنَّى
تُعجزني وقد خلقتك من مثل هذه ، حتى إذا سَوَّيتك وعَدَلتك ، مشيت بين بردَيك
وللأرض منك وئيد ، فجمعت ومنعت ، حتى إذا بَلَغَت التراقي قلت : أتصدقُ وأنَّى
أوان الصدقة ؟".
ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يزيد بن هارون ، عن جَرير بن عثمان ،
به (6). ولهذا قال : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ
يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } ؟ أي : استبعد إعادة الله تعالى - ذي القدرة
العظيمة التي خلقت (7) السموات والأرض - للأجساد والعظام الرميمة ، ونسي نفسه ،
وأن الله خلقه من العدم ، فعلم من نفسه ما هو أعظم مما استبعده وأنكره وجحده ؛
ولهذا قال تعالى : { قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ
بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } أي : يعلم العظام في سائر أقطار الأرض وأرجائها ، أين
ذهبت ، وأين تفرقت وتمزقت.
قال (8) الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن عبد الملك بن عمير ،
عن رِبْعيّ قال : قال عقبة بن عمرو لحذيفة : ألا تحدثُنا ما سمعتَ من رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : سمعته يقول : "إن رجلا حضره الموت ، فلما أيس من
الحياة أوصى أهله : إذا أنا متّ فاجمعوا لي حَطَبا كثيرًا
__________
(1) تفسير الطبري (23/21).
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من س.
(4) في س : "لكل".
(5) في ت : "كما روى".
(6) المسند (4/310) وسنن ابن ماجه برقم (2707) وقال البوصيري في الزوائد (2/364) :
"إسناد حديثه صحيح ورجاله ثقات".
(7) في أ : "الذي خلق".
(8) في ت : "روى".
(6/594)
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
جزَلا ثم
أوقدوا فيه نارًا ، حتى إذا [أكلت] (1) لحمي وخلَصت إلى عظمي فامتُحِشْتُ ، فخذوها
فدقوها فَذَروها في اليم. ففعلوا ، فجمعه الله إليه فقال له : لم فعلت ذلك ؟ قال :
من خشيتك. فغفر الله له". فقال عقبة بن عمرو : وأنا سمعته يقول ذلك ، وكان
نبَّاشا. (2)
وقد أخرجاه في الصحيحين ، من حديث عبد الملك بن عمير ، بألفاظ كثيرة (3) منها :
أنه أمر بنيه أن يحرقوه ثم يسحقوه ، ثم يَذْروا نصفه في البر ونصفه في البحر ، في
يوم رائح ، (4) أي : كثير الهواء - ففعلوا ذلك. فأمر الله البحر فجمع ما فيه ،
وأمر البر فجمع ما فيه ، ثم قال له : كن. فإذا هو رجل قائم. فقال له : ما حملك على
ما صنعت ؟ فقال : مخافتك وأنت أعلم. فما تلافاه أن غفر له".
وقوله : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا
أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ } أي : الذي بدأ خلق هذا الشجر من ماء حتى صار خَضرًا
نَضرًا ذا ثمر ويَنْع ، ثم أعاده إلى أن صار حطبًا يابسًا ، توقد به النار ، كذلك
هو فعال لما يشاء ، قادر على ما يريد لا يمنعه شيء.
قال قتادة في قوله : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا
فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ } يقول : الذي أخرج هذه النار من هذا الشجر
قادر على أن يبعثه.
وقيل : المراد بذلك سَرْح المرخ والعَفَار ، ينبت في أرض الحجاز فيأتي من أراد
قَدْح نار وليس معه زناد ، فيأخذ منه عودين أخضرين ، ويقدح (5) أحدهما بالآخر ،
فتتولد النار من بينهما ، كالزناد سواء. روي هذا عن ابن عباس ، رضي الله عنهما
(6). وفي المثل : (7) لكل شجر نار ، واستمجد المَرْخُ والعَفَار. (8) وقال الحكماء
: في كل شجر نار إلا الغاب. (9)
{ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ
يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ
إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي
بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) }
يقول تعالى منبهًا على قدرته العظيمة في خلق السموات السبع ، بما فيها من الكواكب
السيارة والثوابت ، والأرضين السبع وما فيها من جبال ورمال ، وبحار وقفار ، وما
بين ذلك ، ومرشدًا إلى الاستدلال على إعادة الأجساد بخلق هذه الأشياء العظيمة ،
كقوله تعالى : { لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ }
[غافر : 57]. وقال هاهنا : { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ
بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } أي : مثل البشر ، فيعيدهم كما بدأهم.
قاله ابن جرير. (10)
وهذه الآية كقوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ
الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الأحقاف : 33] ،
__________
(1) زيادة من ت ، س ، والمسند.
(2) المسند (5/395).
(3) صحيح البخاري برقم (6480) وصحيح مسلم برقم (2756).
(4) في س ، أ : "راح".
(5) في أ : "فيحك".
(6) في ت ، س : "عنه".
(7) في أ : "الراجز".
(8) مجمع الأمثال للميداني برقم (2752).
(9) في أ : "العتاب".
(10) تفسير الطبري (23/21).
(6/595)
وقال : {
بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ
يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } أي : يأمر بالشيء أمرًا واحدًا ، لا يحتاج إلى
تكرار :
إذَا مَا أَرَادَ اللهُ أَمْرًا فَإِنَّمَا... يَقُولُ لَهُ "كُنْ"
قَوْلَة فَيَكُونُ (1)
وقال (2) الإمام أحمد : حدثنا ابن نُمَيْر ، حدثنا موسى بن المسَيَّب ، عن شَهْر ،
عن عبد الرحمن بن غَنْم ، عن أبي ذَر ، رضي الله عنه ، إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : "إن الله يقول : يا عبادي ، كلكم مذنب إلا من عافيت ، فاستغفروني
أغفر لكم. وكلكم فقير إلا من أغنيت ، إني جواد ماجد واجد أفعل ما أشاء ، عطائي
كلام ، وعذابي كلام ، إذا أردت شيئًا فإنما أقول له كن فيكون". (3)
وقوله : { فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ } أي : تنزيه وتقديس وتبرئة من السوء للحي القيوم ، الذي بيده مقاليد
السموات والأرض ، وإليه يرجع الأمر كله ، وله الخلق والأمر ، وإليه ترجع العباد
يوم القيامة ، فيجازي كل عامل بعمله ، وهو العادل المتفضل.
ومعنى قوله : { فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } كقوله عز
وجل : { قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } [المؤمنون : 88] ، (4)
وكقوله تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } [الملك : 1] ، فالملك
والملكوت واحد في المعنى ، كرحمة ورَحَمُوت ، ورَهْبَة ورَهَبُوت ، وجَبْر
وجَبَرُوت. ومن الناس من زعم أن المُلْك هو عالم الأجساد (5) والملكوت هو عالم
الأرواح ، والأول هو الصحيح ، وهو الذي عليه الجمهور من المفسرين وغيرهم.
قال (6) الإمام أحمد : حدثنا حماد ، عن عبد الملك بن عمير ، حدثني ابن عم لحذيفة ،
عن حذيفة - وهو ابن اليمان - رضي الله عنه ، قال : قمت مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم ذات ليلة ، فقرأ السبع الطُّوَل (7) في سبع ركعات ، وكان إذا رفع رأسه من
الركوع قال : "سمع الله لمن حمده". ثم قال : "الحمد لذي (8) ذي
الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة" وكان ركوعه مثل قيامه ، وسجوده مثل
ركوعه ، فأنصرف وقد كادت تنكسر رجلاي. (9)
وقد روى أبو داود ، والترمذي في الشمائل ، والنسائي ، من حديث شعبة ، عن عمرو بن
مُرة ، عن أبي حَمْزة - مولى الأنصار - عن رجل من بني عَبْس ، عن حذيفة ؛ أنه رأى
رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل ، وكان يقول : "الله أكبر - ثلاثًا -
ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة". ثم استفتح فقرأ البقرة ، ثم ركع
فكان ركوعه نحوا من قيامه ، وكان يقول في ركوعه : "سبحان ربي العظيم".
ثم رفع رأسه من الركوع ، فكان قيامه نحوا من ]ركوعه ، يقول : " لربي
الحمد". ثم سجد ، فكان سجوده نحوا من] (10) قيامه ، وكان يقول في سجوده :
"سبحان ربي الأعلى". ثم رفع
__________
(1) انظر البيت عند تفسير الآية : 40 من سورة النحل.
(2) في ت : "وروى".
(3) المسند (5/177).
(4) في ت : "قل من بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون" وهو خطأ.
(5) في ت ، س : "الأجسام".
(6) في ت : "وروى".
(7) في ت : "الطوال".
(8) في ت ، س : "لله".
(9) المسند (5/388).
(10) زيادة من ت ، وأبي داود.
(6/596)
رأسه من
السجود ، وكان يقعد فيما بين السجدتين نحوا من سجوده ، وكان يقول : "رب ،
اغفر لي ، رب اغفر لي". فصلى أربع ركعات ، فقرأ فيهن البقرة ، وآل عمران ،
والنساء ، والمائدة - أو الأنعام (1) - - شك شعبة - هذا لفظ أبي داود. (2)
وقال النسائي : "أبو حمزة عندنا : طلحة بن يزيد ، وهذا الرجل يشبه أن يكون
صلة". كذا قال. والأشبه أن يكون ابن عم حذيفة ، كما تقدم في رواية الإمام
أحمد ، [والله أعلم]. (3) فأما رواية صلة بن زفر ، عن حذيفة ، فإنها في صحيح مسلم
، ولكن ليس فيها ذكر الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة.
وقال (4) أبو داود : حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن عمرو بن قيس ، عن عاصم بن حُمَيْد ، عن عوف بن مالك الأشجعي قال : قمتُ مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقام فقرأ سورة البقرة ، لا يمر بآية رحمة إلا وقف
فسأل ، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوّذ. قال : ثم ركع بقدر قيامه ، يقول في
ركوعه : "سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة". ثم سجد بقدر
قيامه ، ثم قال في سجوده مثل ذلك ، ثم قام فقرأ بآل عمران ، ثم قرأ سورة سورة.
ورواه الترمذي في الشمائل ، والنسائي ، من حديث معاوية بن صالح ، به. (5)
]آخر تفسير سورة "يس" ولله الحمد أولا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا] (6)
__________
(1) في ت : "والأنعام".
(2) سنن أبي داود برقم (874) والشمائل للترمذي برقم (260) وسنن النسائي (2/199).
(3) زيادة من س.
(4) في ت : "وروى".
(5) سنن أبي داود برقم (873) والشمائل للترمذي برقم (296) وسنن النسائي (2/191).
(6) زيادة من س.
(6/597)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)
تفسير سورة
الصافات
[وهي] (1) مكية.
قال النسائي : أخبرنا إسماعيل بن مسعود ، حدثنا خالد - يعني ابن الحارث - عن ابن
أبي ذئب قال : أخبرني بن عبد الرحمن ، عن سالم بن عبد الله ، عن عبد الله بن عمر ،
رضي الله عنهما ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا (2) بالتخفيف ،
ويؤمنا بالصافات. تفرد به النسائي (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا
(3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) }
قال سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي الضُّحَى ، عن مسروق ، عن عبد الله بن
مسعود ، رضي الله عنه أنه قال : { وَالصَّافَّاتِ صَفًّا } وهي : الملائكة ، {
فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا } وهي : الملائكة ، { فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا } هي :
الملائكة.
وكذا قال ابن عباس ، ومسروق ، وسعيد بن جُبَيْر ، وعِكْرِمة ، ومجاهد ،
والسُّدِّيّ ، وقتادة ، والربيع بن أنس.
قال قتادة : الملائكة صفوف في السماء.
وقال (4) مسلم : حدثنا أبو بكر بن أبي شَيْبَة ، حدثنا محمد بن فُضَيْل ، عن أبي
مالك الأشجعي ، عن رِبْعِيّ ، عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"فُضِّلنا على الناس بثلاث : جُعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض
كلها مسجدًا (5) وجُعلت لنا تُربتها (6) طهورًا إذا لم نجد الماء" (7).
وقد روى مسلم أيضًا ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه من حديث الأعمش ، عن
المُسَيَّب بن رافع ، عن تميم بن طَرَفة ، عن جابر بن سَمُرَة قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم "ألا تَصُفّون كما تصف الملائكة عند ربهم ؟" قلنا :
وكيف تصف الملائكة عند ربهم ؟ قال صلى الله عليه وسلم : "يُتِمون الصفوف
المتقدمة ويَتَراصون في الصف" (8).
وقال السدي وغيره : معنى قوله { فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا } أنها تزجر السحاب.
وقال الربيع بن أنس : { فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا } : ما زجر الله عنه في القرآن.
وكذا رَوَى مالك ، عن زيد بن أسلم.
__________
(1) زيادة من ت ، س.
(2) في ت : "يأمر".
(3) سنن النسائي (2/95).
(4) في ت : "وروى".
(5) في س : "مسجدا وطهورا".
(6) في ت ، س : "تربتها لنا".
(7) صحسح مسلم برقم (522).
(8) صحيح مسلم برقم (430) وسنن أبي داود برقم (661) وسنن النسائي (2/92) وسنن ابن
ماجه برقم (922).
(7/5)
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
{
فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا } قال السدي : الملائكة يجيئون بالكتاب ، والقرآن من عند
الله إلى الناس. وهذه الآية كقوله تعالى : { فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا
أَوْ نُذْرًا } [المرسلات : 5 ، 6].
وقوله : { إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ } هذا هو المقسم عليه ، أنه تعالى لا إله
إلا هو { رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } أي : من المخلوقات ، {
وَرَبُّ الْمَشَارِقِ } أي : هو المالك المتصرف في الخلق بتسخيره بما فيه من كواكب
(1) ثوابت ، وسيارات تبدو من المشرق ، وتغرب من المغرب. واكتفى بذكر المشارق عن
المغارب لدلالتها عليه. وقد صرح بذلك في قوله : { فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ
الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ } [المعارج : 40]. وقال في الآية
الأخرى : { رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ } [الرحمن : 17] يعني
في الشتاء والصيف ، للشمس والقمر.
{ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا
مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى
وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلا
مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) }
يخبر تعالى أنه زين السماء الدنيا للناظرين إليها من أهل الأرض { بِزِينَةٍ
الْكَوَاكِبِ } ، قرئ بالإضافة وبالبدل ، وكلاهما بمعنى واحد ، فالكواكب السيارة
والثوابت يثقب ضوءها جرم السماء الشفاف ، فتضيء (2) لأهل الأرض ، كما قال تعالى {
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا
لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ } [الملك : 5] ، وقال : {
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ
وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ. إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ
فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ } [الحجر : 16 - 18].
وقوله ها هنا : { وَحِفْظًا } تقديره : وحفظناها حفظًا ، { مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ
مَارِدٍ } يعني : المتمرد العاتي إذا أراد أن يسترق السمع ، أتاه شهاب ثاقب فأحرقه
، ولهذا قال : { لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى } أي : لئلا يصلوا (3)
إلى الملأ الأعلى ، وهي السماوات ومن فيها من الملائكة ، إذا تكلموا بما يوحيه
الله مما يقوله من شرعه وقدره ، كما تقدم بيان ذلك في الأحاديث التي أوردناها عند
قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ
رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [سبأ : 23] ولهذا قال
{ وَيُقْذَفُون } أي : يرمون { مِنْ كُلِّ جَانِبٍ } أي : من كل جهة يقصدون السماء
منها ، { دُحُورًا } أي : رجما يدحرون به ويزجرون ، ويمنعون من الوصول إلى ذلك ، {
وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ } أي : في الدار الآخرة لهم عذاب دائم موجع مستمر ، كما
قال : { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ } [الملك : 5].
وقوله : { إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ } أي : إلا من اختطف من الشياطين الخطفة ،
وهي الكلمة يسمعها
__________
(1) في ت : "الكواكب".
(2) في ت ، س : "فيضئ".
(3) في ت ، س : "يصلون".
(7/6)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آَيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)
من السماء
فيلقيها إلى الذي تحته ، ويلقيها الآخر إلى الذي تحته ، فربما أدركه الشهاب قبل أن
يلقيها وربما ألقاها بقدر الله قبل أن يأتيه الشهاب فيحرقه ، فيذهب بها الآخر إلى
الكاهن ، كما تقدم في الحديث ، ولهذا قال : { إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ
فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } أي : مستنير.
قال (1) ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وَكِيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق
، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس قال : كان للشياطين مقاعد في السماء فكانوا (2)
يستمعون الوحي. قال : وكانت النجوم لا تجري ، وكانت الشياطين لا تُرْمى قال : فإذا
سمعوا (3) الوحي نزلوا إلى الأرض ، فزادوا في الكلمة تسعًا. قال : فلما بعث رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، جعل الشيطان إذا قعد مقعده جاء شهاب فلم يُخْطئه حتى
يُحرقَه. قال : فشكوا ذلك إلى إبليس ، فقال : ما هو إلا من أمْر حدث. قال : فَبَثّ
جنوده ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي بين جبلي نخلة - قال وكيع :
يعني بطن نخلة - قال : فرجعوا إلى إبليس فأخبروه ، فقال : هذا الذي حدث. (4)
وستأتي الأحاديث الواردة مع الآثار في هذا المعنى عند قوله تعالى إخبارا عن الجن
أنهم قالوا : { وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا
شَدِيدًا وَشُهُبًا. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ
فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا. وَأَنَّا لا نَدْرِي
أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا }
[الجن : 8 - 10].
{ فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا
خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا
ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)
وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا
وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ (17) قُلْ
نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا
هُمْ يَنْظُرُونَ (19) }
يقول تعالى : فَسَل هؤلاء المنكرين للبعث : أيما أشد خلقًا هم أم (5) السماوات
والأرض ، وما بينهما من الملائكة والشياطين والمخلوقات العظيمة ؟ - وقرأ ابن مسعود
: "أم من عددنا" - فإنهم يُقرّون أن هذه المخلوقات أشد خلقًا منهم ،
وإذا كان الأمر كذلك فلم ينكرون البعث ؟ وهم يشاهدون ما هو أعظم مما أنكروا (6).
كما قال تعالى : { لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [غافر : 57] ثم بين أنهم خُلقوا من
شيء ضعيف ، فقال { إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ }
قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والضحاك : هو الجيّد الذي يلتزق بعضه ببعض. وقال
__________
(1) في ت : "وروى".
(2) في ت ، س : "قال : فكانوا".
(3) في أ : "استمعوا".
(4) تفسير الطبري (23/25).
(5) في س : "أو".
(6) في ت ، أ : "أنكروه".
(7/7)
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)
ابن عباس ،
وعكرمة : هو اللزج. وقال قتادة : هو الذي يلزق باليد.
وقوله : { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ } أي : بل عجبت - يا محمد - من تكذيب هؤلاء
المنكرين للبعث ، وأنت موقن مصدق بما أخبر الله به من الأمر العجيب ، وهو إعادة
الأجسام بعد فنائها. وهم بخلاف أمرك ، من شدة تكذيبهم يسخرون مما تقول لهم من ذلك.
قال قتادة : عجب محمد صلى الله عليه وسلم ، وسَخِر ضُلال بني آدم. { وَإِذَا
رَأَوْا آيَةً } أي : دلالة واضحة على ذلك { يَسْتَسْخِرُونَ } قال مجاهد وقتادة :
يستهزئون.
{ وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ } أي : إن هذا الذي جئت به إلا سحر
مبين ، { أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ،
أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ } يستبعدون ذلك ويكذبون به ، { قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ
دَاخِرُونَ } أي : قل لهم يا محمد : نعم تبعثون يوم القيامة بعد ما تصيرون ترابا وعظاما
، { وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ } أي : حقيرون تحت القدرة العظيمة ، كما قال تعالى {
وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } [النمل : 87] ، وقال : { إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر :
60].
ثم قال : { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ } أي :
إِنما هو أمر واحد من الله عز وجل ، يدعوهم دعوة واحدة أن يخرجوا من الأرض ، فإذا
هم [قيام] (1) بين يديه ، ينظرون إلى أهوال يوم القيامة.
{ وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ
الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا
وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ
إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) }
__________
(1) زيادة من ت ، س ، أ.
(7/8)
مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
{ مَا
لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) }
يخبر تعالى عن قِيلِ الكفار يوم القيامة أنهم يرجعون على أنفسهم بالملامة ،
ويعترفون بأنهم (1) كانوا ظالمين لأنفسهم في الدار الدنيا ، فإذا عاينوا أهوال
القيامة نَدمُوا كلَّ الندم حيث لا ينفعهم الندم ، { وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا
هَذَا يَوْمُ الدِّينِ }. فتقول لهم الملائكة والمؤمنون : { هَذَا يَوْمُ
الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ }. وهذا يقال لهم على وجه التقريع
والتوبيخ ، ويأمر الله الملائكة أن تُميزَ الكفار من المؤمنين في الموقف في محشرهم
ومنشرهم ، ولهذا قال تعالى : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ }
قال النعمان بن بشير (2) رضي الله عنه ، يعني بأزواجهم أشباههم وأمثالهم. وكذا قال
ابن عباس ، وسعيد
__________
(1) في ت : "أنهم".
(2) في أ : "بشر".
(7/8)
بن جُبَيْر
، وعِكْرِمة ومجاهد ، والسُّدِّي ، وأبو صالح ، وأبو العالية ، وزيد بن أسلم
[وغيرهم] (1).
وقال سفيان الثوري ، عن سمَاك ، عن النعمان بن بشير ، (2) عن عمر بن الخطاب رضي
الله عنه { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } قال إخوانهم : (3).
وقال شريك ، عن سماك ، عن النعمان قال : سمعت عمر يقول { احْشُرُوا الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } قال : أشباههم قال : يجيء صاحب الربا مع أصحاب الربا ،
وصاحب (4) الزّنا مع أصحاب الزّنا ، وصاحب (5) الخمر مع أصحاب الخمر ، وقال
خُصَيْف ، عن مِقْسَم ، عن ابن عباس : { أَزْوَاجَهُمْ } : نساءهم. وهذا غريب ،
والمعروف عنه الأول ، كما رواه مجاهد وسعيد بن جبير ، عنه : { أَزْوَاجَهُمْ } :
قُرَناءهم (6).
"وما كانوا يعبدون من دون الله" أي : من الأصنام والأنداد ، تحشر معهم
في أماكنهم. وقوله : { فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } أي : أرشدوهم إلى
طريق جهنم ، وهذا كقوله تعالى : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى
وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ
زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } [الإسراء : 97].
وقوله : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ } أي : قفوهم حتى يُسألوا عن
أعمالهم وأقوالهم التي صدرت عنهم في الدار الدنيا كما قال الضحاك ، عن ابن عباس :
يعني احبسوهم إنهم محاسبون. وقال ابن أبي حاتم : (7) حدثنا أبي ، حدثنا النُّفَيلي
، حدثنا المعتمر بن سليمان قال : سمعت ليثا يُحدّث عن بشر ، عن أنس بن مالك [رضي
الله عنه] (8) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أيما داع دعا إلى
شيء كان موقوفًا معه إلى يوم القيامة ، لا يغادره ولا يفارقه ، وإن دعا رجل رجلا"
، ثم قرأ : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ }. ورواه الترمذي ، من حديث ليث
بن أبي سليم. (9) ورواه ابن جرير ، عن يعقوب بن إبراهيم ، عن معتمر ، عن ليث ، عن
رجل ، عن أنس مرفوعا (10).
وقال عبد الله بن المبارك : سمعت عثمان بن زَائدَةَ يقول : إن أول ما يُسأل عنه
الرجل جلساؤه ، ثم يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ : { مَا لَكُمْ لا
تَنَاصَرُونَ } أي : كما (11) زعمتم أنكم جميع منتصر ، { بَلْ هُمُ الْيَوْمَ
مُسْتَسْلِمُونَ } أي : منقادون لأمر الله ، لا يخالفونه ولا يحيدون عنه.
{
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في أ : "بشر".
(3) رواه الطبري في تفسيره (23/31).
(4) في ت ، س ، أ : "أصحاب".
(5) في س : "قرباؤهم".
(6) في س : "قرباؤهم".
(7) في ت : "الترمذي".
(8) زيادة من ت.
(9) سنن الترمذي برقم (3228).
(10) تفسير الطبري (23/32)
(11) في ت : "كلما".
(7/9)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)
وَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29)
وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30)
فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ
إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ
(33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا
قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا
لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ
الْمُرْسَلِينَ (37) }
يذكر تعالى أن الكفار يتلاومون في عرصات القيامة ، كما يتخاصمون في دَرَكات النار
، { فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ
تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ. قَالَ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ
الْعِبَادِ } [غافر : 47 ، 48]. وقال : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ
مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ
يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ
لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ. قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ
مُجْرِمِينَ. وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ
مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ
وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ
وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ } [سبأ : 31 - 33]. (1) قالوا لهم ههنا : { إِنَّكُمْ
كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ } قال الضحاك ، عن ابن عباس : يقولون :
كنتم تقهروننا بالقدرة منكم علينا ، لأنا (2) كنا أذلاء وكنتم أعزاء.
وقال مجاهد : يعني : عن الحق ، الكفار تقوله (3) للشياطين.
وقال قتادة : قالت الإنس للجن : { إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ
الْيَمِينِ } قال : من قبل الخير ، فتنهونا عنه وتبطئونا عنه.
وقال السدي تأتوننا [عن اليمين] (4) من قبل الحق ، تزينون (5) لنا الباطل ،
وتصدونا عن الحق.
وقال الحسن في قوله : { إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ } إيْ
والله ، يأتيه عند كل خير يريده فيصده عنه.
وقال ابن زيد : معناه تحولون بيننا وبين الخير ، ورددتمونا عن الإسلام والإيمان
والعمل بالخير الذي أمرنا به.
وقال يزيد الرشْك : من قبل "لا إله إلا الله". وقال خُصيف : يعنون من
قبل ميامنهم. وقال
__________
(1) في ت ، س : "المجرمون".
(2) في أ : "لأننا".
(3) في ت : "بقوله".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ : "وتزينوا".
(7/10)
عكرمة {
إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ } ، قال : من حيث نأمنكم.
وقوله : { قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } تقول القادة من الجن ،
والإنس للأتباع : ما الأمر كما تزعمون ؟ بل كانت قلوبكم منكرة للإيمان ، قابلة
للكفر والعصيان ، { وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ } (1) أي : من
حجة على صحة ما دعوناكم إليه ، { بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ } أي : بل كان فيكم
طغيان ومجاوزة للحق ، فلهذا استجبتم لنا وتركتم الحق الذي جاءتكم به الأنبياء ،
وأقاموا لكم الحجج على صحة ما جاءوكم به ، فخالفتموهم.
{ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ
إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ } ، يقول الكبراء للمستضعفين : حقت علينا كلمة الله (2) :
إنا من الأشقياء الذائقين العذاب يوم القيامة ، { فَأَغْوَيْنَاكُمْ } أي :
دعوناكم إلى الضلالة ، { إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ } أي : دعوناكم (3) إلى ما نحن
فيه ، فاستجبتم لنا ، قال الله تعالى : { فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ
مُشْتَرِكُونَ } أي : الجميع في النار ، كل بحسبه ، { إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ
بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُوا } أي : في الدار الدنيا { إِذَا قِيلَ لَهُمْ
لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } أي : يستكبرون أن يقولوها ، كما يقولها
المؤمنون.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وَهْب ، حدثنا عمي ، حدثنا
الليث ، عن ابن مُسافر - يعني عبد الرحمن بن خالد - عن ابن شهاب ، عن سعيد بن
المسيب ، عن أبي هُرَيرة ، رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فمن قال : لا إله إلا
الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه ، وحسابه على الله ، وأنزل الله في كتابه -
وذكر قوما استكبروا - فقال : { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ
إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } (4).
وقال (5) ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل ، حدثنا
حمَّاد ، عن سعيد الجُرَيري ، عن أبي العلاء قال : يؤتى باليهود يوم القيامة فيقال
لهم : ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون : الله وعُزَيرًا. فيقال لهم : خذوا ذات الشمال ،
ثم يؤتى بالنصارى فيقال لهم : ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون : نعبد الله والمسيح.
فيقال لهم : خذوا ذات الشمال. ثم يؤتى بالمشركين فيقال لهم : "لا إله إلا
الله" ، فيستكبرون. ثم يقال لهم : "لا إله إلا الله" ، فيستكبرون.
ثم يقال لهم : "لا إله إلا الله" فيستكبرون. فيقال لهم : خذوا ذات
الشمال - قال أبو نضرة : فينطلقون أسرع من الطير - قال أبو العلاء : ثم يؤتى
بالمسلمين فيقال لهم : ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون : كنا نعبد الله. فيقال لهم : هل
تعرفونه إذا رأيتموه ؟ فيقولون : نعم. فيقال لهم : فكيف تعرفونه ولم تروه ؟ قالوا
: نعلم أنه لا عِدْلَ له. قال : فيتعرف لهم تبارك وتعالى ، وينجي الله المؤمنين.
__________
(1) في ت : "لكم علينا"
(2) في أ : "كلمة ربك".
(3) في ت ، س : "فدعوناكم".
(4) وقد رواه مسلم في صحيحه برقم (21) بدون ذكر الآية من طريق يونس عن الزهري به.
(5) في ت : "وروى".
(7/11)
إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
{
وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ } أي : أنحن (1)
نترك عبادة آلهتنا وآلهة آبائنا عن قول [هذا] (2) الشاعر المجنون ، يعنون رسول
الله صلى الله عليه وسلم ؟! قال الله تعالى تكذيبا لهم ، وردا عليهم : { بَلْ
جَاءَ بِالْحَقِّ } يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بالحق في جميع شرْعة
(3) الله له من الإخبار والطلب ، { وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } أي : صدّقهم فيما
أخبروه (4) عنه من الصفات الحميدة ، والمناهج السديدة ، وأخبر عن الله في شرعه
[وقدره] وأمره كما أخبروا ، { مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ
مِنْ قَبْلِكَ } الآية [فصلت : 43].
{ إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الألِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ
لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ
مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا
هُمْ عَنْهَا يُنزفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) }
يقول تعالى مخاطبًا للناس : { إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الألِيمِ. وَمَا
تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ، ثم استثنى من ذلك عباده المخلصين ،
كما قال تعالى { وَالْعَصْرِ. إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [العصر : 1 - 3].
وقال : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْنَاهُ
أَسْفَلَ سَافِلِينَ. إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [التين :
4 - 6] ، وقال : { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا
مَقْضِيًّا. ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا
جِثِيًّا } [مريم : 71 ، 72] ، وقال : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ.
إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ } [المدثر : 38 ، 39] ولهذا قال هاهنا : { إِلا عِبَادَ
اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } أي : ليسوا يذوقون العذاب الأليم ، ولا يناقشون في
الحساب ، بل يتجاوز عن سيئاتهم ، إن كان لهم سيئات ، ويجزون الحسنة بعشر أمثالها
إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، إلى ما يشاء الله تعالى من التضعيف.
وقوله : { أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ } قال قتادة ، والسدي : يعني الجنة.
ثم فسره بقوله تعالى { فَوَاكِهُ } أي : متنوعة { وَهُمْ مُكْرَمُونَ } أي :
يُخْدمون [ويرزقون] (5) ويرفهون وينعمون ، { فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. عَلَى
سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } قال مجاهد : لا ينظر بعضهم في قفا بعض.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يحيى بن عبدك (6) القزويني ، حدثنا حسان بن (7) حسان ،
حدثنا إبراهيم بن بشر ، (8) حدثنا يحيى بن معين ، حدثنا إبراهيم القرشي ، عن سعيد
بن شرحبيل ، عن زيد بن أبي أوفى قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فتلا هذه الآية { عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } ينظر بعضهم إلى بعض.
__________
(1) في ت : : نحن".
(2) زيادة من ت ، س.
(3) في أ : "ما شرعه".
(4) في ت ، س : "أخبروا"
(5) زيادة من أ.
(6) في أ : "عبد الله".
(7) في أ : "حبان".
(8) في أ : "بشير".
(7/12)
حديث غريب
(1).
وقوله { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. بَيْضَاءَ لَذَّةٍ
لِلشَّارِبِينَ. لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزفُونَ } ، كما قال في
الآية الأخرى : { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ. بِأَكْوَابٍ
وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزفُونَ }
[الواقعة : 17 - 19] فنزه الله خمر الآخرة (2) عن الآفات التي في خمر الدنيا ، من
صداع الرأس ووجع البطن - وهو الغول - وذهابها بالعقل جملة ، فقال تعالى هاهنا : {
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ } أي : بخمر من أنهار جارية ، لا يخافون
انقطاعها ولا فراغها.
قال مالك ، عن زيد بن أسلم : خمر جارية بيضاء ، أي : لونها مشرق حسن بهى لا كخمر
الدنيا في منظرها البشع الرديء ، من حمرة أو سواد أو أصفرار أو كدورة ، (3) إلى
غير ذلك مما ينفر الطبع السليم.
وقوله عز وجل : { لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ } أي طعمها طيب كلونها ، وطيب الطعم دليل
على طيب الريح ، بخلاف خمر الدنيا في جميع ذلك.
وقوله : { لا فِيهَا غَوْلٌ } يعني : لا تؤثر فيهم غولا - وهو وجع البطن. قاله
مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد - كما تفعله خمر الدنيا من القُولَنْج ونحوه ، لكثرة
مائيتها.
وقيل : المراد بالغول هاهنا : صداع الرأس. وروي هكذا عن ابن عباس.
وقال قتادة : هو صداع الرأس ، ووجع البطن. وعنه ، وعن السدي : لا تغتال عقولهم ،
كما قال الشاعر :
فَمَا زَالَتِ الكأسُ تَغْتَالُنا... وتَذْهبُ بالأوَّل الأوَّلِ (4) (5)
وقال سعيد بن جبير : لا مكروه فيها ولا أذى. والصحيح قول مجاهد : إنه وجع البطن.
وقوله : { وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزفُونَ } قال مجاهد : لا تذهب عقولهم ، وكذا قال
ابن عباس ، ومحمد بن كعب ، والحسن ، وعطاء بن أبي مسلم الخراساني ، والسدي ،
وغيرهم.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : في الخمر أربع خصال : السكر ، والصداع ، والقيء ،
والبول. فذكر الله خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال ، كما ذكر في سورة
"الصافات" (6).
وقوله : { وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ } أي : عفيفات لا ينظرن إلى غير
أزواجهن. كذا قال ابن
__________
(1) ورواه البخاري في التاريخ الكبير (3/386) في ترجمة زيد بن أبي أوفى من طريق
حسان بن حسان به ، وقال : "لا يتابع عليه".
(2) في ت ، س : "الجنة".
(3) في ت : "كدرة".
(4) في ت : "فالأول".
(5) البيت في تفسير الطبري (23/35).
(6) في ت : "والصافات".
(7/13)
عباس ،
ومجاهد ، وزيد بن أسلم ، وقتادة ، والسدي ، وغيرهم.
وقوله { عِينٌ } أي : حسان الأعين. وقيل : ضخام الأعين. هو يرجع إلى الأول ، وهي
النجلاء العيناء ، فوصف عيونهن بالحسن والعفة ، كقول زليخا في يوسف حين جملته
وأخرجته على تلك النسوة ، فأعظمنه وأكبرنه ، وظنن أنه ملك من الملائكة لحسنه وبهاء
منظره ، قالت : { فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ
عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ } [يوسف : 32] أي : هو مع هذا الجمال عفيف تقي نقي ،
[فأرتهن جماله الظاهر وأخبرتهن بجماله الباطن]. (1) وهكذا الحور العين { خَيْرَاتٌ
حِسَانٌ } [الرحمن : 70] ، ولهذا قال : { وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ
}
وقوله : { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ } وصفهن بترافة الأبدان بأحسن الألوان.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما : { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ
مَكْنُونٌ } يقول : اللؤلؤ المكنون.
وينشد هاهنا بيت أبي دهبل الشاعر في قصيدة له :
وَهْيَ زَهْرَاء مثْلَ لؤلؤة الغوّ... اص مُيِّزَتْ مِن جوهر مكْنُون (2)
وقال الحسن : { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ } يعني : محصون (3) لم تمسه الأيدي.
وقال السدي : البيض في عشه مكنون.
وقال سعيد بن جبير : { [كَأَنَّهُنَّ] (4) بَيْضٌ مَكْنُونٌ } ، يعني : بطن البيض
(5).
وقال عطاء الخراساني : هو السحاء الذي يكون بين قشرته العليا ولباب البيضة.
وقال السدي : { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ } يقول : بياض البيض حين ينزع قشره.
واختاره ابن جرير لقوله : { مَكْنُونٌ } ، قال : والقشرة العليا يمسها جناح الطير
والعش ، وتنالها الأيدي بخلاف داخلها ، والله أعلم.
وقال ابن جرير : حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، حدثنا محمد بن الفرج الصدفي
الدمياطي ، عن عمرو بن هاشم ، عن ابن أبي كريمة ، عن هشام ، عن الحسن ، عن أمه ،
عن أم سلمة (6) رضي الله عنها ، قلت (7) : يا رسول الله ، أخبرني عن قول الله : {
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ } (8) قال : "رقتهن كرقة الجلدة التي رأيتها
في داخل البيضة ، التي تلي القشر وهي الغِرْقِئ" (9).
__________
(1) زيادة من ت.
(2) البيت في تفسير الطبري (23/37).
(3) في ت : "مصون"
(4) زيادة من ت.
(5) في ت : "العين".
(6) في ت : "وروى ابن جرير بإسناده عن أم سلمة".
(7) في ت : "عنها قالت : قلت".
(8) في ت ، س : "أخبرني عن قول الله : "حور عين" قال : "العين
: الضخام العيون شفر الحوراء مثل جناح النسر" قلت : يا رسول الله أخبرني عن
قول الله : "كأنهن بيض مكنون".
(9) تفسير الطبري (23/37) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (23/367) حدثنا بكر بن
سهل الدمياطي حدثنا عمرو بن هاشم به ، قال الهيثمي في المجمع (7/119) : "فيه
سليمان بن أبي كريمة ضعفه أبو حاتم وابن عدي".
(7/14)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51)
وقال (1)
ابن أبي حاتم : حدثنا أبي : حدثنا أبو غسان النهدي ، حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن
ليث ، عن الربيع بن أنس ، عن أنس ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا ، وأنا خطيبهم إذا وفدوا ، وأنا
مبشرهم إذا حزنوا ، وأنا شفيعهم إذا حبسوا ، لواء الحمد يومئذ بيدي ، وأنا أكرم
ولد آدم على ربي عز وجل ولا فخر ، يطوف علي ألف خادم كأنهن البيض المكنون - أو :
اللؤلؤ المكنون" (2).
{ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ
إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) }
__________
(1) في ت : "وروى".
(2) ورواه البيهقي في دلائل النبوة (5/483) من طريق منصور بن أبي الأسود عن ليث عن
الربيع بن أنس به ، ثم رواه من طريق حيان بن علي عن ليث عن عبيد الله بن زحر عن
الربيع عن أنس به ، وقال : "تابعه - أي الليث - محمد بن فضيل عن عبيد الله بن
زحر".
(7/15)
يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
{ يَقُولُ
أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا
وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ
لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)
أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ
بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا
فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) }.
يخبر تعالى عن أهل الجنة أنه أقبل بعضهم على بعض يتساءلون ، أي : عن أحوالهم ،
وكيف كانوا في الدنيا ، وماذا كانوا يعانون فيها ؟ وذلك من حديثهم على شرابهم ،
(1) واجتماعهم في تنادمهم وعشرتهم في مجالسهم ، وهم جلوس على السرر ، والخدم بين
أيديهم ، يسعون ويجيئون بكل خير عظيم ، من مآكل ومشارب وملابس ، وغير ذلك مما لا
عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. { قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي
كَانَ لِي قَرِينٌ } قال مجاهد : يعني شيطانا.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : هو الرجل المشرك ، يكون له صاحب من أهل الإيمان في
الدنيا.
ولا تنافي بين كلام مجاهد ، وابن عباس ؛ فإن الشيطان يكون من الجن فيوسوس في النفس
، ويكون من الإنس فيقول كلاما تسمعه الأذنان ، وكلاهما متعاديان ، (2) قال الله
تعالى : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } [الأنعام
: 112] وكل منهما يوسوس ، كما قال (3) تعالى : { [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ.
مَلِكِ النَّاسِ. إِلَهِ النَّاسِ ]. مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ.
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاس } [سورة
الناس] (4). ولهذا { قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ
أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ } أي : أأنت تصدق بالبعث والنشور والحساب
والجزاء ؟! يعني : يقول ذلك على وجه التعجب والتكذيب والاستبعاد ، والكفر والعناد.
{ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ } قال
مجاهد ، والسدي : لمحاسبون ؟ وقال ابن عباس ، ومحمد بن كعب القرظي : لمجزيون
بأعمالنا ؟.
__________
(1) في أ : "سراتهم".
(2) في ت ، س : "متعاونان".
(3) في ت : "قال الله تعالى".
(4) زيادة من ت ، س ، أ.
(7/15)
قال : {
قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ } أي : مشرفون. يقول المؤمن لأصحابه وجلسائه من
أهل الجنة. { فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ } قال ابن عباس ، وسعيد
بن جبير ، وخليد العصري وقتادة ، والسدي ، وعطاء الخراساني [وغيرهم] (1) يعني في
وسط الجحيم.
وقال الحسن البصري : في وسط الجحيم كأنه شهاب يتقد.
وقال قتادة : ذكر لنا أنه اطلع فرأى جماجم القوم تغلي. وذكر لنا أن كعب الأحبار
قال : في الجنة كوى إذا أراد أحد من أهلها أن ينظر إلى عدوه في النار اطلع فيها ،
فازداد شكرا.
{ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ } يقول المؤمن مخاطبا للكافر : والله
إن كدت لتهلكني لو أطعتك. { وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ
الْمُحْضَرِينَ } أي : ولولا فضل الله علي لكنت مثلك في سواء الجحيم حيث أنت ،
محضر معك في العذاب ، ولكنه تفضل [عليّ] (2) ورحمني فهداني للإيمان ، وأرشدني إلى
توحيده { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ } [الأعراف :
43].
وقوله : { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ
بِمُعَذَّبِينَ } هذا من كلام المؤمن مغبطا نفسه بما أعطاه الله من الخلد في الجنة
(3) والإقامة في دار الكرامة ، لا موت فيها ولا عذاب ؛ ولهذا قال : { إِنَّ هَذَا
لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
قال (4) ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله الظهراني ، حدثنا حفص بن عمر العَدَني
، حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة قال : قال ابن عباس رضي الله عنهما ، في قول
الله تبارك وتعالى لأهل الجنة : { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ } [الطور : 19] ، قال ابن عباس ، رضي الله عنهما : قوله : { هَنِيئًا
} أي : لا يموتون (5) فيها. فعندها قالوا : { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلا
مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ }
وقال الحسن البصري : علموا أن كل نعيم فإن الموت يقطعه ، فقالوا : { أَفَمَا
نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } ،
قيل [لهم] : (6) لا. قالوا : { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
وقوله : { لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ } قال قتادة : هذا من كلام
أهل الجنة.
وقال ابن جرير : هو من كلام الله تعالى ، ومعناه : لمثل هذا النعيم وهذا الفوز
فليعمل العاملون في الدنيا ، ليصيروا إليه في الآخرة (7).
وقد ذكروا قصة رجلين كانا شريكين في بني إسرائيل ، تدخل في ضمن عموم هذه الآية
الكريمة.
قال أبو جعفر بن جرير : حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، حدثنا عتاب بن
بشير ، عن خصيف ، عن فرات بن ثعلبة البهراني في قوله : { إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ
} قال : إن رجلين كانا
__________
(1) زيادة من ت.
(2) زيادة من س ، أ.
(3) في ت : "في الجنة من الخلد".
(4) في ت : "روى".
(5) في ت ، س : "لا تموتون".
(6) زيادة من ت ، أ.
(7) تفسير الطبري (23/40).
(7/16)
شريكين ،
فاجتمع لهما ثمانية آلاف دينار ، وكان أحدهما له حرفة ، والآخر ليس له حرفة ، فقال
الذي له حرفة للآخر : ليس عندك حرفة ، ما أراني إلا مفارقك ومقاسمك ، فقاسمه
وفارقه ، ثم إن الرجل اشترى دارًا بألف دينار كانت لملك ، مات ، فدعا صاحبه فأراه
فقال : كيف (1) ترى هذه الدار ؟ ابتعتها بألف دينار ؟ قال : ما أحسنها! فلما خرج
قال : اللهم إن صاحبي ابتاع (2) هذه الدار بألف دينار ، وإني أسألك دارا من دور
الجنة ، فتصدق بألف دينار ، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ، ثم إنه تزوج بامرأة (3)
بألف دينار ، فدعاه وصنع له طعاما. فلما أتاه قال : إني تزوجت امرأة بألف دينار.
قال : ما أحسن هذا! فلما انصرف قال : يا رب ، إن صاحبي تزوج امرأة بألف دينار ،
وإني أسألك امرأة من الحور العين. فتصدق بألف دينار ، ثم إنه مكث ما شاء الله أن
يمكث. ثم اشترى بستانين بألفي دينار ، ثم دعاه فأراه فقال : إني ابتعت هذين
البستانين. (4) فقال : ما أحسن هذا! فلما خرج قال : يا رب ، إن صاحبي قد اشترى
بستانين بألفي دينار ، وأنا أسألك بستانين في الجنة. فتصدق بألفي دينار ، ثم إن
الملك أتاهما فتوفاهما ، ثم انطلق بهذا المتصدق ، فأدخله دارا تعجبه ، وإذا امرأة
تطلع يضيء ما تحتها من حسنها ، ثم أدخله بستانين وشيئا الله به عليم ، (5) فقال
عند ذلك : ما أشبه هذا برجل كان من أمره كذا وكذا. قال : فإنه ذاك ، ولك هذا
المنزل والبستانان والمرأة. قال : فإنه كان لي صاحب يقول : أئنك لمن المصدقين ؟
قيل له : فإنه في الجحيم. قال : هل أنتم مطلعون ؟ فاطلع فرآه في سواء الجحيم. فقال
عند ذلك : { تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي
لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } الآيات.
قال ابن جرير : وهذا يقوي قراءة من قرأ : "أئنك لمن المُصَّدّقِينَ"
بالتشديد.
وقال (6) ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا عمر بن عبد الرحمن الأبار
أبو حفص قال : سألت إسماعيل السدي عن هذه الآية : { قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي
كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ } ? قال : فقال لي :
ما ذكرك هذا ؟ قلت : قرأته آنفا فأحببت أن أسألك عنه ؟ فقال : أما فاحفظ ، كان
شريكان في بني إسرائيل ، أحدهما مؤمن والآخر كافر ، فافترقا على ستة آلاف دينار ،
كل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار ، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا ، ثم التقيا فقال
الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك ؟ أضربت به شيئا ؟ أتجرت به في شيء ؟ فقال له
المؤمن : لا فما صنعت أنت ؟ فقال : اشتريت به أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا (7) قال :
فقال له المؤمن : أو فعلت ؟ قال : نعم. فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء
الله أن يصلي ، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه ، ثم قال : اللهم إن
فلانا - يعني شريكه الكافر - اشترى أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا بألف دينار ، ثم
يموت غدا ويتركها ، اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف دينار (8) أرضا ونخلا وثمارا
وأنهارا في الجنة. قال : ثم أصبح فقسمها في المساكين. قال : ثم مكثا ما شاء الله
أن يمكثا ، ثم التقيا فقال الكافر
__________
(1) في ت ، س : "فكيف".
(2) في ت ، س : "إن صاحبي هذا قد ابتاع".
(3) في ت ، س : "امرأة".
(4) في ت ، أ : "البساتين بألفي دينار".
(5) في ت : "وفيهما ما الله به عليم".
(6) في ت : "وروى".
(7) في ت ، س : "وأنهار بألف دينار".
(8) في س : "الدينار".
(7/17)
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)
للمؤمن : ما
صنعت في مالك ، أضربت به في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال : لا فما صنعت أنت. قال :
كانت ضيعتي قد اشتد علي مؤنتها ، فاشتريت رقيقا بألف دينار ، يقومون بي (1) فيها ،
ويعملون لي فيها. فقال له المؤمن : أوفعلت ؟ قال : نعم. قال : فرجع المؤمن حتى إذا
كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي ، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه ،
ثم قال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - اشترى رقيقا من رقيق الدنيا بألف
دينار ، يموت غدا ويتركهم ، أو يموتون فيتركونه ، اللهم ، وإني اشتري منك بهذه
الألف الدينار رقيقا في الجنة. ثم أصبح فقسمها في المساكين. قال : ثم مكثا ما شاء
الله تعالى أن يمكثا ، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك ؟ أضربت به
في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال لا فما صنعت أنت ؟ قال : أمري كله قد تم إلا شيئا
واحدا ، فلانة قد مات عنها زوجها ، فأصدقتها ألف دينار ، فجاءتني بها ومثلها معها.
فقال له المؤمن : أوفعلت ؟ قال : نعم. فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء
الله أن يصلي ، فلما انصرف أخذ الألف الدينار الباقية ، فوضعها بين يديه ، وقال :
اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - تزوج زوجة من أزواج الدنيا (2) فيموت غدا
فيتركها ، أو يموت فتتركه ، اللهم وإني أخطب إليك بهذه الألف الدينار (3) حوراء
عيناء في الجنة. ثم (4) أصبح فقسمها بين المساكين. قال : فبقي المؤمن ليس عنده
شيء. قال : فلبس قميصا من قطن ، وكساء من صوف ، ثم أخذ مرا فجعله على رقبته ، يعمل
الشيء ويحفر الشيء بقوته. قال : فجاءه رجل فقال : يا عبد الله ، أتؤاجرني نفسك
مشاهرة ، شهرا بشهر ، تقوم على دواب لي تعلفها وتكنس سَرْقينها ؟ قال : نعم. قال :
فواجره نفسه مشاهرة ، شهرا بشهر ، يقوم على دوابه. قال : فكان صاحب الدواب يغدو كل
يوم ينظر إلى دوابه ، فإذا رأى منها دابة ضامرة ، أخذ برأسه فوجأ عنقه ، ثم يقول
له : سرقت شعير هذه (5) البارحة ؟ فلما رأى المؤمن هذه الشدة قال : لآتين شريكي
الكافر ، فلأعملن في أرضه فيطعمني هذه الكسرة يوما (6) ، ويكسوني هذين الثوبين إذا
بليا. قال : فانطلق يريده ، فلما انتهى إلى بابه وهو ممس ، فإذا قصر مشيد في
السماء ، وإذا حوله البوابون فقال لهم : استأذنوا لي (7) صاحب هذا القصر فإنكم إذا
فعلتم سره ذلك ، فقالوا له : انطلق إن كنت صادقا فنم في ناحية ، فإذا أصبحت فتعرض
له. قال : فانطلق المؤمن ، فألقى نصف كسائه تحته ، ونصفه فوقه ، ثم نام. فلما أصبح
أتى شريكه فتعرض له ، فخرج شريكه الكافر وهو راكب ، فلما رآه عرفه فوقف عليه وسلم
عليه وصافحه ، ثم قال له : ألم تأخذ من المال مثل ما أخذت ؟ قال : بلى وهذه حالي
(8) وهذه حالك. قال : أخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال : لا تسألني عنه. قال : فما
جاء بك ؟ قال : جئت أعمل في أرضك هذه ، فتطعمني هذه الكسرة يوما بيوم ، وتكسوني
هذين الثوبين إذا بليا. قال : لا ولكن أصنع بك ما هو خير من هذا ، ولكن لا ترى مني
خيرا حتى تخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال : أقرضته : قال : من ؟ قال : المليء الوفي.
قال : من ؟ قال : الله ربي. قال : وهو مصافحه فانتزع يده من يده ، ثم قال : {
أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا
أَئِنَّا لَمَدِينُونَ } - قال السدي : محاسبون - قال : فانطلق (9) الكافر وتركه.
قال : فلما رآه المؤمن ليس يلوي عليه ، رجع وتركه ، يعيش المؤمن في شدة من الزمان
، ويعيش الكافر في رخاء من الزمان. قال : فإذا كان يوم القيامة وأدخل الله المؤمن
الجنة ، يمر فإذا هو بأرض ونخل وثمار وأنهار ، فيقول : لمن هذا (10) ؟ فيقال : هذا
لك. فيقول : يا سبحان الله! أوَ بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟! قال : ثم يمر
فإذا هو برقيق لا تحصى عدتهم ، فيقول : لمن هذا ؟ فيقال : هؤلاء لك. فيقول : يا
سبحان الله! أوبلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟! قال : ثم يمر فإذا هو بقبة من
ياقوتة حمراء مجوفة ، فيها حوراء عيناء ، فيقول : لمن هذه ؟ فيقال : هذه لك. فيقول
: يا سبحان الله! أوبلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟! قال : ثم يذكر المؤمن
شريكه الكافر فيقول : { إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ
الْمُصَدِّقِينَ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا
لَمَدِينُونَ } قال : فالجنة عالية ، والنار هاوية. قال : فيريه الله شريكه في وسط
الجحيم ، من بين أهل النار ، فإذا رآه المؤمن عرفه ، فيقول { تَاللَّهِ إِنْ
كِدْتَ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ.
أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ
بِمُعَذَّبِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. لِمِثْلِ هَذَا
فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ } بمثل ما (11) من عليه. قال : فيتذكر المؤمن ما مر
عليه في الدنيا من الشدة ، فلا يذكر مما مر عليه في الدنيا من الشدة ، أشد عليه من
الموت (12).
{ أَذَلِكَ خَيْرٌ نزلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا
فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ
(64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ
مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا
لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ (68)
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ
يُهْرَعُونَ (70) }
يقول الله تعالى : أهذا الذي ذكره (13) من نعيم الجنة وما فيها من مآكل ومشارب
ومناكح وغير ذلك من الملاذ - خير ضيافة وعطاء { أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ } ? أي
: التي في جهنم.
وقد يحتمل أن يكون المراد بذلك شجرة واحدة معينة ، كما قال بعضهم من أنها شجرة
تمتد فروعها إلى جميع محال جهنم كما أن شجرة طوبى ما من دار في الجنة إلا وفيها
منها غصن.
وقد يحتمل أن يكون المراد بذلك جنس شجر ، يقال له : الزقوم ، كقوله تعالى : {
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ
لِلآكِلِينَ } [المؤمنون : 20] ، يعني الزيتونة. ويؤيد ذلك قوله تعالى : { ثُمَّ
إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ. لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ
زَقُّومٍ } [الواقعة : 51 ، 52].
وقوله : { إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ } ، قال قتادة : ذكرت شجرة
الزقوم ، فافتتن بها أهل الضلالة ،
__________
(1) في ت ، س ، أ : "لي".
(2) في ت ، س : "الدنيا بألف دينار".
(3) في ت : "دينار".
(4) في ت : "هذه الدابة".
(5) في ت : "هذه الدابة".
(6) في ت ، س : "يوما بيوم".
(7) في ت ، س : "لي على".
(8) في ت : "حالتي".
(9) في ت ، س : "وانطلق".
(10) في أ : "هذه".
(11) في ت ، س : "ما قد".
(12) وهذا من أخبار بني إسرائيل التي لا يعتمد عليها.
(13) في أ : "ذكرته".
(7/18)
وقالوا :
صاحبكم ينبئكم أن في النار شجرة ، والنار تأكل الشجر ، فأنزل الله عز وجل : : {
إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ } غذت من النار ، ومنها خلقت.
وقال مجاهد : { إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ } قال أبو جهل - لعنه
الله - : إنما الزقوم التمر والزبد أتزقمه.
قلت : ومعنى الآية : إنما أخبرناك يا محمد بشجرة الزقوم اختبارا تختبر (1) به
الناس ، من يصدق منهم ممن يكذب ، كقوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا
الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي
الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا }
[الإسراء : 60].
وقوله : { إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ } أي : أصل منبتها في
قرار النار ، { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ } تبشيع [لها] (2)
وتكريه لذكرها.
قال وهب بن منبه : شعور الشياطين قائمة إلى السماء.
وإنما شبهها برءوس الشياطين وإن لم تكن معروفة عند المخاطبين ؛ لأنه قد استقر في
النفوس أن الشياطين قبيحة المنظر.
وقيل : المراد بذلك ضرب من الحيات ، رءوسها بشعة المنظر.
وقيل : جنس من النبات ، طلعه في غاية الفحاشة.
وفي هذين الاحتمالين نظر ، وقد ذكرهما ابن جرير ، والأول أقوى وأولى ، والله أعلم.
وقوله : { فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ } ، ذكر
تعالى أنهم يأكلون من هذه الشجرة التي لا أبشع منها ، ولا أقبح من منظرها ، مع ما
هي عليه من سوء الطعم والريح والطبع ، فإنهم ليضطرون إلى الأكل منها ، لأنهم لا
يجدون إلا إياها ، وما (3) في معناها ، كما قال [تعالى] : (4) { لَيْسَ لَهُمْ
طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ. لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ } [الغاشية : 6 ،
7].
وقال ابن أبي حاتم ، رحمه الله : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن مرزوق ، حدثنا شعبة ،
عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم تلا هذه الآية ، وقال : "اتقوا الله حق تقاته ، فلو أن قطرة من
الزقوم قطرت في بحار الدنيا ، لأفسدت على أهل الأرض معايشهم فكيف بمن يكون طعامه
؟".
ورواه الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، من حديث شعبة ، (5) وقال الترمذي : حسن
صحيح.
وقوله تعالى : { ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ } قال ابن
عباس : يعني شرب الحميم على الزقوم.
__________
(1) في ت ، س : "أو ما هو".
(2) زيادة من ت ، س ، أ.
(3) في ت ، س : "أو ما هو".
(4) زيادة من ت ، س.
(5) سنن الترمذي برقم (2585) والنسائي الكبرى برقم (11070) وسنن ابن ماجه برقم
(4325).
(7/20)
وقال في
رواية عنه : { شَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ } مزجا من حميم.
وقال غيره : يعني يمزج لهم الحميم بصديد وغساق ، مما يسيل من فروجهم وعيونهم.
وقال (1) ابن أبي حاتم ، حدثنا أبي ، حدثنا حَيْوَة بن شُرَيح الحضرمي ، حدثنا
بَقيَّة بن الوليد ، عن صفوان بن عمرو ، أخبرني عبيد بن بسر (2) عن (3) أبي أمامة
الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يقول :
"يقرب - يعني إلى أهل النار - ماء فيتكرهه ، فإذا أدنى منه شوى وجهه ، ووقعت فروة
رأسه فيه. (4) فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره" (5).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن رافع ، حدثنا يعقوب بن عبد الله ،
عن جعفر وهارون بن عنترة ، (6) عن سعيد بن جبير قال : إذا جاع أهل النار استغاثوا
بشجرة الزقوم ، فأكلوا منها فاختلست جلود وجوههم [فيها]. (7) فلو أن مارا يمر بهم
يعرفهم لعرف وجوههم فيها ، ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل -
وهو الذي قد انتهى حره - فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم التي قد
سقطت عنها الجلود ، ويصهر ما في بطونهم ، فيمشون تسيل أمعاؤهم وتتساقط جلودهم ، ثم
يضربون بمقامع من حديد ، فيسقط كل عضو على حياله ، يدعون بالثبور.
وقوله : { ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ } أي : ثم إن مردهم بعد هذا
الفصل لإلى نار تتأجج ، وجحيم تتوقد ، وسعير تتوهج ، فتارة في هذا وتارة في هذا ،
كما قال تعالى : { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [الرحمن : 44].
هكذا تلا قتادة هذه الآية عند هذه الآية ، وهو تفسير حسن قوي.
وقال السدي في قراءة عبد الله : "ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم" وكان عبد
الله يقول : والذي نفسي بيده لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في
الجنة ، وأهل النار في النار. ثم قرأ : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ
مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } [الفرقان : 24].
وروى الثوري ، عن ميسرة ، عن المنهال بن عمرو ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال :
لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء ويقيل هؤلاء. قال سفيان : أراه ، ثم
قرأ : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا
} ، ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم".
قلت : على هذا التفسير تكون "ثم" عاطفة لخبر على خبر.
وقوله : { إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ } أي : إنما جازيناهم بذلك
لأنهم وجدوا آباءهم على الضلالة فاتبعوهم فيها بمجرد ذلك ، من غير دليل ولا برهان
؛ ولهذا قال : { فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } قال
__________
(1) في ت : "وروى".
(2) في س ، أ : "بشير".
(3) في ت : "بإسناده".
(4) في ت ، أ : "فروة رأسه في فيه".
(5) ورواه أحمد في مسنده (5/265) والحاكم في المستدرك (2/351) من طريق عبد الله بن
المبارك عن صفوان بن عمرو به.
(6) في ت : "وروى أيضا بإسناده"
(7) زيادة من ت.
(7/21)
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
مجاهد :
شبيهة بالهرولة. وقال سعيد بن جبير : يسفهون.
{ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا
فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) }
يخبر تعالى عن الأمم الماضية أن أكثرهم كانوا ضالين يجعلون مع الله آلهة أخرى.
وذكر تعالى أنه أرسل فيهم منذرين ، ينذرون بأس الله ، ويحذرونهم سطوته ونقمته ،
ممن كفر به وعبد غيره ، وأنهم تمادوا على مخالفة رسلهم وتكذيبهم. فأهلك المكذبين
ودمرهم ، ونجى المؤمنين ونصرهم وظفرهم ، ولهذا قال : { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ. إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ }
{ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ
وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) }
(7/22)
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (82)
{
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي
الآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ
أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ (82) }
لما ذكر تعالى عن أكثر الأولين أنهم ضلوا عن سبيل النجاة ، شرع يبين ذلك مفصلا
فذكر نوحا ، عليه السلام ، وما لقى من قومه من التكذيب ، وأنه لم يؤمن منهم إلا
القليل مع طول المدة ، [فإنه] (1) لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، فلما طال
عليه ذلك واشتد عليه تكذيبهم ، وكلما دعاهم ازدادوا نفرة ، فدعى ربه أني مغلوب فانتصر
، فغضب الله لغضبه عليهم ؛ ولهذا قال : { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ
الْمُجِيبُونَ } أي : فلنعم المجيبون (2) له. { وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ
الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } ، وهو التكذيب والأذى ، { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ
الْبَاقِينَ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس يقول : لم تبق إلا ذرية نوح عليه
السلام.
وقال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة في قوله : { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ
الْبَاقِينَ } قال : الناس كلهم من ذرية نوح [عليه السلام] (3).
وقد روى الترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من حديث سعيد بن بشير ، عن قتادة ،
عن الحسن ، عن سمرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَجَعَلْنَا
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ } قال : "سام ، وحام ويافث".
وقال (4) الإمام أحمد : حدثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن
سمرة ؛ أن نبي الله (5) صلى الله عليه وسلم قال : "سام أبو العرب ، وحام أبو
الحبش ، ويافث أبو الروم".
ورواه الترمذي عن بشر بن معاذ العقدي ، عن يزيد بن زريع ، عن سعيد - وهو ابن أبي
عروبة -
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت ، أ : "المجيبون كنا له".
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) في ت : "وروى".
(5) في ت : "النبي"
(7/22)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)
عن قتادة ،
به (1).
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ : وقد روي عن عمران (2) بن حُصين ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم مثله. (3) والمراد بالروم هاهنا : هم الروم الأوَل ، وهم اليونان
المنتسبون إلى رومي بن ليطي بن يونان بن يافث بن نوح ، عليه السلام. ثم روى من
حديث إسماعيل بن عياش ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب قال : ولد نوح عليه
السلام ثلاثة : سام وحام ويافث ، وولد كل واحد من هذه الثلاثة ثلاثة ، فولد سامُ
العربَ وفارسَ والروم ، وولد يافثُ الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج ، وولد حامُ
القبطَ والسودان والبربر. وروي عن وهب بن منبه نحو هذا ، والله أعلم.
وقوله : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ } ، قال ابن عباس : يذكر بخير.
وقال مجاهد : يعني لسان صدق للأنبياء كلهم.
وقال قتادة والسدي : أبقى الله عليه الثناء الحسن في الآخرين. قال الضحاك : السلام
والثناء الحسن.
وقوله تعالى : { سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ } مفسر لما أبقى عليه من
الذكر الجميل والثناء الحسن أنه يسلم عليه في جميع الطوائف والأمم.
{ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } أي : هكذا نجزي من أحسن من العباد في
طاعة الله ، نجعل (4) له لسانَ صدْق يذكر به بعده بحسب مرتبته في ذلك.
ثم قال : { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } أي المصدقين الموحدين
الموقنين ، { ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ } أي : أهلكناهم ، فلم تبْق (5) منهم
عين تطرف ، ولا ذكر لهم ولا عين ولا أثر ، ولا يعرفون إلا بهذه الصفة القبيحة.
{ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
(84) إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً
دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) }
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ }
يقول : من أهل دينه. وقال مجاهد : على منهاجه وسنته.
{ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } قال ابن عباس : يعني شهادة أن لا إله إلا
الله.
__________
(1) المسند (5/9) وسنن الترمذي برقم (3931) وقال الترمذي : "هذا حديث
حسن".
(2) في س : "عمر".
(3) حديث عمران بن حصين : رواه الطبراني في المعجم الكبير (18/146) من طريق سعيد
بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين وسمرة بن جندب به.
(4) في ت ، س : "يجعل".
(5) في ت ، أ : "يبق".
(7/23)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)
وقال (1)
ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا أبو أسامة ، عن عَوْف : قلت لمحمد
بن سِيرين : ما القلب السليم ؟ قال : يعلم (2) أن الله حق ، وأن الساعة آتية لا
ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور.
وقال الحسن : سليم من الشرك ، وقال عروة : لا يكون لعانا.
وقوله : { إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ } : أنكر عليهم عبادة
الأصنام والأنداد ، ولهذا قال : { أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ.
فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } قال قتادة : [يعني] : (3) ما (4) ظنكم به
أنه فاعل بكم إذا لاقيتموه وقد عبدتم غيره ؟!
{ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا
تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا
بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا
تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا
لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا
فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ (98) }
إنما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه ذلك ، ليقيم في البلد إذا ذهبوا إلى
عيدهم ، فإنه كان قد أزف خروجُهم إلى عيد لهم ، فأحب أن يختلي بآلهتهم ليكسرها ،
فقال لهم كلاما هو حق في نفس الأمر ، فَهموا منه أنه سقيم على مقتضى ما يعتقدونه ،
{ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ } قال قتادة : والعرب تقول لمن تفكر : نظر في
النجوم : يعني قتادة : أنه نظر في (5) السماء متفكرا فيما يلهيهم (6) به ، فقال :
{ إِنِّي سَقِيمٌ } أي : ضعيف.
فأما الحديث الذي رواه ابن جرير هاهنا : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا أبو أسامة ،
حدثني هشام ، عن محمد ، عن أبي هريرة (7) ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"لم يكذب إبراهيم ، عليه الصلاة والسلام ، غير ثلاث كذبات : ثنتين في ذات
الله ، قوله : { إِنِّي سَقِيمٌ } ، وقوله { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا }
[الأنبياء : 62] ، وقوله في سارة : هي أختي" (8) فهو حديث مخرج في الصحاح (9)
والسنن من طرق (10) ، ولكن ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله ، حاشا
وكلا وإنما أطلق الكذب على هذا
__________
(1) في ت : "وروى".
(2) في ت : "تعلم".
(3) زيادة من س ، أ.
(4) في ت : "فما".
(5) في ت ، س : "إلى".
(6) في س : "يكيدهم".
(7) في ت : "فأما الحديث الذي رواه البخاري وأهل السنن عن أبي هريرة"
(8) تفسير الطبري (23/45) في السنن الكبرى برقم (8374) من طريق حماد بن أسامة به.
(9) في ت : "الصحيح".
(10) جاء من طريق أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة : رواه البخاري في صحيحه
برقم (5084) زمسلم في صحيحه برقم (2371) من طريق جرير بن حازم به ، ورواه البخاري
في صحيحه برقم (3358) من طريق حماد بن زيد به. وجاء من طريق أبي الزناد عن الأعرج
عن أبي هريرة : رواه الترمذي في السنن برقم (3166) من طريق محمد بن إسحاق به ،
ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (8375) من طريق شعيب بن أبي حمزة به.
(7/24)
تجوزا ،
وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني ، كما جاء في الحديث : "إن
[في] (1) المعاريض لمندوحة عن الكذب" (2)
وقال (3) ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن علي بن
زيد بن جدعان ، عن أبي نَضْرَة (4) ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم في كلمات إبراهيم الثلاث التي قال : "ما منها كلمة إلا ما حمل بها
عن دين الله تعالى ، فقال : { إِنِّي سَقِيمٌ } ، وقال { بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ } ، وقال للملك حين أراد المرأة : هي أختي" (5).
قال سفيان في قوله : { إِنِّي سَقِيمٌ } يعني : طعين. وكانوا يفرون من المطعون ،
فأراد أن يخلو بآلهتهم. وكذا قال العوفي عن ابن عباس : { فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي
النُّجُومِ. فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ } ، فقالوا له وهو في بيت آلهتهم : اخرج. فقال
: إني مطعون ، فتركوه مخافة الطاعون.
وقال قتادة عن سعيد بن المسيب : رأى نجما طلع فقال : { إِنِّي سَقِيمٌ } كابد نبي
الله عن دينه (6) { فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ }.
وقال آخرون : فقال (7) : { إِنِّي سَقِيمٌ } بالنسبة إلى ما يستقبل ، يعني : مرض
الموت.
وقيل : أراد { إِنِّي سَقِيمٌ } أي : مريض القلب من عبادتكم الأوثان من دون الله
عز وجل.
وقال الحسن البصري : خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم ، فأرادوه على الخروج ، فاضطجع على
ظهره وقال : { إِنِّي سَقِيمٌ } ، وجعل ينظر في السماء فلما خرجوا أقبل إلى آلهتهم
فكسرها. رواه ابن أبي حاتم.
ولهذا قال تعالى : { فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ } أي : إلى عيدهم ، {
فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ } أي : ذهب إليها بعد أن خرجوا في سرعة واختفاء ، {
فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ } ، وذلك أنهم كانوا قد وضعوا بين أيديها طعاما قربانا
لتُبرّك لهم فيه.
قال السدي : دخل إبراهيم ، عليه السلام إلى بيت الآلهة ، فإذا هم (8) في بَهْوٍ
عظيم ، وإذا مستقبل باب البهو صنم عظيم ، إلى جنبه [صنم آخر] (9) أصغر منه ، بعضها
إلى جنب بعض ، كل صنم يليه أصغر منه ، حتى بلغوا باب البهو ، وإذا هم قد جعلوا
طعاما وضعوه بين أيدي الآلهة ، وقالوا : إذا كان حين نرجع وقد بَرَكَت الآلهةُ في
طعامنا أكلناه ، فلما نظر إبراهيم ، عليه والسلام ، إلى ما بين أيديهم من الطعام
قال : { أَلا تَأْكُلُونَ. مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ } ؟!
__________
(1) زيادة من ت ، س ، أ.
(2) رواه البيهقي في السنن الكبرى (10/199) من طريق داود بن الزبرقان عن سعيد عن
قتادة عن زرارة عن عمران بن حصين مرفوعا. ورواه أيضا من طريق عبد الوهاب بن عطاء
عن سعيد عن قتادة عن مطرف عن عمران بن الحصين موقوفا وقال : "هذا هو الصحيح
موقوفا".
(3) في ت : "وروى".
(4) في ت : "بإسناده".
(5) ورواه الترمذي في السنن برقم (3148) حدثنا ابن أبي عمر عن سفيان به فذكر حديث
الشفاعة مطولا ، وقال الترمذي : "هذا حديث حسن صحيح" وعلي بن زيد بن
جدعان أجمع الأئمة على ضعفه.
(6) في ت ، أ : "ذنبه".
(7) في ت ، س : "أراد".
(8) في أ : "هن".
(9) زيادة من ت ، أ.
(7/25)
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
وقوله : {
فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ } : قال الفراء : معناه مال عليهم ضربا
باليمين.
وقال قتادة والجوهري : فأقبل عليهم ضربا باليمين.
وإنما ضربهم باليمين لأنها أشد وأنكى ؛ ولهذا تركهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم
إليه يرجعون ، كما تقدم في سورة الأنبياء تفسير ذلك.
قوله هاهنا : { فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ } : قال مجاهد وغير واحد : أي
يسرعون.
وهذه القصة هاهنا مختصرة ، وفي سورة الأنبياء مبسوطة ، فإنهم لما رجعوا ما عرفوا
من أول وهلة من فعل ذلك حتى كشفوا واستعلموا ، فعرفوا أن إبراهيم ، عليه السلام ،
هو الذي فعل ذلك. فلما جاءوا ليعاتبوه أخذ في تأنيبهم وعيبهم ، فقال : {
أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } ؟! أي : أتعبدون من دون الله من الأصنام ما أنتم
تنحتونها وتجعلونها بأيديكم ؟! { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } يحتمل
أن تكون "ما" مصدرية ، فيكون تقدير الكلام : والله خلقكم وعملكم. ويحتمل
أن تكون بمعنى "الذي" تقديره : والله خلقكم والذي تعملونه. وكلا القولين
متلازم ، والأول أظهر ؛ لما رواه البخاري في كتاب "أفعال العباد" ، عن
علي بن المديني ، عن مروان (1) بن معاوية ، عن أبي مالك ، عن ربْعِيّ بن حراش ، عن
حذيفة مرفوعا قال : "إن الله يصنع كل صانع وصنعته" (2). وقرأ بعضهم : {
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ }
فعند ذلك لما قامت عليهم الحجة عدلوا إلى أخذه باليد والقهر ، فقالوا : { ابْنُوا
لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ } وكان من أمرهم ما تقدم بيانه في
سورة الأنبياء ، ونجاه الله من النار وأظهره عليهم ، وأعلى حجته ونصرها ؛ ولهذا
قال تعالى : { فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ }
{ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ
الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ
مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي
أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ
سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) }
__________
(1) في ت ، س : "هارون".
(2) خلق أفعال العباد (ص73).
(7/26)
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
{ فَلَمَّا
أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ
(104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ
(107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109)
كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ
(111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا
عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ
مُبِينٌ (113) }
يقول تعالى مخبرا عن خليله إبراهيم [عليه السلام] (1) : إنه بعد ما نصره الله على
قومه وأيس من
__________
(1) زيادة من ت ، س.
(7/26)
إيمانهم
بعدما شاهدوا من الآيات العظيمة ، هاجر من بين أظهرهم ، وقال : { إِنِّي ذَاهِبٌ
إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ } يعني : أولادا
مطيعين عوَضًا من قومه وعشيرته الذين فارقهم. قال الله تعالى : { فَبَشَّرْنَاهُ
بِغُلامٍ حَلِيمٍ } وهذا الغلام هو إسماعيل عليه السلام ، فإنه أولُ ولد بشر به
إبراهيم ، عليه السلام ، وهو أكبر من إسحاق باتفاق المسلمين وأهل الكتاب ، بل في
نص كتابهم أن إسماعيل وُلِدَ ولإبراهيم ، عليه السلام ، ست وثمانون سنة ، وولد
إسحاق وعمْر إبراهيم تسع وتسعون سنة. وعندهم أن الله تعالى أمر إبراهيم أن يذبح
ابنه وحيده ، وفي نسخة : بكْره ، فأقحموا هاهنا كذبا وبهتانا "إسحاق" ،
ولا يجوز هذا لأنه مخالف لنص كتابهم ، وإنما أقحموا "إسحاق" لأنه أبوهم
، وإسماعيل أبو العرب ، فحسدوهم ، فزادوا ذلك وحَرّفوا وحيدك ، بمعنى الذي ليس
عندك غيره ، فإن إسماعيل كان ذهب به وبأمه إلى جنب (1) مكة وهذا تأويل وتحريف باطل
، فإنه لا يقال : "وحيد" إلا لمن ليس له غيره ، وأيضا فإن أول ولد له
معزة ما ليس لمن بعده من الأولاد ، فالأمر بذبحه أبلغ في الابتلاء والاختبار.
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق ، وحكي ذلك عن طائفة من السلف
، حتى نقل عن بعض الصحابة أيضا ، وليس ذلك في كتاب ولا سنة ، وما أظن ذلك تُلقى
إلا عن أحبار أهل الكتاب ، وأخذ ذلك مسلما من غير حجة. وهذا كتاب الله شاهد ومرشد
إلى أنه إسماعيل ، فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم ، وذكر أنه الذبيح ، ثم قال
بعد ذلك : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ }. ولما بشرت
الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا : { إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } [الحجر
: 53]. وقال تعالى : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ
يَعْقُوبَ } [هود : 71] ، أي : يولد له في حياتهما ولد يسمى يعقوب ، فيكون من
ذريته عقب ونسل. وقد قدمنا هناك أنه لا يجوز بعد هذا أن يؤمر بذبحه وهو صغير ؛ لأن
الله [تعالى] (2) قد وعدهما بأنه سيعقب ، ويكون له نسل ، فكيف يمكن بعد هذا أن
يؤمر بذبحه صغيرا ، وإسماعيل وصف هاهنا بالحليم ؛ لأنه مناسب لهذا المقام.
وقوله : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } أي : كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه
ويمشي معه. وقد كان إبراهيم ، عليه السلام ، يذهب في كل وقت يتفقد ولده وأم ولده
ببلاد "فاران" وينظر في أمرهما ، وقد ذكر أنه كان يركب على البراق سريعا
إلى هناك ، فالله أعلم.
وعن ابن عباس ومجاهد وعِكْرِمة ، وسعيد بن جُبَيْر ، وعطاء الخراساني ، وزيد بن
أسلم ، وغيرهم : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } يعني : شب وارتحل وأطاق ما
يفعله أبوه من السعي والعمل ، { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا
بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى }
قال عبيد بن عمير : رؤيا الأنبياء وَحْي ، ثم تلا هذه الآية : { قَالَ يَا بُنَيَّ
إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى }
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد ، حدثنا أبو عبد الملك
الكرندي ، حدثنا
__________
(1) في ت : "حيث".
(2) زيادة في ت.
(7/27)
سفيان بن
عيينة ، عن إسرائيل بن يونس ، عن سِمَاك ، عن عكرمة (1) ، عن ابن عباس قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "رؤيا الأنبياء في المنام وَحْي" ليس هو
في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه (2).
وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه ، وليختبر صبره وجلده وعزمه من صغره على
طاعة الله تعالى وطاعة أبيه.
{ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } أي : امض لما أمرك (3) الله من ذبحي ،
{ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } أي : سأصبر وأحتسب ذلك عند
الله عز وجل. وصدق ، صلوات الله وسلامه عليه ، فيما وعد ؛ ولهذا قال الله تعالى :
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ
رَسُولا نَبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ
عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا } [مريم : 54 ، 55].
قال الله تعالى : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } أي : فلما تشهدا
وذكرا الله تعالى (4) إبراهيم على الذبح والولد على شهادة الموت. وقيل : {
أَسْلَمَا } ، [يعني] (5) : استسلما وانقادا ؛ إبراهيم امتثل أمْرَ الله ،
وإسماعيل طاعة الله وأبيه. قاله مجاهد ، وعكرمة والسدي ، وقتادة ، وابن إسحاق ،
وغيرهم.
ومعنى { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } أي : صرعه على وجهه ليذبحه من قفاه ، ولا يشاهد
وجهه عند ذبحه ، ليكون أهون عليه ، قال ابن عباس ، ومجاهد (6) وسعيد بن جبير ،
والضحاك ، وقتادة : { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } : أكبه على وجهه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا سُرَيْج (7) ويونس قالا حدثنا حماد بن سلمة ، عن أبي
عاصم الغَنَويّ ، عن أبي الطفيل (8) ، عن ابن عباس أنه قال : لما أمر إبراهيم
بالمناسك (9) عَرَض له الشيطان عند السعي ، فسابقه فسبقه إبراهيم ، ثم ذهب به
جبريل إلى جمرة العقبة ، فعرض له الشيطان ، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم عرض له
عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات ، وثَمّ تَلَّه للجبين ، وعلى إسماعيل قميص
أبيض ، فقال له : يا أبت ، إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره ، فاخلعه حتى تكفنني
فيه. فعالجه ليخلعه ، فنُوديَ من خلفه : { أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ
الرُّؤْيَا } ، فالتفت إبراهيم فإذا بكبش أبيض أقرن أعين. قال ابن عباس : لقد
رأيتنا نتبع ذلك الضرب من الكباش.
وذكر تمام الحديث في "المناسك" بطوله (10). ثم رواه أحمد بطوله عن يونس
، عن حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير (11) ، عن ابن عباس ،
فذكر نحوه إلا أنه قال : "إسحاق" (12). فعن ابن عباس في تسمية الذبيح
(13) روايتان ، والأظهر عنه إسماعيل ، لما سيأتي بيانه.
__________
(1) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
(2) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (12/6) من وجه آخر عن سماك : فرواه من طريق
الفريابي عن سفيان عن سماك بن حرب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به.
(3) في أ : "أنزل".
(4) في ت ، س ، أ : "عز وجل".
(5) زيادة من ت ، وفي أ : "بمعنى".
(6) في ت : "ومجاهد وغيرهما".
(7) في أ : "شريج".
(8) في ت : "بإسناده".
(9) في أ : "لما أمر الله إبراهيم عليه السلام بالمناسك".
(10) المسند (1/297)
(11) في ت : "بسنده".
(12) المسند (1/306).
(13) في أ : "الذبح".
(7/28)
وقال محمد
بن إسحاق ، عن الحسن بن دينار ، عن قتادة ، عن جعفر بن إياس ، عن ابن عباس في قوله
: { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } قال : خرج عليه كبش من الجنة. قد رعى قبل
ذلك أربعين خريفًا ، فأرسل إبراهيم ابنه واتبع الكبش ، فأخرجه إلى الجمرة الأولى ،
فرماه بسبع حصيات فأفلَتَه عندها ، فجاء الجمرةَ الوسطى فأخرجه عندها ، فرماه بسبع
حصيات ثم أفلته (1) فأدركه عند الجمرة الكبرى ، فرماه بسبع حصيات فأخرجه عندها. ثم
أخذه فأتى به المنحر من منى فذبحه ، فوالذي نفسُ ابن عباس بيده لقد كان أول
الإسلام ، وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة قد حَشَّ (2) ، يعني : يبس.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، أخبرنا القاسم قال : اجتمع أبو
هريرة وكعب ، فجعل أبو هريرة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وجعل كعب يحدث عن
الكُتُب ، فقال أبو هريرة : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن لكل نبي دعوة
مستجابة ، وإني قد خَبَأتُ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة". فقال له كعب :
أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم. قال : فداك أبي وأمي -
أو : فداه أبي وأمي - أفلا أخبرك عن إبراهيم عليه السلام ؟ إنه لما أُريَ ذبح ابنه
إسحاق قال الشيطان : إن لم أفتن هؤلاء عند هذه لم أفتنهم أبدا. فخرج إبراهيم بابنه
ليذبحه ، فذهب الشيطان فدخل على سارة ، فقال : أين ذهب إبراهيم بابنك ؟ قالت : غدا
به لبعض حاجته. قال : لم يغد لحاجة ، وإنما ذهب به ليذبحه. قالت : وَلِم يذبحه ؟
قال : زعم أن ربه أمره بذلك. قالت : فقد أحسن أن يطيع ربه. فذهب الشيطان في أثرهما
فقال للغلام : أين يذهب بك أبوك ؟ قال : لبعض حاجته. قال : (3) إنه (4) لا يذهب بك
لحاجة ، ولكنه يذهب بك ليذبحك. قال : ولم يذبحني ؟ قال : زعم أن ربه أمره بذلك.
قال : فوالله لئن كان الله أمره بذلك ليفعلن. قال : فيئس منه فلحق (5) بإبراهيم ،
فقال : أين غدوت بابنك ؟ قال لحاجة. قال : فإنك لم تغد به لحاجة ، وإنما غدوت به
لتذبحه قال : وَلم أذْبَحه ؟ قال : تزعم أن ربك أمرك بذلك. قال : فوالله لئن كان
الله أمرني (6) بذلك لأفعلن. قال : فتركه ويئس أن يطاع (7).
وقد رواه ابن جرير عن يونس ، عن ابن وَهْب ، عن يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، أن
عمرو بن أبي سفيان بن أسيد (8) بن جَاريَةَ الثقفي أخبره ، أن كعبا قال لأبي
هريرة... فذكره بطوله ، وقال في آخره : وأوحى الله إلى إسحاق أني أعطيتك دعوة
أستجيب لك فيها. قال إسحاق : اللهم ، إني أدعو (9) أن تستجيب لي : أيُّما عَبْد
لقيك من الأولين والآخرين ، لا يشرك بك شيئًا ، فأدخله
__________
(1) في س : "فأفلته".
(2) في س : "وشح".
(3) في أ : "فقال".
(4) في س : "فإنه".
(5) في ت ، س : "فيئس منه فتركه فلحق".
(6) في أ : "كان أمرني ربي".
(7) تفسير عبد الرزاق (2/123)
(8) في أ : "أسد".
(9) في ت ، س : "أدعوك".
(7/29)
الجنة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي ، حدثنا الوليد بن
مسلم ، حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه ، عن عطاء بن يسار (1) ، عن أبي
هريرة [رضي الله عنه] (2) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله
خيرني بين أن يغفر لنصف أمتي ، وبين أن أختبئ شفاعتي ، فاختبأت شفاعتي ، ورجوت أن تكفر
الجَمْ (3) لأمتي ، ولولا الذي سبقني إليه العبد الصالح لتعجلت فيها دعوتي ، إن
الله لما فرج عن إسحاق كرْبَ الذبح قيل له : يا إسحاق ، سل تعطه. فقال : أما والذي
نفسي بيده لأتعجلنها قبل نزغات الشيطان ، اللهم من مات لا يشرك بك شيئا فاغفر له
وأدخله الجنة".
هذا حديث غريب منكر (4). وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف الحديث ، وأخشى أن يكون
في الحديث زيادة مُدْرَجَة ، وهي قوله : "إن الله تعالى لما فرج عن
إسحاق" إلى آخره ، والله أعلم. فهذا إن كان محفوظا فالأشبه أن السياق إنما هو
عن "إسماعيل" ، وإنما حرفوه بإسحاق ؛ حَسَدًا منهم كما تقدم ، وإلا
فالمناسك والذبائح إنما محلها بمنى من أرض مكة ، حيث كان إسماعيل لا إسحاق [عليهما
السلام] (5) ، فإنه إنما كان ببلاد كنعان من أرض الشام.
وقوله تعالى : { وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا
} أي : قد حصل المقصودُ من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح
وذكر السدي وغيره أنه أمَرّ السكين على رقبته فلم تقطع شيئًا ، بل حال بينها وبينه
صفيحة من نحاس ونودي إبراهيم ، عليه السلام ، عند ذلك : { قَدْ صَدَّقْتَ
الرُّؤْيَا }
وقوله : { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } أي : هكذا نصرف عمن أطاعنا
المكاره والشدائد ، ونجعل لهم من أمرهم فرجا ومخرجا ، كقوله تعالى : { وَمَنْ
يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ
قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } [الطلاق : 2 ، 3].
وقد استدل بهذه الآية والقصة جماعة من علماء الأصول على صحة النسخ قبل التمكن من
الفعل ، خلافا لطائفة من المعتزلة ، والدلالة من هذه ظاهرة ، لأن الله تعالى شرع
لإبراهيم ذَبْحَ ولده ، ثم نسخه عنه وصرفه إلى الفداء ، وإنما كان المقصود من شرعه
أولا إثابة الخليل على الصبر على ذبح ولده وعزمه على ذلك ؛ ولهذا قال تعالى : {
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ } أي : الاختبار الواضح الجلي ؛ حيث أمر
بذبح ولده ، فسارع إلى ذلك مستسلما لأمر الله ، منقادا لطاعته ؛ ولهذا قال تعالى :
{ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [النجم : 37].
__________
(1) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
(2) زيادة من ت.
(3) في أ : "أن تكون أعم".
(4) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3603) وابن عدي في الكامل (4/272) من
طريق الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم به ، وذكره ابن أبي حاتم في
العلل (2/219) وقال : "سألت أبي ، فقال : هذا حديث منكر".
(5) زيادة من أ.
(7/30)
وقوله : {
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } قال سفيان الثوري ، عن جابر الجُعْفي ، عن أبي
الطفيل ، عن علي ، رضي الله عنه : { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } قال : بكبش
أبيض أعين أقرن ، قد ربط بسمرة - قال أبو الطفيل وجدوه مربوطًا بسُمَرة في ثَبِير
(1)
وقال الثوري أيضا ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس
قال : كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفًا.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يوسف بن يعقوب الصفار ، حدثنا داود العطار
، عن ابن خثيم (2) ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : الصخرة التي بمنى بأصل
ثبير هي الصخرة التي ذبح عليها إبراهيم فداء ابنه ، هبط عليه من ثبير كبش أعين
أقرن له ثغاء ، فذبحه ، وهو الكبش الذي قَرّبه ابن آدم فتقبل منه ، فكان مخزونا
حتى فدي به إسحاق.
وروي أيضا عن سعيد بن جبير أنه قال : كان الكبش يرتع في الجنة حتى تشقق عنه ثبير ،
وكان عليه عِهْن أحمر.
وعن الحسن البصري : أنه كان اسم كبش إبراهيم : جرير.
وقال ابن جريج : قال عبيد بن عمير : ذبحه بالمقام. وقال مجاهد : ذبحه بمنى عند
المنحر (3). وقال هُشَيْم ، عن سيار ، عن عكرمة ؛ أنّ ابن عباس كان أفتى الذي جعل
عليه نذرًا أن ينحر نفسه ، فأمره بمائة من الإبل. ثم قال بعد ذلك : لو كنت أفتيته
بكبش لأجزأه أن يذبح كبشا ، فإن الله تعالى قال في كتابه : { وَفَدَيْنَاهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } والصحيح الذي عليه الأكثرون أنه فُدي بكبش. وقال الثوري ، عن
رجل ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس في قوله : { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ }
قال : وَعْلٌ.
وقال محمد بن إسحاق ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن أنه كان يقول : ما فدي إسماعيل
إلا بتيس من الأرْوَى ، أهبط عليه من ثبير (4).
وقد قال (5) الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، حدثنا منصور ، عن خاله مُسافع (6) ، عن
صفية بنت شيبة قالت : أخبرتني امرأة من بني سليم - وَلدت عامة أهل دارنا - أرسل
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن طلحة - وقال (7) مرة : إنها سألت عثمان
: لم دعاك النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : قال : "إني كنتُ رأيت قرني الكبش
، حين دخلت البيت ، فنسيت أن آمرك أن تخمرهما ، فَخَمَّرْهما ، فإنه لا ينبغي أن
يكون في البيت شيء يشغل المصلي". قال سفيان : لم يزل قرنا الكبش معلقين (8)
في البيت حتى احترق البيت ، فاحترقا (9).
__________
(1) في أ : "ثبين".
(2) في أ : "خيثم".
(3) في أ : "النحر".
(4) في أ : "ثبين".
(5) في ت : "وروى".
(6) في أ : "شافع".
(7) في أ : "وقالت".
(8) في أ : "معلقة".
(9) المسند (4/68).
(7/31)
وهذا دليل
مستقل على أنه إسماعيل ، عليه السلام ، فإن قريشا توارثوا قرني الكبش الذي فدي به
إبراهيم (1) خلفا عن سلف وجيلا بعد جيل ، إلى أن بعث الله رسوله صلى الله عليه
وسلم.
فصل في ذكر الآثار الواردة عن السلف في أن الذبيح من هو ؟ :
ذكر من قال : هو إسحاق [عليه السلام] (2) :
قال حمزة الزيات ، عن أبي ميسرة ، رحمه الله ، قال : قال يوسف ، عليه السلام ،
للملك في وجهه : ترغب أن تأكل معي ، وأنا - والله - يوسف بن يعقوب نبي الله ، ابن
إسحاق ذبيح الله ، ابن إبراهيم خليل الله.
وقال الثوري ، عن أبي سنان ، عن ابن أبي الهذيل : إن يوسف ، عليه السلام ، قال
للملك كذلك أيضا.
وقال سفيان الثوري ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، عن أبيه قال
: "قال موسى : يا رب ، يقولون : يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فبم قالوا
ذلك ؟ قال : إن إبراهيم لم يعدل بي شيء قط إلا اختارني عليه. وإن إسحاق جاد لي
بالذبح ، وهو بغير ذلك أجود. وإن يعقوب كلما زدته بلاء زادني حسن ظن".
وقال شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص قال : افتخر رجل عند ابن مسعود فقال :
أنا فلان بن فلان ، ابن الأشياخ الكرام. فقال عبد الله : ذاك يوسف بن يعقوب بن
إسحاق ذبيح الله ، ابن إبراهيم خليل الله [صلوات الله وسلامه عليهم] (3).
وهذا صحيح إلى ابن مسعود ، وكذا روى عكرمة ، عن ابن عباس أنه إسحاق. وعن أبيه
العباس ، وعلي بن أبي طالب مثل ذلك. وكذا قال عكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ،
والشعبي ، وعبيد بن عمير ، وأبو ميسرة ، وزيد بن أسلم ، وعبد الله بن شقيق ،
والزهري ، والقاسم بن أبي بزة ، ومكحول ، وعثمان بن حاضر ، والسدي ، والحسن ،
وقتادة ، وأبو الهذيل ، وابن سابط. وهو اختيار ابن جرير. وتقدم روايته عن كعب
الأحبار أنه إسحاق.
وهكذا روى ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر ، عن الزهري ، عن أبي سفيان بن العلاء
، بن جارية (4) ، عن أبي هريرة ، عن كعب الأحبار ، أنه قال : هو إسحاق (5).
وهذه الأقوال - والله أعلم - كلها مأخوذة عن كعب الأحبار ، فإنه لما أسلم في
الدولة العمرية جعل يحدث عمر ، رضي الله عنه عن كتبه ، فربما استمع له عمر ، رضي
الله عنه ، فترخص الناس في استماع ما عنده ، ونقلوا عنه غثها وسمينها ، وليس لهذه
الأمة - والله أعلم - حاجة إلى حرف
__________
(1) في ت : "إسماعيل".
(2) زيادة من ت ، س.
(3) زيادة من ت.
(4) في أ : "والعلاء بن حارث".
(5) ورواه الطبري في تفسيره (23/52).
(7/32)
واحد مما
عنده. وقد حكى البغوي هذا القول بأنه إسحاق عن عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، والعباس
، ومن التابعين عن كعب الأحبار ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، ومسروق ، وعكرمة ،
ومقاتل ، وعطاء ، والزهري ، والسدي - قال : وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس (1).
وقد ورد في ذلك حديث - لو ثبت لقلنا به على الرأس والعين ، ولكن لم يصح سنده - قال
ابن جرير :
حدثنا أبو كريب ، حدثنا زيد بن حباب ، عن الحسن بن دينار ، عن علي بن زيد بن جدعان
، عن الحسن ، عن الأحنف بن قيس ، عن العباس بن عبد المطلب ، عن النبي صلى الله
عليه وسلم في حديث ذكره قال : هو إسحاق (2).
ففي إسناده ضعيفان (3) ، وهما الحسن بن دينار البصري ، متروك. وعلي بن زيد بن
جدعان منكر الحدث. وقد رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن مسلم بن إبراهيم ، عن
حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد بن جدعان ، به مرفوعا. (4). ثم قال : قد رواه مبارك
بن فضالة ، عن الحسن ، عن الأحنف ، عن العباس قوله ، وهذا (5) أشبه وأصح.
[ذكر الآثار الواردة بأنه إسماعيل - عليه السلام - وهو الصحيح المقطوع به] (6).
قد تقدمت الرواية عن ابن عباس أنه إسحاق. قال سعيد بن جبير ، وعامر الشعبي ، ويوسف
بن مهران ، ومجاهد ، وعطاء ، وغير واحد ، عن ابن عباس ، هو إسماعيل عليه لسلام.
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن قيس ، عن عطاء بن
أبي رباح (7) عن ابن عباس أنه قال : المفدى إسماعيل ، عليه السلام ، وزعمت اليهود
أنه إسحاق ، وكذبت اليهود (8).
وقال إسرائيل ، عن ثور ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : الذبيح إسماعيل.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : هو إسماعيل. وكذا قال يوسف بن مهران.
وقال الشعبي : هو إسماعيل ، عليه السلام ، وقد رأيت قرني الكبش في الكعبة.
وقال (9) محمد بن إسحاق ، عن الحسن بن دينار ، وعمرو بن عبيد ، عن الحسن البصري :
أنه كان لا يشك في ذلك : أن الذي أمر بذبحه من ابني إبراهيم إسماعيل.
قال ابن إسحاق : وسمعت محمد بن كعب القرظي وهو يقول : إن الذي أمر الله إبراهيم
بذبحه
__________
(1) معالم التنزيل للبغوي (7/46).
(2) تفسير الطبري (23/52).
(3) في ت : "لأن في سنده ضعيفين".
(4) في ت : "مرفوعا قال : هو إسحاق".
(5) في ت : "وهو".
(6) زيادة من ت ، س.
(7) في ت : "وروى ابن جرير بإسناده".
(8) تفسير الطبري (23/52).
(9) في ت : "وروى".
(7/33)
من ابنيه
إسماعيل. وإنا لنجد ذلك في كتاب الله ، وذلك أن الله حين فرغ من قصة المذبوح من
ابني إبراهيم قال : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ }.
يقول الله تعالى : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ
يَعْقُوبَ } ، يقول بابن وابن ابن ، فلم يكن ليأمره بذبح إسحاق وله فيه من [الله]
(1) الموعد بما وعده (2) ، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل.
وقال ابن إسحاق ، عن بريدة بن سفيان بن فروة (3) الأسلمي ، عن محمد بن كعب القرظي
أنه حدثهم ؛ أنه (4) ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة إذ كان معه بالشام ،
فقال له عمر : إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه ، وإني لأراه كما قلت. ثم أرسل إلى رجل
كان عنده بالشام ، كان يهوديا فأسلم وحسن إسلامه ، وكان يرى أنه من علمائهم ،
فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك - قال محمد بن كعب : وأنا عند عمر بن عبد العزيز -
فقال له عمر : أيُّ ابني إبراهيم أُمِر بذبحه ؟ فقال : إسماعيل والله يا أمير
المؤمنين ، وإن يهود لتعلم بذلك ، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب ، على أن يكون أباكم
الذي كان من أمر الله فيه ، والفضل الذي ذكره الله منه لصبره لما أمر به ، فهم
يجحدون ذلك ، ويزعمون أنه إسحاق ، بكون (5) إسحاق أبوهم ، والله أعلم أيهما كان ،
وكل قد كان طاهرا طيبا مطيعا لله عز وجل. (6)
وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله : سألت أبي عن الذبيح ، من هو ؟
إسماعيل أو إسحاق ؟ فقال : إسماعيل. ذكره في كتاب الزهد.
وقال ابن أبي حاتم : وسمعت أبي يقول : الصحيح أن الذبيح إسماعيل ، عليه السلام.
قال : وروي عن علي ، وابن عمر ، وأبي هريرة ، وأبي الطفيل ، وسعيد بن المسيب ،
وسعيد بن جبير ، والحسن ، ومجاهد ، والشعبي ، ومحمد بن كعب القرظي ، وأبي جعفر
محمد بن علي ، وأبي صالح أنهم قالوا : الذبيح إسماعيل.
وقال البغوي في تفسيره : وإليه ذهب عبد الله بن عمر ، وسعيد بن المسيب ، والسدي ،
والحسن البصري ، ومجاهد ، والربيع بن أنس ، ومحمد بن كعب القرظي ، والكلبي ، وهو
رواية عن ابن عباس ، وحكاه أيضا عن أبي عمرو بن العلاء (7).
وقد روى ابن جرير في ذلك حديثا غريبا فقال : حدثني محمد بن عمار الرازي ، حدثنا
إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة ، حدثنا عمر بن عبد الرحيم الخطابي ، عن عبيد الله بن
محمد العتبي - من ولد عتبة بن أبي سفيان - عن أبيه : حدثني عبد الله بن سعيد ، عن
الصنابحي قال : كنا عند معاوية بن
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ : "ما أوعده".
(3) في أ : "بردة".
(4) في ت : "به".
(5) في أ : "لأن".
(6) رواه الطبري في تفسيره (23/54).
(7) معالم التنزيل للبغوي (7/47).
(7/34)
أبي سفيان ،
فذكروا الذبيح : إسماعيل أو إسحاق ؟ فقال على الخبير (1) سقطتم ، كنا عند رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءه رجل فقال : يا رسول الله ، عد علي مما أفاء الله
عليك يا ابن الذبيحين. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقيل له : يا أمير
المؤمنين ، وما الذبيحان ؟ فقال : إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله إن سهل
الله أمرها عليه ، ليذبحن أحد ولده ، قال : فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله
وقالوا : افد ابنك بمائة من الإبل. ففداه بمائة من الإبل ، وإسماعيل الثاني (2).
وهذا حديث غريب جدا. وقد رواه الأموي في مغازيه : حدثنا بعض أصحابنا ، أخبرنا
إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة ، حدثنا عمر بن عبد الرحمن القرشي ، حدثنا عبيد الله
(3) بن محمد العتبي - من ولد عتبة بن أبي سفيان - حدثنا عبد الله بن سعيد ، حدثنا
الصنابحي قال : حضرنا مجلس معاوية ، فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق ، وذكره. كذا
كتبته من نسخة مغلوطة (4).
وإنما عول ابن جرير في اختياره أن الذبيح إسحاق على قوله تعالى : : {
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ } ، فجعل هذه البشارة هي البشارة بإسحاق في قوله
: { وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } [الذاريات : 28]. وأجاب عن البشارة بيعقوب
بأنه قد كان بلغ معه السعي ، أي العمل. ومن الممكن أنه قد كان ولد له أولاد مع
يعقوب أيضا. قال : وأما القرنان اللذان كانا معلقين بالكعبة فمن الجائز أنهما نقلا
من بلاد الشام. قال : وقد تقدم أن من الناس من ذهب إلى أنه ذبح إسحاق هناك. هذا ما
اعتمد عليه في تفسيره ، وليس ما ذهب إليه بمذهب ولا لازم ، بل هو بعيد جدا ، والذي
استدل به محمد بن كعب القرظي على أنه إسماعيل أثبت وأصح وأقوى ، والله أعلم (5).
وقوله : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } ، لما تقدمت
البشارة بالذبيح - وهو إسماعيل - عطف بذكر البشارة بأخيه إسحاق ، وقد ذكرت في
سورتي (6) هود" و "الحجر" (7).
وقوله : { نَبِيًّا } حال مقدرة ، أي : سيصير منه نبي من الصالحين.
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن عكرمة قال : قال ابن
عباس ، رضي الله عنهما : الذبيح إسحاق. قال : وقوله : { وَبَشَّرْنَاهُ
بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } قال : بشر بنبوته. قال : وقوله : {
وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا } [مريم : 53] قال :
كان هارون أكبر من موسى ، ولكن أراد : وهب له نبوته.
وحدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال : سمعت داود يحدث ، عن عكرمة
، عن ابن عباس في هذه الآية : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ } قال : إنما بشر به نبيا حين فداه الله من الذبح ، ولم تكن البشارة
بالنبوة عند مولده (8).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان الثوري ، عن داود ،
عن عكرمة ،
__________
(1) في س : "الخبر".
(2) تفسير الطبري (23/54).
(3) في أ : "عبد الله".
(4) في أ : "من نسخة كذا والله أعلم".
(5) وقد حرر هذه المسألة الإمام ابن تيمية - رحمه الله - في الفتاوى. انظر المواضع
في : الفهرس العام (36/32).
(6) في ت : "سورة".
(7) سورة هود ، الآية : 71 ، وسورة الحجر ، الآية : 53.
(8) تفسير الطبري (23/57).
(7/35)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآَخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)
عن ابن عباس
: { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } قال : بشر به حين
ولد ، وحين نبئ.
وقال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة في قوله : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا
مِنَ الصَّالِحِينَ } قال : بعد ما كان من أمره ، لما جاد لله بنفسه ، وقال الله :
{ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ }
وقوله : { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا
مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ } كقوله تعالى : { قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ
بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ
سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [هود : 48].
{ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا
مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ
(116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ (119)
سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
(121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) }
يذكر تعالى ما أنعم به على موسى وهارون من النبوة والنجاة بمن آمن معهما من قهر
فرعون وقومه ، وما كان يعتمده في حقهم من الإساءة العظيمة ، من قتل الأبناء واستحياء
النساء ، واستعمالهم في أخس الأشياء. ثم بعد هذا كله نصرهم عليهم ، وأقر أعينهم
منهم ، فغلبوهم وأخذوا أرضهم وأموالهم وما كانوا جمعوه طول حياتهم. ثم أنزل الله
على موسى الكتاب العظيم الواضح الجلي المستبين ، وهو التوراة ، كما قال تعالى : {
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً } [الأنبياء : 48].
وقال هاهنا : { وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } أي : في (1) الأقوال والأفعال.
{ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ } أي : أبقينا لها (2) من بعدهما ذكرا
جميلا وثناء حسنا ، ثم فسره بقوله : { سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ إِنَّا
كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ }
{ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا
تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ (126) }
__________
(1) في أ : "من".
(2) في ت ، س : "لهما".
(7/36)
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
{
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ
(128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ
(130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
الْمُؤْمِنِينَ (132) }
قال (1) قتادة ، ومحمد بن إسحاق ، يقال : إلياس هو إدريس. وقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبيدة بن ربيعة
(2) ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : إلياس هو إدريس. وكذا قال
الضحاك.
__________
(1) في ت : "وروى".
(2) في ت : "وقال ابن أبي حاتم بإسناده".
(7/36)
وقال وَهْب
بن منَبِّه : هو إلياس بن ياسين (1) بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران ، بعثه
الله في بني إسرائيل بعد حزقيل ، عليهما السلام ، وكانوا قد عبدوا صنما يقال له :
"بعل" ، فدعاهم إلى الله ، ونهاهم عن عبادة ما سواه. وكان قد آمن به
ملكهم ثم ارتد (2) ، واستمروا على ضلالتهم ، ولم يؤمن به منهم أحد. فدعا الله
عليهم.
فحبس عنهم القطر ثلاث سنين ، ثم سألوه أن يكشف ذلك عنهم ، ووعدوه (3) الإيمان به
إن هم أصابهم المطر. فدعا الله لهم ، فجاءهم الغيث فاستمروا على أخبث ما كانوا
عليه من الكفر ، فسأل الله أن يقبضه إليه. وكان قد نشأ على يديه اليسع بن أخطوب ،
عليه السلام ، فأمر إلياس أن يذهب إلى مكان كذا وكذا ، فمهما جاءه فليركبه ولا
يهبه ، فجاءته فرس من نار فركب (4) ، وألبسه الله النور وكساه الريش ، وكان يطير
مع الملائكة ملكا إنسيا سماويا أرضيا ، هكذا حكاه وهب عن أهل الكتاب ، والله أعلم
بصحته.
{ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ } أي : ألا تخافون الله في عبادتكم غيره
؟.
{ أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ } قال ابن عباس ، ومجاهد
، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي : { بَعْلا } يعني : ربا.
قال قتادة وعكرمة : وهي لغة أهل اليمن. وفي رواية عن قتادة قال : هي لغة أزد
شنوءة.
وقال ابن إسحاق : أخبرني بعض أهل العلم أنهم كانوا يعبدون امرأة اسمها :
"بعل".
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه : هو اسم صنم كان يعبده أهل مدينة يقال
لها : "بعلبك" ، غربي دمشق.
وقال الضحاك : هو صنم كانوا يعبدونه.
وقوله : { أَتَدْعُونَ بَعْلا } أي : أتعبدون صنما ؟ { وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ
الْخَالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ } أي : هو
المستحق للعبادة وحده لا شريك له.
قال الله تعالى : { فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } أي للعذاب يوم
الحساب.
{ إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } أي : الموحدين منهم. وهذا استثناء منقطع
من مثبت.
وقوله : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ } أي : ثناء جميلا.
{ سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ } كما يقال في إسماعيل : إسماعين. وهي لغة بني أسد.
وأنشد بعض بني نمير في ضَبِّ صَادَه.
يَقُولُ رَبّ السوق لما جينا... هذا وربِّ البيت إسْرَائينا (5)
ويقال : ميكال ، وميكائيل ، وميكائين ، وإبراهيم وإبراهام ، وإسرائيل وإسرائين ،
وطور سيناء ، وطور سينين. وهو موضع واحد ، وكل هذا سائغ (6)
وقرأ آخرون : "سلام على إدراسين" ، وهي قراءة عبد الله بن مسعود. وآخرون
: " سَلامٌ عَلَى آلْ يَاسِينَ" يعني : آل محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله : { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
الْمُؤْمِنِينَ } قد تقدم تفسيره (7).
{
__________
(1) في ت : "شبي" وفي س : "تبي".
(2) في ت : "ارتدوا".
(3) في ت ، س : "فوعدوه".
(4) في ت ، س : "فركبه".
(5) البيت في تفسير الطبري (23/57).
(6) فس أ : "شائغ".
(7) في ت : "كما تقدم من تفسيرها".
(7/37)
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
وَإِنَّ
لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ
(134) إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ (136)
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا
تَعْقِلُونَ (138) }
يخبر تعالى عن عبده ورسوله لوط ، عليه السلام أنه بعثه إلى قومه.
فكذبوه ، فنجاه الله من بين أظهرهم هو وأهله.
إلا امرأته فإنها هلكت مع من هلك من قومها.
فإن الله تعالى أهلكهم بأنواع من العقوبات ، وجعل محلتهم من الأرض بحيرة منتنة
قبيحة المنظر والطعم والريح ، وجعلها بسبيل مقيم يمر بها المسافرون ليلا ونهارا ؛
ولهذا قال : { وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ
أَفَلا تَعْقِلُونَ } أي : أفلا تعتبرون بهم كيف دمر الله عليهم وتعلمون أن
للكافرين أمثالها ؟
{ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ
الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ
وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146)
وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا
فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) }
قد تقدمت قصة يونس ، عليه السلام ، في سورة الأنبياء. وفي الصحيحين عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ما ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير من يونس بن
متَّى ونَسَبَه إلى أمه" (1) وفي رواية قيل : "إلى أبيه".
وقوله : { إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } قال ابن عباس : هو الموقر ،
أي : المملوء بالأمتعة.
{ فَسَاهَمَ } أي : قارع { فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } أي : المغلوبين. وذلك أن
السفينة تَلَعَّبَت (2) بها الأمواج من كل جانب ، وأشرفوا على الغرق ، فساهموا على
من تقع عليه القرعة يلقى في البحر ، لتخف بهم السفينة ، فوقعت القرعة على نبي الله
يونس ، عليه الصلاة والسلام (3) ثلاث مرات ، وهم يضنون (4) به أن يلقى من بينهم ،
فتجرد من ثيابه ليلقي نفسه وهم يأبون عليه ذلك.
وأمر الله تعالى حوتا من البحر الأخضر أن يشق البحار ، وأن يلتقم ، يونس عليه
السلام ، فلا يَهْشِمُ له لحما ، ولا يكسر له عظما (5). فجاء ذلك الحوت وألقى يونس
، عليه السلام ، نفسه فالتقمه الحوت وذهب به فطاف به البحار كلها. ولما استقر يونس
في بطن الحوت ، حسب أنه قد مات ثم حرك رأسه ورجليه وأطرافه فإذا هو حي ، فقام يصلي
في بطن الحوت ، وكان من جملة دعائه : "يا رب ، اتخذتُ لك مسجدا في موضع لم
يبلغه أحد من الناس" واختلفوا في مقدار ما لبث في بطن الحوت ، فقيل : ثلاثة
أيام ، قاله قتادة. وقيل جُمْعَة (6) قاله جعفر الصادق. وقيل : أربعين يوما ، قاله
أبو مالك.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (3395) وصحيح مسلم برقم (2377).
(2) في أ : "تلعب".
(3) في ت : "عليه السلام".
(4) في ت : "يظنون".
(5) في س : فلا تهشم له لحما ولا تكسر له عظما".
(6) في ت ، س ، أ : "سبعة".
(7/38)
وقال مُجَالد
(1) ، عن الشعبي : التقمه ضحى ، وقذفه (2) عشية.
والله أعلم بمقدار ذلك. وفي شعر أمية بن أبي الصلت :
وَأنْتَ بفَضلٍ منْكَ نَجَّيتَ يُونُسًا... وَقَدْ بَاتَ فِي أضْعَاف حُوتٍ
ليَالِيا (3)
وقوله : { فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ
إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } ، قيل : لولا ما تقدم له من العمل في الرخاء. قاله
الضحاك بن قيس ، وأبو العالية ، ووهَب بن مُنَبِّه ، وقتادة ، وغير واحد. واختاره
ابن جرير. وقد ورد في الحديث الذي سنورده ما يدل على ذلك إن صح الخبر. وفي حديث عن
ابن عباس : " تَعَرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة" (4)
وقال ابن عباس ، وسعيد بن جُبَيْر ، والضحاك ، وعطاء بن السائب ، والسدي ، والحسن
، وقتادة : { فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ } يعني : المصلين.
وصرح بعضهم بأنه كان من المصلين قبل ذلك. وقال بعضهم : كان من المسبحين في جوف
أبويه. وقيل : المراد : { فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ } هو قوله
: { فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي
كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ
نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } [الأنبياء : 87 ، 88] قاله سعيد بن جبير وغيره.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب ، حدثنا عمي حدثنا أبو
صخر (5) : أن يزيد الرّقاشي حَدّثه : أنه سمع أنس بن مالك - ولا أعلم إلا أنّ أنسا
يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - "أن يونس النبي صلى الله
عليه وسلم (6) حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات ، وهو في بطن الحوت ، فقال : اللهم
لا إله إلا أنت سبحانك ، إني كنت من الظالمين. فأقبلت الدعوة تحف بالعرش ، قالت
الملائكة : يا رب ، هذا صوت ضعيف معروف من بلاد بعيده غريبة ؟ فقال : أما تعرفون
ذلك ؟ قالوا : يا رب ، ومن هو ؟ قال : عبدي يونس. قالوا : عبدك يونس الذي لم يزل
يرفع له عمل متقبل ، ودعوة مستجابة ؟ قالوا : يا رب ، أو لا ترحم ما كان يصنع في
الرخاء فتنجِّيه في البلاء ؟ قال : بلى. فأمر الحوت فطرحه بالعرَاء".
ورواه ابن جرير ، عن يونس ، عن ابن وهب ، به (7) (8) زاد ابن أبي حاتم : قال أبو
صخر حُمَيد بن زياد : فأخبرني ابن قُسيَط وأنا أحدثه هذا الحديث : أنه سمع أبا
هريرة يقول : طرح بالعراء ، وأنبت الله عليه اليقطينة. قلنا : يا أبا هريرة ، وما
اليقطينة ، قال : شجرة الدُّباء. قال أبو هريرة : وَهَيَّأ الله له أرْويَّة وحشية
تأكل من خشاش الأرض - أو قال : هشاش الأرض - قال : فَتَتَفشَّح (9) عليه فَتَرْويه
من لبنها كل عَشيَّة وبُكرةٍ حتى نَبَت.
__________
(1) في ت : "مجاهد"
(2) في أ : "ونقله".
(3) البيت في السيرة النبوية لابن هشام (1/228).
(4) سيأتي تخريجه عند الآية : 38 من سورة الزمر.
(5) في ت : "بإسناده".
(6) في ت ، س : "عليه السلام".
(7) بياض في س.
(8) تفسير الطبري (23/64).
(9) في ت ، س : "فتنفشخ".
(7/39)
وقال أمية
بن أبي الصلت في ذلك بيتا من شعره :
فَأَنْبَتَ يَقْطينًا عَلَيه برَحْمَةٍ... مِن الله لَولا اللهُ ألفى ضَاحيا (1)
وقد تقدم حديث أبي هريرة مسندًا مرفوعا في تفسير سورة "الأنبياء" (2).
ولهذا قال تعالى : { فَنَبَذْنَاهُ } أي : ألقيناه { بِالْعَرَاءِ } قال ابن عباس
، وغيره : وهي الأرض التي ليس بها نبت ولا بناء. قيل : على جانب دجلة. وقيل : بأرض
اليمن. فالله أعلم.
{ وَهُوَ سَقِيمٌ } أي : ضعيف البدن. قال ابن مسعود ، رضي الله عنه : كهيئة الفرخ
ليس عليه ريش. وقال السدي : كهيئة الصبي : (3) حين يولد ، وهو المنفوس. وقاله ابن
عباس ، وابن زيد أيضا.
{ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ } قال ابن مسعود ، وابن عباس ،
ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ووهب بن منبه ، وهلال بن يَسَاف وعبد الله بن
طاوس ، والسدي ، وقتادة ، والضحاك ، وعطاء الخراساني (4) وغير واحد قالوا كلهم :
اليقطين هو القرع.
وقال هُشَيم ، عن القاسم بن أبي أيوب ، عن سعيد بن جُبَير : كل شجرة لا ساق لها
فهي من اليقطين.
وفي رواية عنه : كل شجرة تَهْلِك من (5) عَامِها فهي من اليقطين.
وذكر بعضهم في القرع فوائد ، منها : سرعة نباته ، وتظليلُ ورقه لكبره ، ونعومته ،
وأنه لا يقربها الذباب ، وجودة أغذية ثمره ، وأنه يؤكل نيئا ومطبوخا بلبه وقشره
أيضا. وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُحِبّ الدُّبَّاء ، ويتتبعه
(6) من حَوَاشي الصَّحْفة (7) (8).
وقوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } روى
شَهْر بن حَوْشَب ، عن ابن عباس أنه قال : إنما كانت رسالة يونس بعد ما نبذه
الحوت. رواه ابن جرير : حدثني الحارث قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا أبو (9) هلال
عن شهر ، به.
وقال ابن أبي نَجِيح عن مجاهد : أرسل إليهم قبل أن يلتقمه الحوت.
قلت : ولا مانع أن يكون الذين أرسل إليهم أولا أمر بالعود إليهم بعد خروجه من
الحوت ، فصدقوه كلهم وآمنوا به. وحكى البغوي أنه أرسل إلى أمة أخرى بعد خروجه من
الحوت ، كانوا مائة ألف أو يزيدون.
وقوله : { أَوْ يَزِيدُونَ } قال ابن عباس - في رواية عنه - : بل يزيدون ، وكانوا
مائة وثلاثين ألفا.
__________
(1) البيت في السيرة النبوية لابن هشام (1/228).
(2) سورة الأنبياء ، الآية : 87.
(3) في أ : "الصبي يعني".
(4) في ت : "وابن عباس وغيرهما من التابعين"
(5) في ت : "في".
(6) في أ : "ويتبعه".
(7) في ت : "القصعة".
(8) رواه البخاري في صحيحه برقم (5439) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(9) في أ : "ابن".
(7/40)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
وعنه : مائة
ألف وبضعةً وثلاثين ألفا. وعنه : مائة ألف وبضعةً وأربعين ألفا.
وقال سعيد بن جبير : يزيدون سبعين ألفا.
وقال مكحول : كانوا مائة ألف وعشرة آلاف. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الرحيم البَرْقي (1) ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة
قال : سمعت زُهَيرًا عمن سمع أبا العالية قال : حدثني أبي بن كعب : أنه سأل رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ
يَزِيدُونَ } ، قال : "يزيدون عشرين ألفا" (2).
ورواه الترمذي عن علي بن حُجْر ، عن الوليد بن مسلم ، عن زُهَير ، عن رجل ، عن أبي
العالية ، عن أبي بن كعب ، به ، وقال : غريب. ورواه ابن أبي حاتم من حديث زهير ،
به (3).
قال ابن جرير : وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول في ذلك : معناه إلى
المائة الألف (4) ، أو كانوا يزيدون عندكم ، يقول : كذلك كانوا عندكم.
وهكذا سلك ابن جرير هاهنا ما سلكه عند قوله تعالى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ
مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [البقرة : 74]
، وقوله { إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ
أَشَدَّ خَشْيَةً } [النساء : 77] ، وقوله : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ
أَدْنَى } [النجم : 9] أن المراد ليس أنقص من ذلك ، بل أزيد.
وقوله : { فَآمَنُوا } أي : فآمن هؤلاء القوم الذين أرسل إليهم يونس ، عليه السلام
، جميعهم. { فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } أي : إلى وقت آجالهم ، كقوله : {
فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ
لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [يونس : 98].
{ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ
خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ
إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152)
أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) }
__________
(1) في أ : "الرقي".
(2) تفسير الطبري (23/67).
(3) سنن الترمذي برقم (3229).
(4) في أ : "ألف".
(7/41)
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
{ مَا
لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ
مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ
لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلا عِبَادَ اللَّهِ
الْمُخْلَصِينَ (160) }
يقول تعالى منكرًا على هؤلاء المشركين في جعلهم لله البنات ، سبحانه ، ولهم ما
يشتهون ، أي : من الذكور ، أي : يَودّون لأنفسهم الجيد. { وَإِذَا بُشِّرَ
أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ } [النحل : 58] أي
: يسوءه ذلك ، ولا يختار لنفسه إلا البنين. يقول تعالى : فكيف نسبوا إلى الله
(7/41)
[تعالى]
القسم الذي لا يختارونه لأنفسهم ؟ ولهذا قال : { فَاسْتَفْتِهِمْ } أي : سلهم على
سبيل الإنكار عليهم : { أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ } كقوله : {
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى. تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى } [النجم : 21
، 22].
وقوله : { أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ } أي : كيف
حكموا على الملائكة أنهم إناث وما شاهدوا خلقهم ؟ كقوله : { وَجَعَلُوا
الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ
سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } [الزخرف : 19] أي : يسألون عن ذلك يوم
القيامة.
وقوله : { أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ } أي : من كذبهم { لَيَقُولُونَ. وَلَدَ
اللَّهُ } أي : صدر منه الولد { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } فذكر الله عنهم في
الملائكة ثلاثة أقوال في غاية الكفر والكذب ، فأولا جعلوهم بنات الله ، فجعلوا لله
ولدًا. وجعلوا ذلك الولد أنثى ، ثم عبدوهم من دون الله. وكل منها كاف في التخليد
في نار جهنم.
ثم قال منكرا عليهم : { أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ } أي : أيّ شيء
يحمله عن (1) أن يختار البنات دون البنين ؟ كقوله : { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ
بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ
قَوْلا عَظِيمًا } [الإسراء : 40] ؛ ولهذا قال : { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
} أي : ما لكم عقول تتدبرون بها ما تقولون ؟.
{ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ } أي : حجة على ما تقولونه.
{ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : هاتوا برهانا على ذلك
يكون مستندًا إلى كتاب مُنزل من السماء عن الله : أنه اتخذ ما تقولونه ، فإن ما
تقولونه لا يمكن استناده (2) إلى عقل ، بل لا يُجَوّزُه العقل بالكلية.
وقوله : { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا } قال مجاهد : قال
المشركون : الملائكةُ بناتُ الله. فسأل أبو بكر ، رضي الله عنه : فمن أمهاتهن ؟
قالوا : بنات سَرَوات الجن. وكذا قال قتادة ، وابن زيد ، ولهذا قال تعالى : {
وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ } أي : الذين نسبوا إليهم ذلك : { إِنَّهُمْ
لَمُحْضَرُونَ } أي : إن الذين قالوا ذلك لمحضرون في العذاب يوم الحساب لكذبهم في
ذلك وافترائهم ، وقولهم الباطل بلا علم.
وقال العوفي : عن (3) ابن عباس في قوله : { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْجِنَّةِ نَسَبًا } قال : زعم أعداء الله أنه تبارك وتعالى هو وإبليس أخوان.
حكاه ابن جرير (4).
وقوله : { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } أي : تعالى وتقدس وتنزه عن أن
يكون له ولد ، وعما يصفه به الظالمون الملحدون علوا كبيرا.
وقوله : { إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } استثناء منقطع ، وهو من مثبت ،
إلا أن يكون الضمير في قوله : { عَمَّا يَصِفُونَ } عائدا إلى جميع الناس ثم
استثنى منهم المخلصين ، وهم المتبعون للحق المنزل على كل نبي ومرسل. وجعل ابن جرير
هذا الاستثناء من قوله : { إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. إِلا عِبَادَ اللَّهِ
الْمُخْلَصِينَ } ، وفي هذا الذي قاله نظر.
{
__________
(1) في أ : "على".
(2) في س : "إسناده".
(3) في ت : "وعن".
(4) تفسير الطبري (23/69).
(7/42)
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
فَإِنَّكُمْ
وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلا مَنْ هُوَ
صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا
لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ
كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ (168)
لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ (170) }
يقول تعالى مخاطبا للمشركين { فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ
عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ. إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ } أي : ما ينقاد (1)
لمقالكم وما (2) أنتم عليه من الضلالة والعبادة الباطلة من هو أضل منكم ممن ذُري
للنار. { لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ
بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ
أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [الأعراف : 179]. فهذا الضرب من الناس هو الذي
ينقاد لدين الشرك والكفر والضلالة ، كما قال تعالى : { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ
مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } [الذاريات : 8 ، 9] أي : إنما يضل به من
هو مأفوك ومبطل.
ثم قال تعالى مُنزها للملائكة مما نَسَبوا (3) إليهم من الكفر بهم والكذب عليهم أنهم
بنات الله : { وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ } أي : له موضع مخصوص في
السماوات ومقامات العبادة (4) لا يتجاوزه ولا يتعداه (5).
وقال ابن عساكر في ترجمته لمحمد بن خالد بسنده إلى عبد الرحمن بن العلاء بن سعد
(6) ، عن أبيه - وكان ممن بايع يوم الفتح - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
يوما لجلسائه : "أطَّت السماء وحُقّ لها أن تَئِطّ ، ليس فيها موضع قَدَم إلا
عليه ملك راكع أو ساجد". ثم قرأ : { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا
لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ } (7).
وقال الضحاك في تفسيره : { وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ } قال : كان
مسروق يَرْوي عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "ما من السماء الدنيا موضع إلا عليه ملك ساجد أو قائم". فذلك
قوله : { وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ } (8).
وقال الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن مسروق : عن (9) ابن مسعود رضي الله عنه قال : إن
في السماوات لسماء ما فيها موضع شبر إلا عليه جبهة ملك أو قدماه ، ثم قرأ عبد الله
: { وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ } وكذا قال سعيد بن جبير.
وقال قتادة : كانوا يُصَلُّون الرجال والنساء جميعًا ، حتى نزلت : { وَمَا مِنَّا
إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ } ، فتقدم الرجال وتأخر النساء.
__________
(1) في أ : "منقاد".
(2) في س : "ولما".
(3) في أ : "نسبوهم".
(4) في ت ، س ، أ : "العبادات".
(5) في س : "لا تتجاوزه ولا نتعداه"
(6) في أ : "سعيد".
(7) تاريخ دمشق لابن عساكر (15/277 "القسم المخطوط").
(8) ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (508) والمروزي في تعظيم قدر الصلاة برقم
(253) من طريق عبيد بن سليمان عن الضحاك به.
(9) في ت : "وعن".
(7/43)
{ وَإِنَّا
لَنَحْنُ الصَّافُّونَ } أي : نقف صفوفًا في الطاعة ، كما تقدم عند قوله : {
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا }. قال ابن جُرَيْج ، عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث
قال : كانوا لا يصفون في الصلاة حتى نزلت : { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ } ،
فصفوا.
وقال أبو نَضْرَة : كان عمر إذا أقيمت الصلاة استقبل الناس بوجهه ، ثم قال :
أقيموا صفوفكم ، استووا قياما ، يريد الله بكم هدي الملائكة ، ثم يقول : {
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ } ، تأخر يا فلان ، تقدم يا فلان ، ثم يتقدم فيكبر
، رضي الله عنه. رواه ابن أبي ، حاتم وابن جرير.
وفي صحيح مسلم عن حذيفة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: "فُضِّلنا على الناس بثلاث : جُعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا
الأرض مسجدًا ، وتربتها طهورا" الحديث (1).
{ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ } أي : نصطف فنسبح الرب ونمجده ونقدسه وننزهه
عن النقائص ، فنحن عبيد له ، فقراء إليه ، خاضعون لديه.
وقال ابن عباس ، ومجاهد : { وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ } الملائكة
، { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ } الملائكة ، { وَإِنَّا لَنَحْنُ
الْمُسَبِّحُونَ } : الملائكة يسبحون الله عز وجل.
وقال قتادة : { وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ } ، يعني : المصلون ، يثبتون
(2) بمكانهم من العبادة ، كما قال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ
وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ
وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ
وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ.
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ
كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } [الأنبياء : 26 - 29].
وقوله : { وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ. لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ
الأوَّلِينَ. لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } أي : قد كانوا يتمنون قبل
أن تأتيهم يا محمد لو كان عندهم من يذكرهم بأمر الله ، وما كان من أمر القرون
الأولى ، ويأتيهم بكتاب الله ، كما قال تعالى : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ
أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى
الأمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا } [فاطر : 42] ،
وقال : { أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ
قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا لَوْ
أَنَّا أُنزلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ
بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ
بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ
آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ } [الأنعام : 156 ، 157] ؛
ولهذا قال هاهنا : : { فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } ، وعيد أكيد وتهديد
شديد ، على كفرهم بربهم - سبحانه وتعالى - وتكذيبهم - رسوله صلى الله عليه وسلم.
{
__________
(1) سبق تخريجه في أول السورة.
(2) في ت : "ينبئون".
(7/44)
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)
وَلَقَدْ
سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ
الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ
عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نزلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ
صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ
فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) }
يقول تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } أي :
تقدم في الكتاب الأول أن العاقبة للرسل وأتباعهم في الدنيا والآخرة ، كما قال
تعالى : { كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ
عَزِيزٌ } [المجادلة : 21] ، وقال تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا
وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ } [غافر
: 51] ؛ ولهذا قال : : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا
الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ } أي : في الدنيا والآخرة. كما
تقدم بيان نصرتهم على قومهم ممن كذبهم وخالفهم ، وكيف أهلك الله الكافرين ، ونجى
عباده المؤمنين.
{ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } أي : تكون لهم العاقبة.
وقوله جل وعلا { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ } أي : اصبر على أذاهم لك ،
وانتظر إلى وقت مؤجل ، فإنا سنجعل لك العاقبة والنصرة والظفر ؛ ولهذا قال بعضهم :
غيَّى (1) ذلك إلى يوم بدر. وما بعدها أيضا في معناها.
وقوله : { وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } أي : أنظرهم وارتقب ماذا يحل بهم
من العذاب والنكال على مخالفتك (2) وتكذيبك ؛ ولهذا قال على وجه التهديد والوعيد :
{ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ }. ثُمَّ قَالَ عز وجل { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ
} أي : هم إنما يستعجلون العذاب لتكذيبهم وكفرهم (3) ، فإن الله يغضب عليهم بذلك ،
ويعجل لهم العقوبة ، ومع هذا أيضا كانوا من كفرهم وعنادهم يستعجلون العذاب
والعقوبة.
قال الله تعالى : { فَإِذَا نزلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ }
أي : فإذا نزل العذاب بمحلتهم ، فبئس ذلك اليوم يومهم ، بإهلاكهم ودمارهم (4).
قال السدي : { فَإِذَا نزلَ بِسَاحَتِهِمْ } يعني : بدارهم ، { فَسَاءَ صَبَاحُ
الْمُنْذَرِينَ } أي : فبئس ما يصبحون ، أي : بئس الصباح صباحهم ؛ ولهذا ثبت في
الصحيحين من حديث إسماعيل بن عُلَيَّةَ ، عن عبد العزيز بن صُهَيْب ، عن أنس ، رضي
الله عنه ، قال : صَبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ، فلما خرجوا بفؤوسهم
ومساحيهم ورأوا الجيش ، رجعوا [وهم] (5) يقولون : محمد والله ، محمد والخميس. فقال
النبي صلى الله عليه وسلم : "الله أكبر ، خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم
فساء صباح المنذرين" (6) ورواه البخاري من حديث مالك ، عن حُميد ، عن أنس
(7).
وقال الإمام أحمد : حدثنا رَوح ، حدثنا سعيد بن أبي عَرُوَبة ، عن قتادة ، عن أنس
بن مالك ، عن أبي طلحة قال : لما صبح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ، وقد
أخذوا مساحيهم وغَدَوا إلى حروثهم
__________
(1) في أ : "عنا".
(2) في ت ، أ : "بمخالفتك".
(3) في أ : "لتكذيبك وكفرهم بك".
(4) في أ : "وبإدمارهم".
(5) زيادة من أ.
(6) صحيح البخاري برقم (371) وصحيح مسلم برقم (1365)
(7) صحيح البخاري برقم (4197)
(7/45)
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
وأرضيهم ،
فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم ولوا (1) مدبرين ، فقال نبي الله صلى الله
عليه وسلم : " الله أكبر ، الله أكبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح
المنذرين" (2) لم يخرجوه من هذا الوجه ، وهو صحيح على شرط الشيخين.
وقوله : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ. وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ
}
تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك.
{ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى
الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182) }
ينزه تعالى نفسه الكريمة ويقدسها ويبرئها عما يقوله الظالمون المكذبون المعتدون -
تعالى وتقدس عن قولهم علوا كبيرا - ولهذا قال : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ
الْعِزَّةِ } ، أي : ذي العزة التي لا ترام ، { عَمَّا يَصِفُونَ } أي : عن قول
هؤلاء المعتدين المفترين.
{ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } أي : سلام الله عليهم في الدنيا والآخرة ؛
لسلامة ما قالوه في ربهم ، وصحته وحقيته (3).
{ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : له الحمد في الأولى والآخرة في
كل حال. ولما كان التسبيح يتضمن التنزيه والتبرئة (4) من النقص بدلالة المطابقة ،
ويستلزم إثبات الكمال ، كما أن الحمد يدل على إثبات صفات الكمال مطابقة ، ويستلزم
التنزيه من النقص - قرن بينهما في هذا الموضع ، وفي مواضع كثيرة من القرآن ؛ ولهذا
قال : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى
الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
وقال سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إذا سلمتم عليَّ فسلموا على المرسلين ، فإنما أنا رسول من المرسلين".
هكذا رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من حديث سعيد ، عنه كذلك (5).
وقد أسنده ابن أبي حاتم ، رحمه الله ، فقال : حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد ،
حدثنا أبو بكر الأعين ، ومحمد بن عبد الرحيم صاعقة قالا حدثنا حسين بن محمد ،
حدثنا شيبان ، عن قتادة قال : حدثنا أنس بن مالك ، عن أبي طلحة قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "إذا سلمتم عليّ فسلموا على المرسلين" (6).
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمد بن أبي بكر ، حدثنا نوح ، حدثنا أبو هارون ، عن
أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سلم (7) قال : {
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى
الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
__________
(1) في س ، أ : "نكصوا".
(2) المسند (2/28)
(3) في أ : "وحقيقته"
(4) في أ : "والتنزيه"
(5) تفسير الطبري (23/74).
(6) ورواه ابن مردويه وابن سعد كما في الدر المنثور (7/140) من طريق سعيد عن قتادة
عن أنس عن أبي طلحة به مرفوعا.
(7) في س ، أ : "إذا أراد أن يسلم".
(7/46)
ثم يسلم.
إسناده ضعيف (1).
وقال (2) ابن أبي حاتم : حدثنا عمار بن خالد الواسطي ، حدثنا شبابة ، عن يونس بن
(3) أبي إسحاق (4) ، عن الشعبي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من
سره أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة ، فليقل آخر مجلسه حين يريد أن
يقوم : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى
الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (5) وروي من وجه آخر
متصل موقوف على (6) علي ، رضي الله عنه.
قال أبو محمد البغوي في تفسيره : أخبرنا أبو سعيد أحمد بن شريح ، أخبرنا أبو إسحاق
الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، حدثنا إبراهيم بن
سهلويه ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا وكيع ، عن ثابت بن أبي صفية ، عن
الأصبغ بن نباتة ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى
من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه في مجلسه : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ
الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ } (7).
وروى الطبراني من طريق عبد الله بن صخر بن أنس (8) ، عن عبد الله بن زيد بن أرقم ،
عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من قال دبر كل صلاة :
{ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى
الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ثلاث مرات ، فقد اكتال
بالجريب الأوفى من الأجر" (9).
وقد وردت أحاديث في كفارة المجلس : سبحانك اللهم وبحمدك ، لا إله إلا أنت ،
أستغفرك وأتوب إليك. وقد أفردت لها جزءا على حدة ، فلتكتب هاهنا إن شاء الله تعالى
(10).
آخر تفسير سورة الصافات.
__________
(1) وفي إسناده عمارة بن جوين - أبو هارون العبدي - متروك الحديث ، ورواه أبو يعلى
في مسنده (2/363) فقال : حدثنا إسحاق ، حدثنا حماد ، عن أبي هارون بنحوه.
(2) في ت : "وروى".
(3) في أ : "عن".
(4) في ت : "بسنده".
(5) وذكره السيوطي في الدر (7/141) ولم يعزه لغيره ، وهو مرسل.
(6) في ت : "بسنده".
(7) معالم التنزيل للبغوي (7/66) ورواه الواحدي في الوسيط (3/536) عن الأصبغ بن
نباتة به ، والأصبغ بن نباتة ضعفه الأئمة.
(8) في أ : "الأنسي".
(9) المعجم الكبير (5/211) من طريق عبد المنعم بن بشير عن عبد الله بن محمد الأنسي
عن عبد الله بن زيد بن أرقم عن أبيه مرفوعا. قال الهيثمي في المجمع (10/103) :
"فيه عبد المنعم بن بشير ، وهو ضعيف جدا".
(10) كذا ولم أجد إثباته في النسخ ، والأحاديث التي وردت في كفارة المجلس جاءت عن
جمع من الصحابة والتابعين وهم : 1 -
أبو هريرة : قال الترمذي في سننه برقم (3433) : أخبرنا أبو عبيدة بن أبي السفر -
أحمد بن عبد الله الهمداني - حدثنا حجاج بن محمد قال : قال ابن جريج : أخبرني موسى
بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك :
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان
في مجلسه ذلك".
48
قال الحافظ ابن كثير : "علله الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو حاتم وأبو زرعة
والدارقطني وغيرهم ، ونسبوا الوهم فيه إلى ابن جريج" ، على أن أبا داود قد
رواه في سننه برقم (4858) من طريق عبد الرحمن بن أبي عمرو عن سعيد المقبري عن أبي
هريرة بنحوه. 2 -
أبو برزة الأسلمي :
قال أبو داود في السنن برقم (4859) : حدثنا محمد بن حاتم الجرجرائي وعثمان بن أبي
شيبة ، أن عبدة بن سليمان أخبرهم عن الحجاج بن دينار عن أبي هاشم عن أبي العالية
عن أبي برزة الأسلمي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأخرة إذا أراد
أن يقوم من المجلس : "سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ،
أستغفرك وأتوب إليك" ، فقال رجل : يا رسول الله ، إنك لتقول قولا ما كنت
تقوله فيما مضى ، قال : "كفارة لما يكون في المجلس" ، ورواه النسائي في
السنن الكبرى برقم (10259) ، والحاكم في المستدرك (1/537) من طريق الحجاج بن دينار
به. 3 -
رافع بن خديج :
قال النسائي في السنن الكبرى برقم (10260) : أخبرنا عبيد الله بن إبراهيم بن سعد
قال : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا مصعب بن حيان - أخو مقاتل بن حيان - عن مقاتل بن
حيان ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية الرياحي ، عن رافع بن خديج قال : كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم بأخرة إذا اجتمع إليه أصحابه فأراد أن ينهض قال :
"سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ، عملت
سوءا ، وظلمت نفسي ، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" ، قال : فقلنا يا
رسول الله ، إن هذه الكلمات أحدثتهن ؟ قال : "أجل جاءني جبريل عليه السلام
فقال : يا محمد ، هن كفارات المجلس" ، ورواه الحاكم في المستدرك (1/537) من
طريق يونس بن محمد به. 4 -
عبد الله بن عمرو بن العاص :
قال أبو داود في السنن برقم (4857) : حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب قال :
أخبرني عمرو أن سعيد بن هلال حدثه أن سعيد بن أبي سعيد المقبري حدثه عن عبد الله
بن عمرو بن العاص أنه قال : كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات
إلا كفر بهن عنه ، ولا يقولهن في مجلس خير ومجلس ذكر إلا ختم له بهن عليه كما يختم
بالخاتم على الصحيفة : سبحانك اللهم وبحمدك ، لا إله إلا انت ، أستغفرك وأتوب
إليك.
هكذا رواه أبو داود موقوفا ، وقد رواه الطبراني من وجه آخر مرفوعا ، قال الهيثمي
في المجمع (10/142) : "وفيه محمد بن جامع العطار وثقه ابن حيان وضعفه جماعة ،
وبقية رجاله رجال الصحيح. 5 -
عبد الله بن مسعود :
قال الطبراني في المعجم الكبير (10/203) : حدثنا أحمد بن زهير التستري ، حدثنا
عثمان بن حفص التومني ، حدثنا يحيى ابن كثير ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد
الرحمن السلمي ، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول : "كفارة المجلس أن يقول العبد : سبحانك اللهم وبحمدك ،
أشهد أن لا إله إلا الله ، أستغفرك وأتوب إليك". 6 -
عائشة :
قال الطبراني في المعجم الأوسط برقم (4611) "مجمع البحرين" : حدثنا محمد
بن أحمد الرقام ، حدثنا أحمد بن المقدام العجلي ، حدثنا النضر بن أبي النضر ، عن
عمرو بن عبد الجبار ، عن الحكم بن عتيبة ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه إلى سقف البيت قال : "سبحانك اللهم
وبحمدك ، أستغفرك وأتوب إليك" قالت عائشة : فسألته عنهن ، فقال : "أمرت
بهن".
قال الطبراني : لم يروه عن الحكم إلا عمرو ، ولا عنه إلا النضر تفرد به أبو
الأشعث.
وفي إسناده من لا يعرف.
ورواه النسائي في عمل اليوم والليلة من وجه آخر ، فرواه من طريق سعيد بن الحكم ،
عن خلاد بن سليمان ، عن خالد بن أبي عمران ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة قالت :
ما جلس رسول اله صلى الله عليه وسلم مجلسا ، ولا تلا قرآنا إلا ختم ذلك بكلمات ،
فقلت : يا رسول الله أراك ما تجلس ولا تتلو قرآنا ، ولا تصلي إلا ختمت بهؤلاء
الكلمات قال : "نعم ، من قال خيرا كان له طابعا على ذلك الخير ، ومن قال شرا
كن كفارة له : سبحانك اللهم وبحمدك ، لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك".
7 -
جبير بن مطعم :
قال الطبراني في المعجم الكبير (2/138) : حدثنا العباس بن حمدان الحنفي ، حدثنا
عبد الجبار بن العلاء حدثنا 49 سفيان حدثني ابن عجلان عن مسلم بن أبي مريم ، عن
نافع بن جبير عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قال :
سبحان الله وبحمده ، سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك
وأتوب إليك ، فقالها في مجلس ذكر ؛ كان كالطابع يطبع عليه ، ومن قالها في مجلس لغو
، كانت كفارة له" ثم رواه من طريق خالد بن يزيد العمري ، عن داود بن قيس ، عن
نافع ابن جبير بنحوه. 8 -
الزبير بن العوام :
قال الطبراني في المعجم الأوسط برقم (4606) "مجمع البحرين" : حدثنا محمد
بن علي الطرائفي الرقي ، حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا الحسن بن محمد بن أعين قال :
كتب محمد بن سلمة النصيبي يذكر أن عبد العزيز بن صهيب حدثه عن خباب مولى الزبير بن
العوام عن الزبير قال : قلنا : يا رسول الله ، إنا إذا قمنا من عندك أخذنا في حديث
الجاهلية فقال : "إذا جلستم تلك المجالس التي تخافون فيها على أنفسكم فقولوا
عند مقامكم : سبحانك اللهم وبحمدك ، نشهد أن لا إله إلا أنت ، نستغفرك ونتوب إليك
، يكفر عنكم ما أصبتم" قال الطبراني : لا يروى عن الزبير إلا بهذا الإسناد ،
تفرد به محمد بن علي. وفي إسناده من لا يعرف. 9 -
أنس بن مالك :
قال البزار في مسنده برقم (3123) "كشف الأستار" : حدثنا عمر بن موسى
الشامي ، حدثنا عثمان بن مطر ، عن ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "كفارة المجلس أن تقول سبحانك اللهم وبحمدك ، أستغفرك وأتوب
إليك" ، قال البزار : لا نعلمه يروي عن أنس إلا من هذا الوجه ، وعثمان لين
الحديث روى عنه مسلم وغيره ، ورواه الطبراني في الأوسط برقم (4610) "مجمع
البحرين" من طريق عثمان بن مطر به. 10 -
أم سلمة :
قال الطبراني في المعجم الأوسط برقم (4609) "مجمع البحرين" : حدثنا عبد
الرحمن بن سلم ، حدثنا سهل بن عثمان ، حدثنا حفص بن غياث ، عن عاصم ، عن الشعبي ،
عن أم سلمة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت يكثر أن يقول :
سبحانك اللهم وبحمدك ، أستغفرك وأتوب إليك ، قلت : يا رسول الله ، إني أراك تكثر
أن تقول : سبحانك اللهم وبحمدك ، أستغفرك وأتوب إليك قال : "إني أمرت بأمر
فقرأ : "إذا جاء نصر الله والفتح" قال الطبراني : لم يروه عن عاصم إلا
حفص تفرد به سهل. 11 -
السائب بن يزيد :
قال الإمام أحمد في مسنده (3/450) : حدثنا يونس ، عن ليث ، عن يزيد - يعني ابن
الهاد - عن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : "ما من إنسان يكون في مجلس فيقول حين يريد أن يقوم : سبحانك اللهم
وبحمدك ، لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ؛ إلا غفر له ما كان في ذلك
المجلس" ، فحدثت هذا الحديث يزيد بن خصيفة ، قال : هكذا حدثني السائب بن يزيد
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (7/154) من
طريق الليث به.
وقال الهيثمي في المجمع (10/141) : "رجالهما رجال الصحيح". 12 -
إسماعيل بن عبد الله بن جعفر :
وسياق حديثه في الذي قبله وهو مرسل. 13 -
عمر بن الخطاب :
لم أقع على إسناده ، وقد ذكره الحافظ ابن كثير عند تفسير سورة الطور ، وعزاه
للإسماعيلي. 14 -
جبير بن نفير :
لم أقع على إسناده ، وقد ساقه المتقى الهندي في كنز العمال برقم (25469) ولفظه :
"كفارة المجلس ألا يقوم أحد حتى يقول : سبحانك اللهم وبحمدك ، لا إله إلا أنت
، تب علي ، واغفر لي ، يقولها ثلاث مرات ، فإن كان في مجلس لغو ، كانت كفارته ،
وإن كان في مجلس ذكر ، كان طابعا عليه" ، وعزاه لابن النجار. 15 -
أبو عثمان الفقير :
قال عبد الرزاق في المصنف برقم (19796) : أخبرنا معمر ، عن عبد الكريم الجزري عن
أبي عثمان الفقير أن جبريل علم 50 النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه أن
يقول : سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك.
قال معمر : وسمعت غيره يقول : هذا القول كفارة المجلس. 16 -
أبو العالية الرياحي :
قال النسائي في السنن الكبرى برقم (10261) : أخبرنا محمد بن بشار ، حدثنا يزيد بن
هارون ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن زياد بن حصين ، عن أبي العالية الرياحي قال :
قالوا : يا رسول الله ما كلمات سمعناك تقولهن ؟ قال : "كلمات علمنيهن جبريل
عليه السلام كفارة المجلس : "سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ،
أستغفرك وأتوب إليك".
ثم رواه من طريق فضيل بن عمر وعاصم عن زياد بن حصين به مرسلا.
(7/47)
ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)
تفسير سورة
ص
[وهي] (1) مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ
وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ
حِينَ مَنَاصٍ (3) }
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة "البقرة" بما أغنى
عن إعادته هاهنا.
وقوله : { وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } أي : والقرآن المشتمل على ما فيه ذكر
للعباد ونفع لهم في المعاش والمعاد.
قال الضحاك في قوله : { ذِي الذِّكْرِ } كقوله : { لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ
كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ } ]الأنبياء : 10[ أي : تذكيركم. وكذا قال قتادة
واختاره ابن جرير.
وقال ابن عباس ، وسعيد بن جبير وإسماعيل بن أبي خالد ، وابن عيينة وأبو (2) حصين
وأبو صالح والسدي (3) { ذِي الذِّكْرِ } ذي الشرف أي : ذي الشأن والمكانة.
ولا منافاة بين القولين ، فإنه كتاب شريف مشتمل على التذكير والإعذار والإنذار.
واختلفوا في جواب هذا القسم فقال بعضهم : هو قوله : { إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ
الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } ]ص : 14[. وقيل قوله : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ
تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ } ]ص : 64[ حكاهما (4) ابن جرير وهذا الثاني فيه بعد
كبير ، وضعفه ابن جرير.
وقال قتادة : جوابه : { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } واختاره
ابن جرير.
وقيل : جوابه ما تضمنه سياق السورة بكمالها ، والله أعلم.
ثم حكى ابن جرير عن بعض أهل العلم (5) أنه قال : جوابه "ص" بمعنى : صدق
حق والقرآن ذي الذكر.
وقوله : { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } أي : إن في هذا القرآن
لذكراً لمن يتذكر ، وعبرة لمن يعتبر. وإنما لم ينتفع به الكافرون لأنهم { فِي
عِزَّةٍ } أي : استكبار عنه وحمية { وَشِقَاقٍ } أي : مخالفة له ومعاندة ومفارقة.
ثم خوفهم ما أهلك به الأمم المكذبة قبلهم بسبب مخالفتهم للرسل وتكذيبهم الكتب
المنزلة من
__________
(1) زيادة من ت ، س.
(2) في أ : "ابن".
(3) في ت : "وخلق غيرهما".
(4) في س : "رواهما".
(5) في أ : "العربية".
(7/51)
السماء فقال
: { كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ } أي : من أمة مكذبة ، {
فَنَادَوْا } أي : (1) حين جاءهم العذاب استغاثوا وجأروا إلى الله. وليس ذلك بمجد
عنهم شيئا. كما قال تعالى : { فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا
يَرْكُضُونَ } ]الأنبياء : 12[ أي : يهربون ، { لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى
مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } ]الأنبياء :
13[
قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن التميمي قال : سألت ابن عباس
عن قول الله : { فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } قال : ليس بحين نداء ، ولا نزو
ولا فرار (2)
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ليس بحين مغاث.
وقال شبيب بن بشر (3) عن عكرمة عن (4) ابن عباس : نادوا النداء حين لا ينفعهم
وأنشد :
تَذَكَّر ليلى لاتَ حين تذَكّر (5)
.
وقال محمد بن كعب في قوله : { فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } يقول : نادوا
بالتوحيد حين تولت الدنيا عنهم ، واستناصوا للتوبة حين تولت الدنيا عنهم.
وقال قتادة : لما رأوا العذاب أرادوا التوبة في غير حين النداء.
وقال مجاهد : { فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } ليس بحين فرار ولا إجابة.
وقد روي نحو هذا عن عكرمة ، وسعيد بن جبير وأبي مالك والضحاك وزيد بن أسلم والحسن
وقتادة.
وعن مالك ، عن زيد بن أسلم : { وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } ولا نداء في غير حين
النداء.
وهذه الكلمة وهي "لات" هي "لا" التي للنفي ، زيدت معها
"التاء" كما تزاد في "ثم" فيقولون : "ثمت" ، و
"رب" فيقولون : "ربت". وهي مفصولة والوقف عليها. ومنهم من حكى
عن المصحف الإمام فيما ذكره [ابن جرير] (6) أنها متصلة بحين : "ولا تحين
مناص". والمشهور الأول. ثم قرأ الجمهور بنصب "حين" تقديره : وليس
الحين حين مناص. ومنهم من جوز النصب بها ، وأنشد :
تَذَكَّر حُب ليلى لاتَ حينا... وأَضْحَى الشَّيْبُ قد قَطَع القَرينا (7)
ومنهم من جوز الجر بها ، وأنشد :
طَلَبُوا صُلْحَنَا ولاتَ أوانٍ... فأجَبْنَا أن ليس حينُ بقاءِ (8)
__________
(1) في ت : "إلى".
(2) وقد رواه الطستي في مسائل نافع بن الأزرق أنه سأل ابن عباس فذكره.
(3) في أ : "بشير".
(4) في ت : "سئل".
(5) البيت للأعشى ، وعجزه : وقد تبت عنها والمناص بعيد.
(6) ما بين المعقوفتين بياض في س.
(7) البيت في تفسير الطبري (23/77).
(8) البيت لأبي زبيد الطائي ، وهو في تفسير الطبري (23/77).
(7/52)
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
وأنشد بعضهم
أيضا :
ولاتَ سَاعةَ مَنْدَم
بخفض الساعة ، وأهل اللغة يقولون : النوص : التأخر ، والبوص : التقدم. ولهذا قال
تعالى : { وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } أي : ليس الحين حين فرار ولا ذهاب.
{ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا
سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ
عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى
آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي
الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ (7) أَؤُنزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ
مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ
(8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ
لَهُمْ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي
الأسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ (11) }
يقول تعالى مخبرا عن المشركين في تعجبهم من بعثة الرسول بشرا ، كما قال تعالى : {
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ
النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ
رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ } وقال هاهنا : {
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ } أي : بشر مثلهم ، { وَقَالَ
الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا } أي :
أزعم أن المعبود واحد لا إله إلا هو ؟! أنكر المشركون ذلك - قبحهم الله تعالى -
وتعجبوا من ترك الشرك بالله ، فإنهم كانوا قد تلقوا عن آبائهم عبادة الأوثان
وأشربته قلوبهم فلما دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خلع ذلك من قلوبهم
وإفراد الله (1) بالوحدانية أعظموا ذلك وتعجبوا وقالوا : { أَجَعَلَ الآلِهَةَ
إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ }
وهم سادتهم وقادتهم ورؤساؤهم وكبراؤهم قائلين : { [أن] امْشُوا } (2) أي : استمروا
على دينكم { وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ } ولا تستجيبوا لما يدعوكم إليه محمد
من التوحيد.
وقوله : { إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } قال ابن جرير : إن هذا الذي يدعونا (3)
إليه محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد لشيء يريد به الشرف عليكم والاستعلاء ،
وأن يكون له منكم أتباع ولسنا مجيبيه إليه.
ذكر سبب نزول هذه الآيات :
قال السدي : إن أناسا من قريش اجتمعوا فيهم : أبو جهل بن هشام والعاص بن وائل ،
والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث في نفر من مشيخة قريش ، فقال بعضهم لبعض :
انطلقوا بنا إلى أبي طالب فلنكلمه فيه ، فلينصفنا منه فليكف عن شتم آلهتنا وندعه
وإلهه الذي يعبده ؛ فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا إليه شيء. فتعيرنا [به]
(4) العرب يقولون :
__________
(1) في ت ، س ، أ : "الإله".
(2) زيادة من أ.
(3) في ت : "يدعوا".
(4) زيادة من ت ، س ، أ.
(7/53)
تركوه حتى
إذا مات عنه (1) تناولوه". فبعثوا رجلا منهم يقال له (2) المطلب"
فاستأذن لهم على أبي طالب فقال : هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم يستأذنون عليك. قال :
أدخلهم. فلما دخلوا عليه قالوا : يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا فأنصفنا من ابن
أخيك فمره فليكف عن شتم آلهتنا وندعه وإلهه. قال : فبعث إليه أبو طالب فلما دخل
عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا ابن أخي هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم وقد
سألوك أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك. قال : "يا عم أفلا أدعوهم إلى ما
هو خير لهم ؟" قال : وإلام تدعوهم ؟ قال : "أدعوهم [إلى] (3) أن يتكلموا
بكلمة تدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم". فقال أبو جهل من بين القوم :
ما هي وأبيك ؟ لنعطينها (4) وعشرة أمثالها. قال : تقولون : "لا إله إلا
الله". فنفر وقال : سلنا غير هذا (5) قال : "لو جئتموني بالشمس حتى
تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها" فقاموا من عنده غضابا ، وقالوا : والله لنشتمنك
وإلهك الذي أمرك (6) بهذا. { وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا
وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ }
رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وزاد : فلما خرجوا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم
عمه إلى قول : "لا إله إلا الله" فأبى وقال : بل على دين الأشياخ. ونزلت
: { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص : 56 ] (7)
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا أبو أسامة حدثنا
الأعمش حدثنا عباد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما مرض أبو طالب دخل عليه
رهط من قريش فيهم أبو جهل فقالوا : إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول
ويقول فلو بعثت إليه فنهيته ؟ فبعث إليه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت
وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل قال : فخشي أبو جهل إن جلس إلى جنب أبي طالب أن
يكون أرق له عليه. فوثب فجلس في ذلك المجلس ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
مجلسا قرب عمه فجلس عند الباب. فقال له أبو طالب : أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك
، يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول ؟ قال : وأكثروا عليه من القول وتكلم رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة! يقولونها
تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية" ففزعوا لكلمته ولقوله
وقالوا (8) كلمة واحدة! نعم وأبيك عشرا فقالوا : وما هي ؟ وقال أبو طالب وأي كلمة
هي يا ابن أخي ؟ فقال : "لا إله إلا الله" فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم
وهم يقولون : { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ
} قال : ونزلت من (9) هذا الموضع إلى قوله : { لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ } لفظ أبي
كريب (10)
وهكذا رواه الإمام أحمد والنسائي من حديث محمد بن عبد الله بن نمير ، كلاهما عن
أبي أسامة عن الأعمش عن عباد غير منسوب به نحوه (11) ورواه الترمذي ، والنسائي
وابن أبي حاتم وابن جرير أيضا كلهم في تفاسيرهم من حديث سفيان الثوري عن الأعمش عن
يحيى بن عمارة
__________
(1) في أ : "عمه" ، وكذا في الطبري.
(2) في ت ، س ، أ : "يدعى".
(3) زيادة من أ.
(4) في ت ، س ، أ : "لنعطينكما"
(5) في ت ، س ، أ : "غيرها".
(6) في أ : "يأمرك".
(7) تفسير الطبري (23/80).
(8) في ت ، س ، أ : "فقال القوم".
(9) في أ : "في".
(10) تفسير الطبري (23/79).
(11) المسند (1/362) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11437).
(7/54)
الكوفي عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكر نحوه. وقال الترمذي (1) حسن (2)
وقولهم : { مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ } أي : ما سمعنا بهذا
الذي يدعونا إليه محمد من التوحيد في الملة الآخرة.
قال مجاهد وقتادة وابن (3) زيد : يعنون دين قريش.
وقال غيرهم : يعنون النصرانية ، قاله محمد بن كعب والسدي.
وقال العوفي عن ابن عباس : { مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ }
يعني : النصرانية قالوا : لو كان هذا القرآن حقا أخبرتنا به النصارى.
{ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ } قال مجاهد ، وقتادة كذب وقال ابن عباس : تخرص.
وقولهم : { أَؤُنزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا } يعني : أنهم يستبعدون
تخصيصه بإنزال القرآن عليه من بينهم كلهم كما قالوا في الآية الأخرى : { لَوْلا
نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف : 31]
قال الله تعالى : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا
بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ
فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } [الزخرف : 32 ] ولهذا لما قالوا هذا الذي دل على جهلهم
وقلة عقلهم في استبعادهم إنزال القرآن على الرسول من بينهم ، قال الله تعالى : {
بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ } أي : إنما يقولون هذا لأنهم ما ذاقوا إلى حين
قولهم ذلك عذاب الله ونقمته سيعلمون غب ما قالوا ، وما كذبوا به يوم يُدَعّون إلى
نار جهنم دَعّا.
ثم قال مبينا أنه المتصرف في ملكه الفعال لما يشاء الذي يعطي من يشاء ما يشاء ويعز
من يشاء ويذل من يشاء ويهدي من يشاء ويضل من يشاء وينزل الروح من أمره على من يشاء
من عباده ويختم على قلب من يشاء ، فلا يهديه أحد من بعد الله وإن العباد لا يملكون
شيئا من الأمر وليس إليهم من التصرف في الملك ولا مثقال ذرة وما يملكون من قطمير ؛
ولهذا قال تعالى منكرا عليهم : { أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ
الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ } أي : العزيز الذي لا يرام جنابه الوهاب الذي يعطي ما
يريد لمن يريد.
وهذه الآية شبيهة بقوله : { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا
يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ
صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا } [النساء : 53 : 55] وقوله { قُلْ لَوْ
أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ
الإنْفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا } [الإسراء : 10] وذلك بعد الحكاية عن
الكفار أنهم أنكروا بعثة الرسول البشري وكما أخبر تعالى عن قوم صالح [عليه السلام]
(4) حين قالوا : { أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ
كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ } [القمر : 25 :
26]
__________
(1) في ت : "ورواه الترمذي وقال : حديث حسن".
(2) سنن الترمذي برقم (3232) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11436) وتفسير الطبري
(23/79).
(3) في ت : "وأبو".
(4) زيادة من أ.
(7/55)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)
وقوله : {
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ
} أي : إن كان لهم ذلك فليصعدوا في الأسباب.
قال ابن عباس ، ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم : يعني طرق السماء.
وقال الضحاك : فليصعدوا إلى السماء السابعة.
ثم قال : { جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ } أي : هؤلاء الجند
المكذبون الذين هم في عزة وشقاق سيهزمون ويغلبون ويكبتون كما كبت الذين من قبلهم
من الأحزاب المكذبين وهذه كقوله : { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } وكان ذلك يوم بدر { بَلِ
السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } [القمر : 44 : 46].
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأوْتَادِ (12)
وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ أُولَئِكَ الأحْزَابُ (13) إِنْ
كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا
صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا
قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ (17) }
يقول تعالى مخبرا عن هؤلاء القرون الماضية ، وما حل بهم من العذاب والنكال
والنقمات في مخالفة الرسل وتكذيب الأنبياء وقد تقدمت قصصهم مبسوطة في أماكن
متعددة.
وقوله : { أُولَئِكَ الأحْزَابُ } أي : كانوا أكثر منكم وأشد قوة وأكثر أموالا
وأولادا فما دافع (1) ذلك عنهم من عذاب الله من شيء لما جاء أمر ربك (2) ولهذا قال
: { إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } فجعل علة هلاكهم هو
تكذيبهم بالرسل فليحذر المخاطبون من ذلك أشد الحذر.
وقوله : { وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ
فَوَاقٍ } (3) قال مالك عن زيد بن أسلم : أي ليس لها مثنوية أي : ما ينظرون إلا
الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها أي : فقد اقتربت ودنت وأزفت وهذه الصيحة هي
نفخة الفزع التي يأمر الله إسرافيل أن يطولها ، فلا يبقى أحد من أهل السماوات
والأرض إلا فزع إلا من استثنى (4) الله عز وجل.
وقوله : { وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ }
هذا إنكار من الله على المشركين في دعائهم على أنفسهم بتعجيل العذاب ، فإن القط هو
الكتاب وقيل : هو الحظ والنصيب.
قال ابن عباس ومجاهد والضحاك والحسن وغير واحد : سألوا تعجيل العذاب - زاد قتادة
كما قالوا : { اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ
فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
} [الأنفال : 32]
__________
(1) في ت ، أ : "دفع" ، وفي س : "لما دفع".
(2) في أ : "الله".
(3) في أ : "وما ينظرون" وهو خطأ.
(4) في أ : "شاء".
(7/56)
وقيل :
سألوا تعجيل نصيبهم من الجنة إن كانت موجودة أن يلقوا (1) ذاك في الدنيا. وإنما
خرج هذا منهم مخرج الاستبعاد والتكذيب.
وقال ابن جرير : سألوا تعجيل ما يستحقونه من الخير أو الشر في الدنيا وهذا الذي
قاله جيد ، وعليه يدور كلام الضحاك وإسماعيل بن أبي خالد والله أعلم.
ولما كان هذا الكلام منهم على وجه الاستهزاء والاستبعاد قال الله تعالى لرسوله صلى
الله عليه وسلم آمرا له بالصبر على أذاهم ومبشرا له على صبره بالعاقبة والنصر (2)
والظفر.
__________
(1) في أ : "يسلموا".
(2) في أ : "والنصرة".
(7/57)
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
{ وَاذْكُرْ
عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا
الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ
مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ
الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) }
يذكر تعالى عن عبده ورسوله داود عليه السلام : أنه كان ذا أيد والأيد : القوة في
العلم والعمل.
قال [ابن عباس] (1) وابن زيد والسدي : الأيد : القوة وقرأ ابن زيد : {
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } [الذاريات : 47]
وقال مجاهد : الأيد : القوة في الطاعة.
وقال قتادة : أعطي داود [عليه السلام] (2) قوة في العبادة وفقها في الإسلام ، وقد
ذكر لنا أنه عليه السلام كان يقوم ثلث الليل ويصوم نصف الدهر.
وهذا ثابت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "أحب
الصلاة إلى الله صلاة داود وأحب الصيام إلى الله صيام داود كان ينام نصف الليل
ويقوم ثلثه وينام سدسه وكان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى" (3) وإنه
كان أوابا ، وهو الرجاع إلى الله عز وجل في جميع أموره وشئونه.
وقوله : { إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ
وَالإشْرَاقِ } أي : إنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار ،
كما قال تعالى : { يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ } [سبأ : 10] وكذلك
كانت الطير تسبح بتسبيحه وترجع بترجيعه إذا مر به الطير وهو سابح في الهواء فسمعه
وهو يترنم بقراءة الزبور لا تستطيع الذهاب بل تقف في الهواء وتسبح معه وتجيبه
الجبال الشامخات ترجع معه وتسبح تبعا له.
قال (4) ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب حدثنا محمد بن بشر عن مِسْعَر عن عبد الكريم
عن
__________
(1) زيادة من ت ، س.
(2) زيادة من ت ، س ، أ.
(3) صحيح البخاري برقم (1131) وصحيح مسلم برقم (1159).
(4) في ت : "وروى".
(7/57)
موسى بن أبي
كثير (1) عن ابن عباس (2) أنه بلغه : أن أم هانئ ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوم فتح مكة صلى الضحى ثمان ركعات ، قال (3) ابن عباس : قد ظننت أن لهذه
الساعة صلاة يقول الله تعالى : { يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ } (4)
ثم رواه من حديث سعيد بن أبي عروبة ، عن أبي المتوكل عن أيوب بن صفوان عن مولاه
عبد الله بن الحارث بن (5) نوفل أن ابن عباس كان لا يصلي الضحى قال : فأدخلته على
أم هانئ فقلت : أخبري هذا ما أخبرتني به. فقالت أم هانئ : دخل علي رسول الله صلى
الله عليه وسلم يوم الفتح في بيتي ثم أمر بماء صب في قصعة ثم أمر بثوب فأخذ بيني
وبينه فاغتسل ثم رش ناحية البيت فصلى ثمان ركعات ، وذلك من الضحى قيامهن وركوعهن
وسجودهن وجلوسهن سواء قريب بعضهن من بعض فخرج ابن عباس وهو يقول : لقد قرأت ما بين
اللوحين ما عرفت صلاة الضحى إلا الآن : { يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ }
وكنت أقول : أين صلاة الإشراق وكان بعد يقول : صلاة الإشراق. (6)
ولهذا قال : { وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً } أي : محبوسة في الهواء ، { كُلٌّ لَهُ
أَوَّابٌ } أي : مطيع يسبح تبعا له.
قال سعيد بن جبير وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم وابن زيد : { كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ }
أي : مطيع.
[وقوله] (7) { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } أي : جعلنا له ملكا كاملا من جميع ما يحتاج
إليه الملوك.
قال ابن أبي نجيح عن مجاهد : كان أشد أهل الدنيا سلطاناً.
وقال السدي : كان يحرسه في كل يوم أربعة آلاف.
وقال بعض السلف : بلغني أنه كان حَرَسُه في كل ليلة ثلاثة وثلاثين ألفا لا تدور
عليهم النوبة إلى مثلها من العام القابل.
وقال غيره : أربعون ألفا مشتملون (8) بالسلاح. وقد ذكر (9) ابن جرير وابن أبي حاتم
من رواية عِلْباء بن أحمر عن عِكْرِمة عن ابن عباس : أن نفرين من بني إسرائيل
استعدى أحدهما على الآخر إلى داود عليه السلام أنه اغتصبه بقراً فأنكر الآخر ، ولم
يكن (10) للمدعي بينة فأرجأ أمرهما فلما كان الليل أمر داود عليه السلام ، في
المنام بقتل المدعي فلما كان النهار طلبهما وأمر بقتل المدعي فقال : يا نبي الله
علام تقتلني وقد اغتصبني هذا بقري ؟ فقال : إن الله عز وجل أمرني بقتلك فأنا قاتلك
لا محالة. فقال : والله يا نبي
__________
(1) في ت : "بإسناده".
(2) في أ : "ابن عباس رضي الله عنهما".
(3) في ت : "فقال".
(4) تفسير الطبري (23/87).
(5) في أ : "عن".
(6) تفسير الطبري (23/87).
(7) زيادة من ت ، س ، أ.
(8) في ت ، س ، أ : "مشتكون".
(9) في ت : "وروى".
(10) في س : "تكن".
(7/58)
الله إن
الله لم يأمرك بقتلي لأجل هذا الذي ادعيت عليه ، وإني لصادق فيما ادعيت ولكني كنت
قد اغتلت أباه وقتلته ، ولم يشعر بذلك أحد فأمر به داود [عليه السلام] (1) فقتل.
قال ابن عباس : فاشتدت هيبته في بني إسرائيل وهو الذي يقول الله عز وجل : {
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ }
وقوله : { وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ } قال مجاهد : يعني : الفهم والعقل والفطنة.
وقال مرة : الحكمة والعدل. وقال مرة : الصواب.
وقال قتادة : كتاب الله واتباع ما فيه.
وقال السدي : { الْحِكْمَةَ } النبوة.
وقوله : { وَفَصْلَ الْخِطَابِ } قال شريح القاضي والشعبي فصل الخطاب : الشهود
والأيمان.
وقال قتادة : شاهدان على المدعي أو يمين المدعى عليه هو فصل الخطاب الذي فصل به الأنبياء
والرسل - أو قال : المؤمنون والصالحون - وهو قضاء هذه الأمة إلى يوم القيامة وكذا
قال أبو عبد الرحمن السلمي.
وقال مجاهد والسدي : هو إصابة القضاء وفهمه.
وقال مجاهد أيضا : هو الفصل في الكلام وفي الحكم (2)
وهذا يشمل هذا كله وهو المراد واختاره ابن جرير.
وقال (3) ابن أبي حاتم : حدثنا عمر بن شبة النميري حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثني
عبد العزيز بن أبي ثابت عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه عن بلال بن أبي
بردة عن أبيه (4) عن أبي موسى رضي الله عنه قال : أول من قال : "أما
بعد" داود عليه السلام وهو فصل الخطاب.
وكذا قال الشعبي : فصل الخطاب : "أما بعد".
__________
(1) زيادة من س ، ت ، أ.
(2) في ت : "في القضاء والحكم".
(3) في ت : "ورواه".
(4) في ت : "بإسناده".
(7/59)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (25)
{ وَهَلْ
أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى
دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى
بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ
الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ
نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ
لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ
الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ
فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) }
قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ولم يثبت فيها عن المعصوم
حديث يجب اتباعه ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده ؛ لأنه من رواية
يزيد الرقاشي عن أنس - ويزيد وإن كان من الصالحين - لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة
فالأولى أن (1) يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة وأن يرد علمها إلى الله عز وجل فإن
القرآن حق وما تضمن فهو حق أيضا.
وقوله : { [إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ] فَفَزِعَ مِنْهُمْ } (2) إنما كان ذلك
لأنه كان في محرابه ، وهو أشرف مكان في داره وكان قد أمر ألا يدخل عليه أحد ذلك
اليوم فلم يشعر إلا بشخصين قد تَسَوَّرا عليه المحراب أي : احتاطا به يسألانه عن
شأنهما.
وقوله : { وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } أي : غلبني يقال : عز يعز : إذا قهر وغلب.
وقوله : { وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
: أي اختبرناه.
وقوله : { وَخَرَّ رَاكِعًا } أي : ساجدا { وَأَنَابَ } ويحتمل أنه ركع أولا ثم
سجد بعد ذلك وقد ذكر أنه استمر ساجدا أربعين صباحا ، { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ }
أي : ما كان منه مما يقال فيه : إن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وقد اختلف الأئمة رضي الله عنهم (3) في سجدة "ص" هل هي من عزائم السجود
؟ على قولين الجديد من مذهب الشافعي رحمه الله أنها ليست من عزائم السجود بل هي
سجدة شكر. والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد حيث قال :
حدثنا إسماعيل - وهو ابن علية - عن أيوب عن ابن عباس (4) أنه قال في السجود في
"ص" : ليست من عزائم السجود وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد
فيها.
ورواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في تفسيره من حديث أيوب به (5) وقال
الترمذي : حسن (6) صحيح.
وقال (7) النسائي أيضا عند تفسير هذه الآية : أخبرني إبراهيم بن الحسن - هو
المقسمي - حدثنا حجاج بن محمد عن عمرو (8) بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس ، رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في "ص" وقال :
"سجدها داود عليه السلام توبة ونسجدها شكرا".
تفرد بروايته النسائي (9) ورجال إسناده كلهم ثقات وقد أخبرني شيخنا الحافظ أبو
الحجاج المزي قراءة عليه وأنا أسمع :
__________
(1) في ت : "أنه".
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) في أ : "رحمهم الله".
(4) في أ : "عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس" ، وفي ت : "ما رواه
الإمام أحمد بإسناده عن ابن عباس" زيادة من أ.
(5) المسند (1/360) وصحيح البخاري برقم (1069) وسنن أبي داود برقم (1409) وسنن
الترمذي برقم (577).
(6) في أ : "حديث حسن".
(7) في ت : "وروى".
(8) في أ : "عمر".
(9) النسائي في السنن الكبرى برقم (11438).
(7/60)
أخبرنا أبو
إسحاق المدرجي (1) أخبرنا زاهر بن أبي طاهر الثقفي أخبرنا زاهر بن طاهر الشحامي ،
أخبرنا أبو سعيد الكَنْجَرُوذي أخبرنا الحاكم أبو أحمد محمد بن محمد الحافظ أخبرنا
أبو العباس السراج حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا محمد بن يزيد ابن خُنَيْس عن
الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد قال : قال لي ابن جريج : يا حسن حدثني جدك
عبيد الله (2) بن أبي يزيد عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فقال : يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم كأني أصلي خلف شجرة فقرأت السجدة
فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها تقول وهي ساجدة : اللهم اكتب لي بها عندك أجرا
واجعلها لي عندك ذخرا وضع عني بها وزرا واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود.
قال ابن عباس : فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قام فقرأ السجدة ثم سجد فسمعته
يقول وهو ساجد كما حكى الرجل من كلام الشجرة (3)
رواه الترمذي عن قتيبة وابن ماجه عن أبي بكر بن خلاد كلاهما عن محمد بن يزيد بن
خنيس (4) نحوه وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه (5)
وقال البخاري عند تفسيرها أيضا : حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا محمد بن عبيد
الطنافسي عن العوام قال : سألت مجاهدا عن سجدة "ص" فقال : (6) سألت ابن
عباس : من أين سجدت ؟ فقال : أو ما تقرأ : { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ
وَسُلَيْمَانَ } [الأنعام : 84]{ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ
اقْتَدِهِ } [الأنعام : 90] (7) فكان داود عليه السلام ممن (8) أمر نبيكم صلى الله
عليه وسلم أن يقتدي به فسجدها داود عليه السلام فسجدها رسول الله صلى الله عليه
وسلم (9)
وقال (10) الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حميد حدثنا بكر - هو
ابن عبد الله المزني - أنه أخبره (11) أن أبا سعيد الخدري (12) رأى رؤيا أنه يكتب
"ص" فلما بلغ إلى التي يسجد بها رأى الدواة والقلم وكل شيء بحضرته انقلب
ساجدا قال : فقصها على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل يسجد بها بعد. تفرد به
[الإمام] (13) أحمد (14)
وقال (15) أبو داود : حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن
سعيد بن أبي هلال عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري رضي
__________
(1) في أ : "أبو إسحاق بن المدرجي".
(2) في أ : "عبد الله".
(3) رواه المزي في تهذيب الكمال (6/314).
(4) في أ : "يزيد بن حبيش".
(5) سنن الترمذي برقم (579) وسنن ابن ماجة برقم (1053).
(6) في ت : "بإسناده إلى مجاهد قال".
(7) في ت ، س ، أ : "هداهم" وهو خطأ ، والصواب ما أثبتناه.
(8) في ت ، س : "فيمن".
(9) صحيح البخاري برقم (4807).
(10) في ت : "وروى".
(11) في ت : "بإسناده".
(12) في أ : "الخدري رضي الله عنه".
(13) زيادة من أ.
(14) المسند (3/78).
(15) في ت : "وروى".
(7/61)
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
الله عنه
قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر "ص" فلما بلغ
السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه ، فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تَشَزّن
(1) الناس للسجود ، فقال : "إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم
تَشَزّنْتُم". فنزل وسجد وسجدوا. تفرد به أبو داود (2) وإسناده على شرط
الصحيح.
وقوله : { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } أي : وإن له يوم
القيامة لقربة يقربه الله عز وجل بها وحسن مرجع وهو الدرجات العاليات في الجنة
لتوبته (3) وعدله التام في ملكه كما جاء في الصحيح : "المقسطون على منابر من
نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يقسطون في أهليهم وما ولوا" (4)
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا فضيل عن عطية (5) عن أبي سعيد
الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أحب الناس إلى الله يوم
القيامة وأقربهم منه مجلسا إمام عادل (6) وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة
وأشدهم عذابا إمام جائر". ورواه الترمذي من حديث فضيل - وهو ابن مرزوق الأغر
- عن عطية به (7) وقال : لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه.
وقال (8) ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عبد الله بن أبي زياد حدثنا سيار
، حدثنا جعفر بن سليمان : سمعت مالك بن دينار في قوله : { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا
لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } قال : يقام داود يوم القيامة عند ساق العرش ثم يقول :
يا داود مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا. فيقول
: وكيف وقد سلبته ؟ فيقول : إني أرده عليك اليوم. قال : فيرفع داود بصوت يستفرغ
نعيم أهل الجنان.
{ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ
النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا
نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) }
هذه وصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده
تبارك وتعالى ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيله (9) وقد توعد [الله] (10) تعالى من
ضل عن سبيله ،
__________
(1) في ت : "تشدد".
(2) سنن أبي داود برقم (1410).
(3) في ت ، س : "لنبوته".
(4) صحيح مسلم برقم (1827) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
(5) في ت : "وروى الترمذي".
(6) في أ : "عدل".
(7) المسند (3/22) وسنن الترمذي برقم (1329).
(8) في ت : "وروى".
(9) في أ : "سبيل الله".
(10) زيادة من أ.
(7/62)
وتناسى يوم
الحساب ، بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد.
قال (1) ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا هشام بن خالد حدثنا الوليد ، حدثنا مروان
بن جناح ، حدثني إبراهيم أبو زرعة - وكان قد قرأ الكتاب - أن الوليد بن عبد الملك
قال له : (2) أيحاسب الخليفة فإنك قد قرأت الكتاب الأول ، وقرأت القرآن وفقهت ؟
فقلت : يا أمير المؤمنين أقول ؟ قال : قل في أمان. قلت يا أمير المؤمنين أنت أكرم
على الله أو داود ؟ إن الله - عز وجل - جمع له النبوة والخلافة ثم توعده في كتابه
فقال : { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ
النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ } الآية.
وقال عكرمة : { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } هذا من
المقدم والمؤخر لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا.
وقال السدي : لهم عذاب شديد بما تركوا أن يعملوا ليوم الحساب.
وهذا القول أمشى على ظاهر الآية فالله أعلم.
__________
(1) في ت : "روى".
(2) في ت : "لأبي وزعة".
(7/63)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
{ وَمَا
خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ
نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ
مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ (29) }
يخبر تعالى أنه ما خلق الخلق عبثا وإنما خلقهم ليعبدوه ويوحدوه ثم يجمعهم (1) ليوم
الجمع فيثيب المطيع ويعذب الكافر ولهذا قال تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ
وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي :
الذين لا يرون بعثا ولا معادا وإنما يعتقدون هذه الدار فقط ، { فَوَيْلٌ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } أي : ويل لهم يوم معادهم ونشورهم من النار
المعدة لهم.
ثم بين تعالى أنه من عدله وحكمته لا يساوي بين المؤمن والكافر فقال : { أَمْ
نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي
الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } أي : لا نفعل ذلك ولا يستوون
عند الله ، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من دار أخرى يثاب فيها هذا المطيع ويعاقب
(2) فيها هذا الفاجر. (3) وهذا الإرشاد يدل العقول السليمة والفطر المستقيمة على
أنه لا بد من معاد وجزاء فإنا نرى الظالم الباغي يزداد ماله وولده ونعيمه ويموت
كذلك ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده فلا بد في حكمة الحكيم العليم العادل الذي لا
يظلم مثقال ذرة من إنصاف هذا من هذا. وإذا لم يقع هذا في هذه الدار فتعين أن هناك
داراً أخرى لهذا الجزاء والمواساة. ولما كان القرآن يرشد إلى المقاصد الصحيحة
والمآخذ العقلية الصريحة ، قال : { كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ
لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ } أي : ذوو العقول وهي
الألباب ، جمع لب ، وهو العقل.
__________
(1) في ت ، س : "جمعهم".
(2) في ت : "ويعذب".
(3) في س : "العاصي".
(7/63)
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)
قال الحسن
البصري : والله ما تَدَبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده ، حتى إن أحدهم ليقول : قرأت
القرآن [كله] (1) ما يرى له القرآنُ في خلق ولا عمل. رواه ابن أبي حاتم.
{ وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ
عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي
أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ
(32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ (33) }
يقول تعالى مخبرا أنه وهب لداود سليمان ، أي : نبيا كما قال : { وَوَرِثَ
سُلَيْمَانُ دَاوُدَ } أي : في النبوة وإلا فقد كان له بنون غيره ، فإنه قد كان
عنده مائة امرأة حرائر.
وقوله : { نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } ثناء على سليمان ، عليه السلام ،
بأنه كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى الله عز وجل.
قال (2) ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا محمود بن خالد حدثنا الوليد حدثنا (3)
مكحول قال : لما وهب الله لداود سليمان عليه (4) السلام قال له : يا بني ما أحسن ؟
قال : سكينة الله وإيمان. قال : فما أقبح ؟ قال : كفر بعد إيمان. قال : فما أحلى ؟
قال : روح الله بين عباده. قال : فما أبرد ؟ قال : عفو الله عن الناس وعفو الناس
بعضهم عن بعض. قال داود عليه السلام : فأنت نبي.
وقوله : { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ } أي : إذ
عرض على سليمان في حال مملكته وسلطانه الخيل الصافنات.
قال مجاهد : وهي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة ، والجياد : السراع. وكذا
قال غير واحد من السلف.
وقال (5) ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار حدثنا مُؤمَّل حدثنا سفيان عن أبيه سعيد
بن مسروق عن إبراهيم التيمي في قوله : { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ
الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ } قال : كانت عشرين فرسا ذات أجنحة. كذا رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا ابن أبي زائدة أخبرني
إسرائيل عن سعيد بن مسروق (6) عن إبراهيم التيمي قال : كانت الخيل التي شغلت
سليمان ، عليه الصلاة والسلام عشرين ألف فرس ، فعقرها وهذا أشبه (7) والله أعلم.
وقال (8) أبو داود : حدثنا محمد بن عوف ، حدثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا يحيى بن
أيوب حدثني عُمَارة بن غَزيَّة : أن محمد بن إبراهيم حدثه عن أبي سلمة بن عبد
الرحمن (9) عن عائشة
__________
(1) زيادة من ت ، س ، أ.
(2) في ت : "روى".
(3) في ت : "بإسناده".
(4) في ت ، س : "عليهما".
(5) في ت : "روى".
(6) في ت : "بإسناده".
(7) في أ : "الأشبه".
(8) في ت : "وروى".
(9) في ت : "بإسناده".
(7/64)
رضي الله
عنها قالت : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك - أو خيبر - وفي
سهوتها ستر فهبت الريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة - لُعَب - فقال :
"ما هذا يا عائشة ؟" قالت : بناتي. ورأى بينهن فرسا له (1) جناحان من
رقاع فقال : "ما هذا (2) الذي أرى وسطهن ؟" قالت : فرس. قال : "وما
هذا الذي عليه ؟" قالت : جناحان قال : "فرس له جناحان ؟!" قالت :
أما سمعت أن لسليمان خيل لها أجنحة ؟ قالت : فضحك حتى رأيت نواجذه صلى الله عليه
وسلم (3)
وقوله : { فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى
تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } (4) ذكر غير واحد من السلف والمفسرين أنه اشتغل بعرضها
حتى فات وقت (5) صلاة العصر والذي يقطع به أنه لم يتركها عمدا بل نسيانا كما شغل
النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر حتى صلاها بعد الغروب (6) وذلك
ثابت في الصحيحين من غير وجه ، من ذلك عن جابر قال : جاء عمر ، رضي الله عنه يوم
الخندق بعد ما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش ، ويقول : يا رسول الله ، والله ما
كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"والله ما صليتها" فقال : (7) فقمنا إلى بُطْحَان فتوضأ للصلاة وتوضأنا
(8) لها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب (9)
ويحتمل أنه كان (10) سائغا في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو والقتال. والخيل تراد
للقتال. وقد ادعى طائفة (11) من العلماء أن هذا كان مشروعا فنسخ ذلك بصلاة الخوف
ومنهم من ذهب إلى ذلك في حال المسايفة والمضايقة ، حيث لا يمكن صلاة ولا ركوع ولا
سجود كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في فتح تستر ، وهو منقول عن مكحول والأوزاعي
وغيرهما والأول أقرب ؛ لأنه قال بعدها : { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا
بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ }
قال الحسن البصري. قال : لا والله لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما (12) عليك. ثم
أمر بها فعقرت. وكذا قال قتادة.
وقال السدي : ضرب أعناقها وعراقيبها بالسيوف.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : جعل يمسح أعراف الخيل ، وعراقيبها حبالها.
وهذا القول اختاره ابن جرير قال : لأنه لم يكن ليعذب حيوانا بالعرقبة ويهلك مالا
من ماله بلا سبب سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها. وهذا الذي رجح
به ابن جرير فيه نظر ؛ لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا ولا سيما إذا كان غضبا
لله عز وجل بسبب أنه
__________
(1) في أ : "لها".
(2) في أ : "ما هذا يا عائشة".
(3) سنن أبي داود برقم (4932).
(4) في ت ، س : "قال".
(5) في ت ، أ : "عن وقت".
(6) في أ : "المغرب".
(7) في ت : "قال".
(8) في ت : "فتوضأنا".
(9) صحيح البخاري برقم (4112) وصحيح مسلم برقم (631).
(10) في أ : "ادعى هذا طائفة".
(11) في س ، أ : "أنه قد كان".
(12) في أ : "أحر ما".
(7/65)
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (40)
اشتغل بها
حتى خرج وقت الصلاة ؛ ولهذا لما خرج عنها لله تعالى (1) عوضه الله تعالى ما (2) هو
خير منها وهي (3) الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب غدوها شهر ورواحها شهر فهذا
أسرع وخير من الخيل (4)
وقال (5) الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال
(6) عن أبي قتادة وأبي الدهماء - وكانا يكثران السفر نحو البيت - قالا أتينا على
رجل من أهل البادية ، فقال البدوي : أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل
يعلمني مما علمه الله تعالى وقال : "إنك لا تدع شيئا اتقاء الله (7) - عز وجل
- إلا أعطاك الله خيرا منه" (8)
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ
أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ
مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي
بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ
وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا
فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى
وَحُسْنَ مَآبٍ (40) }
يقول تعالى : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } أي : اختبرناه بأن سلبناه الملك
مرة ، { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا } قال ابن عباس ، ومجاهد وسعيد
بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم : يعني شيطانا. { ثُمَّ أَنَابَ } أي : (9) رجع إلى
ملكه وسلطانه وأبهته.
قال ابن جرير : وكان اسم ذلك الشيطان صخرا. قاله ابن عباس ، وقتادة. وقيل : آصف.
قاله مجاهد وقيل : آصروا. قاله مجاهد أيضا. وقيل : حبقيق. قاله السدي. وقد ذكروا
هذه القصة مبسوطة ومختصرة.
وقد قال سعيد بن أبي عَرُوبة عن قتادة : قال أمر سليمان ، عليه السلام ببناء بيت
المقدس فقيل له : ابنه ولا يُسمَعُ فيه صوت حديد. فقال : فطلب ذلك فلم يقدر عليه.
فقيل له : إن شيطانا في البحر يقال له : "صخر" شبه المارد. قال : فطلبه
وكانت عين في البحر يَردهُا في كل سبعة أيام مرة فنزح ماؤها وجعل فيها خمر ، فجاء
يوم ورْده فإذا هو بالخمر فقال : إنك لشراب طيب إلا أنك تصبين الحليم ، وتزيدين
الجاهل جهلا. ثم رجع حتى عطش عطشا شديدا ثم أتاها (10) فقال : إنك لشراب طيب إلا
أنك تصبين الحليم ، وتزيدين الجاهل جهلا. ثم شربها حتى غلبت على عقله ، قال : فأري
الخاتم أو ختم به بين كتفيه فَذَلَّ. قال : وكان ملكه في خاتمه فأتي به سليمان
فقال : إنه
__________
(1) في ت ، س : "عز وجل".
(2) في ت ، س : "بما".
(3) في ت ، س ، أ : "وهو".
(4) وهذا هو الصواب ، وانظر كلام القرطبي في : الجامع لأحكام القرآن (15/195 ،
196).
(5) في ت : "وروى".
(6) في ت : "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(7) في أ : "لله".
(8) المسند (5/78) وقال الهيثمي في المجمع (10/296) : "رجاله رجال
الصحيح".
(9) في ت ، س : "ثم".
(10) في أ : "أتاه".
(7/66)
قد أمرنا
ببناء هذا البيت وقيل لنا : لا يسمعن فيه صوت حديد. قال : فأتى ببيض الهدهد فجعل
عليه زجاجة فجاء الهدهد فدار حولها ، فجعل يرى بيضه ولا يقدر عليه فذهب فجاء
بالماس فوضعه عليه فقطعها به حتى أفضى إلى بيضه. فأخذ الماس فجعلوا يقطعون به
الحجارة. وكان سليمان [عليه السلام] (1) إذا أراد أن يدخل الخلاء - أو : الحمام -
لم يدخل بخاتمه فانطلق يوما إلى الحمام وذلك الشيطان صخر معه ، وذلك عند مقارفة
قارف فيه (2) بعض نسائه. قال : فدخل الحمام وأعطى الشيطان خاتمه فألقاه في البحر
فالتقمته سمكة ، ونزع مُلك سليمان منه وألقي على الشيطان شَبَه سليمان. قال : فجاء
فقعد على كرسيه وسريره وسُلِّط على ملك سليمان كله غير نسائه. قال : فجعل يقضي
بينهم ، وجعلوا ينكرون منه أشياء حتى قالوا : لقد فتن نبي الله. وكان فيهم رجل
يشبهونه بعمر بن الخطاب في القوة فقال : والله لأجربنه. قال : فقال : يا نبي (3)
الله - وهو لا يرى إلا أنه نبي الله - أحدنا تصيبه الجنابة في الليلة الباردة فيدع
الغسل عمدا حتى تطلع الشمس أترى (4) عليه بأسا ؟ فقال : (5) لا. قال : فبينا هو
كذلك أربعين ليلة حتى وجد نبي الله خاتمه في بطن سمكة فأقبل فجعل لا يستقبله جني
ولا طير إلا سجد له حتى انتهى إليهم ، { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا
} قال : هو الشيطان صخر (6)
وقال السدي : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } أي : ابتلينا سليمان ، {
وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا } قال : جلس الشيطان على كرسيه أربعين
يوما. قال : وكان لسليمان عليه السلام مائة امرأة وكانت امرأة منهن يقال لها :
"جرادة" ، وهي آثر نسائه وآمنهن عنده وكان إذا أجنب أو أتى حاجة (7) نزع
خاتمه ولم يأتمن (8) عليه أحدا من الناس غيرها فأعطاها يوما خاتمه ودخل الخلاء
فخرج الشيطان في صورته فقال : هاتي الخاتم. فأعطته فجاء حتى جلس على مجلس سليمان
وخرج سليمان بعد ذلك فسألها أن تعطيه خاتمه ، فقالت : ألم تأخذه قبل ؟ قال : لا.
وخرج مكانه تائها. قال : ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما ، قال : فأنكر
الناس أحكامه فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم فجاءوا حتى دخلوا على نسائه فقالوا
: إنا قد أنكرنا هذا فإن كان سليمان فقد ذهب عقله وأنكرنا أحكامه. قال : فبكى
النساء عند ذلك قال : فأقبلوا يمشون حتى أتوا (9) فأحدقوا به ثم نشروا التوراة
فقرءوا. قال : فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه. ثم طار حتى ذهب
إلى البحر فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت من حيتان البحر. قال : وأقبل سليمان
في حاله التي كان فيها حتى انتهى إلى صياد من صيادي (10) البحر وهو جائع وقد اشتد
جوعه. فاستطعمهم من صيدهم وقال : إني أنا سليمان. فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجه
فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه فقالوا بئس ما
صنعت حيث ضربته. قال : إنه
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت : "فيها".
(3) في أ : "أنبي".
(4) في ت : "ترى".
(5) في ت ، س : "قال".
(6) تفسير الطبري (23/101).
(7) في أ : "حاجته".
(8) في ت : "يأمن".
(9) في أ : "أتوه".
(10) في ت ، س ، أ : "صيادين".
(7/67)
زعم أنه
سليمان. قال : فأعطوه سمكتين مما قد مذر عندهم فلم يشغله ما كان به من الضرب حتى
قام إلى شط البحر فشق بطونهما فجعل يغسل [دمه] (1) فوجد خاتمه في بطن إحداهما
فأخذه فلبسه فرد الله عليه بهاءه وملكه ، وجاءت الطير حتى حامت عليه فعرف القوم
أنه سليمان عليه السلام فقام القوم يعتذرون مما صنعوا [به] (2) فقال : ما أحمدكم
على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم ، كان هذا الأمر لا بد منه. قال : فجاء حتى
أتى ملكه وأرسل إلى الشيطان فجيء به فأمر به فجعل في صندوق من حديد ، ثم أطبق عليه
وقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه ثم أمر به فألقي في البحر فهو فيه حتى تقوم
الساعة. وكان اسمه حبقيق قال : وسخر (3) له الريح ولم تكن سخرت له قبل ذلك وهو
قوله : { وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ
الْوَهَّابُ } (4)
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا }
قال : شيطانا يقال له : آصف. فقال له سليمان : كيف تفتنون الناس ؟ قال : أرني
خاتمك أخبرك. فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر فساح سليمان وذهب ملكه ، وقعد آصف
على كرسيه ومنعه الله نساء سليمان فلم يقربهن - ولم يقربنه وأنكرنه. قال : فكان
سليمان يستطعم فيقول : أتعرفوني ؟ أطعموني أنا سليمان فيكذبونه ، حتى أعطته امرأة
يوما حوتا فجعل يطيب بطنه ، فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه وفر آصف فدخل البحر
فارا.
وهذه كلها من الإسرائيليات ومن أنكرها ما قاله ابن أبي حاتم :
حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة وعلي بن محمد قالوا
: حدثنا أبو معاوية أخبرنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
[رضي الله عنهما] (5) { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ }
قال : أراد سليمان أن يدخل الخلاء فأعطى الجرادة خاتمه - وكانت الجرادة (6) امرأته
وكانت أحب نسائه إليه - فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها : هاتي خاتمي.
فأعطته إياه. فلما لبسه دانت له الإنس والجن (7) والشياطين فلما خرج سليمان من
الخلاء قال لها : هاتي خاتمي. قالت : قد أعطيته سليمان. قال : أنا سليمان. قالت :
كذبت لست سليمان (8) فجعل لا يأتي أحدا يقول له : "أنا سليمان" ، إلا
كذبه حتي جعل (9) الصبيان يرمونه بالحجارة. فلما رأى ذلك عَرَف أنه من أمر الله عز
وجل. قال : وقام الشيطان يحكم بين الناس فلما أراد الله أن يرد على سليمان سلطانه
ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان. قال : فأرسلوا إلى نساء سليمان فقالوا لهن
: أتنكرن من سليمان شيئاً ؟ قلن : نعم إنه يأتينا ونحن حيض وما كان يأتينا قبل
ذلك. فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له (10) ظن أن أمره قد انقطع فكتبوا كتبا فيها
سحر وكفر ، فدفنوها تحت كرسي سليمان ثم أثاروها وقرءوها على الناس. وقالوا :
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) في ت ، أ : "وسخرت".
(4) تفسير الطبري (23/101).
(5) زيادة من أ.
(6) في ت : "جرادة".
(7) في أ : "والجن والطير".
(8) في ت : "بسليمان".
(9) في أ : "جاء".
(10) في ت : "أنه فطن له".
(7/68)
بهذا كان يظهر
سليمان على الناس [ويغلبهم] (1) فأكفر الناس سليمان عليه السلام فلم يزالوا
يكفرونه وبعث ذلك الشيطانُ بالخاتم فطرحه في البحر فتلقته سمكة فأخذته. وكان
سليمان يحمل على شط البحر بالأجر فجاء رجل فاشترى سمكاً فيه تلك السمكة التي في
بطنها الخاتم فدعا سليمان فقال : تحمل لي هذا السمك ؟ فقال : نعم. قال : بكم ؟ قال
بسمكة من هذا السمك. قال : فحمل سليمان عليه السلام السمك ثم انطلق به إلى منزله
فلما انتهى الرجل إلى بابه أعطاه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فأخذها سليمان
فشق بطنها ، فإذا الخاتم في جوفها فأخذه فلبسه. قال : فلما لبسه دانت له الجن
والإنس والشياطين وعاد إلى حاله وَهَرب الشيطان حتى دخل جزيرة (2) من جزائر البحر
فأرسل سليمان في طلبه وكان شيطاناً مريداً فجعلوا يطلبونه ولا يقدرون عليه حتى
وجدوه يوماً نائماً فجاءوا فبنوا عليه بنيانا من رصاص فاستيقظ فوثب فجعل لا يثب في
مكان من البيت إلا أنماط معه من الرصاص قال : فأخذوه فأوثقوه وجاءوا به إلى سليمان
، فأمر به فنقر (3) له تخت من رخام ثم أدخل في جوفه ثم سد بالنحاس ثم أمر به فطرح
في البحر فذلك قوله : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى
كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ } قال : يعني الشيطان الذي كان سلط عليه.
إسناده إلى ابن عباس قوي ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس - إن صح عنه - من
أهل الكتاب ، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه السلام فالظاهر أنهم يكذبون
عليه ولهذا كان في السياق منكرات من أشدها ذكر النساء فإن المشهور أن (4) ذلك
الجني لم يسلط على نساء سليمان بل عصمهن الله منه تشريفاً وتكريماً لنبيه صلى الله
عليه وسلم ، وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف ، كسعيد بن المسيب وزيد
بن أسلم وجماعة آخرين وكلها متُلقًّاة من قصص أهل الكتاب والله أعلم بالصواب.
وقال يحيى بن أبي عمرو السيباني : وجد سليمان خاتمه في عسقلان ، فمشى في خرقة (5)
إلى بيت المقدس تواضعا لله عز وجل ، رواه ابن أبي حاتم.
وقد روى ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار في صفة كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام خبرا
عجيبا فقال : حدثنا أبي رحمه الله ، حدثنا أبو صالح كاتب الليث أخبرني أبو إسحاق
المصري عن كعب الأحبار ؛ أنه لما فرغ من حديث "إرم ذات العماد" قال له
معاوية : يا أبا إسحاق أخبرني عن كرسي سليمان بن داود وما كان عليه ؛ ومن أي شيء
هو ؟ فقال : كان كرسي سليمان من أنياب الفيلة مُفَصّصاً بالدر والياقوت والزبرجد
واللؤلؤ. وقد جُعل له درجة منها مُفَصّصة بالدر والياقوت والزبرجد ثم أمر بالكرسي
فحُفّ من جانبيه بالنخل ، نخل من ذهب شماريخها من ياقوت وزبرجد ولؤلؤ. وجعل على
رءوس النخل التي عن يمين الكرسي طواويس من ذهب ، ثم جعل على رءوس النخل التي على
يسار الكرسي نسور من ذهب مقابلة الطواويس ، وجعل على يمين الدرجة الأولى
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت : "لحق بجزيرة".
(3) في ت : "فثقب".
(4) في أ : "فإن المشهور عن مجاهد وغير واحد من السلف أن".
(5) في أ : "بحرقة".
(7/69)
شجرتا صنوبر
من ذهب ، وعن يسارها أسدان من ذهب وعلى رءوس الأسدين عمودان من زبرجد وجعل من
جانبي الكرسي شجرتا كرم من ذهب قد أظلتا الكرسي وجعل عناقيدهما درا وياقوتا أحمر.
ثم جُعل فوق دَرَج الكرسي أسَدَان عظيمان من ذهب مجوفان محشوان مسكا وعنبرا. فإذا
أراد سليمان أن يصعد على كرسيه استدار الأسدان ساعة ثم يقعان (1) فينضحان ما في
أجوافهما من المسك والعنبر حول كرسي سليمان عليه السلام ، ثم يوضع منبران من ذهب
واحد لخليفته والآخر لرئيس أحبار بني إسرائيل ذلك الزمان. ثم يوضع أمام كرسيه
سبعون منبرا من ذهب يقعد عليها سبعون قاضيا من بني إسرائيل وعلمائهم وأهل الشرف
منهم والطول ومن خلف تلك المنابر كلها خمسة وثلاثون منبرا من ذهب ليس عليها أحد ،
فإذا أراد أن يصعد على كرسيه وضع قدميه على الدرجة السفلى فاستدار الكرسي كله بما
فيه وما عليه ، ويبسط الأسد يده اليمنى وينشر النسر جناحه الأيسر ثم يصعد [سليمان]
(2) على الدرجة الثانية فيبسط الأسد يده اليسرى وينشر النسر جناحه الأيمن فإذا
استوى سليمان على الدرجة الثالثة وقعد على الكرسي أخذ نسر من تلك النسور عظيم تاج
سليمان فوضعه على رأسه فإذا وضعه على رأسه استدار الكرسي بما فيه كما تدور الرحى
المسرعة. فقال معاوية رضي الله عنه : وما الذي يديره يا أبا إسحاق ؟ قال : تنين من
ذهب ذلك الكرسي عليه وهو عظيم مما عمله صخر الجني فإذا أحست بدورانه تلك النسور
والأسْدُ والطواويس التي في أسفل الكرسي دُرْنَ إلى أعلاه فإذا وقف وقفن كلهن
منكسات رءوسهن على رأس سليمان [ابن داود] (3) عليه (4) السلام وهو جالس ثم ينضحن
جميعًا ما في أجوافهن من المسك والعنبر على رأس سليمان عليه السلام. ثم تتناول
حمامة من ذهب واقفة على عمود من جوهر التوراةَ فتجعلها في يده فيقرؤها سليمان على
الناس.
وذكر تمام الخبر (5) وهو غريب جدا.
{ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي
إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } قال بعضهم : معناه : لا ينبغي لأحد من بعدي أي : لا
يصلح لأحد أن يسلبنيه كما كان من قضية (6) الجسد الذي ألقي على كرسيه لا أنه يحجر
على من بعده من الناس. والصحيح أنه سأل من الله تعالى ملكا لا يكون لأحد من بعده
من البشر مثله ، وهذا هو ظاهر السياق من الآية وبه (7) وردت الأحاديث الصحيحة من
طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال (8) البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا روح ومحمد
بن جعفر عن شعبة عن محمد بن زياد (9) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : "إن عفريتا من الجن تَفَلَّت عليّ البارحة - أو كلمة نحوها -
ليقطع علي الصلاة فأمكنني الله منه وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى
تُصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان : { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي
مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي }
__________
(1) في ت : "يقفان".
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) زيادة من أ.
(4) في أ : "عليهما".
(5) في ت : "الحديث".
(6) في ت : "في قصة" ، وفي أ : "من قصة".
(7) في ت ، س ، أ : "وبذلك".
(8) في ت : "فروى".
(9) في ت : "بإسناده".
(7/70)
قال روح :
فرده خاسئا (1)
وكذا رواه مسلم والنسائي من حديث شعبة به (2)
وقال مسلم في صحيحه : حدثنا محمد بن سلمة المُرَادي حدثنا عبد الله بن وهب عن
معاوية بن صالح حدثني ربيعة بن يَزيد عن أبي إدريس الخولاني (3) عن أبي الدرداء
قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فسمعناه يقول : "أعوذ بالله
منك". ثم قال : "ألعنك بلعنة الله" - ثلاثا - وبسط يَدَه كأنه
يتناول شيئا فلما فرغ من الصلاة قلنا : يا رسول الله ، قد سمعناك تقول في الصلاة
شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك ورأيناك بسطت يدك ؟ قال : "إن عدو الله إبليس
جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت : أعوذ بالله منك - ثلاث مرات - ثم قلت :
ألعنك بلعنة الله التامة. فلم يستأخر ثلاث مرات ثم أردت أخْذَه والله لولا دعوة
أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به صبيان (4) أهل المدينة" (5)
وقال (6) الإمام أحمد : حدثنا أبو أحمد حدثنا ميسرة بن معبد حدثنا أبو عبيد حاجب
سليمان قال : رأيت عطاء بن يزيد الليثي قائما يصلي ، فذهبت أمر بين يديه فردني ثم
قال (7) حدثني (8) أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يصلي (9)
صلاة الصبح وهو خلفه فقرأ فالتبست عليه القراءة فلما فرغ من صلاته قال : "لو
رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت بَرْدَ لعابه بين أصبعي هاتين
- الإبهام والتي تليها - ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح (10) مربوطا بسارية من سواري
المسجد ، يتلاعب به صبيان المدينة فمن استطاع منكم ألا يحول بينه وبين القبلة أحد
فليفعل".
وقد روى أبو داود منه : "من استطاع منكم ألا يحول بينه وبين القبلة أحد
فليفعل" عن أحمد بن أبي سُرَيج عن أبي أحمد الزبيري به (11)
وقال (12) الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري
حدثنا الأوزاعي ، حدثني ربيعة بن يزيد (13) عن عبد الله الديلمي قال : دخلت على
عبد الله بن عمرو ، وهو في حائط له بالطائف يقال له : "الوهط" ، وهو
مُخَاصر فتى من قريش يُزَنّ بشُرْب الخمر ، فقلت : بلغني عنك حديث أنه "من
شرب شربة خَمْر لم يقبل الله - عز وجل - له تَوبَةً أربعين صباحًا ، وإن الشقي من شقي
في بطن أمه وإنه من أتى بيت المقدس لا يَنْهَزه إلا الصلاة فيه ، خرج
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4808).
(2) صحيح مسلم برقم (541) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11440).
(3) في ت : "بإسناده".
(4) في ت ، س ، أ : "ولدان".
(5) صحيح مسلم برقم (542).
(6) في ت : "وروى".
(7) في ت : "بإسناده".
(8) في ت : "عن".
(9) في ت : "فصلى".
(10) في ت : "أصبح".
(11) المسند (3/83) وسنن أبي داود برقم (699).
(12) في ت : "وروى".
(13) في ت : "بإسناده".
(7/71)
من خطيئته
مثل يوم ولدته أمه ، فلما سمع الفتى ذكر الخمر اجتذب يده من يده ثم انطلق. فقال
عبد الله بن عمرو (1) إني لا أحل لأحد أن يقول عَلَيّ ما لم أقل سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول : "من شرب من الخمر شربة لم تقبل له صلاة أربعين
صباحا فإن تاب تاب الله عليه فإن (2) عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب
تاب الله عليه. فإن عاد - قال فلا أدري في الثالثة أو الرابعة - فإن عاد كان حقا
على الله أن يسقيه من رَدْغَة الخبال يوم القيامة" قال : وسمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول : "إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن
أصابه من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك (3) أقول جف القلم على علم الله عز
وجل" وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن سليمان سأل الله
تعالى ثلاثا فأعطاه اثنتين ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة : سأله حكما يصادف حكمه
فأعطاه إياه وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه وسأله أيّما رجل خرج من
بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته كيوم (4) ولدته أمه فنحن
نرجو أن يكون الله تعالى (5) قد أعطانا إياها" (6)
وقد روى هذا الفصل الأخير من هذا الحديث النسائي وابن ماجه من طرق عن عبد الله بن
فيروز الديلمي عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه عز وجل خلالا ثلاثا... " وذكره
(7)
وقد روي من حديث رافع بن عمير رضي الله عنه ، بإسناد وسياق غريبين فقال الطبراني :
حدثنا محمد بن الحسن بن قُتَيْبة العسقلاني حدثنا محمد بن أيوب بن سُوَيْد حدثني
أبي حدثنا إبراهيم بن أبي عَبْلَة عن أبي الزاهرية (8) عن رافع بن عمير قال : سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "قال الله عز وجل لداود عليه السلام :
ابن لي بيتًا في الأرض. فبنى داود (9) بيتًا لنفسه قبل البيت الذي أمر به فأوحى
الله إليه : يا داود نصبت بيتك قبل بيتي ؟ قال : يا رب هكذا قضيت (10) من ملك
استأثر ثم أخذ في بناء المسجد فلما تم السور سقط ثلاثا فشكا ذلك إلى الله عز وجل
فقال : يا داود (11) إنك لا تصلح أن تبني لي بيتًا قال : ولم يا رب ؟ قال : لما
جرى على يديك من الدماء. قال : يا رب أو ما كان (12) ذلك في هواك ومحبتك ؟ قال :
بلى ولكنهم عبادي وأنا أرحمهم فشق ذلك عليه فأوحى الله إليه : لا تحزن فإني سأقضي
بناءه على يدي ابنك سليمان. فلما مات داود أخذ سليمان في بنائه فلما تم قرب
القرابين وذبح الذبائح وجمع بني إسرائيل فأوحى الله إليه : قد أرى سرورَك ببنيان
بيتي فسلني أعطك. قال : أسألك ثلاث خصال حكما يصادف حكمك وملكا لا ينبغي لأحد من
بعدي ومن أتي هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه
__________
(1) في أ : "عمرو رضي الله عنهما".
(2) في أ : "وإن".
(3) في أ : "ولذلك".
(4) في ت ، س ، أ : "مثل يوم".
(5) في ت ، س ، أ : "عز وجل".
(6) المسند (2/176).
(7) سنن النسائي (2/43) وسنن ابن ماجة برقم (1408).
(8) في ت : "وروى الطبراني بإسناده".
(9) في ت : "داود عليه السلام".
(10) في ت ، س ، أ : "هكذا قلت فيما قضيت".
(11) في ت ، أ : "فأوحى الله إليه"
(12) في ت ، س ، أ : "أو لم يكن".
(7/72)
خرج من
ذنوبه كيوم ولدته أمه". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما ثنتان
فقد أعطيهما وأنا أرجو أن يكون قد أعطي الثالثة" (1)
وقال (2) الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد حدثنا عُمَر بن راشد اليمامي ، حدثنا إياس
بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال : ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا دعاءً
إلا استفتحه بـ "سبحان الله ربي الأعلى العلي الوهاب" (3)
وقد قال (4) أبو عبيد : حدثنا علي بن ثابت عن جعفر بن بَرْقان عن صالح بن مسمار
قال : لما مات نبي الله داود أوحى الله إلى ابنه سليمان عليهما (5) السلام : أن
سلني حاجتك. قال : أسألك أن تجعل لي قلبا يخشاك كما كان قلب أبي وأن تجعل قلبي
يحبك كما كان قلب أبي. فقال الله : أرسلت إلى عبدي وسألته (6) حاجته فكانت [حاجته]
(7) أن أجعل قلبه يخشاني وأن أجعل قلبه يحبني لأهَبَنّ له ملكا لا ينبغي لأحد من
بعده. قال الله تعالى : { فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً
حَيْثُ أَصَابَ } والتي بعدها ، قال : فأعطاه [الله] (8) ما أعطاه وفي الآخرة لا
حساب عليه.
هكذا أورده أبو القاسم بن عساكر في ترجمة سليمان عليه السلام في تاريخه (9)
وروي عن بعض السلف أنه قال : بلغني عن داود [عليه السلام] (10) أنه قال :
"إلهي كن لسليمان كما كنت لي" : فأوحى الله إليه : أن قل لسليمان : يكون
لي كما كنت لي ، أكون له كما كنتُ لك.
وقوله : { فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ
} قال الحسن البصري رحمه الله : لما عقر سليمان الخيل غضبا لله ، عز وجل عوضه الله
ما هو خير منها وأسرع الريح التي غدوها شهر ورواحها شهر.
وقوله : { حَيْثُ أَصَابَ } أي : حيث أراد من البلاد.
وقوله : { وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ } أي : منهم من هو مستعمل في
الأبنية الهائلة من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات إلى غير ذلك من
الأعمال الشاقة التي لا يقدر عليها البشر وطائفة غواصون في البحار يستخرجون مما
(11) فيها من اللآلئ والجواهر والأشياء النفيسة التي لا توجد إلا فيها {
وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ } أي : موثقون في الأغلال والأكبال ممن قد
تَمَرّد وعصى وامتنع من العمل وأبى أو قد أساء في صنيعه واعتدى.
__________
(1) المعجم الكبير (5/24) قال الهيثمي في المجمع (4/8) : "فيه محمد بن أيوب
بن سويد الرملي وهو متهم بالوضع".
(2) في ت : "وروى".
(3) المسند (4/54) قال الهيثمي في المجمع (10/156) : "فيه عمر بن راشد
اليمامي وثقه غير واحد ، وبقية رجاله رجال الصحيح".
(4) في ت : "وروى".
(5) في ت ، أ : "عليه".
(6) في ت ، س : "أسأله".
(7) زيادة من ت ، س.
(8) زيادة من أ.
(9) تاريخ دمشق (7/569) "القسم المخطوط".
(10) زيادة من ت ، س ، أ.
(11) في ت : "ما".
(7/73)
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)
وقوله : {
هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : هذا الذي
أعطيناك من الملك التام والسلطان الكامل كما سألتنا فأعط من شئت واحرم من شئت ، لا
حساب عليك ، أي : مهما فعلتَ فهو جائز لك احكم بما شئت فهو صواب. وقد ثبت في
الصحيحين (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خُيِّر بين أن يكون عبدًا رسولا
- وهو الذي يفعل ما يؤمر به وإنما هو قاسم يقسم بين الناس ما أمره الله به - وبين
أن يكون ملكا نبيا يعطي من يشاء ويمنع من يشاء بلا حساب ولا جناح ، اختار المنزلة
الأولى بعد ما استشار جبريل فقال له : تواضع فاختار المنزلة الأولى لأنها أرفع
قدرا عند الله وأعلى منزلة في المعاد وإن كانت المنزلة الثانية وهي النبوة مع
الملك عظيمة أيضا في الدنيا والآخرة ولهذا لما ذكر تبارك وتعالى ما أعطى سليمان في
الدنيا نبه على أنه ذو حظ عظيم عند الله يوم القيامة أيضا ، فقال : { وَإِنَّ لَهُ
عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } أي : في الدار الآخرة.
{ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ
الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ
بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) }
__________
(1) في أ : "الصحيح".
(7/74)
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
{
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأولِي
الألْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا
وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) }
يذكر تعالى عبده ورسوله أيوب عليه السلام وما كان ابتلاه تعالى به من الضر في جسده
وماله وولده حتى لم يبق من جسده مَغْرز إبرة سليما سوى قلبه ولم يبق له من حال
الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه غير أن زوجته حفظت وده لإيمانها بالله
ورسوله فكانت تخدم الناس بالأجرة (1) وتطعمه وتخدمه نحوا من ثماني عشرة سنة. وقد
كان قبل ذلك في مال جزيل وأولاد وسعة طائلة من الدنيا فَسُلبَ جميع ذلك حتى آل به
الحال إلى أن ألقي على مزبلة من مزابل البلدة هذه المدة بكمالها ورفضه القريب
والبعيد سوى زوجته رضي الله عنها فإنها كانت لا تفارقه صباحا و [لا] (2) مساء إلا
بسبب خدمة الناس ثم تعود إليه قريبًا. فلما طال المطال واشتد الحال وانتهى القدر المقدور
وتم الأجل المقدر تضرع (3) إلى رب العالمين وإله المرسلين فقال : { أَنِّي
مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [ الأنبياء : 83 ] وفي هذه
الآية الكريمة قال : رب إني مسني الشيطان بنصب وعذاب ، قيل : بنصب في بدني وعذاب
في مالي وولدي. فعند ذلك استجاب له أرحم الراحمين وأمره أن يقوم من مقامه وأن يركض
الأرض برجله. ففعل فأنبع الله عينا وأمره أن يغتسل منها فأذهب جميع ما كان في بدنه
من الأذى (4) ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر فأنبع له عينا أخرى وأمره أن يشرب
منها فأذهبت ما كان في باطنه (5) من السوء وتكاملت العافية ظاهرا وباطنا ولهذا قال
تعالى : { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ }
__________
(1) في أ : "بالأجر".
(2) زيادة من أ.
(3) في ت ، س : "ضرع".
(4) في ت ، س : "ما كان به من الأذى".
(5) في أ : "بباطنه".
(7/74)
قال (1) ابن
جرير ، وابن أبي حاتم جميعًا : حدثنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني
نافع بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب (2) عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال : "إن نبي الله أيوب عليه السلام لبث به بلاؤه ثماني
عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين كانا من أخص إخوانه به كانا يغدوان إليه
ويروحان فقال أحدهما لصاحبه : تعلم - والله - لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من
العالمين. قال له صاحبه : وما ذاك ؟ قال : من ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله ،
فيكشفَ ما به (3) فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له. فقال أيوب : لا
أدري ما تقول غير أن الله يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله عز
وجل ، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما ، كراهية أن يذكرا الله إلا في حق. قال : وكان
(4) يخرج إلى حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ فلما كان ذات يوم أبطأ
عليها وأوحى الله تعالى إلى أيوب ، عليه السلام ، أن { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا
مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } فاستبطأته فتلقته تنظر فأقبل (5) عليها قد أذهب
الله ما به من البلاء وهو على أحسن ما كان. فلما رأته قالت : أي بارك الله فيك هل
رأيت نبي الله هذا المبتلى. فوالله على ذلك ما رأيت رجلا أشبه به منك إذ كان
صحيحا. قال : فإني (6) أنا هو. قال : وكان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير فبعث
الله سحابتين فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض وأفرغت
الأخرى في أندر الشعير حتى فاض. هذا لفظ ابن جرير رحمه الله (7)
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا مَعْمَر عن همام بن مُنَبِّه قال : هذا
ما حدثنا (8) أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بينما
أيوب يغتسل عريانا خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب يحثو في ثوبه فناداه ربه (9) يا
أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى ؟ قال : بلى يا رب ولكن لا غنى بي عن بركتك".
انفرد بإخراجه البخاري من حديث عبد الرزاق به (10)
ولهذا قال تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً
مِنَّا وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ } قال الحسن وقتادة : أحياهم الله تعالى له
بأعيانهم وزادهم مثلهم معهم.
وقوله : { رَحْمَةً مِنَّا } أي : به على صبره وثباته وإنابته وتواضعه واستكانته {
وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ } أي : لذوي العقول ليعلموا أن عاقبةَ الصبر الفرجُ
والمخرجُ والراحة.
__________
(1) في ت : "روى".
(2) في ت : "بسندهما".
(3) في أ : "ما به من مرضه".
(4) في أ : "وكان أيوب".
(5) في أ : "وأقبل".
(6) في أ : "فقال إني".
(7) تفسير الطبري (23/107) ورواه البزار في مسنده (2357) "كشف الأستار"
وأبو نعيم في الحلية (3/374) من طريق سعيد ابن أبي مريم عن نافع بن يزيد به. قال
البزار : "لا نعلم رواه عن الزهري عن أنس إلا عقيل ، ولا عنه إلا نافع ورواه
عن نافع غير واحد" وقال الهيثمي في المجمع (8/208) : "رجال البزار رجال
الصحيح".
(8) في ت : "وروى القاري".
(9) في ت ، س ، أ : "ربه عز وجل".
(10) المسند (2/314) وصحيح البخاري برقم (278).
(7/75)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)
وقوله : {
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ } وذلك أن أيوب عليه السلام
كان قد غضب على زوجته ووجد عليها في أمر فعلته. قيل : [إنها] (1) باعت ضفيرتها (2)
بخبز فأطعمته إياه فلامها على ذلك وحلف إن شفاه الله ليضربنها مائة جلدة. وقيل :
لغير ذلك من الأسباب. فلما شفاه الله وعافاه ما كان جزاؤها مع هذه الخدمة التامة
والرحمة والشفقة والإحسان أن تقابل بالضرب فأفتاه الله عز وجل أن يأخذ ضغثًا - وهو
: الشِّمراخ - فيه مائة قضيب فيضربها به ضربة واحدة وقد بَرّت يمينه وخرج من حنثه
ووفى بنذره وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله وأناب إليه ولهذا قال تعالى : {
إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } أثنى الله تعالى
عليه ومدحه بأنه { نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } أي : رَجَّاع منيب ولهذا
قال تعالى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ
حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2 ، 3 ]
وقد استدل كثير من الفقهاء بهذه الآية الكريمة على مسائل في الأيمان وغيرها
وأخذوها (3) بمقتضاها [ومنعت طائفة أخرى من الفقهاء من ذلك ، وقالوا : لم يثبت أن
الكفارة كانت مشروعة في شرع أيوب ، عليه السلام ، فلذلك رخص له في ذلك ، وقد أغنى
الله هذه الأمة بالكفارة] (4)
{ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي
وَالأبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46)
وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ
إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأخْيَارِ (48) هَذَا
ذِكْرٌ }
يقول تعالى مخبرا عن فضائل عباده المرسلين وأنبيائه العابدين : { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا
إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ } يعني بذلك :
العمل الصالح والعلم النافع والقوة في العبادة والبصيرة النافذة.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { أُولِي الأيْدِي } يقول : أولي القوة {
وَالأبْصَارِ } يقول : الفقه في الدين.
وقال مجاهد : { أُولِي الأيْدِي } يعني : القوة في طاعة الله { وَالأبْصَارِ }
يعني : البصر (5) في الحق.
وقال قتادة والسدي : أعطُوا قوة في العبادة وبَصرًا في الدين.
[وقوله] (6) { إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ } قال مجاهد :
أي جعلناهم يعملون للآخرة ليس لهم هَمّ غيرها. وكذا قال السدي : ذكرهم للآخرة
وعملهم لها.
وقال مالك بن دينار : نزع الله من قلوبهم حب الدنيا وذكرها وأخلصهم بحب الآخرة
وذكرها. وكذا قال عطاء الخراساني.
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في أ : "ضفيرتيها".
(3) في ت ، س : "وأخذوا".
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) في أ : "البصير".
(6) زيادة من ت ، س ، أ.
(7/76)
هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)
وقال سعيد
بن جُبَيْر : يعني بالدار الجنة يقول : أخلصناها لهم بذكرهم لها (1) وقال في رواية
أخرى : { ذِكْرَى الدَّارِ } عقبى الدار.
وقال قتادة : كانوا يذَكّرون الناس الدار الآخرة والعمل لها.
وقال ابن زيد : جعل لهم (2) خاصة أفضل شيء في الدار الآخرة.
وقوله : { وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأخْيَارِ } أي : لمن
المختارين المجتبين الأخيار فهم أخيار مختارون.
وقوله : { وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ
الأخْيَارِ } قد تقدم الكلام على قصصهم وأخبارهم مستقصاة في سورة
"الأنبياء" بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقوله : { هَذَا ذِكْرٌ } أي : هذا فصل فيه ذكر لمن يتذكر.
وقال السدي : يعني القرآن.
{ هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ
مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا
بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ
أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا
لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) }
يخبر تعالى عن عباده المؤمنين السعداء أن لهم في [الدار] (3) الآخرة { لَحُسْنَ
مَآبٍ } وهو : المرجع والمنقلب. ثم فسره بقوله : { جَنَّاتِ عَدْنٍ } أي : جنات
إقامة مفتحة لهم الأبواب.
والألف واللام هنا (4) بمعنى الإضافة كأنه يقول : "مفتحة لهم أبوابها"
أي : إذا جاءوها فتحت لهم أبوابها.
قال (5) ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن ثواب الهَبَّاري حدثنا عبد الله بن نُمَيْر
، حدثنا عبد الله بن مسلم - يعني : ابن هرمز - عن ابن سابط (6) عن عبد الله بن
عمرو [رضي الله عنهما] (7) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن في
الجنة قصرا يقال له : "عدن" حوله البروج والمروج له خمسة آلاف باب عند
كل باب خمسة آلاف حبَرَة لا يدخله - أو : لا يسكنه - إلا نبي أو صديق أو شهيد أو إمام
عدل". (8)
وقد ورد في [ذكر] (9) أبواب الجنة الثمانية أحاديث كثيرة من وجوه عديدة.
وقوله : { مُتَّكِئِينَ فِيهَا } قيل : متربعين فيها على سرر (10) تحت الحجال {
يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ }
__________
(1) في ت : "أخلصناهم بذكرهم لها".
(2) في ت : "لها".
(3) زيادة من س ، أ.
(4) في ت : "هاهنا".
(5) في ت : "روى".
(6) في ت : "بإسناده".
(7) زيادة من أ.
(8) ورواه البزار في مسنده برقم (1591) "كشف الأستار" من طريق محمد بن
ثواب به ، وقال الهيثمي في المجمع (5/196) : "فيه عبد الله بن مسلم بن هرمز
وهو ضعيف".
(9) زيادة من ت ، أ.
(10) في أ : " سرير".
(7/77)
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآَبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)
أي : مهما
طلبوا وجدوا وحضر كما أرادوا. { وَشَرَابٍ } أي : من أي أنواعه شاءوا أتتهم به
الخدام { بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ } [ الواقعة : 18 ]
{ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ } أي : عن غير أزواجهن فلا يلتفتن إلى غير
بعولتهن { أَتْرَابٌ } أي : متساويات في السن والعمر. هذا معنى قول ابن عباس ،
ومجاهد وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والسّدّي.
{ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ } أي : هذا الذي ذكرنا من صفة الجنة
التي (1) وعدها لعباده المتقين التي (2) يصيرون إليها بعد نشورهم وقيامهم من
قبورهم وسلامتهم من النار.
ثم أخبر عن الجنة أنه لا فراغ لها ولا انقضاء ولا زوال ولا انتهاء فقال : { إِنَّ
هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ } كقوله تعالى : { مَا عِنْدَكُمْ
يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ } [ النحل : 96 ] وكقوله { عَطَاءً غَيْرَ
مَجْذُوذٍ } [ هود : 108 ] وكقوله { لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [ فصلت : 8
] أي : غير مقطوع وكقوله : { أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى
الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ } [ الرعد : 35 ] والآيات
في هذا كثيرة جدا.
{ هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا
فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ
مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا
بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا
بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا
مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) }
__________
(1) في ت ، س ، أ : "الجنة هي التي".
(2) في أ : "الذين".
(7/78)
وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
{ وَقَالُوا
مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ
سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ
أَهْلِ النَّارِ (64) }
لما ذكر تعالى مآل السعداء ثَنّى بذكر حال الأشقياء ومرجعهم ومآبهم في دار معادهم
وحسابهم فقال : { هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ } وهم : الخارجون عن طاعة الله
المخالفون لرسل الله { لَشَرَّ مَآبٍ } أي : لسوء منقلب ومرجع. ثم فسره بقوله : {
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا } أي : يدخلونها فتغمرهم من جميع جوانبهم { فَبِئْسَ
الْمِهَادُ. هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ } أما الحميم فهو : الحار
الذي قد انتهى حره وأما الغَسَّاق فهو : ضده ، وهو البارد الذي لا يستطاع من شدة
برده المؤلم ولهذا قال : { وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } أي : وأشياء من هذا
القبيل ، الشيء وضده يعاقبون بها.
قال (1) الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لَهِيعة حدثنا دَرّاج عن أبي الهيثم
(2) عن أبي سعيد (3) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لو أن
دَلْوًا من غَسَّاق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا" (4)
__________
(1) في ت : "روى".
(2) في ت : "بسنده".
(3) في أ : "سعيد رضي الله عنه".
(4) المسند (3/28).
(7/78)
ورواه
الترمذي عن سُوَيْد بن نصر عن ابن المبارك عن رِشْدين بن سعد عن عمرو بن الحارث عن
دَرّاج به. ثم قال : "لا نعرفه إلا من حديث رشدين" (1) كذا قال : وقد
تقدم من غير حديثه ورواه ابن جرير عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن عمرو بن
الحارث به (2)
وقال كعب الأحبار : غساق : عين في جهنم يسيل إليها حُمَة كل ذات حُمَة من حية
وعقرب وغير ذلك فيستنقع فيؤتى بالآدمي فيغمس فيها غمسة واحدة فيخرج وقد سقط جلده
ولحمه عن العظام ويتعلق جلده ولحمه في كعبيه وعقبيه ويُجَر لحمه كما يَجُر الرجل
ثوبه. رواه ابن أبي حاتم.
وقال الحسن البصري في قوله : { وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } ألوان من
العذاب.
وقال غيره : كالزمهرير والسموم وشرب الحميم وأكل الزقوم والصعود والهوى إلى غير
ذلك من الأشياء المختلفة والمتضادة (3) والجميع مما يعذبون به ويهانون بسببه.
وقوله : { هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ
صَالُوا النَّارِ } هذا إخبار عن قيل أهل النار بعضهم لبعض كما قال تعالى : {
كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا } [ الأعراف : 38 ] يعني بدل السلام
يتلاعنون ويتكاذبون (4) ويكفر بعضهم ببعض فتقول الطائفة التي تدخل قبل الأخرى إذا
أقبلت التي بعدها مع الخزنة من الزبانية : { هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ } أي : داخل
معكم { لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ } [أي] (5) لأنهم من أهل
جهنم (6) { قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ } أي : فيقول لهم الداخلون
: { بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا } أي : أنتم
دعوتمونا إلى ما أفضى بنا إلى هذا المصير { فَبِئْسَ الْقَرَارُ } أي : فبئس
المنزل والمستقر والمصير. { قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ
عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ } كما قال عز وجل (7) { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ
لأولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ
النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 38 ] أي :
لكل منكم عذاب بحسبه { وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ
مِنَ الأشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ }
هذا إخبار عن الكفار في النار أنهم يفقدون رجالا كانوا يعتقدون أنهم على الضلالة
وهم المؤمنون في زعمهم قالوا : ما لنا لا نراهم معنا في النار ؟.
قال (8) مجاهد : هذا قول أبي جهل يقول : ما لي لا أرى بلالا وعمارا وصهيبا وفلانا
وفلانا. وهذا مثل ضرب ، وإلا فكل الكفار هذا حالهم : يعتقدون أن المؤمنين يدخلون
النار فلما دخل الكفار النار افتقدوهم فلم يجدوهم فقالوا : { مَا لَنَا لا نَرَى
رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ
زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ } أي : في الدنيا (9) { أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ
الأبْصَارُ } يسلون أنفسهم بالمحال يقولون : أو لعلهم
__________
(1) سنن الترمذي برقم (2584).
(2) تفسير الطبري (23/114).
(3) في ت ، س : "المتضاضة والمتخالفة".
(4) في ت : "ويتجاذبون".
(5) زيادة من ت ، س.
(6) في ت : "النار".
(7) في ت ، س : "تعالى".
(8) في ت : "وقال".
(9) في أ : "دار الدنيا".
(7/79)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
معنا في
جهنم ولكن لم يقع بصرنا عليهم. فعند ذلك يعرفون أنهم في الدرجات العاليات (1) وهو
(2) قوله : { وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ
وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ
حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ
عَلَى الظَّالِمِينَ } إلى قوله : { [وَنَادَى أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالا
يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا
كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ. أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ
اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ] ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ
تَحْزَنُونَ } [ الأعراف : 44 - 49 ] (3)
وقوله : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ } أي : إن هذا الذي
أخبرناك به يا محمد من تخاصم أهل النار بعضهم في بعض ولعن بعضهم لبعض لحق لا مرية
فيه ولا شك.
{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ
الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ
الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)
مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ
يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) }
يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم (4) أن يقول للكفار بالله المشركين به
المكذبين لرسوله : إنما أنا منذر (5) لست كما تزعمون { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا
اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } أي : هو (6) وحده قد قهر كل شيء وغلبه. { رَبُّ
السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ } أي : هو مالك
جميع ذلك ومتصرف فيه { الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ } أي : غفار مع عزته وعظمته.
{ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ } أي : خبر عظيم وشأن بليغ وهو إرسال الله إياي إليكم
{ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } أي : غافلون.
قال مجاهد وشريح القاضي والسدي في قوله : { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ } يعني :
القرآن.
وقوله : { مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ } أي
: لولا الوحي من أين كنت أدري باختلاف الملأ الأعلى ؟ يعني : في شأن آدم وامتناع
إبليس من السجود له ، ومحاجته ربه في تفضيله عليه.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا
جهضم اليمامي عن يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن أبي سلام عن أبي سلام عن عبد الرحمن
بن عائش عن مالك بن يخامر عن معاذ رضي الله عنه ، قال : احتبس علينا رسول الله صلى
الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى قرن الشمس. فخرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم سريعا فَثَوّب بالصلاة فصلى وتَجَوّز في صلاته فلما سلم قال :
"كما أنتم على مصافكم". ثم أقبل إلينا فقال : "إني سأحدثكم ما
حبسني عنكم الغداة ، إني قمت من الليل فصليت ما قُدّر لي فنعست في صلاتي حتى
استيقظت فإذا أنا بربي (7) في أحسن صورة فقال : يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ
الأعلى ؟
__________
(1) في ت : "العلا".
(2) في أ : "وهي".
(3) زيادة من ت ، س.
(4) في س : "صلوات الله وسلامه عليه".
(5) في أ : "نذير مبين".
(6) في ت : "وهو".
(7) في ت ، س ، أ : "بربي عز وجل".
(7/80)
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)
قلت لا أدري
رب - أعادها ثلاثا - فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري فتجلى
لي كل شيء وعرفت فقال : يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : في الكفارات. قال
: وما الكفارات ؟ قلت (1) نقل الأقدام إلى الجمعات (2) والجلوس (3) في المساجد بعد
الصلوات وإسباغ الوضوء عند الكريهات. قال : وما الدرجات ؟ قلت : إطعام الطعام ولين
الكلام والصلاة والناس نيام. قال : سل. قلت اللهم إني أسألك فعل الخيرات ، وترك
المنكرات ، وحب المساكين ، وأن تغفر لي وترحمني ، وإذا أردت فتنة بقوم فتوفني غير
مفتون ، وأسألك حبك وحب من يحبك ، وحب عمل يقربني إلى حبك". وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "إنها حق فادرسوها وتعلموها" (4) فهو حديث المنام
المشهور ومن جعله يقظة فقد غلط وهو في السنن من طرق.
وهذا الحديث بعينه قد رواه الترمذي من حديث "جهضم بن عبد الله اليمامي"
به. وقال : "حسن صحيح" (5) وليس هذا الاختصام هو الاختصام المذكور في
القرآن (6) فإن هذا قد فسر وأما الاختصام الذي في القرآن فقد فسر بعد هذا وهو قوله
تعالى :
{ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71)
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ
وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ
لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ
أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ
فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى
يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79)
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ
(81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلا عِبَادَكَ
مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) }
__________
(1) في أ : "قال".
(2) في ت ، أ : "الجماعات".
(3) في ت ، س ، أ : "حسن صحيح".
(4) المسند (5/243).
(5) سنن الترمذي برقم (3235) وقال : "سألت محمد بن إسماعيل - يعني : عن هذا
الحديث - فقال : "حسن صحيح".
(6) في ت : "المذكور في الآية الكريمة في القرآن".
(7/81)
قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)
{ قَالَ
فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ
تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) }
هذه القصة ذكرها الله ، تعالى في سورة "البقرة" وفي أول
"الأعراف" وفي سورة "الحجر" و [في] (1) سبحان" و
"الكهف" ، وهاهنا وهي أن الله سبحانه أعلم الملائكة قبل خلق آدم عليه
السلام بأنه سيخلق بشرا من صلصال من حمأ مسنون وتقدم إليهم بالأمر متى فرغ من خلقه
وتسويته فليسجدوا له إكراما وإعظاما واحتراما وامتثالا لأمر الله عز وجل. فامتثل
الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس ولم يكن منهم جنسا كان من الجن فخانه طبعه وجبلته
أحوج ما كان إليه فاستنكف (2) عن السجود لآدم وخاصم ربه عز وجل فيه وادعى (3) أنه
خير من آدم فإنه مخلوق
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في أ : "فاستأنف".
(3) في ت : "فادعى".
(7/81)
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
من نار وآدم
خلق من طين والنار خير من الطين في زعمه. وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله ، وكفر
بذلك فأبعده الله وأرغم أنفه وطرده عن (1) باب رحمته ومحل أنسه وحضرة قدسه وسماه
"إبليس" إعلاما له بأنه قد أبْلَس من الرحمة وأنزله من السماء مذموما
مدحورا إلى الأرض فسأل الله النظرة إلى يوم البعث فأنظره الحليم الذي لا يَعْجَل
على من عصاه. فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرد وطغى وقال : { لأغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ. إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } كما قال : { أَرَأَيْتَكَ
هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا } [ الإسراء : 62 ] وهؤلاء هم المستثنون
في الآية الأخرى وهي (2) قوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ
سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا } [ الإسراء : 65 ]
وقوله : { قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ. أَقُولُ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ
وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } قرأ ذلك جماعة منهم مجاهد برفع
"الحق" الأولى (3) وفسره مجاهد بأن معناه : أنا الحق ، والحق أقول وفي
رواية عنه : الحق مني ، وأقول الحق.
وقرأ آخرون بنصبهما.
قال السدي : هو قسم أقسم الله به.
قلت : وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى : { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأمْلأنَّ
جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ السجدة : 13 ] وكقوله تعالى
: { قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ
جَزَاءً مَوْفُورًا } [ الإسراء : 63 ]
{ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ
(86) إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ
حِينٍ (88) }
يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : ما أسألكم على هذا البلاغ وهذا النصح
أجرا تعطونيه من عرض الحياة الدنيا { وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } أي :
وما أزيد على ما أرسلني الله به ، ولا أبتغي زيادة عليه بل ما أمرت به أديته لا
أزيد عليه ولا أنقص منه وإنما أبتغي بذلك وجه الله عز وجل والدار الآخرة.
قال سفيان الثوري عن الأعمش ومنصور عن أبي الضحى عن مسروق قال : أتينا عبد الله بن
مسعود قال : يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به ومن لا (4) يعلم فليقل : الله
أعلم فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم : الله أعلم فإن الله (5) قال لنبيكم
صلى الله عليه وسلم : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا
مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } أخرجاه (6) من حديث الأعمش به (7)
__________
(1) في أ : "لم".
(2) في أ : "الله عز وجل".
(3) في أ : "من".
(4) في أ : "وهو".
(5) في أ : "الأول".
(6) في ت : "أخرجه البخاري ومسلم".
(7) صحيح البخاري برقم (4809) وصحيح مسلم برقم (2798).
(7/82)
وقوله : {
إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } يعني : القرآن ذكر لجميع المكلفين من
الإنس والجن ، قاله ابن عباس. ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه ، عن أبي غسان مالك بن
إسماعيل : حدثنا قيس ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير (1) ، عن (2) ابن عباس
في قوله : { لِلْعَالَمِينَ } قال : الجن والإنس.
وهذه الآية كقوله تعالى : { لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] ،
[وكقوله] (3) { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [
هود : 17 ].
وقوله : { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ } أي : خبره وصدقه { بَعْدَ حِينٍ } أي : عن قريب.
قال قتادة : بعد الموت. وقال عكرمة : يعني يوم القيامة ولا منافاة بين القولين ؛
فإن من مات فقد (4) دخل في حكم القيامة.
وقال قتادة في قوله تعالى : { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ } قال الحسن
: يا ابن آدم ، عند الموت يأتيك الخبر اليقين.
آخر تفسير سورة "ص" ، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) في ت : "بإسناده".
(2) في ت : "إلى".
(3) زيادة من أ.
(4) في ت ، س ، أ : "قد".
(7/83)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)
تفسير سورة
الزمر
وهي مكية.
قال النسائي : حدثنا محمد بن النضر بن مساور ، حدثنا حماد ، عن مروان أبي لبابة
(1) ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى
نقول : ما يريد أن يفطر. ويفطر حتى نقول : ما يريد أن يصوم. وكان يقرأ في كل ليلة
بني إسرائيل والزمر (2).
بسم الله الرحمن الرحيم
{ تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنزلْنَا
إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ
اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا
يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ
وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ
الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) }.
يخبر تعالى أن تنزيل هذا الكتاب - وهو القرآن العظيم - من عنده ، تبارك وتعالى ،
فهو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ، كما قال تعالى : { وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ
الْعَالَمِينَ. نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ
الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } [الشعراء : 192 - 195].
وقال : { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت : 42 ، 41].
وقال هاهنا : { تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ } أي : المنيع الجناب
، { الْحَكِيمِ } أي : في أقواله وأفعاله ، وشرعه ، وقدره.
{ إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا
لَهُ الدِّينَ } أي : فاعبد الله وحده لا شريك له ، وادع الخلق إلى ذلك ، وأعلمهم
أنه لا تصلح العبادة إلا له [وحده] (3) ، وأنه (4) ليس له شريك ولا عديل ولا نديد
؛ ولهذا قال : { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } أي : لا يقبل من العمل إلا ما
أخلص فيه العامل لله ، وحده لا شريك له.
وقال قتادة في قوله : { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } شهادة أن لا إله إلا
الله. ثم أخبر تعالى عن عُبّاد الأصنام من المشركين أنهم يقولون : { مَا
نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } أي : إنما يحملهم على
عبادتهم لهم أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم ،
فعبدوا (5) تلك الصور تنزيلا لذلك منزلة عبادتهم الملائكة ؛ ليشفعوا لهم عند الله
في
__________
(1) في ت : "روى النسائي بإسناده عن عائشة".
(2) النسائي في السنن الكبرى برقم (11444).
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) في ت : "فإنه".
(5) في أ : "فعدوا".
(7/84)
نصرهم
ورزقهم ، وما ينوبهم من أمر (1) الدنيا ، فأما المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به.
قال قتادة ، والسدي ، ومالك عن زيد بن أسلم ، وابن زيد : { إِلا لِيُقَرِّبُونَا
إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } أي : ليشفعوا لنا ، ويقربونا عنده منزلة.
ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم : "لبيك لا شريك لك (2)
، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك". وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون
في قديم الدهر وحديثه ، وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، بردها
والنهي عنها ، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له ، وأن هذا شيء
اخترعه المشركون من عند أنفسهم ، لم يأذن الله فيه ولا رضي به ، بل أبغضه ونهى عنه
: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ
وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [النحل : 36]{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ }
[الأنبياء : 25].
وأخبر أن الملائكة التي في السموات من المقربين وغيرهم ، كلهم عبيد خاضعون لله ،
لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى ، وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم ، يشفعون
عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك وأبوه ، { فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ
} [النحل : 74] ، تعالى الله عن ذلك.
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } أي : يوم القيامة ، { فِي مَا هُمْ
فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : سيفصل بين الخلائق يوم معادهم ، ويجزي كل عامل بعمله ،
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ
إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ
دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ }
(3) [سبأ : 41 ، 40].
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } أي : لا يرشد
إلى الهداية من قصده (4) الكذب والافتراء على الله ، وقلبه كفار يجحد بآياته
[وحججه] (5) وبراهينه.
ثم بين تعالى أنه لا ولد له كما يزعمه جهلة المشركين في الملائكة ، والمعاندون (6)
من اليهود والنصارى في العزير ، وعيسى فقال : { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ
يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } أي : لكان الأمر على
خلاف ما يزعمون (7). وهذا شرط لا يلزم وقوعه ولا جوازه ، بل هو محال ، وإنما قصد
تجهيلهم (8) فيما ادعوه وزعموه ، كما قال : { لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ
لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ } [الأنبياء : 17]{
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } [الزخرف :
81] ، كل هذا من باب الشرط ، ويجوز تعليق الشرط على المستحيل لقصد المتكلم.
وقوله : { سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } أي : تعالى وتنزه
وتقدس عن أن يكون له ولد ، فإنه الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي كل شيء عبد
لديه ، فقير إليه ، وهو الغني عما سواه الذي قد قهر الأشياء فدانت له وذلت وخضعت.
__________
(1) في س ، أ : "أمور".
(2) في أ" : "لك لبيك".
(3) في أ : "نقول".
(4) في أ : "قصد".
(5) زيادة من أ.
(6) في أ : "المعاندين".
(7) في س : "تزعمون".
(8) في أ : "بجهلهم".
(7/85)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)
{ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) }
(7/86)
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
{
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزلَ لَكُمْ
مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ
خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ
الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) }
يخبر تعالى أنه الخالق لما في السموات والأرض ، وما بين ذلك من الأشياء ، وأنه
مالك الملك المتصرف ، فيه يقلب ليله ونهاره ، { يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى
النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ } أي : سخرهما يجريان (1)
متعاقبين لا يقران (2) ، كل منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا ، كقوله : { يُغْشِي
اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } [الأعراف : 54] هذا معنى ما روي عن
ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، وغيرهم.
وقوله : { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى } أي :
إلى مدة معلومة عند الله ثم تنقضي يوم القيامة. { أَلا هُوَ الْعَزِيزُ
الْغَفَّارُ } أي : مع عزته وعظمته وكبريائه هو غفار لمن عصاه ثم تاب وأناب إليه.
وقوله : { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } أي : خلقكم مع اختلاف أجناسكم
وأصنافكم وألسنتكم وألوانكم من نفس واحدة ، وهو آدم عليه السلام { ثُمَّ جَعَلَ
مِنْهَا زَوْجَهَا } ، وهي حواء ، عليهما السلام ، كقوله : { يَا أَيُّهَا
النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ
مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً } [النساء : 1].
وقوله : { وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } أي : وخلق لكم
من ظهور الأنعام ثمانية ، أزواج وهي المذكورة في سورة الأنعام : { ثَمَانِيَةَ
أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ } [الأنعام : 143]
، { وَمِنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ } [الأنعام : 144].
وقوله : { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ }
أي : قدركم (3) في بطون أمهاتكم { خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ } أي : يكون أحدكم
أولا نطفة ، ثم يكون علقة ، ثم يكون مضغة ، ثم يخلق فيكون لحما وعظما وعصبا وعروقا
، وينفخ فيه الروح فيصير خلقا آخر ، { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ
} [المؤمنون : 14].
وقوله : { فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ } يعني : ظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة (4) - التي
هي كالغشاوة والوقاية على الولد - وظلمة البطن. كذا قال ابن عباس ، ومجاهد ،
وعكرمة ، وأبو مالك ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وابن (5) زيد [وغيرهم] (6).
وقوله : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ } أي : هذا الذي خلق السموات والأرض وما
بينهما وخلقكم وخلق آباءكم (7) ، هو الرب له الملك والتصرف (8) في جميع ذلك ، { لا
إِلَهَ إِلا هُوَ } أي : الذي لا تنبغي
__________
(1) في س : "تجريان".
(2) في أ : "لا يفتران".
(3) في ت ، س : "يخلقكم" وفي ا : "يذرأكم".
(4) في ت ، س : "الشيمة".
(5) في ت ، س : "وأبو".
(6) زيادة من ت.
(7) في أ : "آباءكم وإياكم".
(8) في أ : "والتصريف".
(7/86)
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)
العبادة إلا
له وحده ، { فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } أي : فكيف تعبدون معه غيره ؟ أين يُذْهَبُ
بعقولكم ؟!.
{ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ
الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ
ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ
نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ
عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ
النَّارِ (8) }
يقول تعالى مخبرا عن نفسه تعالى : أنه (1) الغني عما سواه من المخلوقات ، كما قال
موسى : { إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ
لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } [إبراهيم : 8].
وفي صحيح مسلم : "يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ، كانوا على
أفجر قلب رجل منكم ، ما نقص ذلك من ملكي شيئا" (2).
وقوله { وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } أي : لا يحبه ولا يأمر به ، {
وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } أي : يحبه منكم ويزدكم (3) من فضله.
{ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } أي : لا تحمل نفس عن نفس شيئا ، بل كل
مطالب بأمر نفسه ، { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : فلا تخفى عليه
خافية.
وقوله : { وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ } أي :
عند الحاجة يضرع ويستغيث بالله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : { وَإِذَا
مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا
نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا } [الإسراء :
67]. ولهذا قال : { ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ
يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ } أي : في حال الرفاهية ينسى ذلك الدعاء والتضرع ،
كما قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ
قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ
يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } [يونس : 12].
{ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ } أي : في حال العافية
يشرك بالله ، ويجعل له (4) أندادا. { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ
مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } أي : قل لمن هذه حاله وطريقته ومسلكه : تمتع بكفرك
قليلا. وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ، كقوله : { قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ
مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ } [إبراهيم : 30] ، وقوله : { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا
ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [لقمان : 24].
__________
(1) في ت ، أ : "بأنه".
(2) صحيح مسلم برقم (2577) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(3) في أ : "ويزيدكم".
(4) في : "لله".
(7/87)
أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
{ أَمْ مَنْ
هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو
رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُواْ الألْبَابِ (9) }
يقول تعالى : أمن هذه صفته كمن أشرك بالله وجعل له (1) أندادا ؟ لا يستوون عند
الله ، كما قال تعالى : { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ
قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } [آل
عمران : 113] ، وقال هاهنا : { أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا
وَقَائِمًا } أي : في حال سجوده وفي حال قيامه ؛ ولهذا استدل بهذه الآية من ذهب
إلى أن القنوت هو الخشوع في الصلاة ، ليس هو القيام وحده كما ، ذهب إليه آخرون.
قال الثوري ، عن فراس ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن ابن مسعود أنه قال : القانت
المطيع لله ولرسوله.
وقال ابن عباس ، والحسن ، والسدي ، وابن زيد : { آنَاءَ اللَّيْلِ } : جوف الليل.
وقال الثوري ، عن منصور : بلغنا أن ذلك بين المغرب والعشاء.
وقال الحسن ، وقتادة : { آنَاءَ اللَّيْلِ } : أوله وأوسطه وآخره.
وقوله : { يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } أي : في حال عبادته
خائف راج (2) ، ولا بد في العبادة من هذا وهذا ، وأن يكون الخوف في مدة الحياة هو
الغالب ؛ ولهذا قال : { يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } ، فإذا
كان عند الاحتضار فليكن الرجاء هو الغالب عليه ، كما قال (3) الإمام عبد بن حميد
في مسنده.
حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثنا جعفر بن سليمان ، حدثنا ثابت عن أنس قال : دخل
رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في الموت ، فقال له : "كيف تجدك
(4) ؟" قال : أرجو وأخاف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا
يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله عز وجل الذي يرجو ، وأمنه
الذي يخافه".
ورواه الترمذي والنسائي في "اليوم والليلة" ، وابن ماجه ، من حديث
سَيَّار بن حاتم ، عن جعفر بن سليمان ، به (5). وقال الترمذي : "غريب. وقد
رواه بعضهم عن ثابت ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا".
وقال (6) ابن أبي حاتم ، حدثنا عمر بن شبَّة (7) ، عن عبيدة النميري ، حدثنا أبو
خَلَف عبد الله بن عيسى الخَزَّاز ، حدثنا (8) يحيى البّكَّاء ، أنه سمع ابن عمر
قرأ : { أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ
الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } ؛ قال ابن عمر : ذاك عثمان بن عفان ، رضي
الله عنه.
وإنما قال ابن عمر ذلك ؛ لكثرة صلاة أمير المؤمنين عثمان بالليل وقراءته ، حتى إنه
ربما قرأ القرآن في ركعة ، كما روى ذلك أبو عبيدة عنه ، رضي الله عنه (9) ، وقال
الشاعر (10).
__________
(1) في ت : "لله".
(2) في ت : "خائفا راجيا".
(3) في ت : "روى".
(4) في أ : "تحذر".
(5) المنتخب لعبد بن حميد برقم (1368) وسنن الترمذي برقم (983) وسنن ابن ماجه برقم
(4261) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10901).
(6) في ت : "روى".
(7) في أ : "شيبة".
(8) في ت : "عن".
(9) في ت : "عنهما".
(10) هو حسان بن ثابت الأنصاري ، والبيت في ديوانه (ص 248).
(7/88)
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
ضَحُّوا
بأشْمَطَ عُنوانُ السُّجُودِ بِهِ... يُقَطَّع الليلَ تَسْبيحا وقُرآنا...
وقال (1) الإمام أحمد : كتب إلي الربيع بن نافع : حدثنا الهيثم بن حميد ، عن زيد
بن واقد ، عن سليمان بن موسى ، عن كثير بن مرة (2) ، عن تميم الداري قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قرأ بمائة آية في ليلة كتب له قنوت
ليلة".
وكذا رواه النسائي في "اليوم والليلة" عن إبراهيم بن يعقوب ، عن عبد
الله بن يوسف والربيع بن نافع ، كلاهما عن الهيثم بن حميد ، به (3).
وقوله : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
} أي : هل يستوي هذا والذي قبله ممن جعل لله أندادا ليضل عن سبيله ؟! { إِنَّمَا
يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ } أي : إنما يعلم الفرق بين هذا وهذا من له لب وهو
العقل.
{ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) }
__________
(1) في ت : "روى".
(2) في ت : "بإسناده".
(3) المسند (4/103) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10553).
(7/89)
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)
{ قُلْ
إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ
لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) }.
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بالاستمرار على طاعته وتقواه { قُلْ يَا عِبَادِ
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ
الدُّنْيَا حَسَنَةٌ } أي : لمن أحسن العمل في هذه الدنيا حسنة في دنياهم وأخراهم.
وقوله : { وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ } قال مجاهد : فهاجروا فيها ، وجاهدوا ،
واعتزلوا الأوثان.
وقال شريك ، عن منصور ، عن عطاء في قوله : { وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ } قال :
إذا دعيتم إلى المعصية فاهربوا ، ثم قرأ : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ
وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا } [النساء : 97].
وقوله : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } قال
الأوزاعي : ليس يوزن لهم ولا يكال (1) ، إنما يغرف لهم غرفا.
وقال ابن جريج : بلغني أنه لا يحسب عليهم ثواب عملهم قط ، ولكن يزادون (2) على
ذلك.
وقال السدي : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }
يعني : في الجنة.
وقوله : { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ }
أي : إنما أمرت بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له ، .
{ وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ } قال السدي : يعني من أمته صلى
الله عليه وسلم.
__________
(1) في ت ، أ : "يكال لهم".
(2) في ت : "يزدادون".
(7/89)
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)
{ قُلْ
إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ
أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ
إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ
فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ
اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) }.
يقول تعالى : قل يا محمد وأنت رسول الله : { إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي
عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } ، وهو يوم القيامة. وهذا شَرْط ، ومعناه التعريض بغيره
بطريق الأولى والأحرى ، { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي
فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ } وهذا أيضا تهديد وتَبَرّ (1) منهم ، {
قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ } أي : إنما الخاسرون كل الخسران (2) { الَّذِينَ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : تفارقوا فلا
التقاء لهم أبدا ، سواء ذهب أهلوهم إلى الجنة وقد ذهبوا هم إلى النار ، أو أن
الجميع أسكنوا النار ، ولكن لا اجتماع لهم ولا سرور ، { ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ
الْمُبِينُ } أي : هذا هو الخسار البين الظاهر الواضح.
ثم وصف حالهم في النار فقال : { لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ
وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } كما قال : { لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ
فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } [الأعراف : 41] ، وقال : {
يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ
وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [العنكبوت : 55].
وقوله : { ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ } أي : إنما يَقص خبر هذا الكائن
لا محالة ليخوف به عباده ، لينزجروا عن المحارم والمآثم.
وقوله : { يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ } أي : اخشوا بأسي وسطوتي ، وعذابي ونقمتي.
{ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى
اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ
الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ
وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُواْ الألْبَابِ (18) }
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه : { وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ
أَنْ يَعْبُدُوهَا } نزلت في زيد بن عمرو بن نُفَيل ، وأبي ذر ، وسلمان الفارسي.
والصحيح أنها شاملةٌ لهم ولغيرهم ، ممن اجتنب عبادة الأوثان ، وأناب إلى عبادة
الرحمن. فهؤلاء هم الذين لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
ثم قال : { فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ
أَحْسَنَهُ } أي : يفهمونه ويعملون بما فيه ، كقوله تعالى لموسى حين آتاه التوراة
: { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } [الأعراف :
145].
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ } أي : المتصفون بهذه الصفة هم الذين
هداهم الله في الدنيا والآخرة (3) ، أي : ذوو العقول الصحيحة ، والفطَر المستقيمة.
__________
(1) في أ : "وتبري".
(2) في ت ، س : "الخاسرون".
(3) في س : "والأخرى".
(7/90)
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)
{ أَفَمَنْ
حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ
الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ
الْمِيعَادَ (20) }.
يقول تعالى : أفمن كتب الله أنه شَقِي تَقْدر تُنْقذُه مما هو فيه من الضلال
والهلاك ؟ أي : لا يهديه أحد من بعد الله ؛ لأنه من يضلل الله فلا هادي له ، ومن
يهده فلا مضل له.
ثم أخبر عن عباده السعداء أنهم لهم غرف في الجنة ، وهي القصور الشاهقة { مِنْ
فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ } ، أي : طباق فوق طباق ، مَبْنيات محكمات مزخرفات
عاليات.
قال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي ، حدثنا محمد بن فضيل ،
عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن النعمان بن سعد ، عن علي ، رضي الله عنه قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن في الجنة لغرفًا يُرَى بطونها من ظهورها
، وظهورها من بطونها" فقال أعرابي : لمن هي يا رسول الله ؟ قال : "لمن
أطاب الكلام ، وأطعم الطعام ، وصلى لله بالليل والناس نيام".
ورواه الترمذي من حديث عبد الرحمن بن إسحاق (1) ، وقال : "حسن غريب ، وقد
تكلم بعض أهل العلم فيه من قبَل حفظه".
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن
ابن مُعانق - أو : أبي مُعَانق - عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "إن في الجنة لغرفة (2) يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من
ظاهرها ، أعدها الله لمن أطعم الطعام ، وألان الكلام ، وتابع الصيام ، وصلى والناس
نيام".
تفرد به أحمد من حديث عبد الله بن مُعَانق الأشعري ، عن أبي مالك ، به.
وقال (3) الإمام أحمد : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن أبي
حازم (4) ، عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أهل
الجنة ليتراءون الغرفة في الجنة كما تراءون الكوكب في السماء". قال : فحدثتُ
بذلك النعمان بن أبي عياش ، فقال : سمعت أبا سعيد الخدري يقول : "كما تراءون
الكوكب الدري (5) في الأفق الشرقي أو الغربي".
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث أبي حازم (6) ، وأخرجاه أيضًا في الصحيحين من حديث
مالك ، عن صفوان بن سليم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله
عليه وسلم (7).
وقال الإمام أحمد : حدثنا فَزارة ، أخبرني فُلَيح ، عن هلال بن علي ، عن عطاء بن
يسار ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة أهل الغرف ، كما تراءون الكوكب الدري الغارب
في الأفق الطالع ، في تفاضل أهل الدرجات". فقالوا : يا رسول الله ، أولئك
النبيون ؟ فقال : "بلى ، والذي نفسي بيده ، وأقوام آمنوا بالله وصدقوا
الرسل".
__________
(1) زوائد عبد الله على المسند (1/155) وسنن الترمذي برقم (1984).
(2) في س ، أ : "غرفة".
(3) في ت : "وروى".
(4) في ت : "بإسناده".
(5) في س ، أ : "الذي".
(6) المسند (5/340) وصحيح البخاري برقم (6555) وصحيح مسلم برقم (2830).
(7) صحيح البخاري برقم (6556) وصحيح مسلم برقم (2831).
(7/91)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)
ورواه
الترمذي عن سُويد (1) ، عن ابن المبارك عن فُلَيح به (2) وقال : حسن صحيح.
وقال (3) الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر وأبو كامل (4) قالا حدثنا زهير ، حدثنا
سعد الطائي ، حدثنا أبو المدَلَّة - مولى أم المؤمنين - أنه سمع أبا هريرة يقول :
قلنا : يا رسول الله ، إنا إذا رأيناك رقت قلوبنا ، وكنا من أهل الآخرة ، فإذا
فارقناك أعجبتنا الدنيا وشَممْنَا النساء والأولاد. قال : "لو أنكم تكونون
على كل حال على الحال التي أنتم عليها عندي ، لصافحتكم الملائكة بأكفهم ، ولزارتكم
في بيوتكم. ولو لم تُذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم" قلنا : يا
رسول الله ، حَدّثنا عن الجنة ، ما بناؤها ؟ قال : "لَبِنَةُ ذهب ولَبِنَةُ
فضّة ، وملاطها المسك الأذْفَر ، وحَصْباؤها اللؤلؤ والياقوت ، وترابها الزعفران ،
من يدخلها ينعم ولا يَبْأس ، ويخلد ولا يموت ، لا تبلى ثيابه ، ولا يفنى شبابه.
ثلاثة لا تُرَدَّ دعوتُهم : الإمام العادل ، والصائم حتى يفطر ، ودعوة المظلوم
تُحمَل على الغَمام ، وتفتح لها أبواب السموات ، ويقول الرب : وعزتي لأنصرنك ولو
بعد حين" (5).
وروى الترمذي ، وابنُ ماجه بعضَه ، من حديث سعد (6) أبي مجاهد الطائي - وكان ثقة -
عن أبي المُدَلِّه - وكان ثقة - به (7).
وقوله : { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي : تسلك (8) الأنهار بين خلال
ذلك ، كما يشاءوا (9) وأين أرادوا ، { وَعَدَ اللَّهُ } أي : هذا الذي ذكرناه وعد
وعده الله عباده المؤمنين { إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ }
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ
فِي الأرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ
فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى
لأولِي الألْبَابِ (21) }
__________
(1) في أ : "يزيد".
(2) المسند (2/339) وسنن الترمذي برقم (2556).
(3) في ت : "وروى".
(4) في أ : "وأبو عامر".
(5) المسند (2/304).
(6) عيد".
(7) سنن الترمذي برقم (3598) وسنن ابن ماجه برقم (1752) قال الترمذي : "هذا
حديث حسن" ثم أشار إلى رواية أحمد المطولة.
(8) في ت : "تلك".
(9) في أ : "يشاءون".
(7/92)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
{ أَفَمَنْ
شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ
لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22)
}.
يخبر تعالى : أن أصل الماء في الأرض من السماء كما قال تعالى : { وَأَنزلْنَا مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } [الفرقان : 48] ، فإذا أنزل الماء من السماء كَمَن في
الأرض ، ثم يصرفه تعالى في أجزاء الأرض كما يشاء ، ويُنِبُعه عيونًا ما بين صغار
وكبار ، بحسب الحاجة إليها ؛ ولهذا قال : { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ }.
قال (1) ابن أبي حاتم - رحمه الله - : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا عمرو بن علي ،
حدثنا أبو قتيبة عتبة بن يقظان ، عن عكرمة (2) ، عن ابن عباس في قوله تعالى : {
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ
فِي الأرْضِ } ، قال : ليس في الأرض ماء إلا نزل من السماء ، ولكن عروق في الأرض
__________
(1) في ت : "روى".
(2) في ت : "بسنده".
(7/92)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
تغيره ،
فذلك قوله تعالى : { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ } ، فمن سره أن يعود الملح
عذاب فليصعده.
وكذا قال سعيد بن جبير ، وعامر الشعبي : أن كل ماء في الأرض فأصله من السماء.
وقال سعيد بن جبير : أصله من الثلج يعني : أن الثلج يتراكم على الجبال ، فيسكن في
قرارها ، فتنبع العيون من أسافلها.
وقوله : { ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ } أي : ثم يخرج
بالماء النازل من السماء والنابع من الأرض زرعا { مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ } أي :
أشكاله وطعومه وروائحه ومنافعه ، { ثُمَّ يَهِيجُ } أي : بعد نضارته وشبابه يكتهل
(1) { فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا } ، قد خالطه اليُبْس ، { ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا }
أي : ثم يعود يابسا يتحطم ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ } أي
: الذين يتذكرون بهذا فيعتبرون إلى أن الدنيا هكذا ، تكون خَضرةً نضرةً حسناء ، ثم
تعود عَجُوزا شوهاء ، والشاب يعود شيخا هَرِما كبيرا ضعيفا [قد خالطه اليبس] (2) ،
وبعد ذلك كله الموت. فالسعيد من كان حاله بعده إلى خير ، وكثيرًا ما يضرب الله
تعالى مثل الحياة الدنيا بما ينزل الله من السماء من ماء ، وينبت به زروعا وثمارا
، ثم يكون بعد ذلك حُطاما ، كما قال تعالى : { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ
فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
مُقْتَدِرًا } [الكهف : 45].
وقوله : { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ
رَبِّهِ } أي : هل يستوي هذا ومن هو قاسي القلب بعيد من الحق ؟! كقوله تعالى : {
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي
النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } [الأنعام :
122] ؛ ولهذا قال : { فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ }
أي : فلا تلين عند ذكره (3) ، ولا تخشع ولا تعي ولا تفهم ، { أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ }
{ اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ
مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ
وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ
يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) }
هذا مَدْحٌ من الله - عز وجل - لكتابه القرآن العظيم المنزل على رسوله الكريم ،
قال الله تعالى : { اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا
مَثَانِيَ } قال مجاهد : يعني القرآن كله متشابه مثاني.
وقال قتادة : الآية تشبه الآية ، والحرف يشبه الحرف.
وقال الضحاك : { مَثَانِيَ } ترديد القول ليفهموا عن ربهم عز وجل.
وقال عكرمة ، والحسن : ثنَّى الله فيه القضاء - زاد الحسن : تكون السورة فيها آية
، وفي السورة الأخرى آية تشبهها.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { مَثَانِيَ } مُرَدَّد ، رُدِّد موسى في القرآن
، وصالح وهود
__________
(1) في ت ، أ : "يتكهل".
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) في ت ، أ : "ذكر الله".
(7/93)
والأنبياء ،
عليهم السلام ، في أمكنة كثيرة.
وقال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { مَثَانِيَ } قال : القرآن يشبه بعضه بعضا ،
ويُرَدُّ (1) بعضه على بعض.
وقال بعض العلماء : وُيرْوى عن سفيان بن عيينة معنى قوله : { مُتَشَابِهًا
مَثَانِيَ } أنّ سياقات القرآن تارةً تكونُ في معنى واحد ، فهذا من المتشابه ،
وتارةً تكونُ بذكر الشيء وضده ، كذكر المؤمنين ثم الكافرين ، وكصفة الجنة ثم صفة
النار ، وما أشبه هذا ، فهذا من المثاني ، كقوله تعالى : { إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي
نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [الانفطار : 14 ، 13] ، وكقوله {
كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ } [المطففين : 7] ، إلى أن قال : {
كَلا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ } [المطففين : 18] ، { هَذَا
ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ } [ص : 49] ، إلى أن قال : { هَذَا
وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ } [ص : 55] ، ونحو هذا من السياقات فهذا كله
من (2) المثاني ، أي : في معنيين اثنين ، وأما إذا كان السياق كله في معنى واحد
يشبه بعضه بعضا ، فهو المتشابه وليس هذا من المتشابه المذكور في قوله : { مِنْهُ
آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } [آل عمران :
7] ، ذاك معنى آخر.
وقوله : { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ
تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } أي هذه صفة الأبرار ،
عند سماع كلام الجبار ، المهيمن العزيز الغفار ، لما يفهمون منه من الوعد والوعيد.
والتخويف والتهديد ، تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف ، { ثُمَّ تَلِينُ
جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } لما يرجون ويُؤمِّلون من رحمته
(3) ولطفه ، فهم مخالفون لغيرهم من الكفار (4) من وجوه :
أحدها : أن سماع هؤلاء هو تلاوة الآيات ، وسماع أولئك نَغَمات لأبيات ، من أصوات
القَيْنات.
الثاني : أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ، بأدب وخشية ، ورجاء
ومحبة ، وفهم وعلم ، كما قال : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ
اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ
إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ
دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [الأنفال : 2 - 4]
وقال تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا
عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } [الفرقان : 73] أي : لم يكونوا عند سماعها
متشاغلين لاهين عنها ، بل مصغين إليها ، فاهمين بصيرين بمعانيها ؛ فلهذا إنما
يعملون بها ، ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم [أي يرون غيرهم قد
سجد فيسجدون تبعا له]. (5).
الثالث : أنهم يلزمون الأدب عند سماعها ، كما كان الصحابة ، رضي الله عنهم عند
سماعهم كلام الله من تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقشعر جلودهم ، ثم تلين
مع قلوبهم إلى ذكر الله. لم يكونوا يتصارخُون ولا يتكلّفون ما ليس فيهم ، بل عندهم
من الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك ؛ ولهذا فازوا بالقِدح
المُعَلّى في الدنيا والآخرة.
قال عبد الرزاق : حدثنا مَعْمَر قال : تلا قتادة ، رحمه الله : { تَقْشَعِرُّ
مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ
وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ }
__________
(1) في أ : "يردد".
(2) في أ : "في".
(3) في ت : "من رحمة الله".
(4) في ت ، س ، أ : "الفجار".
(5) زيادة من أ.
(7/94)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)
قال : هذا
نعت أولياء الله ، نعتهم الله بأن تقشعر جلودهم ، وتبكي أعينهم ، وتطمئن قلوبهم
إلى ذكر الله ، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم ، إنما هذا في أهل البدع ،
وهذا من الشيطان.
وقال السُّدِّي : { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ
} أي : إلى وعد الله. وقوله : { ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ
مِنْ عِبَادِهِ } أي : هذه صفة من هداه الله ، ومن كان على خلاف ذلك فهو ممن أضله
الله ، { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [الرعد : 33].
{ أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ
لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ
اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) }.
يقول تعالى : { أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ } ، ويُقْرَعُ فيقال له ولأمثاله من الظالمين : { ذُوقُوا مَا
كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ } ، كمن يأتي آمنا يوم القيامة ؟! كما قال تعالى : { أَفَمَنْ
يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ } [الملك : 22] ، وقال : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى
وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ } [القمر : 48] ، وقال [تعالى] (1) { أَفَمَنْ
يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ }
[فصلت : 40] ، واكتفى في هذه الآية بأحد القسمين عن الآخر ، كقول الشاعر (2).
فَمَا أدْري إذَا يَمَّمْتُ أرْضًا... أريدُ الخيرَ : أيّهما يَليني?...
يعني : الخير أو الشر.
وقوله : { كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ
لا يَشْعُرُونَ } يعني : القرون الماضية المكذبة للرسل ، أهلكهم الله بذنوبهم ،
وما كان لهم من الله من واق.
وقوله : { فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : بما
أنزل بهم من العذاب والنكال وتشفي (3) المؤمنين بهم ، فليحذر المخاطبون من ذلك ،
فإنهم قد كذبوا أشرف الرسل ، وخاتم الأنبياء ، والذي أعده الله لهم في الآخرة من
العذاب الشديد أعظمُ مما أصابهم في الدنيا ؛ ولهذا قال : { وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ
أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }.
__________
(1) زيادة من ت.
(2) البيت في تفسير الطبري (22/98).
(3) في س ، أ : "يشفي".
(7/95)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
{ وَلَقَدْ
ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ
وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) }.
يقول تعالى : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ
مَثَلٍ } أي : بينا للناس فيه بضرب الأمثال ، { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } ،
فإن المثل يُقَرّب المعنى إلى الأذهان ، كما قال تعالى : { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا
مِنْ أَنْفُسِكُمْ } [الروم : 28] أي : تعلمونه من أنفسكم ، وقال : { وَتِلْكَ
الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ }
[العنكبوت : 43].
وقوله : { قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } أي : هو قرآن بلسان عربي
مبين ، لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا لبس ، بل هو بيان ووضوح وبرهان ، وإنما جعله
الله [عز وجل] (1) كذلك ، وأنزله بذلك { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي : يحذرون ما
فيه من الوعيد ، ويعملون بما (2) فيه من الوعد (3).
ثم قال : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ } أي :
يتنازعون في ذلك العبد المشترك بينهم ، { وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ } أي : خالصا
لرجل ، لا يملكه أحد غيره ، { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا } أي : لا يستوي هذا
وهذا. كذلك لا يستوي المشرك الذي يعبد آلهة مع الله ، والمؤمن المخلص الذي لا يعبد
إلا الله وحده لا شريك له. فأين هذا من هذا ؟
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وغير واحد : هذه الآية ضربت مثلا للمشرك والمخلص ، ولما
كان هذا المثلُ ظاهرا بَيِّنا جليا ، قال : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } أي : على إقامة
الحجة عليهم ، { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } أي : فلهذا يشركون بالله.
وقوله : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } هذه الآية من الآيات التي
استشهد بها الصديق [رضي الله عنه] (4) عند موت الرسول (5) صلى الله عليه وسلم ،
حتى تحقق الناس موته ، مع قوله : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ
وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي
اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } [آل عمران : 144].
ومعنى هذه الآية : ستنقلون من هذه الدار لا محالة وستجتمعون عند الله في الدار
الآخرة ، وتختصمون فيما أنتم فيه في الدنيا من التوحيد والشرك بين يدي الله عز وجل
، فيفصل بينكم ، ويفتح بالحق وهو الفتاح العليم ، فينجي المؤمنين المخلصين
الموحدين ، ويعذب الكافرين الجاحدين المشركين المكذبين.
ثم إن هذه الآية - وإن كان سياقها في المؤمنين والكافرين ، وذِكْر الخصومة بينهم
في الدار الآخرة - فإنها شاملة لكل متنازعين في الدنيا ، فإنه تعاد عليهم الخصومة
في الدار الآخرة.
قال (6) ابن أبي حاتم ، رحمه الله : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ،
حدثنا سفيان ، عن محمد بن عمرو ، عن ابن حاطب - يعني يحيى بن عبد الرحمن - عن ابن
الزبير ، عن الزبير قال : لما نزلت : { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } قال الزبير : يا رسول الله ، أتكرر علينا
الخصومة ؟ قال : "نعم". قال : إن الأمر إذًا لشديد.
وكذا رواه الإمام أحمد عن سفيان ، وعنده زيادة : ولما نزلت : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ
يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ }
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت ، أ : "لما".
(3) في ت ، أ : "الوعيد".
(4) زيادة من ت.
(5) في ت : "رسول الله".
(6) في ت : "روى".
(7/96)
[التكاثر :
8] قال الزبير : أي رسول الله ، أي نعيم نسأل عنه ؟ وإنما - يعني : هما (1)
الأسودان : التمر والماء - قال : "أما إن ذلك سيكون".
وقد روى هذه الزيادة الترمذي وابن ماجه ، من حديث سفيان ، به (2). وقال الترمذي :
حسن.
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا ابن نمير حدثنا محمد - يعني ابن عمرو - عن يحيى بن
عبد الرحمن بن حاطب ، عن عبد الله بن الزبير ، عن الزبير بن العوام (3) قال : لما
نزلت هذه السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّكَ مَيِّتٌ
وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ
تَخْتَصِمُونَ } قال الزبير : أي رسول الله ، أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا
مع خواص الذنوب ؟ قال : "نعم ليكررن عليكم ، حتى يُؤدَّى إلى كل ذي حق
حقه". قال الزبير : والله إن الأمر لشديد.
ورواه الترمذي من حديث محمد بن عمرو به (4) وقال : حسن صحيح.
وقال (5) الإمام أحمد : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن أبي عُشَّانة
، عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أول الخصمين
يوم القيامة جاران". تفرد به أحمد (6).
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج عن أبي
الهيثم (7) ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والذي
نفسي بيده ، إنه ليختصم (8) ، حتى الشاتان فيما انتطحتا" تفرد به أحمد (9).
وفي المسند عن أبي ذر ، رضي الله عنه [أنه] (10) قال : رأى رسول الله صلى الله
عليه وسلم شاتين ينتطحان ، فقال : "أتدري فيم ينتطحان يا أبا ذر ؟" قلت
: لا. قال : "لكن الله يدري وسيحكم بينهما" (11).
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا سهل بن بحر ، حدثنا حيان بن أغلب ، حدثنا أبي
، حدثنا ثابت عن أنس (12) [رضي الله عنه] (13) ، قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "يجاء بالإمام الخائن (14) يوم القيامة ، فتخاصمه الرعية فيفلجون
عليه ، فيقال له : سد ركنا من أركان جهنم".
ثم قال : الأغلب بن تميم ليس بالحافظ (15).
__________
(1) في أ : "بهما".
(2) المسند (1/164) وسنن الترمذي برقم (3356) وسنن ابن ماجه برقم (4159).
(3) في م : "العوام رضي الله عنه".
(4) المسند (1/167) وسنن الترمذي برقم (3236).
(5) في ت : "وروى".
(6) المسند (4/151) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (17/303) من طريق ابن وهب عن
عمرو بن الحارث عن أبي عشانة به.
(7) في ت : "وروى أيضا".
(8) في أ : "يختصم".
(9) المسند (3/29) ودراج أبو السمح عن أبي الهيثم ضعيف.
(10) زيادة من ت.
(11) المسند (5/162).
(12) في ت : "وروى الحافظ أبو بكر البزار بسنده عن أنس".
(13) زيادة من أ.
(14) في أ : "الجائر".
(15) مسند البزار برقم (1644) "كشف الأستار" ولفظه : "يجاء بالإمام
الجائر يوم القيامة فيخاصمه الرعية ، فيفلحوا عليه" ثم ذكر بقية الحديث كما
هو هنا.
(7/97)
وقال علي بن
أبي طلحة ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما (1) { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } يقول : يخاصم الصادق الكاذب ،
والمظلوم الظالم ، والمهدي الضال ، والضعيف المستكبر. (2).
وقد روى ابن منده في كتاب "الروح" ، عن ابن عباس أنه قال : يختصم الناس
يوم القيامة ، حتى تختصم الروح مع الجسد ، فتقول الروح للجسد : أنت فعلت. ويقول
الجسد للروح : أنت أمرت ، وأنت سولت. فيبعث الله ملكا يفصل بينهما ، فيقول [لهما]
(3) إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير والآخر ضرير ، دخلا بستانا ، فقال المقعد للضرير
: إني أرى هاهنا ثمارا ، ولكن لا أصل إليها. فقال له الضرير : اركبني فتناولها ،
فركبه فتناولها ، فأيهما المعتدي ؟ فيقولان : كلاهما. فيقول لهما الملك. فإنكما قد
حكمتما على أنفسكما. يعني : أن الجسد للروح كالمطية ، وهو راكبه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن أحمد بن عَوْسَجة ، حدثنا ضرار ، حدثنا أبو
سلمة الخزاعي منصور بن سلمة ، حدثنا القمي - يعني يعقوب بن عبد الله - عن جعفر بن
المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر (4) [رضي الله عنهما] (5) قال : نزلت هذه
الآية ، وما نعلم في أي شيء نزلت : { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ
رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } [قال] (6) قلنا : من نخاصم ؟ ليس بيننا وبين أهل الكتاب
خصومة ، فمن نخاصم ؟ حتى وقعت الفتنة فقال ابن عمر : هذا الذي وعدنا ربنا - عز وجل
- نختصم فيه.
ورواه النسائي عن محمد بن عامر ، عن منصور بن سلمة ، به (7).
وقال أبو العالية [في قوله] (8) { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ
رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } قال : يعني أهل القبلة.
وقال ابن زيد : يعني أهل الإسلام وأهل الكفر.
وقد قدمنا أن الصحيح العموم ، والله أعلم.
__________
(1) في ت : "عنه".
(2) في أ : "المتكبر".
(3) زيادة من أ.
(4) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بسنده إلى ابن عمر".
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من أ.
(7) النسائي في السنن الكبرى برقم (11447).
(8) زيادة من ت ، أ.
(7/98)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)
{ فَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ
أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ
وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ
رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ
أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا
يَعْمَلُونَ (35) }.
يقول تعالى مخاطبا للمشركين الذين افتروا على الله ، وجعلوا معه آلهة أخرى ،
وادعوا أن الملائكة بنات الله ، وجعلوا لله ولدا - تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا
- ومع هذا كذبوا بالحق إذ جاءهم على ألسنة رسل الله ، صلوات الله [وسلامه] (1)
عليهم أجمعين ، ولهذا قال : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ
وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ } أي : لا أحد أظلم من هذا ؛ لأنه جمع بين
طرفي الباطل ،
__________
(1) زيادة من أ.
(7/98)
كذب على
الله ، وكَذَّب رسول الله ، قالوا الباطل وردوا الحق ؛ ولهذا قال متوعدا لهم : {
أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ } وهم الجاحدون المكذبون.
ثم قال : { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } قال مجاهد ، وقتادة ،
والربيع بن أنس ، وابن (1) زيد : { الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ } هو الرسول. وقال
السدي : هو جبريل عليه السلام ، { وَصَدَّقَ بِهِ } يعني : محمدا صلى الله عليه
وسلم.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ } قال : من
جاء بلا إله إلا الله ، { وَصَدَّقَ بِهِ } يعني : رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقرأ الربيع بن أنس : "الذين جاءوا (2) بالصدق" يعني : الأنبياء ،
"وصدقوا به" يعني : الأتباع.
وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد : { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ }
قال : أصحاب القرآن المؤمنون يجيئون يوم القيامة ، فيقولون : هذا ما أعطيتمونا ،
فعملنا فيه بما أمرتمونا.
وهذا القول عن مجاهد يشمل كل المؤمنين ، فإن المؤمن يقول الحق ويعمل به ، والرسول
صلى الله عليه وسلم أولى الناس بالدخول في هذه الآية على هذا التفسير ، فإنه جاء
بالصدق (3) ، وصدق المرسلين ، وآمن بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون ، كل آمن بالله
وملائكته وكتبه ورسله.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ } هو رسول الله
صلى الله عليه وسلم { وَصَدَّقَ بِهِ } المسلمون (4).
{ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } قال ابن عباس : اتقوا الشرك.
{ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ } يعني : في الجنة ، مهما طلبوا وجدوا ،
{ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي
عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } كما
قال في الآية الأخرى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا
عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ
الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } [الأحقاف : 16].
__________
(1) في أ : "وأبو".
(2) في أ : "والذي جاء".
(3) في أ : "جاء بالحق".
(4) في ت ، س ، أ : "قال المسلمون".
(7/99)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)
{ أَلَيْسَ
اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ
مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ
هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ
رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ
مُقِيمٌ (40) }.
يقول تعالى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } - وقرأ بعضهم :
"عباده" - يعني أنه تعالى يكفي من عبده وتوكل عليه.
وقال (1) ابن أبي حاتم هاهنا : حدثنا أبو عبيد الله (2) ابن أخي ابن ، وهب حدثنا
عمي ، حدثنا أبو هانئ ، عن أبي علي عمرو بن مالك الجنبي (3) ، عن فضالة بن عبيد
الأنصاري ؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "أفلح من هدي إلى
الإسلام ، وكان عيشه كفافا ، وقَنَعَ به".
ورواه الترمذي والنسائي من حديث حيوة بن شريح ، عن أبي هانئ الخولاني ، به (4).
وقال الترمذي : صحيح.
{ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } يعني : المشركين يخوفون الرسول
ويتوعدونه بأصنامهم وآلهتهم التي يدعونها (5) من دونه ؛ جهلا منهم وضلالا ؛ ولهذا
قال تعالى : { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ
اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ } أي
: منيع الجناب لا يضام ، من استند إلى جنابه ولجأ إلى بابه ، فإنه العزيز الذي لا
أعز منه ، ولا أشد انتقاما منه ، ممن كفر به وأشرك وعاند رسوله صلى الله عليه
وسلم.
وقوله : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ
اللَّهُ } يعني : [أن] (6) المشركين كانوا يعترفون بأن الله هو الخالق للأشياء
كلها ، ومع هذا يعبدون معه غيره ، مما (7) لا يملك لهم ضرا ولا نفعا ؛ ولهذا قال :
{ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ
بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ
مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } أي : لا تستطيع شيئا من الأمر (8).
وذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديث قيس بن الحجاج ، عن حنش الصنعاني ، عن (9) ابن عباس
مرفوعا : "احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، تعرف إلى الله في الرخاء
يعرفك في الشدة ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن
الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يضروك ، ولو اجتمعوا
على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك ، جفت الصحف ، ورفعت الأقلام ،
واعمل لله بالشكر في اليقين ، واعلم أن الصبر على ما تكره خير كثير ، وأن النصر مع
الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا" (10).
{ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ } أي : الله كافيّ ، عليه توكلت وعليه يتوكل المتوكلون ،
كما قال هود ، عليه السلام ، حين قال له قومه : { إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ
بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي
بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا
تُنْظِرُونِي إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ
دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
} [هود : 54 - 56].
__________
(1) في ت : "وروى".
(2) في أ : "عبد الله".
(3) في أ : "الحسيني".
(4) ورواه الحاكم في المستدرك (4/122) والطبراني في المعجم الكبير (18/306) من
طريق عبد الله بن وهب عن أبي هانئ به.
(5) في أ : "يدعون بها".
(6) زيادة من ت ، أ.
(7) في ت ، س ، أ : "ممن".
(8) في ت : "الأمور".
(9) في ت : "حدثنا بسنده إلى".
(10) رواه أحمد في مسنده (1/293) والترمذي في السنن برقم (2516) من طريق الليث بن
سعد عن قيس بن الحجاج به ، قال الترمذي : "حديث حسن صحيح".
(7/100)
قال ابن أبي
حاتم : حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري ، حدثنا عبد الله بن بكر (1) السهمي ، حدثنا
محمد بن حاتم ، عن أبي المقدام - مولى آل عثمان - عن محمد بن كعب القرظي ، حدثنا
ابن عباس (2) [رضي الله عنهما] (3) - رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : "من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ، ومن أحب أن يكون أغنى
الناس فليكن بما في يد الله أوثق [منه] (4) بما في يديه ، ومن أحب أن يكون أكرم
الناس فليتق الله" (5).
وقوله : { قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ } أي : على طريقتكم ،
وهذا تهديد ووعيد.. { إِنِّي عَامِلٌ } أي : على طريقتي ومنهجي ، { فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ } أي : ستعلمون غب ذلك ووباله { مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ }
أي : في الدنيا ، { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ } أي : دائم مستمر ، لا
محيد له عنه. وذلك يوم القيامة.
__________
(1) في أ : "بكير".
(2) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بإسناده إلى ابن عباس".
(3) زيادة من ت.
(4) زيادة من ت ، س ، أ.
(5) ورواه أبو نعيم في الحلية (3/218) من طرق عن أبي المقدام به ، ورواه ابن عدي
في الكامل (5/241) من طريق شيبان عن عيسى ابن ميمون عن محمد بن كعب القرظي به.
(7/101)
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
{ إِنَّا
أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ
وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ
(41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي
مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى
إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) }.
يقول تعالى مخاطبا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم : { إِنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ
الْكِتَابَ } يعني : القرآن { لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ } أي : لجميع الخلق من الإنس
والجن لتنذرهم به ، { فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ } أي : فإنما يعود نفع ذلك إلى
نفسه ، { وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } أي : إنما يرجع وبال ذلك
على نفسه ، { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ } أي : بموكل أن يهتدوا ، {
إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [هود : 12] ، {
فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [الرعد : 40].
ثم قال تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة بأنه المتصرف في الوجود بما يشاء ، وأنه يتوفى
الأنفس الوفاة الكبرى ، بما يرسل من الحفظة الذين يقبضونها من الأبدان ، والوفاة
الصغرى عند المنام ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ
وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى
أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا
يُفَرِّطُونَ } [الأنعام : 61 ، 60] ، فذكر الوفاتين : الصغرى ثم الكبرى. وفي هذه
الآية ذكر الكبرى ثم الصغرى ؛ ولهذا قال : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ
مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى
عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } فيه دلالة على
أنها تجتمع في الملأ الأعلى ، كما ورد بذلك الحديث المرفوع الذي رواه ابن منده
وغيره. وفي صحيحي البخاري ومسلم من حديث عبيد الله (1) بن عمر ، عن سعيد بن أبي
سعيد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ،
__________
(1) في أ : "عبد الله".
(7/101)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلْينْفُضْه بداخلة
إزاره ، فإنه لا يدري ما خلفه عليه ، ثم ليقل : باسمك ربي وضعت جنبي ، وبك أرفعه ،
إن أمسكت نفسي فارحمها ، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين"
(1).
وقال بعض السلف [رحمهم الله] (2) يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا ، وأرواح الأحياء
إذا ناموا ، فتتعارف ما شاء الله تعالى أن تتعارف { فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى
عَلَيْهَا الْمَوْتَ } التي قد ماتت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى.
قال السدي : إلى بقية أجلها. وقال ابن عباس : يمسك أنفس الأموات ، ويرسل أنفس
الأحياء ، ولا يغلط. { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
{ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا
يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا
لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا
ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ
(45) }.
يقول تعالى ذاما للمشركين في اتخاذهم شفعاء من دون الله ، وهم الأصنام والأنداد ،
التي اتخذوها من تلقاء أنفسهم بلا دليل ولا برهان حداهم على ذلك ، وهي لا تملك
شيئا من الأمر ، بل وليس لها عقل تعقل به ، ولا سمع تسمع به ، ولا بصر تبصر به ،
بل هي جمادات أسوأ حالا من الحيوان بكثير (3).
ثم قال : قل : أي يا محمد لهؤلاء الزاعمين أن ما اتخذوه (4) شفعاء لهم عند الله ،
أخبرهم أن الشفاعة لا تنفع عند الله إلا لمن ارتضاه وأذن له ، فمرجعها كلها إليه ،
{ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } [البقرة : 255].
{ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } أي : هو المتصرف في جميع ذلك. { ثُمَّ
إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي : يوم القيامة ، فيحكم بينكم بعدله ، ويجزي كلا بعمله.
ثم قال تعالى ذاما للمشركين أيضا : { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ } أي : إذا
قيل : لا إله إلا الله { اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالآخِرَةِ } قال مجاهد : { اشْمَأَزَّتْ } انقبضت.
وقال السدي : نفرت. وقال قتادة : كفرت واستكبرت. وقال مالك ، عن زيد بن أسلم :
استكبرت. كما قال تعالى : { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا
اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } [الصافات : 35] ، أي : عن المتابعة والانقياد لها.
فقلوبهم (5) لا تقبل الخير ، ومن لم يقبل الخير يقبل الشر ؛ ولهذا قال : { وَإِذَا
ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } أي : من الأصنام والأنداد ، قاله مجاهد ، { إِذَا
هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } أي : يفرحون ويسرون.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6320) وصحيح مسلم برقم (2714).
(2) زيادة من ت.
(3) في س : "بكبير".
(4) في ت : "ما اتخذوا".
(5) في ت : "بقلوبهم".
(7/102)
قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47)
{ قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) }
(7/103)
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)
{ وَبَدَا
لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
(48) }.
يقول تعالى بعد ما ذكر عن المشركين ما ذكر من المذمة ، لهم في حبهم الشرك ،
ونفرتهم عن التوحيد { قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ عَالِمَ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } أي : ادع أنت الله وحده لا شريك له ، الذي خلق السموات
والأرض وفطرها ، أي : جعلها على غير مثال سبق ، { عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ } أي : السر والعلانية ، { أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا
كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : في دنياهم (1) ، ستفصل بينهم يوم معادهم
ونشورهم ، وقيامهم من قبورهم.
وقال (2) مسلم في صحيحه : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا عمر بن يونس ، حدثنا عكرمة بن
عمار ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، حدثني أبو سلمة (3) بن عبد الرحمن قال : سألت
عائشة [رضي الله عنها] (4) بأي شيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته
إذا قام من الليل ؟ قالت : كان إذا قام من الليل افتتح صلاته : "اللهم رب
جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم
بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي
من تشاء إلى صراط مستقيم" (5) وقال (6) الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا
حماد بن سلمة ، وأخبرنا سهيل بن أبي صالح وعبد الله بن عثمان بن خُثَيم ، عن عون
بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عبد الله بن مسعود (7) أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : "من قال : اللهم فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة
، إني أعهد إليك في هذه الدنيا (8) أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ،
وأن محمدا عبدك ورسولك ، فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير
، وإني لا أثق إلا برحمتك ، فاجعل لي عندك عهدا تُوَفِّينيه يوم القيامة ، إنك لا
تخلف الميعاد ، إلا قال الله ، عز وجل ، لملائكته يوم القيامة : إن عبدي قد عهد
إلي عهدا فأوفوه إياه ، فيدخله الله الجنة".
قال سهيل : فأخبرت القاسم بن عبد الرحمن أن عونا أخبر بكذا وكذا ؟ فقال : ما في
أهلنا جارية إلا وهي تقول هذا في خدرها. انفرد به الإمام أحمد (9).
وقال (10) الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثني حُييّ (11) بن عبد
الله ؛ أن
__________
(1) في أ : "دينا لهم".
(2) في ت : "روى".
(3) في ت : "عن أبي سلمة".
(4) زيادة من ت.
(5) صحيح مسلم برقم (770).
(6) في ت : "وروى".
(7) في ت ، أ : "مسعود رضي الله عنه".
(8) في أ : "في الحياة الدنيا".
(9) المسند (1/412) قال الهيثمي في المجمع (10/174) : "رجاله رجال
الصحيح".
(10) في ت : "وروى".
(11) في ت : "يحيى".
(7/103)
أبا عبد
الرحمن حدثه قال : أخرج لنا عبد الله بن عمرو قرطاسا وقال : كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يعلمنا يقول : "اللهم فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب
والشهادة ، أنت رب كل شيء ، وإله كل شيء ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، وحدك لا شريك
لك ، وأن محمدا عبدك ورسولك ، والملائكة يشهدون ، أعوذ بك من الشيطان وشركه ،
وأعوذ بك أن أقترف على نفسي إثما ، أو أجره إلى (1) مسلم".
قال أبو عبد الرحمن : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه (2) عبد الله بن
عمرو أن يقول ذلك حين يريد أن ينام. تفرد به أحمد أيضا (3).
وقال (4) [الإمام] (5) أحمد أيضا : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا ابن عياش (6) ، عن
محمد بن زياد الألهاني ، عن أبي راشد الحُبْرَاني قال : أتيت عبد الله بن عمرو
فقلت له : حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فألقى بين يَدَي صحيفة
فقال : هذا ما كتب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنظرت فيها فإذا فيها أن أبا
بكر الصديق (7) قال : يا رسول الله ، علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت. فقال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أبا بكر ، قل اللهم فاطر السموات والأرض
، عالم الغيب والشهادة ، لا إله إلا أنت ، رب كل شي ومليكه ، أعوذ بك من شر نفسي ،
وشر الشيطان وشركه ، أو (8) أقترف على نفسي سوءا ، أو أجره إلى مسلم".
ورواه الترمذي ، عن الحسن بن عرفة ، عن إسماعيل بن عياش (9) ، به (10) ، وقال :
حسن غريب من هذا الوجه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا هاشم ، حدثنا شيبان ، عن ليث ، عن مجاهد قال : قال أبو
بكر الصديق : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت ،
وإذا أخذت مضجعي من الليل : "اللهم فاطر السموات والأرض" إلى آخره (11).
وقوله : { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا } وهم المشركون ، { مَا فِي الأرْضِ
جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ } أي : ولو أن جميع ملك الأرض وضعفه معه { لافْتَدَوْا
بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ } أي : الذي أوجبه الله لهم يوم القيامة ، ومع هذا لا
يُتقبل منهم الفداء ولو كان ملء الأرض ذهبا ، كما قال في الآية الأخرى : { وَبَدَا
لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } أي : وظهر لهم من الله من
العذاب والنكال بهم ما لم يكن في بالهم ولا في حسابهم ، .
{ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا } أي : وظهر لهم جزاء ما اكتسبوا في
الدار الدنيا من المحارم والمآثم ، { وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
} أي : وأحاط بهم من العذاب والنكال ما كانوا يستهزئون به في الدار الدنيا.
__________
(1) في أ : "على".
(2) في ت ، س : "يعلم".
(3) المسند (2/171).
(4) في ت : "وروى".
(5) زيادة من أ.
(6) في ت : "عباس".
(7) في ت : "الصديق رضي الله عنه".
(8) في ت ، أ : "أن".
(9) في أ : "عباس".
(10) المسند (2/196) وسنن الترمذي برقم (3529).
(11) المسند (1/14).
(7/104)
فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
{ فَإِذَا
مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ
إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا
يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ
مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ
بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ
يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) }.
يقول تعالى مخبرا عن (1) الإنسان أنه في حال الضراء يَضْرَع إلى الله ، عز وجل ، وينيب
إليه ويدعوه ، وإذا (2) خوله منه نعمة بغى وطغى ، وقال : { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ
عَلَى عِلْمٍ } أي : لما يعلم الله من استحقاقي له ، ولولا أني عند الله تعالى
خصيص لما خَوَّلني هذا!
قال قتادة : { عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } على خيرٍ عندي.
قال الله عز وجل : { بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ } أي : ليس الأمر كما زعموا ، بل [إنما]
(3) أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه ، أيطيع أم يعصي ؟ مع علمنا
المتقدم بذلك ، فهي فتنة أي : اختبار ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ }
فلهذا يقولون ما يقولون ، ويدعون ما يدعون.
{ قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي : قد قال هذه المقالة وزعم هذا
الزعم وادعى هذه الدعوى ، كثير ممن سلف من الأمم { فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : فما صح قولهم ولا منعهم جمعهم وما كانوا يكسبون.
{ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ } أي
: من المخاطبين (4) { سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا } أي : كما أصاب
أولئك ، { وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ } كما قال تعالى مخبرا عن قارون أنه قال له
قومه : { لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا
آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا
وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ
إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ
عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ
الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ
عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ } [القصص : 76 - 78] ، وقال تعالى : { وَقَالُوا
نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [سبأ : 35].
وقوله : { أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ
وَيَقْدِرُ } أي : يوسعه على قوم ويضيقه على آخرين ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي : لعبرا وحججا.
__________
(1) في ت : "عن حال".
(2) في ت : "فإذا".
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) في ت : "المخلطين".
(7/105)
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)
{ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) }
(7/106)
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)
{ أَوْ
تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ
تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا
وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) }.
هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة ،
وإخبار بأن الله يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها ورجع عنها ، وإن كانت مهما كانت
وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر. ولا يصح حمل هذه [الآية] (1) على غير توبة (2) ؛
لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه.
وقال البخاري : حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا هشام بن يوسف ؛ أن ابن جريج أخبرهم
: قال يعلى : إن سعيد بن جبير أخبره عن ابن عباس (3) [رضي الله عنهما] (4) ؛ أن
ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا. فأتوا محمدا صلى الله
عليه وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة.
فنزل : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ } [الفرقان :
68] ، ونزل [قوله] (5) : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ }.
وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي ، من حديث ابن جريج ، عن يعلى بن مسلم المكي ،
عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، به (6).
والمراد من الآية الأولى قوله : { إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا }
الآية. [الفرقان : 70].
وقال (7) الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا أبو قبيل قال : سمعت
أبا عبد الرحمن المري (8) يقول : سمعت (9) ثوبان - مولى رسول الله صلى الله عليه
وسلم - يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ما أحب أن لي
الدنيا وما فيها بهذه الآية : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ } إلى آخر الآية ، فقال رجل : يا رسول الله ، فمن أشرك ؟ فسكت النبي
(10) صلى الله عليه وسلم ثم قال : "ألا ومن أشرك" ثلاث مرات. تفرد به
الإمام أحمد (11).
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا سريج (12) بن النعمان ، حدثنا روح بن قيس ، عن أشعث
بن جابر الحداني ، عن مكحول ، عن (13) عمرو بن عَبَسة (14) قال : جاء رجل إلى
النبي صلى الله عليه وسلم ، شيخ كبير يدعم على عصا له ، فقال : يا رسول الله إن لي
غدرات وفجرات ، فهل يغفر لي ؟ فقال : "ألست تشهد أن لا إله إلا الله ؟"
قال : بلى ، وأشهد أنك رسول الله. فقال : "قد غفر لك غدراتك وفجراتك".
تفرد به أحمد (15).
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت : "التوبة".
(3) في ت : "روى البخاري بسنده عن ابن عباس".
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من ت ، س.
(6) صحيح البخاري برقم (4810) وصحيح مسلم برقم (122) وسنن أبي داود برقم (7274)
وسنن النسائي (7/86).
(7) في ت : "وروى".
(8) في أ : "السري".
(9) في ت : "سمعت عن".
(10) في ت : "رسول الله".
(11) المسند (5/275).
(12) في أ : "شريح".
(13) في ت : "وعن".
(14) في ت ، ا : "عنبسة".
(15) المسند (4/385).
(7/106)
وقال الإمام
أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن شهر بن حوشب (1)
، عن أسماء بنت يزيد (2) قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : {
إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [هود : 46] وسمعته يقول : " { يَا عِبَادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } ولا يبالي { إِنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }
ورواه أبو داود والترمذي ، من حديث ثابت ، به (3).
فهذه الأحاديث كلها دالة على أن المراد : أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة ، ولا يقنطن
(4) عبد من رحمة الله ، وإن عظمت ذنوبه وكثرت ؛ فإن باب التوبة والرحمة واسع ، قال
الله تعالى : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ
عِبَادِهِ } [التوبة : 104] ، وقال تعالى : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ
نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } [النساء
: 110] ، وقال تعالى في حق المنافقين : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ
الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلا الَّذِينَ تَابُوا }
[النساء : 146 ، 145] ، وقال { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ
ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا
عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
[المائدة : 73] ، ثم قال { أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [المائدة : 74] ، وقال { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا } [البروج : 10].
قال الحسن البصري : انظر (5) إلى هذا الكرم والجود ، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى
التوبة والمغفرة!.
والآيات في هذا كثيرة جدا.
وفي الصحيحين عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حديث الذي (6) قتل
تسعا (7) وتسعين نفسا ، ثم ندم وسأل عابدا من عُبَّاد بني إسرائيل : هل له من توبة
؟ فقال : لا. فقتله وأكمل (8) به مائة. ثم سأل عالما من علمائهم : هل له من توبة ؟
فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ثم أمره بالذهاب إلى قرية يعبد الله فيها ،
فقصدها فأتاه الموت في أثناء الطريق ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ،
فأمر الله أن يقيسوا ما بين الأرضين ، فإلى أيهما كان أقرب فهو منها. فوجدوه أقرب
إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر ، فقبضته ملائكة الرحمة. وذكر أنه نأى بصدره عند
الموت ، وأن الله أمر البلدة الخيرة أن تقترب ، وأمر تلك البلدة أن تتباعد (9)
(10) هذا معنى الحديث ، وقد كتبناه في موضع آخر بلفظه.
__________
(1) في ت : "وروى أيضا".
(2) في أ : "يزيد رضي الله عنها".
(3) المسند (6/454) وسنن أبي داود برقم (3982) وسنن الترمذي برقم (3237).
(4) في ت : "ولا يقنط".
(5) في ت : "انظروا".
(6) في ت : "أن رجلا".
(7) في أ : "تسعة".
(8) في ت : "فأكمل".
(9) في أ : "تبتعد".
(10) رواه البخاري في صحيحه برقم (3470) ومسلم برقم (2766).
(7/107)
وقال علي بن
أبي طلحة ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما (1) [في] (2) قوله : { قُلْ يَا
عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } إلى آخر الآية ، قال : قد
دعا الله إلى مغفرته من زعم أن المسيح هو الله ، ومن زعم أن المسيح هو ابن الله ،
ومن زعم أن عزيرا (3) ابن الله ، ومن زعم أن الله فقير ، ومن زعم أن يد الله
مغلولة ، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة ، يقول الله تعالى لهؤلاء : { أَفَلا يَتُوبُونَ
إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [المائدة : 74] ثم
دعا إلى توبته من هو أعظم قولا من هؤلاء ، من قال : { أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى }
[النازعات : 24] ، وقال { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } [القصص :
38]. قال ابن عباس [رضي الله عنهما] (4) من آيس عباد الله (5) من التوبة بعد هذا
فقد جحد كتاب الله ، ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه.
وروى الطبراني من طريق الشعبي ، عن شُتَير بن شَكَل أنه قال : سمعت ابن مسعود يقول
إن أعظم آية في كتاب الله : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }
[البقرة : 255] ، وإن أجمع آية في القرآن بخير وشر : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ } [النحل : 90] ، وإن أكثر آية في القرآن فرجا في سورة
الغرف : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } ، وإن أشد آية في كتاب الله تصريفا (6) {
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا
يَحْتَسِبُ } [الطلاق : 3 ، 2]. فقال له مسروق : صدقت.
وقال الأعمش ، عن أبي سعيد ، عن أبي الكنود قال : مر عبد الله - يعني ابن مسعود -
على قاص ، وهو يذكر الناس ، فقال : يا مذكر لم تُقَنِّط (7) الناس ؟ ثم قرأ : {
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ
رَحْمَةِ اللَّهِ } رواه ابن أبي حاتم.
ذكر أحاديث فيها نفي القنوط :
قال (8) الإمام أحمد : حدثنا سريج بن النعمان ، حدثنا أبو عبيدة عبد المؤمن بن
عبيد الله (9) ، حدثني أخشن السدوسي قال : دخلت على أنس بن مالك (10) فقال (11)
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "والذي نفسي بيده ، لو أخطأتم حتى
تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض ، ثم استغفرتم الله لغفر لكم ، والذي نفس محمد
بيده ، لو لم تخطئوا (12) لجاء الله بقوم يخطئون ، ثم يستغفرون الله فيغفر
لهم" تفرد به [الإمام] (13) أحمد (14). وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن
عيسى (15) حدثني ليث حدثني محمد بن قيس - قاص عمر بن عبد العزيز - عن أبي صِرْمة ،
عن أبي أيوب الأنصاري ، رضي الله عنه ، أنه قال حين حضرته الوفاة : قد كنت كتمت
منكم شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لولا أنكم تذنبون ،
لخلق الله
__________
(1) في س : "عنه".
(2) زيادة من أ.
(3) في ت : العزير."
(4) زيادة من ت.
(5) في أ : "العباد".
(6) في ت ، س : "تفويضا".
(7) في س : "يقنط".
(8) في ت : "روى".
(9) في أ : "عبيد الله السدوسي".
(10) في ت : "عن ابن مالك" وفي أ : "أنس بن مالك رضي الله
عنه".
(11) في ت : "قال".
(12) في ت : "تخطئون".
(13) زيادة من أ.
(14) المسند (3/238).
(15) في أ : "إسحاق بن أبي عيسى".
(7/108)
قوما يذنبون
فيغفر لهم".
هكذا (1) رواه الإمام أحمد ، وأخرجه مسلم في صحيحه ، والترمذي جميعا ، عن قتيبة ،
عن الليث بن سعد به (2). ورواه مسلم من وجه آخر به ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن
أبي صرمة - وهو الأنصاري صحابي - عن أبي أيوب به (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أحمد بن عبد الملك الحراني ، حدثنا يحيى بن عمرو بن مالك
النُّكري قال : سمعت أبي يحدث عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس (4) قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "كفارة الذنب (5) الندامة" ، وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون ، فيغفر لهم"
تفرد به أحمد (6).
وقال عبد الله ابن الإمام أحمد : حدثني عبد الأعلى بن حماد النَّرسِي ، حدثنا داود
بن عبد الرحمن ، حدثنا أبو عبد الله مسلمة الرازي ، عن أبي عمرو البجلي ، عن عبد
الملك بن سفيان الثقفي ، عن أبي جعفر محمد بن علي ، عن محمد بن الحنفية ، عن أبيه
، علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إن الله يحب العبد المفتن التواب". لم يخرجوه من هذا الوجه (7).
وقال (8) ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، أخبرنا
ثابت وحميد ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال : إن إبليس - عليه لعائن الله - قال
: يا رب ، إنك أخرجتني من الجنة من أجل آدم ، وإني لا أستطيعه إلا بسلطانك. قال :
فأنت مسلط. قال : يا رب ، زدني. قال : لا يولد له ولد إلا ولد لك مثله. قال : يا
رب ، زدني. قال : أجعل صدورهم مساكن لكم ، وتجرون منهم مجرى الدم. قال : يا رب ،
زدني. قال : أجلب عليهم بخيلك ورجلك ، وشاركهم في الأموال والأولاد ، وعدهم وما
يعدهم الشيطان إلا غرورا. فقال آدم [عليه السلام] (9) يا رب ، قد سلطته علي ، وإني
لا أمتنع [منه] (10) إلا بك. قال : لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظه من قرناء
السوء. قال : يا رب ، زدني. قال : الحسنة عشر أو أزيد ، والسيئة واحدة أو أمحوها.
قال : يا رب ، زدني. قال : باب التوبة مفتوح ما كان الروح في الجسد. قال : يا رب ،
زدني. قال : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }.
وقال محمد بن إسحاق : قال نافع : عن عبد الله بن عمير ، عن عمر ، رضي الله عنه ،
في حديثه قال : وكنا نقول ما الله بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا ولا توبة ، عرفوا
الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم. قال : وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم. قال :
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، أنزل الله فيهم وفي قولنا وقولهم
لأنفسهم : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا
أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ
بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ }
__________
(1) في س : "كذا".
(2) المسند (5/414) وصحيح مسلم برقم (2748) وسنن الترمذي برقم (3539).
(3) صحيح مسلم برقم (2748).
(4) في أ : "ابن عباس رضي الله عنهما".
(5) في أ : "الذنوب".
(6) المسند (1/289).
(7) زوائد عبد الله على المسند (1/80).
(8) في ت : "وروى".
(9) زيادة من ت ، س ، أ.
(10) زيادة من ت ، س ، أ.
(7/109)
.
قال عمر ، رضي الله عنه : فكتبتها بيدي في صحيفة ، وبعثت بها إلى هشام بن العاص
قال : فقال هشام : لما أتتني جعلت أقرؤها بذي طُوًى أصَعَّد بها فيه وأصوت ولا
أفهمها ، حتى قلت : اللهم أفهمنيها. قال : فألقى الله في قلبي أنها إنما أنزلت
فينا ، وفيما كنا نقول في أنفسنا ، ويقال فينا. فرجعت إلى بعيري فجلست عليه ،
فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة.
ثم استحث [سبحانه] (1) وتعالى عباده إلى المسارعة إلى التوبة ، فقال : {
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ } أي : ارجعوا إلى الله واستسلموا
له ، { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ } أي : بادروا
بالتوبة والعمل الصالح قبل حلول النقمة ، .
{ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } وهو القرآن
العظيم ، { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا
تَشْعُرُونَ } أي : من حيث لا تعلمون ولا تشعرون.
ثم قال : { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ
اللَّهِ } أي : يوم القيامة يتحسر المجرم المفرط في التوبة والإنابة ، ويود لو كان
من المحسنين المخلصين المطيعين لله عز وجل.
وقوله : { وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ } أي : إنما كان عملي في الدنيا عمل
ساخر مستهزئ غير موقن مصدق.
{ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ
تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ } أي : تود أن لو (2) أعيدت إلى الدار فتحسن (3) العمل.
قال علي بن أبي طلحة : عن ابن عباس : أخبر الله سبحانه (4) ، ما العباد قائلون قبل
أن يقولوه ، وعملهم قبل أن يعملوه (5) ، وقال : { وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ
} [فاطر : 14] ، ، { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي
جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ
اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى
الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } فأخبر الله
تعالى : أن لو رُدوا لما قدروا على الهدى ، وقال تعالى : { وَلَوْ رُدُّوا
لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [الأنعام : 28].
وقد قال (6) الإمام أحمد : حدثنا أسود ، حدثنا أبو بكر ، عن الأعمش ، عن أبي صالح
، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كل
أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول : لو أن الله هداني ؟! فتكون عليه حسرة".
قال : "وكل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول : لولا أن الله هداني!"
قال : "فيكون له الشكر".
ورواه النسائي من حديث أبي بكر بن عياش ، به (7).
__________
(1) زيادة من ت ، وفي أ : "الله".
(2) في ت : "أن لو أن".
(3) في أ : "لتحسن".
(4) في أ : "أخبرنا الله تعالى".
(5) في ت ، س : "وعلمهم قبل أن يعلموه".
(6) في ت : "روى".
(7) المسند (2/512).
(7/110)
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
ولما تمنى
أهل الجرائم العَودَ إلى الدنيا ، وتحسروا على تصديق آيات الله واتباع رسله ، قال
[الله سبحانه وتعالى] (1) { بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا
وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } (2) أي : قد جاءتك أيها العبد
النادم على ما كان منه (3) آياتي في الدار الدنيا ، وقامت حججي عليك ، فكذبت بها
واستكبرت عن اتباعها ، وكنت من الكافرين بها ، الجاحدين لها.
{ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ
مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي
اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ (61) }.
يخبر تعالى عن يوم القيامة أنه تسود فيه وجوه ، وتبيض فيه وجوه ، تسود وجوه أهل
الفرقة والاختلاف ، وتبيض وجوه أهل السنة والجماعة ، قال تعالى هاهنا : { وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ } أي : في دعواهم له شريكا
وولدا { وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ } أي : بكذبهم وافترائهم.
وقوله : { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ } أي : أليست جهنم
كافية لها (4) سجنا وموئلا لهم فيها [دار] (5) الخزي والهوان ، بسبب تكبرهم
وتجبرهم وإبائهم عن الانقياد للحق.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب ، حدثنا عمي ، حدثنا عيسى
بن أبي عيسى الخياط ، عن عمرو بن شعيب (6) ، عن أبيه ، عن جده أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : "إن المتكبرين يحشرون يوم القيامة أشباه الذر في صور
الناس ، يعلوهم كل شيء من الصغار ، حتى يدخلوا سجنا من النار في واد يقال له بولس
، من نار الأنيار ، ويسقون عصارة أهل النار ، ومن طينة الخَبَال" (7).
وقوله : { وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ } أي : مما سبق
لهم من السعادة والفوز عند الله ، { لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ } أي : يوم القيامة ،
{ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } أي : ولا يحزنهم (8) الفزع الأكبر ، بل هم آمنون من كل
فَزَع ، مزحزحون عن كل شر ، مُؤمَلون كل خير.
{ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ
مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ
أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي
أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ
مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
}.
يخبر تعالى أنه خالق (9) الأشياء كلها ، وربها ومليكها والمتصرف فيها ، وكل تحت
تدبيره وقهره وكلاءته.
__________
(1) زيادة من ت ، س ، أ.
(2) في ت : "قل" وهو خطأ.
(3) في أ : "منه جاءتك".
(4) في ت ، س : "لهم".
(5) زيادة من ت ، س.
(6) في ت : "روى ابن أبي حاتم بإسناده عن عمرو بن شعيب"
(7) ورواه أحمد في مسنده (2/178) والترمذي في السنن برقم (2492) من طريق محمد بن
عجلان عن عمرو بن شعيب بنحوه ، قال الترمذي : "هذا حديث حسن صحيح".
(8) في ت : "أي لا يجزيهم".
(9) في ت : "خلق".
(7/111)
وقوله : {
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } ، قال مجاهد : المقاليد هي : المفاتيح
بالفارسية. وكذا قال قتادة ، وابن زيد ، وسفيان ابن عيينة.
وقال السدي : { لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } أي : خزائن السموات
والأرض.
والمعنى على كلا القولين : أن أزمَّة الأمور بيده ، له الملك وله الحمد ، وهو على
كل شيء قدير ؛ ولهذا قال : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ } أي : حججه
وبراهينه { أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثًا غريبا جدًا - وفي صحته نظر - ولكن (1) نذكره
كما ذكره ، فإنه قال :
حدثنا يزيد (2) بن سِنان البصري بمصر ، حدثنا يحيى بن حماد ، حدثنا الأغلب بن تميم
، عن مخلد بن هذيل العبدي ، عن عبد الرحمن المدني ، عن عبد الله بن عمر ، عن عثمان
بن عفان ، رضي الله عنه ، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير : { لَهُ
مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } فقال : "ما سألني عنها أحد قبلك يا
عثمان" ، قال : "تفسيرها : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله
وبحمده ، أستغفر الله ، ولا قوة إلا بالله ، الأول والآخر ، والظاهر والباطن ،
بيده الخير ، يحيي ويميت ، وهو على كل شيء قدير ، من قالها يا عثمان إذا أصبح عشر
مرار أعطي خصالا ستا : أما أولاهن : فيحرس من إبليس وجنوده ، وأما الثانية : فيعطى
قنطارا من الأجر ، وأما الثالثة : فترفع (3) له درجة في الجنة ، وأما الرابعة :
فيتزوج من الحور العين ، وأما الخامسة : فيحضره (4) اثنا عشر ملكا ، وأما السادسة
: فيعطى من الأجر كمن قرأ القرآن والتوراة والإنجيل والزبور. وله مع هذا يا عثمان
من الأجر كمن حج وتقبلت حجته ، واعتمر فتقبلت عمرته ، فإن مات من يومه طبع بطابع
الشهداء".
ورواه أبو يعلى الموصلي من حديث يحيى بن حماد ، به مثله (5). وهو غريب ، وفيه
نكارة شديدة ، والله أعلم.
وقوله : { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ
} ذكروا في سبب نزولها ما رواه ابن أبي حاتم وغيره ، عن ابن عباس [رضي الله عنهما
أنه قال] (6) : إن المشركين بجهلهم دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة
آلهتهم ، ويعبدوا معه إلهه ، فنزلت : { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي
أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ }
وهذه كقوله : { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
[الأنعام : 88].
وقوله : { بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ } أي : أخلص العبادة
لله وحده ، لا شريك له ، أنت
__________
(1) في أ : "ولكن نحن".
(2) في أ : "زيد".
(3) في ت : "فيرفع".
(4) في س : "فتحضره".
(5) ورواه ابن السني في عمل اليوم والليلة برقم (73) من طريق أبي عن شجاع بن مخلد
عن يحيى بن حماد به ، وقال الهيثمي في المجمع (10/115) : "رواه أبو يعلى في
الكبير ، وفيه الأغلب بن تميم ، وهو ضعيف".
(6) زيادة من ت ، س.
(7/112)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
ومن معك ،
أنت ومن اتبعك وصدقك.
{ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) }.
يقول تعالى : وما قدر المشركون الله حق قدره ، حين عبدوا معه غيره ، وهو العظيم
الذي لا أعظم منه ، القادر على كل شيء ، المالك لكل شيء ، وكل شيء تحت قهره
وقدرته.
قال مجاهد : نزلت في قريش. وقال السدي : ما عظموه حق عظمته.
وقال محمد بن كعب : لو قدروه حق قدره ما كذبوه.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (1) : { وَمَا قَدَرُوا
اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله [تعالى] (2) عليهم
، فمن آمن أن الله على كل شي قدير ، فقد قدر الله حق قدره ، ومن لم يؤمن بذلك فلم
يقدر الله حق قدره.
وقد وردت (3) أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية الكريمة ، والطريق فيها وفي أمثالها
مذهب السلف ، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف.
قال البخاري : قوله : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } حدثنا آدم ،
حدثنا شيبان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود (4) قال :
جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد : إنا نجد أن
الله عز وجل يجعل السموات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والشجر على إصبع ،
والماء (5) والثرى على إصبع ، وسائر الخلائق على إصبع. فيقول : أنا الملك. فضحك
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ، تصديقا لقول الحبر ، ثم قرأ رسول
الله صلى الله عليه وسلم : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا
قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } الآية (6).
و [قد] (7) رواه البخاري أيضا في غير هذا الموضع من (8) صحيحه ، والإمام أحمد ،
ومسلم ، والترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما ، كلهم من حديث سليمان بن مهران
الأعمش ، عن إبراهيم عن عبيدة ، عن [عبد الله] (9) ابن مسعود ، رضي الله عنه ،
بنحوه (10).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم عن علقمة ، عن
عبد الله ، رضي الله عنه ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل
الكتاب ، فقال : يا أبا القاسم ، أبلغك أن الله [تعالى] (11) يحمل الخلائق على
إصبع ، والسموات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والشجر على
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) في ت : "ورد".
(4) في ت ، أ : "مسعود رضي الله عنه".
(5) في ت ، أ : "والماء على إصبع".
(6) صحيح البخاري برقم (4811).
(7) زيادة من أ.
(8) في أ : "في".
(9) زيادة من ت.
(10) صحيح البخاري برقم (7414 ، 7415 ، 7451) والمسند (1/429) و2صحيح مسلم برقم
(2786) وسنن الترمذي برقم (3238) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11451).
(11) زيادة من أ.
(7/113)
إصبع ،
والثرى على إصبع ؟ قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه. قال :
وأنزل الله عز وجل : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } إلى آخر الآية.
وهكذا رواه البخاري ، ومسلم ، والنسائي - من طرق - عن الأعمش (1) به (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن حسن الأشقر ، حدثنا أبو كدينة ، عن عطاء عن أبي
الضحى ، عن ابن عباس (3) قال : مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس
فقال : كيف تقول يا أبا القاسم : يوم يجعل الله السماء على ذه - وأشار بالسبابة -
والأرض على ذه ، والجبال على ذه وسائر الخلق (4) على ذه - كل ذلك يشير بإصبعه (5)
- قال : فأنزل الله عز وجل : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } الآية.
وكذا رواه الترمذي في التفسير عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، عن محمد بن
الصَّلْت ، عن أبي جعفر ، عن أبي كدينة يحيى بن المهلب ، عن عطاء بن السائب ، عن
أبي الضحى مسلم بن صبيح ، به (6) ، وقال : حسن صحيح غريب ، لا نعرفه إلا من هذا
الوجه.
ثم قال البخاري : حدثنا سعيد بن عفير ، حدثنا الليث ، حدثنا عبد الرحمن بن خالد بن
مسافر ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن : أن أبا هريرة (7) ، رضي الله
عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يقبض الله الأرض ، ويطوي
السماء بيمينه ، ثم يقول : أنا الملك ، أين ملوك الأرض".
تفرد به من هذا الوجه (8) ، ورواه مسلم من وجه آخر (9).
وقال (10) البخاري - في موضع آخر - : حدثنا مُقَدَّم بن محمد ، حدثنا عمي القاسم
بن يحيى ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر (11) ، عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : "إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين على إصبع ، وتكون السموات
بيمينه ، ثم يقول : أنا الملك".
تفرد به أيضا من هذا الوجه (12) ، ورواه مسلم من وجه آخر (13). وقد رواه (14)
الإمام أحمد من طريق أخرى بلفظ آخر أبسط من هذا السياق وأطول ، فقال :
حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن
عبيد الله بن مقسم ، عن ابن عمر (15) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه
الآية ذات يوم على المنبر : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ
جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
هكذا بيده ، يحركها يقبل بها ويدبر : "يمجد الرب نفسه : أنا الجبار ، أنا
المتكبر ، أنا
__________
(1) في ت : "من طريق الأعمش".
(2) المسند (1/378) وصحيح البخاري برقم (7451) وصحيح مسلم برقم (2786) والنسائي في
السنن الكبرى برقم (11452).
(3) في ت : "عن ابن عباس رضي الله عنهما".
(4) في أ : "الخلائق".
(5) في ت : "بأصابعه".
(6) المسند (1/324) وسنن الترمذي برقم (3240).
(7) في ت : "وروى البخاري بإسناده أن أبا هريرة".
(8) صحيح البخاري برقم (4812).
(9) صحيح مسلم برقم (2787) من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة به.
(10) في ت : "وروى".
(11) في أ : "عن ابن عمر رضي الله عنهما".
(12) صحيح البخاري برقم (4812).
(13) صحيح مسلم برقم (2788) من طريق سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر به.
(14) في ت : "وروى".
(15) في أ : "عن ابن عمر رضي الله عنهما".
(7/114)
الملك ، أنا
العزيز ، أنا الكريم". فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا :
لَيَخِرَّن به.
وقد رواه مسلم ، والنسائي ، وابن ماجه من حديث عبد العزيز بن أبي حازم - زاد مسلم
: ويعقوب بن عبد الرحمن ، كلاهما عن أبي حازم ، عن عبيد الله بن مقسم ، عن ابن (1)
عمر ، به ، نحوه (2).
ولفظ مسلم - عن عبيد الله بن مقسم (3) في هذا الحديث - : أنه نظر إلى عبد الله بن
عمر كيف يحكي النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : يأخذ الله سمواته وأرضيه بيده
ويقول : أنا الملك ، ويقبض أصابعه ويبسطها : أنا الملك ، حتى نظرت إلى المنبر
يتحرك من أسفل شيء منه ، حتى إني لأقول : أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم
؟.
وقال البزار : حدثنا سليمان بن سيف (4) ، حدثنا أبو علي الحنفي ، حدثنا عباد
المنْقرَي ، حدثني محمد بن المنكدر قال : حدثنا عبد الله بن عمر [رضي الله عنهما]
(5) ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على المنبر : { وَمَا
قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } حتى بلغ : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُونَ } ، فقال المنبر هكذا ، فجاء وذهب ثلاث مرات (6).
ورواه الإمام الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث عبيد بن عمير ، عن عبد الله بن
عمرو ، وقال : صحيح (7).
وقال الطبراني في المعجم الكبير : حدثنا عبد الرحمن بن معاوية العُتْبي ، حدثنا
حيان بن نافع بن صخر بن جويرية ، حدثنا سعيد بن سالم القداح ، عن معمر بن الحسن ،
عن بكر بن خُنَيْس ، عن أبي شيبة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن جرير (8) قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفر من أصحابه : "إني قارئ عليكم آيات من آخر
سورة الزمر ، فمن بكى منكم وجبت له الجنة" ؟ فقرأها من عند قوله : { وَمَا
قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } ، إلى آخر السورة ، فمنا من بكى ، ومنا من لم
يبك ، فقال الذين لم يبكوا : يا رسول الله لقد جهدنا أن نبكي فلم نبك ؟ فقال :
"إني سأقرؤها عليكم فمن لم يبك فليتباك". هذا حديث غريب جدا (9).
وأغرب منه ما رواه في المعجم الكبير أيضا : حدثنا هاشم بن مُرْثَد (10) ، حدثنا
محمد بن إسماعيل بن عياش ، حدثني أبي ، حدثني ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد ، عن
أبي مالك
__________
(1) في أ : "أبي".
(2) المسند (2/72) وصحيح مسلم برقم (2788) والنسائي في السنن الكبرى برقم (7689)
وسنن ابن ماجه برقم (4275).
(3) في ت : "عمر".
(4) في أ : "يوسف".
(5) زيادة من أ.
(6) ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (128) : حدثنا أبو بكر البرذعي عن سليمان بن
سيف به ، ورواه ابن عدي في الكامل (4/342) والطبراني في المعجم الكبير (12/352) من
طريق عبادة بن ميسرة به ، وفي إسناده عباد بن ميسرة المنقري ، وهو ضعيف وعند ابن
عدي : "فتحرك المنبر مرتين".
(7) لم أجده في المطبوع من مسند عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
(8) في ت : "وروى الطبراني في المعجم الكبير بإسناده عن جرير".
(9) المعجم الكبير (2/348) وقال الهيثمي في المجمع (7/101) : "فيه بكر بن
خنيس وهو متروك".
(10) في هـ ، ت ، أ : "زيد" والتصويب من المعجم.
(7/115)
الأشعري (1)
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله تعالى يقول : ثلاث خلال
غَيَّبتُهُنَّ عن عبادي ، لو رآهن رجل ما عمل سوءًا أبدا : لو كشفت غطائي فرآني
حتى نستيقن ويعلم كيف أفعل بخلقي إذا أتيتهم ، وقبضت السموات بيدي ، ثم قبضت الأرض
(2) والأرضين ، ثم قلت : أنا الملك ، من ذا الذي له الملك دوني ؟ ثم أريتهم (3)
الجنة وما أعددت لهم فيها من كل خير ، فيستيقنوها. وأريهم النار وما أعددت لهم
فيها من كل شر فيستيقنوها ، ولكن عمدا غيبت ذلك عنهم لأعلم كيف يعملون ، وقد بينته
لهم" (4).
وهذا إسناد متقارب ، وهي نسخة تروى بها أحاديث جمة ، والله أعلم.
__________
(1) في أ : "الأشعري رضي الله عنه".
(2) في هـ : "قبضت الأرضين" وفي س ، ت ، أ : "قبضت الأرض ثم
الأرضين" والمثبت من المعجم.
(3) في س : "أريهم".
(4) المعجم الكبير (3/294) ، وفي إسناده : محمد بن إسماعيل بن عياش ، ضعيف ولم
يسمع من أبيه.
(7/116)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)
{ وَنُفِخَ
فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ
اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)
وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ
بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا
يَفْعَلُونَ (70) }.
يقول تعالى مخبرا عن هول يوم القيامة ، وما يكون فيه من الآيات العظيمة والزلازل
الهائلة ، فقوله : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ
فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } ، هذه النفخة هي الثانية ، وهي نفخة الصعق
، وهي التي يموت (1) بها الأحياء من أهل السموات والأرض ، إلا من شاء الله كما هو
(2) مصرح (3) به مفسرا في حديث الصور المشهور. ثم يقبض أرواح الباقين حتى يكون آخر
من يموت ملك الموت ، وينفرد الحي القيوم الذي كان أولا وهو الباقي آخرا بالديمومة
(4) والبقاء ، ويقول : { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } [غافر : 16] ثلاث مرات. ثم
يجيب نفسه بنفسه فيقول : { لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } أي : الذي هو واحد
وقد قهر كل شيء ، وحكم بالفناء على كل شيء. ثم يحيي أول من يحيي إسرافيل ، ويأمره
أن ينفخ في الصور أخرى ، وهي النفخة الثالثة نفخة البعث ، قال تعالى : { ثُمَّ
نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } أي : أحياء بعد ما كانوا
عظاما ورفاتا ، صاروا أحياء ينظرون إلى أهوال يوم القيامة ، كما قال تعالى : {
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } [النازعات : 14
، 13] ، وقال تعالى : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ
إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا } [الإسراء : 52] ، وقال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ
أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً
مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ } [الروم : 25].
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن النعمان بن سالم قال :
سمعت
__________
(1) في س : "تموت".
(2) في أ : "جاء".
(3) في ت ، س : "مصرحا".
(4) في أ : "بالديمومية".
(7/116)
يعقوب بن
عاصم بن عروة بن مسعود قال : سمعت رجلا قال لعبد الله بن عمرو (1) : إنك تقول :
الساعة تقوم إلى كذا وكذا ؟ قال : لقد هممت ألا أحدثكم شيئا ، إنما قلت : سترون
بعد قليل أمرا عظيما. ثم قال عبد الله بن عمرو : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: "يخرج الدجال في أمتي ، فيمكث فيهم أربعين - لا أدري أربعين يوما أو أربعين
عاما أو أربعين شهرا أو أربعين ليلة - فيبعث الله (2) عيسى ابن مريم (3) ، كأنه
عروة بن مسعود الثقفي ، فيظهر فيهلكه الله (4). ثم يلبث الناس بعده سنين سبعا ليس
بين اثنين عداوة ، ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام ، فلا يبقى أحد في قلبه
مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته ، حتى لو أن (5) أحدهم كان في كبد جبل لدخلت
عليه". قال : سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ويبقى شرار
الناس في خفة الطير ، وأحلام السباع ، لا يعرفون معروفا ، ولا ينكرون منكرا".
قال : "فيتمثل لهم الشيطان فيقول : ألا تستجيبون ؟ فيأمرهم بالأوثان
فيعبدونها ، وهم في ذلك دارة أرزاقهم ، حسن عيشهم. ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد
إلا أصغى له ، وأول من يسمعه رجل يلوط حوضه ، فيصعق ، ثم لا يبقى أحد إلا صعق. ثم
يرسل الله - أو : ينزل الله مطرا كأنه الطل - أو الظل شك نعمان - فتنبت منه أجساد
الناس. ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ، ثم يقال : يا أيها الناس ، هلموا
إلى ربكم : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ } [الصافات : 24] ، قال :
"ثم يقال : أخرجوا بعث النار". قال : "فيقال : كم ؟ فيقال : من كل
ألف تسعمائة وتسعة وتسعين (6) فيومئذ تبعث الولدان شيبا ، ويومئذ يكشف عن
ساق".
انفرد بإخراجه مسلم في صحيحه (7).
وقال البخاري : حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، حدثنا أبي ، حدثنا الأعمش قال : سمعت
أبا صالح قال : سمعت أبا هريرة [رضي الله عنه] (8) عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال : "بين النفختين أربعون" (9). قالوا : يا أبا هريرة ، أربعون يوما ؟
قال : أبيت ، قالوا : أربعون سنة ؟ قال : أبي ، قالوا : أربعون شهرا ؟ قال : أبيت
، ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عَجْبُ ذنبه فيه يركب الخلق (10).
وقال أبو يعلى : حدثنا يحيى بن معين ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا إسماعيل بن عياش ،
عن عمر بن محمد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (11) ،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "سألت جبريل ، عليه السلام ، عن هذه الآية
: { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ
إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } من الذين لم يشأ الله أن يصعقهم ؟ قال : هم الشهداء ،
مقلدون أسيافهم حول عرشه ، تتلقاهم ملائكة يوم القيامة إلى المحشر بنجائب من ياقوت
نمارها ألين من الحرير ، مَدُّ (12) خطاها مد أبصار الرجال ، يسيرون في الجنة
يقولون عند طول النزهة : انطلقوا بنا إلى ربنا ، عز وجل ، لننظر كيف يقضي بين خلقه
، يضحك إليهم إلهي ، وإذا ضحك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه".
__________
(1) في أ : "عمرو رضي الله عنهما".
(2) في أ : "الله تعالى".
(3) في أ : "ابن مريم عليه السلام".
(4) في أ : "فيهلكه الله على يده".
(5) في ت ، س ، أ : "حتى أن لو كان".
(6) في س : "وتسعون".
(7) المسند (2/166) وصحيح مسلم برقم (2940).
(8) زيادة من أ.
(9) في ت : "أربعين".
(10) صحيح البخاري برقم (4814).
(11) زيادة من ت ، أ.
(12) في أ : "قدر".
(7/117)
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)
رجاله كلهم
ثقات إلا شيخ إسماعيل بن عياش ، فإنه غير معروف والله أعلم (1).
وقوله : { وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا } أي : أضاءت يوم القيامة إذا
تجلى الحق ، تبارك وتعالى ، للخلائق لفصل القضاء ، { وَوُضِعَ الْكِتَابُ } قال
قتادة : كتاب الأعمال ، { وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ } قال ابن عباس : يشهدون على
الأمم بأنهم بلغوهم رسالات (2) الله إليهم ، { وَالشُّهَدَاءِ } أي : الشهداء من
الملائكة الحفظة على أعمال العباد من خير وشر ، { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ
} أي : بالعدل { وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } قال الله [تعالى] (3) : { وَنَضَعُ
الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا
وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا
حَاسِبِينَ } [الأنبياء : 47] ، وقال [الله] (4) تعالى : { وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً
يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء : 40] ، ولهذا
قال : { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ } أي : من خير أو شر { وَهُوَ
أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ }
{ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا
فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ
مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ
يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ
(71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى
الْمُتَكَبِّرِينَ (72) }.
يخبر تعالى عن حال الأشقياء الكفار كيف يساقون إلى النار ؟ وإنما يساقون سوقا
عنيفا بزجر وتهديد ووعيد ، كما قال تعالى : { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ
جَهَنَّمَ دَعًّا } [الطور : 13] أي : يدفعون إليها دفعا. هذا وهم عطاش ظماء ، كما
قال في الآية الأخرى : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا } [مريم : 86 ، 85]. وهم في تلك
الحال صُمُّ وبكم وعمي ، منهم من يمشي على وجهه ، { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } [الإسراء : 97].
وقوله : { حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } أي : بمجرد وصولهم
إليها فتحت لهم أبوابها سريعا ، لتعجل لهم العقوبة ، ثم يقول لهم خزنتها من
الزبانية - الذين هم غلاظ الأخلاق ، شداد القوى على وجه التقريع والتوبيخ والتنكيل
- : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } أي : من جنسكم تتمكنون من مخاطبتهم
والأخذ عنهم ، { يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ } أي : يقيمون عليكم الحجج
والبراهين (5) على صحة ما دعوكم إليه ، { وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ
هَذَا } أي : ويحذرونكم من شر هذا اليوم ؟ فيقول الكفار لهم : { بَلَى } أي : قد
جاءونا وأنذرونا ، وأقاموا علينا الحجج والبراهين ، { وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ
الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ }
__________
(1) ورواه الحاكم في المستدرك (2/253) من طريق أبي أسامة عن عمر بن محمد عن زيد بن
أسلم بنحوه ، وقال : "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
(2) في س ، أ : "رسالة".
(3) زيادة من ت ، س ، أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في س ، أ : "والبرهان".
(7/118)
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)
أي : ولكن
كذبناهم وخالفناهم ، لما سبق إلينا (1) من الشَقْوة التي كنا نستحقها حيث عَدَلْنا
عن الحق إلى الباطل ، كما قال تعالى مخبرا عنهم في الآية الأخرى : { كُلَّمَا
أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا
بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ
إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ
نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [الملك : 8 - 10] ، أي : رجعوا
على أنفسهم بالملامة والندامة { فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ
السَّعِيرِ } [الملك : 11] أي : بعدا لهم وخسارا.
وقوله هاهنا : { قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا } أي : كل
من رآهم وعلم حالهم يشهد (2) عليهم بأنهم مستحقون للعذاب ؛ ولهذا لم يسند هذا
القول (3) إلى قائل معين ، بل أطلقه ليدل على أن الكون شاهد عليهم بأنهم مستحقون
ما هم فيه بما حكم العدل الخبير عليهم به ؛ ولهذا قال جل وعلا { قِيلَ ادْخُلُوا
أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا } أي : ماكثين فيها لا خروج لكم منها ، ولا
زوال لكم عنها ، { فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } أي : فبئس المصير وبئس
المقيل لكم ، بسبب تكبركم في الدنيا ، وإبائكم عن اتباع الحق ، فهو الذي صيركم إلى
ما أنتم فيه ، فبئس الحال وبئس المآل.
{ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا
جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ
طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ
نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) }.
وهذا إخبار عن حال السعداء المؤمنين حين يساقون على النجائب وفدا إلى الجنة {
زُمَرًا } أي : جماعة بعد جماعة : المقربون ، ثم الأبرار ، ثم الذين يلونهم ، ثم
الذين يلونهم كل طائفة مع من يناسبهم : الأنبياء مع الأنبياء والصديقون مع أشكالهم
، والشهداء مع أضرابهم ، والعلماء مع أقرانهم ، وكل صنف مع صنف ، كل زمرة تناسب
بعضها بعضا.
{ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا } أي : وصلوا إلى أبواب الجنة بعد مجاوزة الصراط حبسوا
على قنطرة بين الجنة والنار ، فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا
هُذِّبُوا ونُقُّوا أذن لهم في دخول الجنة ، وقد ورد في حديث الصور أن المؤمنين
إذا انتهوا إلى أبواب الجنة تشاوروا فيمن يستأذن لهم بالدخول ، فيقصدون ، آدم ، ثم
نوحا ، ثم إبراهيم ، ثم موسى ، ثم عيسى ، ثم محمدا ، صلوات الله وسلامه عليهم
أجمعين ، كما فعلوا في العرصات (4) عند استشفاعهم إلى الله ، عز وجل ، أن يأتي
لفصل القضاء ، ليظهر شرف محمد صلى الله عليه وسلم على سائر البشر في المواطن كلها.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أنس ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "أنا أول شفيع في الجنة" وفي لفظ لمسلم : "وأنا أول من يقرع
باب الجنة". (5).
وقال الإمام أحمد : حدثنا هاشم ، حدثنا سليمان ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك ، رضي
الله
__________
(1) في س ، أ : "لنا".
(2) في أ : "شهد".
(3) في أ : "هذا الذي قاله".
(4) في ت ، أ : "الصرخات".
(5) صحيح مسلم برقم (196).
(7/119)
عنه ، قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح ،
فيقول الخازن : من أنت ؟ فأقول : محمد. قال : يقول : بك أُمِرْتُ ألا أفتح لأحد
قبلك".
ورواه مسلم عن عمرو (1) الناقد وزهير بن حرب ، كلاهما عن أبي النضر هاشم بن القاسم
، عن سليمان - وهو ابن المغيرة القيسي - عن ثابت ، عن أنس ، به (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا مَعْمَر عن همام بن منبه ، عن أبي
هريرة (3) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أول زمرة تلج (4) الجنة
صورهم على صورة القمر ليلة البدر ، لا يبصقون فيها ، ولا يمتخطون فيها ، ولا
يتغوطون فيها. آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة ، ومجامرهم الألوة (5) ، ورشحهم المسك
، ولكل واحد منهم زوجتان ، يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن. لا اختلاف بينهم
ولا تباغض ، قلوبهم على قلب واحد (6) يسبحون الله بكرة وعشيا".
رواه البخاري عن محمد بن مقاتل ، عن ابن المبارك. ورواه مسلم ، عن محمد بن رافع ،
عن عبد الرزاق ، كلاهما عن معمر بإسناده نحوه (7). وكذا رواه أبو الزناد ، عن
الأعرج ، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (8) ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (9).
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو خَيْثَمة ، حدثنا جرير ، عن عمارة بن القعقاع ،
عن أبي زُرْعَة ، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (10) قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "أول زُمْرَة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، والذين
يلونهم على ضوء أشدُّ كوكب دُرِّي في السماء إضاءة ، لا يبولون ولا يتغوطون ولا
يتْفلون ولا يمتخطون ، أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ، ومجامرهم الألوة ، وأزواجهم
الحور العين ، أخلاقهم على خلق رجل واحد ، على صورة أبيهم آدم ، ستون ذراعا في
السماء" (11).
وأخرجاه أيضا من حديث جرير (12).
وقال الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : "يدخل الجنة من أمتي زُمْرَة ، هم سبعون ألفا ، تضيء وجوههم
إضاءة القمر ليلة البدر". فقام عُكَّاشة بن مِحْصَن فقال : يا رسول الله ادع
الله ، أن يجعلني منهم : فقال : "اللهم اجعله منهم". ثم قام رجل من
الأنصار فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني منهم. فقال صلى الله عليه وسلم
: "سبقك بها عُكَّاشة".
أخرجاه (13) (14) وقد روى هذا الحديث - في السبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب -
البخاري ومسلم ، عن ابن عباس ، وجابر بن عبد الله ، وعمران بن حصين ، وابن مسعود ،
ورفاعة بن عرابة
__________
(1) في أ : "عمرو بن محمد الناقد".
(2) المسند (2/316) وصحيح مسلم برقم (197).
(3) في أ : "أبي هريرة رضي الله عنه".
(4) في ت : "يدخلون".
(5) في س ، أ : "ومجامرهم من الألوة".
(6) في أ : "قلب رجل واحد".
(7) المسند (2/316) وصحيح البخاري برقم (3225) وصحيح مسلم برقم (2834).
(8) زيادة من أ.
(9) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (3246).
(10) زيادة من أ.
(11) مسند أبي يعلى (10/470).
(12) صحيح البخاري برقم (3327) وصحيح مسلم برقم (2834).
(13) في ت : "أخرجه البخاري ومسلم".
(14) صحيح البخاري برقم (6542) وصحيح مسلم برقم (215).
(7/120)
الجهني ،
وأم قيس بنت محصن.
ولهما عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا - أو : سبعمائة ألف - آخذٌ بعضهم ببعض ،
حتى يدخل أولهم وآخرهم الجنة ، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر". (1).
وقال (2) أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن محمد بن زياد قال : سمعت
أبا أمامة (3) الباهلي يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : وعدني ربي
، عز وجل ، أن يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا ، مع كل ألف سبعون ألفا ، ولا حساب
عليهم ولا عذاب ، وثلاث حَثَيَات من حثيات ربي عز وجل" (4).
وكذا رواه الوليد بن مسلم ، عن صفوان بن عمرو ، عن سليم بن عامر [و] (5) أبي
اليمان عامر بن عبد الله بن لحُيّ (6) عن أبي أمامة [رضي الله عنه] (7) (8).
ورواه الطبراني ، عن عتبة بن عَبْدٍ السُّلمي : "ثم يشفع كل ألف في سبعين
ألفا" (9).
وروى مثله ، عن ثوبان وأبي سعيد الأنماري ، وله شواهد من وجوه كثيرة.
وقوله : { حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ
خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } لم يذكر
الجواب هاهنا ، وتقديره : حتى إذا جاءوها ، وكانت هذه الأمور من فتح الأبواب لهم
إكراما وتعظيما ، وتلقتهم الملائكة الخزنة بالبشارة والسلام والثناء ، لا كما تلقى
الزبانية الكفرة بالتثريب (10) والتأنيب ، فتقديره : إذا كان هذا سَعِدوا وطابوا ،
وسُرّوا وفرحوا ، بقدر كل ما يكون لهم فيه نعيم. وإذا حذف الجواب هاهنا ذهب الذهن
كل مذهب في الرجاء والأمل.
ومن زعم أن "الواو" في قوله : { وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } واو الثمانية
، واستدل به على أن أبواب الجنة ثمانية ، فقد أبعد النّجْعَة وأغرق في النزع.
وإنما يستفاد كون أبواب الجنة ثمانية من الأحاديث الصحيحة.
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن الزهري عن حميد بن عبد
الرحمن (11) ، عن أبي هريرة (12) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله ، دعي من أبواب الجنة ، وللجنة أبواب
(13) ، فمن كان من أهل الصلاة دُعِي من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الصدقة دعي من
باب الصدقة ، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ، ومن كان من أهل الصيام
دعي من باب الريان" فقال أبو بكر ، رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله ، ما
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6554) وصحيح مسلم برقم (219).
(2) في ت : "وروى".
(3) في ت : "عن أبي أمامة".
(4) المصنف (11/471) ورواه الترمذي في السنن برقم (2437) من طريق إسماعيل بن عياش
به ، وقال : "هذا حديث حسن غريب".
(5) زيادة من أ.
(6) في أ : "يحيى".
(7) زيادة من أ.
(8) رواه الطبراني في المعجم الكبير (8/187).
(9) المعجم الكبير (17/126 ، 127).
(10) في أ : "بالذم".
(11) في ت : "فروى البخاري ومسلم".
(12) في أ : "أبي هريرة رضي الله عنه".
(13) في أ : "أبواب ثمانية".
(7/121)
على أحد من
ضرورة دُعي ، من أيها (1) دعي ، فهل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله ؟ قال :
"نعم ، وأرجو أن تكون منهم".
ورواه البخاري ومسلم ، من حديث الزهري ، بنحوه (2).
وفيهما من حديث أبي حازم سلمة بن دينار (3) ، عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : "إن في الجنة ثمانية أبواب ، باب منها يسمى الريان ، لا
يدخله إلا الصائمون" (4).
وفي صحيح مسلم ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو : فيسبغ الوضوء - ثم يقول :
أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، إلا فتحت له أبواب الجنة
الثمانية ، يدخل من أيها شاء". (5).
وقال (6) الحسن بن عرفة : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن
أبي حُسَين ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن معاذ ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "مفتاح الجنة : لا إله إلا الله" (7).
ذكر سعة أبواب الجنة - نسأل الله العظيم من فضله أن يجعلنا من أهلها - :
في الصحيحين من حديث أبي زُرْعَة ، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (8) في حديث
الشفاعة الطويل : "فيقول الله (9) يا محمد ، أدخل من لا حساب عليه (10).
من أمتك من الباب الأيمن ، وهم شركاء الناس في الأبواب الأخر. والذي نفس محمد بيده
، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة - ما بين عضادتي الباب - لكما بين مكة وهجر
- أو هجر ومكة". وفي رواية : "مكة وبصرى" (11).
وفي صحيح مسلم ، عن عتبة بن غزوان أنه خطبهم خطبة فقال فيها : "ولقد ذكر لنا
أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة ، مسيرة أربعين سنة ، وليأتين عليه يوم وهو
كظيظ من الزحام" (12).
وفي المسند عن حكيم بن معاوية ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مثله
(13).
وقال عبد بن حميد : حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دَرَّاج ، عن
أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن ما
بين مصراعين في الجنة مسيرة أربعين سنة" (14).
وقوله : { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ } أي : طابت
أعمالكم وأقوالكم ، وطاب سعيكم فطاب جزاؤكم ، كما أمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن ينادى بين المسلمين في بعض الغزوات : "إن الجنة لا يدخلها إلا نفس
مسلمة" وفي رواية : "مؤمنة". (15).
__________
(1) في أ : "أيتهما".
(2) المسند (2/268) وصحح البخاري برقم (3666) وصحيح مسلم برقم (1027).
(3) في ت : "وفي الصحيحين".
(4) صحيح البخاري برقم (1896) وصحيح مسلم برقم (1152).
(5) صحيح مسلم برقم (234).
(6) في ت : "وروى".
(7) زورواه أحمد في مسنده (5/242) من طريق إسماعيل بن عياش به ، وشهر بن حوشب فيه
كلام ولم يسمع من معاذ.
(8) زيادة من أ.
(9) في أ : "قال الله عز وجل".
(10) في أ : "لا حساب عليه ولا ملامة".
(11) صحيح البخاري برقم (4712) وصحيح مسلم برقم (194).
(12) صحيح مسلم برقم (2967).
(13) المسند (5/3).
(14) المنتخب برقم (924) ودراج عن أبي الهيثم ضعيف.
(15) رواه النسائي في السنن (5/234) من حديث أبي هريرة.
(7/122)
وقوله : {
فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } أي : ماكثين فيها أبدا ، لا يبغون عنها حولا.
{ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } أي : يقول المؤمنون
إذا عاينوا في الجنة ذلك الثواب الوافر ، والعطاء العظيم ، والنعيم المقيم ،
والملك الكبير ، يقولون عند ذلك : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ
} أي : الذي كان وعدنا على ألسنة رسله الكرام ، كما دعوا في الدنيا : { رَبَّنَا
وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [آل عمران : 194] ، { وَقَالُوا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا
اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } [الأعراف : 43] ، {
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا
لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا
يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } [فاطر : 35 ، 34].
وقولهم : { وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ
فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } قال أبو العالية ، وأبو صالح ، وقتادة ، والسدي ،
وابن زيد (1) : أي أرض الجنة.
وهذه الآية كقوله : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ
أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } [الأنبياء : 105] ، ولهذا
قالوا : { نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ } أي : أين (2) شئنا حللنا
، فنعم الأجر أجرنا على عملنا.
وفي الصحيحين من حديث الزهري ، عن أنس في قصة المعراج قال النبي صلى الله عليه
وسلم : "أدخلت الجنة ، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ ، وإذا ترابها المسك"
(3).
وقال عبد بن حميد : حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا الجريري ، عن
أبي نضرة ، عن أبي سعيد [رضي الله عنه] (4) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل
ابن صائد عن تربة الجنة ؟ فقال : دَرْمَكة بيضاءُ مِسْك خالص : فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "صدق".
وكذا رواه مسلم ، من حديث أبي مسلمة (5) ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، به (6).
ورواه مسلم [أيضا] (7) عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن أبي أسامة ، عن الجُرَيْرِي ،
عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ؛ أن ابن صائد (8) سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
تربة الجنة ، فقال : "دَرْمكة بيضاء مسك خالص" (9).
وقول ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل ، حدثنا إسرائيل
، عن أبي إسحاق ، عن عاصم بن ضمرة (10) ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، في
قوله تعالى : { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا }
، قال : سيقوا حتى انتهوا إلى باب من أبواب الجنة ، فوجدوا عندها شجرة يخرج من تحت
ساقها عينان ، فعمدوا إلى إحداهما فتطهروا منها ، فجرت عليهم نضرة
__________
(1) في ت : "وأبو صالح وغيرهما".
(2) في أ : "حيث".
(3) انظر : الحديث بطوله عند تفسير الآية الأولى من سورة الإسراء.
(4) زيادة من أ.
(5) في س : "سلمة".
(6) المنتخب برقم (874) وصحيح مسلم برقم (2928).
(7) زيادة من أ.
(8) في س : "صياد".
(9) صحيح مسلم برقم (2928).
(10) في ت : "وروى ابن أبي حاتم بسنده عن علي" وفي أ :
"حمزة".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق