بتصرف من الالوكة
تربية الأولاد بين الحكمة والرحمة (1 /3)
الحمد لله، الحمد لله العليِّ الحليم، الغفور الرحيم، الذي أظهر خلق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعَلَه في قرارٍ مكين، ثم خلق النطفة عَلَقَةً، ثم خلق العَلَقَة مُضْغَة، ثم خلق المُضْغَة عظامًا، ثم كسا العظام لحمًا، ثم أنشأه خلقًا آخر، فتبارك الله أحسنُ الخالقين.
سبحان مَن شمِلتْ قدرتُه كلَّ مقدور، وجرتْ مشيئتُه في خلْقه بتصريف الأمور، وتفرَّد بملكوت السموات والأرض! يخلق ما يشاء، يهب لمن يشاء إناثًا ويهب لمن يشاء الذكور، أشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، تنزَّه عن المثيل والنظير، وتعالى عن الشريك والظهير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدُه ورسوله، وخيرتُه من خلقه، أرسله رحمة للعالمين، فهَدَى به من الضلالة، وعلَّم به من الجهالة، وفتح برسالته أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غُلفًا، فبلَّغ الرسالةَ، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمَّة، وكشف الغمَّة، حتى وضحتْ شرائعُ الأحكام، وظهرتْ شرائع الإسلام، وعزَّ حزبُ الرحمن، وذلَّ حزبُ الشيطان، واهتدى كلُّ حيران، فصلَّى الله وملائكتُه وأنبياؤه ورسلُه وعبادُه المؤمنون عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا أيها الناس:
لا ريب أن الإنسان مجبولٌ على حبِّ البقاء، إلا أنه يعلم أنه لا محالة هالكٌ، وأنه لا بد لوجوده من أجَلٍ، هكذا اقتضتْ إرادة الله - عزَّتْ قدرتُه، وجلَّتْ حكمتُه - أن يجعل في نفس الإنسان بعضَ العوض عن ذلك، فإنه يرى بقاءه مستمرًّا، وذِكره لم ينقطع بذرِّيَّته، فلا يندم على جهاده في معترك الحياة، ولا يأسَف على مفارقة ما جَمَع من مالٍ وعقار؛ لعلمه أنه ترَكَه لخلَفِه الذي هو جزء منه، فكأنه هو الذي يستمتع به، وكأنه باقٍ لم يلحقه فناءٌ، وهذا كلُّه مسلَّم لدى جميع العقلاء.
فالكلُّ يحب الولد؛ لأنه يرى فيه بقاءً لذِكرِه، ويوقن أنه خليفته في هذه الحياة، كما أن كل إنسان يشعر بالحاجة إلى مُعِينٍ مخْلص، ومساعد أمين، يحمل عنه بعضَ متاعب الحياة، ويكون عُدَّتَه عند النوائب، وإذ إنه في الشدائد، ولا أحد أجدر من الولد في ثقة الوالدين في هذا المعنى؛ لذا كان حبُّ الذرية غريزةً قوية في الإنسان؛ كما قال - تعالى -: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14]، فقلْبُ الأبوين مفطور على محبَّة الولد، والرحمةِ به، والشفقةِ عليه، والاهتمامِ بأمره، ولولا ذلك لانقرض النوعُ الإنساني من الأرض، ولما صبر الأبوان على رعاية أولادهما.
ولا عجب أن يصوِّر القرآنُ العظيم هذه المشاعرَ الأبوية أجملَ تصويرٍ، فيجعل من الأولاد تارةً زينةً؛ كما قال - تعالى: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 46]، ويعتبره تارة نعمةً عظيمة تستحق شكرَ الواهب المنعم، فيقول - تعالى: ﴿ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ﴾ [الإسراء: 6]، وتارة يعتبرهم قرةَ أَعْيُن إن كانوا سالكين سبيلاً مستقيمًا؛ كما قال - تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ﴾ [الفرقان: 74].
وفي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد والنسائي والترمذي: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب ذات يوم، فجاء الحسن والحسين - رضي الله عنهما - عليهما قميصانِ أحمران، يمشيان ويعثران، فنزل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من المنبر، فحملهما فوضعهما بين يديه، ثم قال: ((صدق اللهُ ورسوله؛ إنما أموالكم وأولادكم فتنة، رأيت هذين يمشيان ويعثران في قميصيهما، فلم أصبر حتى قطعتُ حديثي ورفعتُهما))، ثم أخذ في خطبته - صلى الله عليه وسلم.
فمحبةُ الذريَّة - كغيرها من المشتهيات - تارة تكون ممدوحةً، وتارة تكون مذمومة، والأشياءُ بمآلها وآثارها؛ فالممدوحةُ ما تؤول إلى خير، وتفضي إلى نفع، والمذمومةُ ما تؤول إلى شر، وتفضي إلى ضرر، فمحبةُ الذرية، والرحمةُ بهم، والشفقةُ عليهم مطلوبةٌ؛ لكن ليس على حساب الدِّين، وإن محبتهم لا تقتضي إهمالَ تربيتهم، وإغفالَ شؤونهم، والسُّنةُ مليئة بما يحثُّ على حبِّ الذرية ورحمتهم، كما أنها مليئة بما يجب به إحسان تربيتهم، وتقويم خُلُقهم.
ففي الحديث الصحيح الذي رواه النسائي والحاكم عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - أنه قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إحدى صلاتي العشي - الظهر أو العصر - وهو حاملٌ حسنًا أو حسينًا، فتقدم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فوضعه عند قدمه اليمنى، ثم كبَّر للصلاة، فصلى فسجد بين ظهراني صلاته سجدةً أطالها، فرفعتُ رأسي من بين الناس، فإذا الصبي على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو ساجد، فرجعتُ إلى السجود، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاةَ، قال الناس: يا رسول الله، إنك سجدتَ بين ظهراني صلاتك سجدةً أطلتَها، حتى ظننا أنه قد حدث أمرٌ، وأنه قد يوحى إليك، قال: ((كلُّ ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني - أي: اتَّخذني راحلةً بالركوب على ظهري - فكرهتُ أن أعجله حتى يقضي حاجته)).
وروى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قبَّل رسولُ الله الحسنَ بن علي - رضي الله عنهما - وعنده الأقرعُ بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرةً من الولد ما قبَّلتُ منهم أحدًا، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه، ثم قال: ((من لا يَرحم لا يُرحم))، وفي رواية في "الأدب المفرد" عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالتْ: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أتقبِّلون صبيانكم فما نقبِّلهم؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أَوَأملِكُ أنْ نَزَعَ اللهُ من قلبك الرحمةَ؟!)).
وفي الصحيحين عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: قدم على الرسول - صلى الله غلبه وسلم - بسبْيٍ، فإذا امرأةٌ من السبي تسعى، إذ وجدتْ صبيًّا في السبي، فأخذتْه فألصقتْه ببطنها فأرضعتْه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أترَوْن هذه المرأةَ طارحةً ولدَها في النار؟))، فقلنا: لا والله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لَلهُ أرحمُ بعباده من هذه المرأة بولدها)).
وروى البخاري في "الأدب المفرد" عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: جاءتِ امرأةٌ إلى عائشةَ - رضي الله عنها - ومعها صبيَّانِ، فأعطتْها عائشةُ - رضي الله عنها - ثلاثَ تمرات، فأعطتْ كلَّ صبي لها تمرةً، وأمسكتْ لنفسها تمرة، فأكَلَ الصبيَّان التمرتين، ونظرا إلى أمِّهما، فعمدتِ الأمُّ إلى التمرة فشقَّتْها، فأعطتْ كلَّ صبي نصفَ تمرة، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرتْه عائشةُ - رضي الله عنها - فقال: ((وما يعجبك في ذلك؟ لقد رحمها الله برحمتها صبيَّيْها)).
وكلنا يرى ما أودعه الله في قلوب الأبوين من الرحمة للولد، حتى في البهائم، وهذا ليس بمستغرَبٍ؛ إنما الذي يستغرب أن يفرط زمامُ هذه المحبة لدى الوالدين حتى يعود بالضرر على الولد، وفي هذه الأيام يستقبل أبناؤنا الامتحان في المدارس، ونجد كلا الأبوين من أب وأم مشفقين على أبنائهما من الفشل في هذا الامتحان، فنجدهما يحرصان على ألاَّ يكثروا من اللعب، وألاَّ يضيعوا شيئًا من الأوقات، فليت الوالدين أشفقا على أولادهما من الامتحان الأكبر، مثلَ شفقتِهما عليهم من هذا الامتحان في هذه الحياة، فكيف والواجب عليهم أن يشفقوا عليهم من ذاك الامتحان أشدَّ من شفقتهما عليهم من هذا الامتحان في هذه الحياة الدنيا؟!
أيها الإخوة:
إننا في هذه الأيام يجب علينا أن نحاسب أنفسنا، وأن نراجع إيمانَنا، لننظر هل محبَّتُنا لأولادنا أشدُّ وأعظم من محبتنا لله ولرسوله؟ إننا إذا كنا نتأثَّر بمحبتنا لأولادنا، ونترك لهم الحبل على الغارب، فلا نأمرهم بطاعة الله، ولا ننهاهم عن معصية الله، نكون بعملنا هذا قد آثرْنا محبةَ أولادنا على محبة ربِّنا ومحبة رسولنا - صلى الله عليه وسلم - فيما يأمران به وينهيان عنه، فعليك - يا أخي - أن تحاسب نفسك، وأن تراجع إيمانك، واعلم بأنك الآن مُقدِم على إجازة صيفية، يقدم عليها أبناؤك، فعليك أن تتقي الله - جل وعلا - في هؤلاء الأبناء، الذين لهم أمانة في عنقك؛ ((كلُّكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته))، فما الذي قمتَ به تجاه هؤلاء الرعية؟
عليك أن تتقي الله - جل وعلا - وأن تحرص على استثمار أوقاتهم، فلا تتركهم يذهبون يمينًا وشمالاً، ويتسكعون في الطرقات، ويتلقَّفون ما يتلقفون من الأخلاق السيئة من هذا وذاك، إنها أمانة تبرَّأتْ منها الجبال، وحملْتَها أنت أيها المسكين، إنك كنتَ ظلومًا جهولاً، فاللهم اجعل حبَّك أحبَّ إلينا من أنفسنا وأموالنا وأولادنا، وأحبَّ إلينا من الماء البارد على الظمأ.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون، وعن شريعته ضلَّ الضالون، أحمده - سبحانه - حمْدَ عبدٍ نزَّه ربَّه عما يقول الضالون، وأشهد أن لا إله إلا اله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق المأمون، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، الذين هم بهديه متمسكون، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا أيها الناس:
ينبغي ألاَّ يغيب عن البال أن ظاهرة الرحمة إن حلَّتْ في قلب الأبوين، وترسَّختْ في نفسيهما، قاما بما يترتَّب عليهما من واجب، وأدَّيَا ما أوجب عليهما من حق رعايتهما الأولاد، تلك الرحمة - أيها الإخوة - كانت تملأ قلبَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فتفيض عيناه بما تكنُّه جوارحه.
ففي الصحيحين من حديت أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - أنه قال: أَرسلتْ إحدى بنات الرسول - صلى الله عليه وسلم - تدعوه وتخبره أن صبيًّا لها في الموت - يعني: في مقدمات الموت - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ارجع إليها وأخبرها أن لله - تعالى - ما أخد، وله ما أعطى، وكلُّ شيء عنده بأجل مسمًّى، فَمُرْها فلْتصبرْ ولْتحتسبْ))، فأرسلتْ إليه تُقسم عليه ليأتينَّها، فقام ومعه سعدُ بن عبادة، ومعاذُ بن جبل، وأُبيُّ بن كعب، وزيد بن ثابث ورجال - رضي الله عنهم - فرُفع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبيُّ، فأقعده في حجره ونفسُه تَقَعْقَعُ - أي: تتحرَّك وتضطرب - ففاضتْ عينَا رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟! قال: ((هذه رحمةٌ جعلها الله - تعالى - في قلوب عباده، وإنما يرحم اللهُ من عباده الرحماءَ)).
وفي الصحيحين أيضًا من حديت أنس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على ابنِه إبراهيمَ - رضي الله عنه - وهو يجود بنفسه، فجعلتْ عينَا رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - تذرفان، فقال له عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: وأنت يا رسول الله؟! فقال: ((يا ابن عوف، إنها رحمة))، ثم أتبعها بأخرى فقال: ((إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربَّنا، وإن بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)).
إلا أن هذه الرحمة التي استكنتْ في قلبه - صلى الله عليه وسلم - لم تُخرِجْه عن حد الاعتدال، فقد كان يوجِّههم إلى ما فيه نفعُهم وصلاحهم، وإن كان فيه قسوة عليهم، فهذا مقتضى الرحمة؛ ففي الصحيحين من حديت أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: أخذ الحسن بن علي - رضي الله عنه تمرةً من تمر الصدقة، فجعلها في فِيهِ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كِخْ كِخْ ارمِ بها، أمَا علمتَ أنَّا لا نأكل الصدقة؟!)).
وحينما أتتْه ابنتُه فاطمةُ - رضي الله عنها - تشتكي مما تلاقيه من عمل المنزل، وتطلب منه خادمًا يخدمها، أرشدها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى التسبيح ثلاثًا وثلاثين، والتحميد ثلاثًا وثلاثين، والتكبير أربعًا وثلاثين، تم قال لها ولعليٍّ - رضي الله عنهما -: ((هو خيرٌ لكما من خادم))؛ وهذا مروي في "صحيح مسلم".
فلم تدفعْه - صلى الله عليه وسلم - عاطفةُ الأبوة إلى تلبية طلب ابنته؛ بل أرشدها إلى ما فيه صلاحها دنيا وأخرى، وهذا منتهى الرحمة عند مَن يؤمن بالله واليوم الآخر، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو يعلى وغيره، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الولد ثمرة القلب، وإنه مَجْبَنَةٌ مَبْخَلَةٌ مَحْزَنَةٌ)).
فالصبي أمانة في عنق والديه يُسألان عنه في عرصات القيامة، وقلبُه الطاهر جوهرةٌ نقية، خاليةٌ من كل نقش وصورة، فهو قابل لكل ما ينقش فيه ويغرس، ومستعدٌّ للتوجُّه به إلى أي جهة؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: ((كل مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو يمجِّسانه، أو ينصِّرانه)).
فهل يرعى الأبوان، وهل يرعى المربُّون هذه الفطرةَ؟ وهل يوجِّهانِها نحو الكمال؟ نسأل الله - سبحانه - أن يوفِّق إخواننا المسلمين للقيام بذلك على أكمل وجه، وأن نرى شباب الإسلام وقد استقامتْ أخلاقُهم، وتوجهوا نحو المعالي، ليس لهم هدف سوى رفع راية لا إله إلا الله عالية فوق كل راية.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، وانصر عبادك الموحدين في برِّك وبحرك أجمعين، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل اللهم الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
=================
تربية الأولاد بين الحكمة والرحمة
(2/3)
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضلَّ له، ومَن يضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70-71].
أمَّا بعد:
فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهَدْي هَدْي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور مُحدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النَّار، يا أيها الناس، اطَّلعنا فيما مضى على مدى مَحبَّة الأبوين للولد، ورحمتهما به، وعطفهما عليه، وذكرنا أنَّ هذا أمر يقرُّه الإسلام، ويحثُّ عليه، إلا أنَّه ينبغي ألا تطغى مشاعر الأبوين تجاه الولد على المهمة العُظمى، والهدف الأسمى الذي استخلف الله من أجله الإنسان في الأرض، ألا وهو تبليغ دعوة الله في الأرض في جميع النَّواحي.
فالتاجر مبلِّغ لدعوة الله في تِجارته إذا وقف عند حدود الله، فلم يغشَّ، ولم يَخدع، ولم يكذب، ولم يتعامل بدناءة، أو بأيِّ صورة من صور البيع المحرم.
والعامل مبلغ لدعوة الله إذا أخلص في عمله، وأدَّاه على الوجه الأكمل، والموظَّف مبلغٌ لدعوة الله إذا أدَّى عمله كما يَجب عليه، وهكذا كل واحد منَّا في المجال الذي هيَّأه الله له، وهكذا فإنَّ مصلحة الإسلام فَوْقَ كل المصالح والاعتبارات، لا يثني عزم المؤمن عنها شيء.
قال تعالى: ﴿ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 24]، وإنَّ أول مهمة يقوم بها المبلغ لدين الله دعوته أهله وولده للاستقامة على منهج الله، ومَن تدبَّر كتابَ الله، وجد هذا ظاهرًا فيه بكثرة، فها هو إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - حين حضرته الوَفاة يُوصي بَنِيه بالتمسُّك بدين الله، وكذلك يعقوب - عليه الصلاة والسلام - وصَّى بنيه بذلك، كما أخبر الله - جل وعلا - عنهما؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 130-134].
ثم قال - جلَّ وعلا - مخاطبًا لنا: ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 136]، وها هو لقمان - عليه السلام - يوصي ابنه بوصايا تدُلُّ على محبة لقمان لابنه، وتمنِّيه له الخير في الدنيا والآخرة؛ يقول - جلَّ وعلا -: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]، ثم إضافةً إلى هذه الوصايا لا بُدَّ من الاستعانة بالله على تحقيقها بدُعائه - سبحانه - والتضرُّع إليه، كما فعل إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - وإسماعيل؛ قال - جل وعلا - مخبرًا عنهما: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 127-128].
وفي آية أخرى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 39-41]، وقال جل وعلا: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأحقاف: 15]، فهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين، فتَنَاهى عقلُه وكمُل فهمه وحلمه - أنْ يُجدد التوبة والإنابة إلى الله - عزَّ وجلَّ - ويعزم عليها، ويدعو الله - جلَّ وعلا - أن يلهمه شكر نعمه، ويسأله أنْ يُوفقه للأعمال الصالحة في المستقبل، وأن يصلح ذريته المتمثلة في نسله وعقبه.
ثُمَّ قال - جل وعلا -: ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ﴾﴿ ﴾ [الأحقاف: 16]؛ أي: هؤلاء المتصفون بما ذكرنا، التائبون إلى الله، المنيبون إليه، المستدركون لما فات من الذنوب بالتوبة والاستغفار - هم الذين يستحقُّون مغفرة الذنوب، وقَبُول الأعمال الصالحة، ودخول الجنة، وها هو زكريا - صلوات الله وسلامه عليه - يسأل ربَّه الذرية الطيبة الصالحة؛ كما قال - جلَّ وعلا - عنه: ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء ﴾ [آل عمران: 38]، فليس المهم أن توجد الذرية، وإنَّما المهم أن تَصلُح هذه الذُّرِّية؛ حتَّى يكمل النعيم بالاجتماع بهم في الدار الآخرة؛ وذلك لأنَّ الله - سبحانه - يلحق الأبناء بآبائهم في الجنَّة؛ كما قال - جل وعلا -: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ﴾ [الطور: 21].
أمَّا إن كان الولد خارجًا عن طاعة ربِّه، فلا خير فيه؛ لأنَّ طريقه طريق المغضوب عليهم، وها هو نوح - صلوات الله وسلامه عليه - يعظُ ابنه، ويأمره بما فيه صلاحه، فيرفُض الابن طاعة أبيه، فيدركه الهلاك، فيتبرأ نوح - عليه الصلاة والسلام - منه؛ لأنَّه ليس على طريقه ومنهجه؛ قال - جلَّ وعلا - عن نوح - عليه الصلاة والسلام - وابنه حينما ركب في السفينة، وأدرك الغرقُ قومَه: ﴿ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾ [هود: 42-43]، إلى أنْ قال - جل وعلا -: ﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [هود: 45-47].
وقد كان السَّلف يَحرصون على تربية أبنائهم أيَّما حرص، وكانوا يجعلون لهم المربين الفُضلاء، الذين يعلمونهم كتابَ الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعلمونهم الأخلاق الفاضلة، وكانوا حريصين على مكانة الرَّابطة بينهم وبين مُؤدبيهم، فكانوا يحزنون إذا غابوا عن الأولاد فترة بسبب من الأسباب؛ لخوفهم على أولادهم ألا يُؤدبوا على ما يُريدون ويشتهون، وقد بعث الخليفةُ العباسي المنصور إلى مَن في الحبس من بني أمية مَن يقولُ لهم: ما أشدُّ ما مَرَّ بكم في هذا الحبس؟ فقالوا: "ما فقدنا من تربية أولادنا"، ولمَّا دفع هارون الرَّشيد ولَدَه الأمين إلى المؤدب، قال له: "يا أحمر، إنَّ أمير المؤمنين قد دفع إليك مُهجةَ نفسِه، وثمرة قلبه، فصيَّر يدَكَ عليه مبسوطة، وطاعتَك عَليه واجبة، فكُن له بحيث وضَعَك أمير المؤمنين، أقرِئه القُرآن، وعرِّفه الأخبار، وروِّه الأشعار، وعلمه السنن، وبصِّره بمواقع الكلام وبَدْئه، وامْنعه من الضَّحِك إلاَّ في أوقاته، ولا تَمُرَّنَّ بك ساعة إلا وأنت مُغتنِمٌ فائدة تفيده إيَّاها من غير أنْ تُحزنه، فتُميت ذِهْنَه، ولا تُمْعِنَّ في مُسامحته، فيستحليَ الفراغ ويألفه، وقَوِّمه ما استطعت بالقرب والمُلاينة، فإنْ أَبَاهَا، فعليك بالشِّدَّة والغلظة".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونَفَعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشُّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحْدَه لا شريك له؛ تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الدَّاعي إلى رضوانه - صلى الله عليه وعلى آله - وصحبه وإخوانه، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعد:
أيُّها الناس، فإنَّ تربية الأولاد التي يتساهل فيها مُعظم الناس اليومَ عليها مدار عظيم في إدارة شؤون الأمة، فهذا النَّشْءُ إن تساهلنا في تربيته اليومَ، فهو الذي سيدير دفَّة الأمة غدًا، فإنْ أدَّبْناه بأدب الإسلام، وإلا تأدَّب بأدب من يَحتكُّ به من القُرناء، ومن يَحرص على تربيته من الناس الآخرين، فها هي الصُّحف تُطالعنا بحرص أعداء الإسلام على أخذ أطفال المسلمين وتربيتهم عندهم، فقد كان الاتِّحاد السوفيتي قديمًا يأخذ الآلافَ من أولاد الأفغان، ويُدرِّس لهم في مدارس موسكو، فما ظنُّكم بالمعلومات التي غُذَّى بها هؤلاء الأطفال؟! هل تتوقعون أن تكون سوى الإلحاد وإنكار الخالق - سبحانه - والتربية على مساوئ الأخلاق، ومواطن الرذيلة؟!
وها هي الجمعيات النَّصرانية تحتضن أبناءَ الفِلسطينيين والذين قُتلوا في لبنان، وتُبدي استعدادَها لتربيتهم والإنفاقَ عليهم؛ لتعذيبهم بالأفكار النَّصرانية المبنية على الكُفْر والضلال والعَدَاء لدين الإسلام؛ حتَّى يعودوا فيقودوا أمَّتهم إلى دَرْك الشقاء ومَهَاوي الانحطاط، أين كان المسلمون حين استعدَّ الأعداءُ لتلقِّي أولئك الأطفال الذين فَقَدوا مَن يقوم بتربيتهم؟! وأين هو الواجب الذي يُمليه علينا دينُنا من حيثُ التكاتُفُ والتعاوُن على البرِّ والتقوى؟!
ذلك لأنَّنا عجزنا عن تربية أنفسنا وأولادنا، فكيف نقوى على القيام بتربية أولاد الآخرين؟! إنَّ كثيرًا من أبناء المسلمين اليومَ - وللأسف - يعيشون في تيهٍ وضياع؛ نتيجةَ الإهمال وسوء التربية، إنَّ شبابَ الأمة إذا فسدوا، انْهَدَم بناء الأُمَّة، وتسلَّط عليها أعداؤها، ومن ثَمَّ تكون مُعرضة للزَّوال، وإنَّ مما يُدمي القُلُوب ويُبكي العيون: ما نشاهد من شباب المسلمين اليومَ، من تَمرُّد على آبائهم، وانحرافٍ في أخلاقهم، وفسادٍ في دينهم، تُغريهم تلك التجمُّعات في الشَّوارع وعلى الأرصفة، وفيها من البلاء الظاهر تركُهم لصلواتٍ وإيذاؤهم للناسِ داخلَ البيوت وخارجها، أمَّا البلاء الباطن، فقُل ما شئتَ، فهناك مَن يُروِّج بينهم تعاطي الدُّخان والمخدِّرات، والفساد في الأخلاق، والوُقُوع في الفواحش، والفساد في الاعتقاد؛ بل استشرى شرُّهم، وعظُم فقرهم؛ حيثُ أصبحوا يُهدِّدون من يُحاول نُصحهم بالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر.
فيا عباد الله:
انتبهوا لتلك المخاطر، وقوموا لدفعها والتخلُّص منها بكُلِّ جد وحزم، فالمسؤول بقوة السُّلطة، والتأديب الرَّادع، والأدب بالأخذ بيد أولاده ومنعهم منها، والمعلم في المدرسة بالتَّوجيه، وبيان أضرار هذه التجمعات في أحيائهم، والشَّباب الصَّالحون بمُناصَحَتِهم بما يناسبُ سنَّهم، ومُحاولة التأثير عليهم، وجَذْبِهم لأماكن يَجدون فيها ما يدفع عنهم الضَّرر، ويجلب لهم الخير - بإذن الله - لأنَّ قبول الشاب من شاب مثله في السنِّ أكثر من قَبوله ممن هو أكبر منه، فاتَّقوا الله عبادَ الله، واعلموا أنَّكم في زمان فتن، وأنَّكم تعيشون بين أعداء، وأنَّ أهل الشر ينشرون شرَّهم بينكم بمكرٍ دقيق، ودهاء خبيث، واعلموا أنَّ أعظمَ ذكر لكم، وأنفعَ ثَرْوَة تحصلون عليها من دُنياكم بعد العمل الصالح - هم أولادكم؛ كما في الحديث الذي رواه مسلم عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: ((إذا مات الإنسانُ، انقطع عمله إلاَّ من ثلاثة: إلاَّ من صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له)).
إنَّ أولادكم هم الذين يقومون عليكم عند كِبَرِكم وعجزكم، وهم الذين يخلفونكم في المحافظة على مَحارمكم، إنَّهم أنفع لكم من الأموال، فكيف تَدَعونهم ولا تهتمون بشأنهم؟! إنَّ الإنسان ليأسف ويعظم خجله عندما يرى الكُفَّار يُعْنَون بتربية أولادهم التربية المادية الدُّنيوية، فلا يتركونهم يلهون في الشوارع، ولا يدعون لهم فراغًا من الوقت؛ بل ينظمون لهم حياتهم تنظيمًا دقيقًا، أمَّا الكثير من المسلمين - وللأسف - فلا يهمه من شأنِ ابنه إلاَّ أنْ يسميه عند الولادة، ويُوفر له الطعام والشراب والكسوة والمسكن، ولا يهتم بما وراء ذلك؛ بل إنَّ بعضهم يوفِّر للأولاد أسبابَ الفساد، فيملأ جيبهم بالنُّقود، ويشتري لهم السيارة، ويَملأ البيت بآلاتِ اللهو والأفلام الخليعة، فلا تسألْ بعد ذلك عمَّا ينشأُ عليه الأولاد الذين وُفِّرت لهم هذه الوسائل من فسادٍ خُلُقي وانْحرافٍ فكريٍّ، وبهيمية عارمة، ولا تسأل عمَّا يلحق آباءهم من إِثْم، وما يُصيبهم من حسرة عندما يواجههم أولادُهم بالعيوب، وعندما يحرمون من نفعِهم عندما يُدركهم الكِبَر، ويحتاجون إليهم؛ فإنَّ الجزاءَ مِن جنسِ العمل.
نسألُ الله - جل وعلا - أنْ يصلحَ نيَّاتنا وذرِّياتنا، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عِصْمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مَعادنا، واجعل اللهم الحياة زيادة لنا في كلِّ خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شرٍّ، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشِّركَ والمشركين، وانصر عبادَك الموحدين في بَرِّكَ وبَحْرِك أجمعين، اللهم أصلح مَن كان في صلاحه صلاح الإسلام والمسلمين، وأهلك من كان في بقائه فساد الإسلام والمسلمين، اللهم أبرم لهذه الأمة أمْرَ رشد يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، وأقم الصلاة إنَّ الصلاة تنهى عن الفحشاءِ والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
===================
تربية الأولاد
بين الحكمة والرحمة (3/3)
إن الحمد لله نحمَده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَََّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب:70، 71].
أما بعدُ:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هديُ محمد - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
أيها الناسُ:
إن الأسباب التي تؤدي إلى انحراف الأولاد وسيرهم في طرُق الغَواية والفساد كثيرة، تكلَّمنا على بعضها فيما مضى، فإلحاقًا لما سبق، فإن من العوامل الكبيرة التي تؤدي إلى انحراف الأولاد مخالطتَهم لرفقاء السُّوء، لا سيما إذا كان الولد ضعيفَ العقيدة، مُتميِّعَ الأخلاق، فسرعان ما يتأثر بالأشرار ومرافقة الفجّار، وسرعان ما يكتسب منهم أحطَّ العادات والأخلاقِ؛ بل يسير معهم في طريق الشقاوة بخطًى سريعة، حتى يصبح الإجرام طبعًا من طباعه، والانحرافُ عادة متأصلة من عاداته، ويصعب بعد ذلك ردُّه إلى الجادّة المستقيمة.
وقد حضَّ الإسلام الآباء على مراقبة أبنائهم ومَن تحت أيديهم مراقبة تامة، وخاصةً في سنِّ التمييز والمراهقة؛ ليعرفوا من يخالفون ومن يصاحبون، كما وجَّههم أن يختاروا لهم الرفقة الصالحة؛ ليكتسبوا منهم كل خلق كريم، وأدب رفيع، وعادة فاضلة، كما وجههم ألاَّ يخالطوا رفقاء الشرِّ ورفقاءَ السوء؛ حتى لا يقعوا في حبائلهم وانحرافهم؛ قال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً ﴾ [الفرقان:28، 29 ]، وقال - جلَّ وعلا -: ﴿ قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [ق:27- 29]، وقال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داودَ والترمذيُّ: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الرجلُ على دينِ خليلِه، فلينظرْ أحدُكم مَن يُخاللْ))، وفي "الصحيحين": أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنما مثلُ الجليسِ الصالحِ وجليسِ السوءِ كحاملِ المسك ونافخِ الكير؛ فحامل المسك: إما أن يُحْذِيَك، وإما أن تبتاعَ منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخُ الكير: إما أن يحرقَ ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا منتنة)).
وفي الصحيحِ عن الرجل الذي قتل تسعةً وتسعين نفسًا، لما أن دُلَّ على الراهب فسأله: هل من توبة من ذلك؟ فقال: لا، فقتله فكمل به المائةَ، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفسٍ، فقال: هل من توبة؟ فقال: نعم، ومَن يحول بينَه وبين التوبة، ثم نصحه بالرفقة الصالحة التي تعينه على الخير، وأن يجتنب قرناء السُّوء، قال له: انطلقْ إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسًا يعبدون اللهَ فاعبدِ الله معهم، ولا ترجعْ إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء، فانطلق فتُوفِّي في الطريق، فتخاصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قطُّ، فأتاهم ملَك في صورة آدميٍّ فجعلوه بينهم - يعني حكمًا - فقال: قيسوا ما بين الأرْضين، فإلى أيِّهما كان أدنى فهو أولى، فقاسوا فوجدوا أنه أقربُ إلى الأرض التي أراد - يعني أرضَ الصلاح - فأخذته ملائكةُ الرحمة.
ولِمَ نذهب بعيدًا؟! وهذا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يأذنُ بالهجرة إلى الحبشةِ وإلى المدينة؛ خوفًا عليهم من بيئة السُّوء في مكة، من الأهلِ والأقارب.
وفي "الصحيحين": عن عبدالله - رضي الله عنه - أنه قال: جاء رجلٌ إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال له: يا رسولَ الله، كيف تقولُ في رجل أحبَّ قومًا ولمّا يلحقْ بهم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المرءُ مع مَن أحبَّ)).
وقد قال الشاعرُ:
عَنِ الْمَرْءِ لا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ♦♦♦ فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي
وقال آخرُ:
وَكُلُّ امْرِئٍ نُبِّئْتَ عَنْهُ قَرِينُهُ ♦♦♦ وَذَلِكَ أَمْرٌ فِي الْبَرِيَّةِ وَاضِحُ
فيا أيُّها الأبُ، ويا أيُّها المربِّي، أدِّ الأمانةَ التي ائتمنك الله عليها، واخترْ لمن كان تحتَ يدِك الرُّفقةَ الصالحة، وجنِّبْهم الرفقة الفاسدةَ؛ حتى تبرأَ ذمَّتك.
ومن العوامل الكبيرةِ التي تؤدي إلى انحرافِ الولد، وتدفعُه إلى الشَّقاوة وإلى ارتكاب الجريمةِ والسير وراءَ الميوع والانحلال: ما يشاهدُه في أفلام الفيديو والتلفاز، وغيرها من أفلام بوليسيَّة وأفلام خليعةٍ، وما يقرؤه من مجلاَّت ماجنة وقصص مثيرة، وهي في جملتها ومضمونها تستدرجُ الغرائز، وتشجِّع على الانحراف والإجرام، وهي مفسدة لأخلاق الكبار، فكيف بالمراهقين والأطفال الصغار؟!
ومن المعلوم بداهةً أن الولد حين يعقِل تنطبعُ في ذهنه هذه الصورُ، وتتأصَّل في مخيّلته هذه المشاهدُ، فيعمل حتمًا على محاكاتِها وتقليدِها، وليس أضرَّ على الولد المراهق من مشاهدَ تشجِّع على الإجرام، وتوجِّه نحوَ الرذيلة والفساد، وأنه سيسعى في تطبيقها مباشرة، ولا سيما إذا كان مفلوتَ الزِّمام، متروكَ الرقابة والرعاية، ومما لا يَشكُّ فيه عاقل أن لمثل هذه الأجواءِ الفاسدةِ والمشاهدِ الآثمةِ أثرًا بالغًا في نفوس الأطفال والمراهقين، بحيث لا ينفع معه نصح الآباء أو توجيه المربِّين أو المعلِّمين.
وها هي التجربة تمرُّ بالبلاد الأوروبية والأمريكية، فتتعالى الصيحاتُ في تلك البلادِ؛ خوفًا من المصير المظلمِ الذي ينتابُ بلادَهم إذا استمرَّت في تلك الطريقِ، فالبنت والولد يتعلَّمان كلَّ شيء من الأعمال الجنسيَّة في سنٍّ مبكرة جدًّا، وشبابهم غارق في الشهوات، ومن ذلك أن كلَّ من أراد الزواج بامرأة لا بدّ أن يصحبَها وتصحبه فترةً من الزمن، قد تمتدُّ إلى سنوات، تعيش معه في بيته كمعيشة الزوجة تمامًا، إلاَّ أن العَقدَ لم يُبرمْ بينهما، فإن أعجبها وأعجبتْه، وإلاَّ ترك كلٌّ منهما الآخرَ؛ بل إنهم لينكرون على من لا يفعل ذلك، فحدَّثني أحد الثِّقات أن أحدَهم سأله مستنكرًا، فقال: يُذكرُ عن بلادِكم أن الرجلَ يعيشُ مع المرأةِ دونَ أن يُباشرها قبلَ ذلك، فاستنكر ذلك وقال: كيف أعيشُ مع امرأة لا أعرفُها ولا تعرفني؟!
ولما عرَضت فتاةٌ منهم مشكلتَها مع صديقها مع بعض الجهات خطَّؤوها هي؛ بحجة أنها لم تعش معه إلا فترةً وجيزةً، لمدة ستة أشهر، وكان الأولى أن تعيشَ أكثرَ من ذلك.
وهذه العادةُ - في الحقيقة - هي من أفحشِ الفُحْشِ، وهي الفاحشة بعينِها؛ وصدَق قولُه – سبحانه وتعالى -: ﴿ الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النور:3].
وانتشارُ الفاحشة في تلك البلادِ هو الذي جعل أحد رؤسائهم يقول: إن مستقبل أمريكا في خطر؛ لأن شبابها منحلٌّ وغارق في الشهوات، وإن من بينِ كلِّ سبعةِ شبّانٍ يتقدمون للخدمة العسكريَّة يوجد ستةٌ غيرَ صالحين للخدمة مما يُعانونه من الأمراض الجنسيَّة الفتَّاكة، فلْيتَّعِظْ قومي ويَعتبِروا من غيرِهم.
نسأل اللهَ لنا ولهم الهداية والتوفيقَ، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، وسبحانَك اللهمَّ وبحمدِك، أشهدُ أنْ لا إله إلا أنت، أستغفرُك وأتوب إليك.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتنانِه، وأشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحدُه لاَ شريكَ له تعظيمًا لشانِه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، والداعِي إلى رضوانِه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ، أيُّها الناس:
فإن من العوامل التي تؤدي إلى انحراف الأولاد: عدمَ الاستفادة من الفراغ الذي أصبح يتحكَّم فيهم، ومن المعلوم أن الولد منذُ نشأته مولعٌ باللَّعِب، ميَّال إلى المغامرة، محبٌّ إلى الفسحة والتمتع بالمناظر الطبيعية، فتراه في حركة دائمة في اللعب مع مَن كان في سنِّه حينًا، وفي الرَّكْض والتسلق أحيانًا، وفي ممارسة الرياضة تارةً أخرى.
فيجب على المربِّين أن يستغلُّوا هذه الظاهرةَ في الأطفال، ومن كان في سنٍّ مراهقةٍ؛ حتى يملؤوا فراغهم بما يعودُ على أجسامهم بالنفع والصحة، وعلى عضلاتِهم بالقوة، مع العزل عن المجتمعات الفاسدة، فإن لم يُيسِّروا لهم أماكن اللعب البريء، فإنهم سيختلطون غالبًا بقرناءِ السُّوء، ورفقاء الشرِّ والفساد؛ مما يؤدي بهم حتمًا إلى الانحراف، فيجب على المربِّي أن يستغلَّ هذه الظاهرة لدى الطفل والمراهق، ويوجهها نحوَ الصلاح.
ومن توجيهاتِ الإسلام العمليَّة في معالجة الفراغ لدى الأولاد: تعلُّمُ فنونِ الحرب، والفروسيَّة والسباحة، والمصارعة، والسباق، وغيرِ ذلك، وتوجيهُ الولد في فراغه إلى القراءة والمطالعة، والنزهة والرياضة المتنوعة، ويا حبَّذا درسُ الرياضةِ في المدارس لو قام عليه أناسٌ أَكْفاء، ووجَّهوه الوجهةَ السليمة، بدلاً من أن تكون كرةُ القدم وحدَها، التي سببت الكثير من المشاكل الاجتماعية.
ويروى عن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: "علِّموا أولادَكم الرماية، والسباحة، وأْمروهم أن يركبوا الخيل وحده".
وروى الإمام أحمدُ و البخاريُّ في الصحيح عنه: أنه - صلى الله عليه وسلم – قال: ((ارموا - بني إسماعيلَ - فإن أباكم كان راميًا)).
وفي الحديث الصحيح الذي رواه النسائيُّ وغيرُه: أنه - صلى الله عليه وسلم – قال: ((كلُّ شيء من غير ذكر الله لهوٌ ولعِب، إلاَّ أن يكون أربعةً: ملاعبة الرجلِ امرأتَه، وتأديب الرجلِ فرسه، ومشيَ الرجل بين الغرضين - يعني: الهدفين، وذلك في حالة الرمي - وتعليم الرجل السباحة))، وفي لَعِبِ الأحباشِ بالحِراب والرِّماح؛ كما في "الصحيحين" قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((دونَكم يا بني عرفدة، لتعلم اليهود أن في ديننا فسحةً)).
فلو أخذنا بهذه التوجيهات وأمثالِها، مما ورد في السنة من أنواع اللهو المباح، من رماية وسباحة، وركوب خيل وسباق، ولعب بالرماح والسيوف، وما أشبَهها من الأشياء التي تُجنى فوائدُها - لاستطعنا أن نقضيَ على الفراغِ المتحكِّم في هؤلاءِ المراهقين، بدلاً من استغلالهم لهذا الفراغ بما يعودُ عليهم بالضَّررِ في دينهم ودنياهم، وعلى مجتمعهم بالشقاء.
اللهمَّ اهدِ ضالَّ المسلمين، وأرِهم الحقَّ حقًا وارزقْهم اتِّباعَه، وأرهم الباطلَ باطلاً وارزُقْهم اجتنابه، اللهمَّ أصلِحْ لنا دينَنا الذي هو عصمة أمرِنا، وأصلحْ لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلحْ آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجْعلِ اللَّهمَّ الحياةَ زيادةً لنا في كلِّ خير، واجْعلِ الموتَ راحةً لنا من كلِّ شرٍّ، اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذلَّ الشركَ والمشركين، وانصُرْ عبادَك الموحِّدين في بَرِّك وبَحْرِك أجمعين، اللهمَّ أصلحْ من كان في صلاحه صلاحُ الإسلام والمسلمين، وأهلِكْ من كان في بقائه فسادُ الإسلام والمسلمين، اللهمَّ من أراد المسلمين بكيدٍ، فاجعلْ كيدَه في نحره، وأَشغِلْه في نفسه، واجْعَلْ تدبيرَه في تدميرِه، يا ربّ العالمين.
وأقمِ
الصلاةَ، إن الصلاةَ تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذِكْرُ الله أكبرُ، والله يعلمُ
ما تصنعون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق